فصل: مَقْصُودُ الِاعْتِكَافِ عُكُوفُ الْقَلْبِ إلَى اللّهِ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: زاد المعاد في هدي خير العباد (نسخة منقحة)



.فصل صَوْمُ يَوْمِ عَرَفَةَ:

وَكَانَ مِنْ هَدْيِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إفْطَارُ يَوْمِ عَرَفَةَ بِعَرَفَةَ ثَبَتَ عَنْهُ ذَلِكَ فِي الصّحِيحَيْنِ. وَرُوِيَ عَنْهُ أَنّهُ نَهَى عَنْ صَوْمِ يَوْمِ عَرَفَةَ بِعَرَفَةَ رَوَاهُ عَنْهُ أَهْلُ السّنَنِ. وَصَحّ عَنْهُ أَنّ صِيَامَهُ يُكَفّرُ السّنَةَ الْمَاضِيَةَ وَالْبَاقِيَة ذَكَرَهُ مُسْلِمٌ.

.الْحُكْمُ مَنْ فَطَرَ يَوْمَ عَرَفَةَ بِعَرَفَةَ:

وَقَدْ ذُكِرَ لِفِطْرِهِ بِعَرَفَةَ عِدّةُ حِكَمٍ. مِنْهَا أَنّهُ أَقْوَى عَلَى الدّعَاءِ وَمِنْهَا: أَنّ الْفِطْرَ فِي السّفَرِ أَفْضَلُ فِي فَرْضِ الصّوْمِ فَكَيْفَ بِنَفْلِهِ. وَمِنْهَا: أَنّ ذَلِكَ الْيَوْمَ كَانَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَقَد نَهَى عَنْ إفْرَادِهِ بِالصّوْمِ فَأَحَبّ أَنْ يَرَى النّاسُ فِطْرَهُ فِيهِ تَأْكِيدًا لِنَهْيِهِ عَنْ تَخْصِيصِهِ بِالصّوْمِ وَإِنْ كَانَ صَوْمُهُ لِكَوْنِهِ يَوْمَ عَرَفَةَ لَا يَوْمِ جُمُعَةٍ وَكَانَ شَيْخُنَا رَحِمَهُ اللّهُ يَسْلُكُ مَسْلَكًا آخَرَ وَهُوَ أَنّهُ يَوْمُ عِيدٍ لِأَهْلِ عَرَفَةَ لِاجْتِمَاعِهِمْ فِيهِ كَاجْتِمَاعِ النّاسِ يَوْمِ الْعِيدِ وَهَذَا الِاجْتِمَاعُ يَخْتَصّ بِمَنْ بِعَرَفَةَ دُونَ أَهْلِ الْآفَاقِ. قَالَ وَقَدْ أَشَارَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إلَى هَذَا فِي الْحَدِيثِ الّذِي رَوَاهُ أَهْلُ السّنَنِ يَوْمُ عَرَفَةَ وَيَوْمُ النّحْرِ وَأَيّامُ مِنًى عِيدُنَا أَهْلَ الْإِسْلَامِ وَمَعْلُومٌ أَنّ كَوْنَهُ عِيدًا هُوَ لِأَهْلِ ذَلِكَ الْجَمْعِ لِاجْتِمَاعِهِمْ فِيهِ وَاللّهُ أَعْلَمُ.

.فصل صَوْمُ يَوْمَيْ السّبْتِ وَالْأَحَدِ:

وَقَدْ رُوِيَ أَنّهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ كَانَ يَصُومُ السّبْتَ وَالْأَحَدَ كَثِيرًا يَقْصِدُ بِذَلِكَ مُخَالَفَةَ الْيَهُودِ وَالنّصَارَى كَمَا فِي الْمُسْنَدِ وَسُنَنِ النّسَائِيّ عَنْ كُرَيْبٍ مَوْلَى ابْنِ عَبّاسٍ قَالَ أَرْسَلَنِي ابْنُ عَبّاسٍ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ وَنَاسٌ مِنْ أَصْحَابِ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إلَى أُمّ سَلَمَةَ أَسْأَلُهَا؟ أَيّ الْأَيّامِ كَانَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَكْثَرَهَا صِيَامًا؟ قَالَتْ يَوْمُ السّبْتِ وَالْأَحَدِ وَيَقُولُ إنّهُمَا عِيدٌ لِلْمُشْرِكِينَ فَأَنَا أُحِبّ أَنْ أُخَالِفَهُمْ وَفِي صِحّةِ هَذَا مُحَمّدِ بْنِ عُمَرَ بْنِ عَلِيّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ وَقَدْ اسْتَنْكَرَ بَعْضَ حَدِيثِهِ. وَقَدْ قَالَ عَبْدُ الْحَقّ فِي أَحْكَامِهِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ عَبّاسِ بْنِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ عَبّاسٍ عَنْ عَمّهِ الْفَضْلِ زَارَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَبّاسًا فِي بَادِيَةٍ لَنَا. ثُمّ قَالَ إسْنَادُهُ ضَعِيفٌ. قَالَ ابْنُ الْقَطّانِ: هُوَ كَمَا ذُكِرَ ضَعِيفٌ وَلَا يُعْرَفُ حَالُ مُحَمّدِ بْنِ عُمَرَ وَذُكِرَ حَدِيثُهُ هَذَا عَنْ أُمّ سَلَمَةَ فِي صِيَامِ يَوْمِ السّبْتِ وَالْأَحَدِ وَقَالَ سَكَتَ عَنْهُ عَبْدُ الْحَقّ مُصَحّحًا لَهُ وَمُحَمّدُ بْنُ عُمَرَ هَذَا لَا يُعْرَفُ حَالُهُ وَيَرْوِيهِ عَنْهُ ابْنُهُ عَبْدُ اللّهِ بْنُ مُحَمّدِ بْنِ عُمَرَ وَلَا يُعْرَفُ أَيْضًا حَالُهُ فَالْحَدِيثُ أَرَاهُ حَسَنًا. وَاللّهُ أَعْلَمُ. وَقَدْ رَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد عَنْ عَبْدِ اللّهِ بْنِ بُسْرٍ السّلَمِيّ عَنْ أُخْتِهِ الصّمّاءِ أَنّ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَالَ لَا تَصُومُوا يَوْمَ السّبْتِ إلّا فِيمَا اُفْتُرِضَ عَلَيْكُمْ فَإِنْ لَمْ يَجِدْ أَحَدُكُمْ إلّا لِحَاءَ عِنَبَةٍ أَوْ عُودَ شَجَرَةٍ فَلْيَمْضُغْهُ فَاخْتَلَفَ النّاسُ فِي هَذَيْنِ الْحَدِيثَيْنِ. فَقَالَ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللّهُ هَذَا كَذِبٌ يُرِيدُ حَدِيثَ عَبْدِ اللّهِ بْنِ بُسْرٍ ذَكَرَهُ عَنْهُ أَبُو دَاوُد قَالَ التّرْمِذِيّ: هُوَ حَدِيثٌ حَسَنٌ وَقَالَ أَبُو دَاوُد: هَذَا الْحَدِيثُ مَنْسُوخٌ وَقَالَ النّسَائِيّ: هُوَ حَدِيثٌ مُضْطَرِبٌ وَقَالَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ لَا تَعَارُضَ بَيْنِهِ وَبَيْنَ حَدِيثِ أُمّ سَلَمَةَ فَإِنّ النّهْيَ عَنْ صَوْمِهِ إنّمَا هُوَ عَنْ إفْرَادِهِ وَعَلَى ذَلِكَ تَرْجَمَ أَبُو دَاوُد فَقَالَ بَابُ النّهْيِ أَنْ يُخَصّ يَوْمُ السّبْتِ بِالصّوْمِ وَحَدِيثُ صِيَامِهِ إنّمَا هُوَ مَعَ يَوْمِ الْأَحَدِ. قَالُوا: نَهَى عَنْ إفْرَادِ يَوْمِ الْجُمُعَةِ بِالصّوْمِ إلّا أَنْ يَصُومَ يَوْمًا قَبْلَهُ أَوْ يَوْمًا بَعْدَهُ وَبِهَذَا يَزُولُ الْإِشْكَالُ الّذِي ظَنّهُ مَنْ قَالَ إنّ صَوْمَهُ نَوْعُ تَعْظِيمٍ لَهُ فَهُوَ مُوَافَقَةٌ لِأَهْلِ الْكِتَابِ فِي تَعْظِيمِهِ وَإِنْ تَضَمّنَ مُخَالَفَتَهُمْ فِي صَوْمِهِ فَإِنّ التّعْظِيمَ إنّمَا يَكُونُ إذَا أُفْرِدَ بِالصّوْمِ وَلَا رَيْبَ أَنّ الْحَدِيثَ لَمْ يَجِئْ بِإِفْرَادِهِ وَأَمّا إذَا صَامَهُ مَعَ غَيْرِهِ لَمْ يَكُنْ فِيهِ تَعْظِيمٌ وَاللّهُ أَعْلَمُ.

.فصل صِيَامُ الدّهْرِ:

وَلَمْ يَكُنْ مِنْ هَدْيِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ سَرْدُ الصّوْمِ وَصِيَامُ الدّهْرِ بَلْ قَدْ قَالَ مَنْ صَامَ الدّهْرَ لَا صَامَ وَلَا أَفْطَرَ وَلَيْسَ مُرَادُهُ بِهَذَا مَنْ صَامَ الْأَيّامَ الْمُحَرّمَةَ فَإِنّهُ ذَكَرَ ذَلِكَ جَوَابًا لِمَنْ قَالَ أَرَأَيْت مَنْ صَامَ الدّهْرَ؟ وَلَا يُقَالُ فِي جَوَابِ مَنْ فَعَلَ الْمُحَرّمَ لَا صَامَ وَلَا أَفْطَرَ فَإِنّ هَذَا يُؤْذِنُ بِأَنّهُ سَوَاءٌ فِطْرُهُ وَصَوْمُهُ لَا يُثَابُ عَلَيْهِ وَلَا يُعَاقَبُ وَلَيْسَ كَذَلِكَ مَنْ فَعَلَ مَا حَرّمَ اللّهُ عَلَيْهِ مِنْ الصّيَامِ فَلَيْسَ هَذَا جَوَابًا مُطَابِقًا لِلسّؤَالِ عَنْ الْمُحَرّمِ مِنْ الصّوْمِ وَأَيْضًا فَإِنّ هَذَا عِنْدَ مَنْ اسْتَحَبّ صَوْمَ الدّهْرِ قَدْ فَعَلَ مُسْتَحَبّا وَحَرَامًا وَهُوَ عِنْدَهُمْ قَدْ صَامَ بِالنّسْبَةِ إلَى أَيّامِ الِاسْتِحْبَابِ وَارْتَكَبَ مُحَرّمًا بِالنّسْبَةِ إلَى أَيّامِ التّحْرِيمِ وَفِي كُلّ مِنْهُمَا لَا يُقَالُ لَا صَامَ وَلَا أَفْطَرَ. فَتَنْزِيلُ قَوْلِهِ عَلَى ذَلِكَ غَلَطٌ ظَاهِرٌ. وَأَيْضًا فَإِنّ أَيّامَ التّحْرِيمِ مُسْتَثْنَاةٌ بِالشّرْعِ غَيْرَ قَابِلَةٍ لِلصّوْمِ شَرْعًا فَهِيَ بِمَنْزِلَةِ اللّيْلِ شَرْعًا وَبِمَنْزِلَةِ أَيّامِ الْحَيْضِ فَلَمْ يَكُنْ الصّحَابَةُ لِيَسْأَلُوهُ عَنْ صَوْمِهَا وَقَدْ عَلِمُوا عَدَمَ قَبُولِهَا لِلصّوْمِ وَلَمْ يَكُنْ لِيُجِيبَهُمْ لَوْ لَمْ يَعْلَمُوا التّحْرِيمَ بِقَوْلِهِ لَا صَامَ وَلَا أَفْطَرَ فَإِنّ هَذَا لَيْسَ فِيهِ بَيَانٌ لِلتّحْرِيمِ. شَكّ فِيهِ أَنّ صِيَامَ يَوْمٍ وَفِطْرَ يَوْمٍ أَفْضَلُ مِنْ صَوْمِ الدّهْرِ وَأَحَبّ إلَى اللّهِ. وَسَرْدُ صِيَامِ الدّهْرِ مَكْرُوهٌ فَإِنّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ مَكْرُوهًا لَزِمَ أَحَد ثَلَاثَةِ أُمُورٍ مُمْتَنِعَةٍ أَنْ يَكُونَ أَحَبّ إلَى اللّهِ مِنْ صَوْمِ يَوْمٍ وَفِطْرِ يَوْمٍ وَأَفْضَلُ مِنْهُ لِأَنّهُ زِيَادَةُ عَمَلٍ وَهَذَا مَرْدُودٌ بِالْحَدِيثِ الصّحِيحِ. إن أَحَبّ الصّيَامِ إلَى اللّهِ صِيَامُ دَاوُد وَإِنّهُ لَا أَفْضَلَ مِنْهُ. وَإِمّا أَنْ يَكُونَ مُسَاوِيًا فِي الْفَضْلِ وَهُوَ مُمْتَنِعٌ أَيْضًا وَإِمّا أَنْ يَكُونَ مُبَاحًا مُتَسَاوِيَ الطّرَفَيْنِ لَا اسْتِحْبَابَ فِيهِ وَلَا كَرَاهَةَ وَهَذَا مُمْتَنِعٌ إذْ لَيْسَ هَذَا شَأْنُ الْعِبَادَاتِ بَلْ إمّا أَنْ تَكُونَ رَاجِحَةً أَوْ مَرْجُوحَةً وَاللّهُ أَعْلَمُ. فَإِنْ قِيلَ فَقَدْ قَالَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مَنْ صَامَ رَمَضَانَ وَأَتْبَعَهُ سِتّةَ أَيّامٍ مِنْ شَوّالٍ فَكَأَنّمَا صَامَ الدّهْرَ وَقَالَ فِيمَنْ صَامَ ثَلَاثَةَ أَيّامٍ مِنْ كُلّ شَهْرٍ إنّ ذَلِكَ يَعْدِلُ صَوْمَ الدّهْرِ وَذَلِكَ يَدُلّ عَلَى أَنّ صَوْمَ الدّهْرِ أَفْضَلُ مِمّا عُدِلَ بِهِ وَأَنّهُ أَمْرٌ مَطْلُوبٌ وَثَوَابُهُ أَكْثَرُ مِنْ ثَوَابِ الصّائِمِينَ حَتّى شَبّهَ بِهِ مَنْ صَامَ هَذَا الصّيَامَ. قِيلَ نَفْسُ هَذَا التّشْبِيهِ فِي الْأَمْرِ الْمُقَدّرِ لَا يَقْتَضِي جَوَازَهُ فَضْلًا عَنْ اسْتِحْبَابِهِ وَإِنّمَا يَقْتَضِي التّشْبِيهَ بِهِ فِي ثَوَابِهِ لَوْ كَانَ مُسْتَحَبّا وَالدّلِيلُ عَلَيْهِ مِنْ نَفْسِ الْحَدِيثِ فَإِنّهُ جَعَلَ صِيَامَ ثَلَاثَةِ أَيّامٍ مِنْ كُلّ شَهْرٍ بِمَنْزِلَةِ صِيَامِ الدّهْرِ إذْ الْحَسَنَةُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا وَهَذَا يَقْتَضِي أَنْ يَحْصُلَ لَهُ ثَوَابُ مَنْ صَامَ ثَلَاثِمِائَةٍ وَسِتّينَ يَوْمًا وَمَعْلُومٌ أَنّ هَذَا حَرَامٌ قَطْعًا فَعُلِمَ أَنّ الْمُرَادَ بِهِ حُصُولُ هَذَا الثّوَابِ عَلَى ثَلَاثِمِائَةٍ وَسِتّينَ يَوْمًا وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ فِي صِيَامِ سِتّةِ أَيّامٍ مِنْ شَوّالٍ إنّهُ يَعْدِلُ مَعَ صِيَامِ رَمَضَانَ السّنَةَ ثُمّ قَرَأَ {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا} [الْأَنْعَامُ 160] فَهَذَا صِيَامُ سِتّةٍ وَثَلَاثِينَ يَوْمًا تَعْدِلُ صِيَامَ ثَلَاثِمِائَةٍ وَسِتّينَ يَوْمًا وَهُوَ غَيْرُ جَائِزٍ بِالِاتّفَاقِ بَلْ قَدْ يَجِيءُ مِثْلُ هَذَا فِيمَا يَمْتَنِعُ فِعْلُ الْمُشَبّهِ بِهِ عَادَةً بَلْ يَسْتَحِيلُ وَإِنّمَا شَبّهَ بِهِ مِنْ فِعْلِ ذَلِكَ عَلَى تَقْدِيرِ إمْكَانِهِ كَقَوْلِهِ لِمَنْ سَأَلَهُ عَنْ عَمَلٍ يَعْدِلُ الْجِهَادَ هَلْ تَسْتَطِيعُ إذَا خَرَجَ الْمُجَاهَدُ أَنْ تَقُومَ وَلَا تَفْتُرَ وَأَنْ تَصُومَ وَلَا تُفْطِرَ؟ وَمَعْلُومٌ أَنّ هَذَا مُمْتَنِعٌ عَادَةً كَامْتِنَاعِ صَوْمِ ثَلَاثِمِائَةٍ وَسِتّينَ يَوْمًا شَرْعًا وَقَدْ شَبّهَ الْعَمَلَ الْفَاضِلَ بِكُلّ مِنْهُمَا يُزِيدُهُ وُضُوحًا: أَنّ أَحَبّ الْقِيَامِ إلَى اللّهِ قِيَامُ دَاوُد وَهُوَ أَفْضَلُ مِنْ قِيَامِ اللّيْلِ كُلّهِ بِصَرِيحِ السّنّةِ الصّحِيحَةِ وَقَدْ مَثّلَ مَنْ صَلّى الْعِشَاءَ الْآخِرَةَ وَالصّبْحَ فِي جَمَاعَةٍ بِمَنْ قَامَ اللّيْلَ كُلّهُ فَإِنْ قِيلَ فَمَا تَقُولُونَ فِي حَدِيثِ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيّ؟ مَنْ صَامَ الدّهْرَ ضُيّقَتْ عَلَيْهِ جَهَنّمُ حَتّى تَكُونَ هَكَذَا وَقَبَضَ كَفّهُ وَهُوَ فِي مُسْنَدِ أَحْمَدَ. قِيلَ قَدْ اُخْتُلِفَ فِي مَعْنَى هَذَا الْحَدِيثِ. فَقِيلَ ضُيّقَتْ عَلَيْهِ حَصْرًا لَهُ فِيهَا لِتَشْدِيدِهِ عَلَى نَفْسِهِ وَحَمْلِهِ عَلَيْهَا وَرَغْبَتِهِ عَنْ هَدْيِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَاعْتِقَادِهِ أَنّ غَيْرَهُ أَفْضَلُ مِنْهُ. وَقَالَ آخَرُونَ بَلْ ضُيّقَتْ عَلَيْهِ فَلَا يَبْقَى لَهُ فِيهَا مَوْضِعٌ الطّائِفَةُ هَذَا التّأْوِيلَ بِأَنّ الصّائِمَ لَمّا ضَيّقَ عَلَى نَفْسِهِ مَسَالِكَ الشّهَوَاتِ وَطُرُقَهَا بِالصّوْمِ ضَيّقَ اللّهُ عَلَيْهِ النّارَ فَلَا يَبْقَى لَهُ فِيهَا مَكَانٌ لِأَنّهُ ضَيّقَ طُرُقَهَا عَنْهُ وَرَجّحَتْ الطّائِفَةُ الْأُولَى تَأْوِيلَهَا بِأَنْ قَالَتْ لَوْ أَرَادَ هَذَا الْمَعْنَى لَقَالَ ضُيّقَتْ عَنْهُ وَأَمّا التّضْيِيقُ عَلَيْهِ فَلَا يَكُونُ إلّا وَهُوَ فِيهَا. قَالُوا: وَهَذَا التّأْوِيلُ مُوَافِقٌ لِأَحَادِيثِ كَرَاهَةِ صَوْمِ الدّهْرِ وَأَنّ فَاعِلَهُ بِمَنْزِلَةِ مَنْ لَمْ يَصُمْ وَاللّهُ أَعْلَمُ.

