فصل: فَصْلٌ وَلِلرَّجُلِ أَنْ يَضَعَ فِي دَارِهِ الْمُكْتَرَاةِ مَا شَاءَ مِنْ الْأَمْتِعَةِ وَالدَّوَابِّ وَالْحَيَوَانِ، وَالْحَدَّادِينَ وَالْقَصَّارِينَ مَا لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ ضَرَرًا بِالدَّارِ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تبصرة الحكام في أصول الأقضية ومناهج الأحكام



.الْقِسْمُ الْأَوَّلُ مِنْ الْكِتَابِ فِي مُقَدِّمَاتِ هَذَا الْعِلْمِ:

وَفِيهِ أَبْوَابٌ:

.الْبَابُ الْأَوَّلُ فِي بَيَانِ حَقِيقَةِ الْقَضَاءِ وَمَعْنَاهُ وَحُكْمِهِ وَحِكْمَتِهِ:

قَالَ ابْنُ رَشِيدٍ: حَقِيقَةُ الْقَضَاءِ الْإِخْبَارُ عَنْ حُكْمٍ شَرْعِيٍّ عَلَى سَبِيلِ الْإِلْزَامِ.
قَالَ غَيْرُهُ: وَمَعْنَى قَوْلِهِمْ قَضَى الْقَاضِي أَيْ أَلْزَمَ الْحَقَّ أَهْلَهُ، وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى: {فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ} [سبأ: 14] أَيْ أَلْزَمْنَاهُ وَحَتَّمْنَا بِهِ عَلَيْهِ، وقَوْله تَعَالَى: {فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ} [طه: 72] أَيْ أَلْزِمْ بِمَا شِئْت وَاصْنَعْ مَا بَدَا لَك.
وَفِي الْمَدْخَلِ لِابْنِ طَلْحَةَ الْأَنْدَلُسِيِّ الْقَضَاءُ مَعْنَاهُ الدُّخُولُ بَيْنَ الْخَالِقِ وَالْخَلْقِ لِيُؤَدِّيَ فِيهِمْ أَوَامِرَهُ وَأَحْكَامَهُ بِوَاسِطَةِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ.
قَالَ الْقَرَافِيُّ حَقِيقَةُ الْحُكْمِ إنْشَاءُ إلْزَامٍ أَوْ إطْلَاقٍ وَالْإِلْزَامُ كَمَا إذَا حَكَمَ بِلُزُومِ الصَّدَاقِ أَوْ النَّفَقَةِ أَوْ الشُّفْعَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، فَالْحُكْمُ بِالْإِلْزَامِ هُوَ الْحُكْمُ، وَأَمَّا الْإِلْزَامُ الْحِسِّيُّ مِنْ التَّرْسِيمِ وَالْحَبْسِ فَلَيْسَ بِحُكْمٍ؛ لِأَنَّ الْحَاكِمَ قَدْ يَعْجِزُ عَنْ ذَلِكَ، وَقَدْ يَكُونُ الْحُكْمُ أَيْضًا بِعَدَمِ الْإِلْزَامِ وَذَلِكَ إذَا كَانَ مَا حَكَمَ بِهِ هُوَ عَدَمُ الْإِلْزَامِ وَأَنَّ الْوَاقِعَةَ يَتَعَيَّنُ فِيهَا الْإِبَاحَةُ وَعَدَمُ الْحَجْرِ، وَأَمَّا الْحُكْمُ بِالْإِطْلَاقِ فَكَمَا إذَا رُفِعَتْ لِلْحَاكِمِ أَرْضًا زَالَ الْإِحْيَاءُ عَنْهَا فَحَكَمَ بِزَوَالِ الْمِلْكِ فَإِنَّهَا تَبْقَى مُبَاحَةً لِكُلِّ أَحَدٍ، وَكَذَلِكَ إذَا حَكَمَ بِأَنَّ أَرْضَ الْعَنْوَةِ طَلْقٌ لَيْسَتْ وَقْفًا عَلَى مَا قَالَهُ مَالِكٌ وَمَنْ تَابَعَهُ وَالْحَاكِمُ شَافِعِيٌّ يَرَى الطَّلْقَ دُونَ الْوَقْفِ، وَأَنَّهَا تَبْقَى مُبَاحَةً، وَكَذَلِكَ الصَّيْدُ وَالنَّحْلُ وَالْحَمَامُ الْبَرِّيُّ إذَا حِيزَ فَحَكَمَ الْحَاكِمُ بِزَوَالِ مِلْكِ الْحَائِزِ الْأَوَّلِ صَارَ مِلْكًا لِلْحَائِزِ الثَّانِي فَهَذِهِ الصُّوَرُ وَمَا أَشْبَهَهَا كُلُّهَا إطْلَاقَاتٌ وَإِنْ كَانَ يَلْزَمُهَا إلْزَامُ الْمَالِكِ عَدَمَ الِاخْتِصَاصِ، لَكِنَّ هَذَا بِطَرِيقِ اللُّزُومِ، وَالْكَلَامُ إنَّمَا هُوَ فِي الْمَقْصُودِ الْأَوَّلِ بِالذَّاتِ لَا فِي اللَّوَازِمِ، كَمَا أَنَّ الْمَقْصُودَ الْأَوَّلَ مِنْ الْأَمْرِ الْوُجُوبُ وَإِنْ كَانَ يَلْزَمُهُ النَّهْيُ عَنْ الضِّدِّ وَتَحْرِيمُهُ، فَالْكَلَامُ فِي الْحَقَائِقِ إنَّمَا يَقَعُ فَبِمَا هُوَ فِي الرُّتْبَةِ الْأُولَى لَا فِيمَا بَعْدَهَا.
قَالَ غَيْرُهُ: وَالْحُكْمُ فِي مَادَّتِهِ بِمَعْنَى الْمَنْعِ، وَمِنْهُ حَكَمْتُ السَّفِيهَ إذَا أَخَذْت عَلَى يَدِهِ وَمَنَعْتُهُ مِنْ التَّصَرُّفِ، وَمِنْهُ سُمِّيَ الْحَاكِمُ حَاكِمًا لِمَنْعِهِ الظَّالِمَ مِنْ ظُلْمِهِ، وَمَعْنَى قَوْلِهِمْ حُكْمُ الْحَاكِمِ، أَيْ وَضْعُ الْحَقِّ فِي أَهْلِهِ وَمَنْعُ مَنْ لَيْسَ لَهُ بِأَهْلٍ، وَبِذَلِكَ سُمِّيَتْ الْحَكَمَةُ الَّتِي فِي لِجَامِ الْفَرَسِ؛ لِأَنَّهَا تَرُدُّ الْفَرَسَ عَنْ الْمَعَاطِبِ، وَالْعَرَبُ تَقُولُ: حَكَمَ وَأَحْكَمَ بِمَعْنَى مَنَعَ، وَالْحُكْمُ فِي اللُّغَةِ الْقَضَاءُ أَيْضًا فَحَقِيقَتُهُمَا مُتَقَارِبَةٌ.
(وَأَمَّا حُكْمُهُ) فَهُوَ فَرْضُ كِفَايَةٍ، وَلَا خِلَافَ بَيْنَ الْأَئِمَّةِ أَنَّ الْقِيَامَ بِالْقَضَاءِ وَاجِبٌ، وَلَا يَتَعَيَّنُ عَلَى أَحَدٍ إلَّا أَنْ لَا يُوجَدَ مِنْهُ عِوَضٌ، وَقَدْ اجْتَمَعَتْ فِيهِ شَرَائِطُ الْقَضَاءِ فَيُجْبَرُ عَلَيْهِ قَالَ عِيسَى عَنْ ابْنِ الْقَاسِمِ قِيلَ لِمَالِكٍ: هَلْ يُجْبَرُ الرَّجُلُ عَلَى وِلَايَةِ الْقَضَاءِ؟ قَالَ: لَا إلَّا أَنْ لَا يُوجَدَ مِنْهُ عِوَضٌ فَيُجْبَرُ عَلَيْهِ، قِيلَ لَهُ: أَيُجْبَرُ بِالضَّرْبِ وَالْحَبْسِ؟ قَالَ نَعَمْ، وَنَحْوُهُ فِي كِتَابِ ابْنِ شَعْبَانَ.
(وَأَمَّا حِكْمَتُهُ) فَرَفْعُ التَّهَارُجِ، وَرَدُّ النَّوَائِبِ، وَقَمْعُ الظَّالِمِ، وَنَصْرُ الْمَظْلُومِ، وَقَطْعُ الْخُصُومَاتِ، وَالْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنْ الْمُنْكَرِ قَالَهُ ابْنُ رَاشِدٍ وَغَيْرُهُ.

.الْبَابُ الثَّانِي فِي فَضْلِ الْقَضَاءِ وَالتَّرْغِيبِ فِي الْقِيَامِ فِيهِ بِالْعَدْلِ:

وَبَيَانِ مَحَلِّ التَّحْذِيرِ مِنْهُ وَحُكْمِ السَّعْيِ فِيهِ اعْلَمْ أَنَّ أَكْثَرَ الْمُؤَلِّفِينَ مِنْ أَصْحَابِنَا وَغَيْرِهِمْ بَالَغُوا فِي التَّرْهِيبِ وَالتَّحْذِيرِ مِنْ الدُّخُولِ فِي وِلَايَةِ الْقَضَاءِ، وَشَدَّدُوا فِي كَرَاهِيَةِ السَّعْيِ فِيهَا، وَرَغَّبُوا فِي الْإِعْرَاضِ عَنْهَا وَالنُّفُورِ وَالْهَرَبِ مِنْهَا، حَتَّى تَقَرَّرَ فِي أَذْهَانِ كَثِيرٍ مِنْ الْفُقَهَاءِ وَالصُّلَحَاءِ أَنَّ مَنْ وَلِيَ الْقَضَاءَ فَقَدْ سَهُلَ عَلَيْهِ دِينُهُ وَأَلْقَى بِيَدِهِ إلَى التَّهْلُكَةِ، وَرَغِبَ عَمَّا هُوَ الْأَفْضَلُ، وَسَاءَ اعْتِقَادُهُمْ فِيهِ، وَهَذَا غَلَطٌ فَاحِشٌ يَجِبُ الرُّجُوعُ عَنْهُ وَالتَّوْبَةُ مِنْهُ، وَالْوَاجِبُ تَعْظِيمُ هَذَا الْمَنْصِبِ الشَّرِيفِ وَمَعْرِفَةُ مَكَانَتِهِ مِنْ الدِّينِ، فَبِهِ بُعِثَتْ الرُّسُلُ وَبِالْقِيَامِ بِهِ قَامَتْ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ، وَجَعَلَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ النِّعَمِ الَّتِي يُبَاحُ الْحَسَدُ عَلَيْهَا، فَقَدْ جَاءَ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «لَا حَسَدَ إلَّا فِي اثْنَيْنِ رَجُلٍ آتَاهُ اللَّهُ مَالًا فَسَلَّطَهُ عَلَى هَلَكَتِهِ فِي الْحَقِّ، وَرَجُلٍ آتَاهُ اللَّهُ الْحِكْمَةَ فَهُوَ يَقْضِي بِهَا وَيَعْمَلُ بِهَا».
وَجَاءَ حَدِيثُ عَائِشَةَ- رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا- «أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ هَلْ تَدْرُونَ مَنْ السَّابِقُونَ إلَى ظِلِّ اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ؟ قَالُوا. اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ الَّذِينَ إذَا أُعْطُوا الْحَقَّ قَبِلُوهُ وَإِذَا سُئِلُوهُ بَذَلُوهُ وَإِذَا حَكَمُوا لِلْمُسْلِمِينَ حَكَمُوا كَحُكْمِهِمْ لِأَنْفُسِهِمْ» وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: «سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمْ اللَّهُ تَحْتَ ظِلِّ عَرْشِهِ» الْحَدِيثَ، فَبَدَأَ بِالْإِمَامِ الْعَادِلِ.
وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْمُقْسِطُونَ عَلَى مَنَابِرَ مِنْ نُورٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى يَمِينِ الرَّحْمَنِ وَكِلْتَا يَدَيْهِ يَمِينٌ».
وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ لَأَنْ أَقْضِيَ يَوْمًا بِالْحَقِّ أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ عِبَادَةِ سَبْعِينَ عَامًا، وَمُرَادُهُ أَنَّهُ إذْ قَضَى يَوْمًا بِالْحَقِّ كَانَ أَفْضَلُ مِنْ عِبَادَةِ سَبْعِينَ سَنَةً فَلِذَلِكَ كَانَ الْعَدْلُ بَيْنَ النَّاسِ مِنْ أَفْضَلِ أَعْمَالِ الْبِرِّ وَأَعْلَى دَرَجَاتِ الْأَجْرِ.
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [المائدة: 42] فَأَيُّ شَرَفٍ أَشْرَفُ مِنْ مَحَبَّةِ اللَّهِ تَعَالَى.
وَاعْلَمْ أَنَّ كُلَّ مَا جَاءَ مِنْ الْأَحَادِيثِ الَّتِي فِيهَا تَخْوِيفٌ وَوَعِيدٌ فَإِنَّمَا هِيَ فِي قَضَاءِ الْجَوْرِ لِلْعُلَمَاءِ أَوْ الْجُهَّالِ الَّذِينَ يُدْخِلُونَ أَنْفُسَهُمْ فِي هَذَا الْمَنْصِبِ بِغَيْرِ عِلْمٍ، فَفِي هَذَيْنِ الصِّنْفَيْنِ جَاءَ الْوَعِيدُ، وَأَمَّا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ وَلِيَ الْقَضَاءَ فَقَدْ ذُبِحَ بِغَيْرِ سِكِّينٍ» فَقَدْ أَوْرَدَهُ أَكْثَرُ النَّاسِ فِي مَعْرِضِ التَّحْذِيرِ مِنْ الْقَضَاءِ.
وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: هَذَا الْحَدِيثُ دَلِيلٌ عَلَى شَرَفِ الْقَضَاءِ وَعَظِيمِ مَنْزِلَتِهِ، وَأَنَّ الْمُتَوَلِّيَ لَهُ مُجَاهِدٌ لِنَفْسِهِ وَهَوَاهُ وَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى فَضِيلَةِ مَنْ قَضَى بِالْحَقِّ إذْ جَعَلَهُ ذَبِيحُ الْحَقِّ، امْتِحَانًا لِتَعْظُمَ لَهُ الْمَثُوبَةُ امْتِنَانًا، فَالْقَاضِي لَمَّا اسْتَسْلَمَ لِحُكْمِ اللَّهِ وَصَبَرَ عَلَى مُخَالَفَةِ الْأَقَارِبِ وَالْأَبَاعِدِ فِي خُصُومَاتِهَا فَلَمْ تَأْخُذْهُ فِي اللَّهِ تَعَالَى لَوْمَةُ لَائِمٍ حَتَّى قَادَهُمْ إلَى مُرِّ الْحَقِّ وَكَلِمَةِ الْعَدْلِ وَكَفَّهُمْ عَنْ دَوَاعِي الْهَوَى وَالْعِنَادِ، جُعِلَ ذَبِيحُ الْحَقِّ لِلَّهِ، وَبَلَغَ بِهِ حَالُ الشُّهَدَاءِ الَّذِينَ لَهُمْ الْجَنَّةُ.
«وَقَدْ وَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ وَمُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ وَمَعْقِلَ بْنَ يَسَارٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ الْقَضَاءَ» فَنِعْمَ الذَّابِحُ وَنِعْمَ الْمَذْبُوحُ فَالتَّحْذِيرُ الْوَارِدُ مِنْ الشَّرْعِ إنَّمَا هُوَ عَنْ الظُّلْمِ لَا عَنْ الْقَضَاءِ، فَإِنَّ الْجَوْرَ فِي الْأَحْكَامِ وَاتِّبَاعَ الْهَوَى فِيهِ مِنْ أَعْظَمِ الذُّنُوبِ وَأَكْبَرِ الْكَبَائِرِ.
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا} [الجن: 15] وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إنَّ أَعْتَى النَّاسِ عَلَى اللَّهِ وَأَبْغَضَ النَّاسِ إلَى اللَّهِ وَأَبْعَدَ النَّاسِ مِنْ اللَّهِ رَجُلٌ وَلَّاهُ اللَّهُ مِنْ أَمْرِ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ شَيْئًا ثُمَّ لَمْ يَعْدِلْ بَيْنَهُمْ» وَأَمَّا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْقُضَاةُ ثَلَاثَةٌ قَاضِيَانِ فِي النَّارِ وَقَاضٍ فِي الْجَنَّةِ قَاضٍ عَمِلَ بِالْحَقِّ فِي قَضَائِهِ فَهُوَ فِي الْجَنَّةِ وَقَاضٍ عَلِمَ الْحَقَّ فَخَانَ مُتَعَمِّدًا فَذَلِكَ فِي النَّارِ وَقَاضٍ قَضَى بِغَيْرِ عِلْمٍ وَاسْتَحْيَا أَنْ يَقُولَ إنِّي لَا أَعْلَمُ فَهُوَ فِي النَّارِ» فَصَحَّ أَنَّ ذَلِكَ فِي الْجَائِرِ الْعَالَمِ، وَالْجَاهِلِ الَّذِي لَمْ يُؤْذَنْ لَهُ فِي الدُّخُولِ فِي الْقَضَاءِ، وَأَمَّا مَنْ اجْتَهَدَ فِي الْحَقِّ عَلَى عِلْمٍ فَأَخْطَأَ فَقَدْ قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «إذَا اجْتَهَدَ الْحَاكِمُ فَأَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ وَإِنْ أَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ» وَبِمِثْلِ ذَلِكَ نَطَقَ الْكِتَابُ الْعَزِيزُ فِي قَوْله تَعَالَى: {وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ} [الأنبياء: 78] {فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا} [الأنبياء: 79] فَأَثْنَى عَلَى دَاوُد بِاجْتِهَادِهِ وَأَثْنَى عَلَى سُلَيْمَانَ بِإِصَابَتِهِ وَجْهَ الْحُكْمِ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت: 69].
فَيَجِبُ عَلَى مَنْ دَخَلَ فِي خُطَّةِ الْقَضَاءِ بَذْلُ الْجَهْدِ فِي الْقِيَامِ بِالْحَقِّ وَالْعَدْلِ، فَقَدْ قَالَ بَعْضُ أَئِمَّةِ الْمَذْهَبِ: الْقَضَاءُ مِحْنَةٌ، وَمَنْ دَخَلَ فِيهِ فَقَدْ اُبْتُلِيَ بِعَظِيمٍ؛ لِأَنَّهُ عَرَّضَ نَفْسَهُ لِلْهَلَاكِ، إذْ التَّخَلُّصُ مِنْهُ عَلَى مَنْ اُبْتُلِيَ بِهِ عَسِيرٌ، وَلِذَلِكَ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ وَلِيَ الْقَضَاءَ فَقَدْ ذُبِحَ بِغَيْرِ سِكِّينٍ» قَالَ ابْنُ شَاسٍ: وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ أَبِي ذِئْبٍ: «فَقَدْ ذُبِحَ بِالسِّكِّينِ» وَقَالَ أَبُو قِلَابَةَ: مَثَلُ الْقَاضِي الْعَالَمِ كَالسَّابِحِ فِي الْبَحْرِ فَكَمْ عَسَى أَنْ يَسْبَحَ حَتَّى يَغْرَقَ، قَالَ بَعْضُ الْأَئِمَّةِ: وَشِعَارُ الْمُتَّقِينَ الْبُعْدُ عَنْ هَذَا وَالْهَرَبُ مِنْهُ، وَقَدْ رَكِبَ جَمَاعَةٌ مِمَّنْ يُقْتَدَى بِهِمْ مِنْ الْأَئِمَّةِ الْمَشَاقَّ فِي التَّبَاعُدِ عَنْ هَذَا، وَصَبَرُوا عَلَى الْأَذَى فِي الِامْتِنَاعِ مِنْهُ، وَقَدْ هَرَبَ أَبُو قِلَابَةَ إلَى مِصْرَ لَمَّا طُلِبَ لِلْقَضَاءِ فَلَقِيَهُ أَيُّوبُ فَأَشَارَ عَلَيْهِ بِالتَّرْغِيبِ فِيهِ.
وَقَالَ لَهُ: لَوْ ثَبَتَّ لَنِلْت أَجْرًا عَظِيمًا، فَقَالَ لَهُ أَبُو قِلَابَةَ: الْغَرِيقُ فِي الْبَحْرِ إلَى مَتَى يَسْبَحُ وَمَا وَلِيَ سَحْنُونٌ الْقَضَاءَ حَتَّى تَخَوَّفَ عَلَى نَفْسِهِ، وَرَأَى أَنَّهُ تَعَيَّنَ عَلَيْهِ، فَكَلَامُ أَبِي قِلَابَةَ هَذَا وَمَنْ تَقَدَّمَهُ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنْ التَّهْدِيدِ وَالتَّخْوِيفِ، إنَّمَا هُوَ فِي حَقِّ مَنْ عَلِمَ مِنْ نَفْسِهِ الضَّعْفَ وَعَدَمَ الِاسْتِقْلَالِ بِمَا يَجِبُ عَلَيْهِ، وَكَذَلِكَ مَنْ رَأَى نَفْسَهُ أَهْلًا لِذَلِكَ الْمَنْصِبِ وَالنَّاسُ لَا يَرَوْنَهُ أَهْلًا لِذَلِكَ، وَقَدْ قَالَ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ: لَا خَيْرَ فِيمَنْ يَرَى نَفْسَهُ أَهْلًا لِشَيْءٍ لَا يَرَاهُ النَّاسُ لَهُ أَهْلًا، وَالْمُرَادُ بِالنَّاسِ الْعُلَمَاءُ، فَهُرُوبُ مَنْ كَانَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ عَنْ الْقَضَاءِ وَاجِبٌ وَطَلَبُهُ سَلَامَةَ نَفْسِهِ أَمْرٌ لَازِمٌ.
وَاعْلَمْ أَنَّ طَلَبَ الْقَضَاءِ وَالْحِرْصَ عَلَيْهِ حَسْرَةٌ وَنَدَامَةٌ فِي عَرَصَاتِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «سَتَحْرِصُونَ عَلَى الْإِمَارَةِ وَتَكُونُ حَسْرَةً وَنَدَامَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَنِعْمَتْ الْمُرْضِعَةُ وَبِئْسَ الْفَاطِمَةُ» فَمَنْ طَلَبَ الْقَضَاءَ وَأَرَادَهُ وَحَرَصَ عَلَيْهِ وُكِلَ إلَيْهِ وَخِيفَ عَلَيْهِ فِيهِ الْهَلَاكُ وَمَنْ لَمْ يَسْأَلْهُ وَامْتُحِنَ بِهِ وَهُوَ كَارِهٌ لَهُ خَائِفٌ عَلَى نَفْسِهِ فِيهِ أَعَانَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ طَلَبَ الْقَضَاءَ وَاسْتَعَانَ عَلَيْهِ وُكِلَ إلَيْهِ، وَمَنْ لَمْ يَطْلُبْهُ وَلَا اسْتَعَانَ عَلَيْهِ أَنْزَلَ اللَّهُ مَلَكًا يُسَدِّدُهُ».
وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَا عَبْدَ الرَّحْمَنِ لَا تَسْأَلْ الْإِمَارَةَ فَإِنَّك إنْ تُؤْتَهَا مِنْ غَيْرِ مَسْأَلَةٍ تُعَنْ عَلَيْهَا وَإِنْ تُؤْتَهَا عَنْ مَسْأَلَةٍ تُوكَلْ إلَيْهَا» وَقَدْ اسْتَثْنَى بَعْضُ أَصْحَابِنَا مِنْ ذَلِكَ صُوَرًا يَأْتِي ذِكْرُهَا.
أَمَّا تَحْصِيلُ الْقَضَاءِ بِالرِّشْوَةِ فَهُوَ أَشَدُّ كَرَاهَةً.
وَقَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ مِنْ تَلَامِذَةِ ابْنِ سُرَيْجٍ الشَّافِعِيِّ فِي كِتَابِ أَدَبِ الْقَضَاءِ: مَنْ تَقَبَّلَ الْقَضَاءَ بِقَبَالَةٍ وَأُعْطِيَ عَلَيْهِ رِشْوَةً فَوِلَايَتُهُ بَاطِلَةٌ وَقَضَاؤُهُ مَرْدُودٌ، وَإِنْ كَانَ قَدْ حَكَمَ بِحَقٍّ، قَالَ وَإِنْ أَعْطَى رِشْوَةً عَلَى عَزْلِ قَاضٍ لِيُوَلَّى مَكَانَهُ فَكَذَلِكَ أَيْضًا، وَإِنْ أَعْطَاهَا عَلَى عَزْلِهِ دُونَ وِلَايَةٍ فَعُزِلَ الْأَوَّلُ بِرِشْوَةٍ ثُمَّ اسْتَقْضَى هُوَ مَكَانَهُ بِغَيْرِ رِشْوَةٍ نُظِرَ فِي الْمَعْزُولِ فَإِنْ كَانَ عَدْلًا فَإِعْطَاءُ الرِّشْوَةِ عَلَى عَزْلِهِ حَرَامٌ وَالْمَعْزُولُ بَاقٍ عَلَى وِلَايَتِهِ، إلَّا أَنْ يَكُونَ مَنْ عَزَلَهُ قَدْ تَابَ بِرَدِّ الرِّشْوَةِ قَبْلَ عَزْلِهِ، وَقَضَاءُ الْمُسْتَخْلَفِ أَيْضًا بَاطِلٌ، إلَّا أَنْ يَكُونَ الْمُسْتَخْلَفُ أَيْضًا قَدْ تَابَ قَبْلَ الْوِلَايَةِ فَيَصِحُّ قَضَاؤُهُ، فَإِنْ كَانَ الْمَعْزُولُ جَائِرًا لَمْ يَبْطُلْ قَضَاءُ الْمُسْتَخْلَفِ قَالَ الْمُؤَلِّفُ أَبُو الْعَبَّاسُ قُلْت هَذَا تَخْرِيجٌ عَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَالْحَنَفِيِّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ انْتَهَى.
قَالَ أَصْحَابُنَا: فَيَجِبُ أَنْ لَا يُوَلَّى الْقَضَاءَ مَنْ أَرَادَهُ وَطَلَبَهُ وَإِنْ اجْتَمَعَتْ فِيهِ شُرُوطُ الْقَضَاءِ مَخَافَةَ أَنْ يُوكَلَ إلَيْهِ فَلَا يَقُومُ بِهِ، وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إنَّا لَا نَسْتَعْمِلُ عَلَى عَمَلِنَا هَذَا مَنْ أَرَادَهُ»، وَنَظَرَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إلَى شَابٍّ فِي وَفْدٍ قَدِمُوا عَلَيْهِ فَأَعْجَبَهُ حَالُهُ فَإِذَا هُوَ يَسْأَلُ الْقَضَاءَ، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إنَّ الْأَمْرَ لَا يَقْوَى عَلَيْهِ مَنْ يُحِبُّهُ.
قَالَ ابْنُ شَاسٍ: وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُقْدِمَ عَلَى وِلَايَةِ الْقَضَاءِ إلَّا مَنْ وَثِقَ بِنَفْسِهِ وَتَعَيَّنَ لِذَلِكَ أَوْ أَجْبَرَهُ الْإِمَامُ الْعَادِلُ عَلَى ذَلِكَ، فَلِلْإِمَامِ الْعَدْلِ إجْبَارُهُ إنْ كَانَ صَالِحًا، وَلَهُ أَنْ يَهْرُبَ وَيَمْتَنِعَ، إلَّا أَنْ يَعْلَمَ أَنَّهُ تَعَيَّنَ عَلَيْهِ فَيَجِبُ عَلَيْهِ الْقَبُولُ، وَذَلِكَ إذَا تَحَقَّقَ أَنَّهُ لَيْسَ فِي تِلْكَ النَّاحِيَةِ مَنْ يَصْلُحُ لِلْقَضَاءِ سِوَاهُ، فَلَا يَجُوزُ لَهُ حِينَئِذٍ الِامْتِنَاعُ، بَلْ يَجِبُ عَلَيْهِ السَّعْيُ فِي طَلَبِهِ وَتَحْصِيلِهِ لِتَعَيُّنِ الْقِيَامِ بِهَذَا الْفَرْضِ عَلَيْهِ، وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ يُوسُفَ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْه: {اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ} [يوسف: 55] فَإِنَّهُ كَانَ بَيْنَ قَوْمٍ كُفَّارٍ فَأَرَادَ اسْتِصْلَاحَهُمْ وَدُعَاءَهُمْ إلَى اللَّهِ تَعَالَى بِالسَّعْيِ فِي هَذِهِ الْوِلَايَةِ دُونَ غَيْرِهَا؛ لِأَنَّ الْمُتَوَلِّيَ لِأَرْزَاقِ الْعِبَادِ تَذِلُّ لَهُ الرِّقَابُ وَتَخْضَعُ لَهُ الْجَبَابِرَةُ وَلَا يَسْتَغْنِي أَحَدٌ عَنْ بَابِهِ، فَلِهَذَا طَلَبَ هَذِهِ الْمَرْتَبَةَ دُونَ الْإِمَارَةِ وَالْوِزَارَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْوِلَايَاتِ، وَلَا يُقَالُ: إنَّهُ طَلَبَ ذَلِكَ لِيَتَوَصَّلَ بِهِ إلَى الِاجْتِمَاعِ بِأَخِيهِ، فَإِنَّ مَنْزِلَتَهُ أَشْرَفُ مِنْ هَذَا وَأَكْمَلُ وَإِنْ كَانَ هَذَا الْغَرَضُ حَاصِلًا فَعَلَى سَبِيلِ التَّبَعِيَّةِ؛ لِأَنَّهُ مِنْ لَوَازِمِ هَذِهِ الْوِلَايَةِ أَعْنِي أَنَّ إخْوَتَهُ لابد لَهُمْ مِنْ الْمِيرَةِ وَطَلَبِ الْقُوتِ مِنْ عِنْدِهِ، صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَى نَبِيِّنَا وَعَلَيْهِ وَعَلَى جَمِيعِ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ.

