فصل: فَصْلٌ فِي هَدْيِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي الْإِرْشَادِ إلَى مُعَالَجَةِ أَحْذَقِ الطّبِيبَيْنِ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: زاد المعاد في هدي خير العباد (نسخة منقحة)



.مَضَارّ الْقَيْءِ بَعْدَ امْتِلَاءِ الْمَعِدَةِ:

وَأَمّا مَا يَفْعَلُهُ كَثِيرٌ مِمّنْ يُسِيءُ التّدْبِيرَ وَهُوَ أَنْ يَمْتَلِئَ مِنْ الطّعَامِ ثُمّ يَقْذِفُهُ فَفِيهِ آفَاتٌ عَدِيدَةٌ مِنْهَا: أَنّهُ يُعَجّلُ الْهَرَمَ وَيُوقِعُ فِي أَمْرَاضٍ رَدِيئَةٍ وَيَجْعَلُ الْقَيْءَ لَهُ عَادَةً. وَالْقَيْءُ مَعَ الْيُبُوسَةِ وَضَعْفِ الْأَحْشَاءِ وَهُزَالِ الْمَرَاقّ. أَوْ ضَعْفِ الْمُسْتَقِيءِ خَطَرٌ...

.أَفْضَلُ أَوْقَاتِهِ وَكَيْفِيّتُهُ:

وَأَحْمَدُ أَوْقَاتِهِ الصّيْفُ وَالرّبِيعُ دُونَ الشّتَاءِ وَالْخَرِيفِ وَيَنْبَغِي عِنْدَ الْقَيْءِ أَنْ يَعْصِبَ الْعَيْنَيْنِ وَيَقْمِطَ الْبَطْنَ وَيَغْسِلُ الْوَجْهَ بِمَاءٍ بَارِدٍ عِنْدَ الْفَرَاغِ وَأَنْ يَشْرَبَ عَقِيبَهُ شَرَابَ التّفّاحِ مَعَ يَسِيرٍ مِنْ مُصْطَكَى وَمَاءُ الْوَرْدِ يَنْفَعُهُ نَفْعًا بَيّنًا.

.الْفَرْقُ بَيْنَ الْقَيْءِ وَالِاسْتِفْرَاغِ:

وَالْقَيْءُ يُسْتَفْرَغُ مِنْ أَعْلَى الْمَعِدَةِ وَيُجْذَبُ مِنْ أَسْفَلَ وَالْإِسْهَالُ بِالْعَكْسِ قَالَ أَبِقِرَاطٍ وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الِاسْتِفْرَاغُ فِي الصّيْفِ مِنْ فَوْقٍ أَكْثَرَ مِنْ الِاسْتِفْرَاغِ بِالدّوَاءِ وَفِي الشّتَاءِ مِنْ أَسْفَلَ.

.فَصْلٌ فِي هَدْيِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي الْإِرْشَادِ إلَى مُعَالَجَةِ أَحْذَقِ الطّبِيبَيْنِ:

ذَكَرَ مَالِكٌ فِي مُوَطّئِهِ: عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ أَنّ رَجُلًا فِي زَمَانِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَصَابَهُ جُرْحٌ فَاحْتَقَنَ الْجُرْحُ الدّمَ وَأَنّ الرّجُلَ دَعَا رَجُلَيْنِ مِنْ بَنِي أَنْمَارٍ فَنَظَرَا إلَيْهِ فَزَعَمَا أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَالَ لَهُمَا: أَيّكُمَا أَطَبّ؟ فَقَالَ أَوَ فِي الطّبّ خَيْرٌ يَا رَسُولَ اللّهِ؟ فَقَالَ أَنْزَلَ الدّوَاءَ الّذِي أَنْزَلَ الدّاءَ.

.يَنْبَغِي الِاسْتِعَانَةُ فِي كُلّ عِلْمٍ وَصِنَاعَةٍ بِأَحْذَقِ مَنْ فِيهَا فَالْأَحْذَقِ:

فَفِي هَذَا الْحَدِيثِ أَنّهُ يَنْبَغِي الِاسْتِعَانَةُ فِي كُلّ عِلْمٍ وَصِنَاعَةٍ بِأَحْذَقِ مَنْ فِيهَا فَالْأَحْذَقِ فَإِنّهُ إلَى الْإِصَابَةِ أَقْرَبُ. وَهَكَذَا يَجِبُ عَلَى الْمُسْتَفْتِي أَنْ يَسْتَعِينَ عَلَى مَا نَزَلَ بِهِ بِالْأَعْلَمِ فَالْأَعْلَمِ لِأَنّهُ أَقْرَبُ إصَابَةً مِمّنْ هُوَ دُونَهُ. وَكَذَلِكَ مَنْ خَفِيَتْ عَلَيْهِ الْقِبْلَةُ فَإِنّهُ يُقَلّدُ أَعْلَمَ مَنْ يَجِدُهُ وَعَلَى هَذَا فَطَرَ اللّهُ عِبَادَهُ كَمَا أَنّ الْمُسَافِرَ فِي الْبَرّ وَالْبَحْرِ إنّمَا سُكُونُ نَفْسِهِ وَطُمَأْنِينَتُهُ إلَى وَقَوْلُهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَنْزَلَ الدّوَاءَ الّذِي أَنْزَلَ الدّاءَ قَدْ جَاءَ مِثْلُهُ عَنْهُ فِي أَحَادِيثَ كَثِيرَةٍ فَمِنْهَا مَا رَوَاهُ عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ عَنْ هِلَالِ بْنِ يِسَافٍ قَالَ دَخَلَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَلَى مَرِيضٍ يَعُودُهُ فَقَالَ أَرْسِلُوا إلَى طَبِيبٍ فَقَالَ قَائِلٌ وَأَنْتَ تَقُولُ ذَلِكَ يَا رَسُولَ اللّهِ؟ قَالَ نَعَمْ إنّ اللّهَ عَزّ وَجَلّ لَمْ يُنْزِلْ دَاءً إلّا أَنْزَلَ لَهُ دَوَاءً وَفِي الصّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ يَرْفَعُهُ مَا أَنْزَلَ اللّهُ مِنْ دَاءٍ إلّا أَنْزَلَ لَهُ شِفَاءً وَقَدْ تَقَدّمَ هَذَا الْحَدِيثُ وَغَيْرُهُ.

.مَعْنَى أُنْزِلَ الدّاءُ وَالدّوَاءُ:

وَاخْتُلِفَ فِي مَعْنَى أُنْزِلَ الدّاءُ وَالدّوَاءُ فَقَالَتْ طَائِفَةٌ إنْزَالُهُ إعْلَامُ الْعِبَادِ بِهِ وَلَيْسَ بِشَيْءٍ فَإِنّ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَخْبَرَ بِعُمُومِ الْإِنْزَالِ لِكُلّ دَاءٍ وَدَوَائِهِ وَأَكْثَرُ الْخَلْقِ لَا يَعْلَمُونَ ذَلِكَ وَلِهَذَا قَالَ عَلِمَهُ مَنْ عَلِمَهُ وَجَهِلَهُ مَنْ جَهِلَهُ وَقَالَتْ طَائِفَةٌ إنْزَالُهُمَا: خَلْقُهُمَا وَوَضْعُهُمَا فِي الْأَرْضِ كَمَا فِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ إنّ اللّهَ لَمْ يَضَعْ دَاءً إلّا وَضَعَ لَهُ دَوَاءً وَهَذَا وَإِنْ كَانَ أَقْرَبَ مِنْ الّذِي قَبْلَهُ فَلَفْظَةُ الْإِنْزَالِ أَخَصّ مِنْ لَفْظَةِ الْخَلْقِ وَالْوَضْعِ فَلَا يَنْبَغِي إسْقَاطُ خُصُوصِيّةِ اللّفْظَةِ بِلَا مُوجِبٍ. وَقَالَتْ طَائِفَةٌ إنْزَالُهُمَا بِوَاسِطَةِ الْمَلَائِكَةِ الْمُوَكّلِينَ بِمُبَاشَرَةِ الْخَلْقِ مِنْ دَاءٍ وَدَوَاءٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ فَإِنّ الْمَلَائِكَةَ مُوَكّلَةٌ بِأَمْرِ هَذَا الْعَالَمِ وَأَمْرِ النّوْعِ الْإِنْسَانِيّ مِنْ حِينِ سُقُوطِهِ فِي رَحِمِ أُمّهِ إلَى حِينِ مَوْتِهِ فَإِنْزَالُ الدّاءِ وَالدّوَاءِ مَعَ الْمَلَائِكَةِ وَهَذَا أَقْرَبُ مِنْ الْوَجْهَيْنِ قَبْلَهُ. وَقَالَتْ طَائِفَةٌ إنّ عَامّةَ الْأَدْوَاءِ وَالْأَدْوِيَةِ هِيَ بِوَاسِطَةِ إنْزَالِ الْغَيْثِ مِنْ السّمَاءِ الّذِي تَتَوَلّدُ بِهِ الْأَغْذِيَةُ وَالْأَقْوَاتُ وَالْأَدْوِيَةُ وَالْأَدْوَاءُ وَآلَاتُ ذَلِكَ كُلّهِ وَأَسْبَابُهُ وَمُكَمّلَاتُهُ وَمَا كَانَ مِنْهَا مِنْ الْمَعَادِنِ الْعُلْوِيّةِ فَهِيَ تَنْزِلُ مِنْ الْجِبَالِ وَمَا كَانَ مِنْهَا مِنْ الْأَوْدِيَةِ وَالْأَنْهَارِ وَالثّمَارِ فَدَاخِلٌ فِي اللّفْظِ عَلَى طَرِيقِ التّغْلِيبِ وَالِاكْتِفَاءِ عَنْ الْفِعْلَيْنِ بِفِعْلٍ وَاحِدٍ يَتَضَمّنهُمَا وَهُوَ مَعْرُوفٌ مِنْ لُغَةِ الْعَرَبِ بَلْ وَغَيْرِهَا مِنْ الْأُمَمِ كَقَوْلِ الشّاعِرِ:
عَلَفْتُهَا تِبْنًا وَمَاءً بَارِدًا ** حَتَى غَدَتْ هَمّالَةً عَيْنَاهَا

