فصل: باب: دخول الإمام دار الحرب مع العسكر

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: شرح السير الكبير **


  باب‏:‏ دخول الإمام دار الحرب مع العسكر

إذا دخل معه عسكر من أهل الحرب بأمان ولو أن الإمام دخل دار الحرب مع العسكر فدخل معه عسكر من أهل الحرب له منعة بأمان فإن كانوا دخلوا بغير أمر الإمام ثم قاتلهم قوم من المشركين فليس على الإمام ولا عليهم نصرتهم إلا أن يشاءوا ذلك لأن المسلمين بالأمان المطلق التزموا ترك التعرض لهم وما التزموا الدفع عنهم وإن كان الإمام أمرهم أن يدخلوا لمنفعة المسلمين من القتال معهم أو التجارة أو لمداواة الجرحى فعليهم نصرتهم لأنهم حين أمرهم بالدخول لمنفعة المسلمين فقد التزم حفظهم على الوجه الذي يحفظ المسلمين وعليه القيام بنصرة المسلمين إذا قصدهم العدو وعلى هذا قال في الفصل الأول إذا أخذهم أهل الحرب فأحرزوهم ثم ظهر عليهم المسلمون كانوا فيئاً وفي الفصل الثاني كانوا أحراراً على حالهم وكذلك لو أحرزوا متاعهم ثم وقع في الغنيمة لم يرد عليهم في الفصل الأول ويرد عليهم في الفصل الثاني قبل القسمة بغير شيء فإن أسلم أهل الحرب الذين أسروهم كانوا عبيداً لهم في الفصلين وهذا مشكل في الفصل الثاني فإن المسلمين لو ظهروا عليهم كانوا أحراراً كما بينا فعلى هذا ينبغي إذا أسلم الذين أخذوهم أن يكونوا أحراراً أيضاً كما لو أسروا المسلمين أو أهل الذمة ثم أسلموا ولكن الجواب أن نقول‏:‏ هذا حكم ثبت باعتبار التزام الإمام فإنما يظهر في حق الإمام وفي حق من كان تحت ولايته حين التزم والذين أسلموا ما كانوا تحت ولايته يومئذ وقد ملكوهم بالإحراز فإذا أسلموا كانوا عبيداً لهم لقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ من أسلم على مال فهو له وإن لم يأمرهم الإمام بالدخول ولكنهم سألوه أن يدخلوا ليتجروا مع العسكر فحالهم كحال الفريق الأول لأنهم دخلوا لمنفعة أنفسهم والإمام بمجرد الإذن لا يكون ملتزماً نصرتهم كما لا يكون ملتزماً ذلك بمجرد الأمان والذي دخل من المسلمين دار الحرب بأمان فعليه ألا يغدر بهم وألا يأخذ شيئاً من أموالهم بغير رضاهم لأنه التزم الوفاء لهم بحسب ما يفون له بخلاف الأسير فيهم ثم كما لا يجوز للمستأمن أن يقتلهم أو يأخذ مالهم بغير رضاهم لا يجوز له أن يأمر الأسير بذلك لأن فعل المأمور من وجه كأنه فعل الأمر وإن كان هذا المستأمن مفتياً فاستفتاه الأسير أيحل لي أن أقتلهم وآخر مالهم فله أن يفتيه بذلك لأن في الإفتاء بيان حكم الشرع وليس فيه من معنى الأمر شيء وهو بعقد الأمام ما التزم الامتناع من بيان أحكام الشرع ألا تري أن المحرم ليس له أن يقتل الصيد ولا أن يأمر به الحلال ثم لو كان مفتياً فاستفتاه حلال من أيحل لي قتل الصيد مطلقاً مكان له أن يفتيه بذلك فعرفنا أن الإقتاء ليس بأمر ولو أن قوماً من أهل الحرب وادعوا المسلمين بخراج معلوم كل سنة على ألا يجري المسلمون عليهم أحكامهم وعلى أن يمتعوهم من عدوهم ثم ظهر عليهم قوم من أهل الحرب فسبوا نساءهم وذراريهم ثم استنقذهم المسلمون بعد ذلك فإن كان الاستنقاذ في سنى الموادعة ردوهم أحراراً كما كانوا وإن كان بعد انقضاء سنى الموادعة كانوا فيئاً للمسلمين لأنهم التزموا نصرتهم في سنى الموادعة لا بعدها وعليهم الوفاء بما التزموا خاصة وعلى هذا لو وقع الظهور على أموالهم ثم وقعت في الغنيمة فإن كان بعد انقاضاء سنى الموادعة لم يجب رد شيء من ذلك عليهم وإن كان في سنى الموادعة فإن وجدوها قبل القسمة أخذوها بغير شيء وإن وجدوها بعد القسمة أخذوها بالقيمة إن أحبوا كما هو الحكم في أموال أهل الذمة ولو أسلم أهل الحرب في سنى الموادعة أو بعدها لم يكن عليهم رد شيء من أموالهم ولا من بذراريهم لأن حكم التزام الأمان بالموادعة لم يثبت في حقهم إذا لم يكونوا تحت ولايته يؤمئذ ثم في كل موضع ذكرنا لو أن العدو قاتلهم في سنى الموادعة وعجز الإمام عن نصرتهم فليس له أن يأخذ شيئاً من الخراج المشروط ولو كان أخذ كان عليه أن يرد عليهم ما أعطوه إلا إن استنقذ ذلك من أيديهم في سنى الموادعة فأما إذا أسلم الذين قهروهم فعلى الإمام رد ما أخذ منهم أيضاً لما بينا أنه إنما أخذ الخراج على النصرة فإذا عجز عن النصرة حساً أو حكماً كان عليه رد ما أخذ منهم والله والموفق‏.‏

  باب بيان الوقت الذي يتمكن المستأمن فيه من الرجوع إلى أهله والوقت الذي لا يتمكن فيه من الرجوع