.فَصْلٌ فِي بَيَانِ أَنَّ طَلَبَ الْقَضَاءِ يَنْقَسِمُ إلَى خَمْسَةِ أَقْسَامٍ:

(أَقْسَامُ طَلَبِ الْقَضَاءِ) وَطَلَبُ الْقَضَاءِ يَنْقَسِمُ إلَى خَمْسَةِ أَقْسَامٍ: وَاجِبٌ وَمُبَاحٌ وَمُسْتَحَبٌّ وَمَكْرُوهٌ وَحَرَامٌ.
فَالْوَجْهُ الْأَوَّلُ: إذَا كَانَ مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ أَوْ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالْعَدَالَةِ وَلَا يَكُونُ هُنَاكَ قَاضٍ، أَوْ يَكُونُ وَلَكِنْ لَا تَحِلُّ وِلَايَتُهُ، أَوْ لَيْسَ فِي الْبَلَدِ مَنْ يَصْلُحُ لِلْقَضَاءِ غَيْرُهُ، أَوْ لِكَوْنِهِ إنْ لَمْ يَلِ الْقَضَاءَ وَلِيَهُ مَنْ لَا تَحِلُّ وِلَايَتُهُ، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ الْقَضَاءُ بِيَدِ مَنْ لَا يَحِلُّ بَقَاؤُهُ عَلَيْهِ وَلَا سَبِيلَ إلَى عَزْلِهِ إلَّا بِتَصَدِّي هَذَا إلَى الْوِلَايَةِ، فَيَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ التَّصَدِّي لِذَلِكَ وَالسَّعْيُ فِيهِ، إذَا قَصَدَ بِطَلَبِهِ حِفْظَ الْحُقُوقِ وَجَرَيَانَ الْأَحْكَامِ عَلَى وَفْقِ الشَّرْعِ؛ لِأَنَّ فِي تَحْصِيلِهِ الْقِيَامَ بِفَرْضِ الْكِفَايَةِ.
الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ فَقِيرًا وَلَهُ عِيَالٌ فَيَجُوزُ لَهُ السَّعْيُ فِي تَحْصِيلِهِ لِسَدِّ خَلَّتِهِ، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ يَقْصِدُ بِهِ دَفْعَ ضَرَرٍ عَنْ نَفْسِهِ فَيُبَاحُ لَهُ أَيْضًا، وَالْوَجْهُ الْأَوَّلُ نَقَلَهُ الْمَازِرِيُّ، وَنَقَلَ الثَّانِي فِي الْوَجْهِ الْمُسْتَحَبِّ.
الْوَجْهُ الثَّالِثُ: إذَا كَانَ هُنَاكَ عَالِمٌ خَفِيَ عِلْمُهُ عَنْ النَّاسِ فَأَرَادَ الْإِمَامُ أَنْ يُشْهِرَهُ بِوِلَايَةِ الْقَضَاءِ لَيُعَلِّمَ الْجَاهِلَ وَيُفْتِي الْمُسْتَرْشِدَ أَوْ كَانَ هُنَاكَ خَامِلُ الذِّكْرِ لَا يَعْرِفُهُ الْإِمَامُ وَلَا النَّاسُ فَأَرَادَ السَّعْيَ فِي الْقَضَاءِ لِيُعْرَفَ مَوْضِعُ عِلْمِهِ، فَيُسْتَحَبُّ لَهُ تَحْصِيلُ ذَلِكَ وَالدُّخُولُ فِيهِ بِهَذِهِ النِّيَّةِ.
قَالَ الْمَازِرِيُّ: وَقَدْ يُسْتَحَبُّ لِمَنْ يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ، وَلَكِنَّهُ يَرَى أَنَّهُ أَنْهَضُ بِهِ وَأَنْفَعُ لِلْمُسْلِمِينَ مِنْ آخَرَ تَوَلَّاهُ وَهُوَ مِمَّنْ يَسْتَحِقُّ التَّوْلِيَةَ، وَلَكِنَّهُ مُقَصِّرٌ عَنْ هَذَا.
الْوَجْهُ الرَّابِعُ: أَنْ يَكُونَ سَعْيُهُ فِي طَلَبِ الْقَضَاءِ لِتَحْصِيلِ الْجَاهِ وَالِاسْتِعْلَاءِ عَلَى النَّاسِ فَهَذَا يُكْرَهُ لَهُ السَّعْيُ، وَلَوْ قِيلَ: إنَّهُ يَحْرُمُ كَانَ وَجْهُهُ ظَاهِرًا، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [القصص: 83] وَيُكْرَهُ أَيْضًا إذَا كَانَ غَنِيًّا عَنْ أَخْذِ الرِّزْقِ عَلَى الْقَضَاءِ وَكَانَ مَشْهُورًا لَا يَحْتَاجُ أَنْ يُشْهِرَ نَفْسَهُ وَعِلْمَهُ بِالْقَضَاءِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَلْحَقَ هَذَا بِقِسْمِ الْمُبَاحِ.
الْوَجْهُ الْخَامِسُ: أَنْ يَسْعَى فِي طَلَبِ الْقَضَاءِ وَهُوَ جَاهِلٌ لَيْسَ لَهُ أَهْلِيَّةُ الْقَضَاءِ، أَوْ يَسْعَى فِيهِ وَهُوَ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ لَكِنَّهُ مُتَلَبِّسٌ بِمَا يُوجِبُ فِسْقَهُ، أَوْ كَانَ قَصْدُهُ بِالْوِلَايَةِ الِانْتِقَامَ مِنْ أَعْدَائِهِ أَوْ قَبُولَ الرِّشَا مِنْ الْخُصُومِ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنْ الْمَقَاصِدِ، فَهَذَا يَحْرُمُ عَلَيْهِ السَّعْيُ فِي الْقَضَاءِ.

.الْبَابُ الثَّالِثُ فِي وِلَايَةِ الْقَضَاءِ:

وَمَا يُسْتَفَادُ بِهَا مِنْ النَّظَرِ فِي الْأَحْكَامِ وَمَا لَيْسَ لِلْقَاضِي النَّظَرُ فِيهِ وَمَرَاتِبُ الْوِلَايَاتِ الَّتِي تُفِيدُ أَهْلِيَّةَ الْقَضَاءِ أَوْ شَيْئًا مِنْهُ أَمَّا وِلَايَةُ الْقَضَاءِ فَقَالَ الْفَرَّاءُ هَذِهِ الْوِلَايَةُ مُتَنَاوِلَةٌ لِلْحُكْمِ لَا يَنْدَرِجُ فِيهَا غَيْرُهُ.
وَقَالَ أَيْضًا فِي مَوْضِعٍ آخَرَ وَلَيْسَ لِلْقَاضِي السِّيَاسَةُ الْعَامَّةُ لاسيما الْحَاكِمُ الَّذِي لَا قُدْرَةَ لَهُ عَلَى التَّنْفِيذِ، كَالْحَاكِمِ الضَّعِيفِ الْقُدْرَةِ عَلَى الْمُلُوكِ الْجَبَابِرَةِ فَهُوَ يُنْشِئُ الْإِلْزَامَ عَلَى الْمَلِكِ الْعَظِيمِ وَلَا يَخْطُرُ لَهُ تَنْفِيذُهُ لِتَعَذُّرِ ذَلِكَ عَلَيْهِ، بَلْ الْحَاكِمُ مِنْ حَيْثُ هُوَ حَاكِمٌ لَيْسَ لَهُ إلَّا الْإِنْشَاءُ، وَأَمَّا قُوَّةُ التَّنْفِيذِ فَأَمْرٌ زَائِدٌ عَلَى كَوْنِهِ حَاكِمًا فَقَدْ يُفَوَّضُ إلَيْهِ التَّنْفِيذُ وَقَدْ لَا يَنْدَرِجُ فِي وِلَايَتِهِ، وَلَيْسَ لَهُ قِسْمَةُ الْغَنَائِمِ وَتَفْرِيقُ أَمْوَالِ بَيْتِ الْمَالِ عَلَى الْمَصَالِحِ وَإِقَامَةُ الْحُدُودِ وَتَرْتِيبُ الْجُيُوشِ وَقِتَالُ الْبُغَاةِ وَتَوْزِيعُ الْإِقْطَاعَاتِ وَإِقْطَاعُ الْمَعَادِنِ وَنَحْوُ ذَلِكَ، فَلَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ الْإِقْدَامُ عَلَيْهِ إلَّا بِإِذْنِ إمَامِ الْوَقْتِ الْحَاضِرِ انْتَهَى.
وَاعْلَمْ أَنَّ مَا ذَكَرَهُ مِنْ أَنَّ الْقَاضِيَ لَا يُقِيمُ الْحُدُودَ فِيهِ نَظَرٌ، وَالْمَنْقُولُ فِي الْمَذْهَبِ أَنَّ لَهُ إقَامَةَ الْحُدُودِ، وَقَدْ قَالَ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ فِي قَوْلِ ابْنِ الْحَاجِبِ: وَلَا يُقِيمُ الْحُدُودَ إلَّا الْحَاكِمُ، قَالَ: هَذَا هُوَ الْأَصْلُ أَنَّهُ لِلْخُلَفَاءِ وَلِلْقُضَاةِ، وَالْقَتْلُ لَا يَكُونُ لِكُلِّ الْقُضَاةِ، وَبِالْجُمْلَةِ فَإِنَّ إقَامَةَ الْحُدُودِ لَا تَكُونُ لِكُلِّ أَحَدٍ بَلْ وَلَا لِكُلِّ وَالٍ؛ لِمَا تُؤَدِّي إلَيْهِ الْمُسَارَعَةُ إلَى إقَامَةِ الْحُدُودِ مِنْ غَيْرِهِمْ مِنْ الْفِتْنَةِ وَالتَّهَارُجِ.
وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ نَهَى الْوُلَاةَ عَنْ الْقَتْلِ إلَّا بِإِذْنِهِ، وَأَيْضًا فَإِنَّهُ يَلْزَمُ عَلَى إقَامَةِ الْحُدُودِ أَحْكَامٌ مِنْ فِسْقِ الْمَحْدُودِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، فَيَجِبُ التَّحَوُّطُ لَهَا بِقَصْرِهَا عَلَى بَعْضِ الْوُلَاةِ، وَأَمَّا مَا ذَكَرَهُ مِنْ أَنَّ السِّيَاسَةَ لَيْسَ لَهُ فِيهَا مَدْخَلٌ فَلَيْسَ عَلَى إطْلَاقِهِ.
وَقَدْ قَالَ ابْنُ سُهَيْلٍ فِي أَوَّلِ كِتَابِهِ: إنَّ خُطَّةَ الْقَضَاءِ أَعْظَمُ الْخُطَطِ قَدْرًا وَأَنَّهَا إلَيْهَا الْمَرْجِعُ فِي الْجَلِيلِ وَالْحَقِيرِ بِلَا تَحْدِيدٍ وَأَنَّ عَلَى الْقَاضِي مَدَّ الْأَحْكَامِ، وَإِلَيْهِ النَّظَرُ فِي جَمِيعِ وُجُوهِ الْقَضَاءِ مِنْ الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ، وَأَنَّهُ يَخْتَصُّ بِالنَّظَرِ فِي الْجِرَاحَاتِ وَالتَّدْمِيَاتِ، وَأَنَّ الْقَاضِيَ يُبَاشِرُ كُلَّ الْأُمُورِ إلَّا أُمُورًا خَاصَّةً ذَكَرَ ابْنُ سُهَيْلٍ بَعْضَهَا وَاسْتَوْفَاهَا ابْنُ الْأَمِينِ الْقُرْطُبِيُّ فِي تَأْلِيفِهِ فَقَالَ: وَلِلْقَاضِي النَّظَرُ فِي جَمِيعِ الْأَشْيَاءِ إلَّا فِي قَبْضِ الْخَرَاجِ.
وَاخْتُلِفَ هَلْ لَهُ قَبْضُ أَمْوَالِ الصَّدَقَاتِ وَصَرْفُهَا فِي مُسْتَحَقِّيهَا إذَا لَمْ يَحْضُرْ النَّاظِرُ فَقِيلَ: ذَلِكَ لَهُ، وَقِيلَ لَا، وَهَذَا مُسْتَوْفًى فِي الرُّكْنِ الرَّابِعِ فِي الْمَقْضِيِّ فِيهِ فَانْظُرْهُ، وَسَيَأْتِي فِي أَوَّلِ الْقِسْمِ الثَّالِثِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لِلنَّظَرِ فِي كَثِيرٍ مِنْ السِّيَاسَاتِ الشَّرْعِيَّةِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ الَّذِي يَنْبَغِي أَنْ يُعَوَّلَ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ الْعُرْفُ وَقَدْ قَالَ الْإِمَامُ الْعَلَّامَةُ شَمْسُ الدِّينِ مُحَمَّدُ بْنُ قَيِّمِ الْجَوْزِيَّةِ الْحَنْبَلِيُّ: اعْلَمْ أَنَّ عُمُومَ الْوِلَايَاتِ وَخُصُوصَهَا وَمَا يَسْتَفِيدُهُ الْمُتَوَلِّي بِالْوِلَايَةِ يُتَلَقَّى مِنْ الْأَلْفَاظِ وَالْأَحْوَالِ وَالْعُرْفِ، وَلَيْسَ لِذَلِكَ حَدٌّ فِي الشَّرْعِ فَقَدْ يَدْخُلُ فِي وِلَايَةِ الْقَضَاءِ فِي بَعْضِ الْأَمْكِنَةِ وَفِي بَعْضِ الْأَزْمِنَةِ مَا يَدْخُلُ فِي وِلَايَةِ الْحَرْبِ، وَقَدْ تَكُونُ فِي بَعْضِ الْأَمْكِنَةِ وَالْأَزْمِنَةِ قَاصِرَةٌ عَلَى الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ فَقَطْ، فَيُسْتَفَادُ مِنْ وِلَايَةِ الْقَضَاءِ فِي كُلِّ قُطْرٍ مَا جَرَتْ بِهِ الْعَادَةُ وَاقْتَضَاهُ الْعُرْفُ، وَهَذَا هُوَ التَّحْقِيقُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ.
وَقَدْ جُمِعَ لِلْقَاضِي أَبِي الْعَبَّاسِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ طَالِبٍ قَاضِي أَفْرِيقِيَّةَ النَّظَرَ فِي الْقَضَاءِ وَفِي الْوِلَايَةِ مِنْ الْجِبَايَةِ وَالْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ وَالْعَزْلِ وَالْوِلَايَةِ.

.فَصْلٌ نُوَّابُ الْقُضَاةِ فِي عَمَلٍ مِنْ أَعْمَالِهِمْ أَوْ مُطْلَقًا:

أَمَّا نُوَّابُ الْقُضَاةِ فِي عَمَلٍ مِنْ أَعْمَالِهِمْ أَوْ مُطْلَقًا فَقَالَ الْقَرَافِيُّ: هُمْ مُسَاوُونَ الْقُضَاةَ الْأُصُولِ مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ وَلَا نُقْصَانٍ، وَلَا فَرْقَ إلَّا فِي كَثْرَةِ الْعَمَلِ بِالنِّسْبَةِ إلَى كَثْرَةِ الْأَقْطَارِ وَقِلَّتِهَا، وَأَنَّ الْأَصْلَ لَهُ أَنْ يَعْزِلَ الْفَرْعَ بِخِلَافِ الْعَكْسِ، وَهَذَا فَرْقٌ لَا يَزِيدُ فِي مَعْنَى الْوِلَايَةِ انْتَهَى.
وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ إنْ كَانَ فِي النَّائِبِ الْمُسْتَخْلَفِ بِإِذْنِ الْإِمَامِ فَمُسَلَّمٌ، وَإِلَّا فَالْمَنْقُولُ فِي كُتُبِ الْمَذْهَبِ خِلَافُ ذَلِكَ، فَفِي وَثَائِقِ ابْنِ الْعَطَّارِ وَمُعِينِ الْحُكَّامِ: وَالْمُذْهَبِ لِابْنِ رَاشِدٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ أَنَّ الْقَاضِيَ إذَا اسْتَخْلَفَ بِإِذْنِ الْإِمَامِ فَلِلْمُسْتَخْلَفِ التَّسْجِيلُ، وَإِلَّا فَيَرْفَعُ إلَى الْقَاضِي مَا ثَبَتَ عِنْدَهُ وَيُخْبِرُهُ بِهِ بِمَحْضَرِ عَدْلَيْنِ يَثْبُتُ بِهِمَا عِنْدَهُ إخْبَارُهُ، وَحِينَئِذٍ يَلْزَمُ الْقَاضِي أَنْ يُمْضِيَ فِعْلَهُ، وَيُسَجِّلَ بِهِ لِلْمَحْكُومِ لَهُ.
قَالَ ابْنُ الْعَطَّارِ: وَلَا يُسَجِّلُ مُسْتَخْلَفُ الْقَاضِي بِمَا ثَبَتَ عِنْدَهُ فَإِنْ فَعَلَ لَمْ يَجُزْ تَسْجِيلُهُ وَيَبْطُلُ وَلَا يَقُومُ لِلْقَائِمِ بِهِ حُجَّةٌ إلَّا أَنْ يُجِيزَهُ الْقَاضِي الَّذِي اسْتَخْلَفَهُ قَبْلَ أَنْ يُعْزَلَ أَوْ يَمُوتَ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْقَاضِيَ إذْ أَذِنَ اسْتَخْلَفَهُ فِي التَّسْجِيلِ جَازَ، وَهُوَ خِلَافُ مَا فِي (مُعِينِ الْحُكَّامِ) وَغَيْرِهِ.
وَفِي (الْمُتَيْطِيَّةِ) أَنَّ لِلْقَاضِي أَنْ يُبِيحَ لِمَنْ قَدَّمَهُ النَّظَرَ فِي أَمْوَالِ الْأَيْتَامِ وَالْغَائِبِ وَالتَّسْجِيلِ فِي سَائِرِ الْحُكُومَاتِ، وَلَهُ أَنْ يَحْظُرَ عَلَيْهِمْ ذَلِكَ فَيَفْعَلُ مِنْ ذَلِكَ مَا رَآهُ بِاجْتِهَادِهِ، فَيَنْبَغِي أَنْ يُحْمَلَ كَلَامُ الْقَرَافِيِّ عَلَى أَنَّهُ إذْنٌ لِنَائِبِهِ فِي جَمِيعِ مَا تَقَلَّدَهُ عَنْ الْإِمَامِ.

.فَصْلٌ وِلَايَةُ الْحِسْبَةِ:

وَأَمَّا وِلَايَةُ الْحِسْبَةِ فَهِيَ تَقْصُرُ عَنْ الْقَضَاءِ فِي إنْشَاءِ كُلِّ الْأَحْكَامِ بَلْ لَهُ أَنْ يَحْكُمَ فِي الرَّوَاشِنِ الْخَارِجِيَّةِ بَيْنَ الدُّورِ، وَبِنَاءِ الْمَصَاطِبِ فِي الطُّرُقِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مِمَّا يَتَعَلَّقُ بِالْحِسْبَةِ، وَلَيْسَ لَهُ إنْشَاءُ الْأَحْكَامِ وَلَا تَنْفِيذُهَا فِي عُقُودِ الْأَنْكِحَةِ وَالْمُعَامَلَاتِ.
وَفِي أَحْكَامِ ابْنِ سَهْلٍ: وَلَيْسَ لِلْمُحْتَسِبِ أَنْ يَحْكُمَ فِي عُيُوبِ الدُّورِ وَشِبْهِهَا إلَّا أَنْ يُجْعَلَ ذَلِكَ لَهُ فِي وِلَايَتِهِ وَيَزِيدُ الْمُحْتَسِبُ عَلَى الْقَاضِي بِكَوْنِهِ يَتَعَرَّضُ لِلْفَحْصِ عَنْ الْمُنْكَرَاتِ، وَإِنْ لَمْ تُنْهَ إلَيْهِ، وَأَمَّا الْقَاضِي فَلَا يَحْكُمُ إلَّا فِيمَا رُفِعَ إلَيْهِ وَمَوْضِعُ الْحِسْبَةِ الرَّهْبَةُ وَمَوْضِعُ الْقَضَاءِ النَّصَفَةُ.

.فَصْلٌ الْوِلَايَةُ الْجُزْئِيَّةُ الْمُسْتَفَادَةُ مِنْ الْقَضَاءِ:

وَأَمَّا الْوِلَايَةُ الْجُزْئِيَّةُ الْمُسْتَفَادَةُ مِنْ الْقَضَاءِ كَمُتَوَلِّي الْعُقُودِ وَالْفُسُوخِ فِي الْأَنْكِحَةِ فَقَطْ، وَالْمُتَوَلِّي لِلنَّظَرِ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالْأَيْتَامِ فَقَطْ، فَيُفَوَّضُ إلَيْهِ فِي ذَلِكَ النَّقْضُ وَالْإِبْرَامُ عَلَى مَا يَرَاهُ مِنْ الْأَوْضَاعِ الشَّرْعِيَّةِ، فَهَذِهِ الْوِلَايَةُ شُعْبَةٌ مِنْ وِلَايَةِ الْقَضَاءِ فَيُنَفَّذُ حُكْمُهُ فِيمَا فُوِّضَ إلَيْهِ وَلَا يُنَفَّذُ لَهُ حُكْمٌ فِيمَا عَدَا ذَلِكَ.

.فَصْلٌ وِلَايَةُ التَّحْكِيمِ بَيْنَ الْخَصْمَيْنِ:

وَأَمَّا وِلَايَةُ التَّحْكِيمِ بَيْنَ الْخَصْمَيْنِ فَهِيَ وِلَايَةٌ مُسْتَفَادَةٌ مِنْ آحَادِ النَّاسِ، وَهِيَ شُعْبَةٌ مِنْ الْقَضَاءِ مُتَعَلِّقَةٌ بِالْأَمْوَالِ دُونَ الْحُدُودِ، وَاللِّعَانِ وَالْقِصَاصِ، كَمَا هُوَ مَشْرُوحٌ فِي الْفَصْلِ الثَّامِنِ مِنْ الرُّكْنِ الْأَوَّلِ.

.فَصْلٌ وِلَايَةُ السُّعَاةِ وَجُبَاةِ الصَّدَقَةِ:

وَأَمَّا وِلَايَةُ السُّعَاةِ وَجُبَاةِ الصَّدَقَةِ فَلَهُمْ إنْشَاءُ الْحُكْمِ فِي الْأَمْوَالِ الزَّكَوِيَّةِ خَاصَّةً فَإِنْ حَكَمُوا فِي غَيْرِ ذَلِكَ لَمْ يُنَفَّذْ لِعَدَمِ الْوِلَايَةِ.

.فَصْلٌ وِلَايَةُ الْخَرْصِ:

وَأَمَّا وِلَايَةُ الْخَرْصِ فَلَيْسَ لِمُتَوَلِّيهَا إنْشَاءُ حُكْمٍ وَلَيْسَ لَهُ غَيْرُ حَزْرِ مَقَادِيرِ الثِّمَارِ، وَكَمْ يَكُونُ مِقْدَارُهَا إذَا يَبِسَتْ، وَفِعْلُهُ فِي ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ الْحُكْمِ لِذَلِكَ اخْتَلَفُوا لَوْ تَبَيَّنَ خَطَؤُهَا هَلْ يُرْجَعُ إلَى مَا تَبَيَّنَ أَوْ هُوَ حُكْمٌ مَضَى قَوْلَانِ.

.فَصْلٌ وِلَايَةُ الْحَكَمِينَ:

وَأَمَّا وِلَايَةُ الْحَكَمِينَ فَهِيَ شُعْبَةٌ مِنْ الْقَضَاءِ فِي قَضِيَّةٍ خَاصَّةٍ يُنَفَّذُ حُكْمُهُمَا فِيمَا فُوِّضَ إلَيْهِمَا مِنْ أَمْرِ الزَّوْجَيْنِ عَلَى مَا هُوَ مَبْسُوطٌ فِي مَحَلِّهِ وَلَا يُنَفَّذُ حُكْمُهُمَا فِي غَيْرِ ذَلِكَ.

.فَصْلٌ حُكْمُ الْحَكَمِينَ فِي جَزَاءِ الصَّيْدِ:

وَأَمَّا حُكْمُ الْحَكَمِينَ فِي جَزَاءِ الصَّيْدِ فَهِيَ وِلَايَةٌ مُسْتَفَادَةٌ مِنْ آحَادِ النَّاسِ يُنَفَّذُ حُكْمُهُمَا مَعَ اتِّفَاقِهِمَا فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالْجَزَاءِ فَقَطْ.

.فَصْلٌ الْوِلَايَةُ عَلَى صَرْفِ النَّفَقَاتِ وَالْفُرُوضِ الْمُقَدَّرَةِ:

وَأَمَّا الْوِلَايَةُ عَلَى صَرْفِ النَّفَقَاتِ وَالْفُرُوضِ الْمُقَدَّرَةِ لِمُسْتَحِقِّيهَا وَإِيصَالِ الزَّكَاةِ لِأَصْنَافِهَا وَقِسْمَةِ الْغَنَائِمِ وَإِيصَالِ مَالِ الْغَائِبِينَ إلَيْهِمْ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا فِيهِ تَنْفِيذٌ فَقَطْ، فَأَهْلُهَا كَالْقُضَاةِ فِي التَّنْفِيذِ لَا فِي الْإِنْشَاءِ.

