فصل: باب من الرهن يأخذه المسلمون والمشركون منهم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: شرح السير الكبير **


  باب من الرهن يأخذه المسلمون والمشركون منهم

قال‏:‏ وإذا طلب المشركون في الموادعة أن نعطيهم رهناً من رجال المسلمين على أن يعطوا من رجالهم رهناً مثل ذلك فهذا مكروه لا ينبغي للمسلمين أن يجيبوهم إليه بدون تحقق الضرورة لأنهم غير مأمونين على رجال المسلمين والظاهر أن مخالفتهم في الاعتقاد تحملهم على قتلهم ولا زاجر من حين الاعتقاد يزجرهم عن ذلك وإليه أشار رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله‏:‏ ما خلا يهودي بمسلم إلا حدثته نفسه بقتله فإن اصطلحوا على ذلك لأمر خافه المسلمون لم يجدوا منه بداً ثم ابتدأ المشركون فأعطوا المسلمين رهنهم فللمسلمين أن يمتنعوا من دفع رهنهم إليهم وذلك أفضل لهم لأن الضرورة قد اندفعت بوصول رهن المشركين إلى يد المسلمين وهم غير مأمونين على المسلمين فإن قيل‏:‏ فهذا غدر من المسلمين أن يأخذوا الرهن ولا يعطوا الرهن كما شرطوا قلنا‏:‏ لا كذلك ولكن كان جواز الشرط لمعنى الضرورة وقد ارتفعت ألا ترى أن في أصل الموادعة إذا زال المعنى الذي أحوج المسلمين إليها بأن مضي تلك المدة ولا يكون ذلك غدراً والأصل فيه قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ من حلف على يمين ورأى غيرها خيراً منها فليأت الذي هو خير وليكفر يمينه وتلك الموادعة لا تكون أقوى من اليمين فإن قالوا‏:‏ فردوا علينا رهنا إن لم تعطونا رهنكم لم نردهم حتى نأمن مما كنا نخافه لأن في ردهم تقويتهم علينا وتمكينهم من استئصال بعض المسلمين وذلك لا يجوز فإذا وقع الأمن مما كنا نخاف فحينئذ نرد عليهم رهنهم لأنهم بمنزلة المستأمنين فينا فنحبسهم إلي أن نأمن مما نخافه منهم ثم نبلغهم مأمنهم فإن أسلم الرهن في أيدينا ثم طالب المشركون أن يأخذوهم فلا سبيل لهم عليهم والكفار غير مأمونين على المسلمين إلا أنهم إن كانوا عبيداً للمشركين باعهم الإمام ودفع ثمنهم إلى مواليهم بمنزلة المستأمن في دارنا إذا أسلم عبده وكذل إن أعطوا الرهن من الجانبين ثم قدر المسلمون على أن يأخذوا منهم الرهن فلا بأس بأن يأخذوه منهم لأن الضرورة قد ارتفعت وباعتبارها كان لهم حق المنع فيكون لهم حق الأخذ أيضاً لأنه لا ينبغي للمسلمين أن يتركوا تخليص أحد من المسلمين وهو مقهور في يد المشركين إذا تمكنوا منه فإن امتنعوا منهم فلا بأس بقاتلهم عليهم إذا طلب ذلك رهن المسلمين لأنهم ظالمون في حبسهم ودفع الظلم واجب بحسب الإمكان ولكن إن قدروا على أخذهم بغير قتل فلا ينبغي أن يقتلوا أحداً منهم للموادعة التي بيننا وربينهم وإن قال رهن المشركين‏:‏ نحن نكون لكم ذمة للمسلمين ولا نرجع إلى دار الحرب أجابهم الإمام إلى ذلك إذا كانوا أحراراً لأن الذمة خلف عن الإسلام في التزام أحكام الإسلام به في الدنيا وهو أحد ما ينتهي به القتال فكما أنهم لو طلبوا عرض الإسلام عليهم وجب إجابتهم إلى ذلك فكذا لو طلبوا إعطاء الذمة إلا أن يكونوا عبيداً للمشركين فإن العبد تبع لمولاه وقد صاروا مستأمنين فينا فباعتبار الأمان صار ملك الموالي فيهم محترماً وبدون إزالة الملك لا يمكن جعلهم ذمة للمسلمين فلهذا ردوا إلى مواليهم فإن اختلفوا فقال الرهن‏:‏ نحن أحرار وقال المشركون هم عبيد لنا فالقول قول الرهن لأنهم في أيدي أنفسهم فيكون الهم قول في حريتهم ما لم تقم البينة على رقهم ولا تقبل فيه شهادة أهل الحرب عليهم لأنهم صاروا ذمة لنا فما لم يشهد عليهم قوم من المسلمين أو من أهل الذمة لم يردوا إلى مواليهم وإن كانوا أسلموا فما لم يشهد عليهم بالرق شهود مسلمون لم يعطهم الإمام لهم لو كانوا شرطوا في أصل الموادعة أنهم إن غدروا فقتلوا رهن المسلمين فدماء رهنهم لنا حلال ثم قتلوا هم رهننا فإن دماء رهنهم لا تحل لنا لما رويّ أن هذه الحادثة وقعت في زمن معاوية - رضي الله تعالى عنه - فأجمع هو والمسلمون معه على ألا يقتلوا رهن المشركين لأنهم مستأمنون فينا فلا تحل دماؤهم بجناية كانت من غيرهم والشرط الذي جرى مخالف لحكم الشرع فيكون باطلاً ولكن الإمام يجعلهم