قال - رضي الله عنه -‏:‏ قد بينا أن المرأة تابعة للزوج في المقام والزوج لا يكون تابعاً لامرأته فإذا تزوجت المستأمنة في دارنا مسلماً أو ذمياً صارت ذمية لا نتمكن من الرجوع إلى دار الحرب بخلاف المستأمن إذا تزوج ذمية وعلى هذا دخل رجل مع امرأته إلينا بأمان ثم صار الزوج ذمياً فليس لها أن ترجع إلى دار الحرب وكذلك لو أسلم وهي من أهل الكتاب لأن النكاح بينهما مستقر بعد إسلامه بخلاف ما إذا أسلم وهي مجوسية فالنكاح هاهنا غير مستقر بينهما فأما إذا فرق بينهما بعد عرض الإسلام عليها أو بعد مضي ثلاث حيض كان لها أن ترجع إلى دار الحرب وبوقوع الفرقة هاهنا بمضي ثلاث حيض تبين أنها لم تصر ذمية لأنها لو صارت ذمية لم تقع الفرقة بإباء الإسلام بغير قضاء القاضي كما لو كانا ذميين في الابتداء وعلى هذا لو تزوج مستأمن مستأمنة في دارنا ثم صار الرجل ذمياً كانت ذمية مثله لأن النكاح الذي باشراه في دار الإسلام ليكون دون نكاح باشراه في دار الحرب وكذلك لو دخل أحد الزوجين إلينا بأمان ثم تبعه صاحبه بأمان لأن النكاح بينهما قائم فلم تتباين بهما الدار حكماً وإن دخل أحدهما قبل صاحبه بأمن فهذا وما لو دخلا معاً فيما ذكرنا من التفريع سواء فإن كانت المرأة هي التي أسلمت في جميع هذه الفصول فللزوج أن يرجع إلى دار الحرب إلا أنها إن طالبته بالصداق فإن كان تزوجها في دار الإسلام فلها أن تمنعه من الرجوع حتى يوفيها مهرها وإن كان تزوجها في دار الحرب فليس لها ذلك وهذا بناء على أصل معروف أن المستأمن لا يطالب بموجب المعاملة الموجودة منه في دار الحرب وهو مطالب بموجب المعاملة لموجودة منه في دار الإسلام ووجوب الصداق بعقد النكاح فإذا كان أصل العقد في دار الحرب فليس لها أن تطالبه بموجبه في دار الإسلام لأنه مستأمن على حاله وإن كان أصل العقد في دار الإسلام كان لها أن تطالبه بموجبه في دار الإسلام وتحبسه لأجله ولو أسلم الزوج وهي كتابية ثم أنكرت أصل النكاح بينهما فأقام الزوج بينة من المسلمين أو من أهل الذمة على أصل النكاح أو على إقرارها به في دار الحرب لم يلتفت إلى هذه البينة لأنها مستأمنة في الظاهر فإنها منكرة للنكاح والقول قول المنكر وباعتبار النكاح تصير ذمية فهذه بينة تقوم على مستأمنة لمعاملة كانت به في دار الحرب والقاضي لا يقبل البينة في ذلك عليها فإن قيل‏:‏ الشهود يشهدون عليها أنها قد صارت ذمية لكونها تحت مسلم أو ذمي فينبغي أن يقبل القاضي البينة لإثبات هذا الحكم قلنا‏:‏ هذا الحكم إنما يثبت ضمناً بثبوت الحكم المشهود به وهذه البينة ليست بحجة للقضاء بما هو الأصل وما يثبت ضمناً بثبوت الحكم المشهود به وهذه البينة ليست بحجة للقضاء بما هو الأصل وما يثبت ضمناً للشيء فثبوته بثبوت الأصل وهو نظير المشتري للجارية إذا ادّعى على البائع أنها منكوحة فلان الغائب وأراد إقامة البينة ليقضي القاضي عليه بالرد بالعيب لم يسمع القاضي منه هذه البينة قبل حضور الزوج لهذا المعنى وإن أقام الزوج عليها البينة أنها أقرت بالنكاح في دار الإسلام قبل القاضي بينته ومنعها من الرجوع إلى دار الحرب بمنزلة ما لو أقرت به بين يدي القاضي لأنهم يشهدون بإقرار كان منها في دار الإسلام فإن قيل‏:‏ كان ينبغي ألا يقبل هذه البينة أيضاً لأن السبب الملزم هو العقد لا الإقرار وإنما كان ذلك في دار الحرب بمنزلة ما لو ادّعى مسلم عليها ديناً بسبب معاملة كانت في دار الحرب وأقام البينة على أنها أقرت في دار الإسلام بالمعاملة التي كانت بينهما في دار الحرب فإن القاضي لا يقبل هذه البينة قلنا‏:‏ الفرق بينهما ظاهر فإن النكاح مستدام بين الزوجين ومن الأحكام ما يتعلق باستدامته كالنفقة فإنها تجب شيئاً فشيئاً فإقرارها به في دار الإسلام يجعل بمنزلة ابتداء المعاملة في بعض الأحكام بخلاف المداينة ألا ترى أنها لو تزوجت بزوج آخر في دار الإسلام وأقام الزوج الأول البينة على إقرارها بالنكاح له في دار الإسلام قبل أن تتزوج بالزوج الثاني ألم يكن القاضي يفرق بينها وبين الثاني رأيت لو كانت المرأة هي التي خاصمت في النفقة أو زعمت أنه طلقها ثلاثاً وأقامت البينة عليه بذلك أما كان القاضي يقبل منها هذه البينة هذا كله لا بد من القول به للفقه الذي بينا وإذا أطال المستأمن المقام في دارنا يتقدم إليه الإمام في الخروج وبوقت له