فصل: التّوْفِيقُ بَيْنَهَا مِنْ كَلَامِ ابْنِ قُتَيْبَةَ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: زاد المعاد في هدي خير العباد (نسخة منقحة)



.فصل مَا يُرَاعِيهِ الطّبِيبُ الْحَاذِقُ مِنْ الْأُمُورِ:

وَالطّبِيبُ الْحَاذِقُ هُوَ الّذِي يُرَاعِي فِي عِلَاجِهِ عِشْرِينَ أَمْرًا: أَحَدُهَا: النّظَرُ فِي نَوْعِ الْمَرَضِ مِنْ أَيّ الْأَمْرَاضِ هُوَ؟ الثّانِي: النّظَرُ فِي سَبَبِهِ مِنْ أَيّ شَيْءٍ حَدَثَ وَالْعِلّةُ الْفَاعِلَةُ الّتِي كَانَتْ سَبَبَ حُدُوثِهِ مَا هِيَ؟.
الثّالِثُ قُوّةُ الْمَرِيضِ وَهَلْ هِيَ مُقَاوِمَةٌ لِلْمَرَضِ أَوْ أَضْعَفُ مِنْهُ؟ فَإِنْ كَانَتْ مُقَاوِمَةً لِلْمَرَضِ مُسْتَظْهِرَةً عَلَيْهِ تَرَكَهَا وَالْمَرَضَ وَلَمْ يُحَرّكْ بِالدّوَاءِ سَاكِنًا.
الرّابِعُ مِزَاجُ الْبَدَنِ الطّبِيعِيّ مَا هُوَ؟ الْخَامِسُ الْمِزَاجُ الْحَادِثُ عَلَى غَيْرِ الْمُجْرَى الطّبِيعِيّ.
السّادِسُ سِنّ الْمَرِيضِ.
السّابِعُ عَادَتُهُ.
الثّامِنُ الْوَقْتُ الْحَاضِرُ مِنْ فُصُولِ السّنَةِ وَمَا يَلِيقُ بِهِ.
التّاسِعُ بَلَدُ الْمَرِيضِ وَتُرْبَتُهُ.
الْعَاشِرُ حَالُ الْهَوَاءِ فِي وَقْتِ الْمَرَضِ.
الْحَادِيَ عَشَرَ النّظَرُ فِي الدّوَاءِ الْمُضَادّ لِتِلْكَ الْعِلّةِ.
الثّانِي عَشَرَ النّظَرُ فِي قُوّةِ الدّوَاءِ وَدَرَجَتِهِ وَالْمُوَازَنَةُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ قُوّةِ الْمَرِيضِ.

.أَنْ يَكُونَ قَصْدُهُ إزَالَةَ الْعِلّةِ عَلَى وَجْهٍ يَأْمَنُ مَعَهُ حُدُوثَ أَصْعَبِ مِنْهَا:

الثّالِثَ عَشَرَ أَلّا يَكُونَ كُلّ قَصْدِهِ إزَالَةَ تِلْكَ الْعِلّةِ فَقَطْ بَلْ إزَالَتُهَا عَلَى وَجْهٍ يَأْمَنُ مَعَهُ حُدُوثَ أَصْعَبِ مِنْهَا فَمَتَى كَانَ إزَالَتُهَا لَا يَأْمَنُ مَعَهَا حُدُوثَ عِلّةٍ أُخْرَى أَصْعَبَ مِنْهَا أَبْقَاهَا عَلَى حَالِهَا وَتَلْطِيفِهَا هُوَ الْوَاجِبُ وَهَذَا كَمَرَضِ أَفْوَاهِ الْعُرُوقِ فَإِنّهُ مَتَى عُولِجَ بِقَطْعِهِ وَحَبْسِهِ خِيفَ حُدُوثُ مَا هُوَ أَصْعَبُ مِنْهُ.

.أَنْ يُعَالِجَ بِالْأَسْهَلِ فَالْأَسْهَلِ:

الرّابِعَ عَشَرَ أَنْ يُعَالِجَ بِالْأَسْهَلِ فَالْأَسْهَلِ فَلَا يَنْتَقِلُ مَنْ الْعِلَاجِ بِالْغِذَاءِ إلَى الدّوَاءِ إلّا عِنْدَ تَعَذّرِهِ وَلَا يَنْتَقِلُ إلَى الدّوَاءِ الْمُرَكّبِ إلّا عِنْدَ تَعَذّرِ الدّوَاءِ الْبَسِيطِ فَمِنْ حِذْقِ الطّبِيبِ عِلَاجُهُ بِالْأَغْذِيَةِ بَدَلَ الْأَدْوِيَةِ وَبِالْأَدْوِيَةِ الْبَسِيطَةِ بَدَلَ الْمُرَكّبَةِ.
الْخَامِسَ عَشَرَ أَنْ يَنْظُرَ فِي الْعِلّةِ هَلْ هِيَ مِمّا يُمْكِنُ عِلَاجُهَا أَوْ لَا؟ فَإِنْ يُفِيدُ شَيْئًا. وَإِنْ أَمْكَنَ عِلَاجُهَا نَظَرَ هَلْ يُمْكِنُ زَوَالُهَا أَمْ لَا؟ فَإِنْ عَلِمَ أَنّهُ لَا يُمْكِنُ زَوَالُهَا نَظَرَ هَلْ يُمْكِنُ تَخْفِيفُهَا وَتَقْلِيلُهَا أَمْ لَا؟ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ تَقْلِيلُهَا وَرَأَى أَنّ غَايَةَ الْإِمْكَانِ إيقَافُهَا وَقَطْعُ زِيَادَتِهَا قَصَدَ بِالْعِلَاجِ ذَلِكَ وَأَعَانَ الْقُوّةَ وَأَضْعَفَ الْمَادّةَ.
السّادِسَ عَشَرَ أَلّا يَتَعَرّضَ لِلْخَلْطِ قَبْلَ نُضْجِهِ بِاسْتِفْرَاغٍ بَلْ يَقْصِدُ إنْضَاجَهُ فَإِذَا تَمّ نُضْجُهُ بَادَرَ إلَى اسْتِفْرَاغِهِ.