ذمة إن لم يسلموا فإن أسلموا فهم أحرار لا سبيل لهم عليهم كما لو كانوا أسلموا قبل أن يقتل المشركون رهننا فلو أن رهنهم حين أسلموا قال لهم المشركون‏:‏ إن لم تردوا علينا رهننا قتلنا رهنكم أو جعلناهم عبيداً لنا فكره الرهن أن يردوهم عليهم فإنه لا يحل للإمام أن يردهم وإن علم أنهم يقتلون رهن المسلمين لأنه حرمة نفس هؤلاء كحرمة نفس أولئك فإن قتل أهل الحرب رهننا لم يكن الإمام شريكاً في ذلك الظلم ولو سلم إليهم رهنهم بعد ما أسلموا فقتلوهم كان شريكاً في الظلم معرضاً للمسلمين عن قتل المشركين رياهم وذلك لا رخصة فيه ألا ترى أن رهنهم لو ماتوا في أيدينا فقالوا‏:‏ إن لم تعطونا بعددهم من المسلمين قتلنا رهنكم لم يسعنا أن نعطيهم ذلك فكذلك رهنهم إذا أسلموا وإن قال رهنهم بعد ما أسلموا‏:‏ ادفعونا إليهم وخذوا رهنكم فإن كان أكبر الرأي من الإمام أنهم يقتلونهم لم يجز أن يدفعهم إليهم أيضاً لأن إذن المرء غير معتبر في قتله في حكم الإباحة فكذلك في تعريضه للقتل وإن كنا لا ندري ما يصنعون بهم فلا بأس بدفعهم إليهم لأنه ليس في دفعهم برضاهم ظلم منا إياهم والدفع ليس بسبب لهلاكهم والظاهر أنهم لا يرضون بذلك إلا إذا كانوا آمنين على أنفسهم ولأنا قد وعدنا لأولئك المسلمين أن نخلصهم برد رهنهم عليهم فيترجح بد ذلك الوعد جانبهم من هذا الوجه وإن قال رهن المشركين‏:‏ نكون ذمة لكم فقال المشركون‏:‏ إن قبلتم ذلك منهم قتلنا رهنكم أو جعلناهم عبيداً لنا فإن الإمام لا يقبل هذا من رهنهم ولكن يردهم على المشركين ويأخذ المسلمين بخلاف ما إذا أسلموا لأن الإسلام يتم بهم فأما الذمة لا تتم إلا بالرضا من المسلمين فإذا كان فيها إتلاف المسلمين حقيقة أو حكماً فلا ينبغي للمسلمين أن يرضوا بها لأن استنقاذ المسلمين من أيدي المشركين والوفاء لهم بالموعود خير لهم من أن يصير الرهن ذمة للمسلمين والإمام ناظر فيختار ما فيه الخيرية للمسلمين وإن كان يعلم أنه إذا قبل ذلك منهم خلى المشركون سبيل الرهن الذي عندهم فحينئذ يعطيهم الذمة ويضع عليهم الخراج كما لو سألوه لأنه ليس فيه إتلاف المسلمين وما لم يعلم ذلك لا ينبغي له أن يجعلهم ذمة لأن البناء على الظاهر واجب المدينة ما لم يعلم خلافه والظاهر أنهم لا يخلون سبيل المسلمين إذا صر رهنهم ذمة لنا فإن أعطاهم الذمة ثم طلب أخذ رهن المسلمين فأبوا ذلك حتى يرج عليهم رهنهم فليس ينبغي له أن يخف ذمته وينقض العهد الذي عاهد عليه الرهن في ردهم بغير رضاهم لأنهم لما صروا ذمة لنا فقد ثبت لنفوسهم من الحرمة ما لنفوس المسلمين فكان هذا وما لو أسلموا سواء فإن طابت أنفس الرهن بالرد عليهم فلا بأس بذلك إلا أن يكون أكبر الرأي من الإمام أنهم يقتلونهم فحينئذ لا يدفعهم إليهم على قياس ما ذكرنا فيما إن أسلموا لأن هذا بمنزلة مفاداة المسلمين بأهل الذمة وقد بينا أن ذلك يجوز برضاء أهل الذمة ولا يجوز بغير رضاهم ألا ترى أنه لو مات رهنهم فقالوا‏:‏ لا نرد عليهم رهنكم حتى تعطونا من أهل الذمة فلاناً وفلاناً فإن رضوا بذلك جاز دفعهم إليهم وإن لم يرضوا به لم يجز دفعهم إليهم وكذلك إن كان فيمن طلبوا نساء من نساء أهل الذمة لأن حال نسائهم كحال رجالهم في الحرمة بسبب عقد الذمة وتأثير الرضاء من النساء كتأثيره من الرجال ولو كان في الذين طلبوا صبياناً من أهل الذمة وطابت بذلك أنفسهم وأنفس والديهم فلا ينبغي للإمام أن يدفعهم إليهم لأن هذا مظلمة يظلم بها الصبي وإذنه في هذا الباب غير معتبر ورضاء أبويه فيما يضر بالصبي غير معتبر أيضاً فوجوده كعدمه أرأيت لو استعبده أهل الحرب أليس كان الإمام معيناً لهم على استعباد حر بغير حق وهذا لا رخصة فيه ولو كان الرهن الذين أسلموا من رهن المشركين فيهم نساء وصبيان وطابت أنفس النساء والصبيان وآباؤهم بردهم عليهم ليس للإمام أن يردهم أما الصبيان فلما ذكرنا في حق أهل الذمة وأما النساء فلأن في ردهن تعريضهن على الحرام ولا إذن لهن في ذلك فلا وجه لرده امرأة مسلمة على المشركين يستحلون فرجها وهي لا تحل لهم بحال ولا يوجد مثل ذلك في حق أهل الذمة ألا ترى أن الذمية إذا تزوجها مستأمن في دارنا جاز النكاح وحلت