فصل: الجزء الخامس

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: شرح السير الكبير **


الجزء الخامس

  باب الموادعة

قال أبو حنيفة - رضي الله عنه -‏:‏ لا ينبغي موادعة أهل الشرك إذا كان بالمسلمين عليهم قوة لأن فيه ترك القتال المأمور به أو تأخيره وذلك مما لا ينبغي للأمير أن يفعله من غير حاجة قال الله - تعالى -‏:‏ ‏{‏وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ‏}‏ الأنفال الاية 139 وإن لم يكن بالمسلمين قوة عليهم فلا بأس بالموادعة لأن الموادعة خير للمسلمين في هذه الحالة وقد قال عز وجل‏:‏ ‏{‏وَإِن جَنَحُواْ لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ‏}‏ الأنفال‏:‏ 61 ولأن هذا من تدبير القتال فإن على المقاتل أن يحفظ قوة نفسه أولاً ثم يطلب العلو والغلبة إذا تمكن من ذلك ألا ترى أن الصغير يمص اللبن ما لم تنبت أسنانه ثم يمضغ اللحم بعد نبات الأسنان فبهذا يتبين أن النظر في الموادعة عند ضعف حال المسلمين وفي الامتناع منها والاشتغال بالقتال عند قوة المسلمين واستدل على جواز الموادعة بمباشرة رسول الله صلى الله عليه وسلّم ذلك والمسلمين بعده إلى يومنا هذا‏.‏

فقال قال محمد بن كعب القرظي‏:‏ لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلّم المدينة وادعته يهودها كلها وكتب بينه وبينها كتاباً وألحق كل قوم بحلفائهم وكان فيما شرط عليهم ألا يظاهروا عليه عدواً ثم لما قدم المدينة بعد وقعة بدر بغت يهود وقطعت ما كان بينها وبين رسول الله صلى الله عليه وسلّم من العهد فأرسل إليهم فجمعهم وقال‏:‏ يا معشر يهود أسلموا تسلموا فو الله إنكم لتعلمون أني رسول الله وفي رواية أسلموا قبل أن يوقع الله - تعالى - بينكم مثل وقعة قريش ببدر فصار هذا أصلاً بجوار الموادعة عند ضعف حال المسلمين والإقدام على المقاتلة عند قوتهم فإذا وادعهم وأخذ منهم على ذلك جعلاً فلا بأس به لأنه لما جاز أن يوادعهم بغير شيء يأخذه منهم فالموادعة بمال يأخذه منهم أجور وذلك المال بمنزلة الخراج لا يخمس ولكن يضعه موضع الخراج لأنه مال أهل الحرب حصل في أيدي المسلمين لا بإيجاف الخيل والركاب فلا يكون من الغنيمة في شيء كما أشار الله - تعالى - بقوله‏:‏ فما أوجفتم عليه من خيل ولا ركاب‏:‏ الحشر الآية 6 ولا بأس في هذه الحالة بموادعة المرتدين الذين غلبوا على دارهم لأنه لا قوة للمسلمين على قتالهم فكانت الموادعة خيراً لهم ولكن يكره أخذ الجعل منهم علىالموادعة بخلاف أهل الحرب لأن ما يؤخذ من الموادعة من المال بمنزلة الخراج ولا يحوز أخذ الخراج من المرتدين بعقلد الذمة فكذلك بالموادعة بخلاف أهل الحرب‏.‏

وإن أخذ الإمام ذلك منهم لم يرده عليهم لأنه لا أمان لهم من المسلمين في نفوسهم ولا في أموالهم وبعد ما غلبوا على دارهم فقد صارت دارهم دار الحرب حتى إذا وقع الظهور عليهم يكون مالهم غنيمة للمسلمين‏.‏

فكذلك ما يؤخذ منهم بالموادعة يكون سالماً للمسلمين لا يرد عليهم وإن أسلموا وكذلك لا بأس بموادعة أهل البغي لما بينا والحاجة إلى الموادعة في هذا الفصل أظهر لأنهم ربما يتأملون فيتوبون ويرجعون‏.‏

ولا ينبغي أني يؤخذ منهم على ذلك جعل لأنهم قوم مسلمون لا يجوز أخذ الخراج من رءوسهم والمال المأخوذ بالموادعة بهذه الصفة فإن أخذوه ردوه عليهم إذا وضعت الحرب أوزارها لأنهم مسلمون لو أصيب منهم مال بالقتال وجب رده عليهم بعدما وضعت الحرب أوزارها فكذلك إذا أصيب منهم مال بالموادعة‏.‏

