فصل: باب الخيار في الأمان

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: شرح السير الكبير **


الجزء الثاني

  باب من الأمان الذي يشك فيه

وإذا أحاط المسلمون بحصن من حصون أهل الحرب فأشرف منهم أربعة نفر فقالوا‏:‏ آمنونا على أن نخرج إليكم لنراوضكم على الصلح ففعل ذلك بهم فخرج منهم عشرون رجلاً معاً فإن عرفنا الأربعة بأعيانهم كانوا آمنين ومن سواهم فيء للمسلمين إن شاءوا قتلوهم وإن شاءوا جعلوهم فيئاً لأنهم حصلوا في أيدينا بغير أمان فإن المحصور بمجرد الخروج لا يستفيد الأمن ما لم يمط له الأمان نصاً وكيف يستفيد الأمن وإنما حصر ليخرج وليس بين الأربعة وبين من سواهم سبب يوجب الأمن لهم بطريق التبعة وأما حكم الأربعة‏:‏ فإن استقام بين المسلمين وبينهم صلح وإلا ردوهم إلى حصنهم كما هو موجب الأمان وإن أبوا أن يرجعوا إلى الحصن لم يكن للمسلمين أن يجبروهم على ذلك لأنهم حصلوا آمنين فينا‏.‏

ولا يجوز التعرض لهم بحبس ولا أسر ولكن يقال لهم‏:‏ اذهبوا إلى أرض الحرب شئتم فإنا لا نتعرض لكم حتى تبلغوا مأمنكم لأن الوفاء بالأمان والتحرز عن الغدر واجب‏.‏

فإن قالوا‏:‏ لا نفارق عسكركم فالسبيل أن يتقدم الإمام إليهم ويؤجلهم في ذلك على حسب ما يراه ويخبرهم أنهم إن لم يذهبوا جعلهم ذمة وأخرجهم إلى دار الإسلام وقد تقدم بيان هذا الفضل‏.‏

وليس للإمام أن يقول لهم‏:‏ إن ذهبتم إلى وقت كذا وإلا جعلناكم عبيداً أو‏:‏ وإلا فدماؤكم حلالاً لأنهم آمنون فينا ومن ضرورة الأمان ثبوت العصمة عن الاسترقاق والقتل وكما لا يملك تنفيذ ذلك منهم في الحال لا يملك تعليقه بمضي الزمان بخلاف تصييرهم ذمة على ذلك فإن ذلك لا ينافي الأمان بل يقرره‏.‏

والكافر لا يمكن من إطالة المقام فينا بدون صغار الجزية والتزام أحكامنا في المعاملات لما في ذلك من الاستخفاف بالمسلمين‏.‏

ولو أن المسلمين قالوا لأربعة من أهل الحصن‏:‏ انزلوا فأنتم آمنون حتى نراوضكم على الصلح‏.‏

فنزل عشرون رجلاً فيهم أولئك الأربعة ولكن لا نعلم الأربعة بأعيانهم وكل واحد يقول‏:‏ أنا من الأربعة فهم جميعاً آمنون لا يحل قتل أحد منهم ولا أسره لأن كل واحد منهم تردد حاله بعدما حصل فينا بين أن يكون آمناً معصوم الدم وبين أن يكون مباح الدم فيترجح جانب العصمة عملاً بقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ ما اجتمع الحلال والحرام في شيء إلا غلب الحرام الحلال ‏"‏‏.‏

ولأن الأمان يتوسع في إثبات حكمه لا في المنع من ثبوت حكمه ولأن ترك القتل والأسر وهو حلال له خير من أن يقدم على قتل أو أسر في محل معصوم ثم هذا التجهيل من ناحية المسلمين حين لم يعلموا الأربعة بعلامة يتمكنون من تمييزهم بتلك العلامة عن أغيارهم فلا يؤثر ذلك في أيطال الأمان الثابت بطريق الاحتمال لكل واحد منهم‏.‏

ولكنهم يبلغون مأمنهم بمنزلة ما لو أمنوا جميعاً‏.‏

ولو أن الأمير أمن أربعة نفر من أهل الحصن بأعيانهم ولم يأمرهم بالنزول ثم فتح الحصن فقال كل واحد منهم‏:‏ أنا من الأربعة فإن عرف المسلمون الذين أمنوهم وإلا كان القوم كلهم فيئاً لأنهم أخذوا في منعة أهل الحرب ومن كان في منعة أهل الحرب فهو مباح الأخذ إلا أن يعلم فيه مانع ولم يعلم ذلك في واحد منهم بخلاف الأول فهناك الأربعة صاروا آمنين وهم في منعة المسلمين ومن في منعة المسلمين لا يكون محارباً لهم باعتبار الحال فما لم يعلم أنه محارب باعتبار الأصل وأنه لم يتناوله الأمان لا يجوز التعرض له‏.‏

ألا ترى أنه لو أسلم أربعة في الحصن فأمرهم المسلمون بالنزول فنزل عشرون وادعى كل واحد منهم أنه هو الذي أسلم في الحصن لم يحل سبي أحد منهم‏.‏

