فصل: مقصود النهي ترك المنهي عنه

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: مجموع فتاوى ابن تيمية **


 الوجه الثاني عشر

أن مقصود النهي ترك المنهي عنه والمقصود منه عدم المنهي عنه والعدم لا خير فيه إلا إذا تضمن حفظ موجود وإلا فلا خير في لا شيء وهذا معلوم بالعقل والحس لكن من الأشياء ما يكون وجوده مضرا بغيره فيطلب عدمه لصلاح الغير كما يطلب عدم القتل لبقاء النفس وعدم الزنا لصلاح النسل وعدم الردة لصلاح الإيمان فكل ما نهي عنه إنما طلب عدمه لصلاح أمر موجود‏.‏ وأما المأمور به فهو أمر موجود والموجود يكون خيرا ونافعا ومطلوبا لنفسه بل لا بد في كل موجود من منفعة ما أو خير ما فلا يكون الموجود شرا محضا فإن الموجود خلقه الله تعالى والله لم يخلق شيئا إلا لحكمة وتلك الحكمة وجه خير بخلاف المعدوم فإنه لا شيء، ولهذا قال سبحانه‏:‏ ‏{‏الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ‏}‏ ‏[‏السجدة‏:‏ 7‏]‏‏;‏ وقال‏:‏ ‏{‏صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ‏}‏ ‏[‏النمل‏:‏ 88‏]‏ فالموجود‏:‏ إما خير محض أو فيه خير والمعدوم‏:‏ إما أنه لا خير فيه بحال أو خيره حفظ الموجود وسلامته‏.‏ والمأمور به قد طلب وجوده والمنهي عنه قد طلب عدمه فعلم أن المطلوب بالأمر أكمل وأشرف من المطلوب بالنهي وأنه هو الأصل المقصود المراد لذاته وأنه هو الذي يكون عدمه شرا محضا‏.‏

 الوجه الثالث عشر

أن المأمور به هو الأمور التي يصلح بها العبد ويكمل والمنهي عنه هو ما يفسد به وينقص، فإن المأمور به من العلم والإيمان، وإرادة وجه الله تعالى وحده، ومحبته والإنابة إليه، ورحمة الخلق والإحسان إليهم، والشجاعة التي هي القوة والقدرة والصبر الذي يعود إلى القوة والإمساك والحبس إلى غير ذلك كل هذه من الصفات والأخلاق والأعمال التي يصلح بها العبد ويكمل ولا يكون صلاح الشيء وكماله إلا في أمور وجودية قائمة به لكن قد يحتاج إلى عدم ما ينافيها فيحتاج إلى العدم بالعرض فعلم أن المأمور به أصل والمنهي عنه تبع فرع‏.‏

 الوجه الرابع عشر

أن الناس اتفقوا على أن المطلوب بالأمر وجود المأمور به وإن لزم من ذلك عدم ضده ويقول الفقهاء‏:‏ الأمر بالشيء نهي عن ضده فإن ذلك متنازع فيه‏.‏ والتحقيق أنه منهي عنه بطريق اللازم وقد يقصده الآمر وقد لا يقصده وأما المطلوب بالنهي فقد قيل‏:‏ إنه نفس عدم المنهي عنه‏.‏ وقيل‏:‏ ليس كذلك، لأن العدم ليس مقدورا ولا مقصودا بل المطلوب فعل ضد المنهي عنه وهو الامتناع وهو أمر وجودي‏.‏ والتحقيق‏:‏ أن مقصود الناهي قد يكون نفس عدم المنهي عنه، وقد يكون فعل ضده، وذلك العدم عدم خاص مقيد يمكن أن يكون مقدورا بفعل ضده فيكون فعل الضد طريقا إلى مطلوب الناهي وإن لم يكن نفس المقصود وذلك أن الناهي إنما نهى عن الشيء لما فيه من الفساد فالمقصود عدمه كما ينهى عن قتل النفس وشرب الخمر وإنما نهى لابتلاء المكلف وامتحانه كما نهى قوم طالوت عن الشرب إلا بملء الكف فالمقصود هنا طاعتهم وانقيادهم وهو أمر وجودي وإذا كان وجوديا فهو الطاعة التي هي من جنس فعل المأمور به فصار المنهي عنه إنما هو تابع للمأمور به، فإن مقصوده إما عدم ما يضر المأمور به أو جزء من أجزاء المأمور به وإذا كان إما حاويا للمأمور به، أو فرعا منه‏:‏ ثبت أن المأمور به أكمل وأشرف وهو المقصود الأول‏.‏

 الوجه الخامس عشر

أن الأمر أصل والنهي فرع، فإن النهي نوع من الأمر، إذ الأمر هو الطلب والاستدعاء والاقتضاء وهذا يدخل فيه طلب الفعل وطلب الترك لكن خص النهي باسم خاص كما جرت عادة العرب أن الجنس إذا كان له نوعان أحدهما يتميز بصفة كمال أو نقص أفردوه باسم وأبقوا الاسم العام على النوع الآخر كما يقال‏:‏ مسلم، ومنافق‏.‏ ويقال نبي ورسول‏.‏ ولهذا تنازع الفقهاء‏:‏ لو قال لها‏:‏ إذا خالفت أمري فأنت طالق فعصت نهيه هل يحنث‏؟‏ على ثلاثة أوجه لأصحابنا وغيرهم‏:‏ أحدها‏:‏ يحنث لأن ذلك مخالفة لأمره في العرف ولأن النهي نوع من الأمر‏.‏

