فصل: فصل في سبب كثرة الحسد:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: مختصر منهاج القاصدين (نسخة منقحة)



.فصل لا تسأل عن صفات الله عز وجل:

ومن آفات العوام سؤالهم عن صفات الله سبحانه وتعالى وكلامه. اعلم أن الشيطان يخيل إلى العامي أنك بخوضك في العلم تكون من العلماء وأهل الفضل، فلا يزال يحبب إليه ذلك حتى يتكلم بما هو كفر وهو لا يدرى. قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «يوشك الناس أن يسألوا، حتى يقولوا: هذا الله خلق الخلق، فمن خلق الله؟» فسؤال العوام عن غوامض العلم أعظم الآفات، وبحثهم عن معاني الصفات مما يفسدهم لا مما يصلحهم، إذ الواجب عليهم التسليم، فالأولى بالعامي الإيمان بما ورد به القرآن، ثم التسليم لما جاء به الرسول من غير بحث، واشتغالهم بالعبادات، فإن اشتغالهم بالبحث عن أسرار العلم، كبحث سائمة الدواب عن أسرار الملك.

.كتاب ذم الغضب والحقد والحسد:

اعلم أن الغضب شعلة من النار، وأن الإنسان ينزع فيه عند الغضب عرق إلى الشيطان اللعين، حيث قال: {خلقتني من نار وخلقته من طين} [الأعراف: 12] فإن شأن الطين السكون والوقار، وشأن النار التلظي والاشتعال، والحركة والاضطراب. ومن نتائج الغضب: الحقد والحسد، ومما يدل على ذم الغضب قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم للرجل الذي قال له: أوصني، قال: «لا تغضب»، فردد عليه مراراً، قال: «لا تغضب». وفي حديث آخر أن ابن عمر رضي الله عنه سأل النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ماذا يبعدني من غضب الله عز وجل؟ قال: «لا تغضب». وفي المتفق عليه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «ليس الشديد بالصرعة، إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب». وعن عكرمة في قوله تعالى: {وسيداً وحصوراً} [آل عمران: 39] قال: السيد الذي يملك نفسه عند الغضب ولا يغلبه غضبه. وروينا أن ذا القرنين لقي ملكاً من الملائكة فقال: علمني علماً ازداد به إيماناً ويقيناً، قال: لا تغضب، فإن الشيطان أقدر ما يكون على ابن آدم حين يغضب، فرد الغضب بالكظم، وسكنه بالتؤدة، وإياك والعجلة، فإنك إذا عجلت أخطأت حظك، وكن سهلاً ليناً للقريب والبعيد، ولا تكن جباراً عنيداً. وروينا أن إبليس لعنه الله بدا لموسى عليه السلام، فقال يا موسى: إياك والحدة، فإني ألعب بالرجل الحديد كما يلعب الصبيان بالكرة، وإياك والنساء، فإني لم انصب فخاً في نفسي قط أثبت في نفسي من فخ أنصبه بامرأة، وإياك والشح، فإني أفسد على الشحيح الدنيا والآخرة.
وكان يقال: اتقوا الغضب، فإنه يفسد الإيمان كما يفسد الصبر العسل، والغضب عدو العقل.
وحقيقة الغضب: غليان دم القلب لطلب الانتقام، فمتى غضب الإنسان ثارت نار الغضب ثوراناً يغلى به دم القلب، وينتشر في العروق، ويرتفع إلى أعالي البدن، كما يرتفع الماء الذي يغلى في القدر، ولذلك يحمر الوجه والعين والبشرة وكل ذلك يحكى لون ما وراءه من حمرة الدم، كما تحكى الزجاجة لون ما فيها، وإنما ينبسط الدم إذا غضب على من دونه واستشعر القدرة عليه. فإن كان الغضب صدر ممن فوقه، وكان معه يأس من الانتقام، تولد منه انقباض الدم من ظاهر الجلد إلى جوف القلب، فصار حزناً، ولذلك يصفر اللون، وإن كان الغضب من نظير يشك فيه، تردد الدم بين انقباض وانبساط، فيحمر ويصفر ويضطرب، فالانتقام هو قوت لقوة الغضب. والناس في قوة الغضب على درجات ثلاث: إفراط، وتفريط، واعتدال. فلا يحمد الإفراط فيها، لأنه يخرج العقل والدين عن سياستهما، فلا يبقى للإنسان مع ذلك نظر ولا فكر ولا اختيار. والتفريط في هذه القوة أيضاً مذموم، لأنه يبقى لا حمية له ولا غيرة، ومن فقد الغضب بالكلية، عجز عن رياضة نفسه، إذ الرياضة إنما تتم بتسلط الغضب على الشهوة، فيغضب على نفسه عند الميل إلى الشهوات الخسيسة، ففقد الغضب مذموم، فينبغي أن يطلب الوسط بين الطريقين. واعلم أنه متى قويت نار الغضب والتهبت، أعمت صاحبها، وأصمته عن كل موعظة، لأن الغضب يرتفع إلى الدماغ، فيغطى على معادن الفكر، وربما تعدى إلى معادن الحس، فتظلم عينه حتى لا يرى بعينه، وتسود الدنيا في وجهه، ويكون دماغه على مثال كهف أضرمت فيه نار، فاسود جوه، وحمى مستقره، وامتلأ بالدخان، وكان فيه سراج ضعيف فانطفأ، فلا يثبت فيه قدم، ولا تسمع فيه كلمة، ولا ترى فيه صورة، ولا يقدر على إطفاء النار، فكذلك يفعل بالقلب والدماغ، وربما زاد الغضب فقتل صاحبه.
ومن آثار الغضب في الظاهر، تغير اللون، وشدة الرعدة في الأطراف، وخروج لأفعال عن الترتيب، واستحالة الخلقة، وتعاطي فعل المجانين، ولو رأى الغضبان صورته في حال غضبه وقبحها لأنف نفسه من تلك الحال، ومعلوم أن قبح الباطن أعظم.

