فصل: ذكر فتح حصن لغوب:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: فتوح الشام (نسخة منقحة)



.ذكر فتوح اليمانية وجبل الجودي:

قال: وارتحل عياض إلى الحصون وهي حصون الجبابرة وأنفذ إلى أهلها فاسلموا وأرسل النعمان بن معرف إلى أهل أنكل فاسلموا وسمت باليمانية لأنها فتحت على يد حذيفة بن اليمان ومضى عياض إلى الجابية ففتحها صلحا ونزل إلى أهل جبل الجودي والسيوان وذي الفرض فاخذوا من المسلمين صلحا وعهدا على تقرير بينهم وارتحل المسلمون حتى نزلوا على الهتاج فابى أهله أن يسلموا وعولوا على القتال ونصبوا الرعادات والمجانيق فنظر عياض إلى ذلك فعظم عليه وقال هذا حصن منيع ومتى تركناه ومضينا عنه اغاروا على أهل هذه البلاد وأذاقوهم الشر وقد لزمنا من أسلم ومن صالحنا الزم لنا فلا نحيد عنه حتى نفتحه أن شاء الله تعالى فقال خالد: انزلوا بنا عليه ولعل أن يأتي من عرضيات الأمور ما لم يكن في حساب.
قال الواقدي: وكان صاحب الهتاج شيطانا مريدا وجبارا عنيدا وكان اسمه يانس بن كليوس وكان قد تزوج بميرونة ابنة بريونة ابنة يريول بن كالوص صاحب قلب والحصن الحديد وكانت قد زفت إليه وأقامت عنده سنة ثم إنها مضت إلى زيارة أبيها وأمها وأقامت عندهما شهرا فلما خرجت من عندهما ومضت إلى الهتاج عند زوجها فبينما هي في نصف الطريق إذ بلغها أن المسلمين قد نزلوا على الهتاج فجلست في مكانها ولم تبرح وكان عدو الله يحبها ولا يجد له عنها صبرا فلما رأى المسلمين وقد نزلوا عليه علم أنه لا يقدر أن يجتمع بالجارية فاتفق رايه أن يصالح المسلمين حيلة منه ومكرا وخديعة حتى تحصل زوجته عنده ويغدر ولا يعطي أحدا طاعة فأرسل إلى عياض يقول له إنك لو اقمت علينا بقية عمرك لما قدرت علينا ولكن صالحنا سنة كاملة شمسية فإن أنت فتحت ما بقي من ديار بكر فنحن نرجع إلى طاعتك وإن لم تقدر على فتح البلاد فلا طاعة لك علينا والسلام وارسل إلى عياض رجلا من متنصرة العرب من ربيعة الفرس وكان ذلك الرجل مدبر بلاد الهتاج هو وبنو عمه وكان اسمه مرهف بن واقد وكان ميله إلى العرب أكثر من الروم فلما أدى الرسالة إلى عياض أجابه إلى الصلح لئلا يطول مقامهم فلما هم مرهف بالرجوع قال لعياض أما والله أيها الأمير ما كنت بالذي أدع النصيحة للعرب وأستعملها للعلوج وهذا العلج قد اتفق رأيه على كذا وكذا فإن كنت ترحل وتكمن لزوجته وتأخذها ومن معها وتطلب منه البلد فإنه يسلم لوقته فافعل فقال عياض ما كنا نقول قولا ولا نفي به ولعل الله ينظر إلى صدق نياتنا فيفتحه علينا.
حدثني مالك بن بشر بن عامر وكان ممن حضر فتوح الشام وديار بكر وديار ربيعة قال بينما مرهف يحدث عياضا إذا بغبرة قد اقبلت فقال عياض لميسرة بن مسروق اركب وانظر ما هذه الغبرة فركب ومضى هو وجماعة من الصحابة وعاد ميسرة وهو يقول أبشر أيها الأمير بالفتح قال: وما الخبر يا ابن مسروق قال هذا جيش ابن هبيرة المازني قد أغار على البلاد وأتى بالاموال والرجال قال فظهر البشر في وجه عياض وجعل يتطاول إلى قدوم ابن هبيرة المازني حتى وصل وسلم على عياض وعلى المسلمين وعرض عليه الغنائم ومرهف بن واقد يتأملها إلى أن عرضت عليه جارية رومية تخجل الشمس منها وعليها زي الملوك فأطرق المسلمون إلى الأرض يستعملون الأدب.
