فصل: باب من ارتد من المسلمين أو نقض العهد من المعاهدين

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: شرح السير الكبير **


  باب المرتدين كيف يحكم فيهم

قال - رحمه الله تعالى - المرتد يقتل إن لم يسلم حراً كان أو عبداً لقوله صلى الله عليه وآله وسلم من يبدل دينه فاقتلوه وهو يعم الأحرار والعبيد ولمولى العبد أن يقتله بنفسه إن شاء فعل ذلك ابن عمر - رضي الله تعالى عنهما - بعبد له تنصر ولأنه بالردة صار كالحربي في حكم القتل ولكل مسلم قتل الحربي الذي لا أمان له إلا أن الأفضل له أن يرفعه إلى الإمام ليكون هو الذي يقتله لأن فيه معنى الحد واستيفاء الحدود إلى الإمام والمرتدة لا تقتل حرة كانت أو أمة ولكنها تحبس وتجبر على الإسلام إن كانت حرة وإن كانت أمة وأهلها يحتاجون إلى خدمتها دفعت إليهم يستخدمونها ويجبرونها على الإسلام لأن حبسها لحق الله تعالى وحق المولى في خدمتها يقدم على حق الله تعالى في حبسها وإن استتيب المرتد فتاب ثم ارتد حتى فعل ذلك مراراً قبلت توبته أبداً وهو قول إبراهيم - رحمه الله تعالى - وكان عليّ وعمر - رضي الله تعالى عنهما - يقولان‏:‏ يستتاب ثلاثاً فإن عاد يقتل لظاهر قوله - تعالى - ‏{‏إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ ثُمَّ كَفَرُواْ‏}‏ النساء‏:‏ 137 ولأن لظاهر أنه مستهزىء غير تائب ولكنا نستدل بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِن يَنتَهُواْ يُغَفَرْ لَهُم مَّا قَدْ سَلَفَ‏}‏ الأنفال‏:‏ 28 ثم توبته بعد الثلاث تعرف بما يعرف به في المرة الأولى لأنه لا يمكن الوقوف على ضميره وإنما يعبر عما في قلبه لسانه ولا حجة لهم فيما استدلوا به لأنه قال‏:‏ ‏{‏ثُمَّ ازْدَادُواْ كُفْرًا لَّمْ يَكُنِ اللّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ‏}‏ النساء‏:‏ 137 وإذا تاب فقد ازداد إيماناً لا كفراً وعن أبي يوسف - رحمه الله تعالى - أنه يقتل غيلة ولا يستتاب إذا تكرر ذلك لأن الظاهر أنه مستهزىء وبناء الحكم على الظاهر جائز فيما لا يوقف على حقيقته قال‏:‏ وامرأة المرتد تعتد بثلاث حيض سواء قتل بعد الردة أو لم يقتل إلا على قول سعيد بن المسيب - رحمه الله تعالى - فإنه يقول‏:‏ إذا قتل فعدتها أربعة أشهر وعشرا وهذا ليس بقوي لأن الفرقة وقعت بالردة ثم لا يتغير حكم تلك الفرقة بالقتل بعد الردة فلا تتغير العدة أيضاً بمنزلة ما لو أبان امرأته في صحته ثم مات أو قتل ولو أصاب مالاً أو قذف إنساناً قبل الردة أو بعدها ثم لحق بالدار ثم جاء تائباً أخذ بجميع ما صنع بخلاف ما إذا أصاب ذلك بعدما لحق بدار الحرب لأنه باللحاق صار حربياً والحربي إذا أصاب شيئاً من ذلك ثم أسلم لم يكن مؤاخذاً به والأول أصابه في حال هو من أهل دار الإسلام وهو مخاطب على حاله فيتقرر موجبه في ذمته إلا أن بلحاقه يتعذر إقامته لأن يد الإمام لا تصل إليه فإذا وصلت اليد إليه كان مؤاخذاً بجميع ذلك والله أعلم‏.‏

  باب من ارتد من المسلمين أو نقض العهد من المعاهدين

قال‏:‏ ولو أن أهل بلدة ارتدوا حتى صارت دراهم دار حرب ثم وقع الظهور عليهم فإنه يقتل رجالهم ويسبي نساؤهم ذراريهم كما فعله الصديق - رضي الله تعالى عنه - ببني حنيفة حين ارتدوا فإن قالت النساء حين ظفر المسلمون بهن‏:‏ ما ارتددنا قط وإنا لمسلمات على ديننا فالقول قولهم لتمسكهن بما هو الأصل وهو الإسلام ولا يسبين وأولادهن الصغار بمنزلتهن لأن أن يكون عليهن الماء المسلمات فقد بينا أن تحكيم السيماء أصل في باب الإسلام فإذا وقع في قلب المسلمين أنهن صادقات وجب تخلية سبيلهن وسبيل أولادهن فإن كان في حجر امرأة منهن صبي وقد قتل زوجها أو لا يعلم هل كانت ذات زوج أم لا فقالت‏:‏ هذا ابني صدّقت في إسلام الولد وأنه لا يكون فيئاً لأن هذا أمر ديني فخبر الواحد في مثله مقبول رجلاً كان أو امرأة ولكن لا يتوارثان إلا بالبينة وهو الحميل الذي كتب فيه عمر - رضي الله تعالى عنه - إلى شريح - رحمه الله تعالى - أن لا يروث الحميل إلا بينة ولكن يجعل مسلماً لكونه في يد مسلم يحكم بإسلامه وكذلك لو قالت‏:‏ هو ابن امرأة مسلمة أو دعتنيه وإن قالت‏:‏ هو ابن امرأة كانت من أهل هذه الدار أو دعتنيه وماتت وهي حرة مسلمة لم تصدق على ذلك لأنه لم يعرف أصل الإسلام لتلك المرأة فلا يكون هذا منه إخباراً بإسلام الولد وحريته ولكنه يكون فيئا لكونه موجوداً في دار الحرب ثم بنى محمد - رحمه الله تعالى - مسائل على الأصل الذي بينا أن من وجد في جار الإسلام إذا زعم أنه من أهل الذمة فإنه يكون القول قوله ولا يتعرض له ومن وجد في دار الحرب لا يقبل قوله في ذلك إلا بحجة لأن دار الإسلام دار أمن فمن وجد فيها يكون آمناً باعتبار الظاهر فيكون مقبول القول بشهادة الظاهر له ودار الحرب دار سبي واسترقاق فمن وجد فيها يكون فيئاً إلا أن يثبت سبب الأمن والعصمة لنفسه بالبينة ولو أن أهل الدار نقضوا العهد وحاربوا فلما ظهر عليهم المسلمون قال رجل منهم‏:‏ ما نقضا العهد فيمن نقض فإن كان أصل العهد معلوماً لهم قبل النقض فالقول قولهم لأن ما عرف ثبوته فالأصل بقاؤه حتى يعلم ما يزيله فإن شهد قوم من المسلمين أو من أهل الذمة بأنهم قاتلوا المسلمين فقد ثبت بالحجة سبب نقضهم العهد فإن قالوا‏:‏ أكرهونا على ذلك لم يقبل ذلك منهم لأنهم يدّعون معنى خفياً ليغيروا به حكم ما ظهر بحجة فلا يقبل قولهم في ذلك إلا أن يقيموا عليه بينة من المسلمين فإن شهدوا أنهم قالوا‏:‏ لنقتلنكم أو لتقاتلون معنا كانوا أحراراً لا سبيل عليهم لأن الثابت بالبينة كالثابت بالمعاينة فيخرج قتالهم به من أن يكون دليل الرضاء بنقض العهد وإن كان لا يحل لهم ما صنعوا بإكراه وإن شهدوا أنهم كانوا قالوا‏:‏ هذا لهم في دارهم لا في دار الحرب وأنهم كانوا يقدرون في دار الحرب على أن ينصرفوا عنهم إلى المسلمين فالإكراه لا يثبت بمثل هذه الشهادة لأنهم شهدوا بذهاب الإكراه عنهم وإن لم يعلموا أصل الذمة للذين قالوا هذه المقالة كانوا فيئاً إلا أن يقيموا بينة على أصل الذمة لهم لأنهم وجدوا في دار الحرب وإن رآهم المسلمون في صف المشركين ومعهم السيوف قد شهروها إلا أنهم لم يقاتلوا أحداً فقالوا‏:‏ أكرهونا على ذلك فالقول قولهم لأن ما ظهر للمسلمين منهم لا يكون نقضاً للعهد فإن مثله لو ظهر من المسلم لا يكون نقضاً لإيمانه فكذلك إذا ظهر من المعاهد وإن قال‏:‏ قد كنت نقضت العهد معهم ولكن كنت رجعت عن ذلك لم يقبل قوله إلا بحجة لأنه أقر بزوال ما عرف من أصل الذمة له ثم أدّعى أمراً حادثاً لا يعرف سببه فلا يقبل قوله إلا بحجة ولو أن المسلمين رأوا رجلاً من النصارى في دار الإسلام يتجر ولا يعرفون حاله ثم فتحوا مدينة من دار الحرب فوجدوه فيها فقال‏:‏ أنا رجل من أهل الذمة أسر في أهل الحرب أو كنت تاجراً فيهم فالقول قوله لأنهم عرفوه من أهل دار الإسلام‏.‏