.فصل في بيان الأسباب المهيجة للغضب:

قد عرفت أن علاج كل علة بحسم مادتها وإزالة أسبابها. فمن أسبابه: العجب، والمزاح، والمماراة، والمضادة، والغدر وشدة الحرص على فضول المال والجاه، وهذه الأخلاق رديئة مذمومة شرعاً، فينبغي أن يقابل كل واحد من هذه بما يضاده، فيجتهد على حسم مواد الغضب وقطع أسبابه.
وأما إذا هاج الغضب فيعالج بأمور:
أحدها: أن يتفكر في الأخبار الواردة في فضل كظم الغيظ، والعفو، والحلم، والاحتمال، كما جاء في البخاري من حديث ابن عباس رضي الله عنهما، أن رجلاً استأذن على عمر رضي الله عنه، فآذن له، فقال له: يا ابن الخطاب، والله ما تعطينا الجزل، ولا تحكم بيننا بالعدل، فغضب عمر رضي الله عنه، حتى هم أن يوقع به. فقال الحر بن قيس: يا أمير المؤمنين إن الله عز وجل قال لنبيه صلى الله عليه وآله وسلم: {خذ العفو وأمر بالمعروف وأعرض عن الجاهلين} [الأعراف: 199] وإن هذا من الجاهلين، فوالله ما جاوزها عمر رضي الله عنه حين تلاها عليه، وكان وقافاً عند كتاب الله عز وجل. الثاني: أن يخوف نفسه من عقاب الله تعالى، وهو أن يقول: قدرة الله على أعظم من قدرتي على هذا الإنسان، فلو أمضيت فيه غضبى، لم آمن أن يمضى الله عز وجل غضبه على يوم القيامة فأنا أحوج ما أكون إلى العفو. وقد قال الله تعالى في بعض الكتب: يا ابن آدم! اذكرني عند الغضب، أذكرك حين أغضب، ولا أمحقك فيمن أمحق.
الثالث: أن يحذر نفسه عاقبة العداوة، والانتقام، وتشمير العدو في هدم أعراضه، والشماتة بمصائبه، فان الإنسان لا يخلو عن المصائب، فيخوف نفسه ذلك في الدنيا إن لم يخف من الآخرة وهذا هو تسليط شهوة على غضب ولا ثواب عليه، لأنه تقديم لبعض الحظوظ على بعض، إلا أن يكون محذوره أن يتغير عليه أمر يعينه على الآخرة، فيثاب على ذلك.
الرابع: أن يتفكر في قبح صورته عند الغضب على ما تقدم، وأنه يشبه حينئذ الكلب الضاري، والسبع العادي، وانه يكون مجانباً لأخلاق الأنبياء والعلماء في عادتهم، لتميل نفسه إلى الاقتداء بهم.
الخامس: أن يتفكر في السبب الذي يدعوه إلى الانتقام، مثل أن يكون سبب غضبة أن يقول له الشيطان: إن هذا يحمل منك على العجز، والذلة والمهانة، وصغر النفس، وتصير حقيراً في أعين الناس، فليقل لنفسه: تأنفين من الاحتمال الآن، ولا تأنفين من خزي يوم القيامة والافتضاح إذا أخذ هذا بيدك وانتقم منك، وتحذرين من أن تصغري في أعين الناس، ولا تحذرين من أن تصغري عند الله تعالى وعند الملائكة والنبيين. وينبغي أن يكظم غيظه، فذلك يعظمه عند الله تعالى، فماله وللناس؟ أفلا يجب أن يكون هو القائم يوم القيامة إذا نودي: ليقم من وقع أجره على الله، فلا يقوم إلا من عفا، فهذا وأمثاله ينبغي أن يقرره على قلبه.
السادس: أن يعلم أن غضبه إنما كان من شيء جرى على وفق مراد الله تعالى، لا على وفق مراده، فكيف يقدم مراده على مراد الله تعالى، هذا ما يتعلق بالقلب.
وأما العمل، فينبغي له السكون، والتعوذ، وتغيير الحال، وإن كان قائماً جلس، وإن كان جالساً اضطجع، وقد أمرنا بالوضوء أيضاَ عند الغضب، فهذه الأمور وردت في الأحاديث. أما الحكمة في الوضوء عند الغضب، فقد بينها في الحديث. كما روى أبو وائل قال: كنا عند عروة بن محمد، فكلمه رجل بكلام، فغضب غضباً شديداً فقام وتوضأ، ثم جاء فقال: حدثني أبي عن جدي عطية- وكانت له صحبة- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «إن الغضب من الشيطان، وإن الشيطان خلق من النار، وإنما تطفأ النار بالماء، فإذا غضب أحدكم فليتوضأ». وأما الجلوس والاضطجاع، فيمكن أن يكون إنما أمر بذلك ليقرب من الأرض التي منها خلق، فيذكر أصله فيذل، ويمكن أن يكون ليتواضع بذله، لأن الغضب ينشأ من الكبر، بدليل ما روى أبو سعيد، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه ذكر الغضب وقال: «من وجد شيئاً من ذلك، فليلصق خده بالأرض».
وقيل: غضب المهدي على رجل، فدعا بالسياط فلما رأى شبيب شدة غضبه، وإطراق الناس، فلم يتكلموا بشيء، قال: يا أمير المؤمنين، لا تغضبن لله بأشد مما غضب لنفسه، فقال: خلوا سبيله.

.فصل في كظم الغيظ:

قال الله تعالى: {والكاظمين الغيظ} [آل عمران: 134] فذكر ذلك في معرض المدح. وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال «من كظم غيظاً وهو قادر على أن ينفذه، دعاه الله على رؤوس الخلائق حتى يخيره من أي الحور شاء». وروى عن عمر رضي الله عنه أنه قال: من اتقى الله لم يشف غيظه، ومن خاف الله لم يفعل ما يريد، ولولا يوم القيامة لكان غير ما ترون.

.فصل في الحلم:

روى أبو هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: «إنما العلم بالتعلم، والحلم بالتحلم». «اطلبوا العلم، واطلبوا مع العلم السكينة والحلم، لينوا لمن تعلمون ولمن تعلمون منه، ولا تكونوا من جبابرة العلماء، فيغلب جهلكم عليكم». وقال صلى الله عليه وآله وسلم لأشج بن قيس: «إن فيك خلقين يحبهما الله ورسوله: الحلم والأناة». وشتم رجل ابن عباس رضي الله عنه فلما قضى مقتله، فقال: يا عكرمة، انظر هل للرجل حاجة فنقضيها؟ فنكس الرجل رأسه واستحى. وأسمع رجل معاوية كلاماً شديداً فقيل له: لو عاقبته؟ فقال: إني لأستحي أن يضيق حلمي عن ذنب أحد من رعيتي. وأقسم معاوية نطعاً، فبعث منها إلى شيخ من أهل دمشق فلم يعجبه فجعل عليه يميناً أن يضرب رأس معاوية، فأتى معاوية فأخبره، فقال له معاوية: أوف بنذرك وارفق بالشيخ. وجاء غلام لأبى ذر وقد كسر رجل شاة له، فقال له: من كسر رجل هذه؟ قال: أنا فعلته عمداً لأغيظك، فضربني، فتأثم. فقال: لأغظين من حرضك على غيظي، فأعتقه. وشتم رجل عدى ابن حاتم وهو ساكت، فلما فرغ من مقالته قال: إن كان بقي عندك شيء فقل قبل أن يأتي شباب الحي، فإنهم إن سمعوك تقول هذا لسيدهم لم يرضوا. ودخل عمر بن عبد العزيز المسجد ليلة في الظلمة، فمر برجل نائم فعثر به، فرفع رأسه وقال: أمجنونٌ أنت؟ فقال عمر: لا، فهم به الحرس، فقال عمر: مه، إنما سألني أمجنون؟ فقلت: لا. ولقي رجل على بن الحسين رضي الله عنهما، فسبه، فثارت إليه العبيد، فقال: مهلاً، ثم أقبل على الرجل فقال: ما ستر عنك من أمرنا أكثر، ألك حاجة نعينك عليها؟ فاستحى الرجل، فألقى عليه خميصة كانت عليه، وأمر له بألف درهم، فكان الرجل بعد ذلك يقول: أشهد أنك من أولاد الرسول. وقال رجل لوهب بن منبه: إن فلاناً شتمك، فقال: ما وجد الشيطان بريداً غيرك.

.فصل في العفو والرفق:

اعلم أن معنى العفو أن تستحق حقاً فتسقطه، وتؤدى عنه من قصاص أو غرامة، وهو غير الحلم والكظم. وقال الله تعالى: {والعافين عن الناس}. [آل عمران: 134] وقال: {فمن عفا وأصلح فأجره على الله} [الشورى: 40]، وفي الحديث أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، قال: «ما نقصت صدقة من مال، وما زاد الله عبداً بعفو إلا عزاً، وما تواضع أحد لله إلا رفعه الله». وعن عقبة بن عامر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «يا عقبة، ألا أخبرك بأفضل أخلاق أهل الدنيا والآخرة؟ تصل من قطعك، وتعطى من حرمك، وتعفو عمن ظلمك». وروى أن منادياً ينادى يوم القيامة: ليقم من وقع أجره على الله؟ فلا يقوم إلا من عفا عمن ظلمه. وعن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «وإن الله رفيق يحب الرفق، ويعطى عليه مالا يعطي على العنف». وفي الصحيحين من حديث عائشة رضي الله عنها، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: «إن الله عز وجل يحب الرفق في الأمر كله». وفي حديث آخر «من يحرم الرفق يحرم الخير».

.باب في الحقد والحسد:

اعلم أن الغيظ إذا كظم لعجز عن التشفي في الحال رجع إلى الباطن، فاحتقن فيه فصار حقداً. وعلامته دوام بغض الشخص واستثقاله والنفور منه، فالحقد ثمرة الغضب، والحسد من نتائج الحقد. وعن الزبير بن العوام رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «دب إليكم داء الأمم قبلكم الحسد والبغضاء». وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: «لا تباغضوا، ولا تقاطعوا، ولا تحاسدوا، ولا تدابروا، كونوا عباد الله إخواناً». وفي حديث آخر عنه صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: «إن الحسد يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب». وفي حديث آخر أنه قال: «يطلع عليكم من هذا الفج رجل من أهل الجنة، فطلع رجل، فسئل عن عمله، فقال: إني لا أجد لأحد من المسلمين في نفسي غشاً ولا حسداً على خير أعطاه الله إياه». وروينا أن الله تبارك وتعالى يقول: «الحاسد عدو نعمتي، متسخط لقضائي، غير راض بقسمتي بين عبادي».
وقال ابن سيرين: ما حسدت أحداً على شيء من أمر الدنيا، لأنه إن كان من أهل الجنة، فكيف أحسده على شيء من أمر الدنيا، وهو يصير إلى الجنة، وإن كان من أهل النار، فكيف أحسده على شيء من أمر الدنيا، وهو يصير إلى النار. وقال إبليس لنوح عليه السلام: إياك والحسد، فإنه صيرني إلى هذه الحال. واعلم أن الله تعالى إذا نعم على أخيك نعمة، فلك فيها حالتان:
إحداها: أن تكره تلك النعمة وتحب زوالها، فهذا هو الحسد.
والحالة الثانية: أن لا تكره وجودها ولا تحب زوالها، ولكنك تشتهى لنفسك مثلها، فهذا يسمى غبطة. قال المصنف رحمه الله:
قلت: واعلم أنى ما رأيت أحداً حقق الكلام في هذا كما ينبغي، ولابد لي من كشفه فأقول: اعلم أن النفس قد جلبت على حب الرفعة، فهي لا تحب أن يعلوها جنسها، فإذا علا عليها، شق عليها وكرهته، وأحبت زوال ذلك ليقع التساوي، وهذا أمر مركوز في الطباع. وقد روى أبو هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «ثلاث لا ينجو منهن أحد: الظن، والطِّيرة، والحسد، وسأحدثكم ما المخرج من ذلك، إذا ظننت فلا تحقق، وإذا تطيرت فامض، وإذا حسدت فلا تبغ». وعلاج الحسد، تارة بالرضى بالقضاء، وتارة بالزهد في الدنيا، وتارة بالنظر فيما يتعلق بتلك النعم من هموم الدنيا وحساب الآخرة، فيتسلى بذلك ولا يعمل بمقتضى ما في النفس أصلاً، ولا ينطق، فإذا فعل ذلك لم يضره ما وضع في جبلته. فأما من يحسد نبياً على نبوته، فيجب أن لا يكون نبياً، أو عالماً على علمه، فيؤثر أن يرزق ذلك أو يزول عنه، فهذا لا عذر له، ولا تجبل عليه إلا النفوس الكافرة أو الشريرة، فأما إن أحب أن يسبق أقرانه، ويطلع على ما لم يدركوه، فإنه لا يأثم بذلك، فإنه لم يؤثر زوال ما عندهم عنهم، بل أحب الارتفاع عنهم ليزيد حظه عند ربه، كما لو استبق عبدان إلى خدمة مولاهما، فأحب أحدهما أن يستبق. وقد قال الله تعالى: {وفي ذلك فليتنافس المتنافسون} [المطففين: 26]. وفي الصحيحين من حديث ابن عمر رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: «لا حسد إلا في اثنتين: رجل آتاه الله عز وجل القرآن، فهو يقوم به آناء الليل وآناء النهار، ورجل آتاه الله مالاً، فهو ينفقه في الحق آناء الليل وآناء النهار».