لو أسلم أربعة في الحصن ولم يخرجوا حتى ظهر المسلمون على الحصن فادعى كل واحد منهم أنه هو الذي أسلم كانوا جميعاً فيئاً إلا من عرف بعينه أنه كان فيمن أسلم فحينئذ يكون حراً هو وأولاده الصغار ويسلم له ماله لأنه هو المحرز له فأما الكبار من أولاده فلا يتبعونه في الإسلام فكانوا فيئاً أجمعين إلا أنه ليس للإمام أن يقتل أحداً هاهنا لأن كل واحد منهم قابل للإسلام أو راغب فيه وإسلام الأسير يؤمنه عن القتل ولكنه لا يؤمنه عن الاسترقاق‏.‏

قال‏:‏ ولو لم أسب هؤلاء لم أسب أهل قسطنطينية إذا علمت أن فيها مسلماً واحداً أو ذمياً ولا أعرفه بعينه فهذا ليس بسبي وكل من وقع عليه الظهور في دار الحرب فهو فيء ما لم يعلم المانع فيه واستوضح هذا الفرق بما لو دخل قوم من دار الحرب بغير أمان قرية من قرى أهل الذمة فأتاهم المسلمون ليأخذوا أهل الحرب فادعى كل واحد في القرية أنه من أهل الذمة فهم آمنون كلهم لأنهم في موضع الأمن والعصمة فلا يحل التعرض لأحد منهم ما لم يعلم أنه من أهل الحرب ولو أن قوماً من أهل الذمة دخلوا بعض حصون أهل الحرب بمرأى العين من المسلمين ثم ظهرنا على أهل الحصن فكل من في الحصن فيء إلا من عرف بالذمة بعينه لأنهم وجدوا في موضع النهبة والإباحة فكانوا فيئاً ما لم يظهر المانع في بعضهم وتحكيم المكان في مثل هذا أصل في الشرع‏.‏

ألا ترى أنه من رأى شخصاً في دار الحرب وهو لا يعلم حاله يباح له الرمي إليه ما لم يعلم أنه مسلم أو ذمي ولو رآه في دار الإسلام لا يحل له ذلك ما لم يعلم أنه حربي‏.‏

ولو أن ذمياً دخل حصناً من حصونهم فافتتح الحصن حين دخل الرجل ولم يقتل أحداً منهم حتى أخذوا وقد أحاط العلم بأن الذمي فيمن أخذ ولا يعلم أيهم هو فإنه لا ينبغي للإمام أن يقتل أحداً منهم لأنه ليس بعضهم بأن يقتله أولى من البعض ولو قتلهم جميعاً كان متيقناً بقتل من لا يحل قتله ولا طريق له إلى التحرز عما لا يحل بالكف عن قتلهم جميعاً‏.‏

وهذا لأن التحرز عن قتل الذمي فرض عليه وقتل الحربي الأسير مباح له ولا معارضة بين المباح والفرض وفي الموضع الذي تتحقق المعارضة يترجح جانب الحل‏.‏

فهنا أولى‏.‏

فإن كان القوم قتل بعضهم أو مات بعضهم أو خرج بعضهم فلم يحط العلم بأن الذمي فيهم فلا باس بقتل الرجال كلهم لأنهم وجدوا في موضع الحرب والمانع من قتلهم كون الذمي فيهم‏.‏

وذلك غير متيقن به فلا بأس بقتلهم بناء على أن الذمي كان هو الذي مات أو خرج منهم وهذا لأن الظاهر من حال كل واحد منهم أنه حربي مباح الدم‏.‏

وإنما يبنى على الظاهر فيما لا يمكن الوقوف على حقيقته إلا أن يعارض الظاهر يقين بخلافه‏.‏

ففي الفصل الأول عارض الظاهر يقين وهو العلم بكون الذمي فيهم وفي هذا الفصل لم يعارض الظاهر يقين فبني الحكم عليه‏.‏

فإن كان أكبر ظن الإمام أن الذمي فيهم وكلهم يقول‏:‏ أنا الذمي فالمستحب له أن لا يقتل أحداً منهم لأن أكبر الرأي - وإن كان لا يعارض الظاهر - لكن يثبت به استحباب الاحتياط‏.‏

ألا ترى أن من وجد ماء وغلب على رأيه أنه نجس ولكن لم يخبره أحد بنجاسته فالمستحب له أن يتوضأ بغيره وإن توضأ به وإن كان لو قتلهم جاز باعتبار الظاهر والأصل فيه قوله صلى الله عليه وسلم لوابصة بن معبد‏:‏ ‏"‏ ضع يدك على صدرك واستفت قلبك فما حك في صدرك فدعه وإن أفتاك الناس به ‏"‏ وإن كان لا رأي له في ذلك فلا بأس بأن يقتلهم باعتبار الظاهر وإن شك في اثنين أو ثلاثة منهم فلا بأس بأن يقتل الباقين ويسبي الذين في أكبر رأيه أن الذمي فيهم‏.‏

وكذلك لو أن رجلاً منهم أشرف على الحصن فدلنا على عورة من عوراتهم فأمنه الإمام ثم افتتح الحصن من ساعته فهذا والذمي سواء لأن الذي أمناه معصوم عن القتل فإن حرمة القتل بالأمان وبالذمة سواء‏.‏