مع الله في قوله: {قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم} فلما نظر اليها مرهف قال أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله وإن دينكم الحق وقولكم الصدق فقال له عياض: ما بالك أيها الرجل قال هذه زوجة يانس صاحب الهتاج وقد طرحها الله في أيديكم فسجد عياض شكرا لله فلما رفع رأسه قال: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً، وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ} [الطلاق: 2, 3].
قال الواقدي: وكانت ميرونة قد خرجت من عند أهلها ومعها جماعة من بنات البطارقة فوافق طريق قيس بن هبيرة تلك الأرض فأخذها ومن معها وأتى بها إلى عياض فقال عياض لمرهف ارجع إلى يانس واكتم إسلامك وأخبره بما رايت واستعمل النصح للمسلمين وقل له أن اراد أهله فليسلم لنا هذه القلعة ومهما أردنا منه قال فرجع مرهف إلى يانس وحدثه بما جرى فعظم ذلك عليه وكبر لديه وقال لمرهف ما الذي ترى من الرأي قال اعلم أن هؤلاء القوم ما قالوا: إلا وفوا به وبذلك نصروا علينا ومن الرأي أن نسلم لهم القلعة ويعطوك زوجتك وجميع مالك وأنا الضامن لك منهم ذلك فقال: يانس انزل إليهم وائتني بعشرة رجال يحلفون لي على ما اريد فإن أجابوني إلى ذلك سلمت إليهم القلعة ولا تأتني إلا بمن يقبل قوله ويشكر فعله حتى أستوثق منهم لنفسي ولعله يكون الرجل الذي شاع ذكره بالشجاعة وفتح البلاد والشام يعني خالد بن الوليد وإنما أراد الملعون ذلك حتى يقبض عليهم ويخلص بهم زوجته قال فنزل إلى عياض وأخبره بذلك وبما قاله يانس فقال عياض يا مرهف يريد الملعون أن يخدعنا ونحن ثمرة الخداع ونرجو من الله أن يرجع مكره عليه ولديه ثم قرا: {إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللَّهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ} [يونس: 81] قال خالد: دعنا أيها الأمير نصعد إليه والله الموفق للصواب.
فقال عياض اعزموا على بركة الله ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم فنهض خالد والمقداد وعمار وسعيد بن زيد وعمرو بن معد يكرب والمسيب بن نجيبة وقيس بن هبيرة وميسرة وضرار بن الأزور وعبد الرحمن بن أبي بكر الصديق رضي الله عنهم أجمعين وساروا ومرهف أمامهم إلى أن وصلوا باب القلعة وكان رتب عدو الله غلمانه في دركات القلعة وأمرهم أن يأخذوا منهم سلاحهم ففعلوا ذلك إلا خالدا وعبد الرحمن وضرار فقالوا: ما كنا نسلم عدتنا لغيرنا فإن اراد أن ندخل عليه بسلاحنا والا رجعنا من حيث أتينا فدخل مرهف عليه وقال أن هؤلاء الثلاثة امتنعوا من اعطاء السلاح وما الذي يقدرون على أن يفعلوه دعهم يدخلوا كيف شاءوا فلو كانوا نارا ما أحرقوا ولا ترهم الجزع فيطمعوا فقال: وحق المسيح لقد صدقت دعهم كلهم يدخلوا بعددهم حتى يعلموا اننا لا نخافهم ولا نرهبهم وايضا لئلا تنفر قلوبهم منا فرجع مرهف.
وأمر الغلمان أن يردوا إليهم أسلحتهم ودخلوا فلما توسطوا القلعة إذا بيانس واقف فلما وقعت عينه عليهم دخل الرعب في قلبه لأن من خاف الله خاف منه كل شيء فجعل يهتز ويقع وكان قد قال لجماعته إذا رأيتموني قد قربت منهم وصافحتهم فدونكم وإياهم فنظر خالد إليهم فعلم ما في قلوبهم فقال له: أيها البطريق قف مكانك فانا قوم لا نؤتي بحيلة ولا مكر لانا قهرنا الملوك وأخذنا بلادهم بهذه الأشياء ثم إنه انتضى سيفه وزعق بيانس فادهشه وخيل له أن كل من في القلعة منهم وتقدم إليه وضربه على حبل عاتقه فأطلع السيف من علائقه فهجمت الصحابة علىأهل القلعة ووضعوا السيف فيهم وتكاثر عليهم العدو وتزايد المدد قال: وكان في داخل المدينة خلق من الرستاق من قرى الهتاج من فسطاس وقرساط وكان يانس قد جمعهم لقتال المسلمين قال فلما قتل خالد يانس ونظروا إلى صبر الصحابة على قتال أهل القلعة قالوا لبعضهم: أنتم تعلمون أن العرب ما يسكتون عن اصحابهم وقد فتحوا آمد والبلاد فلا يمتنع منهم الهتاج وغيرها فخذوا لكم عند المسلمين يدا وقاتلوا معهم أهل القلعة قال ففعلوا ذلك وجردوا سيوفهم وضربوا معهم من كان في القلعة وسمع عياض الصياح.