.أَنْ يَكُونَ لَهُ خِبْرَةٌ بِاعْتِلَالِ الْقُلُوبِ:

السّابِعَ عَشَرَ أَنْ يَكُونَ لَهُ خِبْرَةٌ بِاعْتِلَالِ الْقُلُوبِ وَالْأَرْوَاحِ وَأَدْوِيَتِهَا وَذَلِكَ أَصْلٌ عَظِيمٌ فِي عِلَاجِ الْأَبْدَانِ فَإِنّ انْفِعَالَ الْبَدَنِ وَطَبِيعَتَهُ عَنْ النّفْسِ وَالْقَلْبِ أَمْرٌ مَشْهُودٌ وَالطّبِيبُ إذَا كَانَ عَارِفًا بِأَمْرَاضِ الْقَلْبِ وَالرّوحِ وَعِلَاجِهِمَا كَانَ هُوَ الطّبِيبَ الْكَامِلَ وَاَلّذِي لَا خِبْرَةَ لَهُ بِذَلِكَ وَإِنْ كَانَ حَاذِقًا فِي عِلَاجِ الطّبِيعَةِ وَأَحْوَالِ الْبَدَنِ نِصْفُ طَبِيبٍ. وَكُلّ طَبِيبٍ لَا يُدَاوِي الْعَلِيلَ بِتَفَقّدِ قَلْبِهِ وَصَلَاحِهِ وَتَقْوِيَةِ رُوحِهِ وَقُوَاهُ بِالصّدَقَةِ وَفِعْلِ الْخَيْرِ وَالْإِحْسَانِ وَالْإِقْبَالِ عَلَى اللّهِ وَالدّارِ الْآخِرَةِ فَلَيْسَ بِطَبِيبٍ بَلْ مُتَطَبّبٌ قَاصِرٌ. وَمِنْ أَعْظَمِ عِلَاجَاتِ الْمَرَضِ فِعْلُ الْخَيْرِ وَالْإِحْسَانِ وَالذّكْرُ وَالدّعَاءُ وَالتّضَرّعُ وَالِابْتِهَالُ إلَى اللّهِ وَالتّوْبَةُ وَلِهَذِهِ الْأُمُورِ تَأْثِيرٌ فِي دَفْعِ الْعِلَلِ وَحُصُولِ الشّفَاءِ أَعْظَمُ مِنْ الْأَدْوِيَةِ الطّبِيعِيّةِ وَلَكِنْ بِحَسَبِ اسْتِعْدَادِ النّفْسِ وَقَبُولِهَا وَعَقِيدَتِهَا فِي ذَلِكَ وَنَفْعِهِ.
الثّامِنَ عَشَرَ التّلَطّفُ بِالْمَرِيضِ وَالرّفْقُ بِهِ كَالتّلَطّفِ بِالصّبِيّ.
التّاسِعَ عَشَرَ أَنْ يَسْتَعْمِلَ أَنْوَاعَ الْعِلَاجَاتِ الطّبِيعِيّةِ وَالْإِلَهِيّةِ وَالْعِلَاجَ بِالتّخْيِيلِ فَإِنّ لِحُذّاقِ الْأَطِبّاءِ فِي التّخْيِيلِ أُمُورًا عَجِيبَةً لَا يَصِلُ إلَيْهَا الدّوَاءُ فَالطّبِيبُ الْحَاذِقُ يَسْتَعِينُ عَلَى الْمَرَضِ بِكُلّ مُعِينٍ.
الْعِشْرُونَ- وَهُوَ مِلَاكُ أَمْرِ الطّبِيبِ- أَنْ يَجْعَلَ عِلَاجَهُ وَتَدْبِيرَهُ دَائِرًا عَلَى سِتّةِ أَرْكَانٍ حِفْظُ الصّحّةِ الْمَوْجُودَةِ وَرَدّ الصّحّةِ الْمَفْقُودَةِ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ أَدْنَى الْمَفْسَدَتَيْنِ لِإِزَالَةِ أَعْظَمِهِمَا وَتَفْوِيتِ أَدْنَى الْمَصْلَحَتَيْنِ لِتَحْصِيلِ أَعْظَمِهِمَا فَعَلَى هَذِهِ الْأُصُولِ السّتّةِ مَدَارُ الْعِلَاجِ وَكُلّ طَبِيبٍ لَا تَكُونُ هَذِهِ أَخِيّتَهُ الّتِي يَرْجِعُ إلَيْهَا فَلَيْسَ بِطَبِيبٍ وَاللّهُ أَعْلَمُ.