.فَصْلٌ وِلَايَةُ الْقَاسِمِ الَّذِي يُقِيمُهُ الْقَاضِي وَالْكَاتِبِ:

وَأَمَّا وِلَايَةُ الْقَاسِمِ الَّذِي يُقِيمُهُ الْقَاضِي وَالْكَاتِبِ وَالتَّرْجُمَانِ وَالْمُقَوِّمِ وَنَحْوُ ذَلِكَ فَهَؤُلَاءِ لَيْسَ لَهُمْ أَنْ يُنْشِئُوا حُكْمًا وَلَا أَنْ يُنَفِّذُوا شَيْئًا وَأَمَّا الْوِلَايَاتُ الَّتِي يَنْدَرِجُ الْقَضَاءُ فِي ضِمْنِهَا فَهِيَ أَنْوَاعٌ:
النَّوْعُ الْأَوَّلُ الْإِمَامَةُ الْكُبْرَى وَأَهْلِيَّةُ الْقَضَاءِ جُزْءٌ مِنْ أَجْزَائِهَا وَكَذَلِكَ أَهْلِيَّةُ السِّيَاسَةِ الْعَامَّةِ، فَهِيَ صَرِيحَةٌ فِي تَنَاوُلِ ذَلِكَ.
النَّوْعُ الثَّانِي الْوِزَارَةُ: قَالَ ابْنُ بَشِيرٍ يَجُوزُ التَّفْوِيضُ فِي جَمِيعِ الْأُمُورِ لِلْوَزِيرِ، وَيَخْتَصُّ الْإِمَامُ عَنْهُ بِثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ لَا يَعْقِدُ الْوَزِيرُ وِلَايَةَ الْعَهْدِ وَيَعْقِدُهَا الْإِمَامُ لِمَنْ يُرِيدُ فَيَكُونُ إمَامًا لِلْمُسْلِمِينَ بَعْدَهُ كَفِعْلِ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَلَا يُسْتَعْفَى مِنْ الْوِلَايَةِ، وَلِلْإِمَامِ الِاسْتِعْفَاءُ مِنْ الْإِمَامَةِ وَلَا يُعْزَلُ مَنْ قَلَّدَهُ الْإِمَامُ، وَيُسَمَّى هَذَا الْوَزِيرُ وَزِيرُ تَفْوِيضٍ، وَهَذَا مَعَ وُجُودِ أَهْلِيَّةِ الْقَضَاءِ، وَإِلَّا فَهُوَ جَاهِلٌ لَا يَجُوزُ لَهُ الْقَضَاءُ، وَأَمَّا وَزِيرُ التَّنْفِيذِ وَوَزِيرُ الِاسْتِشَارَةِ فَلَيْسَ لَهُمَا أَهْلِيَّةُ الْحُكْمِ وَوَزِيرُ التَّنْفِيذِ هُوَ الَّذِي إذَا حَكَمَ الْإِمَامُ بِشَيْءٍ نَفَّذَهُ.
النَّوْعُ الثَّالِثُ: الْإِمَارَةُ وَهِيَ عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ:
الْقِسْمُ الْأَوَّلُ: كَالْمُلُوكِ مَعَ الْخُلَفَاءِ فِي الْإِمَارَةِ عَلَى بَعْضِ الْأَقَالِيمِ، فَهَذِهِ صَرِيحَةٌ فِي إفَادَةِ أَهْلِيَّةِ الْقَضَاءِ. إذَا صَادَفَتْ الْوِلَايَةُ أَهْلَهَا، وَمَحَلَّهَا مِنْ الْعَالِمِ، وَتَشْمَلُ أَهْلِيَّةَ السِّيَاسَةِ وَتَدْبِيرَ الْجُيُوشِ، وَقَسْمَ الْغَنَائِمِ وَتَفْرِيقَ أَمْوَالِ بَيْتِ الْمَالِ.
الْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْأَمِيرُ مُؤَمَّرًا لَكِنَّهُ لَمْ تُفَوَّضْ إلَيْهِ الْحُكُومَةُ مَعَ الْإِمَارَةِ، فَلَا يَجُوزُ لِهَذَا أَنْ يَحْكُمَ، وَلَا أَنْ يُقَدِّمَ حُكَّامًا وَحُكْمُهُ وَحُكْمُهُمْ مَرْدُودٌ حَتَّى تُفَوَّضَ إلَيْهِ الْحُكُومَةُ مَعَ الْإِمْرَةِ، وَإِنْ فُوِّضَتْ إلَيْهِ الْحُكُومَةُ مَضَى حُكْمُهُ وَحُكْمُ مُقَدَّمِيهِ، قَالَهُ مُطَرِّفٌ فِي مُخْتَصَرِ الْوَاضِحَةِ.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي زَمَنِينَ فِي هَذَا الْأَصْلِ تَنَازُعٌ فَقَدْ رَوَى ابْنُ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ إجَازَةَ قَضَاءِ وُلَاةِ الْمِيَاهِ إلَّا فِي جَوْرٍ بَيِّنٍ وَلَوْ لَمْ يَجُزْ حُكْمُهُمْ حَتَّى يُفَوَّضَ إلَيْهِمْ الْحُكْمُ مَعَ الْإِمْرَةِ لَسَأَلَ مَالِكٌ عَنْهُمْ، هَلْ فُوِّضَ إلَيْهِمْ الْحُكْمُ أَمْ لَا؟ وَلَمْ يُجِبْ بِجَوَازِ حُكْمِهِمْ قَبْلَ السُّؤَالِ عَنْهُمْ وَاحْتَجَّ ابْنُ الْقَاسِمِ أَيْضًا لِجَوَازِ ذَلِكَ بِقَوْلِ مَالِكٍ فِي جَوَازِ حُكْمِ الْمُحَكَّمِ قَالَ ابْنُ أَبِي زَمَنِينَ: وَلِبَعْضِ مَشَايِخِنَا فِيمَا سَجَّلَ بِهِ بَعْضُ الْقُوَّادِ أَنَّهُ جَائِزٌ، وَرَدَّ ذَلِكَ بَعْضُهُمْ حَتَّى يُجْعَلَ إلَيْهِ مَعَ الْقِيَادَةِ وَالْجِبِلِّيَّةِ الْقَضَاءُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ ثَمَّ مَعَهُ قَاضٍ فِي الْمَوْضِعِ جَازَ حُكْمُهُ لِمَا لِلنَّاسِ فِي ذَلِكَ مِنْ الرِّفْقِ وَالِانْتِصَافِ إذَا حَكَمَ بَعْدَ اجْتِهَادِهِ وَمَشُورَةِ أَهْلِ الْعِلْمِ، قَالَهُ ابْنُ هِشَامٍ فِي (مُفِيدِ الْحُكَّامِ).
الْقِسْمُ الثَّالِثُ: الْإِمَارَةَ الْخَاصَّةُ عَلَى تَدْبِيرِ الْجُيُوشِ وَسِيَاسَةِ الرَّعِيَّةِ دُونَ تَوْلِيَةِ الْقَضَاءِ، فَهَذِهِ الْوِلَايَةُ مُقْتَضَى مَذْهَبِ مَالِكٍ أَنَّ الْقَضَاءَ مُنْدَرِجٌ فِيهَا لِقَوْلِ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ لَا يُنْقَضُ مَا حَكَمَ بِهِ وُلَاةُ الْمِيَاهِ.
قَالَ الْقَاضِي عِيَاضُ: هُمْ الْوُلَاةُ الَّذِينَ فُوِّضَ إلَيْهِمْ أَمْرُ الْمِيَاهِ وَهُمْ مُقِيمُونَ عِنْدَهَا، وَلَا شَكَّ أَنَّ أُمَرَاءَ الْجَيْشِ أَعْظَمُ مِنْهُمْ فَتَنْفِيذُ حُكْمِهِمْ مِنْ بَابِ أَوْلَى وَفِيهِ خِلَافٌ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ.
الْقِسْمُ الرَّابِعُ: وِلَايَةُ النَّظَرِ فِي الْمَظَالِمِ وَلَهُ مِنْ النَّظَرِ مَا لِلْقُضَاةِ وَهُوَ أَوْسَعُ مِنْهُمْ مَجَالًا، يُرِيدُ بِشَرْطِ الْعِلْمِ، قَالَهُ الْقَرَافِيُّ فِي كِتَابِ (الْإِحْكَامِ فِي الْفَرْقِ بَيْنَ الْفَتَاوَى وَالْأَحْكَامِ) وَبَعْضُ ذَلِكَ مَنْقُولٌ مِنْ مُفِيدِ الْحُكَّامِ.

.الْبَابُ الرَّابِعُ فِي الْأَلْفَاظِ الَّتِي تَنْعَقِدُ بِهَا الْوِلَايَاتُ:

وَمَا يُشْتَرَطُ فِي تَمَامِ الْوِلَايَةِ وَمَا تَفْسُدُ الْوِلَايَةُ بِاشْتِرَاطِهِ قَالَ الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ إبْرَاهِيمُ بْنُ يَحْيَى بْنُ الْأَمِينِ الْقُرْطُبِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى الْأَلْفَاظُ الَّتِي تَنْعَقِدُ بِهَا الْوِلَايَاتُ صَرِيحٌ وَكِنَايَةٌ، فَالصَّرِيحُ أَرْبَعَةُ أَلْفَاظٍ: وَهِيَ وَلَّيْتُك وَقَلَّدْتُك وَاسْتَخْلَفْتُك وَاسْتَنَبْتُكَ. وَالْكِنَايَةُ ثَمَانِيَةُ أَلْفَاظٍ: وَهِيَ اعْتَمَدْت عَلَيْك، وَعَوَّلْت عَلَيْك، وَرَدَدْت إلَيْك، وَجَعَلْت إلَيْك، وَفَوَّضْت إلَيْك، وَوَكَلْت إلَيْك، وَأَسْنَدْت إلَيْك، قَالَ غَيْرُهُ: وَعَهِدْت إلَيْك، وَتَحْتَاجُ الْكِنَايَةُ إلَى أَنْ يَقْتَرِنَ بِهَا مَا يَنْفِي عَنْهَا الِاحْتِمَالَ مِثْلُ اُحْكُمْ فِيمَا اعْتَمَدْتُ عَلَيْك فِيهِ وَشِبْهُ ذَلِكَ.

.فَصْلٌ الْقَضَاءُ يَنْعَقِدُ بِأَحَدِ وَجْهَيْنِ:

قَالَ الْمَازِرِيُّ فِي شَرْحِ التَّلْقِينِ الْقَضَاءُ يَنْعَقِدُ بِأَحَدِ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا عَقْدُ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ أَوْ أَحَدِ أُمَرَائِهِ الَّذِينَ جَعَلَ لَهُمْ الْعَقْدَ فِي مِثْلِ هَذَا، وَالثَّانِي عَقْدُ ذَوِي الرَّأْيِ وَأَهْلِ الْعِلْمِ وَالْمَعْرِفَةِ وَالْعَدَالَةِ لِرَجُلٍ مِنْهُمْ كَمُلَتْ فِيهِ شُرُوطُ الْقَضَاءِ وَهَذَا حَيْثُ لَا يُمْكِنُهُمْ مُطَالَعَةُ الْإِمَامِ فِي ذَلِكَ وَلَا أَنْ يَسْتَدْعُوا مِنْهُ وِلَايَتَهُ، وَيَكُونُ عَقْدُهُمْ لَهُ نِيَابَةً عَنْ عَقْدِ الْإِمَامِ الْأَعْظَمِ أَوْ نِيَابَةً عَمَّنْ جَعَلَ الْإِمَامُ لَهُ ذَلِكَ لِلضَّرُورَةِ الدَّاعِيَةِ إلَى ذَلِكَ.

.فَصْلٌ وَلَّى الْإِمَامُ رَجُلًا لِلْقَضَاءِ:

قَالَ الْمَازِرِيُّ إذَا وَلَّى الْإِمَامُ رَجُلًا لِلْقَضَاءِ فَإِنَّهُ يَفْتَقِرُ فِي صِحَّةِ وِلَايَتِهِ وَنُفُوذِ أَحْكَامِهِ إلَى ثُبُوتِهَا، وَثُبُوتُهَا يَقَعُ بِأَحَدِ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا الشَّهَادَةُ عَلَى الْإِمَامِ مُشَافَهَةً بِذَلِكَ مِنْهُ لَهُمْ أَنَّهُ وَلَّاهُ عَلَى كَذَا، فَلَا خِلَافَ فِي ثُبُوتِ وِلَايَتِهِ.
الثَّانِي الِاسْتِفَاضَةُ وَانْتِشَارُ الْخَبَرِ بِأَنَّهُ قَدْ وَلَّاهُ، وَهَذَا فِيهِ خِلَافٌ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ، قَالَ: وَالْأَصَحُّ قَبُولُ شَهَادَةِ الِاسْتِفَاضَةِ فِي تَوْلِيَةِ الْقَضَاءِ إذَا انْتَشَرَ ذَلِكَ عَنْ الْإِمَامِ، وَتَوَاتَرَ تَوَاتُرًا يُعْلَمُ مِنْهُ وَمِنْ قَرَائِنِ الْأَحْوَالِ عِلْمًا ضَرُورِيًّا أَنَّ الْإِمَامَ قَدْ وَلَّاهُ، وَمَنَعَ بَعْضُهُمْ ثُبُوتَ تَوْلِيَتِهِ بِكِتَابٍ يُقْرَأُ عَنْ الْإِمَامِ إلَّا أَنْ يَكُونَ الشُّهُودُ يَنْظُرُونَ فِيمَا يَقْرَؤُهُ الْقَارِئُ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ يَقْرَأُ مَا لَيْسَ مَكْتُوبًا، وَمَذْهَبُ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ هُوَ الْقَوْلُ الْأَوَّلُ، وَذَلِكَ مَذْكُورٌ فِيمَا تَجُوزُ فِيهِ الشَّهَادَةُ بِالِاسْتِفَاضَةِ وَسَيَأْتِي.

.فَصْلٌ قَبُولِ وِلَايَةِ الْقَضَاءِ مِنْ الْأَمِيرِ غَيْرِ الْعَدْلِ:

وَاخْتُلِفَ فِي قَبُولِ وِلَايَةِ الْقَضَاءِ مِنْ الْأَمِيرِ غَيْرِ الْعَدْلِ فَفِي رِيَاضِ النُّفُوسِ فِي طَبَقَاتِ عُلَمَاءِ أَفْرِيقِيَّةَ لِأَبِي مُحَمَّدٍ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدٍ الْمَالِكِيِّ قَالَ: قَالَ سَحْنُونٌ: اخْتَلَفَ أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ فَرُّوخَ وَابْنُ غَانِمٍ قَاضِي أَفْرِيقِيَّةَ وَهُمَا مِنْ رُوَاةِ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فَقَالَ ابْنُ فَرُّوخَ: لَا يَنْبَغِي لِلْقَاضِي إذَا وَلَّاهُ أَمِيرٌ غَيْرُ عَدْلٍ أَنْ يَلِيَ الْقَضَاءَ.
وَقَالَ ابْنُ غَانِمٍ: يَجُوزُ أَنْ يَلِيَ وَإِنْ كَانَ الْأَمِيرُ غَيْرَ عَدْلٍ، فَكَتَبَ بِهَا مَالِكٌ فَقَالَ مَالِكٌ: أَصَابَ الْفَارِسِيُّ، يَعْنِي ابْنَ فَرُّوخَ، وَأَخْطَأَ الَّذِي يَزْعُمُ أَنَّهُ عَرَبِيٌّ يَعْنِي ابْنَ غَانِمٍ.

.فَصْلٌ الْقَاضِي الْمُوَلَّى غَائِبًا وَقْتَ الْوِلَايَةِ:

إذَا كَانَ الْقَاضِي الْمُوَلَّى غَائِبًا وَقْتَ الْوِلَايَةِ فَإِنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَبُولُهُ عَلَى التَّرَاخِي عِنْدَ بُلُوغِ التَّقْلِيدِ إلَيْهِ، وَعَلَامَةُ الْقَبُولِ شُرُوعُهُ فِي الْعَمَلِ وَبِهَذَا جَرَى عَمَلُ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ وَمَنْ بَعْدَهُمْ إلَى وَقْتِنَا هَذَا.

.فَصْلٌ وَلَا تَتِمُّ الْوِلَايَةُ إلَّا بِثَلَاثَةِ شُرُوطٍ:

قَالَ ابْنُ الْأَمِينِ وَلَا تَتِمُّ الْوِلَايَةُ إلَّا بِثَلَاثَةِ شُرُوطٍ: الْأَوَّلُ مَعْرِفَةُ الْمُوَلِّي لِلْمُوَلَّى أَنَّهُ عَلَى الصِّفَةِ الَّتِي يَجُوزُ أَنْ يُوَلَّى عَلَيْهَا فَإِنْ جَهِلَ ذَلِكَ لَمْ يَصِحَّ تَقْلِيدُهُ فَإِنْ عَرَفَ ذَلِكَ بَعْدَ التَّقْلِيدِ اسْتَأْنَفَ الْوِلَايَةَ.
الثَّانِي: ذِكْرُ مَا تَضَمَّنَهُ التَّقْلِيدُ مِنْ رِوَايَةِ الْقَضَاءِ وَالْإِمَارَةِ وَالْجِبَايَةِ لِيَعْلَمَ عَلَى أَيِّ نَظَرٍ عُقِدَتْ لَهُ، فَإِنْ جَهِلَ ذَلِكَ فَسَدَتْ. الثَّالِثُ: ذِكْرُ الْبَلَدِ الَّذِي عُقِدَتْ عَلَيْهِ الْوِلَايَةُ لِيَتَمَيَّزَ عَنْ غَيْرِهِ.

.فَصْلٌ الْقَاضِي يُوَلِّيهِ الْإِمَامُ:

قَالَ الشَّيْخُ أَبُو بَكْرٍ الطُّرْطُوشِيُّ فِي مُقَدَّمَةِ كِتَابِهِ الْمُسَمَّى (تَعْلِيقَةُ الْخِلَافِ) فِي الْقَاضِي يُوَلِّيهِ الْإِمَامُ الْقَضَاءَ وَيَشْتَرِطُ عَلَيْهِ أَنْ لَا يَحْكُمَ إلَّا بِمَذْهَبِ إمَامٍ مُعَيَّنٍ مِثْلُ أَنْ يَكُونَ مَالِكِيًّا أَوْ شَافِعِيًّا أَوْ حَنَفِيًّا أَوْ حَنْبَلِيًّا فَيَقُولُ لَهُ: قَدْ وَلَّيْتُك الْقَضَاءَ عَلَى أَنْ لَا تَحْكُمَ إلَّا بِمَذْهَبِ مَالِكٍ مَثَلًا، وَسَوَاءٌ وَافَقَ مَذْهَبَ السُّلْطَانِ الَّذِي وَلَّاهُ أَوْ لَا فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنْ يَشْتَرِطَ ذَلِكَ عُمُومًا فِي جَمِيعِ الْأَحْكَامِ فَالْعَقْدُ بَاطِلٌ وَالشَّرْطُ بَاطِلٌ، سَوَاءٌ قَارَنَ الشَّرْطُ عَقْدَ الْوِلَايَةِ أَوْ تَقَدَّمَهُ، ثُمَّ وَقَعَ الْعَقْدُ.
وَقَالَ أَهْلُ الْعِرَاقِ تَصِحُّ الْوِلَايَةُ وَيَبْطُلُ الشَّرْطُ، دَلِيلُنَا أَنَّ هَذَا شَرْطٌ يُنَافِي مُقْتَضَى الْعَقْدِ فَإِنَّ الْعَقْدَ يَقْتَضِي أَنْ يَحْكُمَ بِالْحَقِّ عِنْدَهُ، وَهَذَا الشَّرْطُ قَدْ حَجَرَهُ عَلَيْهِ، وَاقْتَضَى أَنْ يَحْكُمَ بِمَذْهَبِ إمَامِهِ وَإِنْ بَانَ لَهُ الْحَقُّ فِي سِوَاهُ، وَالضَّرْبُ الثَّانِي أَنْ يَكُونَ الشَّرْطُ خَاصًّا فِي حُكْمٍ بِعَيْنِهِ وَلَا يَخْلُو الشَّرْطُ أَنْ يَكُونَ أَمْرًا أَوْ نَهْيًا، فَإِنْ كَانَ أَمْرًا مِثْلَ أَنْ يَقُولَ: وَلَّيْتُك عَلَى أَنْ تَقِيدَ مِنْ الْحُرِّ بِالْعَبْدِ وَمِنْ الْمُسْلِمِ بِالْكَافِرِ قَالَ ابْنُ أَبِي جَمْرَةَ أَوْ يَشْتَرِطَ عَلَيْهِ أَنْ يُقْتَصَّ فِي الْقَتْلِ بِغَيْرِ الْحَدِيدِ وَمَا يُشَاكِلُ هَذَا فَإِنَّهُ يَفْسُدُ الْعَقْدُ وَالشَّرْطُ، فَإِنْ كَانَ نَهْيًا فَهُوَ عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنْ يَنْهَاهُ عَنْ الْحُكْمِ فِي قَتْلِ الْمُسْلِمِ بِالْكَافِرِ وَالْحُرِّ بِالْعَبْدِ، وَلَا يَقْضِي فِيهِ بِوُجُوبِ قَوَدٍ وَلَا بِإِسْقَاطِهِ فَهُوَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّهُ اقْتَصَرَ بِوِلَايَتِهِ عَلَى مَا عَدَاهُ، وَأَخْرَجَهُ مِنْ نَظَرِهِ.
الثَّانِي: أَنْ لَا يَنْهَاهُ عَنْ الْحُكْمِ فِيهِ وَيَنْهَاهُ عَنْ الْقَضَاءِ فِي الْقِصَاصِ فَيَصِحُّ الْعَقْدُ وَيَخْرُجُ الْمُسْتَثْنَى عَنْ وِلَايَتِهِ فَلَا يَحْكُمُ فِيهِ بِشَيْءٍ، وَمِنْ الْفُقَهَاءِ مِنْ يَقُولُ: تَثْبُتُ وِلَايَتُهُ عُمُومًا وَيَحْكُمُ فِيهِ بِمَا نَهَاهُ عَنْهُ بِمُقْتَضَى اجْتِهَادِهِ، كُلُّ هَذَا إذَا كَانَ شَرْطًا فِي الْوِلَايَةِ، فَأَمَّا لَوْ أَخْرَجَهُ مَخْرَجَ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ فَقَالَ: قَدْ وَلَّيْتُك الْقَضَاءَ فَاحْكُمْ بِمَذْهَبِ مَالِكٍ وَلَا تَحْكُمْ بِمَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ فَالْوِلَايَةُ صَحِيحَةٌ، وَالشَّرْطُ بَاطِلٌ، وَسَوَاءٌ تَضَمَّنَ أَمْرًا أَوْ نَهْيًا، وَيَجِبُ أَنْ يَحْكُمَ بِمَا أَدَّاهُ إلَيْهِ اجْتِهَادُهُ سَوَاءٌ وَافَقَ شَرْطَهُ أَوْ خَالَفَهُ، فَأَمَّا لَوْ ذَكَّرَهُ بِالْأَمْرِ فَقَالَ: قَدْ وَلَّيْتُك لِتَحْكُمَ بِمَذْهَبِ مَالِكٍ مَثَلًا.
فَحَكَى الْمَاوَرْدِيُّ مِنْ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّ الْوِلَايَةَ صَحِيحَةٌ وَالشَّرْطَ بَاطِلٌ.
وَاعْلَمْ أَنَّ جَمِيعَ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ التَّقْلِيدَاتِ لَا يَجُوزُ لِلْإِمَامِ اشْتِرَاطُهَا عَلَيْهِ وَتَكُونُ قَادِحَةً فِي الْوِلَايَةِ؛ لِأَنَّهُ اشْتَرَطَ مَا لَا يَجُوزُ.
قَالَ ابْنُ أَبِي جَمْرَةَ فِي (إقْلِيدِ التَّقْلِيدِ) وَمَنْ كَانَ لَا يَقْضِي إلَّا بِمَا أَمَرَهُ بِهِ مَنْ وَلَّاهُ فَلَيْسَ بِقَاضٍ عَلَى الْحَقِيقَةِ، وَإِنَّمَا هُوَ بِصِفَةِ خَادِمِ رِسَالَةٍ وَلَا يَحِلُّ لَهُ الْقَضَاءُ فِي غَيْرِ مَا أَمَرَهُ بِهِ إلَّا بَعْدَ أَنْ يَسْتَطْلِعَ مَا عِنْدَ الَّذِي وَلَّاهُ فِي ذَلِكَ. تَنْبِيهٌ كَلَامُ الشَّيْخِ أَبِي بَكْرٍ فِي الْقَاضِي الْمُجْتَهِدِ وَلَمْ يَتَعَرَّضْ لِلْقَاضِي الْمُقَلِّدِ كَمَا هُوَ فِي زَمَانِنَا، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى ذَلِكَ فِي الرُّكْنِ الثَّانِي مِنْ أَرْكَانِ الْقَضَاءِ.
مَسْأَلَةٌ:
عَقْدُ الْوِلَايَةِ لِحَاكِمَيْنِ مَعًا عَلَى أَنْ يَجْتَمِعَا وَيَتَّفِقَا عَلَى الْحُكْمِ فِي كُلِّ قَضِيَّةٍ: وَفِي الْجَوَاهِرِ: وَلَا يَصِحُّ عَقْدُ الْوِلَايَةِ لِحَاكِمَيْنِ مَعًا عَلَى أَنْ يَجْتَمِعَا وَيَتَّفِقَا عَلَى الْحُكْمِ فِي كُلِّ قَضِيَّةٍ، فَإِنْ شَرَطَ ذَلِكَ لَمْ تَصِحَّ وِلَايَتُهُ.

.الْبَابُ الْخَامِسُ فِي أَرْكَانِ الْقَضَاءِ:

وَهِيَ سِتَّةٌ:

.الرُّكْنُ الْأَوَّلُ فِي شُرُوطِ الْقَضَاءِ وَآدَابِ الْقَاضِي:

وَاسْتِخْلَافِهِ وَذِكْرِ التَّحْكِيمِ وَهِيَ سِتَّةٌ الْقَاضِي وَالْمَقْضِيُّ بِهِ وَالْمَقْضِيُّ لَهُ وَالْمَقْضِيُّ فِيهِ وَالْمَقْضِيُّ عَلَيْهِ وَكَيْفِيَّةُ الْقَضَاءِ.
الرُّكْنُ الْأَوَّلُ: فِي شُرُوطِ الْقَضَاءِ وَآدَابِ الْقَاضِي وَاسْتِخْلَافِهِ وَذِكْرِ التَّحْكِيمِ وَيَشْتَمِلُ عَلَى ثَمَانِيَةِ فُصُولٍ.

