فصل: بيان علاج الحرص والطمع والدواء الذي تكتسب به صفة القناعة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: مختصر منهاج القاصدين (نسخة منقحة)



.باب في ذم الدنيا:

الآيات الواردة في القرآن العزيز بعيب الدنيا، والتزهيد فيها، وضرب الأمثال لها كثيرة كقوله تعالى: {زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث ذلك متاع الحياة الدنيا والله عنده حسن المآب قل أؤنبئكم بخير من ذلكم} [آل عمران: 14-15]، وقوله: {وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور} [آل عمران: 185]، وقوله: {إنما مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء} الآية [يونس: 24]، وقوله: {اعلموا أنما الحياة الدنيا لعب ولهو وزينة} [الحديد: 20]، وقوله: {وإن كل ذلك لما متاع الحياة الدنيا والآخرة عند ربك للمتقين} [الزخرف: 35]، وقوله: {فأعرض عن من تولى عن ذكرنا ولم يرد إلا الحياة الدنيا ذلك مبلغهم من العلم} [النجم: 29-30]. وأما الأحاديث، ففي الصحيحين من رواية المستور بن شداد، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «ما الدنيا في الآخرة إلا كمثل ما يجعل أحدكم أصبعه في اليم، فلينظر بم ترجع؟» وفي حديث آخر: «الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر» رواه مسلم. وفي حديث آخر: «لو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة ما سقى منها كافراً شربة ماء». رواه الترمذي وصححه. وفي حديث آخر: «الدنيا ملعونة ملعون ما فيها إلا ما كان لله منها»
وروى أبو موسى، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: «من أحب دنياه، أضر بآخرته، ومن أحب آخرته أضر بدنياه، فآثروا ما بقى على ما يفنى» وكتب الحسن إلى عمر بن عبد العزيز في ذم الدنيا كتاباً طويلاً فيه: أما بعد فإن الدنيا دار ظعن ليست بدار مقام، وإنما أنزل إليها آدم عقوبة، فاحذرها يا أمير المؤمنين، فإن الزاد منها تركها، والغنى فيها فقرها، تذل من أعزها، وتفقر من جمعها، كالسم يأكله من لا يعرفها وهو حتفه، فاحذر هذه الدار الغرورة الخيالة الخادعة، وكن آثر ما تكون فيها، أحذر ما تكون لها، سرورها مشوب بالحزن، وصفوها مشوب بالكدر، فلو كان الخالق لم يخبر عنه خبراً، ولم يضرب له مثلاً لكانت قد أيقظت النائم، ونبهت الغافل، فكيف وقد جاء من الله عز وجل وعنه زاجر، وفيها واعظ، فما لها عند الله سبحانه قدر ولا وزن، وما نظر إليها منذ خلقها.
ولقد عرضت على نبينا محمد صلى الله عليه وآله وسلم مفاتيحها وخزائنها، لا ينقصها عند الله جناح بعوضة، فأبى أن يقبلها، وكره أن يحب ما أبغض خالقه، أو يرفع ما وضع مليكه، زواها الله عن الصالحين اختياراً، وبسطها لأعدائه اغتراراً، أفيظن المغرور بها المقتدر عليها أنه أكرم بها؟ ونسى ما صنع الله بمحمد صلى الله عليه وآله وسلم حين شد على بطنه الحجر، والله ما أحد من الناس بسط له في الدنيا، فلم يخف أن يكون قد مكر به، إلا كان قد نقص عقله، وعجز رأيه وما امسك عن عبد فلم يظن أنه قد خير له فيها، إلا كان قد نقص عقله وعجز رأيه.
وقال مالك بن دينار: اتقوا السحارة، فإنها تسحر قلوب العلماء، يعنى الدنيا. ومن أمثلة الدنيا: قال يونس بن عبيد: شبهت الدنيا كرجل نائم، فرأى في منامه ما يكره وما يحب، فبينما هو كذلك انتبه.