فقال أما والله أن خالدا ومن معه غدر بهم فبادروا إليهم أيها المجاهدون قال فبادر أبو الهول وأصحابه الاربعمائة وهم رجاله فتفرقوا في الجبل وقصدوا القلعة فمن انهزم من الكفار وضعوا فيهم السيوف فما نجا منهم أحد ما وصل ابو الهول إلى القلعة إلا وقد ملكها خالد واحتوى عليها وصعد عياض والمسلمون وأخذوا كل ما كان فيها وولى عليها مولاه سالما وجعل عنده مائة رجل وكتب إلى أهل فسطاس وفرساط ومن في القلعة أن لا يزنوا بامرأة أبدا وأشهد عليهم خالدا والمقداد وعمارا ومعاذا وشرحبيل وعبد الرحمن بن أبي بكر الصديق وضرار وأطلق عياض الاسارى الذين أتى بهم قيس بن هبيرة وارتحل يطلب ميافارقين فلقيه في طريقه أهل تلك الجبال وأهل الجزيرة وقلب ومتنان وحزب الكلام فأعطاهم الأمان وضربت عليهم الجزية وردهم إلى بلاد وأتى إليهم أهل ميافارقين للقائهم وشكروهم على حسن سيرتهم وعدلهم وأخرجوا لهم الضيافات والعلوفات ونزل من جهة الميدان في سفح الجبل واقام بها عشرة ايام ثم جمع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم واستشارهم وقال إني عولت على المسير إلى ديار أرمينية والى أرزن الروم فاشيروا علي يرحمكم الله أي طريق نسلك فقال رجل من المعاهدين ممن هو أعرف الناس بتلك البلاد أيها الأمير أتأذن لي أن أتكلم فقال من كان له راي فليتكلم فقال اعلم إنك إذا قصدت بلاد أرمينية يطول مكثك فيها واعلم أن بالقرب منك حصنا منيعا ي قال له: حصن لغوب وغلب عليه اسم صاحبه وهو يطالقون بن كنعان ابن عيديوس له جيش عرمرم يزيد على ثلاثة آلاف فارس.

.ذكر فتح حصن لغوب:

ثم قال اعلم أيها الأمير أن تحت يده معاقل كثيرة وربما أنه رحل ركابه من هنا فوقع بهذه البلاد وشن الغارات على أهلها ومن الرأي إنك لو وجهت إليه جيشا لعل الله أن يفتح عليك فإن أنت فتحت هذا الحصن مضيت حيث تريد وتكون طيب القلب على من تستخلفه من أصحابك فقال عياض لأصحابه ما تقولون فيما تكلم به هذا الرجل فقال خالد: لقد تكلم بالحق ونطق بالصدق فاعزم وتوكل على الله ثم انصرفوا من عنده وبات ليلته متفكرا فيمن ينفذه إلى الحصن فوقع اختياره على يوقنا فدعا إليه و قال له: يا يوقنا يا عبد الله قد اتفق الرأي عليك أن تمضي إلى الحصن فما الذي تراه فقال يوقنا اصلح الله الأمير قد بلغني أن الحصن منيع وربما إذا نزلنا عليه طال الأمر وتنفد المدة وينقضي هذا الوقت ولا ندري ما يكون ولكن أهب نفسي لله ولرسوله وآخذ مائة من بني عمي ونتزينا بزي الفلاحين ونأخذ نساءنا وأولادنا نتركهم على البقر وندخل في جملة أهل البلاد الفلاحين فإن حصلنا في الحصن فنحن نملكه أن شاء الله تعالى فقال عياض يا عبد الله قد اشتهر أمرك عند جميع أهل النصرانية ونخاف أن تسير فتغرر بنفسك ومن معك فيقبض عليكم والله تعالى قال: {وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} [البقرة: 195] قال فإذا أبيت لي أن أشن الغارات على بلاد القوم قال قد أذنت لك فخرج يوقنا ومن معه وهم ألف من قومه وساروا على أرزن وسرد وأسعرد وياباسا وحيزان والمعدن.