.الْفَصْلُ الْأَوَّلُ: فِي الْأَوْصَافِ الْمُشْتَرَطَةِ فِي صِحَّةِ وِلَايَةِ الْقَاضِي:

الْفَصْلُ الْأَوَّلُ: فِي الْأَوْصَافِ الْمُشْتَرَطَةِ فِي صِحَّةِ وِلَايَةِ الْقَاضِي وَمَا هُوَ غَيْرُ شَرْطٍ فِي الصِّحَّةِ، لَكِنَّ عَدَمَهَا يُوجِبُ الْعَزْلَ، وَمَا هُوَ شُرُوطُ الْكَمَالِ، وَيُسْتَحَبُّ الْعَزْلُ بِعَدَمِهَا، وَإِذَا أَرَادَ الْإِمَامُ تَوْلِيَةَ أَحَدٍ اجْتَهَدَ فِي ذَلِكَ لِنَفْسِهِ وَلِلْمُسْلِمِينَ، وَلَا يُحَابِي وَلَا يَقْصِدُ بِالتَّوْلِيَةِ إلَّا وَجْهَ اللَّهِ تَعَالَى، فَقَدْ رُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: مَا مِنْ أَمِيرٍ أَمَّرَ أَمِيرًا أَوْ اسْتَقْضَى قَاضِيًا مُحَابَاةً إلَّا كَانَ عَلَيْهِ نِصْفُ مَا اكْتَسَبَ مِنْ الْإِثْمِ، وَإِنْ أَمَّرَهُ أَوْ اسْتَقْضَاهُ نَصِيحَةً لِلْمُسْلِمِينَ كَانَ شَرِيكَهُ فِيمَا عَمِلَ.
مِنْ طَاعَةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَلْيَخْتَبِرْ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ الدِّينِ وَالْفَضْلِ وَالْوَرَعِ وَالْعِلْمِ كَمَا فَعَلَ أَبُو بَكْرٍ فِي اسْتِخْلَافِهِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا.
قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ رَحِمَهُ اللَّهُ (التَّنْبِيهَاتُ): وَشُرُوطُ الْقَضَاءِ الَّتِي لَا يَتِمُّ الْقَضَاءُ إلَّا بِهَا وَلَا تَنْعَقِدُ الْوِلَايَةُ وَلَا يُسْتَدَامُ عَقْدُهَا إلَّا مَعَهَا عَشْرَةٌ: الْإِسْلَامُ وَالْعَقْلُ وَالذُّكُورِيَّةُ وَالْحُرِّيَّةُ وَالْبُلُوغُ وَالْعَدَالَةُ وَالْعِلْمُ وَكَوْنُهُ وَاحِدًا وَسَلَامَةُ حَاسَّةِ السَّمْعِ وَالْبَصَرِ مِنْ الْعَمَى وَالصَّمَمِ وَسَلَامَةِ اللِّسَانِ مِنْ الْبَكَمِ، فَالثَّمَانِيَةُ الْأُوَلُ هِيَ الْمُشْتَرَطَةُ فِي صِحَّةِ الْوِلَايَةِ وَالثَّلَاثَةُ الْأُخَرُ لَيْسَتْ بِشَرْطٍ فِي الصِّحَّةِ، لَكِنَّ عَدَمَهَا يُوجِبُ الْعَزْلَ، فَلَا تَصِحُّ مِنْ الْكَافِرِ اتِّفَاقًا، وَلَا الْمَجْنُونِ، قَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ: وَلَا يُكْتَفَى بِالْعَقْلِ الْمُشْتَرَطِ فِي التَّكْلِيفِ، بَلْ لابد أَنْ يَكُونَ صَحِيحَ التَّمْيِيزِ جَيِّدَ الْفِطْنَةِ بَعِيدًا مِنْ السَّهْوِ وَالْغَلَطِ، وَلَا يَصِحُّ مِنْ الْمَرْأَةِ لِنَقْصِهَا وَلِأَنَّ كَلَامَهَا رُبَّمَا كَانَ فِتْنَةً، وَبَعْضُ النِّسَاءِ تَكُونُ صُورَتُهَا فِتْنَةً.
وَأَمَّا الْحُرِّيَّةُ فَلِأَنَّ وِلَايَةَ الْعَبْدِ لَا تَصِحُّ وَكَذَا مَنْ فِيهِ بَقِيَّةُ رِقٍّ، قَالَ سَحْنُونٌ وَلَا الْمُعْتَقِ خَوْفًا مِنْ أَنْ تُسْتَحَقَّ رَقَبَتُهُ فَتَذْهَبَ أَحْكَامُ النَّاسِ بَاطِلًا، وَأَمَّا الْبُلُوغُ، فَلِأَنَّ وِلَايَةَ الصَّبِيِّ لَا تَصِحُّ لِنُقْصَانِ تَمْيِيزِهِ، وَأَمَّا الْعَدَالَةُ فَلِأَنَّهُ لَا تَصِحُّ وِلَايَةُ غَيْرِ الْعَدْلِ. قَالَ سَحْنُونٌ: مَنْ لَا تَجُوزُ شَهَادَتُهُ لَا تَصِحُّ وِلَايَتُهُ.
وَقَالَ أَيْضًا تَصِحُّ وَيَجِبُ عَزْلُهُ، قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ وَفِي الْفَاسِقِ خِلَافٌ بَيْنَ أَصْحَابِنَا، هَلْ يُرَدُّ مَا حَكَمَ فِيهِ وَإِنْ وَافَقَ الْحَقَّ، وَهُوَ الصَّحِيحُ، أَوْ يَمْضِي إذَا وَافَقَ الْحَقَّ، وَوَجْهُ الْحُكْمِ.
وَأَمَّا الْعِلْمُ، فَلِأَنَّهُ لَا تَصِحُّ وِلَايَةُ الْجَاهِلِ، قَالَ ابْنُ شَاسٍ: وَلَا الْمُقَلِّدِ إلَّا عِنْدَ الضَّرُورَةِ، قَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ: فَيَقْضِي بِفَتْوَى مُقَلِّدِهِ بِنَصِّ النَّازِلَةِ، فَإِنْ قَاسَ عَلَى قَوْلِهِ أَوْ قَالَ يَجِيءُ مِنْ هَذَا كَذَا فَهُوَ مُتَعَدٍّ.
وَقَالَ الْقَرَافِيُّ: الْحَاكِمُ إنْ كَانَ مُجْتَهِدًا فَلَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَحْكُمَ وَيُفْتِيَ إلَّا بِالرَّاجِحِ عِنْدَهُ، وَإِنْ كَانَ مُقَلِّدًا جَازَ لَهُ أَنْ يَحْكُمَ بِالْمَشْهُورِ مِنْ مَذْهَبِهِ وَأَنْ يُفْتِيَ بِهِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ رَاجِحًا عِنْدَهُ مُقَلِّدًا فِي رُجْحَانِ الْقَوْلِ الْمَحْكُومِ بِهِ- إمَامَهُ الَّذِي يُقَلِّدُهُ فِي الْفُتْيَا وَأَمَّا اتِّبَاعُ الْهَوَى فِي الْحُكْمِ وَالْفُتْيَا فَحَرَامٌ إجْمَاعًا. قَالَ ابْنُ شَاسٍ: وَلَا تَصِحُّ تَوْلِيَةُ مُقَلِّدٍ فِي مَوْضِعٍ يُوجَدُ فِيهِ عَالِمٌ، فَإِنْ تَقَلَّدَ فَهُوَ جَائِرٌ مُتَعَدٍّ؛ لِأَنَّهُ قَعَدَ فِي مَقْعَدِ غَيْرِهِ وَلَبِسَ خِلْعَةَ سِوَاهُ مِنْ غَيْرِ اسْتِحْقَاقٍ، قَالَ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ: وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُوَلَّى فِي زَمَانِنَا هَذَا مِنْ الْمُقَلِّدِينَ مَنْ لَيْسَ لَهُ قُدْرَةٌ عَلَى التَّرْجِيحِ بَيْنَ الْأَقْوَالِ، فَإِنَّ ذَلِكَ غَيْرُ مَعْدُومٍ وَإِنْ كَانَ قَلِيلًا وَأَمَّا رُتْبَةُ الِاجْتِهَادِ فَإِنَّهَا فِي الْمَغْرِبِ مَعْدُومَةً، قَالَ الْمَازِرِيُّ فِي اشْتِرَاطِ كَوْنِ الْقَاضِي نَاظِرًا: هَذِهِ الْمَسَائِلُ تَكَلَّمَ عَنْهَا الْعُلَمَاءُ الْمَاضُونَ لَمَّا كَانَ الْعِلْمُ فِي أَعْصَارِهِمْ كَثِيرًا مُنْتَشِرًا، وَشُغِلَ أَكْثَرُ أَهْلِهَا بِالِاسْتِنْبَاطِ وَالْمُنَاظَرَةِ عَلَى الْمَذَاهِبِ، وَأَمَّا عَصْرُنَا هَذَا فَإِنَّهُ لَا يُوجَدُ فِي الْإِقْلِيمِ الْوَاسِعِ الْعَظِيمِ مُفْتٍ نَظَّارٌ قَدْ حَصَّلَ آلَةَ الِاجْتِهَادِ، وَاسْتَبْحَرَ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ وَمَعْرِفَةِ اللِّسَانِ وَالسُّنَنِ، وَالِاطِّلَاعِ عَلَى مَا فِي الْقُرْآنِ مِنْ الْأَحْكَامِ، وَالِاقْتِدَارِ عَلَى تَأْوِيلِ مَا يَجِبُ تَأْوِيلُهُ، وَبِنَاءِ مَا تَعَارَضَ بَعْضُهُ عَلَى بَعْضٍ، وَتَرْجِيحِ ظَاهِرٍ عَلَى ظَاهِرٍ، وَمَعْرِفَةِ الْأَقْيِسَةِ وَحُدُودِهَا وَأَنْوَاعِهَا وَطُرُقِ اسْتِخْرَاجِهَا، وَتَرْجِيحِ الْعِلَلِ وَالْأَقْيِسَةِ بَعْضِهَا عَلَى بَعْضٍ، هَذَا الْأَمْرُ زَمَانُنَا عَارٍ مِنْهُ فِي أَقَالِيمِ الْمَغْرِبِ كُلِّهِ، فَضْلًا عَمَّنْ يَكُونُ قَاضِيًا عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ، فَالْمَنْعُ مِنْ وِلَايَةِ الْمُقَلِّدِ الْقَضَاءَ فِي هَذَا الزَّمَانِ تَعْطِيلٌ لِلْأَحْكَامِ، وَإِيقَاعٌ فِي الْهَرْجِ وَالْفِتَنِ وَالنِّزَاعِ، وَهَذَا لَا سَبِيلَ إلَيْهِ فِي الشَّرْعِ، وَلَكِنْ تَخْتَلِفُ أَحْوَالُ الْمُقَلِّدِينَ فَرُبَّمَا وَلَّى وُلَاةُ الْأَمْرِ عَامِّيًّا لِغِنَاهُ عَمَّا فِي أَيْدِي النَّاسِ، وَتَحَلِّيهِ بِاسْمِ الْعَدَالَةِ وَسَمْتِ الْوَقَارِ، وَلَكِنَّهُ لَيْسَ مَعَهُ مِنْ التَّخْصِيصِ وَمُجَالَسَةِ الْعُلَمَاءِ وَمُطَالَبَةِ مَا يُخْرِجُهُ عَنْ أَهْلِ الْغَبَاوَةِ وَالْجَهْلِ وَيُلْحِقُهُ بِطَبَقَةِ مَنْ يَفْهَمُ مَا تَقُولُ الْخُصُومُ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَهَذَا لَا يَنْبَغِي أَنْ يُوَلَّى قَضَاءً وَلَا يُوثَقَ بِهِ فِيهِ انْتَهَى.
وَكَانَتْ وَفَاةُ الْمَازِرِيِّ سَنَةَ سِتٍّ وَثَلَاثِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى.
وَحَكَى ابْنُ رَاشِدٍ عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّهُ أَجَازَ تَوْلِيَةَ الْجَاهِلِ وَرَأَى كَوْنَهُ عَالِمًا مُسْتَحَبًّا لَا شَرْطًا فِي الصِّحَّةِ وَلَا مُوجِبًا لِلْعَزْلِ، وَهُوَ قَوْلٌ شَاذٌّ بَعِيدٌ عَنْ الصَّوَابِ، وَالْقَاضِي أَحْوَجُ النَّاسِ إلَى الْعِلْمِ.
قَالَ ابْنُ رَاشِدٍ: وَلَا يُقَالُ: إنَّهُ يَسْتَشِيرُ أَهْلَ الْعِلْمِ وَيَحْكُمُ بِمَا يُجْمِعُونَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّا نَقُولُ: هُوَ مَأْمُورٌ بِأَنْ يَسْتَشِيرَ وَإِنْ كَانَ فَقِيهًا، فَإِذَا اخْتَلَفُوا عَلَيْهِ اجْتَهَدَ فِي اخْتِلَافِهِمْ وَتَوَخَّى أَحْسَنَ أَقَاوِيلِهِمْ، فَإِذَا كَانَ جَاهِلًا الْتَبَسَ الْأَمْرُ عَلَيْهِ وَلَمْ يَعْلَمْ بِمَاذَا يَأْخُذُ، وَرُبَّمَا وُلِّيَ الْجَاهِلُ بَلَدًا لَا فُقَهَاءَ فِيهِ فَيَحْكُمُ بِهَوَاهُ كَمَا هُوَ الْغَالِبُ عَلَى بِلَادِنَا وَزَمَانِنَا، فَقَدْ ذَهَبَ الْعِلْمُ وَكَثُرَ الْجَهْلُ وَقُدِّمَتْ الْجُهَّالُ وَاطَّرَحَتْ الْعُلَمَاءُ- فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إلَيْهِ رَاجِعُونَ- وَأَمَّا سَلَامَةُ السَّمْعِ وَالْبَصَرِ فَإِنَّ الْقَاضِيَ عِيَاضَ حَكَى فِيهِ الْإِجْمَاعَ مِنْ الْعُلَمَاءِ مَالِكٍ وَغَيْرِهِ، وَهُوَ الْمَعْرُوفُ إلَّا مَا حَكَاهُ الْمَاوَرْدِيُّ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ يَجُوزُ قَضَاءُ الْأَعْمَى وَذَلِكَ غَيْرُ مَعْرُوفٍ، وَلَا يَصِحُّ عَنْ مَالِكٍ، وَلِأَنَّهُ لَا يَتَأَتَّى قَضَاءٌ وَلَا ضَبْطٌ وَلَا مَيْزُ مُحِقٍّ مِنْ مُبْطِلٍ وَلَا تَعْيِينُ طَالِبٍ مِنْ مَطْلُوبٍ وَلَا شَاهِدٍ مِنْ مَشْهُودٍ عَلَيْهِ مِنْ الْأَعْمَى. وَفِي وَثَائِقِ ابْنِ الْقَاسِمِ الْجَزِيرِيِّ أَنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ شَرْطٌ فِي الصِّحَّةِ كَمَا قَالَهُ الْقَاضِي عِيَاضٌ.
وَقَالَ ابْنُ شَاسٍ فِي شُرُوطِ الْقَضَاءِ: الْقِسْمُ الثَّانِي مَا يَقْتَضِي عَدَمُهُ الْفَسْخَ وَإِنْ لَمْ يُشْتَرَطْ فِي الصِّحَّةِ وَذَلِكَ كَاشْتِرَاطِ كَوْنِهِ سَمِيعًا بَصِيرًا مُتَكَلِّمًا، فَعَدَمُ بَعْضِ هَذِهِ يَقْتَضِي أَنْ يُفْسَخَ الْعَقْدَ سَوَاءٌ تَقَدَّمَتْ أَضْدَادُهَا عَلَيْهِ أَوْ طَرَأَتْ بَعْدَهُ، وَيَنْفُذُ مَا مَضَى مِنْ أَحْكَامِهِ إلَى حِينِ الْعَزْلِ، وَإِنْ كَانَتْ مَوْجُودَةً حِينَ الْحُكْمِ، فَقَالَ ابْنُ رَاشِدٍ وِلَايَةُ مَنْ فَقَدَ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ مُنْعَقِدَةٌ لَكِنْ يَجِبُ عَزْلُهُ، وَسَوَاءٌ تَقَدَّمَتْ هَذِهِ الْأَوْصَافُ أَوْ طَرَأَتْ وَيَنْفُذُ مَا مَضَى مِنْ أَحْكَامِهِ. قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ: اشْتِرَاطُ السَّمْعِ وَالْكَلَامِ لَمْ يَخْتَلِفْ فِيهَا الْعُلَمَاءُ ابْتِدَاءً؛ لِأَنَّهُ يَتَعَذَّرُ عَلَيْهِمَا الْفَهْمُ غَالِبًا، وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ إذَا طَرَأَتْ هَاتَانِ الْآفَتَانِ يَعْنِي فَقْدَ السَّمْعِ وَالْكَلَامِ بَعْدَ الْعَقْدِ هَلْ يَبْطُلُ بِهِ الْعَقْدُ وَيُعْزَلُ أَمْ لَا؟ وَيَبْعُدُ تَأَتِّي الْقَضَاءِ مَعَ اجْتِمَاعِ هَاتَيْنِ الْآفَتَيْنِ، وَقَلَّمَا يُوجَدُ أَبْكَمُ إلَّا وَهُوَ أَصَمُّ، وَأَمَّا كَوْنُهُ وَاحِدًا فَلَا يَصِحُّ تَقْدِيمُ اثْنَيْنِ عَلَى أَنْ يَقْضِيَا مَعًا فِي قَضِيَّةٍ وَاحِدَةٍ لِاخْتِلَافِ الْأَغْرَاضِ وَتَعَذُّرِ الِاتِّفَاقِ وَبُطْلَانِ الْأَحْكَامِ لِذَلِكَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ هَذَا، قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ: وَبَعْضُ هَذِهِ الشُّرُوطِ إذَا عُدِمَتْ فِيمَنْ قُلِّدَ الْقَضَاءَ بِجَهْلٍ أَوْ غَرَضٍ فَاسِدٍ ثُمَّ صَدَرَ مِنْهُ حُكْمٌ فَإِنَّهُ لَا يَصِحُّ وَيُرَدُّ، وَهِيَ الشُّرُوطُ الْخَمْسَةُ الْأُوَلُ: أَعْنِي الْإِسْلَامَ وَالْبُلُوغَ وَالْعَقْلَ وَالذُّكُورِيَّةَ وَالْحُرِّيَّةَ. وَأَمَّا الْخَمْسَةُ الْأُخَرُ فَيَنْفُذُ مِنْ أَحْكَامِ مَنْ عُدِمَتْ فِيهِ مَا وَافَقَ الْحَقَّ إلَّا الْجَاهِلَ الَّذِي حَكَمَ بِرَأْيِهِ، وَفِي الْفَاسِقِ خِلَافٌ تَقَدَّمَ. وَشُرُوطُ الْكَمَالِ عَشْرَةٌ: خَمْسَةُ أَوْصَافٍ يَنْتَفِي عَنْهَا وَخَمْسَةٌ لَا يَنْفَكُّ مِنْهَا، فَالْأُولَى أَنْ يَكُونَ غَيْرَ مَحْدُودٍ وَغَيْرَ مَطْعُونٍ عَلَيْهِ فِي نَسَبِهِ بِوِلَادَةِ اللِّعَانِ أَوْ الزِّنَا فَإِنْ اسْتَقْضَى وَلَدُ الزِّنَا فَلَا يَحْكُمُ فِي الزِّنَا مِنْ الْمُقْنِعِ وَأَنْ يَكُونَ غَيْرَ فَقِيرٍ وَغَيْرَ أُمِّيٍّ، وَالْمَنْصُوصُ لِلْمُتَأَخِّرِينَ أَنَّهُ لَا نَصَّ فِي الْمَذْهَبِ إذَا كَانَ لَا يَكْتُبُ، وَقَالُوا الظَّاهِرُ أَنَّهُ مِنْ شُرُوطِ الْكَمَالِ وَفِي (الطُّرُرِ) لِأَبِي عُمَرَ بْنِ عَاتٍ فِي آخِرِ الْجُزْءِ الثَّالِثِ فِي الْكَلَامِ عَلَى شُرُوطِ الْقَضَاءِ: وَاخْتُلِفَ فِي الْأُمِّيِّ فَقِيلَ: إنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَتَوَلَّى الْقَضَاءَ، وَقِيلَ إنَّ ذَلِكَ جَائِزٌ وَلَا يَلْزَمُهُ قِرَاءَةُ الْعُقُودِ وَالْمَقَالَاتِ، وَلَهُ أَنْ يَسْتَنِيبَ فِي ذَلِكَ غَيْرَهُ، وَنَسَبَهُ إلَى ابْنِ رُشْدٍ فِي شَرْحِهِ لِجَامِعِ الْعُتْبِيَّةِ.
وَالشَّرْطُ الْخَامِسُ: أَنْ يَكُونَ غَيْرَ مُسْتَضْعَفٍ.
وَالْخَمْسَةُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يَكُونَ فَطِنًا نَزِهًا مَهِيبًا حَلِيمًا مُسْتَشِيرًا لِأَهْلِ الْعِلْمِ وَالرَّأْيِ. وَزَادَ بَعْضُهُمْ سَلِيمًا مِنْ بِطَانَةِ السُّوءِ لَا يُبَالِي فِي اللَّهِ لَوْمَةَ لَائِمٍ، وَرِعًا بَلَدِيًّا غَيْرَ زَائِدٍ فِي الدَّهَاءِ؛ لِأَنَّهُ إذَا وُصِفَ بِذَلِكَ كَانَ النَّاسُ مِنْهُ فِي حَذَرٍ وَهُوَ مِنْ نَفْسِهِ فِي تَعَبٍ، وَقَدْ أَطَالَ النَّاسُ فِي صِفَةِ مَنْ يَصْلُحُ لِلْقَضَاءِ.
قَالَ الشَّيْخُ أَبُو بَكْرٍ الطُّرْطُوشِيُّ: وَجُمْهُورُ الْمُقَلِّدِينَ فِي هَذَا الزَّمَانِ لَا تَجِدُ عِنْدَهُمْ مِنْ آثَارِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ كَبِيرَ شَيْءٍ وَإِنَّمَا مُصْحَفُهُمْ مَذْهَبُ إمَامِهِمْ. قَالَ بَعْضُهُمْ: وَمِنْ صِفَتِهِ أَنْ يَكُونَ غَيْرَ مُسْتَكْبِرٍ عَنْ مَشُورَةِ مَنْ مَعَهُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَرِعًا ذَكِيًّا فَطِنًا، مُتَأَنِّيًا غَيْرَ عُجُولٍ، نَزِهًا عَمَّا فِي أَيْدِي النَّاسِ، عَاقِلًا مَرْضِيَّ الْأَحْوَالِ مُوثَقًا بِاحْتِيَاطِهِ فِي نَظَرِهِ لِنَفْسِهِ فِي دِينِهِ وَفِيمَا حَمَلَ مِنْ أَمْرِ مَنْ وَلِيَ النَّظَرَ لَهُمْ، غَيْرَ مَخْدُوعٍ، وَقُورًا مَهِيبًا عَبُوسًا مِنْ غَيْرِ غَضَبٍ، مُتَوَاضِعًا مِنْ غَيْرِ ضَعْفٍ، حَاكِمًا بِشَهَادَةِ الْعُدُولِ، لَا يَطَّلِعُ النَّاسُ مِنْهُ عَلَى عَوْرَةٍ وَلَا يَخْشَى فِي اللَّهِ لَوْمَةَ لَائِمٍ، وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ صَاحِبَ حَدِيثٍ لَا فِقْهَ عِنْدَهُ، أَوْ صَاحِبَ فِقْهٍ لَا حَدِيثَ عِنْدَهُ عَالِمًا بِالْفِقْهِ وَالْآثَارِ وَيُوَجِّهُ الْفِقْهَ الَّذِي يُؤْخَذُ مِنْهُ الْحُكْمُ. قَالَ سَحْنُونٌ فِي كِتَابِ ابْنِهِ: وَإِذَا كَانَ الرَّجُلُ فَقِيرًا وَهُوَ أَعْلَمُ مَنْ فِي الْبِلَادِ وَأَرْضَاهُمْ اسْتَحَقَّ الْقَضَاءَ. وَلَكِنْ لَا يَنْبَغِي أَنْ يَجْلِسَ حَتَّى يَغْنَى وَيَقْضِيَ دَيْنَهُ.
وَقَالَ الْمَازِرِيُّ. وَهَذَا مِنْ الْمُصَالَحَةِ؛ لِأَنَّهُ رُبَّمَا دَعَاهُ فَقْرُهُ إلَى اسْتِمَالَةِ الْأَغْنِيَاءِ وَالضَّرَاعَةِ لَهُمْ وَتَمْيِيزِهِمْ عَلَى الْفُقَرَاءِ بِالْإِكْبَارِ إذَا تَخَاصَمُوا مَعَ الْفُقَرَاءِ، فَإِذًا كَانَ غَنِيًّا بَعْدَ ذَلِكَ.
وَقَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ مَنْ رَاقَبَ اللَّهَ تَعَالَى وَكَانَتْ عُقُوبَتُهُ أَخْوَفَ فِي نَفْسِهِ مِنْ النَّاسِ وَهَبَهُ اللَّهُ السَّلَامَةَ، قَالَ الْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ وَيَنْبَغِي لِلْقَاضِي أَنْ يَكُونَ مُتَيَقِّظًا كَثِيرَ التَّحَرُّزِ مِنْ الْحِيَلِ وَمَا يَتِمُّ مِثْلُهُ عَلَى الْمُغَفَّلِ وَالنَّاقِصِ وَالْمُتَهَاوِنِ، وَأَنْ يَكُونَ عَالِمًا بِالشُّرُوطِ عَارِفًا بِمَا لابد مِنْهُ مِنْ الْعَرَبِيَّةِ وَاخْتِلَافِ مَعَانِي الْعِبَارَاتِ، فَإِنَّ الْأَحْكَامَ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْعِبَارَاتِ فِي الدَّعَاوَى وَالْإِقْرَارِ وَالشَّهَادَاتِ وَغَيْرِ ذَلِكَ؛ وَلِأَنَّ كِتَابَ الشُّرُوطِ هُوَ الَّذِي يَتَضَمَّنُ حُقُوقَ الْمَحْكُومِ لَهُ وَعَلَيْهِ وَالشَّهَادَةُ تُسْمَعُ بِمَا فِيهِ، فَقَدْ يَكُونُ الْعَقْدُ وَاقِعًا عَلَى وَجْهٍ يَصِحُّ أَوْ لَا يَصِحُّ، فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ فِيهِ عِلْمٌ بِتَفْصِيلِ ذَلِكَ وَبِمُجْمَلِهِ، وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ غَيْرَ زَائِدٍ فِي الدَّهَاءِ وَذَلِكَ أَمْرٌ زَائِدٌ عَلَى الْفِطْنَةِ، وَإِنَّمَا نُهِيَ عَنْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يَحْمِلُهُ عَلَى الْحُكْمِ بِالْفِرَاسَةِ وَتَعْطِيلِ الطُّرُقِ الشَّرْعِيَّةِ مِنْ الْبَيِّنَةِ وَالْأَيْمَانِ، وَقَدْ فَسَدَ الزَّمَانُ وَأَهْلُهُ وَاسْتَحَالَ الْحَالُ، وَقَدْ قَالَ مَالِكٌ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ لَا أَرَى خِصَالَ الْقَضَاءِ الْيَوْمَ تَجْتَمِعُ فِي وَاحِدٍ فَإِنْ اجْتَمَعَ مِنْهَا خَصْلَتَانِ وَلِيَ الْقَضَاءَ وَهُمَا الْعِلْمُ وَالْوَرَعُ.
قَالَ ابْنُ حَبِيبٍ: فَإِنْ لَمْ يَكُنْ، فَالْعَمَلُ وَالْوَرَعُ، فَإِنَّهُ بِالْعَقْلِ يُسْأَلُ وَبِالْوَرَعِ يَعِفُّ، وَهَذَا قَوْلُ مَالِكٍ فِي أَهْلِ زَمَانِهِ، فَمَا ظَنُّك بِزَمَانِنَا، قَالَ الْمَازِرِيُّ: هَذَا تَسْهِيلٌ مِنْ ابْنِ حَبِيبٍ فِي وِلَايَةِ الْقَاضِي الْمُقَلِّدِ، وَلَكِنَّهُ لَمْ يُصَرِّحْ بِجَوَازِ هَذَا مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى قَاضٍ نَظَّارٍ، بَلْ أَشَارَ إلَى كَوْنِ الضَّرُورَةِ تَدْعُو إلَى وِلَايَةِ الْمُقَلِّدِ، وَهَكَذَا قَالَ أَصْبَغُ إذَا لَمْ يُوجَدْ إلَّا عَدْلٌ لَا عِلْمَ عِنْدَهُ وَعَالِمٌ لَا بَأْسَ بِحَالِهِ وَلَكِنَّ الَّذِي لَا عِلْمَ عِنْدَهُ أَعْدَلُ مِنْهُ، فَإِنَّ الْعَالِمَ هُوَ الَّذِي يُوَلَّى، فَإِنْ كَانَ لَيْسَ بَعْدَ فَيُوَلَّى الْعَدْلُ الَّذِي لَيْسَ بِعَالِمٍ وَيُؤْمَرُ أَنْ يَسْأَلَ وَيَسْتَشِيرَ، وَهَذَا الَّذِي وَقَعَ فِي الْمَذْهَبِ يَنْبَغِي أَنْ يُحْمَلَ عَلَى مَوَاقِعِ الضَّرُورَةِ وَمَسِيسِ الْحَاجَةِ.

