فصل: باب فداء الأسراء من الأحرار والمملوكين بالمال

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: شرح السير الكبير **


  باب فداء الأسراء من الأحرار والمملوكين بالمال

وإذا أسر الحر من المسلمين أو من أهل الذمة فقال لمسلم أو ذمي مستأمن فيهم‏:‏ افتدني من أهل الحرب أو اشترني منهم ففعل ذلك وأخرجه إلى دار الإسلام فهو حر لا سبيل عليه لأن فعل المأمور بأمره كفعل الآمر بنفسه وهذا لأن الحر لا يملك بالأسر ولا بالشراء والمال الذي فداه به المأمور دين له على الآمر لأنه أحياه بما أدى من المال حكماً فهو بمنزلة ما لو أمر من عليه القصاص رجلاً أن يصالح أولياء الدم على مال ويعطيه يوضحه‏:‏ أن أمره بأداء الفداء محتمل يجوز أن يكون على سبيل التصدق به على الأسير ويجوز أن يكون على سبيل الإقراض للأسير فإنما يثبت به أدنى الأمرين عند الإطلاق ويجعل ذلك استقراضاً من الأسير فيرجع عليه بجميع ما أدى في فدائه إلى مقدار الدية دون الزيادة فإن كان فداه بأكثر من الدية فإنما يرجع على الأسير بقدر الدية دون الزيادة وقيل ينبغي على قياس قول أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه أنه يرجع عليه بجميع ما أدى قل ذلك أو كثر لأنه يراعى مطلق الأمر في الوكالات والأصح أن هذا قولهم جميعاً لأن هذا ليس بتوكيل بالمبادلة من حيث المعنى ومن حيث الصورة وإن كان فهو توكيل بالشراء وأبو حنيفة رضي الله تعالى عنه يقول في التوكيل بالشراء‏:‏ لا يخالفهما أنه عند الإطلاق تنفيذ بالشراء بالقيمة وقيمة الحر قدر ديته فإنه يملك مطلق الأمر أن يلزمه بالفداء مقدار الدية دون الزيادة على ذلك فإذا فداه بأكثر من ذلك كان هو في الزيادة كالمتبرع بالفداء عنه بغير أمره فإنما يرجع عليه بقدر الدية دون الزيادة فإن قيل‏:‏ إن كان هو في هذا العقد ممتثلاً لأمره فينبغي أن يرجع عليه بجميع ما فداه به وإن كان مخالفاً لأمره فينبغي ألا يرجع عليه بشيء كالوكيل بالشراء إذا خالف واشترى بأكثر من قيمة المبيع بغبن فاحش قلنا‏:‏ هذا إنما يستقيم لو كان هذا العقد معاوضة على سبيل المبادلة وليس كذلك فالحر المسلم ليس بمحل لذلك وإنما كان الآمر مستقرضاً من المأمور مقدار ديته أو دون ذلك وآمرا له أن يصرف ذلك في فدائه فهو في ذلك القدر يكون مقرضاً إياه وفيما زاد على ذلك يكون متبرعاً به فيرجع عليه بما أقرضه دون ما تبرع به‏.‏

وعلى هذا لو كان المأسور قال له‏:‏ افتدني منهم بألف درهم فلم يتمكن المأمور من ذلك حتى زاد فإنما يرجع عليه بالألف خاصة لأن الرجوع بحكم الاستقراض وذلك في الألف خاصة وهذا بخلاف الشراء لأن الوكيل بالشراء بمنزلة المتملك ثم المملك من الآمر يرجع بما يملك به وعند الخلاف لا يتحقق التمليك منه في شيء فلهذا لا يرجع عليه بشيء من الثمن‏.‏

ولو كان المأسور قال للمأمور‏:‏ افتدني منهم بما رأيت أو بما شئت أو أمرك جائز فيما تفتديني به فإنه يرجع عليه بما فداه به قل أو كثر لأنه صرح بالتعميم في التفويض فكان ممتثلاً أمره في جميع ما فداه به قل ذلك أو كثر‏.‏

فإن كان المأسور مكاتباً فيأمر المأمور بأن يفديه بمال فذلك جائز فيأخذ به المكاتب في الحال لأن في فدائه بالمال إحياء له حكماً‏.‏