وَقَوْلِ الْآخَرِ:
مُتَقَلّدًا سَيْفًا وَرُمْحًا ** وَرَأَيْتُ زَوْجَكِ قَدْ غَدَا

وَقَوْلِ الْآخَرِ:
إذَا مَا الْغَانِيَاتُ بَرَزْنَ يَوْمًا ** وَزَجّجْنَ الْحَوَاجِبَ والعُيونَا

وَهَذَا أَحْسَنُ مِمّا قَبْلَهُ مِنْ الْوُجُوهِ وَاللّهُ أَعْلَمُ.

.كَمَا يَبْتَلِي اللّهُ عِبَادَهُ فَإِنّهُ يُيَسّرُ لَهُمْ مَا يُضَادّهُ:

وَهَذَا مِنْ تَمَامِ حِكْمَةِ الرّبّ عَزّ وَجَلّ وَتَمَامِ رُبُوبِيّتِهِ فَإِنّهُ كَمَا ابْتَلَى عِبَادَهُ بِالْأَدْوَاءِ أَعَانَهُمْ عَلَيْهَا بِمَا يَسّرَهُ لَهُمْ مِنْ الْأَدْوِيَةِ وَكَمَا ابْتَلَاهُمْ بِالذّنُوبِ أَعَانَهُمْ عَلَيْهَا بِالتّوْبَةِ وَالْحَسَنَاتِ الْمَاحِيَةِ وَالْمَصَائِبِ الْمُكَفّرَةِ وَكَمَا ابْتَلَاهُمْ بِالْأَرْوَاحِ الْخَبِيثَةِ مِنْ الشّيَاطِينِ أَعَانَهُمْ عَلَيْهَا بِجُنْدٍ مِنْ الْأَرْوَاحِ الطّيّبَةِ وَهُمْ الْمَلَائِكَةُ. وَكَمَا ابْتَلَاهُمْ بِالشّهَوَاتِ أَعَانَهُمْ عَلَى قَضَائِهَا بِمَا يَسّرَهُ لَهُمْ شَرْعًا وَقَدَرًا مِنْ الْمُشْتَهَيَاتِ اللّذِيذَةِ النّافِعَةِ فَمَا ابْتَلَاهُمْ سُبْحَانَهُ بِشَيْءٍ إلّا أَعْطَاهُمْ مَا يَسْتَعِينُونَ بِهِ.

.فَصْلٌ فِي هَدْيِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي تَضْمِينِ مَنْ طَبّ النّاسَ وَهُوَ جَاهِلٌ بِالطّبّ:

رَوَى أَبُو دَاوُدَ وَالنّسَائِيّ وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدّهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ: «مَنْ تَطَبّبَ وَلَمْ يُعْلَمْ مِنْهُ الطّبّ قَبْلَ ذَلِكَ فَهُوَ ضَامِنٌ» هَذَا الْحَدِيثُ يَتَعَلّقُ بِهِ ثَلَاثَةُ أُمُورٍ أَمْرٌ لُغَوِيّ وَأَمْرٌ فِقْهِيّ وَأَمْرٌ طِبّيّ.