.فصل مُرَاعَاةُ الطّبِيبِ لِأَحْوَالِ الْمَرَضِ:

وَلَمّا كَانَ لِلْمَرَضِ أَرْبَعَةُ أَحْوَالٍ ابْتِدَاءٌ وَصُعُودٌ وَانْتِهَاءٌ وَانْحِطَاطٌ تَعَيّنَ عَلَى الطّبِيبِ مُرَاعَاةُ كُلّ حَالٍ مِنْ أَحْوَالِ الْمَرَضِ بِمَا يُنَاسِبُهَا وَيَلِيقُ بِهَا وَيَسْتَعْمِلُ فِي كُلّ حَالٍ مَا يَجِبُ اسْتِعْمَالُهُ فِيهَا. فَإِذَا رَأَى فِي ابْتِدَاءِ الْمَرَضِ أَنّ الطّبِيعَةَ مُحْتَاجَةٌ إلَى مَا يُحَرّكُ الْفَضَلَاتِ وَيَسْتَفْرِغُهَا لِنُضْجِهَا بَادَرَ إلَيْهِ فَإِنْ فَاتَهُ تَحْرِيكُ الطّبِيعَةِ فِي ابْتِدَاءِ الْمَرَضِ لِعَائِقٍ مَنَعَ مِنْ ذَلِكَ أَوْ لِضَعْفِ الْقُوّةِ وَعَدَمِ احْتِمَالِهَا لِلِاسْتِفْرَاغِ أَوْ لِبُرُودَةِ الْفَصْلِ أَوْ لِتَفْرِيطٍ وَقَعَ فَيَنْبَغِي أَنْ يَحْذَرَ كُلّ الْحَذَرِ أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ فِي صُعُودِ الْمَرَضِ لِأَنّهُ إنْ فَعَلَهُ تَحَيّرَتْ الطّبِيعَةُ لِاشْتِغَالِهَا بِالدّوَاءِ وَتَخَلّتْ عَنْ تَدْبِيرِ الْمَرَضِ وَمُقَاوَمَتِهِ بِالْكُلّيّةِ وَمِثَالُهُ أَنْ يَجِيءَ إلَى فَارِسٍ مَشْغُولٍ بِمُوَاقَعَةِ عَدُوّهِ فَيَشْغَلُهُ عَنْهُ بِأَمْرٍ آخَرَ وَلَكِنّ الْوَاجِبَ فِي هَذِهِ الْحَالِ أَنْ يُعِينَ الطّبِيعَةَ عَلَى حِفْظِ الْقُوّةِ مَا أَمْكَنَهُ. فَإِذَا انْتَهَى الْمَرَضُ وَوَقَفَ وَسَكَنَ أَخَذَ فِي اسْتِفْرَاغِهِ وَاسْتِئْصَالِ أَسْبَابِهِ فَإِذَا أَخَذَ فِي الِانْحِطَاطِ كَانَ أَوْلَى بِذَلِكَ. وَمِثَالُ هَذَا مِثَالُ الْعَدُوّ إذَا انْتَهَتْ قُوّتُهُ وَفَرَغَ سِلَاحُهُ كَانَ أَخْذُهُ سَهْلًا فَإِذَا وَلّى وَأَخَذَ فِي الْهَرَبِ كَانَ أَسْهَلَ أَخْذًا وَحِدّتُهُ وَشَوْكَتُهُ إنّمَا هِيَ فِي ابْتِدَائِهِ وَحَالِ اسْتِفْرَاغِهِ وَسِعَةِ قُوّتِهِ فَهَكَذَا الدّاءُ وَالدّوَاءُ سَوَاءٌ.

.فصل مِنْ حِذْقِ الطّبِيبِ التّدْبِيرُ بِالْأَسْهَلِ:

وَمِنْ حِذْقِ الطّبِيبِ أَنّهُ حَيْثُ أَمْكَنَ التّدْبِيرُ بِالْأَسْهَلِ فَلَا يَعْدِلُ إلَى يَخَافَ فَوْتَ الْقُوّةِ حِينَئِذٍ فَيَجِبُ أَنْ يَبْتَدِئَ بِالْأَقْوَى وَلَا يُقِيمَ فِي الْمُعَالَجَةِ عَلَى حَالٍ وَاحِدَةٍ فَتَأْلَفُهَا الطّبِيعَةُ وَيَقِلّ انْفِعَالُهَا عَنْهُ وَلَا تَجْسُرُ عَلَى الْأَدْوِيَةِ الْقَوِيّةِ فِي الْفُصُولِ الْقَوِيّةِ وَقَدْ تَقَدّمَ أَنّهُ إذَا أَمْكَنَهُ الْعِلَاجُ بِالْغِذَاءِ فَلَا يُعَالِجُ بِالدّوَاءِ وَإِذَا أَشْكَلَ عَلَيْهِ الْمَرَضُ أَحَارّ هُوَ أَمْ بَارِدٌ؟ فَلَا يُقْدِمُ حَتّى يَتَبَيّنَ لَهُ وَلَا يُجَرّبُهُ بِمَا يَخَافُ عَاقِبَتَهُ وَلَا بَأْسَ بِتَجْرِبَتِهِ بِمَا لَا يَضُرّ أَثَرُهُ.