والثاني‏:‏ لا يحنث لعدم الدخول فيه في اللغة كما زعموا‏.‏ والثالث‏:‏ يفرق بين العالم بحقيقة الأمر والنهي وغير العالم‏.‏ والأول هو الصواب‏.‏ فكل من عصى النهي فقد عصى الأمر لأن الأمر استدعاء الفعل بالقول على وجه الاستعلاء والناهي مستدع من النهي فعلا‏:‏ إما بطريق القصد أو بطريق اللزوم فإن كان نوعا منه فالأمر أعم والأعم أفضل وإن لم يكن نوعا منه فهو أشرف القسمين، ولهذا اتفق العلماء على تقديمه على النهي وبذلك جاء الكتاب والسنة قال تعالى‏:‏ ‏{‏يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 157‏]‏ وقال‏:‏ ‏{‏إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 90‏]‏‏.‏

 الوجه السادس عشر

أن الله لم يأمر بأمر إلا وقد خلق سببه ومقتضيه في جبلة العبد وجعله محتاجا إليه وفيه صلاحه وكماله، فإنه أمر بالإيمان به وكل مولود يولد على الفطرة فالقلوب فيها أقوى الأسباب لمعرفة باريها والإقرار به وأمر بالعلم والصدق والعدل، وصلة الأرحام وأداء الأمانة وغير ذلك من الأمور التي في القلوب معرفتها ومحبتها، ولهذا سميت معروفا ونهى عن الكفر الذي هو أصل الجهل والظلم وعن الكذب والظلم والبخل والجبن وغير ذلك من الأمور التي تنكرها القلوب وإن ما يفعل الآدمي الشر المنهي عنه لجهله به أو لحاجته إليه بمعنى أنه يشتهيه ويلتذ بوجوده أو يستضر بعدمه والجهل عدم العلم فما كان من المنهي عنه سببه الجهل فلعدم فعل المأمور به من العلم وما كان سببه الحاجة من شهوة أو نفرة فلعدم المأمور به الذي يقتضي حاجته مثل أن يزني لعدم استعفافه بالنكاح المباح أو يأكل الطعام الحرام لعدم استعفافه بما أمر به من المباح وإلا فإذا فعل المأمور به الذي يغنيه عن الحرام لم يقع فيه‏.‏ فثبت أن المأمور به خلق الله في العبد سببه ومقتضيه وأن المنهي عنه إنما يقع لعدم الفعل المأمور به المانع عنه فثبت بذلك أن المأمور به في خلقته ما يقتضيه وما يحتاج إليه وبه صلاحه بمنزلة الأكل للجسد بل هو من جهة المأمور به وبمنزلة النكاح للنوع، وهو من المأمور به‏.‏ والمنهي عنه ليس فيه سببه إلا لعدم المأمور به فكان وجوده لعدم المأمور به فكان عدم المأمور به أضر عليه من وجود المنهي عنه، لتضرره به من وجهين وفي تركه أشد استحقاقا للذم والعقاب، لوجود مقتضيه فيه المعين له عليه‏.‏ والمنهي عنه ليس فيه مقتضيه في الأصل إلا مع عدم المأمور به وأما عدمه فلا يقتضيه إلا بفعل المأمور به فهذا هذا‏.‏

 الوجه السابع عشر

أن فعل الحسنات يوجب ترك السيئات وليس مجرد ترك السيئات يوجب فعل الحسنات، لأن ترك السيئات مع مقتضيها لا يكون إلا بحسنة وفعل الحسنات عند عدم مقتضيها لا يقف على ترك السيئة وذلك يؤجر لأنه ترك السيئات مع مقتضيها وذلك لأن الله خلق ابن آدم هماما حارثا كما قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏أصدق الأسماء حارث وهمام‏)‏ والحارث‏:‏ العامل الكاسب والهمام‏:‏ الكثير الهم‏.‏

وهذا معنى قولهم‏:‏ متحرك بالإرادة والهم والإرادة لا تكون إلا بشعور وإحساس فهو حساس متحرك بالإرادة دائما‏.‏ ولهذا جاء في الحديث‏:‏ ‏(‏للقلب أشد تقلبا من القدر إذا استجمعت غليانا‏)‏ و ‏(‏مثل القلب مثل ريشة ملقاة بأرض فلاة ‏)‏ و ‏(‏ما من قلب من قلوب العباد إلا بين إصبعين من أصابع الرحمن‏)‏ وإذا كان كذلك فعدم إحساسه وحركته ممتنع فإن لم يكن إحساسه وحركته من الحسنات المأمور بها أو المباحات وإلا كان من السيئات المنهي عنها فصار فعل الحسنات يتضمن الأمرين فهو أشرف وأفضل‏.‏ وذلك لأن من فعل ما أمر به من الإيمان والعمل الصالح‏:‏ قد يمتنع بذلك عما نهي عنه من أحد وجهين‏:‏ إما من جهة اجتماعهما فإن الإيمان ضد الكفر، والعمل الصالح ضد السيئ فلا يكون مصدقا مكذبا محبا مبغضا‏.‏