له ولو أراد أن يتزوج مسلمة لم يتمكن من ذلك ولا يحل له بحال إلا أن تكون المرأة عجوزاً لا تشتهي ولا يخاف عليها أن ترجع عن دينها فحينئذ لا بأس إن طابت نفسها بالرد رجوت ألا تكون بردها لأخذ رهن المسلمين بأس كما في حق الرجال ولكن بشرط أن يكون معها ذو محرم لها من المسلمين لأن المرأة ممنوعة من المسافرة إلى دار الحرب بغير محرم وإن كانت عجوزة ومع المحرم لا بأس به إذا كانت عجوزة لحاجة لها فكذلك هذا فإن لم يكن بالمسلمين قوة على المشركين وطلبوا منا في الموادعة أن نعطيهم رهناً فقال الرهن‏:‏ لا نرضى بذلك لأنهم غير مأمونين علينا فلا بأس بأن يجبرهم الإمام على ذلك على وجه النظر للمسلمين لأن الخوف من جهتهم على جماعة من المسلمين ظاهر وعلى هؤلاء الرهن إذا دفعناهم إليهم ليس بظاهر بل الظاهر في الناس الوفاء بالمودعة وقد بينا أن الإمام إذا ابتليّ ببليتين فإنه يختار أهونهما ويدفع أعظم الضررين بأهون الضررين فإن كان أكبر الرأي عنده أنهم إذا خذوا الرهن قتلوهم فحينئذ لا يحل له أن يدفعهم إليهم لأنه إذا دفعهم كان شريكاً في دمائهم معيناً على هلاكهم وإذا لم يدفعهم فظفر المشركون بالمسلمين لم يكن الإمام شريكهم فيما يصنعون بالمسلمين وأكبر الرأي في هذا كاليقين ألا ترى أن الإمام لو احتاج إلى أن يرسل إليهم رسولاً في مهم للمسلمين فيه منفعة فأبى المسلمون أن يدخل إليهم رسولاً فإن للإمام أن يجبره على ذلك إلا أن يكون أكبر الرأي منه إن بعث إليهم رسولاً قتلوه فحينئذ لا ينبغي له أن يبعث من المسلمين أحداً ولا يكرهه على ذلك فكذلك الرهن فإن جرت الموادعة على ثلاث سنين ثم ظهر للمسلمين قوة فأرادوا أن ينبذوا إليهم وقال المشركون لسنا ندع الموادعة ولا نرد عليكم رهنكم فإنه ينبغي للمسلمين ألا يبطلوا الموادعة لا لإباء المشركون ذلك ولكن لمكان الرهن في يد المشركين لأنهم إن فعلوا ذلك كان هذا منهم إجباراً للرهن وامتناعاً من الوفاء بالموعود لهم وذلك لا يحل فيوفون لهم بما أعطوهم حتى يستنقذوا الرهن منهم وكذلك إن كانت الموادعة مؤيدة فليس ينبغ لهم أن يبطلوا الموادعة وإن قدروا على قتالهم حتى يستنقذوا الرهن أو يموت الرهن أجمعون أو يرضوا بذلك فحينئذ لا بأس بقتالهم لأن المانع من النبذ مراعاة حق الرهن ولوجود إحدى هذه الخصال يزول هذا المانع ولو مضت مدة الموادعة فقال المشركون‏:‏ إن قاتلتمونا قتلنا رهنكم فلا بأس بقتالهم لأنه ليس في هذا أخبار للعهد بينهم وبين أهل الرهن فقد انتهى ذلك بمضي المدة فلا يتعذر علينا قتالهم بسبب الخوف على الرهن كما لو تترسوا بأطفال المسلمين لم يكن بقتالهم بأس وكذلك إن كان في أيديهم أسراء من المسلمين فقالوا‏:‏ إن قاتلتمونا قتلنا الأساري فإنه لا بأس بقتالهم لهذا المعنى وكذلك إن أرسل إليهم رسلاً لحاجة برضاء الرسل أو بغير رضاهم فحبسوهم وقالوا للمسلمين‏:‏ إن قاتلتمونا قتلنا رسلكم فلا بأس بقتالهم وهذا لأنه ليس في شيء من ذلك إخفار من الإمام لقوم من المسلمين إنما فيه مظلمة يظلم المشركون بها المسلمين وللخوف من ذلك لا يتعذر على المسلمين القتال معهم وقال‏:‏ ولو طلب بعض مدائن الشرك أن يكون ذمة لهم فكره ذلك ملك الموادعين وقال‏:‏ إن فعلتم ذلك قتلنا رهنكم أو استعبدناهم وإن لم تفعلوا رددنا عليكم رهنكم فإن الإمام والمسلمين ينظرون في ذلك فإن كل الاقتناع من إعطاء الذمة إلى أن يأخذوا رهنكم خيراً للمسلمين امتنعوا في ذلك وإن كان قبول الذمة من الذين طلبوا ذلك خيراً فعل ذلك الإمام لأنه ناظر للمسلمين فيختار ما كانت المنفعة فيه أظهر وهذا لأنه لي في قبول الذمة من هؤلاء إخفار في حق الرهن لأن هذا لم يكن مما وقع عليه الرهن ولا كان وقوعه معلوماً عند ذلك بخلاف ما تقدم من النبذ إليهم قبل مضي المدة ولكن الأفضل أن يختار ما فيه استنقاذ المسلمين من أيدي المشركين ألا ترى أنه لو طلب أهل مدينة منهم أن يكونوا ذمة فقال ملك العدو‏:‏ إن أبيتم عليهم ذلك خليت سبيل أسرائكم وإن قبلتم ذلك منهم قتلت أسراءكم فإنه يختار ما هو الأنفع للمسلمين فإن كان استنقاذ الإسراء خيراً فعل ذلك وهو أولى الوجهين وإن كان قبول الذمة من أولئك خيراً