.مَا يَفْعَلُهُ الطّبِيبُ إذَا اجْتَمَعَتْ أَمْرَاضٌ:

وَإِذَا اجْتَمَعَتْ أَمْرَاضٌ بَدَأَ بِمَا تَخُصّهُ وَاحِدَةٌ مِنْ ثَلَاثِ خِصَالٍ إحْدَاهَا: أَنْ يَكُونَ بُرْءُ الْآخَرِ مَوْقُوفًا عَلَى بُرْئِهِ كَالْوَرَمِ وَالْقُرْحَةِ فَإِنّهُ يَبْدَأُ بِالْوَرَمِ.
الثّانِيةُ أَنْ يَكُونَ أَحَدُهَا سَبَبًا لِلْآخَرِ كَالسّدّةِ وَالْحُمّى الْعَفِنَةِ فَإِنّهُ يَبْدَأُ بِإِزَالَةِ السّبَبِ.
الثّالِثَةُ أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا أَهَمّ مِنْ الْآخَرِ كَالْحَادّ وَالْمُزْمِنِ فَيَبْدَأُ بِالْحَادّ وَمَعَ هَذَا فَلَا يَغْفُلُ عَنْ الْآخَرِ. وَإِذَا اجْتَمَعَ الْمَرَضُ وَالْعَرَضُ بَدَأَ بِالْمَرَضِ إلّا أَنْ يَكُونَ الْعَرْضُ أَقْوَى كَالْقُولَنْجِ فَيُسَكّنُ الْوَجَعَ أَوّلًا ثُمّ يُعَالِجُ السّدّةَ وَإِذَا أَمْكَنَهُ أَنْ يَعْتَاضَ عَنْ الْمُعَالَجَةِ بِالِاسْتِفْرَاغِ بِالْجُوعِ أَوْ الصّوْمِ أَوْ النّوْمِ لَمْ يَسْتَفْرِغْهُ وَكُلّ صِحّةٍ أَرَادَ حِفْظَهَا حَفِظَهَا بِالْمِثْلِ أَوْ الشّبَهِ وَإِنْ أَرَادَ نَقْلَهَا إلَى مَا هُوَ أَفْضَلُ مِنْهَا نَقَلَهَا بِالضّدّ.

.فَصْلٌ فِي هَدْيِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي التّحَرّزِ مِنْ الْأَدْوَاءِ الْمُعْدِيَةِ بِطَبْعِهَا وَإِرْشَادِهِ الْأَصِحّاءَ إلَى مُجَانَبَةِ أَهْلِهَا:

ثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللّهِ أَنّهُ كَانَ فِي وَفْدِ ثَقِيفٍ رَجُلٌ مَجْذُومٌ فَأَرْسَلَ إلَيْهِ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ ارْجِعْ فَقَدْ بَايَعْنَاكَ وَرَوَى الْبُخَارِيُ فِي صَحِيحِهِ تَعْلِيقًا مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النّبِيّ صَلّى اللّه عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَنّهُ قَالَ فِرّ مِنْ الْمَجْذُومِ كَمَا تَفِرّ مِنْ الْأَسَدِ وَفِي سُنَنِ ابْنِ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبّاسٍ أَنّ النَبيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَالَ لَا تُدِيمُوا النّظَرَ إلَى الْمَجْذُومِينَ وَفِي الصّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ: «لَا يُورِدَنّ مُمْرِضٌ عَلَى مُصِحّ» وَيُذْكَرُ عَنْهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ: «كَلّمْ الْمَجْذُومَ وَبَيْنَكَ وَبَيْنَهُ قِيدَ رُمْحٍ أَوْ رُمْحَيْنِ».

.مَا هُوَ الْجُذَامُ:

الْجُذَامُ عِلّةٌ رَدِيئَةٌ تَحْدُثُ مِنْ انْتِشَارِ الْمُرّةِ السّوْدَاءِ فِي الْبَدَنِ كُلّهِ فَيَفْسُدُ مِزَاجُ الْأَعْضَاءِ وَهَيْئَتُهَا وَشَكْلُهَا وَرُبّمَا فَسَدَ فِي آخِرِهِ اتّصَالُهَا حَتّى تَتَأَكّلَ الْأَعْضَاءُ وَتَسْقُطَ وَيُسَمّى دَاءَ الْأَسَدِ.

.سَبَبُ تَسْمِيَةِ الْجُذَامِ بِدَاءِ الْأَسَدِ:

وَفِي هَذِهِ التّسْمِيَةِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ لِلْأَطِبّاءِ أَحَدُهَا: أَنّهَا لِكَثْرَةِ مَا تَعْتَرِي الْأَسَدَ.
وَالثّانِي: لِأَنّ هَذِهِ الْعِلّةَ تُجَهّمُ وَجْهَ صَاحِبِهَا وَتَجْعَلُهُ فِي سَحْنَةِ الْأَسَدِ.
وَالثّالِثُ أَنّهُ يَفْتَرِسُ مَنْ يَقْرَبُهُ أَوْ يَدْنُو مِنْهُ بِدَائِهِ افْتِرَاسَ الْأَسَدِ.