ومثل هذا قولهم: الناس نيام، فإذا ماتوا انتبهوا. والمعنى أنهم ينتبهون بالموت وليس في أيديهم شيء مما ركنوا إليه وفرحوا به. قيل: إن عيسى عليه السلام رأى الدنيا في صورة عجوز هتماء عليها من كل زينة. فقال لها: كم تزوجت؟ قالت: لا أحصيهم. قال: فكلهم مات عنك أو كلهم طلقك؟ قالت: بل كلهم قتلت، فقال عيسى عليه السلام: بؤساً لأزواجك الباقين، كيف لا يعتبرون بأزواجك الماضين، كيف تهلكينهم واحداً بعد واحد، ولا يكونون منك على حذر. وروى ابن عباس رضي الله عنه قال: يؤتى بالدنيا يوم القيامة في صورة عجوز شمطاء زرقاء أنيابها بادية، مشوه خلقها، فتشرف على الخلق، فيقال: هل تعرفون هذه؟ فيقولون نعوذ بالله من معرفة هذه. فيقال: هذه الدنيا التي تشاجرتم عليها وبها تقاطعتم الأرحام، وبها تحاسدتم وتباغضتم واغتررتم، ثم تقذف في جهنم، فتنادى: يا رب أين أتباعي وأشياعي؟ فيقول: ألحقوا بها أتباعها وأشياعها. وعن أبي العلاء، قال: رأيت في النوم عجوزاً كبيرة عليها من كل زينة، والناس عكوف عليها متعجبون، ينظرون إليها، فقلت: أعوذ بالله من شرك. قالت: إن أحببت أن تعاذ من شري فأبغض الدرهم.
وقال بعضهم: رأيت الدنيا في النوم عجوزاً مشوهة الخلقة حدباء.
مثال آخر: واعلم أن أحوالك ثلاث:
حال لم تكن فيها شيئاً، وهى قبل أن توجد.
وحال أخرى، وهى من ساعة موتك إلى ما لا نهاية له في البقاء السرمدي، فإن لنفسك وجوداً بعد خروجها من بدنك، إما في الجنة أو النار، وهو الخلود الدائم.
وبين هاتين الحالتين حالة متوسطة، وهى أيام حياتك في الدنيا، فانظر إلى مقدار ذلك، وأنسبه إلى الحالتين، تعلم أنه أقل من طرفه عين في مقدار عمر الدنيا. ومن رأى الدنيا بهذه العين لم يركن لها، ولم يبال كيف انقضت أيامه في ضرر وضيق، أو سعة ورفاهية، ولهذا لم يضع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لبنة على لبنة، ولا قصبة على قصبة وقال: «مالي وللدنيا؟ إنما مثلى ومثل الدنيا كراكب قال تحت الشجرة، ثم راح وتركها».
وقال عيس عليه السلام الدنيا قنطرة فاعبروها ولا تعمروها. هذا مثل واضح، فإن الحياة الدنيا معبر إلى الآخرة، والمهد هو الركن الأول على أول القنطرة، والحد هو الركن الثاني على آخر القنطرة. ومن الناس من قطع نصف القنطرة، ومن الناس من قطع ثلثيها، ومنهم من لم يبق له إلا خطوة واحدة وهو غافل عنها، وكيفما كان فلابد من العبور، فمن وقف يبنى على القنطرة ويزينها وهو يستحث للعبور عليها، فهو في غاية الجهل والحمق.
وقيل: مثال طالب الدنيا، مثل شارب ماء البحر كلما ازداد شراباً ازداد عطشاً حتى يقتله.
وكان بعض السلف يقول لأصحابه: انطلقوا حتى أريكم الدنيا فيذهب بهم إلى مزبلة فيقول: انظروا إلى ثمارهم ودجاجهم وعسلهم وسمنهم.
مثال آخر: روى عن الحسن قال: بلغني عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: «إنما مثلى ومثلكم ومثل الدنيا كمثل قوم سلكوا مفازة غبراء، حتى إذ لم يدوروا ما سلكوا منها أكثر ما بقى، أنفذوا الزاد واخسروا الظهر، وابقوا بين ظاهراني المفازة، لا زاد ولا حمولة، فأيقنوا بالهلكة، فبينما هم كذلك، إذ طلع عليهم رجل في حلة يقطر رأسه، فقالوا: إن هذا قريب عهد بريف، وما جاء هذا إلا من قريب، فلما انتهى إليهم قال: يا هؤلاء، علام أنتم؟ قالوا: على ما ترى، قال: عهودكم ومواثيقكم بالله، قال: فأعطوه عهودهم ومواثيقهم بالله، ثم قال: يا هؤلاء، الرحيل، قالوا: إلى أين؟ قال: إلى ماء ليس كمائكم، وإلى رياض ليست كرياضكم، فقال أكثر القوم: والله ما وجدنا هذا حتى ظننا أن لن نجده، وما نصنع بعيش خير من هذا؟ وقالت طائفة قليلة: ألم تعطوا هذا الرجل عهودكم ومواثيقكم بالله لا تعصونه؟ وقد صدقكم في أول حديثه، فوالله ليصدقنكم في آخره، قال: فراح فيمن اتبعه، وتخلف بقيتهم فنزل عدو، فأصبحوا بين أسير وقتيل» وفي الصحيحين من حديث أبي موسى رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «إنما مثلى ومثل ما بعثتي الله به، كمثل رجل أتى قومه فقال: يا قوم، إني رأيت الجيش بعيني، وأنا النذير العريان، فالنجاء، فأطاعه طائفة من قومه، فأدلجوا وانطلقوا على مهلهم، فنجوا، وكذبته طائفة منهم، فأصبحوا مكانهم، فصبحهم الجيش في مكانهم، فأهلكهم واجتاحهم، فذلك مثل من أطاعني واتبع ما جئت به، ومثل من عصاني وكذب بما جئت به من حق».