وله أن يلتزم المال فيمثله في الحال ألا ترى أنه إذا صالح عن قصاص عليه على مال أو أمر غيره به كان مأخوذاً به في الحال وهذا لأن المكاتب أحق بكسبه فيما يرجع إلى حاجته ويكون هو في ذلك كالحر كما في نفقته فإن عجز قبل أداء الفداء فرد في الرق بيع في ذلك الفداء لأنه دين ظهر وجوبه في حق مولاه فيباع فيه بعد العجز إلا أن يقضي المولى عنه الدين بعد العجز وقيمة المكاتب في هذا الفصل بمنزلة الدية في فصل الحر لأن بدل نفسه قيمته يظهر ذلك بالجناية عليه إلا أن فرق ما بينهما أن مقدار الدية معلوم بالنص فلا يلزمه زيادة على ذلك قلت الزيادة أو كثرت والقيمة تعرف بالحزر والظن فإن فداه بأكثر من قيمته بقدر ما يتغابن الناس في مثله رجع عليه بجميع ذلك لأنه لا يتيقن بالزيادة ها هنا بخلاف ما إذا كانت الزيادة بقدر ما لا يتغبن الناس فيه‏.‏

ولو كان المكاتب قال‏:‏ افتدني منهم بخمسمائة وقيمته ألف درهم ففداه بألف درهم أو أكثر لم يرجع على المكاتب إلا بخمسمائة لأنه استقرض منه مالاً مسمى فإنما يكون هو مقرضاً في ذلك القدر فيكون متبرعاً في الزيادة على ذلك واعتبار القيمة عند عدم التصريح بمقدار ما استقرض منه فأما عند التصريح بذلك فلا معتبر بالقيمة‏.‏

ولو كان قال‏:‏ افتدني منهم بخمسة آلاف وقيمته ألف ففي قياس قول أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه ذلك كله لازم للمكاتب في مكاتبته وفي قول محمد رحمه الله تعالى إنما يرجع عليه قبل العتق بمقدار قيمته فقط وأما الزيادة على ذلك فإنم يطالبه به بعد العتق وهذا بناء على أصل معروف أن المكاتب والمأذون عند أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه في البيع والشراء بالغبن الفاحش بمنزلة الحر على قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى لا يملكان البيع والشراء بالغبن الفاحش فكذلك في الأمر بالمفاداة عند أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه هو بمنزلة الحر فيرجع المأمور عليه بجميع المسمى لأنه يصير مستقرضاً منه ذلك القدر وعلى قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى هو لا يملك البيع بالمحاباة الفاحشة كما لا يملك الهبة فيكون أمره في مقدار قميته صحيحاً معتبراً في حالة الرق وما زاد على ذلك بمنزلة الهبة أو الكفالة منه والمكاتب لا يؤخذ بضمان الكفالة حتى يعتق فهاهنا لا يرجع عليه المأمور بالزيادة على مقدار قيمته حتى يعتق أيضاً ولو كان إنما فدى الحر أو المكاتب بغير أمرهما فكل واحد منهما على حاله كما كان فلا يرجع الفادي عليهما بشيء‏.‏

لأنهما لم يملكا بالأسر والفادي متطوع في الفداء‏.‏

وإن كان المأسور مدبراً أو أم ولد مأذون أو محجور فأمر رجلاً أن يفديه من العدو بمال ففداه بمثل قيمته أو أكثر فعليه رده على مولاه لأن المدبر وأم الولد لا يملكان بالأسر‏.‏

ثم لا يرجع عليهما بشيء من الفداء حتى يعتقا أما إذا كان محجوراً عليهما فغير مشكل لأنه لا معتبر بأمرهما في حق مولاهما‏.‏

وإن كانا مأذوناً لهما فقد بطل حكم ذلك الإذن بالخروج من يد مولاه إلى يد أخرى قاهرة كما يبطل بالإباق لأن فداء النفس بالمال بمنزلة الصلح عن القصاص على مال والمأذون في ذلك والمحجور سواء لا يؤخذ ببدل الصلح إلا بعد العتق فكذلك الفداء فإذا أعتق يرجع الفادي عليهما بما فداهما به إلا أن يكون فداهما بأكثر من قيمتهما بقدر ما لا يتغابن الناس فيه فحينئذ لا يرجع عليهما بالفضل‏.‏

لأن اعتبار أمرهما في حقهما كاعتبار أمر المكاتب وقد بينا أن ذلك عند الإطلاق يتقدر بالقيمة وهذا مثله‏.‏

ولو كان المولى هو الذي أمر هذا المستأمن أن يفديهما أو يشتريهما فقال‏:‏ اشترهما أو افتدهما ولم يقل لي فإن افتداهما بمثل القيمة أو بزيادة يسيرة يرجع على المولى بجميع ذلك لأنهما باقيان على ملك المولى وأمر المولى إياه بأن يفدي ملكه يكون استقراضاً منه للمال بمنزلة أمر الحر في حق نفسه هذا لأن الفداء بعد الأسر بمنزلة الصلح عن القصاص وأمر المولى بذلك معتبر في حياة مدبره وأم ولده سواء أضاف ذلك إلى نفسه أو لم يضف فإن اختلف الآمر والمأمور في جميع هذه الفصول التي ذكرنا فقال الآمر‏:‏ أمرتك أن تفديني بكذا وقال المأمور‏:‏ بل أمرتني بكذا أكثر من ذلك فالقول قول الآمر مع يمينه لأن الأمر يستفاد من جهته ولو أنكره أصلاً كان القول قوله وكذلك إذا أقربه في مقدار دون مقدار‏.‏

