فصل: فَصْلٌ فِي هَدْيِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي عِلَاجِ يُبْسِ الطّبْعِ وَاحْتِيَاجِهِ إلَى مَا يُمَشّيهِ وَيُلَيّنُهُ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: زاد المعاد في هدي خير العباد (نسخة منقحة)



.عِلَاجُ ابْنِ تَيْمِيّةَ لِلْمَصْرُوعِ:

وَشَاهَدْتُ شَيْخَنَا يُرْسِلُ إلَى الْمَصْرُوعِ مَنْ يُخَاطِبُ الرّوحَ الّتِي فِيهِ وَيَقُولُ قَالَ لَك الشّيْخُ اخْرُجِي فَإِنّ هَذَا لَا يَحِلّ لَك فَيُفِيقُ الْمَصْرُوعُ وَرُبّمَا خَاطَبَهَا بِنَفْسِهِ وَرُبّمَا كَانَتْ الرّوحُ مَارِدَةً فَيُخْرِجُهَا بِالضّرْبِ فَيُفِيقُ الْمَصْرُوعُ وَلَا يَحُسّ وَكَانَ كَثِيرًا مَا يَقْرَأُ فِي أُذُنِ الْمَصْرُوعِ {أَفَحَسِبْتُمْ أَنّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ} [الْمُؤْمِنُونَ 115]. وَحَدّثَنِي أَنّهُ قَرَأَهَا مَرّةً فِي أُذُنِ الْمَصْرُوعِ فَقَالَتْ الرّوحُ نَعَمْ وَمَدّ بِهَا صَوْتَهُ. قَالَ فَأَخَذْت لَهُ عَصًا وَضَرَبْته بِهَا فِي عُرُوقِ عُنُقِهِ حَتّى كَلّتْ يَدَايَ مِنْ الضّرْبِ وَلَمْ يَشُكّ الْحَاضِرُونَ أَنّهُ يَمُوتُ لِذَلِكَ الضّرْبِ. فَفِي أَثْنَاءِ الضّرْبِ قَالَتْ أَنَا أُحِبّهُ فَقُلْتُ لَهَا: هُوَ لَا يُحِبّك قَالَتْ أَنَا أُرِيدُ أَنْ أَحُجّ بِهِ فَقُلْت لَهَا: هُوَ لَا يُرِيدُ أَنْ يَحُجّ مَعَك فَقَالَتْ أَنَا أَدَعُهُ كَرَامَةً لَك قَالَ قُلْتُ لَا وَلَكِنّ طَاعَةً لِلّهِ وَلِرَسُولِهِ قَالَتْ فَأَنَا أَخْرُجُ مِنْهُ قَالَ فَقَعَدَ الْمَصْرُوعُ يَلْتَفِتُ يَمِينًا وَشِمَالًا وَقَالَ مَا جَاءَ بِي إلَى حَضْرَةِ الشّيْخِ قَالُوا لَهُ وَهَذَا الضّرْبُ كُلّهُ؟ فَقَالَ وَعَلَى أَيّ شَيْءٍ يَضْرِبُنِي الشّيْخُ وَلَمْ أُذْنِبْ وَلَمْ يَشْعُرْ بِأَنّهُ وَقَعَ بِهِ ضَرْبٌ أَلْبَتّةَ. وَكَانَ يُعَالِجُ بِآيَةِ الْكُرْسِيّ وَكَانَ يَأْمُرُ بِكَثْرَةِ قِرَاءَتِهَا الْمَصْرُوعَ وَمَنْ يُعَالِجُهُ بِهَا وَبِقِرَاءَةِ الْمُعَوّذَتَيْنِ.

.الْتِفَاتُ الْمُصَنّفِ إلَى خَرَابِ الْقُلُوبِ:

وَبِالْجُمْلَةِ فَهَذَا النّوْعُ مِنْ الصّرْعِ وَعِلَاجِهِ لَا يُنْكِرُهُ إلّا قَلِيلُ الْحَظّ مِنْ الْعِلْمِ وَالْعَقْلِ وَالْمَعْرِفَةِ وَأَكْثَرُ تَسَلّطِ الْأَرْوَاحِ الْخَبِيثَةِ عَلَى أَهْلِهِ تَكُونُ مِنْ جِهَةِ قِلّةِ دِينِهِمْ وَخَرَابِ قُلُوبِهِمْ وَأَلْسِنَتِهِمْ مِنْ حَقَائِقِ الذّكْرِ وَالتّعَاوِيذِ وَالتّحَصّنَاتِ النّبَوِيّةِ وَالْإِيمَانِيّةِ فَتَلْقَى الرّوحُ الْخَبِيثَةُ الرّجُلَ أَعْزَلَ لَا سِلَاحَ مَعَهُ وَرُبّمَا كَانَ عُرْيَانًا فَيُؤَثّرُ فِيهِ هَذَا. وَلَوْ كُشِفَ الْغِطَاءُ لَرَأَيْت أَكْثَرَ النّفُوسِ الْبَشَرِيّةِ صَرْعَى هَذِهِ الْأَرْوَاحُ الْخَبِيثَةُ وَهِيَ فِي أَسْرِهَا وَقَبْضَتِهَا تَسُوقُهَا حَيْثُ شَاءَتْ وَلَا يُمْكِنُهَا الِامْتِنَاعُ عَنْهَا وَلَا مُخَالَفَتُهَا وَبِهَا الصّرْعُ الْأَعْظَمُ الّذِي لَا يُفِيقُ صَاحِبُهُ إلّا عِنْدَ الْمُفَارَقَةِ وَالْمُعَايَنَةِ فَهُنَاكَ يَتَحَقّقُ أَنّهُ كَانَ هُوَ الْمَصْرُوعَ حَقِيقَةً وَبِاَللّهِ الْمُسْتَعَانُ. الْإِيمَانِ بِمَا جَاءَتْ بِهِ الرّسُلُ وَأَنْ تَكُونَ الْجَنّةُ وَالنّارُ نُصْبَ عَيْنَيْهِ وَقِبْلَةَ قَلْبِهِ وَيَسْتَحْضِرُ أَهْلَ الدّنْيَا وَحُلُولَ الْمَثُلَاتِ وَالْآفَاتِ بِهِمْ وَوُقُوعَهَا خِلَالَ دِيَارِهِمْ كَمَوَاقِعِ الْقَطْرِ وَهُمْ صَرْعَى لَا يُفِيقُونَ وَمَا أَشَدّ دَاءَ هَذَا الصّرْعِ وَلَكِنْ لَمّا عَمّتْ الْبَلِيّةُ بِهِ بِحَيْثُ لَا يَرَى إلّا مَصْرُوعًا لَمْ يَصِرْ مُسْتَغْرَبًا وَلَا مُسْتَنْكَرًا بَلْ صَارَ لِكَثْرَةِ الْمَصْرُوعِينَ عَيْنَ الْمُسْتَنْكَرِ الْمُسْتَغْرَبِ خِلَافَهُ. فَإِذَا أَرَادَ اللّهُ بِعَبْدٍ خَيْرًا أَفَاقَ مِنْ هَذِهِ الصّرْعَةِ وَنَظَرَ إلَى أَبْنَاءِ الدّنْيَا مَصْرُوعِينَ حَوْلَهُ يَمِينًا وَشِمَالًا عَلَى اخْتِلَافِ طَبَقَاتِهِمْ فَمِنْهُمْ مَنْ أَطْبَقَ بِهِ الْجُنُونُ وَمِنْهُمْ مَنْ يُفِيقُ أَحْيَانًا قَلِيلَةً وَيَعُودُ إلَى جُنُونِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يُفِيقُ مَرّةً وَيُجَنّ أُخْرَى فَإِذَا أَفَاقَ عَمِلَ عَمَلَ أَهْلِ الْإِفَاقَةِ وَالْعَقْلِ ثُمّ يُعَاوِدُهُ الصّرْعُ فَيَقَعُ فِي التّخَبّطِ.

.فصل صَرْعُ الْأَخْلَاطِ:

وَأَمّا صَرْعُ الْأَخْلَاطِ فَهُوَ عِلّةٌ تَمْنَعُ الْأَعْضَاءَ النّفْسِيّةَ عَنْ الْأَفْعَالِ وَالْحَرَكَةِ وَالِانْتِصَابِ مَنْعًا غَيْرَ تَامّ وَسَبَبُهُ خَلْطٌ غَلِيظٌ لَزِجٌ يَسُدّ مَنَافِذَ بُطُونِ الدّمَاغِ سُدّةً غَيْرَ تَامّةٍ فَيَمْتَنِعُ نُفُوذُ الْحِسّ وَالْحَرَكَةِ فِيهِ وَفِي الْأَعْضَاءِ نُفُوذًا تَامّا مِنْ غَيْرِ انْقِطَاعٍ بِالْكُلّيّةِ وَقَدْ تَكُونُ لِأَسْبَابٍ أُخَرَ كَرِيحٍ غَلِيظٍ يُحْتَبَسُ فِي مَنَافِذِ الرّوحِ أَوْ بُخَارٍ رَدِيءٍ يَرْتَفِعُ إلَيْهِ مِنْ بَعْضِ الْأَعْضَاءِ أَوْ كَيْفِيّةٍ لَاذِعَةٍ فَيَنْقَبِضُ الدّمَاغُ لِدَفْعِ الْمُؤْذِي فَيَتْبَعُهُ تَشَنّجٌ فِي جَمِيعِ الْأَعْضَاءِ وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَبْقَى الْإِنْسَانُ مَعَهُ مُنْتَصِبًا بَلْ يَسْقُطُ وَيَظْهَرُ فِي فِيهِ الزّبَدُ غَالِبًا. وَهَذِهِ الْعِلّةُ تُعَدّ مِنْ جُمْلَةِ الْأَمْرَاضِ الْحَادّةِ بِاعْتِبَارِ وَقْتِ وُجُودِهِ الْمُؤْلِمِ خَاصّةً وَقَدْ تُعَدّ مِنْ جُمْلَةِ الْأَمْرَاضِ الْمُزْمِنَةِ بِاعْتِبَارِ طُولِ مُكْثِهَا وَعُسْرِ بَرْئِهَا لَا سِيّمَا إنْ تَجَاوَزَ فِي السّنّ خَمْسًا وَعِشْرِينَ سَنَةً وَهَذِهِ الْعِلّةُ فِي دِمَاغِهِ وَخَاصّةً فِي قَالَ إِبّقْرَاط: إنّ الصّرْعَ يَبْقَى فِي هَؤُلَاءِ حَتّى يَمُوتُوا.