.فصل في بيان حقيقة الدنيا والمذموم منها والمحمود:

قد سمع خلق كثير ذم الدنيا مطلقاً، فاعتقدوا أن الإشارة إلى هذه الموجودات التي خلقت للمنافع، فأعرضوا عما يصلحهم من المطاعم والمشارب. وقد وضع الله في الطباع توقان النفس إلى ما يصلحها، فكلما تاقت منعوها، ظناً منهم أن هذا هو الزهد المراد، وجهلا بحقوق النفس، وعلى هذا أكثر المتزهدين، وإنما فعلوا ذلك لقلة العلم، ونحن نصدع بالحق من غير محاباة فنقول: اعلم أن الدنيا عبارة عن أعيان موجودة للإنسان، فيها حظ، وهى الأرض وما عليها، فإن الأرض مسكن الأدنى، وما عليها ملبس ومطعم ومشرب ومنكح، وكل ذلك علف لراحلة بدنه السائر إلى الله عز وجل، فإنه لا يبقى إلا بهذه المصالح، كما لا تبقى الناقة في طريق الحج إلا بما يصلحها، فمن تناول منها ما يصلحه على الوجه المأمور به مدح، ومن أخذ منها فوق الحاجة يكتنف الشره وقع في الذم، فإنه ليس للشره في تناول الدنيا وجه، لأنه يخرج عن النفع إلى الأذى، ويشغل عن طلب الآخرة فيفوت المقصود، ويصير بمثابة من أقبل يعلف الناقة، ويرد لها الماء، ويغير عليها ألوان الثياب، وينسى أن الرفقة قد سارت، فإنه يبقى في البادية فريسة للسباع هو وناقته.
ولا وجه أيضاً للتقصير في تناول الحاجة، لأن الناقة لا تقوى على السير إلا بتناول ما يصلحها، فالطريق السليم هي الوسطى، وهى أن يؤخذ من الدنيا قدر ما يحتاج إليه من الزاد للسلوك، وإن كان مشتهىً، فإن إعطاء النفس ما تشتهيه عون لها وقضاء لحقها. وقد كان سفيان الثوري يأكل في أوقات من طيب الطعام، ويحمل معه في السفر الفالوذج. وكان إبراهيم بن أدهم يأكل من الطيبات في بعض الأوقات، فيقول: إذا وجدنا أكلنا أكل الرجال، وإذا فقدنا صبرنا صبر الرجال. ولينظر في سيرة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وصحابته، فإنهم ما كان لهم إفراط في تناول الدنيا، ولا تفريط في حقوق النفس. وينبغي أن يتلمح حظ النفس في المشتهى، فإن كان في حظها حفظها وما يقيمها ويصلحها وينشطها للخير، فلا يمنعها منه، وإن كان حظها مجرد شهوة ليست متعلقة بمصالحها المذكورة فذلك حظ مذموم، والزهد فيه يكون.