ولو وجدت المراوضة بين المسلمين وبين أهل الحصن على الصلح فقال المسلمون‏:‏ أخرجوا إلينا أربعة منكم فهم آمنون حتى نراوضهم فخرج منهم عشرون معاً فهم آمنون لأن أربعة من العشرين قد صاروا آمنين بإعطاء المسلمين لهم الأمان فإن إعطاء الأمان لمجهول صحيح‏.‏

فإذا حصلوا في عسكرنا وبعضهم آمنون ثبت الأمان لهم جميعاً إذ ليس بعضهم بأولى من بعض ولا يحل التعرض لواحد منهم لتردد حاله بين أن يكون آمناً معصوماً وبين أن يكون مباحاً‏.‏

ألا ترى أن المسلمين لو قالوا‏:‏ ليخرج إلينا رجل منكم فهو آمن فإذا فتح الباب كان لكل واحد منهم أن يخرج ويكون آمناً‏.‏

فإذا خرج عشرة معاً فكل واحد منهم في صورة من سلطه المسلمون على الخروج ولو خرج وحده كان آمناً فخروج غيره معه لا يبطل ما أوجب له المسلمون من ألا ترى أنهم لو قالوا‏:‏ إن فتح رجل منكم الباب فهو آمن فوثب عشرة منهم ففتحوه معاً كانوا آمنين لأن كل واحد منهم لو فتحه وحده كان آمناً فلا يبطل أمانه بفتح الغير معه‏.‏

ولو قال‏:‏ إن خرج رجل منكم إلينا لنراوضه على الصلح فهو آمن فخرج رجل ثم تبعه آخر ثم آخر فإن كان الأول صار في منعتنا قبل خروج الآخرين فالثاني والثالث فيء للمسلمين لأن حكم الأمان تعين في الأول حين صار في منعتنا وحده ثم خرج الثاني والثالث بغير أمان فإن النكرة في موضع الإثبات يخص فبعد ما تعين الأول له لا يمس الثاني والثالث‏.‏

وإن لم يصل الأول إلى منعتنا حتى لحقه صاحباه فهذا وخروجهم معاً سواء لأن المنصوص عليه خروجه إلينا وإنما يتم ذلك بوصوله إلى منعتنا فقبل ذلك لم يتعين الأمان في الأول فكان هذا وخروجهم معاً سواء‏.‏

ألا ترى أن الأول لو رجع قبل أن يصل إلى منعتنا ثم خرج الآخر كان آمناً إذا وصل إلى منعتنا‏.‏

ولو وصل الأول إلى منعتنا ثم مات أو رجع فخرج الآخر كان فيئاً‏.‏

أرأيت لو أن الثاني عجل فوصل إلى منعتنا قبل أن يخرج الأول من منعة المشركين ألم يكن آمناً وهو أول رجل وصل إلى منعتنا فعرفنا أن المعتبر حال الوصول إلى منعتنا وقد وصلوا إلينا معاً فكأنهم خرجوا معاً فكانوا آمنين فإن قيل‏:‏ إذا خرجوا معاً كيف يثبت الأمان لهم والنكرة في قلنا‏:‏ هذه نكرة موصوفة بصفة عامة وهي الخروج إلينا ومثل هذه النكرة تعم كالرجل يقول‏:‏ لا أكلم إلا رجلاً عالماً ولكن ينتهي شرط الأمان بوصول أحدهم إلينا قبل خروج الآخرين فإذا خرجوا معاً كانوا آمنين لهذا‏.‏

ولو كان قال‏:‏ عشرة منكم آمنون على أن تفتحوا الباب فقال الإمام‏:‏ نعم ففتحوا الباب فعشرة منهم آمنون والخيار في تعيينهم إلى الإمام لأنه ما أوجب الأمان للفاتحين بأعيانهم وإنما أوجبه لعشرة منكرة منهم ولكن إيجاب الأمان للمجهول يصح منجزاً وكذلك معلقاً بالشرط ثم البيان يكون إلى من أوجب في المجهول كما في الطلاق والعتاق‏.‏

وإنما يثبت الأمان لعشرة منهم بغير عيال ولا مال إلا عليهم من الكسوة والسلاح استحساناً لأن ثبوت الأمان لهم بعد فتح الباب وتمام القهر وقد بينا أن العيال لا يدخلون في مثله‏.‏

وإن كانوا قالوا‏:‏ عشرة من أهل حصننا آمنون على أن يفتح لكم الباب‏.‏

فقال الإمام‏:‏ نعم فله الخيار إن شاء جعل العشرة من نسائهم وصبيانهم وإن شاء جعلهم من رجالهم لأن اللفظ الذي به طلب الأمان يتناول الكل والكل من أهل الحصن وفي الأول إنما خاطب الرجال فيثبت الأمان لعشرة من الرجال يعينهم الإمام‏.‏

وينبغي أن يحتاط للمسلمين في ذلك حتى لا يختار للأمان من تكون منفعة المسلمين في استرقاقه أقل لأنه نصب ناظراً لهم‏.‏

وهذا بخلاف ما سبق من قوله‏:‏ ليخرج إلينا أربعة منكم‏.‏

وقوله‏:‏ ليخرج إلينا أحد منكم لأن هناك الأمان إنما يثبت لهم بعدما وصلوا إلى منعتنا وكل واحد منهم لو خرج وحده كان آمناً فبانضمام غيره إليه لا يبطل الأمان وهذا الأمان لعشرة منهم بعد الفتح وهم في الحصن‏.‏