في ذلك وقتاً ولا يرهقه على وجه يؤدي إلى الإضرار به لأنه ناظر من الجانبين فكما يمنعه من إطالة المقام بغير خراج نظراً منه للمسلمين لم يرهقه في التوقيت نظراً منه للمستأمن فإن اشترى أرضاً من أرض الخراج أو من أرض العشر فزرعها فوجب عليها فيها خراج أو عشر أخذ ذلك منه وأخذ منه خراج رأسه أيضاً وإنما يبني هذه الفصول على قول محمد - رحمه الله تعالى - فإن عنده إذا اشترى الكافر أرضاً عشرية بقيت عشرية على حالها ثم ظن بعض أصحابنا - رحمهم الله تعالى - أنه إنما يصير ذمياً باعتبار ما باشر من الصنع وهو شراء الأرض الخراجية فإنه دلالة الرضاء بالتزام الخراج وليس كذلك فإن هذا الحكم في الإرث والشراء سواء وفي الميراث يدخل في ملكه بغير صنعه شاء أو أبى ولكن إنما يصير ذمياً إذا وجب عليه خراج أرضه بأن زرعها أو تمكن من الزراعة حتى يتمكن من الرجوع إلى دار الحرب بعد شراء الأرض قبل التمكن من الانتفاع بها وكان المعنى فيه أن خراج الرأس في حكم التبع لخراج الأرض فإن ولاية المن للإمام بعد فتح البلدة عنوة باعتبار منفعة خراج الأرض لا باعتبار منفعة خراج الرأس لأن ذلك غير مستدام فإنه يسقط عن الذمي بموته وإسلامه فعرفنا أن الأصل خراجة الأرض وثبوت التبع بثبوت الأصل فإذا لزمه خراج الأرض لزمه خراج الرأس تبعاً فإن استأجرها وأقام حتى زرعها فأخذ منه الخراج كان ذمياً أيضاً وهذا غلط بيّن فإن الخراج لا يجب على المستأجر وإنما يجب على الآجر إلا أن يكون مراده خراج المقاسمة وذلك جزء من الخراج بمنزلة العشر فيكون على المستأجر عند محمد - رحمه الله تعالى - كالعشر فأما خراج الوظيفة فدارهم في ذمة الآجر تجب باعتبار تمكنه من الانتفاع بالآجر‏.‏

قال‏:‏ وكذلك لو استأجر أرضاً عشرية فأقام حتى زرعها وهذا مستقيم الله هاهنا فإن العشر على المستأجر عند محمد - رحمه الله تعالى - والعشر والخراج كل واحد منهما مئونة الأرض النامية فكما أن بوجوب الخراج عليه يصير ذمياً فكذلك بوجوب العشر عليه قلنا‏:‏ يصير ذمياً ولو دخل حربي إلينا بأمان ومعه رقيق من أهل الحرب فأسلموا أجبر على بيعهم ولم يترك يخرج بهم لأن حالهم في هذا لا يكون فوق حال الذمي ولا يصير هو ذمياً بإسلامهم لأن المالك لا يكون تبعاً للمملوك في المقام كما لا يكون الزوج تبعاً لامرأته فإن قالوا‏:‏ نصير ذمة للمسلمين لم يلتفت إلى ذلك وهذا بخلاف المرأة فإن لها أن تصير ذمة للمسلمين بدون الزوج وفي الموضعين لا يحصل للمسلمين منفعة الخراج إذ لا جزية على المرأة كما لا جزية على العبد ولكن الفرق أن المرأة حرة تستبد بمباشرة العقود فتصح منها مباشرة عقد الذمة فأما العبد مملوك لا يقدر على شيء فلا يصح منه مباشرة عقد الذمة لأنه يعتمد المراضاة قال‏:‏ ولو دخل حربي مع امرأته دارنا بأمان ومعهما أولاد صغار وكبار فأسلم أحدهما فالصغار من الأولاد صاروا مسلمين تبعاً للذي أسلم منهما وأما الكبار منهم لا يكونون مسلمين ولهم أن يرجعوا إلى دار الحرب ذكوراً كانوا أن إناثاً لأن معنى التبعية ينتهي بالبلوغ عن عقل ولا يكون للوالدين منعهم من الرجوع إلى دار الحرب كما لا يكون لهما منع سائر الرابات من ذلك ولو صار أحدهما ذمياً كان الصغار من الأولاد تبعاً له لأن عقد الذمة فيه التزام أحكام الإسلام فيما يرجع إلى المعاملات والصغير في مثل هذا تبع خير الوالدين ألا ترى أنهما لو كانا مجوسيين فتنصر أحدهما كان الصغير نصرانياً تؤكل ذبيحته تبعاً له فكذلك إذا قبل أحدهما الذمة كان الصغير ذمياً تبعاً له سواء كانت المرأة هي التي قبلت الذمة أو الرجل ألا ترى أنهما لو كان مسلمين فارتد الزوج ولحق بالصغير دار الحرب ثم سبي لم يكن فيئاً وجعل حراً من أهل دارنا باعتبار حال أمه فهذا قياسه ولو أن غلاماً صغيراً خرج به أخوه أو عمه بأمان ثم أسلم الذي أخرجه أو صار ذمياً فالغلام لا يكون تبعاً له في ذلك ولكن يستأنى به حتى يبلغ فإن شاء رجع إلى دار الحرب وإن شاء التزم عقد الذمة فينا لأن الذمة خلف عن الإسلام فيما يرجع إلى المعاملات والصغير لا يتبع أخاه في الإسلام فكذلك في حكم الذمة وإنما أدخله من أدخله بأمان وذلك يمنع صيرورته من أهل دارنا حتى يحكم له بالإسلام تبعاً للدار بخلاف الصغير إذا سبي وليس معه أحد أبويه ولو كان الذي أخرجه قال‏:‏ أمنوني على أن أصير ذمة لكم أنا وهذا الغلام فأمنوه على ذلك صارا ذميين لأن