وإذا خاف المسلمون المشركين فطلبوا موادعتهم فأبى المشركون أن يوادعوهم حتى يعطيهم المسلمون على ذلك مالاً فلا بأس بذلك عند تحقق الضرورة لأنهم ذلك بالموادعة أصلاً قال‏:‏ والرءوس الأوساط من رقيق أولئك الحربيين ليس عليهم أن يعطوا الرءوس من غير رقيقهم لأن مطلق التسمية ينصرف إلى ما هو المعروف بالعرف والعرف الظاهر أنهم إنما يلتزمون تسليم الرءوس من رقيقهم إلا أن يسمى المسلمون شيئاً آخر معروفاً فإن العرف يسقط اعتباره عند وجود التسمية بخلافه فإن أتوهم بمائة رأس من أبنائهم أو نسائهم فليس ينبغي للمسلمين أن يأخذوا ذلك منهم لأن الأمان قد تناولهم فصاروا به معصومين عن الاسترقاق ألا ترى أن رجلاً منهم لو باع من مسلم ابنه بعد هذا الأمان لم يجز هذا البيع ولم يملكه المسلم لأجل الأمان فكذلك في الموادعة لا يجوز أخذهم بعد ما تناولهم الأمان ولكن لو كان الملك قاهراً لهم وهم جميعاً مقرون له بالملك يبيع ويهب من شاء منهم فأعطى الملك منهم مائة رأس فلا بأس بذلك لأن القوم مقرون له بالعبودية وبهذا الإقرار صاروا عبيداً له ينفذ تصرفه فيهم بالبيع وغيره فلذلك يجوز أخذهم منه في الرءوس المشروطة عليهم في الموادعة ولو لم يكونوا له مقرين بالعبودية فجاء بمائة رأس وقال‏:‏ هم عبيدي فخذوهم وقال القوم‏:‏ بل نحن أحرار فإن كانت المائة الرأس مقهورين بحشم الملك في أيديهم حين أتونا بهم فلا بأس بأخذهم لأنهم إن كانوا عبيداً لهم فأخذهم حلال لنا وإن كانوا أحراراً فقد صار قاهراً لهم بقوة السلطنة وقوة الحشم فكانوا عبيداً له أيضاُ وهذا لأن ملكهم إذا كان هو الذي يفعل بهم هذا وهذا عندهم جائز في حكمهم أن من قهر إنساناً فاستعبده كان عبداً له أجزنا عليهم من ذلك ما أجازوا على أنفسهم لأنهم شرطوا في أصل الموادعة أن أحكامنا لا تجري عليهم وبهذا الشرط كان الجاري عليهم أحكام الشرك فيجزي عليهم من ذلك ما أجازوا على أنفسهم وبهذا الطريق قال أيضاً وإن علمنا أن المائة الرأس من أحرارهم قهروهم في بلادهم واستعبدوهم ثم جاءونا بهم مقهورين فلا بأس بأخذهم لما قررنا ولو كانوا دخلوا جميعاً دارنا بغير أمان إلا بتلك الموادعة كانوا آمنين بها في دارهم فكذلك بعد خروجهم إلى دار الإسلام فإن قهروا منهم مائة رأس بعد ما خرجوا إلينا لم يسعنا أن نأخذ ذلك منهم ولكنا نمنعهم من قهرهم لأن حكم الإسلام ظاهر في دارنا ومن حكم الإسلام ألا يسترق من المستأمنين أحد وهذا لأن هذا القهر ظلم من القاهرين للمقهورين وعلينا دفع الظلم عن المستأمنين على الوجه الذي ندفع به عن المسلمين وأهل الذمة ألا ترى أنهم بعد هذا القهر والاستعباد في دارنا لو أسلموا أمرناهم بتخلية سبيل المقهورين ولو فعلوا ذلك في دارهم ثم أسلموا كانوا عبيداً لهم ومنعة المسلمين في دار الحرب في هذا الحكم بمنزلة دار الإسلام لأن معنى وجوب دفع الظلم موجود في الفصلين واستدل عليه بحديث طاوس قال في كتاب معاذ بن جبل - رضي الله عنه -‏:‏ من استخمر قوماً أولهم أحرار أو جيران مستضعفون فإن كان قصرهم في بيته حتى يدخل الإسلام بيته فهم له عبيد ومن كان مهملاً يعطي الخراج فهو عتيق ومعنى قوله‏:‏ استخمر استعبد فبهذا تبين أنه إذا تم قهره إياهم قبل ظهور حكم الإسلام في دارهم فهم عبيده وإن كان بعده فهم أحرار فإن كان الموادعون خرجوا إلينا ومعهم مائة رأس لا يدري أمقهورون هم أم غير مقهورين وقالوا‏:‏ هؤلاء عبيدنا جئناكم بهم لتأخذوهم في الفداء وقال القوم‏:‏ كذبوا نحن أحرار مثلهم فالقول قول المائة الرأس لأن هذا الخلاف بينهم في دار الإسلام وحكم المسلمين ومن حكم المسلمين أن من لا ندري كيف كانت حاله فالقول قوله في دعوى الحرية لنفسه حتى يقوم عليه حجة الرق فإن شهد شاهدان أنهم عبيد لهم قبلت الشهادة سواء كان الشهود من المسلمين أو من أهل الذمة أو أهل الحرب لأنها تقوم عليهم بالرق وهم أهل الحرب وشهادة أهل الحرب على أهل الحرب حجة إذا كانوا عدولاً في دينهم وإن قال الذين جاءوا بهم‏:‏ كانوا أحراراً ولكنا قهرناهم بإذن ملكنا في دارنا حتى صاروا عبيداً لنا وقال القوم‏:‏ ما قهرناهم ولا عرضوا لنا إلا عندكم فالقول أيضاً قولهم لأن قهرهم إياهم حادث فيحال بحدوثه على أقرب الأوقات ولأنهم يدعون عليهم سبب الرق وهم ينكرون ذلك ودعوى السبب كدعوى الحكم الثابت بالسبب لأن الأسباب تراد لأحكامها لا لأعيانها فلا