.مَعْنَى الطّبّ لُغَةً:

فَأَمّا اللّغَوِيّ فَالطّبّ بِكَسْرِ الطّاءِ فِي لُغَةِ الْعَرَبِ يُقَالُ عَلَى مَعَانٍ. مِنْهَا الْإِصْلَاحُ يُقَالُ طَبّبْتُهُ إذَا أَصْلَحْته. وَيُقَالُ لَهُ طِبّ بِالْأُمُورِ. أَيْ لُطْفٌ وَسِيَاسَةٌ. قَالَ الشّاعِرُ:
وَإِذَا تَغَيّرَ مِنْ تَمِيمٍ أَمْرُهَا ** كُنْت الطّبِيبَ لَهَا بِرَأْيٍ ثَاقِبٍ

وَمِنْهَا: الْحِذْقُ. قَالَ الْجَوْهَرِيّ: كُلّ حَاذِقٍ طَبِيبٌ عِنْدَ الْعَرَبِ قَالَ أَبُو عَبِيدٍ: أَصْلُ الطّبّ: الْحِذْقُ بِالْأَشْيَاءِ وَالْمَهَارَةُ بِهَا. يُقَالُ لِلرّجُلِ طِبّ وَطَبِيبٌ إذَا كَانَ كَذَلِكَ وَإِنْ كَانَ فِي غَيْرِ عِلَاجِ الْمَرِيضِ. وَقَالَ غَيْرُهُ رَجُلٌ طَبِيبٌ أَيْ حَاذِقٌ سُمّيَ طَبِيبًا لِحِذْقِهِ وَفِطْنَتِهِ. قَالَ عَلْقَمَةُ:
فَإِنْ تَسْأَلُونِي بِالنّسَاءِ فَإِنّنِي ** خَبِيرٌ بأْدْوَاءِ النّسَاءِ طَبِيبٌ

إذَا شَابَ رَأْسُ الْمَرْءِ أَوْ قَلّ مَالُهُ ** فَلَيْسَ لَهُ مِنْ وُدّهِنّ نَصِيبُ

وَقَالَ عَنْتَرَةُ:
إنْ تُغْدِ فِي دُونِي الْقِنَاعَ فَإنّني ** طِبّ بِأَخْذِ الْفَارِسِ الْمُسْتَلْئِمِ

أَيْ إنْ تُرْخِي عَنّي قِنَاعَك وَتَسْتُرِي وَجْهَك رَغْبَةً عَنّي فَإِنّي خَبِيرٌ حَاذِقٌ بِأَخْذِ الْفَارِسِ الّذِي قَدْ لَبِسَ لَأْمَةَ حَرْبِهِ. وَمِنْهَا: الْعَادَةُ يُقَالُ لَيْسَ ذَاكَ بِطِبّي أَيْ عَادَتِي قَالَ فَرْوَةُ بْنُ مُسَيْكٍ:
فَمَا إنْ طِبّنَا جُبْنٌ وَلَكِنْ ** مَنَايَانَا وَدَوْلَةُ آخَرِينَا

وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ الْحُسَيْنِ الْمُتَنَبّي:
وَمَا التّيهُ طِبّي فِيهِمْ غَيْرَ أَنّنِي ** بَغِيضٌ إلَيّ الْجَاهِلُ الْمُتَعَاقِلُ

وَمِنْهَا: السّحْرُ يُقَالُ رَجُلٌ مَطْبُوبٌ أَيْ مَسْحُورٌ وَفِي الصّحِيحِ فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ لَمّا سَحَرَتْ يَهُودُ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَجَلَسَ الْمَلَكَانِ عِنْدَ رَأْسِهِ وَعِنْدَ رِجْلَيْهِ فَقَالَ أَحَدُهُمَا: مَا بَالُ الرّجُلِ؟ قَالَ الْآخَرُ مَطْبُوبٌ. قَالَ مَنْ طَبّهُ؟ قَالَ فُلَانٌ الْيَهُودِيّ. قَالَ أَبُو عَبِيدٍ: إنّمَا قَالُوا لِلْمَسْحُورِ مَطْبُوبٌ لِأَنّهُمْ كَنّوْا بِالطّبّ عَنْ السّحْرِ كَمَا كَنّوْا عَنْ اللّدِيغِ فَقَالُوا: سَلِيمٌ تَفَاؤُلًا بِالسّلَامَةِ وَكَمَا كَنّوْا بِالْمَفَازَةِ عَنْ الْفَلَاةِ الْمُهْلِكَةِ الّتِي لَا مَاءَ فِيهَا فَقَالُوا: مَفَازَةً تَفَاؤُلًا بِالْفَوْزِ مِنْ الْهَلَاكِ. وَيُقَالُ الطّبّ لِنَفْسِ الدّاءِ. قَالَ ابْنُ أَبِي الْأَسْلَتِ:
أَلَا مَنْ مُبْلِغٌ حَسّانَ عَنّي ** أَسِحْرٌ كَانَ طِبّكَ أَمْ جُنُونٌ