والحسد له أسباب:
أحدها: العداوة، والتكبر، والعجب، وحب الرياسة، وخبث النفس، وبخلها، وأشدها: العداوة والبغضاء، فإن من آذاه إنسان بسبب من الأسباب، وخالفه في غرضه، أبغضه قلبه، ورسخ في نفسه الحقد.
والحقد يقتضي التشفي والانتقام، فمهما أصاب عدوه من البلاء فرح بذلك، وظنه مكافأة من الله تعالى له، ومهما أصابته نقمة ساءه ذلك، فالحسد يلزم البغض والعداوة ولا يفارقهما، وإنما غاية التقى أن لا يبغي، وأن يكره ذلك من نفسه، فأما أن يبغض إنساناً فيستوي عنده مسرته ومساءته، فهذا غير ممكن.
وأما الكبر، فهو أن يصيب بعض نظرائه مالاً أو ولاية، فيخاف أن يتكبر عليه ولا يطيق تكبره، وأن يكون من أصاب ذلك دونه، فلا يحتمل ترفعه عليه أو مساواته. وكان حسد الكفار لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قريباً من ذلك. قال الله تعالى: {وقالوا لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم} [الزخرف: 31] وقال في حق المؤمنين: {أهؤلاء من الله عليهم من بيننا} [الأنعام: 53] وقال في آية أخرى: {ما أنتم إلا بشر مثلنا} [يس: 15] وقال: {ولئن أطعتم بشراً مثلكم إنكم إذاً لخاسرون} [المؤمنون: 34] فعجبوا وأنفوا من أن يفوز برتبة الرسالة بشر مثلهم فحسدوهم.
وأما حب الرياسة والجاه، فمثاله أن الرجل الذي يريد أن يكون عديم النظير في فن من الفنون، إذا غلب عليه حب الثناء، واستفزه الفرح بما يمدح به، من أنه أوحد العصر، وفريد الدهر في فنه، إذا سمع بنظير له في أقصى العالم، ساءه ذلك وأحب موته، أو زوال النعمة التي بها يشاركه في علم، أو شجاعة، أو عبادة، أو صناعة، أو ثروة، أو غير ذلك، وليس ذلك إلا لمحض الرياسة بدعوى الانفراد. وقد كان علماء اليهود ينكرون معرفة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ولا يؤمنون خوفاً من بطلان رئاستهم. وأما خبث النفس وشحها على عباد الله، فإنك تجد من الناس من لا يشتغل برئاسة ولا تكبر، وإذا وصف عند حسن حال عبد من عباد الله تعالى فيما أنعم عليه به، شق عليه ذلك، وإذا وصف له اضطراب أمور الناس وإدبارهم، وتنغيص عيشهم، فرح به، فهو أبداً يحب الإدبار لغيره، ويبخل بنعمة الله على عباده، كأنهم يأخذون ذلك من ملكه وخزانته.
وقد قال بعض العلماء: البخيل من يبخل بمال نفسه، والشحيح الذي يبخل بمال غيره، فهذا يبخل بنعمى الله على عباده الذين ليس بينهم وبينه عداوة ولا رابطة، وهذا ليس له سبب إلا خبث النفس ورداءة الطبع، وهذا معالجته شديدة، لأنه ليس له سبب عارض، فيعمل على إزالته، بل سببه خبث الجبلة، فيعسر إزالته، فهذه أسباب الحسد.