وحقيقة هذا الفرق ما ذكرنا أن النكرة هنا غير موصوفة وهناك النكرة موصوفة بالخروج إلينا‏.‏

ألا ترى أنه لو قال‏:‏ إن رمى رجل منكم بنفسه إلينا وحده كان آمناً فرمى عشرة معاً كانوا آمنين لأن النكرة موصوفة وكل واحد منهم لو رمى بنفسه وحده كان آمناً فبانضمام غيره إليه لا يبطل حقه‏.‏

ولو قال‏:‏ ليخرج إلينا هؤلاء الأربعة حتى نراوضهم على الصلح فخرجوا فهم آمنون سواء قال‏:‏ وهم آمنون أو لم يقل لأنه دعاهم إلى الخروج لطلب السلم والموافقة ولأن المراوضة على الصلح إنما تتأتى ممن كان آمناً على نفسه‏.‏

فهذا دليل الأمان لهم‏.‏

بخلاف ما إذا قال لأربعة منهم‏:‏ اخرجوا إلينا فخرجوا فإنه يكون له أن يقتلهم لأنه ليس في لفظه ما يدل على الأمان أو على الخروج على سبيل الموافقة ولكن هذا طلب المبارزة‏.‏

فكأنه قال‏:‏ اخرجوا إلينا للقتال إن كنتم رجالاً ولو قال‏:‏ أخرجوا إلينا فبيعوا واشتروا كانوا آمنين لأن في كلامه ما دل على الأمان والخروج إلى الموافقة‏.‏

فالتجارة تكون عن مراضاة وإنما يتمكن منها من يكون آمناً ولو قال‏:‏ ليخرج إلينا هؤلاء الأربعة حتى نراوضهم على الصلح‏.‏

فخرج أربعة غير أولئك الأربعة فهم فيء للمسلمين لأن دلالة الأمان لا تكون فوق التصريح بعينه ولو قال لأربعة بأعيانهم‏:‏ أمنتكم فخرج غيرهم كانوا فيئاً‏.‏

وإن أشكل على المسلمين فلم يدروا أيهم أولئك الأربعة أم غيرهم فإن الإمام يسألهم عن ذلك فإن زعموا أنهم غيرهم كانوا فيئاً لإقرارهم على أنفسهم بحق الاسترقاق وإن زعموا أنهم أولئك الأربعة فالقول قولهم لأن الظاهر شاهد لهم والظاهر أنه لا يتجاسر أحد على الخروج إلا من أومن بعينه فإن اتهمهم استحلفهم بالله على ذلك فإن نكلوا عن اليمين كانوا فيئاً ولكن لا يقتلون لأن النكول بمنزلة الإقرار ولكن فيه ضرب شبهة واحتمال فلا يجب القتل به‏.‏

وقد تقدم بيانه‏.‏

وإن خرج عشرون رجلاً معاً فقال كل واحد منهم‏:‏ أنا من الأربعة وحلف على ذلك فهم آمنون جميعاً لأن كل أربعة لو خرجوا وحدهم وحلفوا كان القول قولهم فخروج غيرهم لا يبطل حكم الأمان في حقهم أو لأنه اختلط المستأمن بغير المستأمن في منعتنا وفي مثل هذا يثبت الأمان لهم جميعاً احتياطاً فعلى الإمام أن يبلغهم مأمنهم‏.‏

  باب الخيار في الأمان

قال‏:‏ وإذا حاصر المسلمون حصناً فأشرف عليهم رأس الحصن فقال‏:‏ أمنوني على عشرة من أهل هذا الحصن على أن أفتحه لكم‏.‏

فقالوا‏:‏ لك ذلك‏.‏

ففتح الحصن‏.‏

فهوا آمن وعشرة معه لأنه استأمن لنفسه نصاً بقوله‏:‏ أمنوني فالياء والنون يكني بهما المتكلم عن نفسه وقوله‏:‏ على عشرة كلمة عشرة للشرط وقد شرط أمان عشرة منكرة مع أمان نفسه فعرفنا أن العشرة سواه ثم الخيار في تعيين العشرة إلى رأس الحصن لأنه جعل نفسه ذا حظ من أمانهم وهو ليس بذي حظ باعتبار أنه داخل في أمانهم فقد استأمن لنفسه بلفظ على حدة وليس بذي حظ على أنه مباشر لأمانهم فإن ذلك لا يصح منه فعرفنا أنه ذو حظ على أن يكون معيناً لمن تناوله الأمان منهم باعتبار أن التعيين في المجهول كالإيجاب المبتدأ من وجه‏.‏

ولو كان قال‏:‏ أمنوا لي عشرة من أهل الحصن‏.‏

فله عشرة يختار أي عشرة شاء فإن اختار عشرة هو أحدهم فلذلك جائز وإن اختار عشرة سواه فالعشرة آمنون وهو فيء لأنه ما استأمن لنفسه عيناً وإنما استأمن لعشرة منكرة ولكن بقوله‏:‏ لي شرط لنفسه أن يكون ذا حظ ولا يمكن أن يجعل ذا حظ على وجه مباشرة الأمان لهم فإن ذلك لا يصح منه فعرفنا أنه ذو حظ على أن يكون هو المعين للعشرة ونفسه فيما وراء ذلك كنفس غيره إذا لم يتناوله الأمان نصاً‏.‏