.عِلّةُ الِابْتِعَادِ عَنْ الْمَجْذُومِ وَالْمَسْلُولِ:

وَهَذِهِ الْعِلّةُ عِنْدَ الْأَطِبّاءِ مِنْ الْعِلَلِ الْمُعْدِيَةِ الْمُتَوَارَثَةِ وَمُقَارِبُ الْمَجْذُومِ وَصَاحِبُ السّلّ يَسْقَمُ بِرَائِحَتِهِ فَالنّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لِكَمَالِ شَفَقَتِهِ عَلَى الْأُمّةِ وَنُصْحِهِ لَهُمْ نَهَاهُمْ عَنْ الْأَسْبَابِ الّتِي تُعَرّضُهُمْ لِوُصُولِ الْعَيْبِ وَالْفَسَادِ إلَى أَجْسَامِهِمْ وَقُلُوبِهِمْ وَلَا رَيْبَ أَنّهُ قَدْ يَكُونُ فِي الْبَدَنِ تَهَيّؤٌ وَاسْتِعْدَادٌ كَامِنٌ لِقَبُولِ هَذَا الدّاءِ وَقَدْ تَكُونُ الطّبِيعَةُ سَرِيعَةَ الِانْفِعَالِ قَابِلَةً لِلِاكْتِسَابِ مِنْ أَبْدَانِ مَنْ تُجَاوِرُهُ وَتُخَالِطُهُ فَإِنّهَا نَقّالَةٌ وَقَدْ يَكُونُ خَوْفُهَا مِنْ ذَلِكَ وَوَهْمُهَا مِنْ أَكْبَرِ أَسْبَابِ إصَابَةِ تِلْكَ الْعِلّةِ لَهَا فَإِنّ الْوَهْمَ فَعّالٌ مُسْتَوْلٍ عَلَى الْقُوَى وَالطّبَائِعِ وَقَدْ تَصِلُ رَائِحَةُ الْعَلِيلِ إلَى الصّحِيحِ فَتُسْقِمُهُ وَهَذَا مُعَايَنٌ فِي بَعْضِ الْأَمْرَاضِ وَالرّائِحَةُ أَحَدُ أَسْبَابِ الْعَدْوَى وَمَعَ هَذَا كُلّهِ فَلَا بُدّ مِنْ وُجُودِ اسْتِعْدَادِ الْبَدَنِ وَقَبُولِهِ لِذَلِكَ الدّاءِ وَقَدْ تَزَوّجَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ امْرَأَةً فَلَمّا أَرَادَ الدّخُولَ بِهَا وَجَدَ بِكَشْحِهَا بَيَاضًا فَقَالَ الْحَقِي بِأَهْلِكِ.

.التّوْفِيقُ بَيْنَ الْأَحَادِيثِ السّابِقَةِ وَبَيْنَ نَفْيِ الْعَدْوَى وَالْأَكْلِ مَعَ الْمَجْذُومِ:

وَقَدْ ظَنّ طَائِفَةٌ مِنْ النّاسِ أَنّ هَذِهِ الْأَحَادِيثَ مُعَارَضَةٌ بِأَحَادِيثَ أُخَرَ تُبْطِلُهَا وَتُنَاقِضُهَا فَمِنْهَا: مَا رَوَاهُ التّرْمِذِيّ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَخَذَ بِيَدِ رَجُلٍ مَجْذُومٍ فَأَدْخَلَهَا مَعَهُ فِي الْقَصْعَةِ وَقَالَ كُلْ بِسْمِ اللّهِ ثِقَةً بِاَللّهِ وَتَوَكّلًا عَلَيْهِ وَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ. وَبِمَا ثَبَتَ فِي الصّحِيحِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَنّهُ قَالَ لَا عَدْوَى وَلَا طِيَرَةَ. وَنَحْنُ نَقُولُ لَا تَعَارُضَ بِحَمْدِ اللّهِ بَيْنَ أَحَادِيثِهِ الصّحِيحَةِ. فَإِذَا وَقَعَ التّعَارُضُ فَإِمّا أَنْ يَكُونَ أَحَدُ الْحَدِيثَيْنِ لَيْسَ مِنْ كَلَامِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَقَدْ غَلِطَ فِيهِ بَعْضُ الرّوَاةِ مَعَ كَوْنِهِ ثِقَةً ثَبْتًا فَالثّقَةُ يَغْلَطُ أَوْ يَكُونُ أَحَدُ الْحَدِيثَيْنِ نَاسِخًا لِلْآخَرِ إذَا كَانَ مِمّا يَقْبَلُ النّسْخَ أَوْ يَكُونُ التّعَارُضُ فِي فَهْمِ السّامِعِ لَا فِي نَفْسِ كَلَامِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَلَا بُدّ مِنْ وَجْهٍ مِنْ هَذِهِ الْوُجُوهِ الثّلَاثَةِ. وَأَمّا حَدِيثَانِ صَحِيحَانِ صَرِيحَانِ مُتَنَاقِضَانِ مِنْ كُلّ وَجْهٍ لَيْسَ أَحَدُهُمَا نَاسِخًا لِلْآخَرِ فَهَذَا لَا يُوجَدُ أَصْلًا وَمَعَاذَ اللّهِ أَنْ يُوجَدَ فِي كَلَامِ الصّادِقِ الْمَصْدُوقِ الّذِي لَا يُخْرِجُ مِنْ بَيْنِ شَفَتَيْهِ إلّا الْحَقّ وَالْآفَةُ مِنْ التّقْصِيرِ فِي مَعْرِفَةِ الْمَنْقُولِ وَالتّمْيِيزِ بَيْنَ صَحِيحِهِ وَمَعْلُولِهِ أَوْ مِنْ الْقُصُورِ فِي فَهْمِ مُرَادِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ كَلَامِهِ عَلَى غَيْرِ مَا عَنَاهُ بِهِ أَوْ مِنْهُمَا مَعًا وَمِنْ هَاهُنَا وَقَعَ مِنْ الِاخْتِلَافِ وَالْفَسَادِ مَا وَقَعَ وَبِاَللّهِ التّوْفِيقُ.