وَأَمّا قَوْلُ الْحَمَاسِيّ:
فَإِنْ كُنْتَ مَطْبُوبًا فَلَا زِلْتَ هَكَذَا **وَإِنْ كُنْتَ مَسْحُورًا فَلَا بَرِئَ السّحْرُ

أَرَادَ بِالْمَطْبُوبِ الّذِي قَدْ سُحِرَ وَأَرَادَ بِالْمَسْحُورِ الْعَلِيلُ بِالْمَرَضِ. قَالَ الْجَوْهَرِيّ: وَيُقَالُ لِلْعَلِيلِ مَسْحُورٌ. وَأَنْشَدَ الْبَيْتَ. وَمَعْنَاهُ إنْ كَانَ هَذَا الّذِي قَدْ عَرَانِي مِنْك وَمِنْ حُبّك أَسْأَلُ اللّهَ دَوَامَهُ وَلَا أُرِيدُ زَوَالَهُ سَوَاءٌ كَانَ سِحْرًا أَوْ مَرَضًا. وَالطّبّ: مُثَلّثُ الطّاءِ فَالْمَفْتُوحُ الطّاءِ هُوَ الْعَالِمُ بِالْأُمُورِ وَكَذَلِكَ الطّبِيبُ يُقَالُ لَهُ طِبّ أَيْضًا. وَالطّبّ: بِكَسْرِ الطّاءِ فِعْلُ الطّبِيبِ وَالطّبّ بِضَمّ الطّاءِ اسْمُ مَوْضِعٍ قَالَهُ ابْنُ السّيّدِ وَأَنْشَدَ:
فَقُلْتُ هَلْ انْهَلْتُمْ بِطُبّ رِكَابِكُمْ ** بِجَائِزَةِ الْمَاءِ الّتِي طَابَ طِينُهَا

وَقَوْلُهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ «مَنْ تَطَبّبَ» وَلَمْ يَقُلْ مَنْ طُبّ لِأَنّ لَفْظَ التّفَعّلِ يَدُلّ عَلَى تَكَلّفِ الشّيْءِ وَالدّخُولِ فِيهِ بِعُسْرٍ وَكُلْفَةٍ وَأَنّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِهِ كَتَحَلّمَ وَتَشَجّعَ وَتَصَبّرَ وَنَظَائِرِهَا وَكَذَلِكَ بَنَوْا تَكَلّفَ عَلَى هَذَا الْوَزْنِ قَالَ الشّاعِرُ:
وَقَيْسُ عَيْلانَ وَمَنْ تَقَيّسَا

.إيجَابُ الضّمَانِ عَلَى الطّبِيبِ الْجَاهِلِ:

وَأَمّا الْأَمْرُ الشّرْعِيّ فَإِيجَابُ الضّمَانِ عَلَى الطّبِيبِ الْجَاهِلِ فَإِذَا تَعَاطَى عِلْمَ الطّبّ وَعَمَلَهُ وَلَمْ يَتَقَدّمْ لَهُ بِهِ مَعْرِفَةٌ فَقَدْ هَجَمَ بِجَهْلِهِ عَلَى إتْلَافِ الْأَنْفُسِ وَأَقْدَمَ بِالتّهَوّرِ عَلَى مَا لَمْ يَعْلَمْهُ فَيَكُونُ قَدْ غَرّرَ بِالْعَلِيلِ فَيَلْزَمُهُ الضّمَانُ لِذَلِكَ قَالَ الْخَطّابِي: لَا أَعْلَمُ خِلَافًا فِي أَنّ الْمُعَالِجَ إذَا تَعَدّى فَتَلِفَ الْمَرِيضُ كَانَ ضَامِنًا وَالْمُتَعَاطِي عِلْمًا أَوْ عَمَلًا لَا يَعْرِفُهُ مُتَعَدّ فَإِذَا تَوَلّدَ مِنْ فِعْلِهِ التّلَفُ ضِمْنَ الدّيَةَ وَسَقَطَ عَنْهُ الْقَوَدُ لِأَنّهُ لَا يَسْتَبِدّ بِذَلِكَ بِدُونِ إذْنِ الْمَرِيضِ وَجِنَايَةُ الْمُتَطَبّبِ فِي قَوْلِ عَامّةِ الْفُقَهَاءِ عَلَى عَاقِلَتِهِ.