يقضى برقهم حتى تقوم الحجة للمدعي كما في الفصل الأول وهذا كله بخلاف ما إذا ادّعى بعضهم على بعض ديناً أو عقداً جرى بينهم في دار الحرب وأقام البينة على ذلك فإنا لا نحكم بينهم في شيء من ذلك ما لم يسلموا أو يصيروا ذمة لأن هناك المنازعة بينهم في معاملة جرت حيث لم يكن حكمنا جارياً عليهم فلا يسمع القاضي الخصومة في ذلك ما لم يلتزموا أحكام الإسلام بأن يسلم الخصمان أو يصيرا ذمة فإن أسلم أحدهما أو صار ذمة لم تسمع فيه الخصومة أيضاً أما على الذي لم يسلم فلأنه غير ملتزم حكم الإسلام وأما على الذي أسلم فلوجوب التسوية بين الخصمين وقضية التسوية ألا يقضي عليه لخصمه في حال لا يقضى له على خصمه فأما في مسألة الرق فالمنازعة في سبب باشروه في دار الإسلام وهو قهر الذين جاءوا بهم وفي مثله القاضي يسمع الخصومة بينهم ألا ترى أن بعضهم لو أقر عند البعض أنه كان عبداً له في دار الشرك ثم أبى أن ينقاد له أجبرناه على الانقياد له كما ينقاد العبد لمولاه لأنه زعم أنه عبد له في دار الإسلام وبمثله لو أقر أحدهم لصاحبه بدين كان عليه في دار الحرب ثم أبى أن يقضيه لم يقض القاضي في ذلك بشيء حتى يسلم الخصمان أو يصيرا ذمة فبهذا يتضح الفرق ولو قبلنا قول الذين يدّعون الرق على المائة الرأس في دارنا أدى إلى تضاد الأحكام فإن المائة الرأس لو ادّعوا على أولئك القوم بل أنتم عبيد لنا فليس الرجوع إلى قول أحد الفريقين بأولى من الرجوع إلى قول الفريق الآخر فلو قال القوم‏:‏ هذه المائة الرأس عبيد لنا وقالت المائة الرأس‏:‏ بل نحن أحرار ولكنا نرضى أن تأخذونا في الفداء لم يسعنا أن نأخذهم لأنهم صاروا في دارنا آمنين والحر الآمن في دارنا لا يجوز استرقاقه بحال رضي بذلك أو لم يرض ألا ترى‏:‏ أن الذين جاءوا بهم لو قالوا‏:‏ هم أحرار مثلنا ولكن خذوهم فهم راضون بذلك لم يسعنا أخذهم لهذا المعنى فكذلك في الأول لأنهم في حكم المسلمين أحرار في الوجهين فلا يصيرون مماليك بمجرد دعوى الرق عليهم من غير حجة فإن قالوا حين رأوا المسلمين‏:‏ لا يأخذونهم نحن عبيدهم كما قالوا وقد كذبنا في ادّعائنا الحرية يسع للمسلمين أن يأخذوهم لأنهم أقروا بعدما أنكروا دعوى الذين ادعوا عليهم الرق والإقرار بعد الإنكار صحيح بمنزلة مجهول الحال إذا ادّعى إنسان أنه عبد له فكذبه ثم صدقه كان عبداً له وإن قال الذين جاءوا بهم أول مرة‏:‏ هم أحرار فخذوهم فهم راضون بذلك فلما رأوا أن المسلمين لا يأخذونهم قالوا‏:‏ هم عبيد لنا وصدقهم المائة الرأس فليس يسع المسلمين أن يأخذوهم لأن حريتهم قد تأكدت في دارنا بتصادقهم علينا أولاً ولأنهم على أحد الوجهين إن كانوا عبيداً لهم فقد كانوا عتقوا بقولهم الأول إنهم أحرار وإن كانوا أحراراً فأبعد وإن قالوا بعد قولهم هم أحرار‏:‏ كذبنا هم عبيد للملك بعثهم معنا لندفعهم إليكم وصدقهم بذلك المائة الرأس وسع للمسلمين أن يأخذوهم بحقهم لأنهم أقروا بالرق على أنفسهم لغير من أقر بحريتهم وحرية مجهول الحال بإقرار المقر إنما تثبت في حقه خاصة لأن حجة الإقرار لا تعدو المقر فثبت الرق عليهم بإقرارهم به للملك فلهذا جاز أخذهم في الفداء فإن صالحوهم في الموادعة على مائة رأس ولم يسموا ذكوراً ولا إناثاً وجب القبول منهم إن جاءوا بذكور أو إناث أو مختلطين لإطلاق التسمية عند الإيجاب فإن تقييد المطلق لا يجوز إلا بدليل ولأنه ليس في تسمية الرأس ما ينبىء عن وصف ليتوجه المطالبة عليهم بالأداء بذلك الوصف وهو نظير الرقبة في الكفارات فإن التكفير يحصل بتحرير رقبة ذكراً كان أو أنثى لهذا المعنى وإن جاءوا بصغار فإن كانوا صغاراً قد استغنوا عن الأمهات فاحتاجوا إلى الأب كان مقبولاً منهم وإن جاءوا بمراضع أو فطم لم يقبل منهم وهذا لأنه ليس في الاسم ما ينبىء عن صفة البلوغ فيستوي فيه البالغ وغير البالغ إلا أن المقصود باشتراط الرءوس عليهم من يكون صالحاً للاستخدام فإذا كان بحيث لا يأكل وحده