ولو قال الآمر‏:‏ قد أمرتك أن تفديني بما ذكرت ولكنك إنما فديتني بأقل من ذلك فالقول قول الآمر أيضاً لأنه مستقرض للمال من المأمور فإنما وقع الاختلاف بينهما في مقدار ما أقرضه إياه فالمقرض يدعي الزيادة عليه فعليه أن يثبته بالبينة والمستقرض منكر للزيادة فيكون القول قوله مع يمينه‏.‏

ولو أن مولى المكاتب المأسور قال لرجل‏:‏ اشتره لي أو افتده لي بألف درهم أو قال‏:‏ افتده بألف درهم من مالي ففعل ذلك يرجع بالفداء على الآمر ولم يكن له على المكاتب شيء لأنه لم يأمره المكاتب بشيء والآمر حين أضاف العقد أو المال إلى نفسه فقد جعل نفسه ضامناً لذلك المال بمنزلة الفضولي في الخلع والصلح عن القصاص على مال بالإضافة إلى نفسه يجعل ضامناً للمال فهذا مثله‏.‏

وإن لم يقل لي ولكن قال‏:‏ بألف درهم فإن كان المأمور خليطاً للآمر في المعاملات فكذا الأمر لأن الخلطة القائمة بينهما بمنزلة الإضافة إلى نفسه أو أقوى منه في حصول معنى الاستقراض به‏.‏

وإن لم يكن بينهما خلطة فهو متطوع في الفداء لأنه أشار إليه بأن يكتسب سبب اصطناع المعروف ولم يضمن له شيئاً ولا أشار عليه بشيء‏.‏

وكذلك إن كان المأسور حراً أو حرة والآمر زوجها أو بعض قرابتها أو أجنبي فعند إضافة العقد أو المال إلى نفسه يصير ضامناً للمال وعند عدم الإضافة إن كان المأسور خليطاً له فكذلك وإن لم يكن خليطاً له فهو مشير عليه بمشورة فلا يرجع عليه بشيء وإن كان المأسور صغيراً فقال أبوه لرجل‏:‏ افتده لي أو من مالي رجع المأمور بالفداء على هذا الوالد لأنه ضمن له ذلك‏.‏

ثم لا يرجع به الوالد في مال الولد استحساناً وفي القياس يرجع لقيام ولايته عليه وهذا نظير القياس والاستحسان فيما إذا زوج الأب ابنه امرأة وضمن الصداق وأداه من ماله فإنه يرجع فيه على ولده في القياس وفي الاستحسان لا يرجع لأن العادة الظاهرة أن الآباء بمثل هذا يتبرعون وفي الرجوع لا يطمعون فكذلك في الفداء‏.‏

فإن لم يرده الوالد حتى يموت كان ذلك ديناً في تركته باعتبار ضمانه لذلك ولكن يرجع به الورثة في مال الولد على قياس الصداق إذا ضمنه فمات قبل أدائه فأخذ من تركته والمعنى فيهما أن هذا الضمان بطريق الصلة منه لولده وتمام الصلة بالقبض فإذا مات قبل الأداء لو نفينا معنى الصلة كان ذلك وصية ولا وصية للوارث‏.‏

وإن كان الوالد حين أداه في حياته أشهد أنه يؤديه ليرجع به على ابنه فكذلك له في الصداق وهذا لأن العرف إنما يعتبر عند عدم التصريح بخلافه‏.‏

وإن كان قال للمأمور‏:‏ افتده ولم يقل‏:‏ لي فإن كان المأمور خليطاً له فهذا والأول سواء لأن الخلطة القائمة بينهما دليل الاستقراض بمنزلة إضافة العقد إلى نفسه‏.‏

وإن لم يكن خليطاً له كان ذلك جائزاً للذي فدى على الغلام ببيعه به ولا سبيل له على الأب لأن أمر الأب جائز على ابنه الصغير فكذلك مباشرة أمر المأسور بنفسه لو كان بالغاً ولا رجوع على الوالد لأنه كان معبراً عن الولد لا ضامناً شيئاً حين أطلق الأمر بالفداء وهو نظير النكاح إذا قبل الأب العقد على ولده الصغير فإن الصداق يجب على الولد دون الأب فهذا قياسه‏.‏