.التّوْفِيقُ بَيْنَهَا مِنْ كَلَامِ ابْنِ قُتَيْبَةَ:

قَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ فِي كِتَابِ اخْتِلَافِ الْحَدِيثِ لَهُ حِكَايَةً عَنْ أَعْدَاءِ الْحَدِيثِ وَأَهْلِهِ قَالُوا: حَدِيثَانِ مُتَنَاقِضَانِ رَوَيْتُمْ عَنْ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَنّهُ قَالَ لَا عَدْوَى وَلَا طِيَرَةَ وَقِيلَ لَهُ إنّ النّقْبَةَ تَقَعُ بِمِشْفَرِ الْبَعِيرِ فَيَجْرَبُ لِذَلِكَ الْإِبِلُ. قَالَ فَمَا أَعْدَى الْأَوّلَ ثُمّ رَوَيْتُمْ لَا يُورِدُ ذُو عَاهَةٍ عَلَى مُصِحّ وَفِرّ مِنْ الْمَجْذُومِ فِرَارَك مِنْ الْأَسَدِ وَأَتَاهُ رَجُلٌ مَجْذُومٌ لِيُبَايِعَهُ بَيْعَةَ الْإِسْلَامِ فَأَرْسَلَ إلَيْهِ الْبَيْعَةَ وَأَمَرَهُ بِالِانْصِرَافِ وَلَمْ يَأْذَنْ لَهُ وَقَالَ الشّؤْمُ فِي الْمَرْأَةِ وَالدّارِ وَالدّابّةِ قَالُوا: وَهَذَا كُلّهُ مُخْتَلِفٌ لَا يُشْبِهُ بَعْضُهُ بَعْضًا. قَالَ أَبُو مُحَمّدٍ وَنَحْنُ نَقُولُ إنّهُ لَيْسَ فِي هَذَا اخْتِلَافٌ وَلِكُلّ مَعْنًى مِنْهَا زَالَ الِاخْتِلَافُ. وَالْعَدْوَى جِنْسَانِ أَحَدُهُمَا: عَدْوَى الْجُذَامِ فَإِنّ الْمَجْذُومَ تَشْتَدّ رَائِحَتُهُ حَتّى يُسْقِمَ مَنْ أَطَالَ مُجَالَسَتَهُ وَمُحَادَثَتَهُ وَكَذَلِكَ الْمَرْأَةُ تَكُونُ تَحْتَ الْمَجْذُومِ فَتُضَاجِعُهُ فِي شِعَارٍ وَاحِدٍ فَيُوصِلُ إلَيْهَا الْأَذَى وَرُبّمَا جُذِمَتْ وَكَذَلِكَ وَلَدُهُ يَنْزِعُونَ فِي الْكِبَرِ إلَيْهِ وَكَذَلِكَ مَنْ كَانَ بِهِ سِلّ وَدِقّ ونُقْبٌ. وَالْأَطِبّاءُ تَأْمُرُ أَنْ لَا يُجَالِسَ الْمَسْلُولَ وَلَا الْمَجْذُومَ وَلَا يُرِيدُونَ بِذَلِكَ مَعْنَى الْعَدْوَى وَإِنّمَا يُرِيدُونَ بِهِ مَعْنَى تَغَيّرِ الرّائِحَةِ وَأَنّهَا قَدْ تُسْقِمُ مَنْ أَطَالَ اشْتِمَامَهَا وَالْأَطِبّاءُ أَبْعَدُ النّاسِ عَنْ الْإِيمَانِ بِيُمْنٍ وَشُؤْمٍ وَكَذَلِكَ النّقْبَةُ تَكُونُ بِالْبَعِيرِ- وَهُوَ جَرَبٌ رَطْبٌ- فَإِذَا خَالَطَ الْإِبِلَ أَوْ حَاكَهَا وَأَوَى فِي مَبَارِكِهَا وَصَلَ إلَيْهَا بِالْمَاءِ الّذِي يَسِيلُ مِنْهُ وَبِالنّطْفِ نَحْوَ مَا بِهِ فَهَذَا هُوَ الْمَعْنَى الّذِي قَالَ فِيهِ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لَا يُورَدُ ذُو عَاهَةٍ عَلَى مُصِحّ كَرِهَ أَنْ يُخَالِطَ الْمَعْيُوهَ الصّحِيحُ لِئَلّا يَنَالَهُ مِنْ نَطَفِهِ وَحِكّتِهِ نَحْوُ مِمّا بِهِ. قَالَ وَأَمّا الْجِنْسُ الْآخَرُ مِنْ الْعَدْوَى فَهُوَ الطّاعُونُ يَنْزِلُ بِبَلَدٍ فَيَخْرُجُ مِنْهُ خَوْفَ الْعَدْوَى وَقَدْ قَالَ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إذَا وَقَعَ بِبَلَدٍ وَأَنْتُمْ بِهِ فَلَا تَخْرُجُوا مِنْهُ وَإِذَا كَانَ بِبَلَدٍ فَلَا تَدْخُلُوهُ. يُرِيدُ بِقَوْلِهِ لَا تَخْرُجُوا مَنْ الْبَلَدِ إذَا كَانَ فِيهِ كَأَنّكُمْ تَظُنّونَ أَنّ الْفِرَارَ مِنْ قَدَرِ اللّهِ يُنْجِيكُمْ مِنْ اللّهِ وَيُرِيدُ إذَا كَانَ بِبَلَدٍ فَلَا تَدْخُلُوهُ أَيْ مَقَامُكُمْ فِي الْمَوْضِعِ الّذِي لَا طَاعُونَ فِيهِ أَسْكَنُ لِقُلُوبِكُمْ وَأَطْيَبُ لِعَيْشِكُمْ وَمِنْ ذَلِكَ الْمَرْأَةُ تُعْرَفُ بِالشّؤْمِ أَوْ الدّارُ فَيَنَالُ الرّجُلَ مَكْرُوهٌ أَوْ جَائِحَةٌ فَيَقُولُ أَعَدْتِنِي بِشُؤْمِهَا فَهَذَا هُوَ الْعَدْوَى الّذِي قَالَ فِيهِ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لَا عَدْوَى وَقَالَتْ فِرْقَةٌ أُخْرَى: بَلْ الْأَمْرُ بِاجْتِنَابِ الْمَجْذُومِ وَالْفِرَارِ مِنْهُ عَلَى الِاسْتِحْبَابِ وَالِاخْتِيَارِ وَالْإِرْشَادِ وَأَمّا الْأَكْلُ مَعَهُ فَفَعَلَهُ لِبَيَانِ الْجَوَازِ وَأَنّ هَذَا لَيْسَ بِحَرَامٍ. وَقَالَتْ فِرْقَةٌ أُخْرَى: بَلْ الْخِطَابُ بِهَذَيْنِ الْخِطَابَيْنِ جُزْئِيّ لَا كُلّيّ فَكُلّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِمَا يَلِيقُ بِحَالِهِ فَبَعْضُ النّاسِ يَكُونُ قَوِيّ الْإِيمَانِ قَوِيّ التّوَكّلِ تَدْفَعُ قُوّةُ تَوَكّلِهِ قُوّةَ الْعَدْوَى كَمَا تَدْفَعُ قُوّةُ الطّبِيعَةِ قُوّةَ الْعِلّةِ فَتُبْطِلُهَا وَبَعْضُ النّاسِ لَا يَقْوَى عَلَى ذَلِكَ فَخَاطَبَهُ بِالِاحْتِيَاطِ وَالْأَخْذِ بِالتّحَفّظِ وَكَذَلِكَ هُوَ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَعَلَ الْحَالَتَيْنِ مَعًا لِتَقْتَدِيَ بِهِ الْأُمّةُ فِيهِمَا فَيَأْخُذُ مَنْ قَوِيَ مِنْ أُمّتِهِ بِطَرِيقَةِ التّوَكّلِ وَالْقُوّةِ وَالثّقَةِ بِاَللّهِ وَيَأْخُذُ مَنْ ضَعُفَ مِنْهُمْ بِطَرِيقَةِ التّحَفّظِ وَالِاحْتِيَاطِ وَهُمَا طَرِيقَانِ صَحِيحَانِ:
أَحَدُهُمَا: لِلْمُؤْمِنِ الْقَوِيّ وَالْآخَرُ لِلْمُؤْمِنِ الضّعِيفِ فَتَكُونُ لِكُلّ وَاحِدٍ مِنْ الطّائِفَتَيْنِ حُجّةٌ وَقُدْوَةٌ بِحَسَبِ حَالِهِمْ وَمَا يُنَاسِبُهُمْ وَهَذَا كَمَا أَنّهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ كَوَى وَأَثْنَى عَلَى تَارِكِ الْكَيّ وَقَرَنَ تَرْكَهُ بِالتّوَكّلِ وَتَرْكِ الطّيَرَةَ وَلِهَذَا نَظَائِرُ كَثِيرَةٌ وَهَذِهِ طَرِيقَةٌ لَطِيفَةٌ حَسَنَةٌ جِدّا مَنْ أَعْطَاهَا حَقّهَا وَرُزِقَ فِقْهَ نَفْسِهِ فِيهَا أَزَالَتْ عَنْهُ تَعَارُضًا كَثِيرًا يَظُنّهُ بِالسّنّةِ الصّحِيحَةِ. وَذَهَبَتْ فِرْقَةٌ أُخْرَى إلَى أَنّ الْأَمْرَ بِالْفِرَارِ مِنْهُ وَمُجَانَبَتِهِ لِأَمْرٍ طَبِيعِيّ وَهُوَ انْتِقَالُ الدّاءِ مِنْهُ بِوَاسِطَةِ الْمُلَامَسَةِ وَالْمُخَالَطَةِ وَالرّائِحَةِ إلَى الصّحِيحِ وَهَذَا يَكُونُ مَعَ تَكْرِيرِ الْمُخَالَطَةِ وَالْمُلَامَسَةِ لَهُ وَأَمّا أَكْلُهُ مَعَهُ مِقْدَارًا يَسِيرًا مِنْ الزّمَانِ لِمَصْلَحَةٍ رَاجِحَةٍ فَلَا بَأْسَ بِهِ وَلَا تَحْصُلُ الْعَدْوَى مِنْ مَرّةٍ وَاحِدَةٍ وَلَحْظَةٍ وَاحِدَةٍ فَنَهَى سَدّا لِلذّرِيعَةِ وَحِمَايَةً لِلصّحّةِ وَخَالَطَهُ مُخَالَطَةً مَا لِلْحَاجَةِ وَالْمَصْلَحَةِ فَلَا تَعَارُضَ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ. وَقَالَتْ طَائِفَةٌ أُخْرَى: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ هَذَا الْمَجْذُومُ الّذِي أَكَلَ مَعَهُ بِهِ مِنْ الْجُذَامِ أَمْرٌ يَسِيرٌ لَا يُعْدِي مِثْلُهُ وَلَيْسَ الْجَذْمَى كُلّهُمْ سَوَاءً وَلَا الْعَدْوَى حَاصِلَةٌ مِنْ جَمِيعِهِمْ بَلْ مِنْهُمْ مَنْ لَا تَضُرّ مُخَالَطَتُهُ وَلَا تَعْدِي وَهُوَ مَنْ أَصَابَهُ مِنْ ذَلِكَ شَيْءٌ يَسِيرٌ ثُمّ وَقَفَ وَاسْتَمَرّ عَلَى حَالِهِ وَلَمْ يُعْدِ بَقِيّةَ جِسْمِهِ فَهُوَ أَنْ لَا يُعْدِيَ غَيْرَهُ أَوْلَى وَأَحْرَى. وَقَالَتْ فِرْقَةٌ أُخْرَى: إنّ الْجَاهِلِيّةَ كَانَتْ تَعْتَقِدُ أَنّ الْأَمْرَاضَ الْمُعْدِيَةَ تُعْدِي بِطَبْعِهَا مِنْ غَيْرِ إضَافَةٍ إلَى اللّهِ سُبْحَانَهُ فَأَبْطَلَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ اعْتِقَادَهُمْ ذَلِكَ وَأَكَلَ مَعَ الْمَجْذُومِ لِيُبَيّنَ لَهُمْ أَنّ اللّهَ سُبْحَانَهُ هُوَ الّذِي يُمْرِضُ وَيَشْفِي وَنَهَى عَنْ الْقُرْبِ مِنْهُ جَعَلَهَا اللّهُ مُفْضِيَةً إلَى مُسَبّبَاتِهَا فَفِي نَهْيِهِ إثْبَاتُ الْأَسْبَابِ وَفِي فِعْلِهِ بَيَانُ أَنّهَا لَا تَسْتَقِلّ بِشَيْءٍ بَلْ الرّبّ سُبْحَانَهُ إنْ شَاءَ سَلَبَهَا قُوَاهَا فَلَا تُؤَثّرُ شَيْئًا وَإِنْ شَاءَ أَبْقَى عَلَيْهَا قُوَاهَا فَأَثّرَتْ. وَقَالَتْ فِرْقَةٌ أُخْرَى: بَلْ هَذِهِ الْأَحَادِيثُ فِيهَا النّاسِخُ وَالْمَنْسُوخُ فَيَنْظُرُ فِي تَارِيخِهَا فَإِنْ عُلِمَ الْمُتَأَخّرُ مِنْهَا حُكِمَ بِأَنّهُ النّاسِخُ وَإِلّا تَوَقّفْنَا فِيهَا. وَقَالَتْ فِرْقَةٌ أُخْرَى: بَلْ بَعْضُهَا مَحْفُوظٌ وَبَعْضُهَا غَيْرُ مَحْفُوظٍ وَتَكَلّمَتْ فِي حَدِيثِ لَا عَدْوَى وَقَالَتْ قَدْ كَانَ أَبُو هُرَيْرَةَ يَرْوِيهِ أَوّلًا ثُمّ شَكّ فِيهِ فَتَرَكَهُ وَرَاجَعُوهُ فِيهِ وَقَالُوا: سَمِعْنَاك تُحَدّثُ بِهِ فَأَبَى أَنْ يُحَدّثَ بِهِ. قَالَ أَبُو سَلَمَةَ فَلَا أَدْرِي أَنَسِيَ أَبُو هُرَيْرَةَ أَمْ نَسَخَ أَحَدُ الْحَدِيثَيْنِ الْآخَرَ؟ وَأَمّا حَدِيثُ جَابِرٍ أَنّ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَخَذَ بِيَدِ مَجْذُومٍ فَأَدْخَلَهَا مَعَهُ فِي الْقَصْعَةِ فَحَدِيثٌ لَا يَثْبُتُ وَلَا يَصِحّ وَغَايَةُ مَا قَالَ فِيهِ التّرْمِذِيّ: إنّهُ غَرِيبٌ لَمْ يُصَحّحْهُ وَلَمْ يُحَسّنْهُ. وَقَدْ قَالَ شُعْبَةُ وَغَيْرُهُ اتّقُوا هَذِهِ الْغَرَائِبَ. قَالَ التّرْمِذِيّ: وَيُرْوَى هَذَا مِنْ فِعْلِ عُمَرَ وَهُوَ أَثْبَتُ فَهَذَا شَأْنُ هَذَيْنِ الْحَدِيثَيْنِ اللّذَيْنِ عُورِضَ بِهِمَا أَحَادِيثُ النّهْيِ أَحَدُهُمَا: رَجَعَ أَبُو هُرَيْرَةَ عَنْ التّحْدِيثِ بِهِ وَأَنْكَرَهُ وَالثّانِي: لَا يَصِحّ عَنْ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَاللّهُ أَعْلَمُ وَقَدْ أَشْبَعْنَا الْكَلَامَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي كِتَابِ الْمِفْتَاحِ بِأَطْوَلَ مِنْ هَذَا وَبِاَللّهِ التّوْفِيقُ.