ولا يلبس وحده ولا يتوضأ وحده فما هو المقصود لا يحصل ولا يتم بهم لأنهم يحتاجون إلى من يخدمهم ولا يقومون في الحال بخدمة غيرهم وأما إذا استغنوا عن الأمهات فالمقصود وهو الاستخدام يحصل بهم وكذلك من حيث المالية فإن انتقاص المالية بسبب الصغر إنما يكون قبل استغناء الصغير عن الأم فأما بعد الاستغناء عن ذلك فالمالية لا تنقص بالصغر عادة فإذا جاءوا بهذا النوع من أوساط رقيقهم وجب القبول منهم ولا يمنع من القبول لمكان أمهاتهم في دار الحرب لأن التفريق بين الصغار والأمهات ها هنا ليس من جهة المسلمين وإنما فعل ذلك المشركون وهو نظير مستأمن في دارنا له جارية ولها ابن صغير فباع الأم دون الابن أو الابن دون الأم من المسلمين جاز الشراء منهم لأن الحربي هو الذي يفرق بينهما دون المسلم ولو لم يشتر أحدهما منه رجع بهما إلى دار الحرب فكان في ذلك عون للمشركين إما بهما أو بنسلهما ومراعاة هذا الجانب أولى من مراعاة جانب التفريق بين الأم والولد الصغير فكذلك ما سبق قال‏:‏ وإذا شرطوا في الموادعة أن يعطوهم مائة رأس من رقيق المسلمين الذين عندهم فجاءوا برقيقهم أو بقيمة مائة رأس من رقيق المسلمين فللمسلمين ألا يقبلوا ذلك منهم ولا يكون هذا الإباء نقضاً منهم للعهد لأن المنفعة المشروطة للمسلمين لا تتم بما جاءوا به فإنهم شرطوا ذلك لتخليص رقيق المسلمين من ذلهم وبما جاءوا به من القيمة أو من رقيقهم لا يحصل هذا المقصود وإن كانوا رهنوا عند المسلمين رهناً بذلك فهم في سعة من ألا يدفعوا إليهم رهنهم حتى يأتوا بما شرطوا بمنزلة ما لو شرطوا الجياد ثم جاءوا بالزيوف ففي هذا اللفظ إشارة إلى أن حكم الجنس يثبت في الرهن بالرءوس وهذا لأن الرءوس تثبت في الموادعة باعتبار المالية ديناً والرهن بمثله صحيح وإن كانوا بالغين فقد بينا أن مثله جائز فيما بين المسلمين وأهل الحرب في الأحرار ففي المماليك أولى فإن علم المسلمون أنه ليس عندهم مائة رأس من رقيق المسلمين فحينئذ يقبلون منهم قيمة مائة رأس من رقيق المسلمين أوساط منهم لأن العجز عن تسليم المسمّى قد تحقق مع بقاء السبب الموجب للتسليم فيجب تسليم القيمة‏.‏

قال‏:‏ ولو كانوا اشترطوا في الصلح مائة قوس أو مائة درع حديد أو مائة سيف فهذا واشتراط مائة رأس سواء في أنه يقبل منهم ما جاءوا به من غير المسمى أو قيمته وكذلك إن شرطوا ذلك من كراع المسلمين وسلاحهم بخلاف ما سبق فإن هناك إذا شرطوا ذلك من رقيق المسلمين لم تقبل القيمة لأن رقيق المسلمين من أهل دار الإسلام وفي اشتراطهم منفعة تخليصهم من أهل الحرب وهذا المقصود لا يحصل بالقيمة فأما الكراع والسلاح فليس من ذلك في شيء سواء شرطوه مطلقاً أو مما كان للمسلمين ألا ترى أن الحربي لو دخل إلينا بأمان ومعه كراع وسلاح وقد كان للمسلمين فأحرزوه لم يكن ممنوعاً من رده إلى دار الحرب ولو كان معه عبد مأسور من مسلم أو معاهد قد أحرزوه لم يكن له أن يرده وأجبر علي بيعه فبه يتضح الفرق بين الفصلين ولو كانوا شرطوا في الموادعة مائة ثوب في كل سنة أو مائة دابة كانت الموادعة فاسدة لأن الثياب أجناس مختلفة والدواب كذلك فالاسم حقيقة يتناول كل ما يدب على الأرض وحكماً يتناول الخيل والبغال والحمير ومع جهالة الجنس لا يصح التسمية في شيء من العقود بخلاف تسمية الرأس فالجنس هناك معلوم فإنما بقيت الجهالة في الصفة وهي لا تمنع صحة التسمية فيما بني أمره على التوسع كالنكاح وأخواتها فينبغي للمسلمين أن ينبذوا إليهم حتى يوادعوهم على أمر بين وإن لم يفعلوا ذلك حتى مضت السنة ووجب الفداء كان ذلك إلى المشركين يعطونهم من أي صنف شاءوا وسطاً من ذلك النوع لأن المال عليهم فيكون القول في بيان الجنس الواجب قولهم كمن أقر لإنسان بثوب كان بيان الجنس فيه إلى المقر ولو أوصى لإنسان بثوب كان بيان الجنس فيه إلى الوارث القائم مقام المورث وهذا لأن بعد مضي المدة يتعين منفعة المسلمين في الرجوع إلى بيانهم