لمن أخرجه ولاية حفظه فكان له ولاية عقد الذمة عليه أيضاً لما فيه من محض المنفعة للصغير وهو بمنزلة قبول الهبة والقبض في ذلك ولو أن جد الصبي أب أبيه أدخله إلينا بأمان ثم أسلم أو صار ذمياً فالجواب كذلك سواء كان أب الصغير حياً أو ميتاً وهذا بناء علي ما ذكر في ظاهر رواية الأصول أن الصغير لا يصير مسلماً بإسلام جده فأما على رواية الحسن عن أبي حنيفة - رضي الله عنه - يصير مسلماً بإسلام جده كما يصير مسلماً بإسلام الأب وإنما يفارق الجد الأب في ظاهر الرواية في أربعة أحكام‏:‏ حكم الإسلام وحكم صدقة الفطر وحكم الوصية لأقرباء فلان وحكم جر الولاء وفي رواية الحسن‏:‏ الجد كالأب في الفصول كلها والصحيح ما ذكر في ظاهر الرواية فإن الصغير لو صار مسلماً بإسلام الجد الأدنى لصار مسلماً بإسلام الجد الأعلى فيؤدي إلى القول بلزوم حكم الردة لكل كافر لأنهم أولاد آدم ونوح عليهما السلام فإن خرج بالصغير أحد أبويه مستأمناً بعد إسلام الجد أو خرج به أخوه كان له أن يرده وليس للجد أن يمنعه من ذلك لأنه لا ولاية للجد عليه باعتبار المخالفة في الدين فكان وجوده كعدمه وللأخ أن يرده إلى دار الحرب كما جاء به ولو جاء أخوه ليأخذه فيرده وأبوه حي لم يكن له عليه سبيل ومراده إذا كان الأب حياً مستأمناً في دارنا لأنه لا ولاية للأخ مع قيام الأب وكذلك لو خرج عمه ليأخذه وأخوه حي فالعم في حكم الولاية كالأجنبي مع الأخ ولو خرجت أمه لتأخذه وأبوه حي أو قد مات وله أخ فإن كان الولد صغيراً لم يستغن عن أمه كان لها أن تأخذه لأنها أحق بالحضانة ما لم يستغن عنها ولا تتمكن من ذلك إلا بأن ترده إلى دار الحرب فإن كانت جارية فما لم تحصن كانت الأم أحق بحضانتها فلها أن تردها وإن كان الغلام قد استغنى فليس لأمه أن تأخذه والأخ أحق به إذا كان الأب ميتاً لأن مدة الحضانة تنتهي في حق الغلام إذا أكل أو شرب وحده وكذلك إن حاضت الجارية فليس للأم أن ترجع بها ولكن الرأي إليها إن شاءت رجعت وإن شاءت صارت ذمية فإن كانت الأم قد تزوجت فليس لها أن ترجع بالصغير لأن هذا الحق كان لها بناء على حق الحضانة وليس لها ذلك بعد ما تزوجت وإن أسلمت الأم أو صارت ذمية فليس لأحد من أقرباء الصغير صار ملماًً أو ذمياً تبعاً لها فبوجود الزوج لها لا ينقطع معنى التبعية وهو نظير ما قال إذا سبوا جميعاً ثم أسلم أحد الأبوين فإن الصبي يصير مسلماً تبعاً له وإن كان الذي أسلم منهما مملوكاً ليس له من أمر الصغير شيء فكذلك إذا كانت الأم ذات زوج ولو أن قوماً من أهل الحرب دخلوا إلينا بأمان ثم أرادوا أن يخرجوا إلى دار حرب أخرى ليكونوا معهم يقاتلون أهل الإسلام فلا ينبغي للمسلمين أن يمكنوهم من ذلك لأنهم بالأمان التزموا ترك التعرض لهم وتمكينهم من الرجوع إلى دارهم ففيما وراء ذلك كان لهم حق المنع مما يؤدي إلى الإضرار بالمسلمين ألا ترى أنهم لو جاءوا بأسلحة من دارهم فأرادوا إدخال ذلك دار حرب أخرى للبيع فيها كان لهم أن يمنعوا من ذلك وإن كانوا لا يمنعون من الرجوع بهم إلى دارهم فكذلك حال المقاتلة لأن آلة القتال في معنى الضرر دون المقاتل وكان المعنى فيه وهو أن بعض الأسلحة قد يكثر وجوده في دار الحرب ويعز وجوده في دار حرب أخرى فإذا حمل من دار إلى دار حتى صار موجوداً في الدارين يقوى الفريقان به على المسلمين وفيه من الضرر ما لا يخفى بخلاف ما إذا رجعوا به إلى دارهم وإن كان الداخل واحداً أو اثنين لم يمنع من الرجوع إلى دار حرب أخرى للتجارة معهم لأن بهذا القدر لا تزداد قوة أهل هذه الدار على قتالنا بخلاف ما إذا كانوا أهل منعة ولو أسلم المستأمن في دارنا وله أولاد صغار في دار حرب لم يكونوا مسلمين بإسلامه لانقطاع العصمة بتباين الدار فإن دخل بهم عمهم بأمان صاروا مسلمين لأنهم حصلوا في دارنا بأمان ولهم أب مسلم فينا فكان هذا وما لو أسلم وهم معه سواء وليس للذي خرج بهم أن يردهم إلي دار الحرب بعد ما صاروا مسلمين لأنهم صاروا من أهل دارنا ولم يبق للذي أخرجهم عليهم ولاية ولو كان والدهم الذي أسلم مات ثم خرج العم بهم لزيارة قبره فله أن يردهم إلى دار الحرب لأن الأب إذا كان ميتاً حين خرج بهم فحكم الإسلام لا يلزمهم بطريق التبعية له فإن قيل‏:‏ ألا ترى أنه لو مات أحد الأبوين في دارنا ثم إن الآخر لحق بالصغير دار الحرب مرتداً فسبي لم يكن فيئاً وجعل مسلماً من أهل دارنا تبعاً