فإن عين نفسه في جملة العشرة صار آمناً‏.‏

بمنزلة التسعة الذين عينهم مع نفسه‏.‏

وإن عين عشرة سواه فقد تعين حكم الأمان فيهم وصار هو فيئاً‏.‏

كغيره من أهل الحصن وكان حقيقة كلامه‏:‏ أمنوا لأجلي عشرة وأوجبوا لي حق تعيين عشرة تؤمنونهم ولو قال ذلك كان الحكم فيه ما بينا‏.‏

قال‏:‏ وبلغنا نحو ذلك عن الأشعث بن قيس أنه قال ذلك يوم النجير وقد ذكر أهل الحديث نحو ذلك عن معاوية رضي الله عنه وكذلك لو كانت البداية من رأس الحصن بأن يقول‏:‏ فأفتح لكم الحصن على أني آمن على عشرة‏.‏

أو قال‏:‏ على أن لي عشرة آمنين من أهل الحصن فهذا وما تقدم سواء في الفصلين جميعاً‏.‏

ولو قال‏:‏ أفتح لكم على أن تؤمنوني في عشرة من أهل الحصن أو على أني آمن في عشرة‏.‏

فهو سواء وهو آمن وتسعة معه لأن حرف في للظرف‏.‏

فقد جعل نفسه في جملة العشرة الذين التمس الأمان لهم‏.‏

فلا يتناول ذلك إلا تسعة معه لأنه لو تناول عشرة سواه كان هو آمناً في أحد عشرة بخلاف الأول فهناك ما جعل نفسه في جملة العشرة فإن قيل‏:‏ فقد جعل العشرة هنا ظرفاً لنفسه والمظروف غير المظرف‏.‏

قلنا‏:‏ هو كذلك فيما يتحقق فيه الظرف ولا يتحقق ذلك في العدد إلا بالطريق الذي قلنا وهو أن يكون هو أحدهم ويجعل كأنه قال‏:‏ اجعلوني أحد العشرة الذين تؤمنونهم‏.‏

فإن قيل‏:‏ إذا لم يمكن حمله على معنى الظرف حقيقة فينبغي أن يجعل بمعنى مع كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَادْخُلِي فِي عِبَادِي‏}‏ أو يجعل بمعنى على كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ‏}‏ وباعتبار الوجهين يثبت الأمان لعشرة سواه‏.‏

قلنا‏:‏ الكلمة للظرف حقيقة فيجب حملها على ذلك بحسب الإمكان‏.‏

وذلك أن يكون هو أحدهم داخلاً في عددهم فلهذا لا نحمله على المجاز ثم الخيار في التسعة الذين معه إلى الإمام هاهنا لا إلى رأس الحصن لأنه جعل نفسه أحد العشرة فكما لا خيار له لمن سواه من العشرة في التعيين لا خيار له‏.‏

وهذا لأنه جعل نفسه ذا حظ من أمان العشرة على أن يتناوله حكم أمانهم لا أن يكون هو معنياً لهم‏.‏

وقد نال ما سأل‏.‏

وبقي الإمام موجباً الأمان لتسعة بغير أعيانهم فإليه بيانهم ولو قال‏:‏ أمنوني وعشرة أو أفتح لكم على أني آمن أنا وعشرة‏.‏

فالأمان له ولعشرة سواه لأن حرف الواو للعطف‏.‏

وإنما يعطف الشيء على غيره لا على نفسه‏.‏

ففي كلامه تنصيص على أن العشرة سواه هاهنا فإن لم يكن في الحصن إلا ذاك العدد أو أقل فهم آمنون كلهم لأن الأمان بذكر العدد بمنزلة الأمان لهم بالإشارة إلى أعيانهم وإن كان أهل الحصن كثيراً فالخيار في تعيين العشرة إلى الإمام لأن المتكلم ما جعل نفسه ذا حظ في أمان العشرة وإنما عطف أمانهم على أمان نفسه‏.‏

فكان الإمام هو الموجب للأمان لهم فإليه التعيين وإن رأى أن يجعل العشرة من النساء والولدان فله ذلك لأنهم من أهل الحصن إلا أن يكون المتكلم اشترط ذلك من الرجال ولو قال‏:‏ أمنوني بعشرة من أهل الحصن كان هذا وقوله‏:‏ وعشرة سواء لأن الباء للإلصاق فقد ألصق أمان العشرة بأمانه‏.‏

وإنما يتحقق ذلك إذا كانت العشرة سواه‏.‏

ولكن هذا غلط زل به قلم الكاتب والصحيح ما ذكر في بعض النسخ العتيقة‏:‏ أمنوني فعشرة‏.‏

لأن الفاء من حروف العطف وهو يقتضي الوصل والتعقيب فيستقم عطفه على قوله‏:‏ أمنوني وعشرة‏.‏

فأما الباء فتصحب الأعواض فيكون قوله‏:‏ أمنوني بعشرة بمعنى‏:‏ عشرة أعطيكم من أهل الحصن عوضاً عن أماني‏.‏