في الجنس إذ لو لم يرجع إلى ذلك واعتبرنا الجهالة لم يسلم للمسلمين شيء وبه فارق النكاح فإن هناك وإن دخل بها الزوج لا يرجع بشيء في بيان جنس الثوب إليه لأن هناك قد وجب ما هو البدل الأصلي المملوك بالنكاح وهو مهر المثل فاندفع الضرر عنها به فلا حاجة إلى الرجوع إلى بيان الزوج ولو كانت الموادعة على مائة رأس فأقر قوم من أهل الحرب من أحرارهم أنهم عبيد الملك فبعث بهم الملك إلى المسلمين لحقهم وقد علم المسلمون أنهم أحرار الأصل فإن كانوا أقروا بذلك في دار الإسلام لم يلتفت إلى إقرارهم لأنهم حصلوا آمنين في دارنا وقد تأكدت حريتهم المعلومة بذلك فلا يبطل ذلك بإقرارهم بالرق بخلاف ما إذا لم يعرف حالهم فإن هناك بدخولهم إلى دار الإسلام لا تتأكد حريتهم لأنها لم تكن معلومة ألا ترى‏:‏ أن مجهول الحال في دار الإسلام إذا أقر بالرق على نفسه كان ذلك مقبولاً منه بخلاف ما إذا كان معلوم الحرية في الأصل فأقر على نفسه بالرق‏.‏

وإن كانوا أقروا بهذا في دار الحرب طوعاً فهذا والأول سواء إلا أن يكون في حكم المشركين أن من أقر منهم بالرق لإنسان فهو عبد له فإذا كان كذلك كانوا عبيداً يقبلهم في الفداء لأن حريتهم في دار الحرب ليست بحرية قوية ألا ترى‏:‏ أنها تنتقض بالاسترقاق إذا لم يكن بيننا وبينهم موادعة وبعد الموادعة بيننا وبينهم لا موادعة فيما بينهم للبعض مع البعض فالمقر له يتم استرقاقه للمقرين بالرق إذا كان ذلك من حكمهم فصاروا عبيداً له ولا يتم استرقاقه لهم إذا لم يكن ذلك من حكمهم كما لا يتم ذلك في دار الإسلام لأنه ليس من حكم الإسلام استرقاق الحر ألا ترى‏:‏ أنهم لو أسلموا بعد هذا الإقرار فإن كان من حكمهم الاسترقاق بسبب الإقرار كانوا عبيداً للمقر له وإذا لم يكن ذلك من حكمهم كانوا أحراراً على ما علم من أصلهم وأوضح هذا بقوم من حكم ملكهم أن السارق يجعل عبداً للمسروق منه فحكم بذلك بينهم ثم أسلموا فإنه يكون السارق عبداً على ما جرى الحكم به سواء كانوا موادعين لنا حين حكم بذلك أو لم يكونوا لأن حكم الإسلام كان لا يجري في ديارهم بالموادعة كما شرطوا ذلك والإقرار في حق المقر يلزم كقضاء القاضي وإذا كان هذا الحكم يثبت بقضاء قاضيهم فكذلك يثبت بإقرار المقر على نفسه بالرق وعلى هذا لو كانت الموادعة بيننا وبين أهل الدارين من المشركين كل دار لها ملك على حدة ثم أغار بعضهم على بعض فجاءنا كل فريق بمائة رأس ممن أسروهم من الفريق الآخر فإنا نأخذ ذلك منهم لأنه لا موادعة فيما بين الدارين وإنما الموادعة بيننا وبينهم وهم فيما بينهم على ما كانوا عليه قبل الموادعة بينا وبينهم وهم فيما بينهم على ما كانوا عليه قبل الموادعة يملك بعضهم بعضاً بالأسر حتى لو أسلموا أو صاروا ذمة كان ذلك سالماً لهم ولو أرادوا بيعهم في دار الإسلام جاز الشراء منهم فكذلك يجوز أخذهم في الفداء وكذلك إن كانوا أهل دار واحدة وفي حكمهم أن من قهر صاحبه كان عبداً له على ما هو المعروف بين الديلم فإنهم أهل دار واحدة ثم يغير بعضهم على بعض وهذا لأنه لا موادعة فيما بينهم للبعض مع البعض فالقاهر يملك المقهور إذا تم قهره باعتبار حكم ملكهم ويصير المقهور عبداً له وعلى هذا لو غصب بعضهم مالاً ثم أسلموا واختصموا في ذلك فإن القاضي ينظر في حكمهم قبل أن يسلموا فإن علم أن من حكمهم أن الغاصب يملك المغصوب بالغصب لم يأمر الغاصب برد شيء وإن علم أن ذلك ليس من حكمهم ولكنهم لم يأمروه بالرد لأنهم لم يعلموا به أو لأن المالك لم يخاصمه فإن القاضي يأمره بالرد لأن المباح يملك بالأحرار وإحراز الغاصب باعتبار يده يتم إذا كان من حكم ملكهم أن الغصب من أسباب الملك ولا يتم إحرازه إذا لم يكن ذلك من حكم ملكهم لتمكن المغصوب منه من أن يخاصمه إلى ملكهم ليسترده منه والإسلام بعد تمام الإحراز يقرر الملك وقبل ثبوت الملك لوجود سببه لا يوجب الملك ألا ترى أنهم لو أخذوا مالاً من المسلمين ثم أسلموا قبل