للأب الميت في دارنا فلماذا لا يجعل كذلك ها هنا قلنا‏:‏ لأن الصغير كان محكوماً له بالإسلام هناك تبعاً له قبل موته فيبقى ذلك الحكم بعد موته وها هنا ما كان محكوماً بإسلامه قبل موته تبعاً له فلا يجوز أن يثبت له حكم الإسلام ابتداء بعد موته تبعاً له لأن الشيء إنما يقدر حكماً إذا كان يتصور حقيقة فأما إذا كان لا يتصور حقيقة فلا يجوز إثباته حكماً ولو كان الذي أخرجهم رجلاً لا قرابة بينه وبينهم فأخرجهم على أنهم عبيده قاهراً لهم وصار ذمة لنا فإن كان أبوهم حياً مسلماً عندنا أجبر على بيعهم لأنه صار مالكاً لهم بالإحراز ولكنهم صاروا مسلمين تبعاً لأبيهم فيجبر الذمي على بيعهم وإن كان الأب ميتاً حين أخرجهم لم يجبر على بيعهم وكذلك لو كان خرج إلينا بأمان إلا أن في هذا الفصل له أن يرجع بهم إلى دار الحرب إن شاء وعلى هذا لو صار أحد الأبوين ذمياً فينا والصغير في دار الحرب لم يكن ذمياً تبعاً له كما لا يكون مسلماًً تبعاً له فإن خرج بالصغير عمه لزيارة أبيه لم يكن له أني رجع به إلى دار الحرب إذا كان الأب حياً لأن الصغير صار ذمياً تبعاً له بمنزلة ما لو كان معه ألا ترى أنه لو كان مجوسياً فصار كتابياً ثم خرج العم بالصغير كان الصغير كتابياً تبعاً لأبيه فكذلك يصير من أهل دارنا تبعاً لأبيه هكذا ذكر في بعض النسخ وفي بعض النسخ قال‏:‏ له أن يرجع به إلى دار الحرب وليس للأب منعه من ذلك لأن معنى التبعية يكون في حكم الدين فأما في حكم المقام في الدار يعتبر قيام ولايته عليه وإذا كان الصغير معه حين صار ذمياً فقد كانت ولايته قائمة فصار الصغير ذمياً تبعاً له فأما إذا كان الصغير في دار الحرب حين صار هو ذمياً فقد كانت ولايته قائمة فصار الصغير ذمياً تبعاً له فأما إذا كان الصغير في دار الحرب حين صار هو ذمياً فقد كان هو منه كالأجنبي في حكم الولاية فبعد ذلك لا يصير الصبي ذمياً تبعاً له لأنه لا ولاية له عليه ألا ترى أن الأم لو أسلمت ثم خرج الأب بالصغير إليها صار مسلماً تبعاً لها ولم يكن له أن يرده إلى دار الحرب ولو صارت الأم ذمية ثم خرج الأب بالصغير بأمان كان له أن يرده إلى دار الحرب وكان المعنى فيه ما بينا من اعتبار معنى الولاية في التبعية في الدار دون الدين قال‏:‏ ولو خرج الأبوان إلينا ذميين ثم خرج العم بالصغير لزيارة الأبوين فله أن يرده إلى دار الحرب لما بينا أنه لا ولاية للأبوين عليه ها هنا حين صارا ذميين فكانا في حقه كسائر الأجانب وكذلك لو كان الصغير ممن يعبر عن نفسه فدخل إلينا بأمان لزيارة أبويه الذميين كان له أن يرجع إلى دار الحرب بخلاف ما إذا كانا مسلمين أو أحدهما فإن هناك يصير مسلماً تبعاً للمسلم منهما لأن الذي يعبر عن نفسه في حكم التبعية في الإسلام كالذي لا يعبر عن نفسه وبهذا تبين خطأ من يقول من أصحابنا إن الذي يعبر عن نفسه لا يصير مسلماً تبعاً لأبيه فقد نص ها هنا على أنه يصير مسلماً ويمنع من الرجوع إلى دار الحرب ولو كان هذا الغلام إنما استأمن ليلحق بأبويه وهما ذميان كان ذمياً لأن في كلامه دلالة على الرضاء منه بأن يكون مثل أبويه وهما ذميان فكان هذا واستئمانه ليكون ذمياً سواء وهذا إذا كان عالماً بحالهما فإن لم يعلم أنهما صارا ذميين لم يكن ذمياً لأن دلالة الرضاء منه لا تتحقق إذا لم يكن عالماً بصيرورتهما ذميين قال‏:‏ ولو أسلم الحربي في دار الحرب وله أولاد صغار كانوا مسلمين بإسلامه فإن خرج إلينا وخلفهم كانوا مسلمين على حالهم لأن ما ثبت يكون باقياً ما لم يوجد الدليل المزيل فإن البقاء لا يستدعي دليلاً مبقياً إنما إثبات الشيء ابتداء يستدعي دليلاً مثبتاً ولو لم يسلم ولكنه بعث إلى الإمام إني ذمة لكم أقيم في دار الحرب وبعث بالخراج كل سنة فذلك جائز وولده الصغير يكون ذمياً بمنزلته لقيام ولايته عليه حيهن صار ذمياً فإن خرج إلى دار الإسلام وخلف ولده ثم استأمن عليهم مستأمن فأخرجهم قاهراً لهم أو غير قاهر فلا سبيل له عليهم فكان الأب أحق بهم لما بينا أن بقاء الشيء لا يستدعي دليلاً مبقياً وقد كان الولد ذمياً فلا يخرج من أن يكون ذمياً إلا بنقض العهد ولم يوجد ذلك منه والذمي لا يملك بالقهر فلهذا كان الأب أحق بولده في الوجهين جميعاً ولو أن الأب حين أسلم فينا رجع إلى دار الحرب فكان مع الصغار من أولاده حتى ظهر المسلمون على الدار كانوا مسلمين لا سبيل عليهم وكذلك إن صار ذمياً