.لَعَلّ صَرْعَ الْمَرْأَةِ الّتِي وَرَدَتْ فِي الْحَدِيثِ كَانَ صَرْعُهَا مِنْ صَرْعِ الْأَخْلَاطِ:

إذَا عُرِفَ هَذَا فَهَذِهِ الْمَرْأَةُ الّتِي جَاءَ الْحَدِيثُ أَنّهَا كَانَتْ تُصْرَعُ وَتَتَكَشّفُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ صَرْعُهَا مِنْ هَذَا النّوْعِ فَوَعَدَهَا النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ الْجَنّةَ بِصَبْرِهَا عَلَى هَذَا الْمَرَضِ وَدَعَا لَهَا أَنْ لَا تَتَكَشّفَ وَخَيّرَهَا بَيْنَ الصّبْرِ وَالْجَنّةِ وَبَيْنَ الدّعَاءِ لَهَا بِالشّفَاءِ مِنْ غَيْرِ ضَمَانٍ فَاخْتَارَتْ الصّبْرَ وَالْجَنّةَ.

.جَوَازُ تَرْكِ التّدَاوِي وَأَنّ عِلَاجَ الْأَرْوَاحِ بِالتّوَجّهِ إلَى اللّهِ يَفْعَلُ مَا لَا يَنَالُهُ عِلَاجُ الْأَطِبّاءِ:

وَفِي ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ تَرْكِ الْمُعَالَجَةِ وَالتّدَاوِي وَأَنّ عِلَاجَ الْأَرْوَاحِ بِالدّعَوَاتِ وَالتّوَجّهِ إلَى اللّهِ يَفْعَلُ مَا لَا يَنَالُهُ عِلَاجُ الْأَطِبّاءِ وَأَنّ تَأْثِيرَهُ وَفِعْلَهُ وَتَأَثّرَ الطّبِيعَةِ عَنْهُ وَانْفِعَالَهَا أَعْظَمُ مِنْ تَأْثِيرِ الْأَدْوِيَةِ الْبَدَنِيّةِ وَانْفِعَالِ الطّبِيعَةِ عَنْهَا وَقَدْ جَرّبْنَا هَذَا مِرَارًا نَحْنُ وَغَيْرُنَا وَعُقَلَاءُ الْأَطِبّاءِ مُعْتَرِفُونَ بِأَنّ لِفِعْلِ الْقُوَى النّفْسِيّةِ وَانْفِعَالَاتِهَا فِي شِفَاءِ الْأَمْرَاضِ عَجَائِبُ وَمَا عَلَى الصّنَاعَةِ الطّبّيّةِ أَضَرّ مِنْ زَنَادِقَةِ الْقَوْمِ وَسِفْلَتِهِمْ وَجُهّالِهِمْ. وَالظّاهِرُ أَنّ صَرْعَ هَذِهِ الْمَرْأَةِ كَانَ مِنْ هَذَا النّوْعِ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنْ جِهَةِ الْأَرْوَاحِ وَيَكُونُ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَدْ خَيّرَهَا بَيْنَ الصّبْرِ عَلَى ذَلِكَ مَعَ الْجَنّةِ وَبَيْنَ الدّعَاءِ لَهَا بِالشّفَاءِ فَاخْتَارَتْ الصّبْرَ وَالسّتْرَ وَاللّهُ أَعْلَمُ.