وهذا لا معنى له في هذا الجنس من المسائل‏.‏

فعرفنا أن الصحيح قوله‏:‏ أمنوني فعشرة‏.‏

ولو قال‏:‏ أمنوني ثم عشرة‏.‏

كان هذا والأول سواء فالعشرة سواه لأن كلمة ثم للتعقيب مع التراخي‏.‏

وبهذا يتبين أيضاَ أن الصحيح في الأول قوله‏:‏ فعشرة لأنه بدأ بما هو للعطف مطلقاً ثم بما هو للعطف على وجه التعقيب بلا مهملة ثم لها هو للتعقيب مع التراخي ولو قال‏:‏ أمنوا لي عشرة فالخيار في تعيينهم إلى الإمام لأن المتكلم لم يجعل نفسه ذا حظ وإنما التمس الأمان بعشرة منكرة‏.‏

فكان الإمام هو الذي ابتدأ فقال‏:‏ عشرة منكم أمنوني على أن يفتحوا‏.‏

فالخيار في تعيينهم إلى الإمام إن شاء جعل المتكلم أحدهم وإن شاء لم يجعل ولو قال‏:‏ أمنوني مع عشرة فالعشرة سواه لأن كلمة مع للضم والقران‏.‏

وإنما يضم الشيء إلى غيره لا إلى نفسه‏.‏

فعرفنا أن العشرة سواه والخيار في تعيينهم إلى الإمام لأنه هو الذي أبهم الإيجاب والمتكلم ما جعل نفسه ذا حظ من أمان العشرة ولو قال‏:‏ أمنوني في عشرة من أهل حصني‏.‏

فهذا وقوله‏:‏ من أهل الحصن سواء‏.‏

والأمان له ولتسعة يختارهم الإمام فإن قيل‏:‏ هو جعل نفسه معرفة بإضافة الحصن إلى نفسه والعشرة منكرة فينبغي أن لا يدخل المعرفة في النكرة كما قال في الجامع‏:‏ إن دخل داري هذه أحد فعبده حر فدخلها هو لم يحنث‏.‏

قلنا‏:‏ هو معرفة هنا بإضافة الأمان إلى نفسه قبل إضافة الحصن إلى نفسه بقوله‏:‏ أمنوني‏.‏

وإنما الحاجة إلى معرفة حكم في وقد بينا أنه للظرف‏.‏

ولا يتحقق ذلك إلا بعد أن يكون هو في جملة العشرة‏.‏

والعمل بالحقيقة هاهنا ممكن لأنه من أهل الحصن كغيره‏.‏

وكذلك لو قال‏:‏ في عشرة من أهل بيتي أو في عشرة من بني أبي كان هو وتسعة سواه لأنه من جملة أهل بيته والمراد بيت النسب‏.‏

وهو من جملة بني أبيه‏.‏

فكان العمل بحقيقة الظرف هاهنا ممكناً فلهذا كان الأمان بعشرة ممن سماهم هو أحدهم والبيان إلى الإمام‏.‏

ولو قال‏:‏ في عشرة من إخواني فهو آمن وعشرة سواه من إخوانه لأنه صرح بما يمنع العمل بحقيقة الظرف هنا‏.‏

والإنسان لا يكون من إخوانه فوجب أن يجعل حرف في بمعنى مع كما هو الأصل أنه متى تعذر العمل بحقيقة الكلمة وله مجاز متعارف يحمل على ذلك المجاز لتصحيح الكلام‏.‏

وكذلك لو قال‏:‏ في عشرة من ولدي لأنه لا يكون من ولد نفسه فلا بد من أن يجعل العشرة سواه وعلى هذا لو قال‏:‏ أمنوا عشرة من إخواني أنا فيهم أو قال‏:‏ عشرة من أولادي أنا منهم فالأمان لعشرة سواه ولو قال‏:‏ عشرة من أهل بيتي أنا فيهم أو عشرة من أهل حصني أنا فيهم فالأمان لعشرة سواه فالأمان لعشرة وهو أحدهم ولما بينا من الفرق ولو قال في أو عشرة من بني فهو على عشرة من بنيه سواه يعينهم الإمام لأنه لم يجعل نفسه ذا حظ من أمانهم فإن كانوا ذكوراً كلهم أو مختلطين فالإمام يعين أي عشرة شاء من ذكورهم أو إناثهم‏.‏

فإن لم يكن فيهم ذكر فهم فيء كلهم سوى الرجل المستأمن لأنه إنما استأمن لبنيه‏.‏

وقد بينا أن هذا الاسم لا يتناول الإناث المفردات‏.‏

فإن قيل‏:‏ أليس إنهم لو كانوا مختلطين فعين الإمام عشرة من الإناث كان له ذلك وإذا لم يتناولهم اسم البنين فكيف يعينهم الإمام قلنا‏:‏ لأنه ما أمن عشرة وهم بنوه وإنما أمن عشرة هم من بنيه‏.‏