ثم رجع إلى دار الحرب لأنه لما حصل معهم في دار الحرب كان حاله كحال ما لو كان معهم حين أسلم أو صار ذمياً فإن الاستدامة فيما يستلم كالإنشاء قال‏:‏ وإن وادع المسلمون أهل تلك الدار فدخل إليهم ليأخذ أولاده فمنعوه لم يكن الأولاد معاهدين ولا ذمة بأبيهم في هذا الفصل لأنه لم يثبت له عليهم ولاية بهذا الدخول فإن الموادعين لا يجري عليهم أحكام الإسلام وقد حالوا بينه وبين الولد وذلك يمنع ثبوت ولايته عليهم فكان هذا وما لو لم يدخل إليهم سواء بخلاف ما إذا لم يحولوا بينهم وبينه وهذا لأن دار الحرب ليست بدار أحكام فإنما يعتبر تمكنه من أخذهم حساً وذلك يوجد إذا لم يحولوا بينهم وبينه ينعدم إذا حالوا وها هنا قد حالوا بينه وبين الأولاد والله الموفق‏.‏

في دار الحرب ولو أن مستأمناً في دار الحرب اشترى من حربي عبداً بثمن معلوم وتقابضا ثم أسلموا أو صاروا ذمة ثم وجد المشتري بالعبد عيباً فإن القاضي لا يسمع الخصومة في ذلك في الرد ولا في الرجوع بنقصان العيب بعد تعذر الرد سواء كان المشتري هو المسلم أو الحربي لأن هذه خيانة وتدليس كانت في دار الحرب والإسلام يجبّ ما قبله إلا أنه إن كان المسلم هو الذي باع فإنه يفتى فيما بينه وبين الله تعالى بأن يطلب رضاء خصمه وإن كان الحربي هو الذي باع فليس عليه ذلك وهو نظير ما لو أخذ أحدهما مالاً من صاحبه بغير رضاه فاستهلكه أو لم يستهلكه أو أودع أحدهما صاحبه مالاً فأنفقه وهناك إن كان بجناية فإنه يفتى بطلب رضاء الخصم ولا يجبر عليه في الحكم لأنه غدر بأمان نفسه خاصة وإن كانت الجناية من الحربي لم يكن عليه ذلك لأنه لم يكن ملتزماً حكم الإسلام حين اكتسب سبب هذه الجناية وعلى هذا لو تبايعا عبداً بجارية وتقابضا ثم أقام أحد المملوكين البينة أنه حر مسلم بعد إسلام الحربي أو استحقه مسلم لإقامته البينة على أنه مدبره أو مكاتبه فإن الآخر لا يجبر على رد المملوك الذي قبضه ولكن إن كان الآخر هو المسلم في الأصل يفتي بالرد وإن كان هو الحربي فليس عليه ذلك فإن لم يرده المسلم بعد ما أفتى به ولكنه أراد بيعه فإنه يكره للمسلمين أن يشتروا ذلك منه لأنه ملك خبيث له بمنزلة المشتري شراء فاسداً إذا أراد بيع المشتري بعد القبض يكره شراؤه منه وإن كان مالكاً ينفذ فيه بيعه وعتقه لأنه ملك حصل له بسبب حرام شرعاً ولو كان الذي عاملهم بهذا مسلماً كان أسيراً فيهم أو كان أسلم فيهم والمسألة بحالها يؤمر بالرد بطريق الفتوى لأنه لم يكن بينه وبينهم أمان خاص ولا عام حتى يكون هذا غدراً منه ولو كانت المبايعة بين مستأمن فيهم وحربي منهم بشرط الخيار لأحدهما ثلاثة أيام ثم اسلم الحربي قبل مضي مدة الخيار فلمن له الخيار أن ينقض البيع ويرج ما أخذ ويأخذ ما أعطى لأن حالهما بعد إسلامه كحالهما قبله ومن له الخيار ينفرد بالفسخ كما ينفرد بالإجازة من غير أن يحتاج فيه إلى قضاء أو رضاء فكما أن إجارته بعد إسلامه يجعل كإجارته قبل إسلامه فكذلك فسخه وكذلك لو كان للمشتري منهما خيار رؤية لأنه ينفرد بالفسخ بحكم هذا الخيار ومن غير رضاء أو قضاء وكذلك لو وجد بالمشتري عيباً قبل أن يقبضه لأن قبل القبض المشتري ينفرد بالرد بالعيب من غير قضاء ولا رضاء لانعدام تمام الصفقة ثم بعد فسخ البيع قد بقي ملك أحدهما في يد صاحبه وقد كان سلمه إليه طوعاً فكان له أن يسترده بمنزلة ما لو أودع أحدهما صاحبه مالاً ثم أسلم الحربي والوديعة قائمة بعينها بخلاف ما سبق فإن الرد بالعيب بعد القبض لا يكون إلا برضاء أو قضاء لتمام الصفقة بالقبض والقاضي لا يقضي بشيء ها هنا بينهما لأن الخيانة التي جرت بينهما بمنزلة مال استهلكه أحدهما على صاحبه قبل إسلام الحربي ولو لم يسلم الحربي ولكن خرج إلينا بأمان ثم اختصما فيما جرى بينهما فإن القاضي لا يقضي بينهما بشيء من نقض بيع ولا غيره لأن هذه معاملة جرت بينهما في دار الحرب والحربي ما التزم حكم الإسلام مطلقاً حين دخل إلينا بأمان وفي مثله القاضي لا يسمع الخصومة بخلاف ما إذا أسلم أو صار ذمياً لأنه التزم أحكام الإسلام في المعاملات مطلقاً وكذلك لو كانت هذه المعاملة بين الحربين ثم دخلا إلينا بأمان فخاصم فيه أحدهما صاحبه لم يسمع القاضي خصومته بخلاف ما إذا أسلما أو صارا ذمة وهو نظير ما لو أقرض أحدهما صاحبه مالاً أو دابة ثم خرجا إلينا بأمان فإن القاضي لا يسمع الخصومة بينهما في ذلك بخلاف ما