ولو كان المأسور وكل رجلاً بأن يأمر المستأمن حتى يفديه من العدو وقال الوكيل للمستأمن‏:‏ افتده لي من العدو أو قال‏:‏ من مالي ففعل ذلك كان الفداء للمأمور على الوكيل خاصة لأنه بإضافة العقد أو المال إلى نفسه صار ملتزماً المال للمأسور بمنزلة المستقرض منه فيكون رجوعه عليه ولا رجوع له على المأسور لأنه ما جرى بينهما معاملة ولكن الوكيل هو الذي يرجع على المأسور‏.‏

وكذلك إن لم يقل‏:‏ لي ولكن المأمور كان خليطاً للوكيل لأن قيام الخلطة بينهما بمنزلة إضافة العقد أو المال نفسه وإن لم يكن بينهما خلطة فلا شيء للمأمور على الوكيل لأنه معبر عن الموكل بإضافة العقد إليه بقوله‏:‏ افتده فلاناً‏.‏

والمعبر ليس عليه من المال شيء ولكن المال للمأمور على المأسور لأن عبارة وكيله قائمة مقام عبارته فكأنه أمره بذلك بنفسه وهذا لأن الوكيل متى كان عاقداً بالإضافة إلى نفسه لم يكن المأسور عاقداً مع المأمور متى كان الوكيل معبراً كان المأسور هو العاقد‏.‏

وإنما نظيره الوكيل بالخلع من جهة المرأة إذا ضمن المال فإن رجوع الزوج يكون على الوكيل خاصة دون المرأة وإذا لم يضمن المال كان رجوعه على رجوعه على المرأة دون الوكيل للمعنى الذي قلنا فإن كان المأسور عبداً أو أمة فأمر مستأمناً فيهم أن يشتريه أو يفتديه منهم ففعل ذلك بمثل قيمته أو أقل أو أكثر فهو جائز وهو عبد لهذا المشتري لأنهم ملكوه بالإحراز‏.‏

ولو اشتراه منهم هذا الرجل بدون مشورة المملوك وكان مشترياً لنفسه فكذلك إذا اشتراه بعد مشورة المملوك لأن قوله‏:‏ اشتر لي يعد مشورة‏.‏

ألا ترى أنه لو كان هذا في دار الإسلام فاشتراه من مولاه كان مشترياً لنفسه قبل هذه المشورة وبعدها‏.‏

فإذا أخرجه يخير مولاه فإن شاء أخذه بالثمن وإن شاء تركه وإن قال‏:‏ اشتر لي لنفسي منهم أو افتدني لنفسي فإن اشتراه بقيمته أو بغبن يسير وأخبرهم أنه يشتري لنفسه فالعبد حر لا سبيل عليه لأنه قد جعل المأمور نائباً لنفسه‏.‏

ولو جعله إنسان آخر نائباً لنفسه في الشراء كان مشترياً للمنوب عنه وجعل المنوب عنه في حكم هذا العقد كأنه باشر العقد بنفسه فهاهنا يجعل العبد في حكم هذا العقد كأنه اشترى نفسه من مولاه فيعتق ثم للمأمور أن يرجع بالفداء على العبد لأن شراءه العبد كشرائه لأجنبي آخر بأمره وهناك إذا أدى الثمن من ماله رجع به على الآمر فهاهنا أيضاً يرجع على الآمر لأن أمره في حق نفسه صحيح وصار هو كالمستقرض لذلك المال منه‏.‏

فإن كان العبد مدبراً أو مكاتباً أو كانت أم ولد والمسألة بحالها لم يعتق لأنهم لم يملكوه بالإحراز بل هو باق على ملك مولاه ألا ترى‏:‏ أن الحربي لو أعتقه لم ينفذ عتقه فيه ولو أسلم عليه وجب رده إلى مولاه بخلاف ما سبق فسواء قال‏:‏ اشترني أو قال‏:‏ اشترني لنفسي إذا أخرجه فهو مردود على مولاه بغير شيء‏.‏

لأن المشتري متبرع في فداه ملكه بغير أمره فلا يرجع عليه بشيء منه‏.‏

ولو كان العبد أو الأمة قال للمأمور‏:‏ اشترني لنفسي فاشتراه ولم يخبر أهل الحرب أنه يشتريه لنفسه فهو مملوك للذي اشتراه لأنه لم يمكن أن يجعل مشترياً للعبد حين لم يخبر مالكه به فإن بشرائه للعبد يكون استحقاق الولاء للمولى يثبت في دار الحرب كالنسب وشراؤه لنفسه يكون تملكاً فإذا لم يخبر مالكه فلم يوجد من المالك الرضاء بعتقه عليه ولزوم الولاء إياه ولا يجوز إلزام الولاء أحداً بغير رضاه بخلاف ما إذا أخبر مولاه بذلك وإن كان اشتراه بأكثر من قيمته مما لا يتغابن الناس فيه‏.‏