لما يرى فيه من قوة المسلمين عليهم بشوكة هؤلاء الذين طلبوا الذمة فإن الإمام يقبل الذمة منهم ولا يلتفت إلى جانب الإسراء ألا ترى أنه لو حاصر أهل المدينة عظيمة وأشرف على فتحها فقال له ملك العدو‏:‏ انصرفوا على أن نعطيكم أسراءكم الذين في أيدينا فإن الإمام ينظر في ذلك فيفعل الذي هو خير للمسلمين فكذلك ما سبق فإن غدر أهل المودعة فقتلوا رهن المسلمين وفي رهنهم صبيان ليس معهم آباؤهم ولا أمهاتهم فإنه لا يحكم بإسلامهم حتى يبلغوا فيصفوا الإسلام لأنهم كانوا في أيدي المسلمين وفي دار الإسلام كفاراً على دين آبائهم قبل أن يغدر المشركون بالرهن فلا يتحولون عن ذلك حتى يصفوا الإسلام وهذا لأنه ليس في غدرهم إلا أن رهنهم به قد صاروا فينا بمنزلة أهل الذمة وأولاد أهل الذمة وإن لم يكن معهم آباؤهم ولا أمهاتهم بأن كانوا ماتوا أو نقضوا العهد لا يحكم لهم بالإسلام ما لم يصفوا الإسلام قبل البلوغ أو بعده فحال هؤلاء كذلك فإذا كان في رهنهم مماليك ثم غدروا فقتلوا رهننا فإن الإمام لا يرد عليهم مماليكهم ببيعهم ويقف الثمن في بيت المال حتى يرضي المشركون المسلمين من رهنهم لأنهم احتسبوا عندنا ولكن لم تسقط حرمة ملك الملاك فيهم لأجل الأمان فالسبيل بيعهم ووقف ثمنهم كما لو أسلموا فإن قال المشركون للمسلمين إنا قد أسأنا في قتل رهنكم فنحن نغرم لكم دياتهم فلا بأس بأن يقبل الإمام ذلك منهم لأنه وقع اليأس عن رد الرهن ورد القيمة عند تعذر رد العين كرد العين وقيمة النفس الدية فإذا فعلوا ذلك سلم الديات إلى ورثة المقتولين ورد عليهم ثمن لا عبيد وإن كان العبيد لم يباعوا وقالوا‏:‏ ردوا علينا عبيدنا ونرد عليكم ديات رهنكم فإن الإمام لا يفعل هذا لأن عبيدهم قد احتبسوا عندنا فهذا إن فعله يكون في معنى مفاداة الأساري منهم بالمال وذلك لا يجوز ولأنهم لم يردوا رهننا بأعيانهم فإذا كانوا يأخذون رجالهم بأعيانهم ويردون لعينا الديات كان فيه وهن شديد يدخل على المسلمين ولا ينبغي لإمام المسلمين أن يحبسهم إلى مثل هذا فأما بعد بيع العبيد لا يوجد مثل هذا الوهن في رد الأثمان عليهم لأنه يؤخذ منهم بدل الرهن مال ويرد عليهم بدل رهنهم مثل ذلك ألا ترى أن الإمام لو رأى الحظ للمسلمين في أن يأخذ منهم الديات ويرد عليهم عبيدهم فحينئذ ملا بأس بأن يفعل ذلك لمعنى النظر فإن كانوا قالوا للمسلمين ندفع إليكم الذين قتلوا رهنكم لتحكموا فيهم بما شئتم وتردوا علينا رهننا فإن الإمام يراعي في ذلك معنى النظر للمسلمين فإن لم ير في ذلك حظاً للمسلمين لم يقبل ذلك منهم رأيت لو كان رهننا خمسين رجلاً فقتلهم إنسان واحد أكن نأخذ منهم ذلك القاتل الواحد ونرد عليهم خمسين من أحبارهم وأي وهن يكون أشد من هذا وإن رأى الحظ للمسلمين في أين يقبل ذلك منهم قبله فأخذ القاتلين ورد عليهم رهنهم ثم هو بالخيار في القاتلين إن شاء قتلهم بهم لا بطريق القصاص فإن الحربي لا يستوجب القصاص بقتل المسلم في دار الحرب ولكن لأنهم إساري مقهورون في أيدينا لا أمان لهم وللإمام فيهم الخيار إن شاء قتلهم وإن شاء جعلهم عبيداً فإذا اختار بذلك أعطى وارث كل مقتول العبد الذي قتل مورثه لأنه أخذهم عوضاً عن الرهن المقتولين ولذلك رد عليهم رهنهم فإذا صاروا مملوكين كان حكمهم حكم الديات ولأن الجناية على النفس إذا وجد ممن يحتمل التملك ولم يكن موجباً للقصاص كان موجبتا استحقاق نفس الجاني بالمجني عليه ملكاً ألا ترى أن العبد إذا قتل قتيلاً خطأ فإنه يجب دفع نفسه إلى ولي القتيل إلا أن يختار المولى الفداء فهذا كذلك وإن قالوا للإمام‏:‏ إن شئت أعطيناك ديات أصحابك وإن شئت أعطيناك الذين قتلوا أصحابكم فهذا إنصاف منهم لأنه ليس في وسعهم فوق هذا فيما يرجع إلى الوفاء بتلك المودعة ثم ينبغي للإمام أن يختار ما فيه الحظ للمسلمين فإن اختار أخذ الديات دفعها إلى الورثة وإن اختار أخذ القاتلين كان الرأي إليه في قتلهم كما بينا ولا يمتنع عليه قتلهم بعفو الورثة إن عفوا عنهم لما بينا أنه لا إليه في قتلهم كما بينا ولا يمتنع عليه قتلهم بعفو الورثة إن عفوا عنهم لما بينا أنه لا يقتلهم على وجه القصاص بل لأنهم محاربون والعفو