.الْفَصْلُ الثَّانِي الْفَهْمُ فِي الْأَحْكَامِ اللَّازِمَةِ لِلْقَاضِي فِي سِيرَتِهِ:

الْفَهْمُ فِي الْأَحْكَامِ اللَّازِمَةِ لِلْقَاضِي فِي سِيرَتِهِ، وَالْآدَابُ الَّتِي لَا يَسَعُهُ تَرْكُهَا وَمَا جَرَى عَمَلُ الْحُكَّامِ بِالْأَخْذِ بِهِ وَنَبْدَأُ بِذِكْرِ رِسَالَةِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ الْمَعْرُوفَةِ بِرِسَالَةِ الْقَضَاءِ.
قَالَ ابْنُ سَهْلٍ وَهَذِهِ الرِّسَالَةُ أَصْلٌ فِيمَا تَضَمَّنَتْهُ مِنْ فُصُولِ الْقَضَاءِ وَمَعَانِي الْأَحْكَامِ وَعَلَيْهَا احْتَذَى قُضَاةُ الْإِسْلَامِ وَقَدْ ذَكَرَهَا كَثِيرٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ وَصَدَّرُوا بِهَا كُتُبَهُمْ، مِنْهُمْ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ حَبِيبٍ وَهِيَ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مِنْ عُمَرَ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ إلَى أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ، سَلَامٌ عَلَيْك، فَإِنِّي أَحْمَدُ اللَّهَ الَّذِي لَا إلَهَ إلَّا هُوَ، أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّ الْقَضَاءَ فَرِيضَةٌ مُحْكَمَةٌ وَسُنَّةٌ مُتَّبَعَةٌ، فَافْهَمْ إذَا أُدْلِيَ إلَيْك وَأَنْفِذْ إذَا تَبَيَّنَ لَك، فَإِنَّهُ لَا يَنْفَعُ تَكَلُّمٌ بِحَقٍّ لَا نَفَاذَ لَهُ وَسَوِّ بَيْنَ النَّاسِ فِي مَجْلِسِك وَوَجْهِك وَعَدْلِك، حَتَّى لَا يَيْأَسَ الضَّعِيفُ مِنْ عَدْلِك وَلَا يَطْمَعَ الشَّرِيفُ مِنْ حَيْفِك، الْبَيِّنَةُ عَلَى مَنْ ادَّعَى وَالْيَمِينُ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ، وَالصُّلْحُ جَائِزٌ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ إلَّا صُلْحًا أَحَلَّ حَرَامًا أَوْ حَرَّمَ حَلَالًا، لَا يَمْنَعُكَ قَضَاءٌ قَضَيْتَهُ بِالْأَمْسِ ثُمَّ رَاجَعْت فِيهِ نَفْسَك وَهُدِيتَ فِيهِ لِرُشْدِك أَنْ تُرَاجِعَ الْحَقَّ فَإِنَّ الْحَقَّ وَمُرَاجَعَتَهُ خَيْرٌ مِنْ الْبَاطِلِ وَالتَّمَادِي فِيهِ، الْفَهْمَ فِيمَا تَلَجْلَجَ فِي صَدْرِكَ مِمَّا لَمْ يَبْلُغْكَ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، اعْرَفْ الْأَمْثَالَ وَالْأَشْبَاهَ وَقِسْ الْأُمُورَ عِنْدَك وَاعْمِدْ إلَى أَحَبِّهَا إلَى اللَّهِ تَعَالَى وَأَشْبَهِهَا بِالْحَقِّ فِيمَا تَرَى، وَاجْعَلْ لِلْمُدَّعِي حَقًّا غَائِبًا أَوْ بَيِّنَةً أَجَلًا يَنْتَهِي إلَيْهِ فَإِنْ أَحْضَرَ بَيِّنَتَهُ أَخَذَ بِحَقِّهِ، وَإِلَّا وَجَّهْت عَلَيْهِ الْقَضَاءَ، فَإِنَّ ذَلِكَ أَجْلَى لِلْعَمَى، وَأَبْلَغُ فِي الْعُذْرِ، وَالْمُسْلِمُونَ عُدُولٌ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إلَّا مَجْلُودًا فِي حَدٍّ أَوْ مُجَرَّبًا عَلَيْهِ شَهَادَةُ الزُّورِ أَوْ ظِنِّينًا فِي وَلَاءٍ أَوْ نَسَبٍ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى تَوَلَّى مِنْكُمْ السَّرَائِرَ وَدَرَأَ عَنْكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَالْأَيْمَانِ، وَإِيَّاكَ وَالْقَلَقَ وَالضَّجَرَ وَالتَّأَذِّي بِالنَّاسِ وَالتَّنَكُّرَ لِلْخُصُومِ فِي مَوَاطِنِ الْحَقِّ الَّتِي يُوجِبُ اللَّهُ بِهَا الْأَجْرَ وَيُحْسِنُ بِهَا الذُّخْرَ، فَإِنَّهُ مَنْ يُصْلِحُ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ وَلَوْ عَلَى نَفْسِهِ يَكْفِهِ اللَّهُ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ النَّاسِ، وَمَنْ تَزَيَّنَ لِلنَّاسِ بِغَيْرِ مَا يَعْلَمُ اللَّهُ مِنْهُ شَانَهُ اللَّهُ، فَمَا ظَنُّك بِثَوَابِ اللَّهِ تَعَالَى فِي عَاجِلِ رِزْقِهِ وَخَزَائِنِ رَحْمَتِهِ وَالسَّلَامُ.
تَنْبِيهٌ:
قَالَ ابْنُ سَهْلٍ وَقَوْلُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي هَذِهِ الرِّسَالَةِ (الْمُؤْمِنُونَ عُدُولٌ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ) رَجَعَ عُمَرُ رَحِمَهُ اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ بِمَا رَوَاهُ مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّأِ، قَالَ رَبِيعَةُ قَدِمَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْعِرَاقِ عَلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقَالَ قَدْ جِئْتُك بِأَمْرٍ لَا رَأْسَ لَهُ وَلَا ذَنَبَ فَقَالَ عُمَرُ وَمَا هُوَ فَقَالَ: شَهَادَاتُ الزُّورِ ظَهَرَتْ بِأَرْضِنَا، فَقَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَا يُؤْسَرُ رَجُلٌ فِي الْإِسْلَامِ بِغَيْرِ الْعُدُولِ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى رُجُوعِهِ عَمَّا فِي هَذِهِ الرِّسَالَةِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ نَقَلَهُ ابْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَذُكِرَ عَنْ الْحَسَنِ وَاللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ مِنْ التَّابِعِينَ الْأَخْذُ بِمَا فِي هَذِهِ الرِّسَالَةِ فِي أَمْرِ الشُّهُودِ، وَالْأَكْثَرُونَ عَلَى خِلَافِهِ بِدَلِيلِ قَوْله تَعَالَى: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق: 2] وقَوْله تَعَالَى: {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} [البقرة: 282].

.فَصْلٌ فِيمَا يَلْزَمُ الْقَاضِي مِنْ خَاصَّةِ نَفْسِهِ:

فَصْلٌ: فِيمَا يَلْزَمُهُ مِنْ خَاصَّةِ نَفْسِهِ قَالَ ابْنُ الْمُنَاصِفِ فِي (تَنْبِيهِ الْحُكَّامِ) وَاعْلَمْ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى مَنْ تَوَلَّى الْقَضَاءَ أَنْ يُعَالِجَ نَفْسَهُ وَيَجْتَهِدَ فِي صَلَاحِ حَالِهِ، وَيَكُونَ ذَلِكَ مِنْ أَهَمِّ مَا يَجْعَلُهُ مِنْ بَالِهِ فَيَحْمِلُ نَفْسَهُ عَلَى أَدَبِ الشَّرْعِ وَحِفْظِ الْمُرُوءَةِ وَعُلُوِّ الْهِمَّةِ وَيَتَوَقَّى مَا يَشِينُهُ فِي دِينِهِ وَمُرُوءَتِهِ وَعَقْلِهِ، وَيَحُطُّهُ عَنْ مَنْصِبِهِ وَهِمَّتِهِ فَإِنَّهُ أَهْلٌ لَأَنْ يُنْظَرَ إلَيْهِ وَيُقْتَدَى بِهِ، وَلَيْسَ يَسَعُهُ فِي ذَلِكَ مَا يَسَعُ غَيْرَهُ، فَالْعُيُونُ إلَيْهِ مَصْرُوفَةٌ وَنُفُوسُ الْخَاصَّةِ عَلَى الِاقْتِدَاءِ بِهَدْيِهِ مَوْقُوفَةٌ، وَلَا يَنْبَغِي لَهُ بَعْدَ الْحُصُولِ فِي هَذَا الْمَنْصِبِ سَوَاءٌ وَصَلَ إلَيْهِ بِرَغْبَةٍ فِيهِ وَطَرَحَ نَفْسَهُ عَلَيْهِ أَوْ اُمْتُحِنَ بِهِ وَعُرِضَ عَلَيْهِ أَنْ يَزْهَدَ فِي طَلَبِ الْحَظِّ الْأَخْلَصِ وَالسَّنَنِ الْأَصْلَحِ، فَرُبَّمَا حَمَلَهُ عَلَى ذَلِكَ اسْتِحْقَارُ نَفْسِهِ لِكَوْنِهِ مِمَّنْ لَا يَسْتَحِقُّ الْمَنْصِبَ، أَوْ زَهَّدَهُ فِي أَهْلِ عَصْرِهِ وَيَأَّسَهُ مِنْ اسْتِصْلَاحِهِمْ وَاسْتِبْعَادِ مَا يَرْجُو مِنْ عِلَاجِ أَمْرِهِمْ وَأَمْرِهِ أَيْضًا لِمَا يَرَاهُ مِنْ عُمُومِ الْفَسَادِ وَقِلَّةِ الِالْتِفَاتِ إلَى الْخَيْرِ، فَإِنَّهُ إنْ لَمْ يَسْعَ فِي اسْتِصْلَاحِ أَهْلِ عَصْرِهِ فَقَدْ أَسْلَمَ نَفْسَهُ وَأَلْقَى بِيَدِهِ إلَى التَّهْلُكَةِ وَيَئِسَ مِنْ تَدَارُكِ اللَّهِ تَعَالَى عِبَادَهُ بِالرَّحْمَةِ، فَيُلْجِئُهُ ذَلِكَ إلَى أَنَّهُ يَمْشِي عَلَى مَشْيِ أَهْلِ زَمَانِهِ وَلَا يُبَالِي بِأَيِّ شَيْءٍ وَقَعَ فِيهِ لِاعْتِقَادِهِ فَسَادَ الْحَالِ، وَهَذَا أَشَدُّ مِنْ مُصِيبَةِ الْقَضَاءِ وَأَدْهَى مِنْ كُلِّ مَا يُتَوَقَّعُ مِنْ الْبَلَاءِ، فَلْيَأْخُذْ نَفْسَهُ بِالْمُجَاهَدَةِ وَيَسْعَى فِي اكْتِسَابِ الْخَيْرِ وَيَطْلُبُهُ وَيَسْتَصْلِحُ النَّاسَ بِالرَّهْبَةِ وَالرَّغْبَةِ وَيُشَدِّدُ عَلَيْهِمْ فِي الْحَقِّ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى بِفَضْلِهِ يَجْعَلُ لَهُ فِي وِلَايَتِهِ وَجَمِيعِ أُمُورِهِ فَرَجًا وَمَخْرَجًا، وَلَا يَجْعَلُ حَظَّهُ مِنْ الْوِلَايَةِ الْمُبَاهَاةَ بِالرِّئَاسَةِ وَإِنْفَاذَ الْأُمُورِ وَالِالْتِذَاذَ بِالْمَطَاعِمِ وَالْمَلَابِسِ وَالْمَسَاكِنِ، فَيَكُونُ مِمَّنْ خُوطِبَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا} [الأحقاف: 20] وَلْيَجْتَهِدْ أَنْ يَكُونَ جَمِيلَ الْهَيْئَةِ ظَاهِرَ الْأُبَّهَةِ وَقُورَ الْمِشْيَةِ وَالْجِلْسَةِ حَسَنَ النُّطْقِ وَالصَّمْتِ، مُحْتَرِزًا فِي كَلَامِهِ مِنْ الْفُضُولِ وَمَا لَا حَاجَةَ بِهِ، كَأَنَّمَا يَعُدُّ حُرُوفَهُ عَلَى نَفْسِهِ عَدًّا، فَإِنَّ كَلَامَهُ مَحْفُوظٌ وَزَلَلَهُ فِي ذَلِكَ مَلْحُوظٌ، وَلْيُقَلِّلْ عِنْدَ كَلَامِهِ الْإِشَارَةَ بِيَدِهِ وَالِالْتِفَاتَ بِوَجْهِهِ، فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَمَلِ الْمُتَكَلِّفِينَ وَصُنْعِ غَيْرِ الْمُتَأَدِّبِينَ، وَلْيَكُنْ ضَحِكُهُ تَبَسُّمًا وَنَظَرُهُ فِرَاسَةً وَتَوَسُّمًا وَإِطْرَاقُهُ تَفَهُّمًا، وَيَكُونُ أَبَدًا مُرْتَدِيًا بِرِدَائِهِ حَسَنَ الزِّيِّ وَلْيَلْبَسْ مَا يَلِيقُ بِهِ فَإِنَّ ذَلِكَ أَهْيَبُ فِي حَقِّهِ وَأَجْمَلُ فِي شَكْلِهِ وَأَدَلُّ عَلَى فَضْلِهِ وَعَقْلِهِ، وَفِي مُخَالَفَةِ ذَلِكَ نُزُولٌ وَتَبَذُّلٌ، وَلْيَلْزَمْ مِنْ الصَّمْتِ الْحَسَنِ وَالسَّكِينَةِ وَالْوَقَارِ مَا يَحْفَظُ بِهِ مُرُوءَتَهُ فَتَمِيلُ الْهِمَمُ إلَيْهِ وَيَكْبُرُ فِي نُفُوسِ الْخُصُومِ الْجَرَاءَةُ عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ تَكَبُّرٍ يُظْهِرُهُ وَلَا إعْجَابٍ يَسْتَشْعِرُهُ، فَكِلَاهُمَا شَيْنٌ فِي الدِّينِ وَعَيْبٌ فِي أَخْلَاقِ الْمُؤْمِنِينَ.

.فَصْلٌ مَا يَلْزَمُ الْقَاضِيَ مِنْ أُمُورٌ:

وَيَلْزَمُ الْقَاضِيَ أُمُورٌ مِنْهَا أَنَّهُ لَا يَقْبَلُ الْهَدِيَّةَ وَإِنْ كَافَأَ عَلَيْهَا أَضْعَافَهَا إلَّا مِنْ خَوَاصِّ الْقَرَابَةِ كَالْوَلَدِ وَالْوَالِدِ وَالْعَمَّةِ وَالْخَالَةِ وَبِنْتِ الْأَخِ وَشِبْهِهِمْ؛ لِأَنَّ الْهَدِيَّةَ تُورِثُ إدْلَالَ الْمُهْدِي وَإِغْضَاءَ الْمُهْدَى إلَيْهِ، وَفِي ذَلِكَ ضَرَرُ الْقَاضِي وَدُخُولُ الْفَسَادِ عَلَيْهِ، وَقِيلَ: إنَّ الْهَدِيَّةَ تُطْفِئُ نُورَ الْحِكْمَةِ.
وَقَالَ رَبِيعَةُ: إيَّاكَ وَالْهَدِيَّةَ فَإِنَّهَا ذَرِيعَةُ الرِّشْوَةِ.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ: لَا بَأْسَ أَنْ يَقْبَلَهَا مِنْ إخْوَانِهِ الَّذِينَ كَانَ يُعْرَفُ لَهُ قَبُولُهَا مِنْهُمْ قَبْلَ الْوِلَايَةِ، وَقَدْ كَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقْبَلُ الْهَدِيَّةَ مِنْ إخْوَانِهِ، وَقِيلَ لَا يَسُوغُ لَهُ قَبُولُهَا مِنْهُمْ ذَكَرَهُ الْمَازِرِيُّ، وَأَجَازَ أَشْهَبُ قَبُولَهَا مِنْ غَيْرِ الْخَصْمَيْنِ إذَا كَانَ صَدِيقًا وَكَافَأَهُ عَلَيْهَا أَوْ قَرِيبًا.
وَقَالَ سَحْنُونٌ: لَا يَقْبَلُهَا إلَّا مِنْ ذِي رَحِمٍ، وَلِابْنِ سَحْنُونٍ عَنْ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ: لَا يَنْبَغِي لِأَمِيرٍ وَلَا لِعَامِلِ صَدَقَةٍ أَنْ يَنْزِلَ عَلَى أَحَدٍ مِنْ أَهْلِ عَمَلِهِ وَلَا يَقْبَلَ لَهُ هَدِيَّةً وَلَا مَنْفَعَةً، فَإِنْ فَعَلَ فَلَا يَنْبَغِي لِمَنْ مَعَهُ أَنْ يَأْكُلَ مِنْ ذَلِكَ، وَلَا يَأْكُلُ السَّاعِي إلَّا مِنْ رَأْسِ مَالِهِ.
وَقَالَ ابْنُ حَبِيبٍ: لَمْ تَخْتَلِفْ الْعُلَمَاءُ فِي كَرَاهِيَةِ الْهَدِيَّةِ إلَى السُّلْطَانِ الْأَكْبَرِ وَإِلَى الْقُضَاةِ وَالْعُمَّالِ وَجُبَاةِ الْمَالِ، وَهَذَا قَوْلُ مَالِكٍ وَمَنْ قَبْلَهُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالسُّنَّةِ، «وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْبَلُ الْهَدِيَّةَ» وَهَذَا مِنْ خَوَاصِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعْصُومٌ مِمَّا يُتَّقَى عَلَى غَيْرِهِ مِنْهَا، وَلَمَّا رَدَّ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ الْهَدِيَّةَ قِيلَ لَهُ: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْبَلُهَا فَقَالَ كَانَتْ لَهُ هَدِيَّةً وَلَنَا رِشْوَةً؛ لِأَنَّهُ كَانَ يُتَقَرَّبُ إلَيْهِ لِنُبُوَّتِهِ لَا لِوِلَايَتِهِ، وَنَحْنُ يُتَقَرَّبُ بِهَا إلَيْنَا لِوِلَايَتِنَا.
وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَأْتِي عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ يُسْتَحَلُّ فِيهِ السُّحْتُ بِالْهَدِيَّةِ، وَالْقَتْلُ بِالْمَوْعِظَةِ يُقْتَلُ الْبَرِيءُ لِيَتَّعِظَ بِهِ الْعَامَّةُ».

.فَصْلٌ ارْتِزَاقُ الْقَاضِي مِنْ بَيْتِ الْمَالِ:

قَالَ الْمَازِرِيُّ وَأَمَّا الِارْتِزَاقُ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ فَإِنَّ مَنْ تَعَيَّنَ عَلَيْهِ الْقَضَاءُ وَهُوَ فِي غِنًى عَنْ الِارْتِزَاقِ مِنْهُ فَإِنَّهُ يُنْهَى عَنْ أَخْذِ الْعِوَضِ عَلَى الْقَضَاءِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ أَبْلَغُ فِي الْمَهَابَةِ وَأَدْعَى لِلنُّفُوسِ إلَى اعْتِقَادِ التَّعْظِيمِ وَالْجَلَالَةِ، وَإِنْ كَانَ الْقَضَاءُ لَمْ يَتَعَيَّنْ عَلَيْهِ وَهُوَ مُحْتَاجٌ إلَى طَلَبِ الرِّزْقِ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ سَاغَ لَهُ أَخْذُ ذَلِكَ وَمِنْ مُفِيدِ الْحُكَّامِ قَالَ أَصْبَغُ وَلَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَأْخُذَ رِزْقَهُ إلَّا مِنْ الْخُمُسِ أَوْ مِنْ الْجِزْيَةِ أَوْ مِنْ عُشُورِ أَهْلِ الذِّمَّةِ.
مَسْأَلَةٌ:
وَكَذَلِكَ الشُّهُودُ لَا يَجُوزُ لَهُمْ قَبُولُ الْهَدِيَّةِ مِنْ أَحَدِ الْخَصْمَيْنِ مَا دَامَتْ الْخُصُومَةُ بَيْنَهُمَا.
مَسْأَلَةٌ:
وَفِي الطُّرَرِ لِابْنِ عَاتٍ قَالَ ابْنُ عَيْشُونٍ: أَجَازَ بَعْضُهُمْ إعْطَاءَ الرِّشْوَةِ إذَا خَافَ الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِهِ وَكَانَ الظُّلْمُ مُحَقَّقًا.
مَسْأَلَةٌ:
قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْغَفُورِ وَمَا أُهْدِيَ إلَى الْفَقِيهِ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ فَجَائِزٌ لَهُ قَبُولُهُ، وَمَا أُهْدِيَ إلَيْهِ رَجَاءَ الْعَوْنِ عَلَى خَصْمِهِ أَوْ فِي مَسْأَلَةٍ تَعْرِضُ عِنْدَهُ رَجَاءَ قَضَاءِ حَاجَتِهِ عَلَى خِلَافِ الْمَعْمُولِ بِهِ فَلَا يَحِلُّ لَهُ قَبُولُهَا، وَهِيَ رِشْوَةٌ يَأْخُذُهَا، وَكَذَلِكَ إذَا تَنَازَعَ عِنْدَهُ خَصْمَانِ فَأَهْدَيَا إلَيْهِ جَمِيعًا أَوْ أَحَدُهُمَا يَرْجُو كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنْ يُعِينَهُ فِي حُجَّتِهِ أَوْ عِنْدَ حَاكِمٍ إذَا كَانَ مِمَّنْ يُسْمَعُ مِنْهُ وَيُوقَفُ عِنْدَهُ، فَلَا يَحِلُّ لَهُ الْأَخْذُ مِنْهُمَا وَلَا مِنْ أَحَدِهِمَا، وَمِنْهَا أَنْ لَا يَعْتَكِفَ؛ لِأَنَّهُ لَا يَقْضِي بَيْنَ النَّاسِ فِي اعْتِكَافِهِ- مِنْ مُفِيدِ الْحُكَّامِ- وَمِنْهَا أَنَّهُ لَا يَحْضُرُ وَلِيمَةً إلَّا وَلِيمَةَ النِّكَاحِ لِلْحَدِيثِ، ثُمَّ إنْ شَاءَ أَكَلَ وَإِنْ شَاءَ لَمْ يَأْكُلْ، وَالْأَوْلَى لَهُ الْيَوْمَ تَرْكُ الْأَكْلِ؛ لِأَنَّ فِي الْمُسَارَعَةِ إلَى إجَابَةِ الدَّعْوَةِ وَالتَّسَامُحِ بِذَلِكَ مَذَلَّةٌ وَإِضَاعَةٌ لِلتَّصَاوُنِ وَإِخْلَاقًا لِلْهَيْبَةِ عِنْدَ الْعَوَامّ، قَالَهُ ابْنُ الْمُنَاصِفِ.
وَفِي الْمُتَيْطِيَّةِ قَالَ أَشْهَبُ فِي الْمَجْمُوعَةِ: لَا بَأْسَ أَنْ يُجِيبَ الدَّعْوَةَ الْعَامَّةَ إنْ كَانَتْ وَلِيمَةً أَوْ صَنِيعًا عَامًّا لِفَرَحٍ، فَأَمَّا أَنْ يُدْعَى مَعَ عَامَّةٍ لِغَيْرِ فَرَحٍ فَلَا يُجِيبُ، وَكَأَنَّهُ إنَّمَا دُعِيَ خَاصَّةً، وَكَانَ ذَلِكَ لِأَجْلِهِ.
وَقَالَ سَحْنُونٌ يُجِيبُ الدَّعْوَةَ الْعَامَّةَ دُونَ الْخَاصَّةِ، وَتَنَزُّهُهُ عَنْ الدَّعْوَةِ الْعَامَّةِ أَحْسَنُ، إلَّا أَنْ يَكُونَ لِأَخٍ فِي اللَّهِ، وَخَاصَّةَ أَهْلِهِ أَوْ ذِي قُرْبَةٍ، وَكَرِهَ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ لِأَهْلِ الْفَضْلِ أَنْ يُجِيبُوا كُلَّ مَنْ دَعَاهُمْ.
وَمِنْهَا أَنَّهُ يَنْبَغِي لَهُ التَّنَزُّهُ عَنْ طَلَبِ الْحَاجَةِ مِنْ مَاعُونٍ أَوْ دَابَّةٍ وَمِنْهَا أَنَّهُ يَجْتَنِبُ الْعَارِيَّةَ وَالسَّلَفَ وَالْقِرَاضَ وَالْإِبْضَاعَ إلَّا أَنْ لَا يَجِدَ بُدًّا مِنْ ذَلِكَ، فَهُوَ خَفِيفٌ إلَّا مِنْ عِنْدِ الْخُصُومِ، أَوْ مِمَّنْ هُوَ مِنْ جِهَتِهِمْ فَلَا يَفْعَلُ. وَمِنْهَا أَنَّهُ يُكْرَهُ لَهُ الْبَيْعُ وَالِابْتِيَاعُ فِي مَجْلِسِ حُكْمِهِ أَوْ فِي دَارِهِ وَلَا يُرَدُّ مِنْهُ شَيْءٌ إلَّا أَنْ يَكُونَ عَلَى وَجْهِ الْإِكْرَاهِ أَوْ فِيهِ نَقِيصَةٌ عَلَى الْبَائِعِ فَيُرَدُّ الْبَيْعُ وَالِابْتِيَاعُ كَانَ فِي مَجْلِسِ قَضَائِهِ أَوْ غَيْرِهِ، قَالَ أَشْهَبُ: إنْ عُزِلَ وَالْبَائِعُ أَوْ الْمُبْتَاعُ مُقِيمٌ بِالْبَلَدِ لَا يُخَاصِمُهُ وَلَا يَذْكُرُ مُخَاصَمَتَهُ لِأَحَدٍ فَلَا حُجَّةَ لَهُ، وَالْبَيْعُ مَاضٍ، وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ لَهُ وَكِيلٌ مَعْرُوفٌ عَلَى الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ؛ لِأَنَّهُ يَفْعَلُ مَعَ وَكِيلِهِ مِنْ الْمُسَامَحَةِ مَا يُفْعَلُ مَعَهُ، وَرُبَّمَا امْتَنَعَ النَّاسُ مِنْ خِصَامِهِ، وَأَنْ يَرْفَعُوهُ إلَى الْقَاضِي الَّذِي هُوَ وَكِيلُهُ؛ لِأَنَّهُمْ يَتَّهِمُونَهُ بِالْعِنَايَةِ بِهِ، وَيَنْبَغِي لَهُ التَّنَزُّهُ عَنْ ذَلِكَ إلَّا مَا خَفَّ شَأْنُهُ وَقَلَّ شُغْلُهُ وَالْكَلَامُ فِيهِ قَالَ سَحْنُونٌ وَتَرْكُهُ أَفْضَلُ قَالَ أَشْهَبُ إلَّا أَنْ يَكُونَ مَالَ مَيِّتٍ لَهُ النَّظَرُ فِيهِ فَلَا بَأْسَ بِهِ.
قَالَ مُطَرِّفٌ وَابْنُ الْمَاجِشُونِ وَأَصْبَغُ لَا يَنْبَغِي أَنْ يَشْتَغِلَ فِي مَجْلِسِ قَضَائِهِ بِالْبَيْعِ وَالِابْتِيَاعِ لِنَفْسِهِ قَالَ أَشْهَبُ أَوْ لِغَيْرِهِ عَلَى وَجْهِ الْعِنَايَةِ مِنْهُ، وَلَا بَأْسَ لَهُ بِذَلِكَ فِي مَجْلِسِ الْقَضَاءِ، قَالَ مُطَرِّفٌ وَابْنُ الْمَاجِشُونِ لِنَفْسِهِ وَلِغَيْرِهِ.
وَفِي مُخْتَصَرِ الْوَاضِحَةِ قَالَ أَشْهَبُ إذَا اشْتَرَى الْإِمَامُ الْعَدْلُ مِنْ رَجُلٍ أَوْ بَاعَ ثُمًّ عُزِلَ أَوْ مَاتَ فَإِنَّ الْبَائِعَ مِنْهُ وَالْمُشْتَرِيَ مُخَيَّرٌ فِي الْأَخْذِ أَوْ التَّرْكِ فَتَدَبَّرْ هَذَا.
وَمِنْهَا أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدًا مِنْ النَّاسِ إلَّا الَّذِي وَلَّاهُ وَحْدَهُ؛ لِأَنَّ مَنْ دُونَهُ رَعِيَّتُهُ وَمِنْهَا أَنَّهُ يَنْبَغِي لَهُ التَّنَزُّهُ عَنْ دُخُولِ الْحَمَّامِ مَا أَمْكَنَهُ إذْ لَا يَكَادُ يَسْلَمُ مِنْ الِاطِّلَاعِ عَلَى عَوْرَةٍ؛ لِأَنَّ الْحَمَّامَ مَظِنَّةٌ لِذَلِكَ لاسيما مَعَ الْعَامَّةِ، وَقَدْ قَالَ مَالِكٌ: وَاَللَّهِ مَا دُخُولُ الْحَمَّامِ بِصَوَابٍ مَعَ مَا تَدْعُو إلَيْهِ مُخَالَطَةُ النَّاسِ هُنَاكَ مِنْ سُقُوطِ الْهَيْبَةِ وَنَقْصِ الْمُرُوءَةِ، فَإِنْ دَخَلَهُ خَالِيًا فَلَا بَأْسَ، وَلَا كَرَاهَةَ فِيهِ حِينَئِذٍ.
وَمِنْهَا أَنَّهُ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَجْتَنِبَ بِطَانَةَ السُّوءِ؛ لِأَنَّ أَكْثَرَ الْقُضَاةِ إنَّمَا يُؤْتَى عَلَيْهِمْ مِنْ ذَلِكَ وَمَنْ يَلِي بِذَلِكَ عَرَفَهُ حَقَّ الْمَعْرِفَةِ، قَالَهُ ابْنُ رُشْدٍ وَمِنْهَا أَنْ يَخْتَارَ لَهُ كَاتِبًا يَكْتُبُ لَهُ مَا يَقَعُ فِي مَجْلِسِهِ بَيْنَ الْخُصُومِ.
قَالَ الْمُتَيْطِيُّ لَا يُسْتَكْتَبُ إلَّا أَهْلُ الْعَدْلِ وَالرِّضَا غَابَ الْكَاتِبُ عَلَى مَا يُكْتَبُ أَوْ حَضَرَ، وَقَدْ ذَكَرَ بَعْضُهُمْ فِي أَوْصَافِهِ أَرْبَعَةً وَهِيَ: الْعَدَالَةُ وَالْعَقْلُ وَالرَّأْيُ وَالْعِفَّةُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَالِمًا بِأَحْكَامِ الشَّرْعِ فلابد أَنْ يَكُونَ عَالِمًا بِأَحْكَامِ الْكِتَابَةِ.
وَقَالَ الْمَوَّازُ: يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ كَاتِبُهُ عَدْلًا فَقِيهًا يَكْتُبُ بَيْنَ يَدَيْهِ ثُمَّ يَنْظُرُ هُوَ فِيهِ وَظَاهِرُ كَلَامِ الْمُتَقَدِّمِينَ أَنَّ ذَلِكَ عَلَى وَجْهِ الِاسْتِحْبَابِ، وَمَالَ بَعْضُ الشُّيُوخِ إلَى الْوُجُوبِ.
وَفِي الْمُدَوَّنَةِ وَلَا يَسْتَكْتِبُ الْقَاضِي أَهْلَ الذِّمَّةِ، قَالَ مُحَمَّدٌ فَإِنْ اُضْطُرَّ إلَى غَيْرِ عَدْلٍ نَظَرَ فِيمَا يَكْتُبُ وَلَا يَكِلُهُ إلَيْهِ وَقَالَ ابْنُ شَاسٍ: إنَّهُ لَا تُشْتَرَطُ الْعَدَالَةُ فِي الْكَاتِبِ وَلَعَلَّهُ يُرِيدُ أَنَّ الْقَاضِي يَقِفُ عَلَى كِتَابَتِهِ وَلَا يَغِيبُ عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ. الْمَازِرِيُّ: إذَا كَانَ غَيْرَ ثِقَةٍ فلابد مِنْ اطِّلَاعِ الْقَاضِي عَلَى مَا يَكْتُبُهُ وَإِنْ كَانَ عَدْلًا فَالْمَذْهَبُ أَنَّهُ مَأْمُورٌ بِالنَّظَرِ إلَى مَا يَكْتُبُ أَيْضًا.
وَمِنْهَا أَنَّهُ يَخْتَارُ مَنْ يُزَكِّي عِنْدَهُ الشُّهُودَ، وَيَنْبَغِي أَنْ يُنَصِّبَ لِذَلِكَ رَجُلَيْنِ يَسْأَلَانِ لَهُ عَنْ الشُّهُودِ وَيَكُونَ كَشْفُهُمْ فِي السِّرِّ، وَإِنْ قَدَرَ الْقَاضِي أَنْ لَا يَعْرِفَ النَّاسُ مَنْ نَصَّبَهُ لِذَلِكَ فَذَلِكَ حَسَنٌ، وَالْوَاحِدُ الصَّالِحُ الْمَأْمُونُ الْمُتَنَبِّهِ يُجْزِئُ، وَلَا يَنْبَغِي لِلْكَاشِفِ أَنْ يَسْأَلَ وَاحِدًا أَوْ اثْنَيْنِ وَلْيَسْأَلْ ثَلَاثَةً أَوْ أَرْبَعَةً أَوْ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ إنْ قَدَرَ خِيفَةَ أَنْ يُزَكِّيَهُ أَهْلُ وُدِّهِ، أَوْ يُجَرِّحَهُ عَدُوُّهُ، بِخِلَافِ مَا إذَا سَأَلَ جَمَاعَةً.
وَمِنْهَا أَنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ يَتَّخِذَ لَهُ مُتَرْجِمًا وَيُشْتَرَطُ فِيهِ الْعَدَالَةُ وَالصَّلَاحُ التَّامُّ قَالَ مَالِكٌ وَإِذَا اخْتَصَمَ إلَيْهِ مَنْ لَا يَتَكَلَّمُ بِالْعَرَبِيَّةِ وَلَا يَفْهَمُ عَنْهُ فَلْيُتَرْجِمْ عَنْهُ ثِقَةٌ مُسْلِمٌ مَأْمُونٌ، وَاثْنَانِ أَحَبُّ إلَيْنَا وَلَا بَأْسَ أَنْ يَقْبَلَ تَرْجَمَةَ امْرَأَةٍ عَدْلٍ وَذَلِكَ إذَا لَمْ يَجِدْ مِنْ الرِّجَالِ مَنْ يُتَرْجِمُ لَهُ وَكَانَ مِمَّا يُقْبَلُ فِيهِ شَهَادَةُ النِّسَاءِ وَامْرَأَتَانِ وَرَجُلٌ أَحَبُّ إلَيْنَا.
وَقَالَ سَحْنُونٌ، لَا يَقْبَلُ تَرْجَمَةَ رَجُلٍ وَاحِدٍ وَلَا تَرْجَمَةَ مَنْ لَا تَجُوزُ شَهَادَتُهُ، وَلَا يَقْبَلُ فِي ذَلِكَ قَوْلَ أَهْلِ الْكُفْرِ وَلَا الْعَبِيدِ، قَالَ بَعْضُ الشُّيُوخِ: يُرِيدُ مَعَ وُجُودِ الْعَدْلِ، وَلَوْ اُضْطُرَّ إلَى تَرْجَمَةِ أَحَدِهِمْ يَعْمَلُ بِقَوْلِهِ كَالْحُكْمِ بِقَوْلِ الطَّبِيبِ النَّصْرَانِيِّ فِيمَا يَضْطَرُّ إلَيْهِ فِيهِ.
وَمِنْهَا أَنَّهُ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَسْتَبْطِنَ أَهْلَ الدِّينِ وَالْأَمَانَةِ وَالْعَدَالَةِ وَالنَّزَاهَةِ لِيَسْتَعِينَ بِهِمْ عَلَى مَا هُوَ بِسَبِيلِهِ، وَيَقْوَى بِهِمْ عَلَى التَّوَصُّلِ إلَى مَا يَنُوبُهُ وَيُخَفِّفُوا عَنْهُ فِيمَا يَحْتَاجُ إلَى الِاسْتِنَابَةِ فِيهِ مِنْ النَّظَرِ فِي الْوَصَايَا وَالْأَحْبَاسِ وَالْقِسْمَةِ وَأَمْوَالِ الْأَيْتَامِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يَنْظُرُ فِيهِ.
وَمِنْهَا أَنَّهُ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ أَعْوَانُهُ فِي زِيِّ الصَّالِحِينَ فَإِنَّهُ يُسْتَدَلُّ عَلَى الْمَرْءِ بِصَاحِبِهِ وَغُلَامِهِ، وَيَأْمُرُهُمْ بِالرِّفْقِ وَاللِّينِ فِي غَيْرِ ضَعْفٍ وَلَا تَقْصِيرٍ فلابد لِلْقَاضِي مِنْ أَعْوَانٍ يَكُونُونَ حَوْلَهُ لِيَزْجُرُوا مَنْ يَنْبَغِي زَجْرُهُ مِنْ الْمُتَخَاصِمِينَ، وَيَنْبَغِي أَنْ يُخَفِّفَ مِنْهُ مَا اسْتَطَاعَ، وَقَدْ كَانَ الْحَسَنُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يُنْكِرُ عَلَى الْقَضَاءِ اتِّخَاذَ الْأَعْوَانِ، فَلَمَّا وَلِيَ الْقَضَاءَ وَشُوِّشَ عَلَيْهِ مَا يَقَعُ مِنْ النَّاسِ عِنْدَهُ قَالَ لابد لِلسُّلْطَانِ مِنْ وَزَعَةٍ، وَإِنْ اسْتَغْنَى عَنْ الْأَعْوَانِ أَصْلًا كَانَ أَحْسَنَ، قَالَ الْمَازِرِيُّ وَلَا يَكُونُ الْعَوِينُ إلَّا ثِقَةً مَأْمُونًا؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَطَّلِعُ مِنْ الْخُصُومِ عَلَى مَا لَا يَنْبَغِي أَنْ يَطَّلِعَ عَلَيْهِ أَحَدُ الْخَصْمَيْنِ، وَقَدْ يُرْشَى عَلَى الْمَنْعِ وَالْإِذْنِ، وَقَدْ يُخَافُ مِنْهُ عَلَى النِّسْوَانِ إذَا احْتَجْنَ إلَى خِصَامٍ، فَكُلُّ مَنْ يَسْتَعِينُ بِهِ الْقَاضِي عَلَى قَضَائِهِ أَوْ مَشُورَتِهِ لَا يَكُونُ إلَّا ثِقَةً مَأْمُونًا.