ولو أخبرهم أنه يشتريه له فهو مملوك للمشتري لأن مطلق الأمر بالشراء ينصرف إلى الشراء بالقيمة أو بزيادة يسيرة‏.‏

كما لو كان الآمر غيره فإذا اشترى بأكثر من ذلك صار مخالفاً له فكأنه اشتراه بغير أمره فكان مشترياً لنفسه‏.‏

وكذلك لو كان المملوك قال له‏:‏ اشترني لنفسي بألف درهم فقال‏:‏ بيعونيه لنفسه بألف درهم ففعلوا عتق العبد لأن هذا إعتاق يجعل كما لو كان العبد هو الذي يخاطبهم به فلا تقع الحاجة إلى قبوله ثانياً ولكنه يعتق وولاؤه لبائعه‏.‏

ولو قال‏:‏ بعنيه بألف درهم ولم يقل لنفسه كان مملوكاً للمشتري يأخذه مولاه بالثمن إن شاء لأن الحربي لم يلتزم ولاءه حين لم يخبره أنه يشتريه له‏.‏

ولو قال‏:‏ بعنيه بألف درهم لنفسه فباعه الحربي منه فلا بد من قبوله وبعد القبول يكون ملكاً له لأنه خالف ما أمره به نصاً فكأنه اشترى بغير أمره‏.‏

ولو كان قال له‏:‏ اشترني لنفسي بما شئت فاشتراه وبين لأهل الحرب أنه يشتريه لنفسه عتق العبد بأي ثمن اشتراه لأنه فوض الأمر إلى الوكيل أمراً عاماً فيكون هو ممتثلاً أمره فيرجع بما أدى عليه من الفداء بالغاً ما بلغ‏.‏

فإن اختلفا فيما فداه به فقال العبد‏:‏ فداني بخمسمائة وقيمته ألف وقال المأمور‏:‏ فديته بألفين فالقول قول العبد مع يمينه إلا أن يقيم الآخر البينة لأن المأمور يدعي لنفسه زيادة دين في ذمة العبد وهو منكر له فالقول قول المنكر مع يمينه‏.‏

وعلى المدعي للزيادة البينة فإن قيل‏:‏ لم لا يصار إلى التحالف بينهما بمنزلة ما لو اختلف الموكل والوكيل في الثمن قلنا‏:‏ أما على قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى فلأن العبد قد عتق ومن أصله أنه لا يصار إلى التحالف بعد تغير السلعة ولكنه تعتبر فيه الدعوى والإنكار وأما عند محمد رحمه الله تعالى فلأن المصير إلى التحالف بعد تغير السلعة في موضع يمكن فيه فسخ العقد على القيمة وها هنا لا وجه لذلك لأن بالعتق لا يسلم للعبد مال من جهة المأمور حتى يقال‏:‏ تلزمه القيمة باعتبار ذلك فهو بمنزلة الآجر والمستأجر يختلفان في مقدار الأجر بعد استيفاء المنفعة وهناك لا يصار إلى التحالف ولكن يجعل القول قول المنكر للزيادة مع يمينه‏.‏

ولو لم يقل المأمور لأهل الحرب‏:‏ إني اشتريته لنفسه كان مملوكاً له إذا اشتراه لأن بائعه ما رضي بعتقه عليه وثبوت ولايته له‏.‏

فإذا أخرجه كان للمأمور منه أن يأخذه بما اشتراه به إن شاء فإن اختلفا في ذلك فالقول قول المشتري مع يمينه وكذلك إن اختلفا في جنس العقد بأن قال مولاه‏:‏ وهبه لك أهل الحرب فأنا آخذه بقيمته وقال المشتري‏:‏ اشترنيه منهم بألفي درهم فالقول قول المشتري وقد تقدم بيان هذا الفصل قبل إقامة البينة وبعد ذلك فيما اختلفوا فيه وفيما اتفقوا عليه وأنه بمنزلة الشفعة وإن لم ينص على قول أبي يوسف رحمه الله في هذا الموضع إذا أقاما البينة ولو كان مولى العبد المأسور قال للمستأمن‏:‏ اشتره لي منهم أو اشتره من مالي فإن اشتراه بقيمة فالعبد للآمر لأنهم ملكوه بالإحراز فكان أمر المولى القديم بأن يشتريه له وأمر أجنبي آخر في أنه يتناول العقد بقيمته أو بغبن يسير سواء‏.‏