في قتل المحاربين غير مؤثر لأن العفو إنما يسقط ما كان مستحقاً للعافي خاصة وإن كان الذي قتل رهن المسلمين رجال من غير أهل تلك الدار فإن كانوا دخلوا إليهم بأمان فهذا والأول سواء لأن من عندهم بأمان فهو في أيديهم وهو ممن يجري عليه حكم ملكهم فحالهم كحال أهل دارهم ألا ترى‏:‏ أنه لو دخل من دارهم إلينا لم يحتج إلى استئمان جديد بمنزلة من كان من أهل دارهم وإن كانوا دخلوا دارهم مغيرين بغير أمان فقتلوا الرهن فإن ظفر بهم أهل دار المودعة ودفعوهم إلى المسلمين ليس عليهم غير ذلك ويأخذون رهنهم لأنه ليس في وسعهم فوق هذا فيما يرجع إلى الوفاء بالموادعة وإن كانوا ماتوا أو قتلوا في حربهم أو أخذهم ملك الموادعين فقتلهم بما فعلوا بالرهن أو هربوا فعلى المسلمين أن يردوا عليهم رهنهم لأن القاتلين ليسوا من أهل دار الموادعين فلا يجوز أن يأخذ أهل دار الموادعة بجناية من غيرهم فكان هذا في حقهم بمنزلة ما لو مات رهننا في دارهم فعلينا أن نرد عليهم رهنهم ولو كان الذين أصابوهم من أهل دارهم فقتلهم ملكهم حين قتلوا الرهن أو ماتوا حين أخذهم قبل أن يقتلهم فللإمام ألا يرد رهنهم حتى يعطوهم ديات رهن المسلمين لأن الجناية كانت منهم والظاهر أنهم ما تمكنوا من ذلك إلا بقوة ملكهم فيكون فعلهم ذلك كفعل ملكهم بنفسه ولو كان هو الذي قتل رهن المسلمين فأنكر ذلك أهل مملكته فقتلوه أو مات كان للمسلمين ألا يردوا عليهم رهنهم حتى يردوا ديات رهننا فكذلك ما سبق وإن أخذوا الملك فقالوا للمسلمين ندفعه إليكم بمن قتل من رهنكم وتردوا علينا رهننا فإن الإمام ينظر في ذلك فإن رأى الحظ في أن يأبى ذلك حتى يأخذ ديات الرهن فعل ذلك وإن رأى الحظ في أن يأخذ الملك فيقتله أو يجعله عبداً لورثة الرهن فعل ذلك وإن كان الملك حين قتل الرهن هو الذي قال لإمام المسلمين‏:‏ أعطيك ديات أصحابك لترد عليّ رهني فليس ينبغي للإمام أن يفعل ذلك لما فيه من الوهن على المسلمين ولا يلتفت إلى رضاء ورثة الرهن إن رضوا بذلك لأن مراعاة جانب دفع الوهن والذل على المسلمين أوجب وهذا ليس من حقهم في شيء حتى يعتبر فيه رضاهم إلا أن يرى الإمام الحظ في ذلك للمسلمين فحينئذ لا بأس بأن يفعله لتوفير المنفعة عليهم فإن غدر المشركون وقتلوا رهن المسلمين ثم قتل المسلمون رهنهم اعتماداً على ظاهر الشرط فقد أخطئوا في ذلك لأنهم كانوا مستأمنين فينا وينبغي لمن قتلهم أن يغرم دياتهم كما هو الحكم في المسلم يقتل المستأمن فإن قيل لك قد صاروا من أهل الذمة حين احتبسوا في دارنا فينبغي أن يجب القصاص على من قتلهم لأن المسلم يقتل بالذمي عندنا قلنا‏:‏ قبل أن يضع الإمام الخراج عليهم لا يكونون من أهل الذمة حتى لو أرضى المشركون المسلمين ردوا عليهم رهنهم وإن صاروا بمنزلة أهل الذمة فقد تمكن شبهة في هذا القتل وهو الاعتماد على ظاهر الشرط والمشروط في عقد صحيح وذلك يكفي لإسقاط القود ثم الديات تكون موقوفة في بيت المال فإن أعطى المشركون ديات رهن المسلمين قبل ذلك منهم الإمام ودفعها إلى ورثة المقتولين وسلم إليهم ديات رهنهم لأن حكم البدل من الجانبين حكم المبدل ولو ردوا علينا رهننا رددنا عليهم رهنهم فكذلك إذا ردوا ديات رهننا رددنا عليهم مثل ذلك ولا ينبغي للإمام أن يأبى ذلك عليهم لأنه قد صار مالاً من الجانبين بخلاف ما قبل قتل رهنهم فإن للإمام هناك رأياً في أخذ الديات لما فيه من صورة الوهن بأن يقتلوا خيارنا وأشرافنا ثم يأخذوا رهنهم ويعطونا الديات فإن قالوا‏:‏ نعطيكم الديات ونعطيكم مكان كل مسلم قتلناه منكم أسيراً مسلماً في أيدينا وتردون علينا رهننا فعلى الإمام أن يقبل ذلك منهم لأنهم ردوا بدل نفوس المقتولين وردوا مثل ما قتلوا من إساري المسلمين وليس في وسعهم فوق ذلك ثم يخلي سبيل الإسراء ويدفع الديات إلى ورثة المقتولين وإن قالوا ليس عندنا أسراء منكم ولكنا نعطيكم لكل قتيل من رهنكم ديتين أو ثلاث ديات وتردون رهننا فإن الإمام يرى في ذلك رأيه سواء رضي به ورثة الرهن أو لم يرضوا لأن المال وإن كثر لا يكون مثلاً للمسلمين فربما يكون في هذا معنى التوهين بشيء من أمر المسلمين فله ألا يقبله فإن رأى ذلك خيراً وقبله