.باب في ذم البخل والحرص والطمع:

وذم المال ومدحه ومدح القناعة والسخاء، ونحو ذلك اعلم أن المال لا يذم لذاته بل يقع الذم لمعنى من الآدمي، وذلك المعنى إما شدة حرصه أو تناوله من غير حلة، أو حبسه عن حقه، أو إخراجه في غير وجهه، أو المفاخرة به، ولهذا قال الله تعالى: {إنما أموالكم وأولادكم فتنة} [الأنفال: 28]. وفي سنن الترمذي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: «ما ذئبان جائعان أرسلا في غنم، بأفسد لها من حرص المرء على المال والشرف لدينه». وقد كان السلف يخافون من فتنة المال. وكان عمر رضي الله عنه إذا رأى الفتوح يبكى ويقول: ما حبس الله هذا عن نبيه صلى الله عليه وآله وسلم وعن أبي بكر لشر أراده الله بهما، وأعطاه عمر إرادة الخير له. وقال يحيى بن معاذ: الدرهم عقرب، فإن لم تحسن رقيته فلا تأخذه، فإنه إن لدغك قتلك سمه. قيل: ما رقيته؟ قال: أخذه من حله ووضعه في حقه. وقال: مصيبتان للعبد في ماله عند موته لا تسمع الخلائق بمثلهما، قيل: ما هما؟ قال: يؤخذ منه كله، ويسأل عنه كله.

.بيان في مدح المال:

قد بينا أن المال لا يذم لذاته بل ينبغي أن يمدح، لأنه سبب للتوصل إلى مصالح الدين والدنيا، وقد سماه الله تعالى خيراً، وهو قوام الآدمي. قال الله تعالى في أول سورة النساء: {ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قياماً} [النساء: 5]. وقال سعيد بن المسيب رحمه الله: لا خير فيمن لا يريد جمع المال من حله، يكف به وجهه عن الناس، ويصل به رحمه، ويعطى منه حقه. وقال أبو إسحاق السبيعي: كانوا يرون السعة عوناً على الدين. وقال سفيان: المال في زماننا هذا سلاح المؤمنين. وحاصل الأمر؛ أن المال مثل حية فيها سم وترياق، فترياقه فوائده، وغوائله سمه، فمن عرف فوائده وغوائله، أمكنه أن يحترز من شره، ويستدر من خيره.
أما فوائده، فتنقسم إلى دنيوية ودينية:
أما الدنيوية، فالخلق يعرفونها، ولذلك تهالكوا في طلبها.
وأما الدينية، فتنحصر في ثلاثة أنواع:
أحدها: أن ينفقه على نفسه، إما في عبادة، كالحج والجهاد، وإما في الاستعانة على العبادة، كالمطعم والملبس والمسكن وغيرها من ضرورات المعيشة، فإن هذه الحاجات إذا لم تتيسر، لم يتفرغ القلب للدين والعبادة، وما لا يتوصل إلى العبادة إلا به، فهو عبادة، فأخذ الكفاية من الدنيا للاستعانة على الدين من الفوائد الدينية، ولا يدخل في هذا التنعم والزيادة على الحاجة، فإن ذلك من حظوظ الدنيا.
النوع الثاني: ما يصرفه إلى الناس، وهو أربعة أقسام:
أحدها: الصدقة، وفضائلها كثيرة ومشهورة.
القسم الثاني: المروءة، ونعنى بها صرف المال إلى الأغنياء والأشراف في ضيافة وهدية وإعانة ونحو ذلك، وهذا من الفوائد الدينية، إذ به يكتسب العبد الإخوان والأصدقاء.
القسم الثالث: وقاية العرض نحو بذل المال لدفع هجو الشعراء، وثلب السفهاء، وقطع ألسنتهم، وكف شرهم، فهو من الفوائد الدينية، فان النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «وما وقى الرجل به عرضه فهو صدقة» وهذا لأنه يمنع المغتاب من معصية الغيبة، ويحرز مما يثير كلامه من العداوة التي تحمل في الانتقام على مجاوزة حدود الشريعة.
لقسم الرابع: ما يعطيه أجراً على الاستخدام، فإن الأعمال التي يحتاج إليها الإنسان لمهنة أسبابها كثيرة، ولو تولاها بنفسه ضاعت أوقاته، وتعذر عليه سلوك الآخرة بالفكر والذكر اللذين هما أعلى مقامات السالك، ومن لا مال له يفتقر إلى أن يتولى خدمة نفسه بنفسه، فكل ما يتصور أن يقوم به غيرك، ويحصل بذلك غرضك، فإن تشاغلك به غبن، لأن احتياجك إلى التشاغل بما لا يقوم به غيرك من العلم والعمل والذكر والفكر أشد.
النوع الثالث: ما لا يصرفه الإنسان إلى معين، لكن يحصل عليه به خيراً عاماً، كبناء المساجد، والقناطر، والوقوف المؤبدة، فهذه جملة فوائد المال في الدين، سوى ما يتعلق بالحظوظ العاجلة، من الإخلاص من ذل السؤال، وحقارة الفقر، والعز بين الخلق، والكرامة في القلوب، والوقار.
وأما غوائل المال وآفاته، فتنقسم أيضاً إلى دينية ودنيوية:
أما الدينية فثلاث فئات:
الأولى: أنه يجر إلى المعاصي غالباً، لأنه من استشعر القدرة على المعصية، انبعثت داعيته إليها.
والمال نوع من القدرة يحرك داعيته إلى المعاصي، ومتى يئس الإنسان من المعصية، لم تتحرك داعيته إليها.
ومن العصمة أن لا تجد، فصاحب القدرة إن اقتحم ما يشتهى هلك، وإن صبر لقي شدة في معاناة الصبر مع القدرة، وفتنة السراء أعظم من فتنة الضراء.
الثانية: أنه يحرك إلى التنعم في المباحات، حتى تصير له عادة وإلفاً، فلا يصبر عنها، وربما لم يقدر على استدامتها إلا بكسب فيه شبهة، فيقتحم الشبهات، ويترقى إلى آفات من المداهنة والنفاق، لأن من كثر ماله خالط الناس، وإذا خالطهم لم يسلم من نفاق وعداوة وحسد وغيبة، وكل ذلك من الحاجة إلى إصلاح المال.
الثالثة: وهى التي لا ينفك عنها أحد، وهو أن يلهيه ماله عن ذكر الله تعالى، وهذا هو الداء العضال، فإن أصل العبادات ذكر الله تعالى، والتفكير في جلاله وعظمته، وذلك يستدعى قلباً فارغاً. وصاحب الضيعة يمسي ويصبح متفكراً في خصومة الفلاحين ومحاسبتهم وخيانتهم، ويتفكر في منازعة شركائه في الحدود والماء، وأعوان السلطان في الخراج والأجراء على التقصير في العمارة ونحو ذلك. وصاحب التجارة يمسي ويصبح متفكراً في خيانة شريكه، وتقصيره في العمل، وتضيعه المال. وكذا سائر أصناف المال، حتى صاحب المال المجموع المكنوز يفكر في كيفية حفظه، وفي الخوف عليه. ومن له قوت يوم بيوم فهو في سلامة من جميع ذلك، وهذا سوى ما يقاسيه أرباب الأموال في الدنيا، من الخوف والحزن والهم والغم والتعب. فإذا ترياق المال أخذ القوت منه، وصرف الباقي إلى الخيرات، وما عدا ذلك سموم وآفات.