.أَقْسَامُ الْأَطِبّاءِ مِنْ جِهَةِ إتْلَافِ الْأَعْضَاءِ وَذِكْرُ الْقِسْمِ الْأَوّلِ:

قُلْت: الْأَقْسَامُ خَمْسَةٌ أَحَدُهَا:

.طَبِيبٌ حَاذِقٌ:

أَعْطَى الصّنْعَةَ حَقّهَا وَلَمْ تَجْنِ يَدُهُ فَتَوَلّدَ مِنْ فِعْلِهِ الْمَأْذُونِ فِيهِ مِنْ جِهَةِ الشّارِعِ وَمِنْ جِهَةِ مَنْ يَطِبّهُ تَلَفُ الْعُضْوِ أَوْ النّفْسِ أَوْ ذَهَابُ صِفَةٍ فَهَذَا لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ اتّفَاقًا فَإِنّهَا سِرَايَةُ مَأْذُونٍ فِيهِ وَهَذَا كَمَا إذَا خَتَنَ الصّبِيّ فِي وَقْتٍ وَسِنّهُ قَابِلٌ لِلْخِتَانِ وَأَعْطَى الصّنْعَةَ حَقّهَا فَتَلِفَ الْعُضْوُ أَوْ الصّبِيّ لَمْ يَضْمَنْ وَكَذَلِكَ إذَا بَطّ مِنْ عَاقِلٍ أَوْ غَيْرِهِ مَا يَنْبَغِي بَطّهُ فِي وَقْتِهِ عَلَى الْوَجْهِ الّذِي يَنْبَغِي فَتَلِفَ بِهِ لَمْ يَضْمَنْ وَهَكَذَا سِرَايَةُ كُلّ مَأْذُونٍ فِيهِ لَمْ يَتَعَدّ الْفَاعِلُ فِي سَبَبِهَا كَسِرَايَةِ الْحَدّ بِالِاتّفَاقِ. وَسِرَايَةِ الْقِصَاصِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ خِلَافًا لِأَبِي حَنِيفَةَ فِي إيجَابِهِ الضّمَانَ بِهَا وَسِرَايَةِ التّعْزِيرِ وَضَرْبِ الرّجُلِ امْرَأَتَهُ وَالْمُعَلّمِ الصّبِيّ وَالْمُسْتَأْجِرِ الدّابّةَ خِلَافًا لِأَبِي حَنِيفَةَ وَالشّافِعِيّ فِي إيجَابِهِمَا الضّمَانَ فِي ذَلِكَ وَاسْتَثْنَى الشّافِعِيّ ضَرْبَ الدّابّةِ. وَقَاعِدَةُ الْبَابِ إجْمَاعًا وَنِزَاعًا: أَنّ سِرَايَةَ الْجِنَايَةِ مَضْمُونَةٌ بِالِاتّفَاقِ وَسِرَايَةُ الْوَاجِبِ مُهْدَرَةٌ بِالِاتّفَاقِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَفِيهِ النّزَاعُ. فَأَبُو حَنِيفَةَ أَوْجَبَ ضَمَانَهُ مُطْلَقًا وَأَحْمَدُ وَمَالِكٌ أَهْدَرَا ضَمَانَهُ وَفَرّقَ الشّافِعِيّ بَيْنَ الْمُقَدّرِ فَأَهْدَرَ ضَمَانَهُ وَبَيْنَ غَيْرِ الْمُقَدّرِ فَأَوْجَبَ ضَمَانَهُ. فَأَبُو حَنِيفَةَ نَظَرَ إلَى أَنّ الْإِذْنَ فِي الْفِعْلِ إنّمَا وَقَعَ مَشْرُوطًا بِالسّلَامَةِ وَأَحْمَدُ وَمَالِكٌ نَظَرَا إلَى أَنّ الْإِذْنَ أَسْقَطَ الضّمَانَ وَالشّافِعِيّ نَظَرَ إلَى أَنّ الْمُقَدّرَ لَا يُمْكِنُ النّقْصَانُ مِنْهُ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ النّصّ وَأَمّا غَيْرُ الْمُقَدّرِ كَالتّعْزِيرَاتِ وَالتّأْدِيبَاتِ فَاجْتِهَادِيّةٌ فَإِذَا تَلِفَ بِهَا ضَمِنَ لِأَنّهُ فِي مَظِنّةِ الْعُدْوَانِ.