الإحراز بدارهم أمروا برده بخلاف ما لو أسلموا بعد الإحراز بدارهم ولو كان استهلكه قبل أن يسلموا ثم أسلموا لم يكن عليه في ذلك ضمان في الوجهين لأن وجوب الضمان باعتبار العصمة والتقوم في المحل وذلك لم يكن موجوداً فأما وجوب رد العين لا يستدعي العصمة والتقوم في المحل ألا ترى‏:‏ أن مسلماً لو غصب من مسلم خمراً أمر بردها عليه إذا كانت قائمة بعينها ولو كان استهلكها لم يضمن له شيئاً من مثل أو قيمة فإن كان القوم لا موادعة بينهم وبين المسلمين فخرج الغاصب بالمغصوب إلى دارنا وهو مسلم أو ذمي ثم جاء صاحبه مسلماً أو ذمياً أو مستأمناً فخاصمه في ذلك لم يكن له عليه سبيل في الوجهين لأنه وإن لم يكن من حكم ملكهم أن الغصب سبب الملك فمن حكم المسلمين أن إحراز مال أهل الحرب الذين لا موادعة لهم بدار الإسلام سبب تام للملك وإن كان القوم في موادعة من المسلمين والمسألة بحالها فإن كانا خرجا إلينا بتلك الموادعة أو خرج أحدهما بتلك الموادعة وخرج الآخر مسلماً أو ذمياً لم يحكم القاضي بينهما بشيء لأنهما لم يلتزما حكم الإسلام وهذه معاملة كانت جرت بينهم في دار الحرب فهو بمنزلة المعاملة التي جرت بينهم في دار الحرب وإن خرجا مسلمين فحينئذ يأمر الغاصب بالرد لأنه لم يكن من حكم ملكهم أن الغصب من أسباب الملك فلم يتم إحرازه عند الأخذ‏.‏

وكذلك لا يتم إحرازه حين أخرجه إلى دارنا لأنه أخرج مال من هو أهل موادعينا وذلك غير موجب للملك فلهذا أمره بالرد قال‏:‏ بلغنا أن أناساً من المسلمين استعاروا عواري من المشركين فلما افتتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة هموا ألا يردوا عليهم تلك العواري فخطب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال‏:‏ العارية مؤداة والمنيحة مردودة والزعيم غارم فصار هذا أصلاً فيما ذكرنا أنه إذا لم يتم إحرازه قبل أن يصير ذلك الموضوع دار الإسلام فإنه يؤمر برده بعد ما صار ذلك الموضع دار الإسلام ولو أن المغصوب منه خاصم الغاصب إلى ملكهم فزعم الغاصب أن العين له وأنه لم يغصبه إياه فأقرها ملكهم في يده وكلف المدّعي إقامة البينة فلم يأت ببينة حتى أسلم أهل الدار أو صاروا ذمة يسلم للغاصب ما كان غصبه من ذلك لأن إحرازه قد تم بتقرير ملكهم ليده في تلك العين فلا يبقى للمغصوب منه سبيل إلى العين ما لم يقم البينة ولا ندري أيقدر على ذلك أو لا يقدر وبعد إقامة البينة يعدل شهوده أو لا يعدلون فإن قال المغصوب منه بعدما أسلموا‏:‏ أنا أقيم البينة على حقي من المسلمين لا يقبل ذلك منه لأنه لما تم إحراز الغاصب قبل الإسلام فملكه تقرر بالإسلام‏.‏

وهذا لفقه وهو أن منع ملكهم المغصوب منه من أخذ متاعه من يد الغاصب بمنزلة أخذه منه قهراً ودفعه إلى الغاصب ولو فعل ذلك لم يشكل أنه يتم إحراز الغاصب له لأنه إذا كان يتم إحرازه باعتبار حكم ملكهم فلأن يتم بقوته حين أخذه فدفعه إليه أو منعه منه كان أولى وكذلك لو كان الغاصب أخذ ابناً صغيراً لإنسان منهم لا يعبّر عن نفسه فقال‏:‏ هو عبدي وقال الأب‏:‏ هو ابني فهذا وفصل غصب المال سواء في جميع ما ذكرنا وكذلك لو كان ذو اليد يزعم أنه عبده وادّعى رجل أنه ابنه ورأى ملكهم أن يصدق مدّعي البنوة فأخذه ودفعه إليه حتى يأتي الآخر بالبينة أنه عبده ثم أسلموا أو صاروا ذمة فأقام المولى البينة أنه عبده فإن قاضي المسلمين يجعله حرباً ابناً للذي ادّعاه لأن حكم ملكهم قد أخرجه من يده وأبطل ملكه فيه وجعله حراً ابناً للآخر فلا يتمكن من أن يثبت بالبينة ملكاً قد أبطله حكمهم حين كانوا حراً لنا أو موادعين لا يجري عليهم أحكامنا وعلى هذا حكم الميراث فإنه لو مات منهم رجل ومن حكم ملكهم توريث البنين دون البنات أو البنات دون البنين فحكم بذلك ثم أسلموا فجميع ما صنع ملكهم في ذلك ماض لأنهم كانوا ملتزمين لحكمه راضين به حين حكم بينهم بذلك وكان هو سلطاناً غالباً عليهم فتم ما صنعه بينهم فلا يشتغل