إذا أسلما أو صارا ذمة إلا أن في جميع هذه الوجوه إذا لم يسمع القاضي الخصومة فيما كان مستهلكاً بعد الإسلام فإن كانت المعاملة بين حربيين لا يفتي الخائن منهما بطلب رضاء الخصم أيضاً فإن كانت بين مسلم وحربي أفتي المسلم فيما بينه وبين ربه بأن يرضي خصمه من غير أن يجبر عليه في الحكم لأنه غدر بأمان نفسه قال‏:‏ ولو كانا مسلمين في دار الحرب بأمان فعامل أحدهما صاحبه فهذا وما لو كانت المعاملة بينهما في دار الإسلام على السواء لأن المسلم ملتزم بحكم الإسلام حيثما يكون ومال كل واحد منهما مال معصوم متقوم في حق صاحبه لبقاء الأحراز فيه حكماً وإن كان دخل إليهم بأمان فلهذا كان حالهما في دار الحرب كحالهما في دار الإسلام في كل معاملة تجري بينهما إلا في خصال ثلاث إن قتل أحدهما صاحبه عمداً لم يجب على القاتل قصاص لقيام الشبهة بكونهما في دار الإباحة ولأنه يتمكن من استيفاء القصاص بقوت نفسه عادة والقاتل ليس في يد الإمام لنعينه على استيفاء القصاص فلا يجب القصاص ولكن تجب الدية في ماله وكذلك إن قتله خطأ لأن التعاقل باعتبار التناصر ولا تناصر بين من في دار الحرب وبين من في دار الإسلام فلهذا لا يكون على عاقلته من الدية شيء وكذلك إن ارتكب أحدهما شيئاً موجباً للحد لم يلزمه الحد لأنه لم يكن به ملتزماً الحد فأما فيما سوى هذه الثلاثة حال المستأمن في دار الحرب كحاله في دار الإسلام وفي الأسيرين كذلك الجواب عند أبي يوسف ومحمد - رحمهما الله تعالى - وفي وقل أبي حنيفة - رضي الله تعالى عنه - لا تجب الدية على القاتل ها هنا وحال الأسيرين عنده كحال حربيين أسلما في دار الحرب ثم قتل أحدهما صاحبه قبل الخروج إلى دار الإسلام وقد بينا هذا في كتاب الديات في شرح المختصر وعلى هذا لو استهلك أحدهما مال صاحبه ففي اللذين أسلما في دار الحرب لا ضمان على المستهلك بالاتفاق وإن كان آثماً في الاستهلاك وفي المستأمن هو ضامن بالاتفاق وفي الأسيرين خلاف كما بينا وهذا لأن وجوب الضمان بالإحراز والتقوم وذلك يكون بالدار لا بالدين فالعصمة بسب الدين إنما تثبت في حق من يعتقد لا في حق من لا يعتقد وتمام الإحراز يكون بما يظهر حساً في حق من يعتقد وفي حق من لا يعتقد وذلك إنما يكون بالدار فلهذا كان الحكم فيه على ما ذكرنا قال‏:‏ ولو غصب أحدهما من صاحبه مالاً ولم يستهلكه حتى خرجا إلينا فإن القاضي يقضي على الغاصب برد المغصوب سواء كانا مستأمنين أو أسيرين أو رجلين أسلما في دار الحر لأن صاحب المال وجد عين ماله في يد الآخر وقد قال صلى الله عليه وآله وسلم‏:‏ من وجد عين ماله فهو أحق به ولأن الغاصب منهما إنما أخذ مال صاحبه بطريق القهر ومال المسلم لا يكون غنيمة للمسلم وهو نظير أهل العدل مع أهل البغي إذا اقتتلوا ثم أخذ أحدهما مال صاحبه فإنه يجبر على الرد بعد ما وضعت الحرب أوزارها إذا كان المال قائماً بعينه وإذا كان مستهلكاً لم يكن المستهلك ضامناً له للمعنى الذي ذكرنا فهذا مثله وهو بخلاف المستأمن فيهم إذا غصب مالاً من حربي ثم أسلم الحربي ووجد ماله قائماً بعينه في يد المسلم فإن القاضي لا يجبره على الرد في الحكم ولكن يفتيه بذلك فيما بينه وبين الله - تعالى - ويقول‏:‏ اتق الله تعالى ورد ما أخذت لأن مال الحربي هناك محل التملك بالقهر حين أخذه المسلم لكن كان عليه التحرز عن الغدر للأمان الذي بينه وبينهم فإنما غدر بأمان نفسه خاصة فلهذا يأمره بالرد على سبيل الفتوى ولا يجبره عليه في الحكم ولو أن حربياً أسلم في دار الحرب ثم باع من مسلم مستأمن عبداً أو اشترى منه عبداً بثمن معلوم وتقابضا ثم خرجا إلى دار الإسلام ثم وجد المشتري بالمشتري عيباً أو استحق من يده بجزية أو غيرها فإن القاضي يقضي على صاحبه برد الثمن إن كان قائماً بعينه في يده وإن استهلكه لم يضمنه شيئاً في الحكم وكذلك إن كانا تبايعا عرضاً بعرض فاستحق أحدهما والعرض الآخر قائم بعينه فإن القاضي يقضي برده ولو كان مستهلكاً لم يضمن المستهلك شيئاً لأن هذه جناية مرت بينهما في دار الحرب وقد كانا مسلمين يومئذ إلا أن الذي أسلم منهما في دار الحرب كان ماله معصوماً في الأثام دون الأحكام فقلنا‏:‏ فيما إذ كان قائماً بعينه القاضي يقضي بالرد وفيما كان مستهلكاً لا يقضي بشيء بمنزلة ما لو كانا مسلمين تبايعا بعد ما أسلما قبل أن يخرجا إلى دار الإسلام وهذا لأنه لما ثبت هذا الحكم في