وإذا اشتراه بغبن فاحش كان مخالفاً مشترياً لنفسه ثم يكون لمولاه القديم الخيار إن شاء أخذه منه بما اشتراه به وإن شاء تركه‏.‏

ولو كان قال له‏:‏ اشتره ولم يقل‏:‏ لي ولا من مالي فهذه مشورة أشار بها عليه فيكون المخاطب مشترياً لنفسه ينفذ فيه تصرفاته بمنزلة ما لو اشتراه قبل هذه المشورة وهو نظير رجل قال لغيره‏:‏ اشتر عبد فلان ولم يقل‏:‏ لي ولا من مالي فإن ذلك مشورة لا توكيل بخلاف قوله‏:‏ اشتره لي بما شئت فقد فوض الأمر إليه عاماً فيكون مشترياً له بأي ثمن كان‏.‏

فإن اختلف الآمر والمأمور فيما اشتراه به تحالفا وترادا لأن الوكيل مع الموكل بمنزلة البائع مع المشتري في حكم التحالف عند الاختلاف في الثمن لأنه يحلف الآمر على العلم لأنه استحلاف على فعل الغير‏.‏

ويبدأ اليمين به لأنه بمنزلة المشتري والبداية بيمين المشتري في قول أبي يوسف رحمه الله والآخر وهو قول محمد رحمه الله تعالى وقد بيناه في كتاب البيوع‏.‏

فإن أقاما البينة فالبينة بينة المأمور لأنه يثبت الزيادة ببينة‏.‏

وإن كان الآمر أعتقه قبل اختلافهما فهو حر لأنه أعتق ملكه ثم إذا اختلفا بعد ذلك فالقول قول الآمر في قول أبي حنيفة رحمه الله وفي قول محمد رحمه الله يتحالفان بناء على اختلافهما في البائع والمشتري يختلفان في الثمن بعد تغير السلعة على وجه لا يحتمل العقد الفسخ فيه‏.‏

ولو كان المأسور حراً أو مكاتباً فأمر رجلاً يشتريهما فاشتراهما معاً بخمسة آلاف درهم كان الفداء عليهما جميعاً يقسم على الدية وعلى قيمة المكاتب لأن المعتبر في باب الحر في الفداء ديته وفي المكاتب قيمته بدليل ما سبق أنه إذا اشترى كل واحد منهما بذلك القدر أو أقل يرجع عليه بجميع ما اشتراه به فإذا أضاف الفداء إليهما مطلقاً يتوزع عليهما باعتبار بدل نفس كل واحد منهما وإن كان افتداهما بخمسة عشر ألفاً وقيمة المكاتب ألف درهم فقد فدى كل واحد منهما بأكثر من بدل نفسه بما لا ينغابن الناس فيه وهو لا يستوجب الرجوع على كل واحد منهما إلا بقدر بدل نفسه فيرجع على الحر بعشرة آلاف درهم وعلى المكاتب بقيمته وزيادة بقدر ما يتغابن الناس فيه لما بينا أن طريق القيمة بقدر ما يتغابن الناس فيه يكون عفواً وإن كانا قالا له‏:‏ افتدنا بما شئت ففداهما بعشرين ألفاً قسم ذلك كله على أحد عشر سهماً باعتبار مقدار الدية وقيمة المكاتب إن كانت ألف درهم وإن كانت ألفين قسم ذلك كله أسداساً باعتبار أنه يجعل كل ألفين بينهما فما أصاب الحر رجع المأمور به عليه ما أصاب المكاتب وهو السدس رجع به عليه في حالة الكتابة في قول أبي حنيفة رحمه الله وفي قول محمد رحمه الله إنما يرجع عليه في مكاتبته بمقدار قيمته وزيادة ما يتغابن الناس فيه وما زاد على ذلك فإنما يرجع به عليه بعد العتق‏.‏