.فصل الْقِسْمُ الثّانِي:

الْقِسْمُ الثّانِي: مُطَبّبٌ جَاهِلٌ بَاشَرَتْ يَدُهُ مَنْ يَطِبّهُ فَتَلِفَ بِهِ فَهَذَا إنْ عَلِمَ الْمَجْنِيّ عَلَيْهِ أَنّهُ جَاهِلٌ لَا عِلْمَ لَهُ وَأَذِنَ لَهُ فِي طِبّهِ لَمْ يَضْمَنْ وَلَا تُخَالِفُ هَذِهِ الصّورَةُ ظَاهِرَ الْحَدِيثِ فَإِنّ السّيَاقَ وَقُوّةَ الْكَلَامِ يَدُلّ عَلَى أَنّهُ غَرّ الْعَلِيلَ وَأَوْهَمَهُ أَنّهُ طَبِيبٌ وَلَيْسَ كَذَلِكَ وَإِنْ ظَنّ الْمَرِيضُ أَنّهُ طَبِيبٌ وَأَذِنَ لَهُ فِي طِبّهِ لِأَجْلِ مَعْرِفَتِهِ ضَمِنَ الطّبِيبُ مَا جَنَتْ يَدُهُ وَكَذَلِكَ إنْ وَصَفَ لَهُ دَوَاءً يَسْتَعْمِلُهُ وَالْعَلِيلُ يَظُنّ أَنّهُ وَصَفَهُ لِمَعْرِفَتِهِ وَحِذْقِهِ فَتَلِفَ بِهِ ضَمِنَهُ وَالْحَدِيثُ ظَاهِرٌ فِيهِ أَوْ صَرِيحٌ.

.فصل الْقِسْمُ الثّالِثُ:

الْقِسْمُ الثّالِثُ طَبِيبٌ حَاذِقٌ أَذِنَ لَهُ وَأَعْطَى الصّنْعَةَ حَقّهَا لَكِنّهُ أَخْطَأَتْ يَدُهُ وَتَعَدّتْ إلَى عُضْوٍ صَحِيحٍ فَأَتْلَفَهُ مِثْلَ أَنْ سَبَقَتْ يَدُ الْخَاتِنِ إلَى الْكَمَرَةِ فَهَذَا يَضْمَنُ لِأَنّهَا جِنَايَةُ خَطَأٍ ثُمّ إنْ كَانَتْ الثّلُثَ فَمَا زَادَ فَهُوَ عَلَى عَاقِلَتِهِ فَإِنْ لَمْ تَكُنْ عَاقِلَةٌ فَهَلْ تَكُونُ الدّيَةُ فِي مَالِهِ أَوْ فِي بَيْتِ الْمَالِ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ هُمَا رِوَايَتَانِ عَنْ أَحْمَدَ. وَقِيلَ إنْ كَانَ الطّبِيبُ ذِمّيّا فَفِي مَالِهِ وَإِنْ كَانَ مُسْلِمًا فَفِيهِ الرّوَايَتَانِ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ بَيْتُ مَالٍ أَوْ تَعَذّرَ تَحْمِيلُهُ فَهَلْ تَسْقُطُ الدّيَةُ أَوْ تَجِبُ فِي مَالِ الْجَانِي؟ فِيهِ وَجْهَانِ أَشْهُرُهُمَا: سُقُوطُهَا.