وإما من جهة اقتضاء الحسنة ترك السيئة، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ‏}‏ ‏[‏العنكبوت‏:‏ 45‏]‏ وهذا محسوس، فإن الإنسان إذا قرأ القرآن وتدبره كان ذلك من أقوى الأسباب المانعة له من المعاصي أو بعضها وكذلك الصوم جنة وكذلك نفس الإيمان بتحريم المحرمات وبعذاب الله عليها بصد القلب عن إرادتها‏.‏ فالحسنات إما ضد السيئات، وإما مانعة منها فهي إما ضد وإما صد‏.‏ وإنما تكون السيئات عند ضعف الحسنات المانعة منها كما قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن‏)‏ فإن كمال الإيمان وحقيقته يمنع ذلك فلا يقع إلا عند نوع ضعف في الإيمان يزيل كماله‏.‏ وأما ترك السيئات‏:‏ فإما أن يراد به مجرد عدمها فالعدم المحض لا ينافي شيئا ولا يقتضيه بل الخالي القلب متعرض للسيئات أكثر من تعرضه للحسنات‏.‏ وإما أن يراد به الامتناع من فعلها، فهذا الامتناع لا يكون إلا مع اعتقاد قبحها وقصد تركها وهذا الاعتقاد والاقتصاد حسنتان مأمور بهما وهما من أعظم الحسنات‏.‏ فثبت بذلك أن وجود الحسنات يمنع السيئات وأن عدم السيئات لا يوجب الحسنات فصار في وجود الحسنات الأمران بخلاف مجرد عدم السيئات فليس فيه إلا أمر واحد وهذا هو المقصود‏.‏

 الوجه الثامن عشر

أن فعل الحسنات موجب للحسنات أيضا، فإن الإيمان يقتضي الأعمال الصالحة والعمل الصالح يدعو إلى نظيره وغير نظيره، كما قيل‏:‏ إن من ثواب الحسنة الحسنة بعدها‏.‏ وأما عدم السيئة فلا يقتضي عدم سيئة إلا إذا كان امتناعا فيكون من باب الحسنات كما تقدم وما اقتضى فرعا أفضل مما لا يقتضي فرعا له وهذا من نمط الذي قبله‏.‏

 الوجه التاسع عشر

ترجيح الوجود على العدم إذا علم أنه حسنة وأما المختلط والمشتبه عليه فقد يكون الإمساك خيرا ‏[‏له‏]‏ ليبقى مع الفطرة فهذا حال المهتدي والضال وحال فإذا قام المقتضي للكفر والفسوق والعصيان في قلبه من الشبهات والشهوات لم يزل هذا الحس والحركة إلا بما يزيله أو يشتغل عنه من إيمان وصلاح كالعلم الذي يزيل الشبهة، والقصد الذي يمنع الشهوة وهذا أمر يجده المرء في نفسه وهو في كل شيء، فإن ما وجد مقتضيه فلا يزول إلا بوجود منافيه‏.‏ فإن قيل‏:‏ فقد يزول ذلك بمباح‏.‏

 الوجه العشرون

أن الله تعالى بعث الرسل وأنزل الكتب في العلوم والأعمال بالكلم الطيب والعمل الصالح بالهدى ودين الحق وذلك بالأمور الموجودة في العقائد والأعمال فأمرهم في الاعتقادات بالاعتقادات المفصلة في أسماء الله وصفاته‏:‏ وسائر ما يحتاج إليه من الوعد والوعيد وفي الأعمال بالعبادات المتنوعة من أصناف العبادات الباطنة والظاهرة‏.‏ وأما في النفي فجاءت بالنفي المجمل والنهي عما يضر المأمور به فالكتب الإلهية وشرائع الرسل ممتلئة من الإثبات فيما يعلم ويعمل‏.‏ وأما المعطلة من المتفلسفة ونحوهم‏:‏ فيغلب عليهم النفي والنهي، فإنهم في عقائدهم الغالب عليهم السلب‏:‏ ليس بكذا ليس بكذا ليس بكذا؛ وفي الأفعال الغالب عليهم الذم والترك‏:‏ من الزهد الفاسد والورع الفاسد‏:‏ لا يفعل لا يفعل لا يفعل من غير أن يأتوا بأعمال صالحة يعملها الرجل تنفعه وتمنع ما يضره من الأعمال الفاسدة، ولهذا كان غالب من سلك طرائقهم بطالا متعطلا معطلا في عقائده وأعماله‏.‏ واتباع الرسل في العلم والهدى والصلاح والخير في عقائدهم وأعمالهم وهذا بين في أن الذي جاءت به الرسل يغلب عليه الأمر والإثبات وطريق الكافرين من المعطلة ونحوهم يغلب عليه النهي والنفي وهذا من أوضح الأدلة على ترجيح الأمر والإثبات على النهي والنفي‏.‏