وعند الاختلاط البنات العشرة هم عشرة من بنيه‏.‏

فلهذا كان له أن يعينهم‏.‏

فأما عند عدم الاختلاط فالإناث المفرادت لسن من بنيه فكيف يتناولهن الأمان ولو كانوا بنين وبنات وبني بنين وبني بنات فله أن يختار عشرة إن شاء من الولدان وإن شاء من ولد الولد وقد بينا أن هذا الاسم يتناول بني البنين في الأمان كما يتناول البنين استحساناً‏.‏

ذكر في الكتاب بني البنات فمن أصحابنا من قال‏:‏ هذا غلط من الكاتب والصحيح‏:‏ بنات البنين وقيل‏:‏ بل هو صحيح وهو إحدى الروايتين اللتين ذكرنا فيما سبق أنه يطلق اسم البنين على أولاد البنات كما يطلق على أولاد البنين‏.‏

والإخوة والأخوات في هذا بمنزلة البنين والبنات إلا أنه إذا قال‏:‏ في عشرة من إخواني وله أخوات منفردات وبني أخوة فهم فيء كلهم لأن اسم الإخوة لا يتناول الأخوات المنفردات ولا بني الإخوة حقيقة ولا مجازاً‏.‏

ولو قال‏:‏ أمنوني في عشرة من أصحابي‏.‏

فالعشرة سواه لأن أصحابه غيره ولا وجه لإعمال حرف في هاهنا للظرف وكذلك لو قال‏:‏ في عشرة من رقيقي أو في عشرة من موالي‏.‏

ولو نظر الإمام إلى فارس منهم فقال‏:‏ أنت آمن في عشرة من فرسانكم‏.‏

فهو آمن وتسعة وسواه فإن حرف في هاهنا للظرف فإنه بصفة العشرة الذين أمنهم الإمام فيمكن أن يجعل هو أحدهم وإن قال‏:‏ أنت آمن في عشرة من الرجالة‏.‏

فالعشرة من الرجالة سواه لأنه ليس بصفة العشرة فإنه فارس فعرفنا أن حرف في بمعنى مع هنا وكذلك لو كان على عكس هذا قال‏:‏ وإنما يؤخذ في هذا بما عليه كلام الناس يعني الذي سبق إلى فهم كل أحد من هذه الألفاظ التي ذكرت ولو قال‏:‏ في عشر من بناتي وله بنون فالأمان للبنات خاصة لأن اسم البنات لا يتناول الذكور بحال وكذلك لو كان له بنات بنين فهو عليهن دون البنين لأن اسم البنات لا يتناولهن مجازاً وإن لم يكن له إلا بنات بنات فليس يدخلن في الأمان وهذا بناء على أظهر الروايتين أن أولاد البنات ينسبون إلى آبائهم لا إلى أبي أمهم‏.‏

إلا أن يكون جرى مقدمة بأن يقول‏:‏ لي بنات بنات وقد ماتت أمهاتهن فأمنوني في بناتي‏.‏

فحينئذ يعرف بتلك المقدمة أنه إنما استأمن لهن‏.‏

والرجوع إلى دلالة الحال لمعرفة المقصود بالكلام أصل صحيح في الشرع ولو قال‏:‏ أمنوني في موالي وله موال وموالي موالٍ كانوا آمنين استحسناً لأن الاسم لمعتقه حقيقة باعتبار أنه أحياهم بالإعتاق حكماً أو لمعتق معتقه مجازاً باعتبار أنه حين جعل المعتقين أهلاً لإيجاب العتق لهم فكأنه سبب لإعتاقهم‏.‏

وقد بينا أن الأمان مبني على التوسع وأن مجرد صورة اللفظ يكفي لثبوت حقن الدم به احتياطاً وإنما لا يجمع بين الحقيقة والمجاز في محل واحد فأما في محلين فيجوز أن يجمع على وجه لا يكون المجاز معارضاً للحقيقة في إدخال الجنس على صاحب الحقيقة وفي الأمان لا يؤدي إلى هذه المعارضة بخلاف الوصية وإنما هذا نظير قوله تعالى‏:‏ ‏{‏حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ‏}‏ حتى يتناول الأم والجدات جميعاً ولو قال‏:‏ أمنوني في مواليّ وله موالٍ أعتقوه وموال أعتقهم فالأمان لا يتناول الفريقين بهذا اللفظ لأن مقصوده من طلب الأمان للأعلى مجازاته على ما أنعم عليه وللأسفل الترحم والزيادة في الإنعام عليه‏.‏

وهما معنيان متغايران ولا عموم للاسم المشترك باعتبار أنه لا يتحقق اجتماع المعنيين المتغايرين في كلمة واحدة فلهذا كان الأمان لأحد الفريقين كالوصية إلا أن الوصية للمجهول لا تصح فكانت باطلة بهذا اللفظ‏.‏

والأمان للمجهول صحيح فيكون ذلك على ما نواه الذي أمنهم وهو مصدق في ذلك لأنه لا يعرف من جهته فإن قال‏:‏ ما نويت شيئاً‏.‏

فهم جميعاً آمنون استحساناً لا باعتبار أن اللفظ المشترك عمهم فالمشترك لا عموم له ولكن باعتبار أن الأمان يتناول أحد الفريقين ولا يعرفون بأعيانهم‏.‏

وعند اختلاط المستأمن بغير المستأمن يثبت الأمان لهم احتياطاً كما بينا‏.‏

فإن قيل‏:‏ كان ينبغي أن يكون خيار التعيين إلى الإمام وإن لم ينو شيئاً في الابتداء لأنه أوجب في المجهول فإليه البيان‏.‏