.فَصْلٌ وَأَرْزَاقُ الْأَعْوَانِ الَّذِينَ يُوَجِّهُهُمْ الْقَاضِي فِي مَصَالِحِ النَّاسِ:

وَأَرْزَاقُ الْأَعْوَانِ الَّذِينَ يُوَجِّهُهُمْ فِي مَصَالِحِ النَّاسِ وَرَفْعِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ حُقُوقِ النَّاسِ تَكُونُ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ كَالْحُكْمِ فِي أَرْزَاقِ الْقَضَاءِ، وَلَا يَنْبَغِي لِلْقَاضِي أَنْ يَجْعَلَ لَهُمْ شَيْئًا فِي أَمْوَالِ الْمُسْلِمِينَ وَإِذَا كَانَ لَهُمْ رِزْقٌ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ فَلَا يَجُوزُ لَهُمْ أَخْذُ شَيْءٍ عَلَى الْقَضَايَا الَّتِي يُبْعَثُونَ فِيهَا كَمَا لَا يَجُوزُ لِلْقُضَاةِ أَخْذُ شَيْءٍ، فَإِنْ لَمْ يُصْرَفْ لَهُمْ شَيْءٌ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ دَفَعَ الْقَاضِي لِلطَّالِبِ طَابَعًا يَرْفَعُ بِهِ الْخَصْمَ إلَى مَجْلِسِ الْحُكْمِ، فَإِنْ لَمْ يَرْتَفِعْ وَاضْطُرَّ إلَى الْأَعْوَانِ فَلْيَجْعَلْ الْقَاضِي لَهُمْ شَيْئًا مِنْ رِزْقِهِ إذَا أَمْكَنَهُ وَقَوِيَ عَلَيْهِ إذَا رَفَعَ الْمَطْلُوبَ مِمَّا يَلْزَمُهُ، فَإِنْ عَجَزَ عَنْ ذَلِكَ فَأَحْسَنُ الْوُجُوهِ أَنْ يَكُونَ الطَّالِبُ هُوَ الْمُسْتَأْجِرُ عَلَى النُّهُوضِ فِي إحْضَارِ الْمَطْلُوبِ وَرَفْعِهِ فَيَتَّفِقُ مَعَ الْعَوِينِ عَلَى ذَلِكَ بِمَا يَرَاهُ، إلَّا أَنْ يَتَبَيَّنَ لَدَدُ الْمَطْلُوبِ بِالْمَطْلَبِ وَأَنَّهُ امْتَنَعَ مِنْ الْحُضُورِ بَعْدَ أَنْ دَعَاهُ، فَإِنَّ أُجْرَةَ الْعَوِينِ الَّذِي يُحْضِرُهُ عَلَى الْمَطْلُوبِ، وَأَنْكَرَ ذَلِكَ ابْنُ الْفَخَارِ، وَسَتَأْتِي فِي الْبَابِ الثَّانِي وَالْعِشْرِينَ.
وَمِنْهَا أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يُبِيحَ لِلنَّاسِ الرُّكُوبَ مَعَهُ إلَّا فِي حَاجَةٍ أَوْ رَفْعِ مَظْلِمَةٍ، فَإِنَّهُ لَا بَأْسَ لِلْقَاضِي أَنْ يَرْكَبَ لِيَنْظُرَ إلَى الشَّيْءِ مَعَ غَيْرِهِ مِنْ النَّاسِ فِيمَا قَدْ تُشُوجِرَ فِيهِ عِنْدَهُ وَاخْتَلَطَ فِيهِ الْأَمْرُ وَطَالَتْ فِيهِ الْخُصُومَةُ وَلَا يَجِدُ سَبِيلًا إلَى مَعْرِفَتِهِ إلَّا بِمُعَايَنَةٍ. وَقَدْ يَكْثُرُ هَذَا فِي بَابِ دَعْوَى الضَّرَرِ وَقَدْ رَكِبَ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ فِي أَمْرٍ لِيَنْظُرَ إلَيْهِ، فَذُكِرَ لَهُ فِي الطَّرِيقِ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَقَفَ عَلَيْهِ وَحَكَمَ فِيهِ، فَانْصَرَفَ وَلَمْ يَنْظُرْ فِيهِ.
وَمِنْهَا أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَكْثُرَ الدِّخَالُ عَلَيْهِ وَلَا الرِّكَابُ مَعَهُ وَلَا مَنْ يَحُفُّ بِهِ فِي غَيْرِ حَاجَةٍ كَانَتْ لَهُمْ قَبْلَ ذَلِكَ، إلَّا أَنْ يَكُونُوا أَهْلَ أَمَانَةٍ وَنَصِيحَةٍ وَفَضْلٍ، فَلَا بَأْسَ بِذَلِكَ، وَإِذَا كَانُوا عَلَى غَيْرِ هَذَا الْوَجْهِ كَبُرَتْ نَفْسُهُ وَعَظُمَ عِنْدَهُ سُلْطَانُهُ. وَيَكْفِي الْقَاضِيَ فِي مَعْرِفَتِهِ قُبْحَ حَالِ الرَّجُلِ أَنْ يَصْحَبَهُ فِي غَيْرِ حَاجَةٍ وَلَا دَفْعِ مَظْلِمَةٍ وَلَا خُصُومَةٍ وَحُقَّ عَلَيْهِ أَنْ يَمْنَعَهُ مِنْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُمْ إنَّمَا يَلْزَمُونَ ذَلِكَ لِاسْتِشْكَالِ أَمْوَالِ النَّاسِ؛ لِأَنَّهُمْ يُرُونَ النَّاسَ أَنَّ لَهُمْ عِنْدَ الْقَاضِي مَنْزِلَةً، وَلِهَذَا قَالُوا مَنْ تَرَدَّدَ إلَى الْقَاضِي ثَلَاثَ مَرَّاتٍ فِي غَيْرِ حَاجَةٍ فَذَلِكَ جُرْحَةٌ فِي عَدَالَتِهِ، وَيَمْنَعُ مَنْ يَجْلِسُ فِي دِهْلِيزِهِ لِغَيْرِ حَاجَةٍ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مَأْكَلَةٌ لِلنَّاسِ وَحِيلَةٌ عَلَيْهِمْ، وَلَا يُبِيحُ مَجْلِسَهُ لِمَنْ يُرِيدُ أَنْ يَتَزَيَّنَ بِمُجَالَسَتِهِ أَوْ يَتَعَلَّمَ أَحْكَامَهُ، فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ خُلُقِ الْمُسْتَأْكِلِينَ، وَإِنَّمَا يُجَالِسُهُ الْفُقَهَاءُ وَالْعُدُولُ الَّذِينَ يَحْتَاجُ إلَى فِقْهِهِمْ وَشَهَادَتِهِمْ.
وَمِنْهَا أَنَّهُ لَا يُرِي النَّاسَ أَنَّ لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مَنْزِلَةً مِثْلُ أَنْ يَدْعُوَ شَخْصًا مُعَيَّنًا لِلتَّزْكِيَةِ وَالتَّجْرِيحِ وَالشَّهَادَةِ وَالْكَشْفِ عَمَّا يُرِيدُ.
وَمِنْهَا أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي أَنْ يَصْغَى بِأُذُنِهِ لِلنَّاسِ فَيَفْتَحُ عَلَى نَفْسِهِ بِذَلِكَ شَرًّا عَظِيمًا، وَتَفْسُدُ عَقِيدَتُهُ فِي أَهْلِ الْفَضْلِ الْبُرَآءِ مِمَّا قِيلَ فِيهِمْ عِنْدَهُ. وَمِنْهَا أَنَّهُ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَتَّخِذُ مَنْ يُخْبِرُهُ بِمَا يَقُولُ النَّاسُ فِي أَحْكَامِهِ وَأَخْلَاقِهِ وَسِيرَتُهٌ وَشُهُودِهِ فَإِذَا أَخْبَرَهُ بِشَيْءٍ فَحَصَ عَنْهُ فَإِنَّ فِي ذَلِكَ قُوَّةً عَلَى أَمْرِهِ.

.الْفَصْلُ الثَّالِثُ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِمَجْلِسِهِ وَمَسْكَنِهِ وَذَلِكَ أُمُورٌ:

مِنْهَا أَنَّهُ يَجْلِسُ فِي الْمَسْجِدِ مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ، قَالَ فِي الْمُدَوَّنَةِ. الْقَضَاءُ فِي الْمَسْجِدِ مِنْ الْأَمْرِ الْقَدِيمِ وَهُوَ الْحَقُّ وَالصَّوَابُ، قَالَ مَالِكٌ: لِأَنَّهُ يَرْضَى فِيهِ بِالدُّونِ مِنْ الْمَجْلِسِ، وَهُوَ أَقْرَبُ عَلَى النَّاسِ فِي شُهُودِهِمْ، وَيَصِلُ إلَيْهِ الضَّعِيفُ وَالْمَرْأَةُ.
وَفِي الْمَجْمُوعَةِ وَكِتَابِ ابْنِ الْمَوَّازِ عَنْ مَالِكٍ: لَا بَأْسَ أَنْ يَقْضِيَ الْقَاضِي فِي مَنْزِلِهِ وَحَيْثُ أَحَبَّ.
وَفِي تَنْبِيهِ الْحُكَّامِ لِابْنِ الْمُنَاصِفِ وَيُكْرَهُ الْجُلُوسُ لِلْأَحْكَامِ فِي دَارِهِ، وَقَدْ أَنْكَرَهُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ عَلَى أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ- رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا-، وَأَمَرَ بِإِضْرَامِ دَارِهِ عَلَيْهِ نَارًا، فَدَعَا وَاسْتَقَالَ وَلَمْ يَعُدْ إلَى ذَلِكَ، فَإِنْ دَعَتْهُ ضَرُورَةٌ إلَى ذَلِكَ فَلْيَفْتَحْ أَبْوَابَهَا وَيَجْعَلْ سَبِيلَهَا سَبِيلَ الْمَوَاضِعِ الْمُبَاحَةِ لِذَلِكَ مِنْ غَيْرِ مَنْعٍ وَلَا حِجَابٍ، وَالْأَحْسَنُ أَنْ يَكُونَ مَجْلِسُ قَضَائِهِ حَيْثُ الْجَمَاعَةُ جَمَاعَةُ النَّاسِ وَفِي الْمَسْجِدِ الْجَامِعِ، إلَّا أَنْ يَعْلَمَ ضَرَرَ ذَلِكَ بِالنَّصَارَى وَأَهْلِ الْمِلَلِ وَالنِّسَاءِ الْحُيَّضِ فَيَجْلِسُ فِي رَحْبَةِ الْمَسْجِدِ، قَالَ سَحْنُونٌ: فَإِنْ دَخَلَ عَلَيْهِ ضَرَرٌ بِقُعُودِهِ فِي الْمَسْجِدَ لِكَثْرَةِ النَّاسِ حَتَّى أَشْغَلَهُ ذَلِكَ عَنْ النَّظَرِ وَالْفَهْمِ، فَلْيَكُنْ لَهُ مَوْضِعٌ فِي الْمَسْجِدِ يَحُولُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهُ وَقَدْ اتَّخَذَ سَحْنُونٌ بَيْتًا فِي الْمَسْجِدِ الْجَامِعِ فَكَانَ يَقْعُدُ فِيهِ النَّاسُ لِيَحُولَ ذَلِكَ الْمَجْلِسُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ كَلَامِهِمْ وَكَثْرَةِ لَغَطِهِمْ، وَحَيْثُمَا جَلَسَ الْقَاضِي الْمَأْمُونُ فَهُوَ لَهُ جَائِزٌ، وَذُكِرَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ كَتَبَ إلَى الْقَاضِي تَمِيمِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنْ لَا يَقْضِيَ فِي الْمَسْجِدِ، وَبِذَلِكَ أَخَذَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ وَاحْتَجُّوا بِأَنَّهُ فِيهِ تَضْيِيقٌ عَلَى النَّاسِ، فَمِنْهُمْ الْحَائِضُ وَالْجُنُبُ وَأَهْلُ الذِّمَّةِ وَفِيهِ امْتِهَانُ الْمَسْجِدِ بِكَثْرَةِ اللَّغَطِ وَاللَّجَاجِ وَمَا يَقَعُ بَيْنَ الْخُصُومِ مِنْ اللَّجَاجِ، وَأَيْضًا فَإِنَّ بَعْضَ الْعَوَامّ يَدْخُلُ الْمَسْجِدَ وَرِجْلُهُ فِيهَا بَلَلٌ وَرُبَّمَا كَانَتْ غَيْرَ طَاهِرَةٍ، وَمَفَاسِدُ عَدِيدَةٌ ذَكَرَهَا الشَّافِعِيَّةُ. وَاحْتَجُّوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ} [النور: 36] وَلَيْسَ فِي الْقَضَاءِ فِي الْمَسْجِدِ إلَّا إهَانَةُ الْمَسْجِدِ خُصُوصًا الْمَسَاجِدُ الثَّلَاثَةُ لاسيما مَسْجِدُ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّهُ قَدْ جَاءَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا قَالَتْ لِرَجُلٍ دَقَّ مِسْمَارًا فِي حَائِطِ الْمَسْجِدِ: لَقَدْ آذَيْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَاحْتِرَامُهُ بَعْدَ مَوْتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاجِبٌ كَمَا كَانَ فِي حَيَاتِهِ، وَلِهَذَا قَالَ ابْنُ حَبِيبٍ مِنْ أَصْحَابِنَا: أَحَبُّ إلَيَّ أَنْ يَجْلِسَ فِي رِحَابِ الْمَسْجِدِ اللَّاصِقَةِ بِهِ مِنْ غَيْرِ تَضْيِيقٍ بِالْجُلُوسِ فِي غَيْرِهَا، وَمَا كَانَ مَنْ مَضَى يَجْلِسُونَ إلَّا فِي رِحَابِ الْمَسْجِدِ خَارِجًا مِنْهُ، أَمَّا عِنْدَ مَوْضِعِ الْجَنَائِزِ، يُرِيدُ بِالْمَدِينَةِ النَّبَوِيَّةِ وَهُوَ الْآنَ الْمَوْضِعُ الْمَعْرُوفُ بِمُصَلَّى الْجَنَائِزِ خَارِجَ بَابِ جِبْرِيلَ، قَالَ وَأَمَّا فِي رَحْبَةِ دَارِ مَرْوَانَ وَهِيَ الَّتِي تُسَمَّى رَحْبَةَ الْقَضَاءِ، وَقَدْ جُعِلَ ذَلِكَ فِي هَذَا الْوَقْتِ مِيضَأَةً وَهِيَ عَلَى بَابِ السَّلَامِ، قَالَ ابْنُ أَبِي زَيْدٍ وَاحْتَجَّ بَعْضُ أَصْحَابِنَا فِي قَضَاءِ الْقَاضِي فِي الْمَسْجِدِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ} [ص: 21] فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْحُكُومَةَ وَقَعَتْ عِنْدَهُ فِي مَسْجِدِهِ- عَلَيْهِ السَّلَامُ-.
وَرُوِيَ: «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَضَى فِي الْمَسْجِدِ».