بإبطال شيء منه بعد الإسلام وكذلك لو أخذه البنون بغير حكم من ملكهم إلا أن ذلك معلوم من حكمه فهذا وما لو أخذوه بحكمه سواء لأنهم لو خاصموا في ذلك عنده قرره في أيديهم فبمجرد الأخذ يتم إحرازهم لذلك باعتبار حكهمه وقوته ولو كان الآخذ استهلك المأخوذ من حكم ملكهم أنه لا حق له في ذلك فاختصموا عنده وقضي بقيمته للمدّعي فلم يدفعها إليه حتى أسلما فلا شيء له عليه لأن القيمة دين في الذمة ولا يتم الإحراز فيه قبل القبض باعتبار الحكم فكان وجود القضاء به وعدمه سواء ولو أسلموا بعد الاستهلاك قبل القضاء لم يقض القاضي على المستهلك بشيء لانعدام العصمة والتقوم في المستهلك فكذلك ها هنا وإن كان المغصوب عبداً فأعتقه الغاصب حين سلمه له ملكهم وخلى سبيله ثم أقام المدّعي البينة على حقه فأخذه بقضاء ملكهم ثم أسلموا جميعاً كان عبداً للمدّعي وكان عتق المدّعي عليه باطلاً إما لأن إعتاق الحربي عبده في دار الحرب غير نافذ إذا كان من حكم ملكهم ألا يمنع المعتق من استرقاق المعتق أو لأنه صار مقهوراً لحكم ملكهم لكونه عبداً للمدّعي ولو كان حر الأصل فأخذه أحد وأقام البينة أنه عبد له فقضى به ملكهم له كان عبداً له فكذلك إذا كان معتقاً فقضى الملك بأنه عبد للمدّعي وسلمه إليه ولو أن حربياً من غير أهل الموادعة أسر عبداً من عبيد المسلمين وأحرزه بدارهم ثم غصبه منه غاصب فقال‏:‏ هو عبدي وأعتقه ثم أسلموا فأقام الذي أحرزه البينة على حقه ومن حكم ملكهم رده عليه فإن عتق الذي أعتقه باطل لأنه لم يملكه حين لم يتم الإحراز بخلاف ما إذا كان من حكم ملكهم أن يملكه الغاصب بالغصب فإن إعتاقه هناك نافذ لتمام إحرازه ثم لا يرد رقيعاً بعد ذلك لأن إحرازه قد تم حين أقره ملكهم في يده ومنع الآخر من أخذه منه‏.‏

فإن جاء الآخر بالبينة بعد ذلك فقضى به ملكهم له ودفعه إليه ثم أسلموا أو صاروا ذمة فهو حر بالبينة لأنه بعد ما نفذ العتق فيه فحكم ملكهم بالرق على المسلم باطل ولأن الحرية لما تأكدت بالإسلام لم يكن بمحل النقض فلا ينتقض بحكم ملكهم برقه بعد ذلك بخلاف ما سبق ولو كان الغاصب إنما أعتق المأسور قبل أن يقره ملكهم في يده والمسألة بحالها ثم أسلموا فالمأسور عبد لأن إعتاقه قبل أن يتم إحرازه كان باطلاً قال‏:‏ ولو دخل مسلم دار الحرب بأمان فغصبه حربي مالاً ثم أسلموا أو صاروا ذمة فإن كان من حكم ملكهم أن الغصب سبب التملك سواء كان المغصوب منه مستأمناً أو مسلماً أو حربياً فلا سبيل للمسلم على متاعه لأنه إحراز الغاصب قد تم باعتبار حكم ملكهم وسلطنته في دارهم فكان هذا والمال الذي يأخذه من المسلم في دار الإسلام فيحرزه بدار الحرب في الحكم سواء وإن كان من حكم ملكهم رد ذلك المال على صاحبه فلم يختصما حتى أسلم أهل الدار رد ذلك على المستأمن لأن إحراز الغاصب لم يتم فإنه مقهور ممنوع مما صنع لحكم ملكهم وفي الأول هو قاهر مقر على ما صنع بحكم ملكهم وإن لم يعلم كيف كان حكمهم في ذلك فالمال مردود على المسلم المستأمن لأن الملك له في الأصل معلوم وسبب التملك عليه وهو الإحراز التام غير معلوم ولأنا نعلم أن الغصب ليس بموجب للملك بنفسه فما لم يعلم خلاف ذلك من قوم عل وجه يكون ذلك معتبراً بينهم يجب بناء الحكم على المعلوم فإن اختصما إلى ملكهم فجحد الغاصب وقال‏:‏ هذا ملكي ما أخذته منه فاقره ملكهم في يده حتى يأتي المسلم بحجة ثم أسلموا فذلك سالم للغاصب لأن إحرازه فيه قد تم بتقرير ملكهم ليده في تلك العين وإن أقام المسلم البينة فأخذه حاكمهم من الغاصب ودفعه إليه كان له ولا خمس فيه لأنه أعاده إلى ملكه بحكمه وقد كان السبب لخروجه عن ملكه مثل هذا إذ الشيء ينفسخ بما هو مثله ولأن السلم صار محرزاً لذلك المال حين أخذه وتم إحرازه بقوة ملكهم فكان ملكاً له ولهذا لا يجب الخمس فيه لأنه ما يملكه بسبب فيه إعزاز الدين وكذلك لو أدّعى المسلم المستأمن عبداً في يد بعضهم باطلاً وأقام بينة فأخذه