سلم الديات كلها لورثة المقتولين لأنه بدل نفوسهم بمنزلة مال وقع الصلح عليه من القصاص فإنه سالم لورثة المقتولين قلّ ذلك أو كثر ولو قالوا‏:‏ لا نعطيكم الدية ولكن نعطيكم مكان كل مسلم قتلناه أسيراً أو أسيرين أو ثلاثة فأبى أولياء الرهن المقتولين أن يقبلوا ذلك لم يلتفت الإمام إلى إبائهم ولكن ينظر إلى معنى الخيرية للمسلمين فإن رأى النظر في قبول ذلك أخذ الأسرى فخلى سبيلهم ورد عليهم رهنهم وعوض ورثة الرهن المقتولين دياتهم من بيت المال لأنه كان عليه أن يفدي الأساري من بيت المال فإذا توصل إلى تخليص الأساري المسلمين باعتبار دم المقتولين كان عليه أن يدفع إلى ورثتهم عوض ذلك وهو ديات المقتولين بمنزلة ما لو فادى الأساري ببعيد منهم بعد ما قسمهم بين الغانمين بغير رضاهم فإنه يعوض الملاك قيمتهم من بيت المال وإن طابت أنفس ورثة الرهن بهذا وسألوا الإمام أن يقبل منهم أسراء المسلمين مكان الرهن المقتولين والمسألة بحالها ثم طلب ورثة الرهن ديات رهنهم لم يعطهم شيئاً لأنهم تطوعوا بحقهم على المسلمين فكأنهم تبرعوا بمفاداة الأساري بمالهم فلا يستوجبون الرجوع على أحد بشيء وإن لم يستأمرهم الإمام في ذلك حتى قبل من المشركين ما أعطوه ورد عليهم رهنهم فإنه ينبغي له أن يعوض ورثة الرهن المقتولين دياتهم من بيت المال لأن حقهم إنما يسقط إذا رضوا بذلك وتطوعوا بحقهم على المسلمين وهذا المعنى لا يتحقق إذا لم يعلموا به وإن لم يعط المشركون المسلمين شيئاً بعد قتل رهنهم فإنه لا ينبغي للإمام أن يعذب رهنهم بالضرب والحبس كما لا يقتلهم لأنهم مستأمنون فينا ولكنه يخلي عنهم في موضع من دارنا لا يقدرون فيه على الرجوع إلى بلادهم لأنهم احتبسوا في دارنا حين احتبسوا رهننا عندهم فإن أسلموا فهم أحرار وإن أبوا جعلهم الإمام ذمة لما بينا ولكن ينبغي أن يؤجل أهل الحرب في أمرهم سنة فإن أرضونا وإلا جعلناهم ذمة ووضعنا عليهم الخراج فإذا مضت السنة أخذنا منهم الخراج لأن إرضاء المشركين المسلمين ببعض الوجوه الذي ذكرنا موهوم وبعد الإرضاء يجب رد رهنهم عليهم فلهذا يتأنى الإمام في ذلك والحول حسن لإبلاء العذر كما في أجل العتق وغيره وهو نظير المستأمن إذا أطال المقام في دارنا فلأن الإمام يتقدم إليه ويقول إن أقمت سنة من يومك هذا جعلتك ذمة ثم إن خرج قبل مضي السنة تركه وإن مضت السنة قبل أن يخرج أخذ منه الخراج ولم يمكنه من الرجوع بعد ذلك فكذلك حال الرهن فإن قالوا بعد مضي السنة‏:‏ نحن نرضيكم بإعطاء الأساري والديات فردوا علينا رهننا فإن الإمام لا يردهم بالديات بعد ما صاروا ذمة لنا وبعد إعطاء الأساري إن كره الرهن ذلك لم يردهم وإن طابت نفوسهم بذلك ردهم على قياس ما ذكرنا في مفاداة الإسراء بأهل الذمة لأن هؤلاء صاروا من أهل الذمة وهو نظير ما لو أسر الإمام القوم من المشركين وقسمهم ثم إن مواليهم أعتقهم فصاروا ذمة للمسلمين يؤدون الخراج ثم طلب المشركون أن يفادونا بأسراء المسلمين بهم فإن الإمام لا يفعل ذلك بغير طيبة نفس المعتقين فإن طابت نفوسهم بذلك فعلوه فكذلك ما سبق ولو قالوا‏:‏ نعطيكم الديات ونعطيكم من قتل الرهن فليس ينبغي للإمام أن يرد عليهم رهنهم بعدما جعلهم ذمة لأن هذا بمنزلة مفاداة أهل الذمة بالمال وأهل الحرب منهم وهذا لا رخصة فيه إنما الذي يرخص فيه إعادة الذمّي إلى دار الحرب ليكون حرباً للمسلمين إذا كان فيه تخليص المسلمين من أسر المشركين فقط فلو أعطى المسلمون المشركين رهناً من المسلمين وأعطاهم المشركون رهناً في جواهر أو ثياب ثم غدروا فقتلوا الرهن فإن الإمام يجعل رهنهم موقوفاً في بيت المال لا يعطي ورثة الرهن المقتولين شيئاً من ذلك لأن حقهم مقصور على بدل نفوس المقتلين وهذا ليس من بدل نفوسهم في شيء ولكنه مال أهل الحرب قد يثبت فيه حكم الإمام في ديارنا فيجعله الإمام موقوفا في بيت المال وإن خاف الفساد على شيء منه باعه ووقف ثمنه في بيت المال فإن قالوا للمسلمين‏:‏ نعطيكم الدياات وتردواعلينا رهننا فإن الإمام ينظر في ذلك فإن كانت الديات مثل الرهن أو أكثر فلا بأس بأن يأخذ ذلك منهم لأن الكل مال وإنما يعتبر فيه المماثلة في صفة المالية