.فَصْلٌ فِي مَسْكَن الْقَاضِي:

فَصْلٌ وَأَمَّا مَسْكَنُهُ فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ وَسْطَ الْبَلَدِ فِي مَوْضِعٍ لَا يَشُقُّ عَلَى النَّاسِ الْقَصْدُ إلَيْهِ، وَمِمَّا يَنْبَغِي لَهُ أَنَّهُ لَا يُفْرِدُ لِنَفْسِهِ يَوْمًا فِي الْجُمُعَةِ لَا يَقْضِي فِيهِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ لَهُ لِتَعَلُّقِ حُقُوقِ النَّاسِ بِهِ إلَّا لِعُذْرٍ، وَلَا بَأْسَ أَنْ يَنْظُرَ فِي أُمُورِ دُنْيَاهُ الَّتِي تُصْلِحُهُ، ولابد لَهُ مِنْهَا فِي كُلِّ الْأَيَّامِ فِي غَيْرِ أَوْقَاتِ قَضَائِهِ، وَلَا بَأْسَ أَنْ يَطَّلِعَ إلَى قَرَابَتِهِ الْيَوْمَيْنِ وَالثَّلَاثَةَ، قَالَ ابْنُ حَبِيبٍ: وَأَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ وَلَا حَرَجَ عَلَيْهِ فِيهِ.
وَمِنْهَا أَنْ لَا يَجْلِسَ عَلَى حَالِ تَشْوِيشٍ مِنْ جُوعٍ أَوْ شِبَعٍ أَوْ غَضَبٍ أَوْ هَمٍّ؛ لِأَنَّ الْغَضَبَ يُسْرِعُ مَعَ الْجُوعِ، وَالْفَهْمُ يَنْطَفِئُ مَعَ الشِّبَعِ وَالْقَلْبُ يَشْتَغِلُ مَعَ الْهَمِّ، فَمَهْمَا عَرَضَ لَهُ ذَلِكَ لَمْ يَجْلِسْ لِلْقَضَاءِ، وَإِنْ عَرَضَ لَهُ فِي الْمَجْلِسِ انْصَرَفَ.
وَمِنْهَا أَنْ يَتَّخِذَ لِجُلُوسِهِ وَقْتًا مَعْلُومًا لَا يَضُرُّ بِالنَّاسِ فِي مَعَايِشِهِمْ وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَجْلِسَ بَيْنَ الْعِشَاءَيْنِ وَلَا فِي وَقْتِ السَّحَرِ إلَّا فِي أَمْرٍ يَحْدُثُ مِمَّا لابد مِنْهُ.
وَفِي مُخْتَصَرِ الْوَاضِحَةِ وَلَا يَقْضِي بَيْنَ اثْنَيْنِ مِمَّنْ جَرَتْ الْخُصُومَةُ بَيْنَهُمَا عِنْدَهُ بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ، وَأَجَازَ أَشْهَبُ جُلُوسَهُ بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ، وَبَعْدَ أَذَانِ الظُّهْرِ، وَبَعْدَ صَلَاةِ الصُّبْحِ مَا لَمْ يَكُنْ مَجْلِسًا يُجْبَرُ عَلَيْهِ الْعَامَّةُ، وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَحْكُمَ فِي الطَّرِيقِ إلَّا فِي أَمْرٍ اُسْتُغِيثَ بِهِ فِيهِ فَلَا بَأْسَ أَنْ يَأْمُرَ وَيَنْهَى وَيَسْجُنَ، فَأَمَّا الْحُكْمُ الْفَاصِلُ فَلَا، وَأَجَازَ ذَلِكَ أَشْهَبُ، قَالَهُ ابْنُ حَبِيبٍ فِي مُخْتَصَرِ الْوَاضِحَةِ، قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ: وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَجْلِسَ فِي الْعِيدَيْنِ وَمَا قَارَبَ ذَلِكَ كَيَوْمِ عَرَفَةَ وَيَوْمِ التَّرْوِيَةِ وَيَوْمِ سَفَرِ الْحُجَّاجِ وَيَوْمِ قُدُومِهِ وَشُهُودِ الْمِهْرَجَانِ وَحُدُوثِ مَا يَعُمُّ مِنْ سُرُورٍ أَوْ حُزْنٍ، وَكَذَلِكَ إذَا كَثُرَ الْوَحَلُ وَالْمَطَرُ، قَالَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ: وَكَذَلِكَ يَوْمُ الْجُمُعَةِ، وَاسْتَثْنَى مِنْ هَذِهِ الْأَيَّامِ وَالْأَوْقَاتِ الْأُمُورَ الَّتِي يُخَافُ عَلَيْهَا الْفَوَاتُ وَمَا لَا يَسَعُهُ إلَّا تَعْجِيلُ النَّظَرِ فِيهِ.
وَذَكَرَ ابْنُ الْمَوَّازِ عَنْ أَشْهَبَ عَنْ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ قَالَ: يَنْبَغِي لِلْقَاضِي أَنْ يَكُونَ جُلُوسُهُ فِي سَاعَاتٍ مِنْ النَّهَارِ لِأَنِّي أَخَافُ أَنْ يُكْثِرَ فَيُخْطِئَ، وَلَيْسَ عَلَيْهِ أَنْ يُتْعِبَ نَفْسَهُ نَهَارَهُ كُلَّهُ، قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ أَنْ يُطِيلَ الْجُلُوسَ حَتَّى يَمَلَّ أَوْ يَمَلَّ غَيْرُهُ، وَلَكِنْ يَكُونُ لَهُ وَقْتٌ حَسَنٌ فِي صَدْرِ النَّهَارِ، وَإِنْ احْتَمَلَ أَنْ يَجْلِسَ بَعْدَ الْعَصْرِ جَلَسَ.
وَمِنْهَا أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يُسْرِعَ الْقِيَامَ تَشَاغُلًا بِمَا يُرِيدُ أَنْ يُؤْثِرَ مِنْ حَوَائِجِهِ، فَإِنْ عَرَضَتْ لَهُ حَاجَةٌ فَلَا بَأْسَ أَنْ يَقُومَ.
وَمِنْهَا أَنَّهُ يَنْبَغِي لِلْقَاضِي أَنْ يَكُونَ جُلُوسُهُ فِي مَجْلِسِ الْأَحْكَامِ مُتَرَبِّعًا أَوْ مُحْتَبِيًا، وَعَلَيْهِ السَّكِينَةُ وَالْوَقَارُ.
وَقَالَ مَالِكٌ فِي كِتَابِ مُحَمَّدٍ: وَلَا بَأْسَ أَنْ يَقْضِيَ وَهُوَ مُتَّكِئٌ. وَمِنْهَا أَنَّهُ لَا يَتَضَاحَكُ فِي مَجْلِسِهِ وَيَلْزَمُ الْعُبُوسَ مِنْ غَيْرِ غَضَبٍ وَيَمْنَعُ مِنْ رَفْعِ الصَّوْتِ عِنْدَهُ.
وَمِنْهَا أَنَّهُ لَا يَتَشَاغَلُ بِالْحَدِيثِ فِي مَجْلِسِ قَضَائِهِ إنْ أَرَادَ بِذَلِكَ إجْمَامَ نَفْسِهِ، وَإِذَا وَجَدَ الْفَتْرَةَ فَلْيَقُمْ مِنْ مَجْلِسِهِ وَيَدْخُلْ بَيْتَهُ وَيَدْفَعْ النَّاسَ عَنْهُ أَوْ يَدَعْ مَجْلِسَ قَضَائِهِ وَيَجْلِسْ لِلْحَدِيثِ مَعَ مَنْ أَحَبَّ إذَا أَرَادَ إجْمَامَ نَفْسِهِ، وَأَمَّا وَهُوَ يَقْضِي فَلَا يَنْبَغِي. وَأَجَازَ ذَلِكَ ابْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ مَعَ جُلَسَائِهِ وَهُوَ أَحْسَنُ مِنْ الْقِيَامِ.
وَمِنْهَا أَنَّهُ لَا يُكْثِرُ مِنْ الْقَضَاءِ جِدًّا حَتَّى يَأْخُذَهُ النُّعَاسُ وَالضَّجَرُ، فَإِنَّهُ إذَا عَرَضَ لَهُ ذَلِكَ رُبَّمَا أَحْدَثَ مَا لَا يَصْلُحُ، قَالَ ابْنُ حَبِيبٍ وَقَدْ قَالَ مَالِكٌ لِرَجُلٍ كَانَ يَلِي أَمْرَ السُّوقِ بِالْمَدِينَةِ وَكَانَ يَقْضِي بَيْنَ النَّاسِ لَا تُكْثِرْ فَتُخْطِئْ وَاجْعَلْ لِجُلُوسِكَ لِلْقَضَاءِ سَاعَاتٍ يَعْرِفْهَا النَّاسُ مِنْك فَيَأْتُوك فِيهَا، وَخَفِّفْ عَنْ نَفْسِك بِالنَّظَرِ فِي غَيْرِ ذَلِكَ.
وَمِنْهَا أَنْ يَجْعَلَ لِلرِّجَالِ مَجْلِسًا وَلِلنِّسَاءِ مَجْلِسًا إذَا كَانَتْ حُكُومَةُ كُلِّ نَوْعِ مَعَ نَوْعِهِ، فَإِذَا اجْتَمَعَتْ الرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ لِخُصُومَةٍ عَرَضَتْ لَهُمْ أَفْرَدَ لَهُمْ مَجْلِسًا، وَيَجْعَلُ لِأَهْلِ الذِّمَّةِ يَوْمًا أَوْ وَقْتًا بِقَدْرِ كَثْرَتِهِمْ وَقِلَّتِهِمْ وَيَجْلِسُ فِي الْمَسْجِدِ.

.الْفَصْلُ الرَّابِعُ فِي سِيرَةِ الْقَاضِي فِي الْأَحْكَامِ:

الْفَصْلُ الرَّابِعُ: فِي سِيرَتِهِ فِي الْأَحْكَامِ وَيَلْزَمُهُ فِي ذَلِكَ أُمُورٌ مِنْهَا، قَالَ أَشْهَبُ وَسَحْنُونٌ: لَا يَقْضِي الْقَاضِي حَتَّى لَا يَشُكَّ أَنْ قَدْ فَهِمَ، فَأَمَّا أَنْ يَظُنَّ أَنْ قَدْ فَهِمَ وَيَخَافُ أَنْ لَا يَكُونَ فَهِمَ لِمَا يَجِدُ مِنْ الْحَيْرَةِ فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَقْضِيَ بَيْنَهُمَا وَهُوَ يَجِدُ ذَلِكَ قَالَهُ ابْنُ يُونُسَ. وَمِنْهَا أَنَّ الْقَضِيَّةَ إذَا كَانَتْ مُشْكِلَةً فَيَكْشِفُ عَنْ حَقِيقَتِهَا فِي الْبَاطِنِ وَيَسْتَعِينُ بِذَلِكَ عَلَى الْوُصُولِ إلَى الْحَقِّ، وَقَدْ أَجَابَ الشَّيْخُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَتَّابٍ بَعْضَ الْحُكَّامِ فِي قَضِيَّةٍ أَشْكَلَتْ بِأَنْ قَالَ وَوَجْهُ الْخَلَاصِ فِي هَذَا عَلَى مَا كَانَتْ الْقُضَاةُ تَفْعَلُهُ فِي شِبْهِ ذَلِكَ أَنْ تَكْشِفَ فِي الْبَاطِنِ عَنْ ذَلِكَ، فَإِذَا انْكَشَفَ لَك أَمْرٌ اجْتَهَدْت عَلَى حَسَبِ مَا انْكَشَفَ لَك وَفَعَلْت مَا يَجِبُ فِي ذَلِكَ، فَقَدْ كَانَتْ الْقُضَاةُ- رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى- يَسْتَعِينُونَ بِالْكَشْفِ عَنْ بَاطِنِ الْقَضِيَّةِ وَلَا يَخْرُجُونَ فِي ذَلِكَ عَنْ الْوَاجِبِ.
وَمِنْهَا: قَالَ مَالِكٌ: لَا يُفْتِي الْقَاضِي فِي مَسَائِلِ الْقُضَاةِ وَأَمَّا فِي غَيْرِ ذَلِكَ فَلَا بَأْسَ بِهِ، وَكَانَ سَحْنُونٌ رَحِمَهُ اللَّهُ إذَا أَتَاهُ رَجُلٌ يَسْأَلُهُ عَنْ مَسْأَلَةٍ مِنْ مَسَائِلِ الْأَحْكَامِ لَمْ يُجِبْهُ.
وَقَالَ هَذِهِ مَسْأَلَةُ خُصُومَةٍ مِنْ ابْنِ يُونُسَ. وَمِنْهَا إحْضَارُ الْعُدُولِ فِي مَجْلِسِ قَضَائِهِ. قَالَ الْمَازِرِيُّ: يُؤْمَرُ الْقَاضِي بِذَلِكَ وَيَتَأَكَّدُ الْأَمْرُ بِهِ عَلَى الْقَوْلِ أَنَّ الْقَاضِيَ لَا يَحْكُمُ بِعِلْمِهِ فِيمَا أَقَرَّ بِهِ الْخَصْمُ فِي مَجْلِسِهِ.
وَمِنْهَا أَنَّهُمْ قَالُوا لَا يَقْضِي الْقَاضِي إلَّا بِحَضْرَةِ أَهْلِ الْعِلْمِ وَمَشُورَتِهِمْ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ لِنَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ} [آل عمران: 159] قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: كَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُسْتَغْنِيًا عَنْ مُشَاوَرَتِهِمْ، وَلَكِنَّهُ أَرَادَ أَنْ تَصِيرَ سُنَّةً لِلْحُكَّامِ، قَالَ أَشْهَبُ: إلَّا أَنْ يَخَافَ الْمَضَرَّةَ مِنْ جُلُوسِهِمْ وَيَشْتَغِلَ قَلْبُهُ بِهِمْ وَبِالْحَذَرِ مِنْهُمْ حَتَّى يَكُونَ ذَلِكَ نُقْصَانًا فِي فَهْمِهِ، فَأَحَبُّ إلَيَّ أَنْ لَا يَجْلِسُوا إلَيْهِ. قَالَ ابْنُ سَحْنُونٍ عَنْ أَبِيهِ: لَا يَنْبَغِي لِلْقَاضِي أَنْ يَكُونَ مَعَهُ فِي مَجْلِسِهِ مَنْ يُشْغِلُهُ عَنْ النَّظَرِ كَانُوا أَهْلَ فِقْهٍ أَوْ غَيْرَهُمْ فَإِنَّ ذَلِكَ يُدْخِلُ عَلَيْهِ الْحَصْرَ وَالِاهْتِمَامَ بِمَنْ مَعَهُ.
وَقَالَهُ مُطَرِّفٌ وَابْنُ الْمَاجِشُونِ، قَالَا: وَلَكِنْ إذَا ارْتَفَعَ عَنْ مَجْلِسِ الْقَضَاءِ شَاوَرَ. تَنْبِيهٌ إطْلَاقُهُمْ الْمُشَاوِرَةَ ظَاهِرُهُ كَانَ عَالِمًا بِالْحُكْمِ أَوْ جَاهِلًا.
وَفِي (الطُّرَرِ) لِابْنِ عَاتٍ فِي الْجُزْءِ الثَّالِثِ: لَا يَجُوزُ لِلْحَاكِمِ أَنْ يُشَاوِرَ فِيمَا يَحْكُمُ فِيهِ وَهُوَ جَاهِلٌ لَا يُمَيِّزُ الْحَقَّ مِنْ الْبَاطِلِ؛ لِأَنَّهُ إذَا أُشِيرَ عَلَيْهِ وَهُوَ جَاهِلٌ بِالْحُكْمِ لَمْ يَعْلَمْ إنْ كَانَ حَكَمَ بِحَقٍّ أَوْ بِبَاطِلٍ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَحْكُمَ بِمَا لَا يَعْلَمُ أَنَّهُ الْحَقُّ، وَلَا يَحْكُمَ بِقَوْلِ مَنْ أَشَارَ عَلَيْهِ تَقْلِيدًا لَهُ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُ الْحَقُّ مِنْ حَيْثُ تَبَيَّنَ لِلَّذِي أَشَارَ عَلَيْهِ بِدَلَالَةٍ تَظْهَرُ لَهُ.
وَفِي شَرْحِ التَّلْقِينِ قَالَ الْمَازِرِيُّ الْقَاضِي مَأْمُورٌ بِالِاسْتِشَارَةِ وَلَوْ كَانَ عَالِمًا؛ لِأَنَّ مَا فَكَّرَ فِيهِ الْفُقَهَاءُ وَبَحَثُوا فِيهِ تَثِقُ النَّفْسُ بِهِ مَا لَا تَثِقُ بِوَاحِدٍ إذَا اسْتَبَدَّ بِرَأْيِهِ، وَلَا يَمْنَعُ مِنْ ذَلِكَ كَوْنُهُمْ مُقَلِّدِينَ لِاخْتِلَافِهِمْ فِي الْفَتْوَى فِيمَا لَيْسَ بِمَسْطُورٍ بِحَسَبِ مَا يَظُنُّ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ أَنَّهُ مُقْتَضَى أُصُولِ الْمَذْهَبِ.
وَفِي ابْنِ يُونُسَ قَالَ سَحْنُونٌ: إذَا شَهِدَ الْعَالِمُ عِنْدَ الْقَاضِي فِي شَيْءٍ فَأَعْيَاهُ الْحُكْمُ فِيهِ فَأَرَادَ مَشُورَةَ الْعَالِمِ فِي وَجْهِ الْحُكْمِ فِي ذَلِكَ فَلَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَسْتَشِيرَهُ فِيمَا يَشْهَدُ فِيهِ.
وَقَالَ غَيْرُ سَحْنُونٍ: لَا بَأْسَ بِذَلِكَ، وَحَكَاهُ ابْنُ رُشْدٍ، قَالَ الْمَازِرِيُّ: وَوَجْهُ قَوْلِ سَحْنُونٍ أَنَّ التُّهْمَةَ تُتَصَوَّرُ فِي الْفَتْوَى كَمَا تُتَصَوَّرُ فِي الشَّهَادَةِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يُتَّهَمُ هَذَا الْعَالِمُ أَنَّهُ أَرَادَ أَنْ يُؤَكِّدَ شَهَادَتَهُ وَيُمْضِيَهَا بِقَوْلِهِ بِمَا يَقْتَضِي مَضَاءَهَا، وَإِذَا عَزَمَ عَلَى الِاسْتِشَارَةِ فَلَا يُشَاوِرُ إلَّا مَنْ يَسْتَأْهِلُ أَنْ يُشَاوِرَهُ لِعِلْمِهِ وَدِينِهِ وَنَظَرِهِ وَمَعْرِفَتِهِ بِأَحْكَامِ مَنْ مَضَى، فَإِنْ اخْتَلَفُوا عَلَيْهِ نُظِرَ إلَى أَشْبَهِ ذَلِكَ بِالْحَقِّ فَأَخَذَ بِهِ. وَمِنْهَا: لِأَنَّهُ إذَا أَشْكَلَ عَلَى الْقَاضِي أَمْرٌ تَرَكَهُ.
وَقَالَ سَحْنُونٌ: لَا بَأْسَ أَنْ يَأْمُرَ فِيهِ بِالصُّلْحِ، قَالَ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ: قَدْ يُشْكِلُ عَلَى الْقَاضِي كَلَامُ الْخَصْمَيْنِ وَهَذَا مَانِعٌ لَهُ مِنْ التَّصَوُّرِ، فَيَأْمُرُهُمَا بِالْإِعَادَةِ حَتَّى يَفْهَمَ عَنْهُمَا، وَقَدْ يَفْهَمُ عَنْهُمَا وَيُشْكِلُ عَلَيْهِ وَجْهُ الْحُكْمِ، وَهَذَا هُوَ مَعْنَى قَوْلِهِمْ: إذَا أَشْكَلَ عَلَى الْقَاضِي أَمْرٌ تَرَكَهُ وَلَا يَحِلُّ لَهُ الْإِقْدَامُ عَلَى الْحُكْمِ بِاتِّفَاقٍ، ثُمَّ لِلْقَاضِي حِينَئِذٍ أَنْ يُرْشِدَهُمَا لِلصُّلْحِ. قَالَ: وَالْأَقْرَبُ إنْ كَانَ هُنَالِكَ قَاضٍ غَيْرُهُ صَرَفَهُمَا إلَيْهِ لِاحْتِمَالِ أَنْ لَا يُشْكِلَ عَلَيْهِ الْحُكْمُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي الْبَلَدِ غَيْرُهُمَا بِالصُّلْحِ إنْ كَانَ مِنْ الْأَحْكَامِ الْمَالِيَّةِ وَغَيْرِهَا الَّتِي يَتَأَتَّى فِيهَا الصُّلْحُ.
وَفِي (الْمُتَيْطِيَّةِ) إذَا أَشْكَلَ عَلَى الْقَاضِي وَجْهُ الْحَقِّ أَمَرَهُمْ بِالصُّلْحِ فَإِنْ تَبَيَّنَ لَهُ وَجْهُ الْحُكْمِ فَلَا يَعْدِلُ إلَى الصُّلْحِ وَلْيَقْطَعْ بِهِ، فَإِنْ خَشِيَ مِنْ تَفَاقُمِ الْأَمْرِ بِإِنْفَاذِ الْحُكْمِ بَيْنَ الْخَصْمَيْنِ أَوْ كَانَا مِنْ أَهْلِ الْفَضْلِ أَوْ بَيْنَهُمَا رَحِمٌ أَقَامَهُمَا وَأَمَرَهُمَا بِالصُّلْحِ، وَقَدْ أَقَامَ سَحْنُونٌ رَجُلَيْنِ مِنْ صَالِحِي جِيرَانِهِ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَقَالَ اُسْتُرَا عَلَى أَنْفُسِكُمَا وَلَا تُطْلِعَانِي عَلَى سِرِّكُمَا.
وَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ رَدِّدُوا الْقَضَاءَ بَيْنَ ذَوِي الْأَرْحَامِ حَتَّى يَصْطَلِحُوا فَإِنَّ فَصْلَ الْقَضَاءِ يُورِثُ الضَّغَائِنَ.
وَفِي (الطُّرَرِ) لِابْنِ عَاتٍ قَالَ بَعْضُهُمْ: إنَّمَا يَجُوزُ لِلْقَاضِي أَنْ يَأْمُرَ بِالصُّلْحِ إذَا تَقَارَبَتْ الْحُجَّتَانِ مِنْ الْخَصْمَيْنِ، غَيْرَ أَنَّ أَحَدَهُمَا يَكُونُ أَلْحَنَ بِحُجَّتِهِ مِنْ الْآخَرِ أَوْ تَكُونُ الدَّعْوَى فِي أُمُورٍ دَرَسَتْ وَتَقَادَمَتْ وَتَشَابَهَتْ، وَأَمَّا إذَا تَبَيَّنَ لِلْحَاكِمِ مَوْضِعَ الظَّالِمِ مِنْ الْمَظْلُومِ لَمْ يَسَعْهُ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى إلَّا فَصْلُ الْقَضَاءِ.
وَقَالَ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ وَلَا أَرَى لِلْوَالِي أَنْ يُلِحَّ عَلَى أَحَدِ الْخَصْمَيْنِ أَوْ يَعْرِضَ عَنْ خُصُومَتِهِ لِأَجْلِ أَنْ يُصَالِحَ.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ: لَا يَنْبَغِي لِلْقَاضِي أَنْ يَرُدَّهُمْ أَكْثَرَ مِنْ مَرَّتَيْنِ إنْ طَمِعَ بِالصُّلْحِ فِيمَا بَيْنَهُمْ، فَإِنْ لَمْ يَطْمَعْ بِذَلِكَ أَنْفَذَ بَيْنَهُمْ الْقَضَاءَ.
وَقَالَ بَعْضُهُمْ: قَوْلُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ (رَدِّدُوا الْقَضَاءَ بَيْنَ ذَوِي الْأَرْحَامِ) مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ إنَّمَا يَجِبُ أَنْ يَرُدَّهُمَا مَا لَمْ يَجِبْ الْحَقُّ لِأَحَدِهِمَا، فَإِذَا وَجَبَ الْحَقُّ لَمْ يَنْبَغِ لِلْقَاضِي أَنْ يُؤَخِّرَ إنْفَاذَهُ.
وَمِنْهَا أَنَّهُ إذَا طَالَ الْخِصَامُ فِي أَمْرٍ وَكَثُرَ التَّشْعِيبُ فِيهِ فَلَا بَأْسَ لِلْقَاضِي أَنْ يُحَرِّقَ كُتُبَهُمْ إذَا رَجَا بِذَلِكَ تَقَارُبَ أَمْرِهِمْ، وَاسْتَحْسَنَ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ ذَلِكَ، لَمَّا حَدَثَ أَنَّ قَاضِيًا فِي زَمَانِ أَبَانَ بْنِ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَعَلَهُ وَرَوَاهُ عَنْهُ الْقَاسِمُ، هَكَذَا ذَكَرَهُ فِي (الْمُتَيْطِيَّةِ) وَذَكَرَ فِي مُخْتَصَرِ الْوَاضِحَةِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ اسْتِشْهَادًا بِهَا عَلَى مَسْأَلَةٍ، وَهِيَ إذَا حَكَمَ الْقَاضِي لِرَجُلَيْنِ بِقَضَاءَيْنِ فِي شَيْءٍ وَاحِدٍ فَيَقُومَانِ عِنْدَ قَاضٍ غَيْرِهِ كُلُّ وَاحِدٍ مَعَهُ حُكْمُ ذَلِكَ الْقَاضِي فِي الشَّيْءِ الْمُتَنَازَعِ فِيهِ أَنَّهُ لَهُ قَالَ فَحَائِزُهُ مِنْهُمَا أَوْلَى بِهِ، إلَّا أَنْ يَكُونَ الْحَائِزُ قَدْ حُكِمَ لَهُ بِهِ أَوْ لَا، وَفِي قَضِيَّةِ الثَّانِي مَا يَفْسَخُ ذَلِكَ فَتُرَدُّ قَضِيَّةُ الْأَوَّلِ، فَإِنْ لَمْ يَحُزْهُ وَاحِدٌ مِنْهُمَا أَوْ لَمْ يُعْلَمْ الْأَوَّلُ مِنْ الْآخَرِ فَأَعْدَلُهُمَا بَيِّنَةً فَإِنْ تَكَافَأَتَا وَالْقَضِيَّتَانِ مُؤَرَّخَتَانِ فَأَوَّلُهُمَا أَوْلَى إلَّا أَنْ يَكُونَ فِي الثَّانِيَةِ مَا يُفْسِخُهُمَا، فَإِنْ كَانَتْ إحْدَاهُمَا مُؤَرَّخَةً دُونَ الْأُخْرَى فَالْمُؤَرَّخَةُ أَوْلَى، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ تَارِيخٌ وَلَمْ يَكُنْ فِي يَدِ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَأَشْكَلَ الْأَمْرُ عَلَى الْحَاكِمِ وَرَأَى أَنْ يَقْطَعَ الْقَضِيَّتَيْنِ وَيَسْتَأْنِفَ الْحُكْمَ فَعَلَ، وَهَذَا إذَا كَانَتَا جَمِيعًا صَوَابًا فَإِنْ كَانَتْ إحْدَاهُمَا فَلَا إشْكَالَ فِي رَدِّ مَا كَانَ الْحُكْمُ فِيهَا خَطَأً، وَذَكَرَ أَنَّهُ سَمِعَ مَالِكًا يَقُولُ فِي قَاضٍ مِنْ قُضَاةِ الْمَدِينَةِ أُتِيَ بِكُتُبِ أَقْضِيَةٍ مُخْتَلِطَةٍ قَدْ تَقَادَمَ شَأْنُهَا وَاخْتَلَفَ أَمْرُهَا فَقَطَعَهَا وَأَمَرَ الْخَصْمَيْنِ بِالِاسْتِئْنَافِ، فَرَأَيْت مَالِكًا أَعْجَبَهُ ذَلِكَ، وَرَأَى أَنَّهُ قَدْ أَصَابَ، وَكَذَلِكَ يَنْبَغِي لِلْقُضَاةِ إذَا رُفِعَتْ إلَيْهِمْ أُمُورٌ مُشْكِلَةٌ وَلَمْ يَجِدُوا لَهَا مَخْرَجًا أَنْ يَفْسَخُوهَا وَيَأْمُرُوهُمْ بِالِابْتِدَاءِ..