.فصل في سبب كثرة الحسد:

واعلم أنما يكثر الحسد بين أقوام تكثر بينهم الأسباب التي ذكرناها، ويقع ذلك غالباً بين الأقران، والأمثال، والإخوة، وبني العم، لأن سبب التحاسد توارد الأغراض على مقاصد يحصل فيها، فيثور التنافر والتباغض. ولذلك ترى العالم يحسد العالم دون العابد، والعابد يحسد العابد دون العالم، والتاجر يحسد التاجر، والإسكاف يحسد الإسكاف، ولا يحسد البزاز إلا أن يكون سبب آخر، لأن مقصد كل واحد من هؤلاء غير مقصد الآخر. فأصل العداوة التزاحم على غرض واحد، والغرض الواحد لا يجمع متباعدين، إذ لا رابطة بين شخصين في بلدين، ولا يكون بينهما محاسدة إلا من اشتد حرصه على الجاه، فإنه يحسد كل من في العالم ممن يساهمه في الخصلة التي يفاخر بها. ومنشأ جميع ذلك حب الدنيا، فإن الدنيا هي التي تضيق على المتزاحمين، وأما الآخرة، فلا ضيق فيها، فإن من أحب معرفة الله تعالى، وملائكته، وأنبياءه، وملكوت أرضه وسماءه، لم يحسد غيره إذا عرف ذلك، لأن المعرفة لا تضيق على العارفين، بل المعلوم الواحد يعرفه ألف ألف عالم، ويفرح بمعرفة غيره، فلذلك لا يكون بين علماء الدين محاسدة، لأن مقصودهم معرفة الله سبحانه، وهو بحر واسع لا ضيق فيه، وغرضهم المنزلة عند الله، ولا ضيق فيما عند