.فصل إنْشَاءُ نِيّةِ التّطَوّعِ مِنْ النّهَارِ:

لَا حَرَجَ فِي الْفِطْرِ فِي صِيَامِ التّطَوّعِ:
وَكَانَ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَدْخُلُ عَلَى أَهْلِهِ فَيَقُولُ هَلْ عِنْدَكُمْ شَيْءٌ؟ فَإِنْ قَالُوا: لَا. قَالَ إنّي إذًا صَائِمٌ فَيُنْشِئُ النّيّةَ لِلتّطَوّعِ مِنْ النّهَارِ وَكَانَ أَحْيَانًا يَنْوِي صَوْمَ التّطَوّعِ ثُمّ يُفْطِرُ بَعْدُ أَخْبَرَتْ عَنْهُ عَائِشَةُ رَضِيَ اللّهُ عَنْهَا بِهَذَا وَهَذَا فَالْأَوّلُ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ وَالثّانِي: فِي كِتَابِ النّسَائِيّ وَأَمّا الْحَدِيثُ الّذِي فِي السّنَنِ عَنْ عَائِشَةَ: كُنْتُ أَنَا وَحَفْصَةُ صَائِمَتَيْنِ فَعَرَضَ لَنَا طَعَامٌ اشْتَهَيْنَاهُ فَأَكَلْنَا مِنْهُ فَجَاءَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَبَدَرَتْنِي إلَيْهِ حَفْصَةُ وَكَانَتْ ابْنَةَ أَبِيهَا فَقَالَتْ يَا رَسُولَ اللّهِ إنّا كُنّا صَائِمَتَيْنِ فَعَرَضَ لَنَا طَعَامٌ اشْتَهَيْنَاهُ فَأَكَلْنَا مِنْهُ فَقَالَاقْضِيَا يَوْمَا مَكَانَهُ فَهُوَ حَدِيثٌ مَعْلُولٌ. قَالَ التّرْمِذِيّ: رَوَاهُ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ وَمَعْمَرٌ وَعَبْدُ اللّهِ بْنُ عُمَرَ وَزِيَادُ بْنُ سَعْدٍ وَغَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ الْحُفّاظِ عَنْ الزّهْرِيّ عَنْ عَائِشَةَ مُرْسَلًا لَمْ يَذْكُرُوا فِيهِ عَنْ عُرْوَةَ وَهَذَا أَصَحّ. وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالنّسَائِيّ عَنْ حَيْوة بْنِ شُرَيْحٍ عَنْ ابْنِ الْهَادِ عَنْ زُمَيْلٍ مَوْلَى عُرْوَةَ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ مَوْصُولًا قَالَ النّسَائِيّ: زُمَيْلٌ لَيْسَ بِالْمَشْهُورِ وَقَالَ الْبُخَارِيّ: لَا يُعْرَفُ لِزُمَيْلٍ سَمَاعٌ مِنْ عُرْوَةَ وَلَا لِيَزِيدَ بْنِ الْهَادِ مِنْ زُمَيْلٍ وَلَا تَقُومُ بِهِ الْحُجّةُ.

.مَنْ نَزَلَ عَلَى قَوْمٍ وَكَانَ صَائِمًا فَلْيَقُلْ إنّي صَائِمٌ:

وَكَانَ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إذَا كَانَ صَائِمًا وَنَزَلَ عَلَى قَوْمٍ أَتَمّ صِيَامَهُ وَلَمْ يُفْطِرْ كَمَا دَخَلَ عَلَى أُمّ سُلَيْمٍ فَأَتَتْهُ بِتَمْرٍ وَسَمْنٍ فَقَالَ أَعِيدُوا سَمْنَكُمْ فِي سِقَائِهِ وَتَمْرِكُمْ فِي وِعَائِهِ فَإِنّي صَائِم وَلَكِنّ أُمّ سُلَيْمٍ كَانَتْ عِنْدَهُ بِمَنْزِلَةِ أَهْلِ بَيْتِهِ وَقَدْ ثَبَتَ عَنْهُ فِي الصّحِيحِ: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إذَا دُعِيَ أَحَدُكُمْ إلَى طَعَامٍ وَهُوَ صَائِمٌ فَلْيَقُلْ إنّي صَائِمٌ ابْنُ مَاجَهْ وَالتّرْمِذِيّ وَالْبَيْهَقِيّ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ تَرْفَعُهُ مَنْ نَزَلَ عَلَى قَوْمٍ فَلَا يَصُومَنّ تَطَوّعًا إلّا بِإِذْنِهِمْ فَقَالَ التّرْمِذِيّ: هَذَا الْحَدِيثُ مُنْكَرٌ لَا نَعْرِفُ أَحَدًا مِنْ الثّقَاتِ رَوَى هَذَا الْحَدِيثَ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ.