.فَصْلٌ فِي هَدْيِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي عِلَاجِ عِرْقِ النّسَا:

رَوَى ابْنُ مَاجَهْ فِي سُنَنِهِ مِنْ حَدِيثِ مُحَمّدِ بْنِ سِيرِينَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَقُولُ دَوَاءُ عِرْقِ النّسَا أَلْيَةُ شَاةٍ أَعْرَابِيّةٍ تُذَابُ ثُمّ تُجَزّأُ ثَلَاثَةَ أَجْزَاءٍ ثُمّ يُشْرَبُ عَلَى الرّيقِ فِي كُلّ يَوْمٍ جُزْءٌ النّسَاءِ وَجَعٌ يَبْتَدِئُ مِنْ مَفْصِلِ الْوَرِكِ وَيَنْزِلُ مِنْ خَلْفٍ عَلَى الْفَخِذِ وَرُبّمَا عَلَى الْكَعْبِ وَكُلّمَا طَالَتْ مُدّتُهُ زَادَ نُزُولُهُ وَتَهْزُلُ مَعَهُ الرّجْلُ وَالْفَخِذُ وَهَذَا الْحَدِيثُ فِيهِ مَعْنًى لُغَوِيّ وَمَعْنًى طِبّيّ. فَأَمّا الْمَعْنَى اللّغَوِيّ فَدَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ تَسْمِيَةِ هَذَا الْمَرَضِ بِعِرْقِ النّسَا خِلَافًا لِمَنْ مَنَعَ هَذِهِ التّسْمِيَةَ وَقَالَ النّسَا هُوَ الْعِرْقُ نَفْسُهُ فَيَكُونُ مِنْ بَابِ إضَافَةِ الشّيْءِ إلَى نَفْسِهِ وَهُوَ مُمْتَنِعٌ وَجَوَابُ هَذَا الْقَائِلِ مِنْ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنّ الْعَرَقَ أَعَمّ مِنْ النّسَا فَهُوَ مِنْ بَابِ إضَافَةِ الْعَامّ إلَى الْخَاصّ نَحْوُ كُلّ الدّرَاهِمِ أَوْ بَعْضُهَا.
الثّانِي: أَنّ النّسَا: هُوَ الْمَرَضُ الْحَالُ بِالْعِرْقِ وَالْإِضَافَةِ فِيهِ مِنْ بَابِ إضَافَةِ الشّيْءِ إلَى مَحَلّهِ وَمَوْضِعِهِ. قِيلَ وَسُمّيَ بِذَلِكَ لِأَنّ أَلَمَهُ يُنْسِي مَا سِوَاهُ وَهَذَا الْعَرَقُ مُمْتَدّ مِنْ مَفْصِلِ الْوَرِكِ وَيَنْتَهِي إلَى آخِرِ الْقَدَمِ وَرَاءَ الْكَعْبِ مِنْ الْجَانِبِ الْوَحْشِيّ فِيمَا بَيْنَ عَظْمِ السّاقِ وَالْوَتَرِ. وَأَمّا الْمَعْنَى الطّبّيّ فَقَدْ تَقَدّمَ أَنّ كَلَامَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ نَوْعَانِ أَحَدُهُمَا: عَامّ بِحَسْبِ الْأَزْمَانِ وَالْأَمَاكِنِ وَالْأَشْخَاصِ وَالْأَحْوَالِ.
وَالثّانِي: خَاصّ بِحَسْبِ هَذِهِ الْأُمُورِ أَوْ بِضْعِهَا وَهَذَا مِنْ هَذَا الْقِسْمِ فَإِنّ هَذَا خِطَابٌ لِلْعَرَبِ وَأَهْلِ الْحِجَازِ وَمَنْ جَاوَرَهُمْ وَلَا سِيّمَا أَعْرَابُ الْبَوَادِي فَإِنّ هَذَا الْعِلَاجَ مِنْ أَنْفَعِ الْعِلَاجِ لَهُمْ فَإِنّ هَذَا الْمَرَضَ يَحْدُثُ مِنْ يُبْسٍ وَقَدْ يَحْدُثُ مِنْ مَادّةٍ غَلِيظَةٍ لَزِجَةٍ فَعِلَاجُهَا بِالْإِسْهَالِ. وَالْأَلْيَةُ فِيهَا الْخَاصّيّتَانِ الْإِنْضَاجُ وَالتّلْيِينُ فَفِيهَا الْإِنْضَاجُ وَالْإِخْرَاجُ. وَهَذَا الْمَرَضُ يَحْتَاجُ عِلَاجُهُ إلَى هَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ وَفِي تَعْيِينِ الشّاةِ الْأَعْرَابِيّةِ لِقِلّةِ فُضُولِهَا وَصِغَرِ مِقْدَارِهَا وَلُطْفِ جَوْهَرِهَا وَخَاصّيّةِ مَرْعَاهَا لِأَنّهَا تَرْعَى أَعْشَابَ الْبَرّ الْحَارَةِ كَالشّيحِ وَالْقَيْصُومِ وَنَحْوِهِمَا وَهَذِهِ النّبَاتَاتُ إذَا تَغَذّى بِهَا الْحَيَوَانُ صَارَ فِي لَحْمِهِ مِنْ طَبْعِهَا بَعْدَ أَنْ يُلَطّفَهَا تُغَذّيهِ بِهَا وَيُكْسِبُهَا مِزَاجًا أَلْطَفَ مِنْهَا وَلَا سِيّمَا الْأَلْيَةُ وَظُهُورُ فِعْلِ هَذِهِ النّبَاتَاتِ فِي اللّبَنِ أَقْوَى مِنْهُ فِي اللّحْمِ وَلَكِنّ الْخَاصّيّةَ الّتِي فِي الْأَلْيَةِ مِنْ الْإِنْضَاجِ غَالِبِ الْأُمَمِ وَالْبَوَادِي هِيَ الْأَدْوِيَةُ الْمُفْرَدَةُ وَعَلَيْهِ أَطِبّاءُ الْهِنْدِ. وَأَمّا الرّومُ وَالْيُونَانُ فَيَعْتَنُونَ بِالْمُرَكّبَةِ وَهُمْ مُتّفِقُونَ كُلّهُمْ عَلَى أَنّ مِنْ مَهَارَةِ الطّبِيبِ أَنْ يُدَاوِيَ بِالْغِذَاءِ فَإِنْ عَجَزَ فَبِالْمُفْرَدِ فَإِنْ عَجَزَ فَبِمَا كَانَ أَقَلّ تَرْكِيبًا.
الْيُونَانُ فَيَعْتَنُونَ بِالْمُرَكّبَةِ وَهُمْ مُتّفِقُونَ كُلّهُمْ عَلَى أَنّ مِنْ مَهَارَةِ الطّبِيبِ أَنْ يُدَاوِيَ بِالْغِذَاءِ فَإِنْ عَجَزَ فَبِالْمُفْرَدِ فَإِنْ عَجَزَ فَبِمَا كَانَ أَقَلّ تَرْكِيبًا. وَقَدْ تَقَدّمَ أَنّ غَالِبَ عَادَاتِ الْعَرَبِ وَأَهْلِ الْبَوَادِي الْأَمْرَاضُ الْبَسِيطَةُ فَالْأَدْوِيَةُ الْبَسِيطَةُ تُنَاسِبُهَا وَهَذَا لِبَسَاطَةِ أَغْذِيَتِهِمْ فِي الْغَالِبِ. وَأَمّا الْأَمْرَاضُ الْمُرَكّبَةُ فَغَالِبًا مَا تَحْدُثُ عَنْ تَرْكِيبِ الْأَغْذِيَةِ وَتَنَوّعِهَا وَاخْتِلَافِهَا فَاخْتِيرَتْ لَهَا الْأَدْوِيَةُ الْمُرَكّبَةُ وَاللّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.