قال الواقدي: وكان من قضاء الله وقدره أن صاحب أسعرد وحيزان والمعدن وياتحلسا ويمهرد وطراجر وسلواس كان بينه وبين يطالقون حرب وكان يغير بعضهم على بعض وأخربوا المملكتين فلما انتشرت الأخبار بقدوم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وانهم على ميافارقين جفل أهل تلك البلاد وعلم بذلك حرسلو صاحب اسعرد وإنه لا طاقة له بالعرب فأخذ هدية سنية وذهب بنفسه ليطالقون بن كنعان حتى يصطلح معه ويكونوا يدا واحدة على قتال المسلمين فبينما هو سائر والهدية معه وقد نزل على قرية اسمها أرغير وعلق على خيله وهو معول على المسير وهو ينتظر الخيل تقطع عليقها وإذ قد كبسهم يوقنا وقد أحاط بالقرية وأخذ كل من فيها وأسر البطريق ومن معه وبات ليلته فلما اصبح عرض الأسرى وقال لهم: أن الله قد ظفرنا بكم ونصرنا عليكم واعلموا إني ملك من ملوك الروم ملكت البلاد وقدت الجيوش وأمرت ونهيت وعبدت الصليب وقربت القربان فلما أتى الله بهؤلاء القوم أخبرتهم ونظرت ما هم عليه فعلمت أن الحق معهم فتبعتهم وقلت بقولهم وقد كنا بالشام تفزع منا ملوك العجم وكسرى بن هرمز والديلم والترك وكان لنا كرة الأرض وكنا لا نلتفت إلى العرب حتى خرجوا علينا فأذاقونا مرا.
وذهبت شجاعتنا وملكوا معاقلنا وحصوننا واحتووا على ملكنا ونصرهم رب الأرض والسماء علينا لأنهم يشيرون إليه بالوحدانية فإن آمنتم بالله وحده كان لكم الربح في الدنيا والآخرة وأطلق سراحكم وإن ابيتم قتلتم عن آخركم فقالوا: اتركنا يومنا هذا إلى الليل ندبر أمرنا فتركهم واختلى بحرسلو البطريق وحدثه في السر و قال له: اعمل في خلاص نفسك ورقبتك من النار وأسلم وفاد نفسك حتى تنال ما تريد فقد بلغني من الوقائع بينك وبين صاحب الحصن فقال البطريق لقد صدقت فمن أعلمك فقال له: ما السبب في العداوة بينك وبينه.
فقال أنه طلب أن يتزوج ابنتي وبعث الي هدية فرددتها عليه فصار عدوي وأغار على بلادي وأغرت على بلاده والآن قدمت إليه بهدية حتى أكون أنا وإياه يدا واحدة فأتيت أنت الي وأخذتني فقال يوقنا إني اريد لك من الخير ما أريد لنفسي ولست أجبرك على أن تترك دينك ولكن تعاهدني على أن لا تغدر وأنا أخلي سبيلك وتمضي إلى صاحب الحصن وتدني نفسك بين يديه وتقول أيها الصاحب قد ندمت على ما كان مني إذ رددتك عن تزويج ابنتك وإني كنت أخذتها وزينتها وسقت معها أموالها على أني أهديها لك فلما كنت في قرية كذا وكذا خرج علي قوم من العرب فأخذوا المال والرجال وقد نجوت اليك بنفسي لتأخذ بيدي وتستنقذ ابنتي من العرب فإنه إذا سمع دعاه الطمع واستجره الأمل حتى يخرج الينا ولعل الله تعالى أن يظفرنا به فإذا ملكنا الحصن أن شاء الله تعالى كنت أنت تبقى على بلادك وكنت آمنا مطمئنا واعلم أن ذمامي هو ذمام العرب ومهما فعلته امتثلوه وأمضوه فلما سمع البطريق كلام يوقنا قال أفعل ذلك ولكني أخاف من المسيح أن يغضب علي إذا خامرت على أهل ديني فقال يوقنا أنا أحمل هذه الأوزار عنك ودع عيسى بن مريم يطالبني يوم القيامة فقال البطريق أن كان هذا الذي قلته فأنا افعل وليس يصعب علي ولكني أخاف أن فعلت ذلك الذي أمرتني به أن لا ينزل من الحصن وربما بعث معي بعض أصحابه فلا يحصل طائل من عدوكم فقال يوقنا وما يكون التدبير فقال البطريق الرأي عندي غير هذا قال: وما هو قال تذهب مع أصحابك جريدة بالخيل وأنا أكون معك فما نصبح إلا ونحن على الحصن فإذا أشرفنا عليه تعطنى جوادي وسلاحي واركض على فرسي في حال العجلة فإني أجده في الميدان مع أرباب دولته فإذا وقعت عيني عليه ترجلت وحثوت التراب على رأسي واصيح أيها الملك العرب قد أخذوا أصحابي وغلماني وما جاء معي برسمك فإذا قال: واين هم اقول على فرسخ من بلدك فإنه إذا سمع قولي لا يمكنه التأخير عن نصرتي ولا له إلا السرعة اليكم واعلم أن أكثر جنده قد فرقهم على الحصون وما عنده إلا ألف فارس أو أقل.