.فصل كَرَاهِيَةُ تَخْصِيصِ يَوْمِ الْجُمُعَةِ بِالصّوْمِ:

وَكَانَ مِنْ هَدْيِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ كَرَاهَةُ تَخْصِيصِ يَوْمِ الْجُمُعَةِ بِالصّوْمِ فِعْلًا مِنْهُ وَقَوْلًا. فَصَحّ النّهْيُ عَنْ إفْرَادِهِ بِالصّوْمِ مِنْ حَدِيثِ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللّهِ وَأَبِي هُرَيْرَةَ وَجُوَيْرِيَةَ بِنْتِ الْحَارِثِ وَعَبْدِ اللّهِ بْنِ عَمْرٍو وَجُنَادَة الْأَزْدِيّ وَغَيْرِهِمْ. وَشَرِبَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَرِ يُرِيهِمْ أَنّهُ لَا يَصُومُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ ذَكَرَهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَعَلّلَ الْمَنْعَ مِنْ صَوْمِهِ بِأَنّهُ يَوْمُ عِيدٍ فَرَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ مِنْ حَدِيثٍ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ: «يَوْمُ الْجُمُعَةِ يَوْمُ عِيدٍ فَلَا تَجْعَلُوا يَوْمَ عِيدِكُمْ يَوْمَ صِيَامِكُمْ إلّا أَنْ تَصُومُوا قَبْلَهُ أَوْ بَعْدَهُ» فَإِنْ قِيلَ فَيَوْمُ الْعِيدِ لَا يُصَامُ مَعَ مَا قَبْلَهُ وَلَا بَعْدَهُ. قِيلَ لَمّا كَانَ يَوْمُ الْجُمُعَةِ مُشَبّهًا بِالْعِيدِ أَخَذَ مِنْ شَبَهِهِ النّهْيَ عَنْ تَحَرّي صِيَامِهِ فَإِذَا صَامَ مَا قَبْلَهُ أَوْ تَحَرّاهُ وَكَانَ حُكْمُهُ حُكْمَ صَوْمِ الشّهْرِ أَوْ الْعُشْرِ مِنْهُ أَوْ صَوْمِ يَوْمٍ وَفِطْرِ يَوْمٍ أَوْ صَوْمِ يَوْمِ عَرَفَةَ وَعَاشُورَاءَ إذَا وَافَقَ يَوْمَ جُمُعَةٍ فَإِنّهُ لَا يُكْرَهُ صَوْمُهُ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ. فَإِنْ قِيلَ فَمَا تَصْنَعُونَ بِحَدِيثِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ مَسْعُودٍ؟ قَالَ مَا رَأَيْت رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يُفْطِرُ فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ رَوَاهُ أَهْلُ السّنَنِ. قِيلَ نَقْبَلُهُ إنْ كَانَ صَحِيحًا وَيَتَعَيّنُ حَمْلُهُ عَلَى صَوْمِهِ مَعَ مَا قَبْلَهُ أَوْ بَعْدَهُ وَنَرُدّهُ إنْ لَمْ يَصِحّ فَإِنّهُ مِنْ الْغَرَائِبِ قَالَ التّرْمِذِيّ هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ.

.فَصْلٌ فِي هَدْيِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي الِاعْتِكَافِ:

.مَقْصُودُ الِاعْتِكَافِ عُكُوفُ الْقَلْبِ إلَى اللّهِ:

لَمّا كَانَ صَلَاحُ الْقَلْبِ وَاسْتِقَامَتُهُ عَلَى طَرِيقِ سَيْرِهِ إلَى اللّهِ تَعَالَى، مُتَوَقّفًا عَلَى جَمْعِيّتِهِ عَلَى اللّهِ وَلَمّ شَعَثِهِ بِإِقْبَالِهِ بِالْكُلّيّةِ عَلَى اللّهِ تَعَالَى، فَإِنّ شَعَثَ الْقَلْبِ لَا يَلُمّهُ إلّا الْإِقْبَالُ عَلَى اللّهِ تَعَالَى، وَكَانَ فُضُولُ الطّعَامِ وَالشّرَابِ وَفُضُولُ مُخَالَطَةِ الْأَنَامِ وَفُضُولُ الْكَلَامِ وَفُضُولُ الْمَنَامِ مِمّا يَزِيدُهُ شَعَثًا، وَيُشَتّتُهُ فِي كُلّ وَادٍ وَيَقْطَعُهُ عَنْ سَيْرِهِ إلَى اللّهِ تَعَالَى، أَوْ يُضْعِفُهُ أَوْ يَعُوقُهُ وَيُوقِفُهُ اقْتَضَتْ رَحْمَةُ الْعَزِيزِ الرّحِيمِ بِعِبَادِهِ أَنْ شَرَعَ لَهُمْ مِنْ الصّوْمِ مَا يُذْهِبُ فُضُولَ الطّعَامِ وَالشّرَابِ وَيَسْتَفْرِغُ مِنْ الْقَلْبِ أَخْلَاطَ الشّهَوَاتِ الْمَعُوقَةِ لَهُ عَنْ سَيْرِهِ إلَى اللّهِ تَعَالَى، وَشَرْعِهِ بِقَدْرِ الْمَصْلَحَةِ بِحَيْثُ يَنْتَفِعُ بَهْ الْعَبْدُ فِي دُنْيَاهُ وَأُخْرَاهُ وَلَا يَضُرّهُ وَلَا يَقْطَعُهُ عَنْ مَصَالِحِهِ الْعَاجِلَةِ وَالْآجِلَةِ.
وَشَرَعَ لَهُمْ الِاعْتِكَافَ الّذِي مَقْصُودُهُ وَرُوحُهُ عُكُوفُ الْقَلْبِ عَلَى اللّهِ تَعَالَى، وَجَمْعِيّتُهُ عَلَيْهِ وَالْخَلْوَةُ بِهِ وَالِانْقِطَاعُ عَنْ الِاشْتِغَالِ بِالْخَلْقِ وَالِاشْتِغَالُ بِهِ وَحْدَهُ سُبْحَانَهُ بِحَيْثُ يَصِيرُ ذِكْرُهُ وَحُبّهُ وَالْإِقْبَالُ بَدَلَهَا، وَيَصِيرُ الْهَمّ كُلّهُ بِهِ وَالْخَطَرَاتُ كُلّهَا بِذِكْرِهِ وَالتّفَكّرِ فِي تَحْصِيلِ مَرَاضِيهِ وَمَا يُقَرّبُ مِنْهُ فَيَصِيرُ أُنْسُهُ بِاَللّهِ بَدَلًا عَنْ أُنْسِهِ بِالْخَلْقِ فَيَعُدّهُ بِذَلِكَ لِأُنْسِهِ بِهِ يَوْمَ الْوَحْشَةِ فِي الْقُبُورِ حِينَ لَا أَنِيسَ لَهُ وَلَا مَا يَفْرَحُ بِهِ سِوَاهُ فَهَذَا مَقْصُودُ الِاعْتِكَافِ الْأَعْظَمِ.

.تَرْجِيحُ الْمُصَنّفِ أَنّ الصّوْمَ شَرْطٌ لِلِاعْتِكَافِ:

وَلَمّا كَانَ هَذَا الْمَقْصُودُ إنّمَا يَتِمّ مَعَ الصّوْمِ شُرِعَ الِاعْتِكَافُ فِي أَفْضَلِ أَيّامِ الصّوْمِ وَهُوَ الْعَشْرُ الْأَخِيرُ مِنْ رَمَضَانَ وَلَمْ يُنْقَلْ عَنْ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَنّهُ اعْتَكَفَ مُفْطِرًا قَطّ، بَلْ قَدْ قَالَتْ عَائِشَةُ: لَا اعْتِكَافَ إلّا بِصَوْمٍ وَلَمْ يَذْكُرْ اللّهُ سُبْحَانَهُ الِاعْتِكَافَ إلّا مَعَ الصّوْمِ وَلَا فَعَلَهُ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إلّا مَعَ الصّوْمِ. فَالْقَوْلُ الرّاجِحُ فِي الدّلِيلِ الّذِي عَلَيْهِ جُمْهُورُ السّلَفِ أَنّ الصّوْمَ شَرْطٌ فِي الِاعْتِكَافِ وَهُوَ الّذِي كَانَ يُرَجّحُهُ شَيْخُ الْإِسْلَامِ أَبُو الْعَبّاسِ ابْنُ تَيْمِيّةَ. وَأَمّا الْكَلَامُ فَإِنّهُ شُرِعَ لِلْأُمّةِ حَبْسُ اللّسَانِ عَنْ كُلّ مَا لَا يَنْفَعُ فِي الْآخِرَةِ. وَأَمّا فُضُولُ الْمَنَامِ فَإِنّهُ شُرِعَ لَهُمْ مِنْ قِيَامِ اللّيْلِ مَا هُوَ مِنْ أَفْضَلِ السّهَرِ وَأَحْمَدِهِ عَاقِبَةً وَهُوَ السّهَرُ الْمُتَوَسّطُ الّذِي يَنْفَعُ الْقَلْبَ وَالْبَدَنَ وَلَا يَعُوقُ عَنْ مَصْلَحَةِ الْعَبْدِ وَمَدَارُ رِيَاضَةِ أَرْبَابِ الرّيَاضَاتِ وَالسّلُوكِ عَلَى هَذِهِ الْأَرْكَانِ وَأَسْعَدُهُمْ بِهَا مَنْ سَلَكَ فِيهَا الْمِنْهَاجَ النّبَوِيّ الْمُحَمّدِيّ وَلَمْ يَنْحَرِفْ انْحِرَافَ الْغَالّينَ وَلَا قَصّرَ تَقْصِيرَ الْمُفَرّطِينَ وَقَدْ ذَكَرْنَا هَدْيَهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي صِيَامِهِ وَقِيَامِهِ وَكَلَامِهِ فَلْنَذْكُرْ هَدْيَهُ فِي اعْتِكَافِهِ كَانَ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَعْتَكِفُ الْعَشْرَ الْأَوَاخِرَ مِنْ رَمَضَانَ حَتّى تَوَفّاهُ اللّهُ عَزّ وَجَلّ وَتَرَكَهُ مَرّةً فَقَضَاهُ فِي شَوّالٍ. وَاعْتَكَفَ مَرّةً فِي الْعَشْرِ الْأَوّلِ ثُمّ الْأَوْسَطِ ثُمّ الْعَشْرِ الْأَخِيرِ يَلْتَمِسُ لَيْلَةَ الْقَدْرِ ثُمّ تَبَيّنَ لَهُ أَنّهَا فِي الْعَشْرِ الْأَخِيرِ فَدَاوَمَ عَلَى اعْتِكَافِهِ حَتّى لَحِقَ بِرَبّهِ عَزّ وَجَلّ. وَكَانَ يَأْمُرُ بِخِبَاءٍ فَيُضْرَبُ لَهُ فِي الْمَسْجِدِ يَخْلُو فِيهِ بِرَبّهِ عَزّ وَجَلّ. وَكَانَ إذَا أَرَادَ الِاعْتِكَافَ صَلّى الْفَجْرَ ثُمّ دَخَلَهُ فَأَمَرَ بِهِ مَرّةً فَضُرِبَ فَأَمَرَ أَزْوَاجَهُ بِأَخْبِيَتِهِنّ فَضُرِبَتْ فَلَمّا صَلّى الْفَجْرَ نَظَرَ فَرَأَى تِلْكَ الْأَخْبِيَةَ فَأَمَرَ بِخِبَائِهِ فَقُوّضَ، وَتَرَكَ الِاعْتِكَافَ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ حَتّى اعْتَكَفَ فِي الْعَشْرِ الْأَوّلِ مِنْ شَوّالٍ. وَكَانَ يَعْتَكِفُ كُلّ سَنَةٍ عَشَرَةَ أَيّامٍ فَلَمّا كَانَ فِي الْعَامِ الّذِي قُبِضَ فِيهِ اعْتَكَفَ عِشْرِينَ يَوْمًا، وَكَانَ يُعَارِضُهُ جِبْرِيلُ بِالْقُرْآنِ كُلّ سَنَةٍ مَرّةً فَلَمّا كَانَ ذَلِكَ الْعَامُ وَكَانَ يَعْرِضُ عَلَيْهِ الْقُرْآنَ أَيْضًا فِي كُلّ سَنَةٍ مَرّةً فَعَرَضَ عَلَيْهِ تِلْكَ السّنَةِ مَرّتَيْنِ. وَكَانَ إذَا اعْتَكَفَ دَخَلَ قُبّتَهُ وَحْدَهُ وَكَانَ لَا يَدْخُلُ بَيْتَهُ فِي حَالِ اعْتِكَافِهِ إلّا لِحَاجَةِ الْإِنْسَانِ، وَكَانَ يُخْرِجُ رَأْسَهُ مِنْ الْمَسْجِدِ إلَى بَيْتِ عَائِشَةَ فَتُرَجّلُهُ وَتَغْسِلُهُ وَهُوَ فِي الْمَسْجِدِ وَهِيَ حَائِضٌ وَكَانَتْ بَعْضُ أَزْوَاجِهِ تَزُورُهُ وَهُوَ مُعْتَكِفٌ. فَإِذَا قَامَتْ تَذْهَبُ قَامَ مَعَهَا يَقْلِبُهَا، وَكَانَ ذَلِكَ لَيْلًا، وَلَمْ يُبَاشِرْ امْرَأَةً مِنْ نِسَائِهِ وَهُوَ مُعْتَكِفٌ لَا بِقُبْلَةٍ وَلَا غَيْرِهَا، وَكَانَ إذَا اعْتَكَفَ طُرِحَ لَهُ فِرَاشُهُ وَوُضِعَ لَهُ سَرِيرُهُ فِي مُعْتَكَفِهِ، وَكَانَ إذَا خَرَجَ لِحَاجَتِهِ مَرّ بِالْمَرِيضِ وَهُوَ عَلَى طَرِيقِهِ فَلَا يَعْرُجْ عَلَيْهِ وَلَا يَسْأَلْ عَنْهُ. وَاعْتَكَفَ مَرّةً فِي قُبّةٍ تُرْكِيّةٍ، وَجَعَلَ عَلَى سُدّتِهَا حَصِيرًا، كُلّ اتّخَاذِ الْمُعْتَكِفِ مَوْضِعَ عِشْرَةٍ وَمَجْلَبَةٍ لِلزّائِرِينَ وَأَخْذِهِمْ بِأَطْرَافِ الْأَحَادِيثِ بَيْنَهُمْ فَهَذَا لَوْنٌ وَالِاعْتِكَافُ النّبَوِيّ لَوْنٌ. وَاللّهُ الْمُوَفّقُ.