.فَصْلٌ فِي هَدْيِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي عِلَاجِ يُبْسِ الطّبْعِ وَاحْتِيَاجِهِ إلَى مَا يُمَشّيهِ وَيُلَيّنُهُ:

رَوَى التّرْمِذِيّ فِي جَامِعِهِ وَابْنُ مَاجَهْ فِي سُنَنِهِ مِنْ حَدِيثِ أَسْمَاءِ بِنْتِ عُمَيْسٍ قَالَتْ قَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِمَاذَا كُنْتِ تَسْتَمْشِينَ؟ قَالَتْ بِالشّبْرُمِ قَالَ حَارّ جَارّ قَالَتْ ثُمّ اسْتَمْشَيْتُ بِالسّنَا فَقَالَ لَوْ كَانَ شَيْءٌ يَشْفِي مِنْ الْمَوْتِ لَكَانَ السّنَا. سُنَنِ ابْنِ مَاجَهْ عَنْ إبْرَاهِيمَ بْنِ أَبِي عَبْلَةَ قَالَ سَمِعْت عَبْدَ اللّهِ بْنَ أُمّ حَرَامٍ وَكَانَ قَدْ صَلّى مَعَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ الْقِبْلَتَيْنِ يَقُولُ سَمِعْتُ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَقُولُ عَلَيْكُمْ بِالسّنَا وَالسّنُوتِ فَإِنّ فِيهِمَا شِفَاءً مِنْ كُلّ دَاءٍ إلّا السّامَ قِيلَ يَا رَسُولَ اللّهِ وَمَا السّامُ؟ قَالَ الْمَوْتُ.

.الْعِلَاجُ بِالشّبْرُمِ:

قَوْلُهُ بِمَاذَا كُنْت تَسْتَمْشِينَ؟ أَيْ تُلَيّنِينَ الطّبْعَ حَتّى يَمْشِيَ وَلَا يَصِيرُ بِمَنْزِلَةِ الْوَاقِفِ فَيُؤْذِي بِاحْتِبَاسِ النّجْوِ وَلِهَذَا سُمّيَ الدّوَاءُ الْمُسَهّلُ مَشِيّا عَلَى وَزْنِ فَعِيلٍ. وَقِيلَ لِأَنّ الْمَسْهُولَ يُكْثِرُ الْمَشْيَ وَالِاخْتِلَافُ لِلْحَاجَةِ وَقَدْ رُوِيَ بِمَاذَا تَسْتَشْفِينَ؟ فَقَالَتْ بِالشّبْرُمِ وَهُوَ مِنْ جُمْلَةِ الْأَدْوِيَةِ الْيَتُوعِيّة وَهُوَ قِشْرُ عِرْقِ شَجَرَةٍ وَهُوَ حَارّ يَابِسٌ فِي الدّرَجَةِ الرّابِعَةِ وَأَجْوَدُهُ الْمَائِلُ إلَى الْحُمْرَةِ الْخَفِيفُ الرّقِيقُ الّذِي يُشْبِهُ الْجِلْدَ الْمَلْفُوفَ وَبِالْجُمْلَةِ فَهُوَ مِنْ الْأَدْوِيَةِ الّتِي أَوْصَى الْأَطِبّاءُ بِتَرْكِ اسْتِعْمَالِهَا لِخَطَرِهَا وَفَرْطِ إسْهَالِهَا. وَقَوْلُهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ حَارّ جَارّ وَيُرْوَى: حَارّ يَارّ قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: وَأَكْثَرُ كَلَامِهِمْ بِالْيَاءِ. قُلْت: وَفِيهِ قَوْلَانِ أَحَدُهُمَا: أَنّ الْحَارّ الْجَارّ بِالْجِيمِ الشّدِيدُ الْإِسْهَالُ فَوَصَفَهُ بِالْحَرَارَةِ وَشَدّةِ الْإِسْهَالِ وَكَذَلِكَ هُوَ قَالَهُ أَبُو حَنِيفَةَ الدّينَوَرِيّ.

.مَا الْمَقْصُودُ بِالْإِتْبَاعِ:

وَالثّانِي- وَهُوَ الصّوَابُ- أَنّ هَذَا مِنْ الْإِتْبَاعِ الّذِي يُقْصَدُ بِهِ تَأْكِيدُ الْأَوّلِ وَيَكُونُ بَيْنَ التّأْكِيدِ اللّفْظِيّ وَالْمَعْنَوِيّ وَلِهَذَا يُرَاعُونَ فِيهِ إتْبَاعَهُ فِي أَكْثَرِ حُرُوفِهِ كَقَوْلِهِمْ حَسَنٌ بَسَنٌ أَيْ كَامِلُ الْحُسْنِ وَقَوْلُهُمْ حَسَنٌ قَسَنٌ بِالْقَافِ وَمِنْهُ شَيْطَانٌ لَيْطَانُ وَحَارّ جَارّ مَعَ أَنّ فِي الْجَارّ مَعْنًى آخَرَ وَهُوَ وَيَارّ إمّا لُغَةٌ فِي جَارّ كَقَوْلِهِمْ صِهْرِيّ وَصِهْرِيج وَالصّهَارِي وَالصّهَارِيجُ وَإِمّا إتْبَاعُ مُسْتَقِلّ.

.نَبَاتُ السّنَا:

وَأَمّا السّنَا فَفِيهِ لُغَتَانِ الْمَدّ وَالْقَصْرُ وَهُوَ نَبْتٌ حِجَازِيّ أَفْضَلُهُ الْمَكّيّ وَهُوَ دَوَاءٌ شَرِيفٌ مَأْمُونُ الْغَائِلَةِ قَرِيبٌ مِنْ الِاعْتِدَالِ حَارّ يَابِسٌ فِي الدّرَجَةِ الْأُولَى يُسْهِلُ الصّفْرَاءَ وَالسّوْدَاءَ وَيُقَوّي جِرْمَ الْقَلْبِ وَهَذِهِ فَضِيلَةٌ شَرِيفَةٌ فِيهِ وَخَاصّيّتُهُ النّفْعُ مِنْ الْوَسْوَاسِ السّوْدَاوِيّ وَمِنْ الشّقَاقِ الْعَارِضِ فِي الْبَدَنِ وَيَفْتَحُ الْعَضَلَ وَيَنْفَعُ مِنْ انْتِشَارِ الشّعَرِ وَمِنْ الْقَمْلِ وَالصّدَاعِ الْعَتِيقِ وَالْجَرَبِ وَالْبُثُورِ وَالْحِكّةِ وَالصّرِعِ وَشُرْبِ مَائِهِ مَطْبُوخًا أَصْلَحُ مِنْ شُرْبِهِ مَدْقُوقًا وَمِقْدَارُ الشّرْبَةِ مِنْهُ ثَلَاثَةُ دَرَاهِمَ وَمِنْ مَائِهِ خَمْسَةُ دَرَاهِمَ وَإِنْ طُبِخَ مَعَهُ شَيْءٌ مِنْ زَهْرِ الْبَنَفْسَجِ وَالزّبِيبِ الْأَحْمَرِ الْمَنْزُوعِ الْعَجَمُ كَانَ أَصْلَحَ. قَالَ الرّازِيّ: السّنَاءُ والشاهترج يُسَهّلَانِ الْأَخْلَاطَ الْمُحْتَرِقَةَ وَيَنْفَعَانِ مِنْ الْجَرَبِ وَالْحِكّة وَالشّرْبَةُ مِنْ كُلّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنْ أَرْبَعَةِ دَرَاهِمَ إلَى سَبْعَةِ دَرَاهِمَ.

.مَا هُوَ السّنُوت:

وَأَمّا السّنُوت فَفِيهِ ثَمَانِيَةُ أَقْوَالٍ؟ أَحَدُهَا: أَنّهُ الْعَسَلُ.
وَالثّانِي: أَنّهُ رُبّ عُكّةِ السّمْنِ يَخْرُجُ خُطَطًا سَوْدَاءَ عَلَى السّمْنِ حَكَاهُمَا عَمْرُو بْنُ بَكْرٍ السكسكي.
الثّالِثُ أَنّهُ حَبّ يُشْبِهُ الْكَمّونَ وَلَيْسَ بِهِ قَالَهُ ابْنُ الْأَعْرَابِيّ.
الرّابِعُ أَنّهُ الْكَمّونُ الْكَرْمَانِيّ.
الْخَامِسُ أَنّهُ الرازيانج. حَكَاهُمَا أَبُو حَنِيفَةَ الدّينَوَرِيّ عَنْ بَعْضِ الْأَعْرَابِ.
السّادِسُ أَنّهُ الشّبِتّ.
السّابِعُ أَنّهُ التّمْرُ حَكَاهُمَا أَبُو بَكْرِ بْنُ السّنّيّ الْحَافِظُ.
الثّامِنُ أَنّهُ الْعَسَلُ الّذِي يَكُونُ فِي زِقَاقِ السّمْنِ حَكَاهُ عَبْدُ اللّطِيفِ الْبَغْدَادِيّ. قَالَ بَعْضُ الْأَطِبّاءِ وَهَذَا أَجْدَرُ وَأَقْرَبُ إلَى الصّوَابِ أَيْ يُخْلَطُ السّنَاءُ مَدْقُوقًا بِالْعَسَلِ الْمُخَالِطِ لِلسّمْنِ ثُمّ يُلْعَقُ فَيَكُونُ أَصْلَحَ مِنْ اسْتِعْمَالِهِ مُفْرَدًا لِمَا فِي الْعَسَلِ وَالسّمْنِ مِنْ إصْلَاحِ السّنَا وَإِعَانَتِهِ لَهُ عَلَى الْإِسْهَالِ. وَاللّهُ أَعْلَمُ. وَقَدْ رَوَى التّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبّاسٍ يَرْفَعُهُ إنّ خَيْرَ مَا تَدَاوَيْتُمْ بِهِ السّعُوطُ وَاللّدُودُ وَالْحِجَامَةُ وَالْمَشْيُ وَالْمَشِيّ هُوَ الّذِي يُمَشّي الطّبْعَ وَيُلَيّنُهُ وَيُسَهّلُ خُرُوجَ الْخَارِجِ.

.فَصْلٌ فِي هَدْيِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي عِلَاجِ حِكّة الْجِسْمِ وَمَا يُوَلّدُ الْقَمْلَ:

فِي الصّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ رَخّصَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لِعَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ وَالزّبَيْرِ بْنِ الْعَوّامِ رَضِيَ اللّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا فِي لُبْسِ الْحَرِيرِ لَحِكّةٍ كَانَتْ بِهِمَا وَفِي رِوَايَةٍ أَنّ عَبْدَ الرّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ وَالزّبَيْرَ بْنَ الْعَوّامِ رَضِيَ اللّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا شَكَوْا الْقَمْلَ إلَى النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي غَزَاةٍ لَهُمَا فَرَخّصَ لَهُمَا فِي قُمُصِ الْحَرِيرِ وَرَأَيْتُهُ عَلَيْهِمَا. هَذَا الْحَدِيثُ يَتَعَلّقُ بِهِ أَمْرَانِ أَحَدُهُمَا فِقْهِيّ وَالْآخَرُ طِبّيّ.