قال فلما سمع يوقنا ذلك من قوله وثق به وبعث الأسرى إلى عياض فلما وصلوا إليه قال لهم: أن أطلقتكم أتعرفون لنا ذلك قالوا: نعم وكيف لا نعرفه فأطلقهم حتى تسمع أهل البلاد فينزلوا إلى طاعته وأما يوقنا فإنه سار جريدة بقية ليلته فما برق ضياء الفجر إلا وقد أشرفوا على الحصن فعندها أطلق البطريق ووثق منه بالعهود وأعطاه جواده وسلاحه وسار كأنه قد أفلت نفسه وساق على على شوط واحد إلى الحصن وكان بالقضاء المقدر أنه وجد البطريق يطالقون قد عبر إلى جانب اسعرد ومعه ألف فارس والف راجل وكان السبب في ذلك أن قوما من أصحاب البطريق حرسلو كانوا في كنيسة يوقنا فأتوه وحدثوه بما تم عليهم من القوم فعبر لعله يستخلصهم من يد يوقنا فلما وصل إليه البطريق ترجل وصقع له وحدثه فرق له وقال كيف تخلصت قال خلصت يدي من الكتاف وركبت هذا الفرس فلما أحسوا بي ركبوا ورائي وها هم في اثري بالقرب من باياعا قال فلما سمع ذلك يطالقون بن كنعان أمر بالركوب وسار من وقته طالبا يوقنا وقال هذا الذي أردناه من أمر الجهاد قد قربه الله الينا فدونكم والقوم ولم يمهل بعضهم بعضا وتطاعنوا بالرماح وصبر يوقنا صبر الكرام ووقع الصائح من كل جانب ونشرت أجنحتها النوائب واستعان أصحاب يوقنا برب المشارق والمفارب فبينما هم قد اشرفوا على المعاطب إذ أشرفت عليهم غرر الخيل وهم يتسابقون فنظر إليهم يوقنا وإذا هم اصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم ثلاثة آلاف فارس يقدمهم خالد بن الوليد وكان السبب في قدومهم أن عياضا خاف على يوقنا وبني عمه فارسل إليهم في أثرهم خالدا فوجدهم في القتال فأطلق عنانه وقال: يا أهل الإيمان وحملة القرآن دونكم وعبدة الصلبان ارفعوا اصواتكم بذكر ربكم قال: ونظر يوقنا النصرة وقد اقبلت فعظم شأنه والتقى بصاحب الحصن وقد عرفه بزيه فتطاعنا طعنا كافيا وتضاربا ضربا شافيا شافيا إلا أن يوقنا طعن صاحب الحصن فرماه إلى الأرض قتيلا وصنع فيهم خالد رضي الله عنه والصحابة رضي الله عنهم كما تصنع النار في الحطب ولما قتل يوقنا صاحب الحصن قطع رأسه وجعله على سنانه ونادى عمن تقاتلون وقد قتلنا صاحبكم فلما رأوا الرأس ولوا الادبار ومات أكثرهم وولى الباقون نحو الجبل ووقع الصائح في الحصون بأن يطالقون قد قتل فولوا الأدبار.