ملكهم من الحربي ودفعه إليه ثم أسلم فهو له لتمام إحرازه بحكم ملكهم ولكن ينبغي له أن يرده على صاحبه لأن هذا غدر منه بمنزلة ما لو أخذ مال بعضهم سراً فأخرجه وهناك يفتي بالرد لأنه إنما غدر أمان نفسه فهذ مثله قال‏:‏ وإن كان أهل تلك الدار موادعين للمسلمين أخذ حاكم المسلمين ذلك المال ورده على صاحبه لأنه غدر بأمان المسلمين وفي هذا الموضع يثبت ولاية الإجبار على الرد بخلاف الأول وعلى هذا لو غصب متاعاً من بعضهم فخاصمه إلى الحاكم فجحده وقال‏:‏ الله ملكي فأقره حاكمهم في يده حتى يأتي الحربي بالبينة ثم أسلموا فيهو للمسلم ويفتي برده من غير أن يجبر عليه إذا لم يكونوا موادعين وإن كانوا موادعين للمسلمين أخذوه منه فردوه على صاحبه لأن معنى الغدر منه ها هنا أظهر منه في الفصل الأول فإنه جابر بالغصب والأخذ من يده ولو أن حربياً من الموادعين أو غير الموادعين كاتب عبداً له ثم أسلموا كانت الكتابة جائزة لأن الكتابة بمنزلة البيع الشراء من حيث إنه تصرف يعتمد المراضاة فإن قهره بعدما كاتبه وأبطل مكاتبته ثم أسلموا فإن كان من حكم ملكهم أن من فعل هذا بمكاتبه بطلت مكاتبته قضى قاضي المسلمين بذلك لأن ملك اليد الثابت للمكاتب بعقد المكاتبة لا يكون فوق حقيقة الحرية التي ثبتت بالإعتاق وقد بينا أن هناك إذا استعبده بعد الإعتاق نظر إلى حكم ملكهم في ذلك فيبتنى الحكم على ذلك بعد ما أسلموا فكذلك في المكاتبة وإن كان حين أبطل مكاتبته وليس من حكم ملكهم إبطال ذلك أخرجه إلى دار الإسلام قاهراً له فإن كانوا موادعين للمسلمين منعه القاضي منه وإن كانوا غير موادعين للمسلمين فهو عبد له يصنع به ما أحب لأن إحرازه إياه بدار الإسلام يتم إذا لم يكونوا موادعين لنا ولا يتم موجباً ملكه إذا كانوا موادعين لنا ولو كان عبده قد أسلم ثم أعتقه أو كاتبه ثم استعبده بعد ذلك لم تبطل كتابته وعتقه بإبطاله لأن الحرية ملك يد المكاتب قد تأكد بإسلامه فلا يتمكن الحربي من إبطال ذلك ولا ملكهم لما بينا أن حكمه على المسلم باطل فيما لا يحتمل الإبطال وهو نقض الحرية ولأن حكمه إنما ينفذ فيما يحتمل النقل من ملك إلى ملك والمعتق والمكاتب المسلم غير محتمل لذلك ولو كان دبر هذا العبد قبل أن يسلم العبد فتدبيره باطل لأن المدبر بالتدبير لا يخرج من يد مولاه بل هو في يده على حاله مقهور في حكم الإسلام بعد التدبير كما كان قبله بخلاف الإعتاق والمكاتبة فإنهما يسقطان يد المولى عن المملوك بحكم الإسلام وإذا لم يكن من حكم ملكهم تمكن العتق من استعباد المعتق فقد تم خروجه من يده لهذا إذا أسلم بعد الإعتاق أو الكتابة كان على حاله وإذا أسلم بعد التدبير كان عبداً لمولاه يبيعه ويصنع به ما أحبه ولو كان دبره بعدما أسلم العبد كان مدبراً لأن حق الحرية قد تأكد بإسلام المملوك كما دبره ومن حكم الإسلام أن المدبر لا يحتمل التمليك فبإثبات اليد عليه بعدما صح التدبير واستحق به الولاء قلنا‏:‏ بأنه لا يبطل تدبيره بخلاف ما سبق إلا أن المولى إذا صار ذمياً بعد ذلك فإن المدبر يستسعى في قيمته لأن إخراجه من ملكه مستحق وذلك بالبيع متعذر فيصار إلى إخراجه من ملكه بالاستسعاء ولو كان الحربي أخرج عبده مع نفسه بأمان إلى دارنا ثم دبره جاز تدبيره لأنه فعل ذلك حيث يجري عليه حكم المسلمين وقد التزم هذا الحكم حين خرج إلينا بأمان فلهذا لا يقدر على بيعه ولو عاد به إلى دار الحرب بطل تدبيره لأن حكم ذلك الأمان قد بطل فصار حاله وحال ما لو فعل ذلك في دار الحرب سواء وهذا بخلاف الاستيلاد فإنه إذا استولد أمته في دار الحرب أو في دارنا بعدما خرج بأمان فهي أم ولد على كل حال لأن الاستيلاد تبع لنسب والنسب يثبت في دار الحرب على الوجه الذي يثبت في دار الإسلام فكذلك ما يبتنى عليه وهو الاستيلاد وكما لا ينبغي للمسلم أن يشتري منه ابنه بحال فكذلك لا ينبغي أن يشتري منه أم ولده بحال بخلاف التدبير على ما قررنا والله أعلم‏.‏