حق الذي أسلم منهما ثبت في حق الآخر أيضاً لوجوب التسوية بين الخصمين شرعاً قال‏:‏ ولو أن مسلماً مستأمناً فيهم اشترى مملوكاً منهم بقيمته فالبيع فاسد بجهالة الثمن كما لو كانت هذه المبايعة في دار الإسلام وهذا لأن المستأمن فيهم إنما يتمكن من أخذ مالهم بطيب أنفسهم وعليه يبني أبو حنيفة - رضي الله تعالى عنه - حكم عقد الربا فيما بينه وبين الحربي وأما فيما سوى ذلك فالمعاملة في دار الحرب ودار الإسلام سواء في حق المسلم لأنه ملتزم حكم الإسلام حيثما يكون فإن قبض المشتري العبد وأعطى القيمة ثم خرج الحربي مسلماً أو ذمياً فأراد أحدهما نقض البيع فإن القاضي لا يسمع الخصومة في ذلك لأنهما تقابضا بالتراضي على وجه التمليك والتملك فتم الملك في البيع لكل واحد منهما بطريق التعاطي وإن كان أصل البيع فاسداً ولو كان المشتري منهما قبض المملوك ولم يدفع القيمة حتى أسلم الحربي فإن القاضي يقضي برد المملوك على البائع لأن المعاملة ما انتهت هاهنا بالتقابض والمشتري إنما أخذ العبد على أن يعطي صاحبه ثمنه وهو لا يتمكن من ذلك للجهالة المتفاحشة في القيمة فكان عليه رد ما أخذ منه ولو دخل الحربي إلينا بأمان لم يسمع القاضي الخصومة في ذلك لأن أصل المعاملة كانت في دار الحرب والمستأمن مال التزم أحكام الإسلام مطلقاً بخلاف ما إذا أسلم أو صار ذمة وعلى هذا لو تبايعا عبداً بأرطال من خمر وتقابضا ثم أسلم الحربي فإن القاضي لا ينقض شيئاً من بيعهما لانتهاء المعاملة بالتقابض وتمام الملك في العبد المشتري للمشتري بالقبض وإن قبض المشتري العبد ولم يعط صاحبه الخمر حتى أسلم الحربي فإن القاضي ينقض البيع ويرد العبد إلى البائع لقيام حكم المعاملة بينهما وعجز المشتري عن تسليم الثمن بعد إسلام الحربي منهما والإجارة قياس البيع في ذلك حتى إذا استأجر أحدهما صاحبه شهراً لعمل معلوم بأجر معلوم أو بخمر فإن عمل له ذلك ثم أسلم الحربي قبل إيفاء الأجر فعلى المستأجر أجر المثل للعامل فيما عمله له وإن كانا تقابضا لم يكن على المستأجر شيء للفقه الذي ذكرنا فإن كان المشتري هلك في يد المشتري أو استهلكه ثم أسلم الحربي قبل قبض الثمن فعلى المشتري قيمة المشتري للبائع لأنه أخذه على أن يعطيه ثمناً ولم يكن أخذه بطريق الغصب والخيانة فلهذا كان المقبوض مضموناً عليه بالقيمة عند تعذر رد العين بخلاف ما إذا اشتراه بميتة أو دم وقبض المشتري ولم يعطه ما شرط حتى أسلم الحربي فإن المشتري يسلم للقابض منهما ولا يلزمه رد شيء من عينه ولا قيمته لأن هذا لم يكن بيعاً بينهما فالبيع يستدعي المالية في البدلين والميتة ليس فيها شبهة المالية وإنما ملك أحدهما صاحبه مالاً بغير عوض فكان هذا والموهوب سواء في الحكم ولو كانت المبايعة بين مسلم مستأمن فيهم وبين رجل أسلم من أهل الحرب والمسألة بحالها فإن أقاض ينقض ما بينهما من البيوع الفاسدة ويكون حالهما في ذلك كحال المستأمنين وهذا قول محمد - رحمه الله تعالى - فأما عند أبي حنيفة - رضي الله تعالى عنه - فيما يجب فيه ضمان القيمة ينبغي أن يكون حالهما كحال ما لو جرت المعاملة بين المسلم والحربي بمنزلة عقد الربا إذا جرى بين هذين فإن الحكم فيه عند أبي حنيفة - رضي الله عنه - كالحكم فيما إذا جرى بين المسلم والحربين ولو جرت هذه المعاملة بين الحربيين ثم أسلما أو صارا ذمة كان الحكم فيه كالحكم فيما إذا جرى بين مسلم وحربي لأنهما ما كانا ملتزمين حكم الإسلام حين جرت المعاملة بينهما قال‏:‏ ولو دخل عسكر من المشركين دار الإسلام ثم دخل إليهم مسلم بأمان فعاملهم بهذه الصفة كان هذا وما لو كان مستأمناً في دار الحرب حين عاملهم سواء لأن العسكر إذا كانوا أهل منعة فحكم الإسلام لا يجري في معسكرهم كما لا يجري في دار الحرب وبناء هذه الأجوبة على الحكم فيما إذا كان الحكم حكم الكفر في الموضع الذي جرت المعاملة فيه وإذا كان الحكم حكم المسلمين فإنه لا يجوز من المعاملة في ذلك الموضع إلا ما يجوز في دار الإسلام ألا تبرى أن عسكر المسلمين لو دخلوا دار الحرب ثم جرت هذه المعاملة في المعسكر فإن حكمها وحكم ما لو جرت في دار الإسلام سواء ألا ترى أنه لو قتل رجل رجلاً في المعسكر عمداً وجب عليه القصاص بمنزلة ما لو قتله في دار الإسلام فعرفنا أن المعتبر جريان الحكم في ذلك الموضع وإذا ظهر هذا في حكم القتل فكذلك في حق المعاملات والله الموفق‏.‏