قلنا‏:‏ لا كذلك فإن المشترك غير المجمل واللفظ الذي أوجب الأمان هنا ليس بمجمل حتى يرجع في البيان إلى المجمل وإنما هو مشترك باعتبار أنه يحتمل كل واحد من الفريقين على وجه الانفراد كأنه ليس معه غيره‏.‏

وفي مثل هذا لا بيان للموجب وإنما يطلب البيان بالتأمل في صفة الكلام فإذا تعذر الوقوف عليه كانوا جميعاً آمنين لاختلاط المستأمن بغير المستأمن‏.‏

وهذا لأن بيان المشترك بما يكون مقارناً فأما ما يكون طارئاً فهو نسخ فلا جرم إذا قال‏:‏ نويت الأسفلين أو الأعلين كان ذلك صحيحاً لأنه بيان بما اقترن بالكلام فأما إذا قال‏:‏ اختار الآن فهذا ليس ببيان إنما هو في معنى النسخ وهو لا يملك ذلك‏.‏

وإن قال المتكلم‏:‏ أنا نويت الأسفلين‏.‏

وقال الإمام‏:‏ أنا نويت الأعلين‏.‏

فهو على ما عني الإمام لأنه هو الموجب بالصيغة المشتركة‏.‏

ألا ترى أنه لو قال‏:‏ أمنى على قريبي عباس بن عمر‏.‏

فقال‏:‏ أمنتك وله قريبان كل واحد منهما بهذا الاسم فقال الإمام‏:‏ عنيت هذا‏.‏

وقال المستأمن عنيت الآخر‏.‏

كان ذلك على ما عني الإمام وإن قال الأمير‏:‏ لم أعن واحداً منهما بعينه‏.‏

وقال المستأمن كذلك فهما آمنان‏.‏

لاختلاط من صار آمناً بغيره على وجه لا يمكن تمييزه وإن قال المستأمن عنيت هذا‏.‏

وقال الأمير لم أعن واحداً بعينه‏.‏

إنما أجبته إلى ما طلب فالأمان الذي عناه المستأمن لأن الإمام بنى الإيجاب على كلامه وأحدهما في ذلك عين بإرادة المستأمن إياه‏.‏

فيجعل ذلك كالمعين في جواب الإمام أيضاً ولو قال‏:‏ أمني على عشرة من مواليّ الأسفلين‏.‏

فالخيار في تعيينهم إلى المستأمن هنا كما في قوله‏:‏ على عشرة من أهل حصني لأنه جعل نفسه ذا حظ من أمانهم بذكر كلمة الشرط بعد أمان نفسه وكذلك لو قال‏:‏ علي ابن عمي فله أن يختار أيهما شاء إذا كان له ابنا عم‏.‏

ولو قال‏:‏ علي ابن عمي زيد بن عمرو‏.‏

فإذا كان له ابنا عم كل واحد منهم بهذا الاسم وأجمع المستأمن والذي أمن أنهما لم يعينا واحداً منهما فهما آمنان لأن التعريف بالاسم والنسب كالتعريف بالإشارة وإنما وقع الأمان بهذا اللفظ على أحدهما بعينه ولكنا لا نعرفه فاختلط المستأمن بغير المستأمن وفي الأول إنما أوجب الأمان في منكر مجهول فكان له أن يعين أيهما شاء‏.‏

ألا ترى أنه لو أعتق عبداً بعينه من عبيده ثم اختلط بغيه على وجه لا يمكن تمييزه لم يكن له خيار التعيين بخلاف ما لو أعتق أحد عبديه بغير عينه‏.‏

ولو قال‏:‏ أمنوني في عشرة أنفس من بني‏.‏

فقد تقدم بيان هذا‏.‏

إلا أن هنا ليس للإمام أن يعين عشرة من بناته ليس فيهن ذكر لأنه أوجب الأمان لعشرة هم بنوه‏.‏

وهذا لا يتناول الإناث المفردات بخلاف الأول‏.‏

فهناك أوجب الأمان لعشرة هم من بينه والإناث المفردات من بنيه إذا كان له معهن ذكر‏.‏

ولو قال‏:‏ أمنوني على مواليّ‏.‏

وليس له إلا مواليات إناث لا ذكر فيهن‏.‏

فهن آمنات معه استحساناً‏.‏

وفي القياس هذا وما تقدم من الإخوة والبنين سواء في أنه لا يتناول الإناث المفردات ولكنه استحسن فقال‏:‏ وأهل اللغة يستجيزون إطلاق اسم الموالي على الإناث المفردات ويعدون قول القائل‏:‏ مواليات من باب التكلف بل يقولون للمعتقات‏:‏ هن موالي بني فلان المفردات ويعدون قول القائل‏:‏ مواليات من باب التكلف بل يقولون للمعتقات‏:‏ هن موالي بني فلان كما يقولون للمعتقين وللعرف عبرة في معرفة المراد بالاسم‏.‏

فلهذا تناول هذا اللفظ الإناث المفردات في الأمان والوصية بخلاف اسم الإخوة والبنين والله أعلم بالصواب‏.‏