لنعدم به معنى الرهن ثم يدفع الديات إلى ورثة الرهن وإن كانت الديات دون رهنهم في المالية منعهم الإمام ذلك أشد المنع لأن معنى الرهن يتحقق ها هنا من وجهين أحدهما من جهة قتلهم الرهن والآخر من جهة أنهم يأخذون من المال أكثر مما يعطون وإن قالوا‏:‏ إن الرهن قتلوا بغير رضاء منا فنحن نعطيكم القاتلين وديات المقتولين وتردوا علينا رهننا أو قالوا‏:‏ اختر إن شئت القاتلين ندفعهم إليك وإن شئت الديات فإن علمنا أنهم صدقوا فيما قالوا إنهم قتلوا بغير برضاء من جماعتهم فليس للإمام أن يأبى هذا عليهم لأنه ليس في وسعهم فوق ما عرضوه عليه ولكنه يختار أفضلهما للمسلمين فيأخذه ويرد عليهم رهنهم وإن كان قتل برضاء من جماعتهم فللإمام ألا يقبل ذلك منهم باعتبار أن رضاء الجماعة بذلك كمعاشرتهم وفي قبول ذلك منهم معنى الوهن ولو أنهم قتلوا رهن المسلمين ثم أسلموا وصاروا ذمة فليس عليهم غرم في ذلك لأنهم فعلوا ذلك وهم محاربون فكان هذا وما لو قتلوا المسلمين في القتال ثم أسلموا أو صاروا ذمة سواء ثم يرد عليهم رهنهم لأنه مال كان مملوكاً محترماً لهم في أيدينا فإذا أسلموا وجب رده عليهم عملاً بقوله عليه الصلاة والسلام‏:‏ من أسلم على مال فهو له وحالهم الآن كحال الخوارج إذا قاتلهم أهل العدل وأصاب كل فريق مالاً من الفريق الآخر ثم استهلك الخوارج أموال أهل العدل فإن أهل العدل لا ينبغي لهم أن يستهلكوا شيئاً من أموالهم ولكنهم يقفون ذلك إلى أن يتوب الخوارج فإذا تابوا يرد عليهم أموالهم ولم يغرموا شيئاً مما استهلكوا ولو لم يسلم أهل الدار بعد قتل الرهن ولكن ظهر المسلمون على أهل تلك الدار وقتلوا من فيها أو سبوهم كان رهنهم من الأموال فيئاً للمسلمين الذين ظهروا على تلك الدار لأنه قد سقطت حرمة نفوس الملاك بوقوع الظهور عليهم وهذا عين مال لهم بمنزلة ما في أيديهم فيكون فيئاً للغانمين وإن استهلك رجل من المسلمين رهنهم فإن الإمام يضمنه مثله لبقاء حكمم الأمان في ذلك المال في يد الإمام ثم حكم المثل المأخوذ في يد الإمام ما هو حكم الأصل ولا يشبه هذا في هذا الوجه ما أصاب المسلمون من أموال الخوارج فإن من استهلك ذلك من أهل العدل لم يضمن شيئاً فإنه لا أمان للخوارج في ذلك منا ووجوب الضمان باعتبار الأمان فأما وجوب رد العين باعتبار بقائه على ملك صاحبه فلهذا قلنا يرد عليهم ما كان قائماً ولا يضمن المستهلك لهم شيئاً مما استهلكه بخلاف رهن أهل الحرب في أيدينا فإن حكم الأمان ثابت في ذلك المال فيغرم المستهلك قيمته ويجب رده عليهم إن أسلموا وإذا أخذوا الرهن من الجانبيين في الموادعة واشترطوا فيها أن من غدر منهم فدماء رهنهم حلال ثم قطع المشركون أيد رهننا أو فقئوا أعينهم ثم قالوا للمسلمين‏:‏ خذوا رهنكم فهو أحياء وأعطونا رهننا فإن الإمام ينظر في ذلك فإن كان الحظ في أخذهم ولم يكن فيه توهين بشيء من أمور المسلمين وأبرأهم الرهن مما صنعوا بهم وقالوا‏:‏ خذونا منهم فعل الإمام ذلك وإن كان فيه توهين لأمر المسلمين لم يأخذ ذلك منهم لأنه نصب ناظراً وقد سلم إليهم قوماً أصحاء فله ألا يأخذ منهم قوماً عمياناً مقطوعين ويعطيهم رهنهم أصحاء وإن قال الرهن‏:‏ الحق حقنا ونحن نرضى بذلك فخذونا منهم فإنا لا نأمن البلاء على أنفسنا لم يلتفت الإمام إلى مقالتهم لأن في هذا توهيناً للدين وخديعة من المشركين لأهل الإسلام وازدراء لهم والضرر في ذلك إلى جميع المسلمين فلا يترك الإمام مراعاة هذا الجانب قول الرهن‏.‏

أرأيت لو كان الرهن بآخر الرمق مقطعي الأيدي والأرجل فقالوا‏:‏ خذونا منهم أكان ينبغي للإمام أن يعطيهم رهنهم أصحاء سالمين ويأخذ المسلمين بآخر رمق لما صنعوا بهم هذا مما لا ينبغي أن يقول به أحد لأنه رضاء بالدنية في الدين ونعوذ بالله - تعالى - من أن نعطي الدنية في ديننا فإن الذليل يعطى ما سئل ولو جاز هذا الجاز أن يقال‏:‏ إذا قتلوا رهننا ثم قال ورثتهم‏:‏ قد عفونا عنهم فردوا عليهم رهنهم أن يردوهم عليهم لأن ورثة المقتولين يقومون مقامهم هذا ليس بشيء ولا ينظر إلى قول الرهن ولا إلى قول ورثته وإنما ينظر إلى توهين الدين المسلمون جرأة المشركين فإن لم يكن فيما سألوا توهين للدين أجابهم الإمام إلى ذلك وإن كان فيه توهين الدين وجرأة المشركين عليهم لم يقبل ذلك منهم‏.‏