.بيان ذم الحرص والطمع ومدح القناعة واليأس:

واعلم أن الفقر محمود، ولكن ينبغي للفقير أن يكون قانعاً، منقطع الطمع عن الخلق، غير ملتفت إلى ما في أيديهم، ولا حريص على اكتساب المال كيف كان، ولا يمكنه ذلك إلا بأن يقنع بقدر الضرورة من المطعم والملبس. وقد روى في صحيح مسلم عن عمرو بن العاص رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: «قد أفلح من أسلم، ورزق كفافاً، وقنعه الله بما آتاه». وقال سليمان بن داود عليهما السلام: قد جربنا العيش كله، لينه من شديده، فوجدناه يكفى منه أدناه. وفي حديث جابر رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «القناعة مال لا ينفذ». وقال أبو حازم: ثلاث من كن فيه كمل عقله: من عرف نفسه، وحفظ لسانه، وقنع بما رزقه الله عز وجل. وقرأ بعض الحكماء: أنت أخو العز ما التحفت بالقناعة. أما الحرص، فقد نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: «أيها الناس، أجملوا في الطلب، فإنه ليس للعبد إلا ما كتب له» ونهى عن الطمع فقال: «اجمع اليأس مما في أيدي الناس» وقال بعضهم: لو قيل للطمع: من أبوك؟ قال: الشك في المقدور، ولو قيل له: ما حرفتك؟ قال: اكتساب الذل، ولو قيل له: ما غايتك؟ قال: الحرمان. وقيل: الطمع يذل الأمير، واليأس يعز الفقير.