قال الواقدي: وكان ليطالقون زوجة عاقلة لبيبة صاحبة رأي وتدبير فلما رأت ما حل بزوجها وإن أهل الحصن قد قتل أكثرهم وتفرقوا بالهزيمة أيقنت بزوال ملكها وخراب بيتها فجمعت المشايخ وأرباب دولتها وقالت لهم اعلموا أن الملك قد قتل وقد تفرق شمل من كان معه وقد وصلكم ما صنع هؤلاء العرب مع ملوك دين النصرانية وبني ماء المعمودية وكيف ملكوا الشام وأرض ربيعة وديار بكر وديار مصر وقد دانت.
لهم الامور وانتشر شرعهم وعلا ذكرهم ودخل في دينهم الملوك والبطارقة وما نزلوا على حصن إلا ملكوه ولا وافوا جيشا إلا هزموه وقد دخلوا أرضكم وحلوا ساحتكم فما ترون من الرأي الرشيد قالوا: أيتها الملكة ما تكلمت بشيء إلا فهمناه وعرفناه والامر اليك فقالت الصواب إنكم تحقنون دماءكم وتصونون حريمكم وأموالكم وتدخلون فيما دخل فيه أهل البلاد وتصالحون العرب فتأمنون على أنفسكم وتعيشون في ظلهم فقالوا: هذا هو الصواب قالت فلينطلق منكم رجال إلى هؤلاء العرب ويعقدوا لنا منهم صلحا قال فخرجوا من عندها وسار منهم ثلاثون رجلا من خيارهم وعبروا الشط إلى عسكر خالد فلما رآهم خالد والمسلمون علموا أنهم من أهل الحصن فاستقبلوهم وسلموا عليهم ورحبوا بهم ومشوا معهم إلى قبة خالد وإذا هو جالس على التراب ووجوه أصحابه حوله وهم يكثرون من ذكر الله وليس لهم حاجب ولا بواب فسلموا عليهم فقرأ خالد: {وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا} [النساء: 86] فتقدم كبراؤهم وعلماؤهم في دينهم وقالوا: ايكم الأمير حتى نخاطبه.
فقالوا: ليس فينا أمير ولا من يلحظ أخاه بعين الذل لأن الإسلام شملنا والدين جمعنا ونحن عباد الله فلما سمع القوم ذلك قالوا: بأجمعهم والله ما نصركم الله علينا إلا باتباع نبيكم وقال خالد: كم تبذلون لنا من المال فقالوا: مهما أردتم امتثلناه فقالوا: انا لا نريد إلا ما ترضى به أهل الذمة الذين في البلد حتى تطيب قلوبهم ومن لا يرحم لا يرحم ولقد سمعت نبينا صلى الله عليه وسلم يقول: «لا تنزع الرحمة من قلب شقى» قال فلما سمع القوم ذلك تهللت وجوههم فرحا وقالوا: لقد نصركم الله بحق وما نرى دينكم إلا حقا فاسلموا عن آخرهم وعادوا إلى قومهم واجتمعوا في كنيستهم وحدثوهم بما كان وبما رأوا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وحسن سيرتهم فقال أهل البلد ما كنا بالذين نرفع أنفسنا عليكم لأنكم أولو الراي والدين وقد رضينا بما رضيتم به لأنفسكم فاسلموا إلا قليلا منهم وأما الملكة لما سمعت ذلك طاب قلبها وبعثت بالاقامة والعلوفة إلى خالد وسالته أن يعبروا إلى جانبهم ونصبت لهم الجسر فعبر خالد ومن معه ونزلوا بالبيعة بحيث أن الملكة تشرف عليهم وتنظر إليهم فرأت أقواما قد طلقوا الدنيا وطلبوا الآخرة وليس فيهم من ينهر ولا يسفه ولا يخالف أخاه قد اشتغلوا بالذكر وتوحشوا بالصبر فلما نظرت إلى حسن عبادتهم نزلت إليهم وأسلمت على أيديهم فقال خالد: تقبل الله منك ورضى عنك فالزمي قلعتك فلا سبيل لاحد عليك ونظر يوقنا اليها فقال: وددت لو كانت هذه أهلي فأنفذ خالد يشاورها فأجابت إلى ذلك وبعث خالد إلى عياض يشاوره فبعث إليه الجواب بأن زوجه ولا تترك من بلاد الحصن مكانا إلا وتنزل فيه.