.حُكْمُ لُبْسِ الْحَرِيرِ:

فَأَمّا الْفِقْهِيّ فَاَلّذِي اسْتَقَرّتْ عَلَيْهِ سُنّتُهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إبَاحَةُ الْحَرِيرِ لِلنّسَاءِ مُطْلَقًا وَتَحْرِيمُهُ عَلَى الرّجَالِ إلّا لِحَاجَةٍ وَمَصْلَحَةٍ رَاجِحَةٍ فَالْحَاجَةُ إمّا مِنْ شِدّةِ الْبَرْدِ وَلَا يَجِدُ غَيْرَهُ أَوْ لَا يَجِدُ سُتْرَةً سِوَاهُ. وَمِنْهَا: لِبَاسُهُ لِلْجَرَبِ وَالْمَرَضِ وَالْحِكّةِ وَكَثْرَةِ الْقَمْلِ كَمَا دَلّ عَلَيْهِ حَدِيثُ أَنَسٍ هَذَا الصّحِيحُ. أَحْمَدَ وَأَصَحّ قَوْلَيْ الشّافِعِيّ إذْ الْأَصْلُ عَدَمُ التّخْصِيصِ وَالرّخْصَةُ إذَا ثَبَتَتْ فِي حَقّ بَعْضِ الْأُمّةِ لِمَعْنًى تَعَدّتْ إلَى كُلّ مَنْ وُجِدَ فِيهِ ذَلِكَ الْمَعْنَى إذْ الْحُكْمُ يَعُمّ بِعُمُومِ سَبَبِهِ. وَمَنْ مَنَعَ مِنْهُ قَالَ أَحَادِيثُ التّحْرِيمِ عَامّةٌ وَأَحَادِيثُ الرّخْصَةِ يُحْتَمَلُ اخْتِصَاصُهَا بِعَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ وَالزّبَيْرِ وَيُحْتَمَلُ تَعَدّيهَا إلَى غَيْرِهِمَا. وَإِذَا اُحْتُمِلَ الْأَمْرَانِ كَانَ الْأَخْذُ بِالْعُمُومِ أَوْلَى وَلِهَذَا قَالَ بَعْضُ الرّوَاةِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ فَلَا أَدْرِي أَبْلَغَتْ الرّخْصَةُ مِنْ بَعْدِهِمَا أَمْ لَا؟ وَالصّحِيحُ عُمُومُ الرّخْصَةِ فَإِنّهُ عُرْفُ خِطَابِ الشّرْعِ فِي ذَلِكَ مَا لَمْ يُصَرّحْ بِالتّخْصِيصِ وَعَدَمِ إلْحَاقِ غَيْرِ مَنْ رَخّصَ لَهُ أَوّلًا بِهِ كَقَوْلِهِ لِأَبِي بُرْدَةَ فِي تَضْحِيَتِهِ بِالْجَذَعَةِ مِنْ الْمَعْزِ تَجْزِيكَ وَلَنْ تَجْزِيَ عَنْ أَحَدٍ بَعْدَكَ وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى لِنَبِيّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي نِكَاحِ مَنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لَهُ {خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} [الْأَحْزَابُ 50]. وَتَحْرِيمُ الْحَرِيرِ إنّمَا كَانَ سَدّا لِلذّرِيعَةِ وَلِهَذَا أُبِيحَ لِلنّسَاءِ وَلِلْحَاجَةِ وَالْمَصْلَحَةِ الرّاجِحَةِ وَهَذِهِ قَاعِدَةُ مَا حُرّمَ لِسَدّ الذّرَائِعِ فَإِنّهُ يُبَاحُ عِنْدَ الْحَاجَةِ وَالْمَصْلَحَةِ الرّاجِحَةِ كَمَا حَرُمَ النّظَرُ سَدّا لِذَرِيعَةِ الْفِعْلِ وَأُبِيحَ مِنْهُ مَا تَدْعُو إلَيْهِ الْحَاجَةُ وَالْمَصْلَحَةُ الرّاجِحَةُ وَكَمَا حَرُمَ التّنَفّلُ بِالصّلَاةِ فِي أَوْقَاتِ النّهْيِ سَدّا لِذَرِيعَةِ الْمُشَابَهَةِ الصّورِيّةِ بِعُبّادِ الشّمْسِ وَأُبِيحَتْ لِلْمَصْلَحَةِ الرّاجِحَةِ وَكَمَا حَرُمَ رِبَا الْفَضْلِ سَدّا لِذَرِيعَةِ رِبَا النّسِيئَةِ وَأُبِيحَ مِنْهُ مَا تَدْعُو إلَيْهِ الْحَاجَةُ مِنْ الْعَرَايَا التّحْبِيرُ لِمَا يَحِلّ وَيَحْرُمُ مِنْ لِبَاسِ الْحَرِيرِ.