.بيان علاج الحرص والطمع والدواء الذي تكتسب به صفة القناعة:

اعلم أن هذا الدواء مركب من ثلاثة أركان:
الصبر، والعلم، والعمل، ومجموع ذلك خمسة أمور:
الأول: الاقتصاد في المعيشة، والرفق في الإنفاق، فمن أراد إقناعه فينبغي أن يسد عن نفسه أبواب الخروج ما أمكنه، ويرد نفسه إلى ما لابد منه، فيقنع بأي طعام كان، وقليل من الإدام، وثوب واحد، ويوطن نفسه على ذلك، وإن كان له عيال، فيرد كل واحد إلى هذا القدر. قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «ما عال من اقتصد» وفي حدث آخر: «التدبير نصف العيش» وفي حديث آخر «ثلاث منجيات: خشية الله تعالى في السر والعلانية، والقصد في الغنى والفقير، والعدل في الرضى والغضب».
الثاني: إذا تيسر له في الحال ما يكفيه، فلا يكون شديد الاضطراب لأجل المستقبل ويعينه على ذلك قصر الأمل، واليقين بأن رزقه لا بد أن يأتيه، وليعلم أن الشيطان يعده الفقر. وعن ابن مسعود رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: «إن روح القدس نفث في روعي، أنه ليس من نفس تموت حتى تستكمل رزقها واجلها، فاتقوا الله وأجملوا في الطلب، ولا يحملنكم استبطاء الرزق أن تطلبوه بمعاصي الله عز وجل، فإنه لا يدرك عند الله إلا بطاعته».
وإذا انسد عنه باب كان ينتظر الرزق منه، فلا ينبغي أن يضطرب قلبه، فإن في الحديث: «أبى الله أن يرزق عبده المؤمن إلا من حيث لا يحتسب».
الثالث: أن يعرف ما في القناعة من عز الاستغناء، وما في الطمع والحرص من الذل. وليس في القناعة إلا الصبر عن المشتبهات والفضول، مع ما يحصل له من ثواب الآخرة، ومن لم يؤثر عزَّ نفسه عن شهوته، فهو ركيك العقل، ناقص الإيمان.
الرابع: أن يكثر تفكره في تنعم اليهود والنصارى وأراذل الناس والحمقى منهم، ثم ينظر إلى أحوال الأنبياء والأولياء والصالحين، ويسمع أحاديثهم، ويطالع أحوالهم، ويخير عقله بين مشابهة أراذل العالمين، أو صفوة الخلق عند الله تعالى، حتى يهون عليه الصبر على القليل والقناعة باليسير، وأنه إن تنعم بالأكل فالبهيمة أكثر أكلاً منه، وإن تنعم بالوطء فالعصفور أكثر سفاداً منه.
الخامس: أن يفهم ما في جمع المال من الخطر، كما ذكرنا في آفات المال، وينظر إلى ثواب الفقر، ويتم ذلك بأن ينظر أبداً من دونه في الدنيا، وإلى من فوقه في الدين، كما جاء في الحديث من رواية مسلم أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: «انظروا إلى من هو أسفل منكم، ولا تنظروا إلى من هو فوقكم، فإنه أجدر أن لا تزدروا نعمة الله عليكم». عماد الأمر: الصبر وقصر الأمل، وأن يعلم أن غاية صبره في الدنيا أيام قلائل لتمتع دائم، فيكون كالمريض الذي يصبر على مرارة الدواء لما يرجو من الشفاء.

.فصل في لزوم القناعة لمن فقد المال:

ينبغي لمن فقد المال أن يستعمل القناعة كما ذكرنا، ولمن وجده أن يستعمل السخاء والإيثار واصطناع المعروف، فإن السخاء أخلاق الأنبياء، وهو أصل من أصول النجاة. وعن جابر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: «قال جبريل عليه السلام: قال الله عز وجل: الإسلام دين ارتضيته لنفسي، ولن يصلحه إلا السخاء وحسن الخلق، فأكرموه بهما ما صحبتموه» وفي حديث آخر: عن ابن عباس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «تجافوا عن ذنوب السخي، فإن الله آخذ بيده كلما عثر» وفي حديث آخر: «الجنة دار الأسخياء، وما جبل ولى الله إلا على السخاء» وعن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «إن بدلاء أمتي لم يدخلوا الجنة بعبادة ولا بصيام، ولكن دخلوها بسخاء النفس، وسلامة الصدر، والنصح للمسلمين» وفي حديث آخر: «عليكم باصطناع المعروف، فإنه يمنع مصارع السوء». وقال ابن السماك: عجبت ممن يشترى المماليك بماله، كيف لا يشترى الأحرار بمعروفه؟!
ومن حكايات الأسخياء:
قد صح عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه كان أجود بالخير من الريح المرسلة، وأنه ما سئل شيئاً قط فقال: لا وأن رجلاً سأله، فأعطاه غنماً بين جبلين، فأتى الرجل قومه، فقال: يا قوم: أسلموا، فإن محمداً يعطى عطاء من لا يخشى الفقر. وقيل: كان لعثمان على طلحة رضي الله عنهما خمسون ألف درهم، فخرج إلى المسجد، فقال له طلحة: قد تهيأ مالك فاقبضه، فقال: هو لك يا أبا محمد معونة على مروءتك. وجاء أعرابي إلى طلحة، فسأله، وتعرف إليه برحم، فقال: إن هذه الرحم ما سألني بها أحد قبلك، فأعطاه ثلاثمائة ألف درهم. وقال عروة: رأيت عائشة رضي الله عنها تقسم سبعين ألفا، وهى ترقع درعها. وروى أنها قسمت في يوم ثمانين ألف بين الناس، فلما أمست قالت: يا جارية علىَّ فطوري، فجاءتها بخبز وزيت: فقالت لها أم درة: أما استطعت فيما قسمت اليوم أن تشترى لنا بدرهم لحماً نفطر عليه!؟ فقالت: لو ذكرتني لفعلت. واشترى عبد الله بن عامر من خالد بن عقبة داره التي في السوق بتسعين ألف درهم، فلما كان الليل، سمع بكاء أهل خالد. فقال لأهله: ما لهؤلاء؟ قالوا: يبكون على دراهم، قال: يا غلام: ائتهم، فأعلمهم أن الدار والمال لهم جميعاً.
وبعث رجل إلى عبد الله أنه قد وصف لي لبن البقر، فابعث لي بقرة أشرب من لبنها. فبعث إليه بسبعمائة بقرة ورعاتها، وقال: القرية التي كانت ترعى فيها لك.
ودخل على بن الحسن على محمد بن أسامة بن زيد في مرضه، فجعل يبكى: فقال: ما شأنك؟ قال: على دين، قال: كم هو؟ قال: خمسة عشر ألف دينار، أو بضعة عشر ألف دينار. قال: فهي على. وجاء رجل إلى معن، فسأله، فقال: يا غلام: ناقتي الفلانية وألف دينار، فدفعها إليه وهو لا يعرفه. وبلغنا عن معن أن شاعر أقام ببابه مدة فلم يتهيأ له لقاؤه، فقال لبعض خدمه: إذا دخل الأمير البستان فعرفني، قال: فلما دخل عرفه، فكتب الشاعر بيتاً على خشبة، وألقاها في الماء الذي يدخل البستان، فلما بصر معن بالخشية، أخذها، فإذا فيها مكتوب:
أيا جود معن ناج معناً بحاجتي ** فما لي إلى معن سواك شفيع

فقال من صاحب هذه؟ فدعا الرجل، فقال له: كيف قلت؟ فقاله، فأمر له بعشر بدر، فأخذها ووضع الأمير الخشبة تحت بساطة فلما كان اليوم الثاني أخرجها من تحت البساط، وقرأ ما فيها ودعا الرجل، فدفع إليه مائة ألف درهم أخرى، فلما أخذها الرجل، خاف أن يعود فيستعيدها منه، فخرج، فما كان اليوم الثالث، قرأ ما فيها، فدعا الرجل فطلب فلم يوجد. فقال معن: حق على أن أعطيه حتى لا يبقى في بيت مالي درهم ولا دينار.
ومرض قيس بن سعد بن عبادة، فاستبطأ إخوانه، فقيل له، إنهم يستحيون مما لك عليهم من الدين. فقال: أخزى الله مالاً يمنع الإخوان من الزيارة، ثم أمر منادياً، ينادى: من كان عليه لقيس حق، فهو منه في حل، قال: فانكسرت درجته بالعشي لكثرة من عاده.
وقام رجل إلى سعيد بن العاص يسأله، فأمر له بمائة ألف درهم، فبكى، فقال: سعيد: ما يبكيك؟ قال: أبكى على الأرض أن تأكل مثلك، فأمر له بمائة ألف أخرى.