ألا ترى‏:‏ أن رهننا لو كانوا مائة فقتلوهم كلهم إلا رجلاً واحداً فقال ذلك الرجل‏:‏ خذوني منهم وردوا عليهم رهنهم فإنهم قاتلي إن لم تفعلوا لم يلتفت الإمام إلى قوله لما في ذلك من معنى توهين الدين كما بينّا فإن كانوا حين فقئوا أعين الرهن قالوا للمسلمين‏:‏ نرد عليكم رهنكم ونعطيكم الدية فيما صنعنا برهنكم فلا بأس بأن يقبل الإمام منهم هذا لأنه ليس فيه توهين الدين فإنهم يردون الرهن ويردون عوض ما أتلفوا منهم وليس في وسعهم فوق ذلك ولو قتلوا بعض رهننا وبقي البعض كان للإمام ألا يرد عليهم رهنهم حتى يردوا علينا الأحياء ويخيرون في القتلى بين الديات وبين دفع القاتلين إليه اعتباراً للبعض بالكل ولو أنهم ضربوا رهننا أو شجوهم فبرئوا على وجه لم يبق أثره فقالوا للإمام‏:‏ أخرجنا من أيديهم وادفع إليهم رهنهم فلا بأس للإمام أن يفعل ذلك لأن المظلوم قد رضي بترك المطالبة لحقه وليس في أخذهم ورد الرهن عليهم معنى توهين الدين فلا بأس بأن يجيبهم الإمام إلى ذلك وكذلك إن مات الرهن في أيديهم من غير ذلك بعدما برءوا ذمته فقال ورثة الرهن قد تركناه لهم فردوا عليهم رهنهم لأن الورثة بعد موت المورث يقومون مقامه فيما هو من حقه قال‏:‏ فإذا أعطوا الرهن من الجانبين في الموادعة ولم يعطوا مع رهن المشركين نفقة لهم فنفقتهم ما داموا رهناً من بيت مال المسلمين وهذا من أعجب المسائل فإن نفقة المرهون تكون على الراهن دون المرتهن في الموضع الذي وجد فيه الرهن بصورته ومعناه وحكمه فكيف تجب النفقة على المرتهن في موضع وجد فيه الرهن صورة فكيف يجب نفقة أهل الحرب في بيت مال المسلمين وهم أهل حرب في أيدينا بمنزلة المستأمنين ولكنا نقول إن إقامتهم فينا لمنفعة المسلمين وقد بينا أنه لا يجوز الإجابة إلى هذه الموادعة إلا إذا كان فيها منفعة للمسلمين فلهذا تجب نفقتهم في مال المسلمين بمنزلة المستعار في يد المستعير لما كانت المنفعة له فيه كان نفقته عليه بخلاف الرهن الذي هو حقيقة فالمنفعة هناك للراهن من حيث إن دينه يصير مقضياً بهلاك الرهن فإن قتلوا رهن المسلمين يلتزم الإمام رهنهم إلى سنة وينفق عليهم من بيت المال أيضاً لأنه ما لم تمض السنة فالحكم الذي كان ثابتاً فيهم بأمان باق فإن مضت السنة ولم يرضونا جعلهم ذمة ولم ينفق عليهم بعد ذلك من بيت المال شيئاً لأنه ما لم تمض السنة حالهم كحال غيرهم من أهل الذمة ولو لم يقتلوا رهننا وقد كانت الموادعة مؤقتة فانقضت المدة وطلب المسلمون من المشركين رد الرهن فأبوا فإن الإمام يقول لرهنهم‏:‏ لا أردكم إلى بلادكم حتى يردوا أصحابكم إليّ رهني وقد أجلتكم في ذلك حولاً فاكتبوا لهم فإن ردوا رهني وإلا جعلتكم ذمة ويكتب إليهم بنفسه أيضاً تحقيقاً لإبلاء العذر فإن لم يردوا الرهن حتى مضى الحول جعلهم ذمة ثم إن عرضوا رد الرهن بعد ذلك لم يرد عليهم رهنهم إلا برضاهم وقد بيّنا هذا والفقه في هذا الإنذار أنه لا يجوز للإمام أن يترك المشرك في دارنا مدة مديدة ليصنع ما يصنع من غير ذل الخراج فكان التقديم إليهم التأجيل بحول لهذا المعنى وإن أعطى المسلمون المشركين رهناً من الرجال الأحرار وأخذوا منهم رهناً من جوهر أو لؤلؤ أو عبيد فاشترطوا عليهم أنهم إن غدروا فما أخذ المسلمون منهم من مال فهو للمسلمين ثم غدروا فإن المال لا يكون للمسلمين ولكن يكون موقوفاً في بيت المال لهم إلى أن يسلموا أو يرضونا في رهننا بما نرضى به لأن هذا شرط باطل قد ثبت بطلانه بالنص وهو قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ لا يغلق الرهن فإن تفسير هذا اللفظ على ما نقل عن أئمة التابعين أن يقول الراهن للمرتهن‏:‏ إن جئتك بمالك إلى وقت كذا وإلا فالرهن لك بمالك فإذا ثبت أن هذا لا يجوز في الموضع الذي يكون عوضاً عن مال ففي الموضع الذي يكون عوضاً عما ليس بمال أصلاً أحرى ألا يجوز وهذا لما فيه من تعليق سبب الملك بالخطر وأسباب ملك الأعيان لا يحتمل التعليق بالخطر فإذا تبين بطلان هذا الشرط كان ذكره والسكوت عنه سواء والله الموفق‏.‏