.فصل الْقِسْمُ الرّابِعُ:

الْقِسْمُ الرّابِعُ الطّبِيبُ الْحَاذِقُ الْمَاهِرُ بِصَنَاعَتِهِ اجْتَهَدَ فَوَصَفَ لِلْمَرِيضِ دَوَاءً فَأَخْطَأَ فِي اجْتِهَادِهِ فَقَتَلَهُ فَهَذَا يُخَرّجُ عَلَى رِوَايَتَيْنِ إحْدَاهُمَا: أَنّ دِيَةَ الْمَرِيضِ فِي بَيْتِ الْمَالِ.
وَالثّانِيَةُ أَنّهَا عَلَى عَاقِلَةِ الطّبِيبِ وَقَدْ نَصّ عَلَيْهِمَا الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي خَطَأِ الْإِمَامِ وَالْحَاكِمِ.

.فصل الْقِسْمُ الْخَامِسُ:

الْقِسْمُ الْخَامِسُ طَبِيبٌ حَاذِقٌ أَعْطَى الصّنْعَةَ حَقّهَا فَقَطَعَ سِلْعَةً مِنْ رَجُلٍ أَوْ صَبِيّ أَوْ مَجْنُونٍ بِغَيْرِ إذْنِهِ أَوْ إذْنِ وَلِيّهِ أَوْ خَتَنَ صَبِيّا بِغَيْرِ إذْنِ وَلِيّهِ فَتَلِفَ فَقَالَ أَصْحَابُنَا: يَضْمَنُ لِأَنّهُ تَوَلّدَ مِنْ فِعْلٍ غَيْرِ مَأْذُونٍ فِيهِ وَإِنْ أَذِنَ لَهُ الْبَالِغُ أَوْ وَلِيّ الصّبِيّ وَالْمَجْنُونِ لَمْ يَضْمَنْ وَيَحْتَمِلُ أَنْ لَا يَضْمَنَ مُطْلَقًا لِأَنّهُ مُحْسِنٌ وَمَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ. وَأَيْضًا فَإِنّهُ إنْ كَانَ مُتَعَدّيًا فَلَا أَثَرَ لِإِذْنِ الْوَلِيّ فِي إسْقَاطِ الضّمَانِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُتَعَدّيًا فَلَا وَجْهَ لِضَمَانِهِ. فَإِنْ قُلْت: هُوَ مُتَعَدّ عِنْدَ عَدَمِ الْإِذْنِ غَيْرُ مُتَعَدّ عِنْدَ الْإِذْنِ قُلْت: الْعُدْوَانُ وَعَدَمُهُ إنّمَا يَرْجِعُ إلَى فِعْلِهِ هُوَ فَلَا أَثَرَ لِلْإِذْنِ وَعَدَمِهِ فِيهِ وَهَذَا مَوْضِعُ نَظَرٍ.
فَصْلٌ أَقْسَامُ الْأَطِبّاءِ الْمَذْكُورَةُ سَابِقًا تَتَنَاوَلُ الطّبّ عَمَلًا أَوْ قَوْلًا إنْسَانًا أَوْ حَيَوَانًا وَاسْمَ كُلّ مِنْهُمْ.
وَالطّبِيبُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ يَتَنَاوَلُ مَنْ يَطِبّ بِوَصْفِهِ وَقَوْلِهِ وَهُوَ الّذِي يُخَصّ بِاسْمِ الطّبَائِعِيّ وَبِمِرْوَدِهِ وَهُوَ الْكَحّالُ وَبِمِبْضَعِهِ وَمَرَاهِمِهِ وَهُوَ الْجَرَائِحِيّ وَبِمُوسَاهُ وَهُوَ الْخَاتِنُ وَبِرِيشَتِهِ وَهُوَ الْفَاصِدُ وَبِمَحَاجِمِهِ وَمِشْرَطِهِ وَهُوَ الْحَجّامُ وَبِخَلْعِهِ وَوَصْلِهِ وَرِبَاطِهِ وَهُوَ الْمُجَبّرُ وَبِمِكْوَاتِهِ وَنَارِهِ وَهُوَ الْكَوّاءُ وَبِقِرْبَتِهِ وَهُوَ الْحَاقِنُ وَسَوَاءٌ كَانَ طِبّهُ لِحَيَوَانٍ بَهِيمٍ أَوْ إنْسَانٍ فَاسْمُ الطّبِيبِ يُطْلَقُ لُغَةً عَلَى هَؤُلَاءِ كُلّهِمْ كَمَا تَقَدّمَ وَتَخْصِيصُ النّاسِ لَهُ بِبَعْضِ أَنْوَاعِ الْأَطِبّاءِ عُرْفٌ حَادِثٌ كَتَخْصِيصِ لَفْظِ الدّابّةِ بِمَا يَخُصّهَا بِهِ كُلّ قَوْمٍ.