الله، لأن أجل ما عند الله من النعيم لذة لقائه، وليس فيه ممانعة ولا مزاحمة. ولا يضيق بعض الناظرين على بعض، بل يزيد الأنس بكثرتهم، إلا أنه إذا قصد العلماء بالعلم المال والجاه تحاسدوا. والفرق بين العلم والمال، أن المال لا يحل في يد ما لم يرتحل عن يد أخرى، والعلم مستقر في قلب العلم، ويحل في قلب غيره بتعليمه من غير أن يرتحل عن قلبه، ولا نهاية له، فمن عود نفسه الفكر في جلال الله وعظمته وملكه، وصار ذلك عنده ألذ من كل نعيم، لأنه لم يكن ممنوعاً عنه ولا مزاحماً فيه، فلا يكون في قلبه حسد لأحد من الخلق، لأن غيره لو عرف مثل معرفته لم ينقص من لذته، فقد عرفت أنه لا حسد إلا في المتوارد على مقصود يضيق عن الوفاء بالكل. ولهذا لا ترى الناس يتزاحمون على النظر إلى زينة السماء، لأنها واسعة الأقطار، وافيه بجميع الأبصار، فعليك إن كنت شفيقاً على نفسك أن تطلب نعيماً لا زحمة فيه، ولذة لا تتكدر، ولا يوجد ذلك في الدنيا إلا في معرفة الله تعالى وعجائب ملكوته، ولا ينال ذلك في المعرفة أيضاً، فإن كنت لا تشتاق إلى معرفة الله سبحانه، ولم تجد لذتها، وضعفت فيها رغبتك، فلست برجل، إنما هذا شأن الرجال، لأن الشوق بعد الذوق، ومن لم يذق لم يعرف، ومن لم يعرف لم يشتق، ومن لم يشتق لم يطلب، ومن لم يطلب لم يدرك، ومن لم يدرك بقى من المحرومين. واعلم أن الحسد من الأمراض العظيمة للقلوب، ولا تداوى أمراض القلوب إلا بالعلم والعمل، والعلم النافع لمرض الحسد هو أن تعرف حقيقة أن الحسد ضرر عليك في الدين والدنيا، وأنه لا يضر المحسود في الدين ولا في الدنيا، بل ينتفع به، والنعمة لا تزول عن المحسود بحسدك، ولو لم تكن تؤمن بالبعث لكان مقتضى الفطنة إن كنت عاقلاً أن تحذر من الحسد، لما فيه من ألم القلب مع عدم النفع، فكيف وأنت تعلم ما فيه من العذاب في الآخرة. وبيان قولنا: أن المحسود لا ضرر عليه في الدين ولا في الدنيا، بل ينتفع بحسدك في الدين والدنيا، لأن ما قدره الله من نعمة لا بد أن تدوم إلى اجله الذي قدره، ولا ضرر عليه في الأبخرة، لأنه لا يأثم هو بذلك، بل ينتفع به، لأنه مظلوم من جهتك. لا سيما إذا أخرجت الحسد إلى القول والفعل وأما منفعته في الدنيا، فهو من أهم أغراض الخلق غم الأعداء، ولا عذاب أعظم مما أنت فيه من الحسد. فإذا تأملت ما ذكرنا، علمت أنك عدو لنفسك، وهو صديق لعدوك، فما مثلك إلا كمثل من يرمى حجراً عدوه ليصيب مقتله فلا يصيبه، ويرجع الحجر على حدقته اليمنى فيقلعها، فيزيد غضبه، فيعود ويرميه بحجر أشد من الأول، فيرجع الحجر على عينه الأخرى فيعميها، فيزداد غيظه، فيرميه الثالثة، فيعود الحجر على رأسه فيشدخه، وعدوه سالم يضحكك منه، فهذه الأدوية العلمية، فإذا تفكر الإنسان فيها، أخمدت نار الحسد في قلبه. وأما العمل النافع فيه، فهو أن يتكلف نقيض ما يأمر به الحسد فإذا بعثه على الحقد والقدح في المحسود، كلف نفسه المدح له، والثناء عليه، وإن حمله الكبر، ألزم نفسه التواضع له، وإن بعثه على كف الأنعام عنه، ألزم نفسه زيادة في الإنعام. وقد كان جماعة من السلف إذا بلغهم أن شخصاً اغتابهم، أهدوا إليه هدية. فهذه أدوية نافعة للحسد جداً، إلا أنها مرة، وربما يسهل شربها أن يعلم أنه إذا كلن لا يكون كل ما تريد، فأرد ما يكون، وهذا هو الدواء الكلى، والله أعلم.