لأنه في التزام الزيادة متبرع بمنزلة التزامه بالكافلة وقد تقدم نظيره‏.‏

فإن قالا جميعاً للذي فداهما حين أخرجهما‏:‏ ما فديتنا بشيء ولكنهم وهبونا أو أخرجنا بغير علمهم فالقول قولهما مع يمينهما على علمهما لأن المأمور يدعي عليهما ديناً في ذمتهما لنفسه بسبب هما ينكران ذلك السبب واليمين على العلم لأنهما يستحلفان على فعل المأمور فأيهما نكل عن اليمين لزمه حصته من الفداء لأن نكوله كإقراره وذلك صحيح في حقه لا في حق صاحبه فإن حلف الحر ونكل المكاتب أو أقر أنه فداه فإن على قول محمد رحمه الله يلزم المكاتب حصته من الفداء فإن مقدار قيمته يؤخذ به في مكاتبته وإن كان أكثر من ذلك فإنما يؤخذ بالفضل بعد العتق وفي قياس قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى يقضي عليه بحصته بالغاً ما بلغ فيكون ديناً عليه في حال كتابته إن صدقه مولاه في ذلك أو كذبه فإن عجز المكاتب نظر فإن كان المولى صدق الفادي بيع له المكاتب إلا أن يفديه مولاه لأن ذلك دين ظهر وجوبه في حق مولاه وإن كان كذبه في ذلك بطل ذلك عند العجز إن كان لم يؤد شيئاً منه وإن كان أدى بعضه جاز ما أدى وبطل ما بقي حتى لا يأخذ ديناً كان واجباً عليه بإقراره بسبب ليس من التجارة في شيء فلا يطالب به بعد العجز ما لم يعتق في قول أبي حنيفة رحمه الله بمنزلة ما لو أقر المكاتب بجناية خطأ على نفسه فقضي عليه بقيمته ثم عجز قبل الأداء أو كان عليه قصاص فصالح عنه على مال ثم عجز قبل الأداء فإنه لا يؤاخذ به حتى يعتق في قوله‏.‏

وفي قول محمد رحمه الله هناك يباع فيما توجهت المطالبة عليه في الكتابة بعد العجز فكذلك ها هنا يباع في الفداء صدقه المولى في ذلك أو كذبه ولو كان مولى المدبر وأم الولد أمر المستأمن بفدائهما ثم اختلف الآمر والمأمور فيما فداهما به أو في أصل الفداء فالقول قول الآمر وعلى المأمور البينة لأن أهل الحرب ما ملكوهما بالإحراز فحاصل الاختلاف في الدين الواجب للمأمور على الآمر إما في أصل سببه أو في مقداره فيكون القول قول المنكر بخلاف العبد فهناك قد أحرزه أهل الحرب ثم عاد إلى ملك المولى بالعقد بالصفة المذكورة التي باشرها المأمور فإذا وقع الاختلاف بينهما في جنس ذلك العقد أو في مقدار البدل وجب المصير إلى التحالف‏.‏

ولو كان المأسور عبداً فقال أجنبي للمستأمن‏:‏ اشتره لي منهم أو اشتره لي من مالي فالعبد للآمر لأن أهل الحرب ملكوه فهذا رجل وكل غيره بأن يشتري له عبداً من مولاه وقد اشتراه له فكان مطالباً بالثمن من جهته ويجعل هو في حق المولى القديم كأنه اشتراه بنفسه حتى يأخذه منه بالثمن إن شاء فإن وجده المولى القديم في يد المأمور كان هو خصماً له قبل أن يحضر الآمر لأن حق الأخذ بالثمن قد ثبت له بعقد المأمور فيتمكن من أخذه من ملكه قبل حضور الآمر بمنزلة الشفيع فإن كان الأجنبي قال للمستأمن‏:‏ اشتره فقد بينا أن هذه مشورة وأن المخاطب يكون مشترياً لنفسه فلمولاه أن يأخذه من يده بالثمن‏.‏

ولو قال له‏:‏ اشتره بهذه الألف ودفعها إليه أو لم يدفعها فهو للآمر لأن إضافة العقد إلى مال نفسه بالإشارة كإضافته إلى مال نفسه بالكتابة بأن قال‏:‏ بألف درهم من مالي وإضافته إلى مال نفسه بمنزلة إضافته إلى نفسه وفي كل موضع كان شراؤه للآمر وأدى القيمة من مال نفسه فله أن يحبسه حتى يستوفي الثمن كما هو الحكم في الوكيل مع الموكل وعلى هذا لو مات في يده قبل الحبس أو بعد الحبس فحاله كحال الوكيل بل هو ذلك بعينه‏.‏

ولو كان المأسور عبداً لمسلم واكتسب عندهم مالاً ثم خرج بماله إلى دارنا مراغماً لمولاه فأخذه المسلمون وما معه ثم حضر المأسور منه فإنه يأخذه بغير شيء ولا سبيل له على ماله وإنما لا يعتق هذا العبد لمراعاة حق المأسور منه فقد كان له حق إعادته إلى قديم ملكه متى وجده في دار الإسلام خارجاً من ملك الأسير بخلاف عبد الحربي إذا خرج إلينا مراغماً لمولاه مسلماً فهناك لا حق فيه لغير الحربي وحقه فيه غير مرعي بعدما خرج إلى دارنا وها هنا فيه حق المأسور منه وحقه مرعي فلهذا لا يعتق ولكن يأخذه مولاه بغير شيء بمنزلة ما لو أخذه في الغنيمة قبل القسمة فأما ماله فلا حق فيه للمولى القديم لأنه ليس بمال اكتسبه على ملكه وإنما اكتسبه على ملك الحربي ومال الحربي متى وجد في دار الإسلام ولا أمان له فهو فيء لجماعة المسلمين في قول أبي حنيفة رضي الله عنه كنفس الحربي وأما في قول محمد رحمه الله فالمال لمن أخذه من المسلمين ويخمس في هذه الراوية‏.‏