ألا ترى‏:‏ أنه حين رأوه في دار الإسلام لو أرادوا التعرض له فقال‏:‏ أنا ذمي كان القول قوله في ذلك فكذلك إذا وجدوه بعد ذلك في دار الحرب وهذا لأنه لو قال لهم‏:‏ أنا ذمي قبل أن يأخذوه كان القول قوله في ذلك فكذلك لو قال لهم بعدما أخذوه وعلى هذا لو لم يكونوا رأوه قبل هذا إلا أنه شهد له شاهدان من المسلمين أنهما رأياه في دار الإسلام فهو ذمي لأن الثابت بالبينة كالثابت بالمعاينة وكذلك لو ادّعى أنه مسلم في جميع هذا فإن كان عليه سيماء المسلمين فلا إشكال في أن القول قوله وإن كان عليه سيماء أهل الكفر فقال‏:‏ أكرهوني حتى تزينت بهذا الزي فالقول قوله أيضاً لأنه قد علم أصل الإسلام له أو الذمة باعتبار كونه في دار الإسلام ثم لا يرتفع ذلك بمجرد الزي لأن ما قاله محتمل بشهد له الظاهر فإن من بقي بين قوم يخالفونه في الطريق قد يتزي بزيهم تقية فلهذا كان القول قول ولو أن أهل الحرب صالحوا وصاروا ذمة وقع ذلك عليهم وعلى نسائهم لأن النساء تبع للرجال ولأنهم إنما يقبلون الذمة ليسكنوا في مساكنهم وسكناهم إنما تكون بالنساء والذراري فإن قالوا للمسلمين‏:‏ إنا نأخذ العهد لأنفسنا دون نسائنا كان نساؤهم فيئاً إلا من دخل منهن في العهد لأن الدليل إنما يعتبر إذا لم يوجد التصريح بخلافه فهذا يسترق النساء وأما الصغار من الأولاد فهم تبع للآباء الذين أخذوا العهد ولا سبيل عليهم ولو دخل حربي دارنا بأمان ثم غلب أهل الشرك على تلك الدار حتى صارت دار حرب ثم ظهر المسلمون عليهم فوجدوا ذلك فيهم فإن كان الذين غلبوا على هذه الدار من أهل الدار التي كان المستأمن منها فهو فيء للمسلمين لأن الأمان قد انتقض بينه وبين المسلمين حين حصل هو في دار الحرب وأهلها يوافقون ألا ترى‏:‏ أنه لو كان رجع إلى داره لكان ينتهي به الأمان وقد صار هذا الموضع في حكم داره حين غلب عليه أهل الشرك وإن لم يكونوا من أهل دارنا بأن كان المستأمن من أهل الروم والذين ظهروا على هذه الدار قوم من الترك فإن كانوا أسروه ومنعوه من الخروج فهو في ذمة المسلمين على حاله حتى إذا ظفر به المسلمون كان حراً لأنه ما وصل إلى مأمنه وإنما ينتهي الأمان بهذا ولأنه أسر فيهم فكأنهم أسروه من دار الإسلام وأحرزوه بدارهم فإن كان الذين غلبوا لم يمنعوه من الخروج إلى دار الإسلام فأقام بين أظهرهم اختياراً فهذا نقض منه للعهد لأنه رضي بالمقام في دار الحرب والراضي بالمقام في دار الحرب من أهل دار الحرب لا يكون في أمان من المسلمين إذا كانوا آمنوه في دار الإسلام‏.‏

ألا ترى أنه لو تزوج فيهم واشترى المسكن ثم وقع الظهور عليه كان فيئاً كغيره من أهل تلك الدار وكذلك لو أن مستأمناً من الروم في دارنا بدا له فخرج إلى الترك بأمان أو بغير أمان كان مبطلاً للأمان الذي كان بينه وبين المسلمين فكذلك ما سبق إلا أن في هذا الفصل إن أسروه أو لم يأسروه فالجواب سواء لأنه دخل إليهم باختياره ولو أن رجلاً من الروم سأل المسلمين أن يدخل إليهم بأمان فيتجر ثم يخرج إلى الترك فيأتي بالأمتعة إلى دار الإسلام من ذلك الموضع ويتجر فيها فأعطوه الأمان على ذلك فهو آمن ما لم يدخل بلاد الترك فإذا دخلها فلا أمان له من المسلمين ما لم يرجع إلى دار الإسلام لأن المسلمين إنما أعطوه الأمان في دار الإسلام لا في دار الترك إلا أن يكونوا قالوا له‏:‏ أنت آمن إذا دخلت دار الإسلام إلى أن تعود إليها وترجع إلى دارك فحينئذ هذا تصريح بإعطاء الأمان له في دار الترك ثم إن نبذ إليه المسلمون وهو في دار الترك فنبذهم باطل وهو آمن حتى يرجع إلى بلاده لأنهم إنما نبذوا إليه في دار هو مستأمن فيها فكان هذا ونبذهم إليه في دار الإسلام سواء وقد عرف أن النبذ لا يصح إلا بعد تبليغ المستأمن مأمنه وإعادته إلى ما كان عليه والله أعلم بالصواب‏.‏