وقد بينا أن في الخمس روايتين عن محمد في نفس الحربي إذا دخل دارنا بغير أمان فأخذه واحد فكذلك في ماله والباقي للآخذ يختص به وإن كان أخذه المولى القديم ففي قول محمد رحمه الله تعالى هذا وما سبق سواء كذلك في قول أبي حنيفة رضي الله عنه العبد له ولا خمس فيه‏.‏

لأنه أعاده إلى قديم ملكه وماله فيء للمسلمين لأن في حق المال هو كغيره في الأخذ‏.‏

ولو كان العبد جاء بذلك المال إلى دار الإسلام بأمان يتجر به لمولاه الحربي فلا سبيل للمولى القديم عليه لأن ملكه لم يزل عنه ولو كان هو الذي أخرجه بأمان لم يكن للمولى القديم عليه سبيل فكذلك إذا خرج العبد‏.‏

ولكن الإمام يبيعه لأنه مسلم فيتعذر تمكينه من الرجوع إلى دار الحرب ليستديم الحربي ملكه فيه فيبيعه الإمام ويقف ثمنه مع المال الذي في يديه لمولاه الحربي ليجيء فيأخذه لأنه حكم الأمان قد ثبت في هذا المال للحربي‏.‏

فإن أراد المأسور منه حين باعه الإمام أن يأخذه من المشتري بالثمن لم يكن له ذلك لأنه حصل في دارنا ولا حق للمولى القديم في أخذه فلا يثبت حقه بعد ذلك بمنزلة ما لو أسلم مولاه أو صار ذمياً ثم باعه من آخر‏.‏

فإن كان العبد مدبراً والمسألة بحالها في الوجهين إن جاء مراغماً أو بأمان فهو وماله الذي اكتسبه كله مردود على المأسور منه لأنه لم يخرج من ملكه بإحراز المشركين وإنما اكتسب المال وهو مملوك له والكسب يملك بملك الأصل فلهذا قلنا‏:‏ بأن ذلك كله مردود على مولاه بغير شيء‏.‏

فإن كان كسبه من تجارة أو هبة وهبوه له فلا خمس فيه لأنه حصل في يده لا على وجه القهر فلا يثبت فيه حكم الغنيمة‏.‏

وإن كان أخذه بغير طيب أنفسهم خمس ذلك المال لأنه أخذه بطريق القهر‏.‏

وقد بينا هذا الحكم في الحر المأسور إذا خرج بمال فكذلك في المدبر إلا أن هناك الباقي بعد الخمس للأسير وها هنا لمولاه لأن المدبر ليس من أهل الملك قال‏:‏ ولو أن أمة مأسورة ولدت أولاداً من فجور أو زوج حربي ثم خرجت هي وأولادها مراغمين لمولاهم الحربي أو خرجت هي مراغمة ومعها ابن لها صغير فأخذها المسلمون فهي فيء وأولادها فإن أصابها مولاها قبل القسمة أخذها وأخذ أولادها بغير شيء أو بعد القسمة بقيمتهم يوم وقعوا في سهم الذين صاروا له لأن ولدها جزء منها والحق الذي كان ثابتاً للمولى القديم فيها يثبت في أولادها باعتبار الجزئية ثم قيام حقه فيهم يمنع ثبوت الحرية لهم بالخروج على وجه المراغمة بخلاف الكسب فهو متولد من عينها فلا يثبت فيه حق المولى القديم بل هو مال الحربي فيكون فيئاً للمسلمين‏.‏

ولو كان هي دخلت وأولادها بأمان فلا سبيل للمولى القديم عليها ولا على أولادها صغاراً كانوا أو كباراً ولكن يبيعهم الإمام لأنهم مسلمون بإسلامهم فيبيعهم ويقف ثمنهم حتى يقدم الحربي فيأخذها باعتبار الأمان‏.‏

ولو كانت مدبرة للمولى القديم ردوا جميعاً عليه لأنها لم تخرج عن ملكه بالأسر وأولادها بمنزلتها لا يملكهم الحربي أيضاً لأن ولد المدبرة مدبر فلهذا ردوا على المولى سواء خرجوا مراغمين أو غير مراغمين بغير شيء والله الموفق والمسدد‏.‏