.الْفَصْلُ الْخَامِسُ فِيمَا يَبْتَدِئُهُ الْقَاضِي بِالنَّظَرِ فِيهِ:

الْفَصْلُ الْخَامِسُ فِيمَا يَبْتَدِئُ بِالنَّظَرِ فِيهِ وَيَلْزَمُهُ أَنْ يَكُونَ مِنْ أَوَّلِ مَا يَبْتَدِئُ بِهِ الْكَشْفَ عَنْ الشُّهُودِ وَالْمُوَثِّقِينَ فَيَتَعَرَّفُ حَالَ مَنْ لَا يَعْرِفُ مِنْهُمْ، وَيَفْحَصُ عَنْ عَدَالَتِهِمْ، فَمَنْ كَانَ عَدْلًا أَثْبَتَهُ وَمَنْ كَانَ فِيهِ جُرْحَةٌ أَسْقَطَهُ وَأَرَاحَ الْمُسْلِمِينَ مِنْ أَذِيَّتِهِ، وَلَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَتْرُكَ غَيْرَ الْمَرْضِيِّ يَنْتَصِبُ لِلنَّاسِ فَإِنَّهَا خَدِيعَةٌ لِلْمُسْلِمِينَ وَوَصْمَةٌ فِي شَعَائِرِ الدِّينِ، وَعَلَيْهِ أَنْ يُصَرِّحَ بِعَزْلِ هَؤُلَاءِ وَيُسَجِّلَ عَلَى شَاهِدِ الزُّورِ كِتَابًا مُخَلَّدًا بَعْدَ عُقُوبَتِهِ، وَقَدْ ذَكَرْتُهُ فِي بَابِ التَّعْزِيرِ فِي الْقِسْمِ الثَّالِثِ وَكَذَلِكَ يَجِبُ عَلَيْهِ الْكَشْفُ عَنْ الْمَحْبُوسِينَ فَيَنْظُرُ فِي أَمْرِهِمْ وَفِي مُدَّةِ إقَامَتِهِمْ فِي الْحَبْسِ، فَقَدْ يَكُونُ فِيهِمْ مَنْ طَالَتْ إقَامَتُهُ فَتَكُونُ إقَامَتُهُ فِي الْحَبْسِ ظُلْمًا ثُمَّ يَنْظُرُ فِي الْأَوْصِيَاءِ وَأَمْوَالِ الْأَيْتَامِ وَيَأْمُرُ مَنْ يُنَادِي عَنْ إذْنِهِ أَنَّهُ قَدْ حَجَرَ عَلَى يَتِيمٍ لَا وَلِيَّ لَهُ، وَعَلَى كُلِّ سَفِيهٍ مُسْتَوْجِبٍ الْوِلَايَةَ عَلَيْهِ وَأَنَّهُ مَنْ عَلِمَ مِنْكُمْ أَحَدًا مِنْ هَذَيْنِ النَّوْعَيْنِ فَلْيَرْفَعْ أَمْرَهُ إلَيْنَا لِنُوَلِّيَ عَلَيْهِ، وَمَنْ بَاعَ مِنْهُمَا بَعْدَ النِّدَاءِ فَهُوَ مَرْدُودٌ.
وَفِي مُخْتَصَرِ الْوَاضِحَةِ أَنْ يَأْمُرَ مُنَادِيَهُ يُنَادِي أَنَّ كُلَّ يَتِيمٍ لَمْ يَبْلُغْ لَا وَصِيَّ لَهُ وَلَا وَكِيلَ، وَكُلَّ سَفِيهٍ مُسْتَوْجِبٍ لِلْوِلَايَةِ فَقَدْ مَنَعْت النَّاسَ مُدَايِنَتَهُ وَمُتَاجَرَتَهُ، وَمَنْ عَلِمَ مِنْكُمْ مَكَانَ وَاحِدٍ مِنْ هَؤُلَاءِ فَلْيَرْفَعْهُ إلَيْنَا لِنُوَلِّيَ عَلَيْهِ وَنَحْجُرُهُ، فَمَنْ دَايَنَهُ بَعْدَ مُنَادِي الْإِمَامِ أَوْ بَاعَ مِنْهُ أَوْ ابْتَاعَ فَهُوَ مَرْدُودٌ، وَقَدْ يَكُونُ فِعْلُهُ مَرْدُودًا أَيْضًا قَبْلَ نِدَاءِ الْإِمَامِ، إذَا كَانَ مُتَّصِلُ الْوِلَايَةِ مِنْ يَوْمِ بَلَغَ وَالنِّدَاءُ يَجْمَعُ لَهُ الْأَمْرَيْنِ جَمِيعًا. تَنْبِيهٌ وَهَذَا النِّدَاءُ فِي حَقِّ السَّفِيهِ إنَّمَا يَكُونُ عَلَى مَذْهَبِ مَنْ يَرَى أَنَّ أَفْعَالَ السَّفِيهِ جَائِزَةٌ مَا لَمْ يُوَلَّ عَلَيْهِ أَوْ يُضْرَبْ عَلَى يَدِهِ، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ مَالِكٍ وَعَلَيْهِ أَكْثَرُ أَصْحَابِهِ، وَأَمَّا عَلَى مَذْهَبِ مَنْ يَرَى أَنَّ أَفْعَالَهُ مَرْدُودَةٌ وَهُوَ مَذْهَبُ ابْنِ الْقَاسِمِ وَمُطَرِّفٍ فَلَا يَحْتَاجُ إلَى هَذَا النِّدَاءِ الْمَذْكُورِ.
مَسْأَلَةٌ:
قَالَ ابْنُ حَبِيبٍ: أَخْبَرَنِي أَصْبَغُ عَنْ ابْنِ الْقَاسِمِ فِيمَا رُفِعَ إلَى الْقُضَاةِ مِنْ أَمْوَالِ الْيَتَامَى أَنَّ الَّذِي يَفْعَلُهُ بَعْضُ الْقُضَاةِ مِنْ تَضْمِينِهَا لِرِجَالٍ يَكُونُ لَهُمْ رِبْحًا وَعَلَيْهِمْ ضَمَانُهَا- خَطَأٌ وَحَرَامٌ لَا يَحِلُّ، وَلَكِنْ يَسْتَوْدِعُهَا لَهُمْ مَنْ يُوثَقُ بِهِ، وَإِنْ رَأَى الْقَاضِي أَوْ الْوَصِيُّ أَنْ يَدْفَعَهَا إلَى مَنْ يَتَّجِرُ لَهُمْ فِيهَا أَوْ يُقَارِضُ لَهُمْ عَلَى وَجْهِ النَّظَرِ فَذَلِكَ حَسَنٌ، وَانْظُرْ فِي الْقِسْمِ الْخَامِسِ فِي تَوْقِيفِ مَالِ الْيَتِيمِ مَا أَحْدَثَهُ قُضَاةُ الْقَيْرَوَانِ.
مَسْأَلَةٌ:
فَإِنْ لَمْ يَجِدْ وَاتَّجَرَ فِيهَا الْوَصِيُّ لِنَفْسِهِ أَوْ الَّذِي يَسْتَوْدِعُهَا الْقَاضِي إيَّاهُ فَلَا بَأْسَ بِذَلِكَ، إنْ كَانَ لَهُ مَالٌ أَوْ وَفَاءٌ وَالتَّنَزُّهُ عَنْهُ أَفْضَلُ.
وَقَالَ ابْنُ الْمَاجِشُونِ مَنْ تَعَدَّى فِي مَالٍ فِي يَدَيْهِ بِوَدِيعَةٍ أَوْ نَحْوِهَا فَاتَّجَرَ فِيهَا وَهُوَ مَلِيءٌ أَوْ مُفْلِسٌ فَالرِّبْحُ لَهُ، وَهُوَ ضَامِنٌ لِلْمَالِ فِي مَالِهِ وَذِمَّتِهِ، لَا فِي وَلِيِّ الْيَتِيمِ إذَا كَانَ مُفْلِسًا، وَاتَّجَرَ فِي مَالِ يَتِيمِهِ لِنَفْسِهِ، فَإِنَّ مَالِكًا قَالَ إنْ تَلِفَ بِذَلِكَ الْمَالُ صَارَ لَهُ ضَامِنًا فِي ذِمَّتِهِ لِاتِّجَارِهِ بِهِ، وَإِنْ رَبِحَ فَالرِّبْحُ لِلْيَتِيمِ؛ لِأَنَّهُ كَالنَّاظِرِ لَهُ فِي نَفْسِهِ وَمَالِهِ، فَلَمْ يَكُنْ مِنْ النَّظَرِ لَهُ أَنْ يَتَّجِرَ لِنَفْسِهِ فِي مَالِهِ وَلَا وَفَاءَ عِنْدَهُ بِهِ، وَإِنْ كَانَ لَهُ بِهِ وَفَاءٌ وَكَانَ ظَاهِرَ الْمَلَاءِ فَالرِّبْحُ لَهُ سَائِغٌ، قَالَ ابْنُ حَبِيبٍ قَالَ لِي ابْنُ الْمَاجِشُونِ: وَأَنَا أَقُولُ بِهِ وَقَدْ أَبَاهُ الْمُغِيرَةُ وَغَيْرُهُ مِنْ أَصْحَابِنَا، وَقَالُوا: الْمُفْلِسُ وَالْمُوسِرُ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ، وَوَلِيُّ الْيَتِيمِ فِي ذَلِكَ كَغَيْرِهِ. قَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ: وَبِهَذَا قَالَ الْمِصْرِيُّونَ وَهُوَ قَوْلُ الْعَامَّةِ وَقَوْلُ مَالِكٍ فِيهِ أَحَبُّ إلَيَّ، وَبِهِ أَقُولُ.
مَسْأَلَةٌ:
وَقَدْ قَالَ مَالِكٌ لَا بَأْسَ لِوَصِيِّ الْيَتِيمِ أَنْ يُنَاوِلَ الْمِسْكِينَ مِنْ مَالِ الْيَتِيمِ بِالْكِسْرَةِ وَخَلَقِ الثَّوْبِ وَالْفُلُوسِ، أَوْ يَمُرُّ بِهِ سَائِلٌ وَهُوَ فِي حَائِطِهِ أَوْ فِي حَرْثِهِ فَيُنَاوِلَهُ الثَّمَرَاتِ وَالْقَبْضَةَ مِنْ الطَّعَامِ وَالشَّرْبَةَ مِنْ اللَّبَنِ، هَذَا وَمَا أَشْبَهَهُ حَسَنٌ تُرْجَى بَرَكَةُ ذَلِكَ لِلْيَتِيمِ وَلِمَالِهِ مِنْ مُخْتَصَرِ الْوَاضِحَةِ لِفَضْلِ بْنِ سَلَمَةَ.

.الْفَصْلُ السَّادِسُ فِي سِيرَتِهِ مَعَ الْخُصُومِ:

وَيَنْبَغِي لَهُ أُمُورٌ: مِنْهَا أَنَّهُ إذَا حَضَرَ الْخَصْمَانِ بَيْنَ يَدَيْهِ فَلْيُسَوِّ بَيْنَهُمَا فِي النَّظَرِ إلَيْهِمَا وَالتَّكَلُّمِ مَعَهُمَا مَا لَمْ يَتَعَدَّ أَحَدُهُمَا، فَلَا بَأْسَ أَنْ يَسُوءَ نَظَرُهُ إلَيْهِ تَأْدِيبًا لَهُ وَيَرْفَعَ صَوْتَهُ عَالِيًا لِمَا صَدَرَ مِنْهُ مِنْ اللَّدَدِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَهَذَا إذَا عَلِمَ اللَّهُ تَعَالَى مِنْهُ أَنَّهُ لَوْ كَانَ ذَلِكَ مِنْ صَاحِبِهِ فَعَلَ بِهِ مِثْلَ ذَلِكَ، وَيَحُضُّهُمَا عِنْدَ ابْتِدَاءِ الْمُحَاكَمَةِ عَلَى التُّؤَدَةِ وَالْوَقَارِ وَيُسَكِّنُ جَأْشَ الْمُضْطَرِبِ مِنْهُمَا، وَيُؤَمِّنُ رَوْعَ الْخَائِفِ وَالْحَصِرِ فِي الْكَلَامِ حَتَّى يَذْهَبَ عَنْهُ ذَلِكَ وَلْيُقْعِدْهُمَا بَيْنَ يَدَيْهِ ضَعِيفَيْنِ كَانَا أَوْ قَوِيَّيْنِ أَوْ ضَعِيفًا مَعَ قَوِيٍّ، وَلَا يُقَرِّبُ أَحَدَهُمَا إلَيْهِ وَلَا يُقْبِلُ عَلَيْهِ دُونَ خَصْمِهِ، وَلَا يَمِيلُ إلَى أَحَدِهِمَا بِالسَّلَامِ فَيَخُصُّهُ بِهِ وَلَا بِالتَّرْحِيبِ، وَلَا يَرْفَعُ مَجْلِسَهُ وَلَا يَسْأَلُ أَحَدَهُمَا عَنْ حَالِهِ وَلَا عَنْ خَبَرِهِ، وَلَا عَنْ شَيْءٍ مِنْ أُمُورِهِمَا فِي مَجْلِسِهِمَا ذَلِكَ، وَلَا يُسَارِرْهُمَا جَمِيعًا وَلَا أَحَدَهُمَا، فَإِنَّ ذَلِكَ يُجَرِّئُهُمَا عَلَيْهِ وَيُطْمِعُهُمَا فِيهِ، وَمَا جَرَّ إلَى التَّهَاوُنِ بِحُدُودِ اللَّهِ تَعَالَى فَمَمْنُوعٌ، وَأَجَازَ أَشْهَبُ أَنْ يُسَارِرَهُمَا جَمِيعًا فِي السِّرِّ، وَلَا يَكْتُبَ إلَيْهِمَا وَلَا لِأَحَدِهِمَا، وَإِنْ احْتَاجَ إلَى ذَلِكَ أَحَدُهُمَا مَا دَامَتْ الْخُصُومَةُ، إلَّا أَنْ يَجْمَعَهُمَا فِي الْكِتَابِ، أَمَّا إذَا كَانَ السِّرُّ فِي خُصُومَتِهِمَا فَيُكْرَهُ عِنْدَ أَشْهَبَ أَيْضًا، وَلَوْ جَمَعَهُمَا فِيهِ؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ لَا يَكُونُ إلَّا بِالْإِعْلَانِ وَذَلِكَ مِمَّا يُوهِنُ الْحُكْمَ وَيُضْعِفُ نَفْسَ الْآخَرِ وَيُوهِنُهُ وَيُوقِعُ الْمَظِنَّةَ بِالْقَاضِي، وَإِذَا سَلَّمَ عَلَيْهِ خَصْمَانِ لَمْ يَزِدْ عَلَى أَنْ يَقُولَ وَعَلَيْكُمْ السَّلَامُ، فَإِنْ زَادَ أَحَدُهُمَا فِي ذَلِكَ لَمْ يَزِدْ الْقَاضِي عَلَى رَدِّ السَّلَامِ شَيْئًا مِنْ الطُّرَرِ.
قَالَ أَصْبَغُ فِي الْوَاضِحَةِ يُسَوَّى بَيْنَهُمَا وَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا ذِمِّيًّا فَإِنْ أَبَى ذَلِكَ الْمُسْلِمُ وَهُوَ الطَّالِبُ فَلَا يَحْكُمُ لَهُ وَلَا يَنْظُرُ فِي أَمْرِهِ حَتَّى يَتَسَاوَيَا فِي الْمَجْلِسِ وَيَرْضَى بِالْحَقِّ، فَإِنْ كَانَ هُوَ الْمَطْلُوبُ قَالَ الْقَاضِي لِلْمُسْلِمِ إمَّا تُسَاوِيهِ فِي الْمَجْلِسِ وَإِلَّا نَظَرْت لَهُ وَسَمِعْت مِنْهُ وَلَمْ أَلْتَفِتْ إلَيْك وَلَمْ أَسْمَعْ مِنْك، فَإِنْ فَعَلَ نَظَرَ لَهُ، قَالَ أَبُو الْحَسَنِ الْمُتَيْطِيُّ: وَقِيلَ لَا يُسَوِّي بَيْنَهُمَا لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا تُسَاوُوهُمْ فِي الْمَجْلِسِ» قَالَ الْمَازِرِيُّ وَاسْتَحْسَنَ بَعْضُ أَشْيَاخِي تَمْيِيزَ رُتْبَةِ الْمُسْلِمِ عَلَى الذِّمِّيِّ: «لِنَهْيِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنْ يُسَوَّى بَيْنَ الْمُسْلِمِ وَالذِّمِّيِّ فِي الْمَجَالِسِ»، وَذَكَرَ أَنَّ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ خَاصَمَ يَهُودِيًّا عِنْدَ الْقَاضِي شُرَيْحٍ فَجَلَسَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي صَدْرِ الْمَجْلِسِ وَجَلَسَ شُرَيْحٌ وَالذِّمِّيُّ دُونَهُ.
وَقَالَ عَلِيٌّ لَوْلَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ مُسَاوَمَتِهِمْ فِي الْمَجَالِسِ لَجَلَسْت مَعَهُ، قَالَ الْمُتَيْطِيُّ وَأَرَى أَنْ يَجْلِسَا جَمِيعًا بَيْنَ يَدَيْهِ وَيَتَقَدَّمَهُ الْمُسْلِمُ بِالشَّيْءِ الْيَسِيرِ، وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ اللَّخْمِيُّ وَبَعْضُ الْعُلَمَاءِ الْمُتَقَدِّمِينَ، قَالَ مُطَرِّفُ وَابْنُ الْمَاجِشُونِ وَلَا يَنْبَغِي لِلْقَاضِي أَنْ يُدْخِلَ عَلَيْهِ أَحَدَ الْخَصْمَيْنِ دُونَ صَاحِبِهِ لَا فِي مَجْلِسِ قَضَائِهِ وَلَا فِي خَلْوَتِهِ وَلَا فِي جَمَاعَةٍ، وَإِنْ كَانَ الَّذِي بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ خَاصًّا حَتَّى تَنْقَضِيَ خُصُومَتُهُمَا، إلَّا أَنْ يَجْلِسَ خَارِجًا فِي مَجْلِسِهِ الَّذِي يَجْلِسُ النَّاسُ مَعَهُ فِيهِ فِي غَيْرِ مَجْلِسِ قَضَائِهِ فَلَا بَأْسَ أَنْ يُجْلِسَ فِيهِ أَحَدَ الْخَصْمَيْنِ إنْ شَاءَ، وَلَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يُضِيفَ أَحَدَهُمَا أَوْ يَخْلُوَ مَعَهُ أَوْ يَقِفَ مَعَهُ فَإِنَّ ذَلِكَ مِمَّا يُدْخِلُ عَلَيْهِ سُوءَ الظَّنِّ بِهِ، وَإِذَا أَرَادَ الْإِحْسَانَ إلَى أَحَدِهِمَا وَصَلَهُ حَيْثُ هُوَ إلَّا أَنْ يُضِيفَ الْخَصْمَيْنِ جَمِيعًا فَلَا بَأْسَ بِذَلِكَ، وَلَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يُجِيبَ أَحَدَهُمَا فِي غَيْبَةِ الْآخَرِ إلَّا أَنْ يَظْهَرَ لَهُ اللَّدَدُ مِنْ الْخَصْمِ الْغَائِبِ أَوْ لَا يَعْرِفُ وَجْهَ خُصُومَةِ الْمُدَّعِي فَلَا بَأْسَ أَنْ يَسْأَلَهُ عَنْ ذَلِكَ لِيَعْرِفَ حَقِيقَةَ أَمْرِهِ قَالَهُ الْمُتَيْطِيُّ.
وَمِنْهَا أَنَّهُ لَا بَأْسَ أَنْ يُلَقِّنَ أَحَدَهُمَا حُجَّةً عَمِيَ عَنْهَا، وَإِنَّمَا كُرِهَ لَهُ أَنْ يُلَقِّنَهُ حُجَّةَ الْفُجُورِ. وَصُورَةُ ذَلِكَ أَنْ يَقُولَ لِخَصْمِهِ يَلْزَمُك عَلَى قَوْلِك كَذَا وَكَذَا فَيَفْهَمُ خَصْمُهُ حُجَّتَهُ، وَلَا يَقُولُ لِمَنْ لَهُ الْمَنْفَعَةُ: قُلْ لَهُ كَذَا.
وَقَالَ أَشْهَبُ لِلْقَاضِي أَنْ يَشُدَّ عَضُدَ أَحَدِهِمَا إذَا رَأَى مِنْهُ ضَعْفًا أَوْ يَرَاهُ يَخَافُهُ لِيَنْشَطَ وَيَنْبَسِطَ أَمَلُهُ فِي الْإِنْصَافِ.
وَقَالَ عَبْدُ الْحَكَمِ: لَا بَأْسَ أَنْ يُلَقِّنَهُ حُجَّةً لَا يَعْرِفُهَا، وَخَالَفَ سَحْنُونٌ أَشْهَبَ وَابْنَ عَبْدِ الْحَكَمِ فِيمَا قَالَاهُ.
وَقَالَ ابْنُ الْمَاجِشُونِ: وَيَنْبَغِي لِلْقَاضِي تَنْبِيهُ كُلِّ خَصْمٍ عَلَى تَقْيِيدِ مَا يَنْتَفِعُ بِهِ مِنْ قَوْلِ خَصِيمِهِ إنْ غَفَلَ وَلَا يُنَبِّهُ بَعْضًا دُونَ بَعْضٍ مِنْ (مُفِيدِ الْحُكَّامِ)، وَإِذَا أَقَرَّ أَحَدَ الْخَصْمَيْنِ فَلْيَقُلْ لِخَصْمِهِ هَاتِ قِرْطَاسَكَ أَكْتُبُ لَك قَوْلَهُ، وَلَا يَنْبَغِي لَهُ تَرْكُ ذَلِكَ، وَلْيَفْعَلْ ذَلِكَ بِجَمِيعِ الْخُصُومِ.
وَمِنْهَا فِي (مَعِينِ الْحُكَّامِ) قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ حَارِثٍ فِي مُحَاضَرَةٍ: يَجِبُ عَلَى الْقَاضِي أَنْ يَقُولَ لِلطَّالِبِ: مِنْ أَيْنَ وَجَبَ لَك مَا ادَّعَيْت؟، فَإِنْ قَالَ مِنْ سَلَفٍ أَوْ بَيْعٍ أَوْ ضَمَانٍ لَمْ يُكَلِّفْهُ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ انْتَهَى، يَعْنِي- وَاَللَّهُ أَعْلَمُ- أَنَّ الْقَاضِيَ لَا يُكَلِّفُهُ أَنْ يَذْكُرَ لَهُ كَيْفَ كَانَ عَقْدُ السَّلَفِ، وَأَيُّ شَيْءٍ كَانَ الْمَدْفُوعُ إلَيْهِ، أَوْ كَيْفَ كَانَ عَقْدُ الْبَيْعِ، وَزَادَ ابْنُ رَاشِدٍ فِيمَا نَقَلَهُ عَنْ ابْنِ حَارِثٍ قَالَ، وَإِذَا ذَكَرَ الْمُدَّعِي دَعْوَاهُ وَلَمْ يَكْشِفْ عَنْ وَجْهِ ذَلِكَ فَتِلْكَ غَفْلَةٌ مِنْهُ أَوْ جَهْلٌ يُوَجَّهُ الْحُكْمُ؛ لِأَنَّهُ إذَا أَبْهَمَ ذَلِكَ قَدْ يَكُونُ مِنْ وَجْهٍ لَا يَحِلُّ، فَيَكُونُ الْقَاضِي بِتَرْكِ ذَلِكَ كَالْخَابِطِ خَبْطَ عَشْوَاءَ يَعْنِي فِي الْأُمُورِ عَلَى رَأْيِ أَهْلِهَا وَهُمْ الْجُهَّالُ الَّذِينَ لَا يَعْرِفُونَ حَلَالًا وَلَا حَرَامًا، قَالَ ابْنُ رَاشِدٍ: ظَاهِرُ كَلَامِهِ هَذَا أَنَّ ذَلِكَ لَازِمٌ لِلْقَاضِي وَإِنْ لَمْ يَسْأَلْهُ الْمَطْلُوبَ.
وَفِي الْقِسْمِ الثَّالِثِ فِي ذِكْرِ الدَّعَاوَى فِي الشَّرْطِ الْأَوَّلِ مِنْ شُرُوطِ صِحَّةِ الدَّعْوَى شَيْءٌ مِنْ هَذَا الْمَعْنَى مِنْ كَلَامِ الْمَازِرِيِّ فَتَأَمَّلْهُ مَعَ هَذَا، قَالَ ثُمَّ يَقُولُ الْقَاضِي لِلْمَطْلُوبِ أَجِبْهُ فَإِنْ أَبَى أَنْ يُجِيبَهُ جَوَابًا مُفَسَّرًا اضْطَرَّهُ إلَى ذَلِكَ، فَإِنْ قَالَ: دَعْنِي أَتَثَبَّتُ وَأَتَفَكَّرُ فَمَا تَفَكَّرْتَهُ أَجَبْت بِهِ، فَمِنْ حَقِّهِ أَنَّ الْقَاضِي يُمْهِلُهُ لِذَلِكَ وَيَضْرِبُ لَهُ فِيهِ أَجَلًا غَيْرَ بَعِيدٍ.
وَمِنْهَا أَنَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَ الْخُصُومِ الْأَوَّلَ فَالْأَوَّلَ وَيُقَدِّمُ الْمُسَافِرِينَ وَالْمَضْرُورِينَ وَمَنْ لَهُ مُهِمٌّ يَخَافُ فَوَاتَهُ، فَإِنْ كَانَ يَشُقُّ عَلَيْهِ مَعْرِفَةُ الْأَوَّلِ فَالْأَوَّلِ، فَإِنَّهُ يَأْمُرُ مَنْ يَكْتُبُ أَسْمَاءَهُمْ عَلَى تَرْتِيبِ وُصُولِهِمْ وَيَدْعُو الْأَوَّلَ فَالْأَوَّلَ، قَالَ الْمَازِرِيُّ وَإِذَا قُلْنَا: إنَّهُ يَبْدَأُ بِالْأَسْبَقِ فَالْأَسْبَقِ فَقَدْ قَالَ بَعْضُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ: أَنَّ الْأَوَّلَ يُقَدَّمُ فِي خِصَامِهِ مَعَ وَاحِدٍ فَقَطْ لَا فِي سَائِرِ مَطَالِبِهِ مَعَ خُصُومِهِ. قَالَ: وَهَذَا عِنْدِي مِمَّا يُنْظَرُ فِيهِ، فَإِنْ سَبَقَ بِخَصْمَيْنِ سَائِرَ الْمُتَخَاصِمِينَ فَفَرَغَ مِنْ طَلَبِ أَحَدِهِمَا ثُمَّ أَرَادَ أَنْ يُخَاصِمَ الْآخَرَ وَذَلِكَ مِمَّا لَا يَطُولُ وَلَا يَضُرُّ بِالْجَمَاعَةِ الَّذِينَ بَعْدَهُ فَإِنَّهُ يُمَكَّنُ مِنْ ذَلِكَ كَمَا لَوْ خَاصَمَ الْأَوَّلَ وَطَالَ خِصَامُهُ مَعَهُ فَإِنَّهُ لَيْسَ مِنْ حَقِّ الَّذِينَ أَتَوْا بَعْدَهُ أَنْ يَمْنَعُوهُ، وَرُبَّمَا كَانَ خِصَامُ الِاثْنَيْنِ كَخِصَامِ وَاحِدٍ تَطُولُ مَعَهُ مُخَاصَمَتُهُ.
وَمِنْهَا: إذَا قَرَّرَ أَحَدُ الْخَصْمَيْنِ صَاحِبَهُ عَلَى مَا يَدَّعِيهِ أَلْزَمَهُ الْجَوَابَ بِالْإِقْرَارِ أَوْ الْإِنْكَارِ بِأَنْ امْتَنَعَ مِنْ الْجَوَابِ أَمَرَ الْقَاضِي بِضَرْبِهِ بِالدِّرَّةِ عَلَى رَأْسِهِ حَتَّى يُجِيبَ. وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى ذَلِكَ فِي فَصْلٍ يَخْتَصُّ بِهِ.
وَمِنْهَا إذَا شَتَمَ أَحَدُ الْخَصْمَيْنِ صَاحِبَهُ زَجَرَهُ، قَالَ ابْنُ الْمَاجِشُونِ وَمُطَرِّفٌ: وَإِذَا أَسْرَعَ إلَيْهِ بِغَيْرِ حُجَّةٍ مِثْلُ قَوْلِهِ يَا ظَالِمُ يَا فَاجِرُ وَنَحْوُ ذَلِكَ زَجَرَهُ عَنْهُ، وَيَضْرِبُ فِي مِثْلِ هَذَا إلَّا أَنْ تَكُونَ فَلْتَةً مِنْ ذِي مُرُوءَةٍ فَيَنْهَاهُ. قَالَ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ فِي قَوْلِ ابْنِ الْحَاجِبِ: وَيَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُؤَدِّبَ أَحَدَ الْخَصْمَيْنِ إذَا أَسَاءَ عَلَى الْآخَرِ بِمَا يَسْتَحِقُّهُ، ظَاهِرُ هَذَا أَنَّ الْقِيَامَ وَالْحَقَّ فِيهِ لِلَّهِ تَعَالَى فَلَا يَحِلُّ لِلْقَاضِي تَرْكُهُ؛ لِأَنَّ السِّبَابَ انْتِهَاكٌ لِحُرْمَةِ مَجْلِسِ الْقَاضِي وَالْحُكْمِ، إلَّا أَنَّ الْفُقَهَاءَ لَا يُعِدُّونَ تَكْذِيبَ أَحَدِهِمْ لِلْآخَرِ مِنْ السِّبَابِ، وَلَوْ كَانَ بِصِيغَةِ (كَذَبْت) وَشِبْهِهَا مِنْ الصَّرِيحِ، وَفِي الْبَيَانِ خِلَافُهُ، وَقَدْ ذَكَرْته فِي بَابِ التَّعْذِيرِ.
وَمِنْهَا إذَا قَالَ الْخَصْمُ لِلشَّاهِدِ شَهِدْت عَلَيَّ بِالزُّورِ وَقَصَدَ أَذَاهُ نَكَلَ بِقَدْرِ حَالَيْهِمَا، وَإِنْ كَانَ عُنِيَ أَنَّ الَّذِي شَهِدْت عَلَيَّ بِهِ بَاطِلٌ لَمْ يُعَاقَبْ يَعْنِي أَنَّهُ بَاطِلٌ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ لِكَوْنِهِ أَدَّى الدَّيْنَ الْمَشْهُودَ بِهِ عَلَيْهِ مَثَلًا، وَلَيْسَ لَهُ بَيِّنَةٌ عَلَى الْأَدَاءِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ وَكَذَلِكَ يُؤَدَّبُ أَحَدُ الْخَصْمَيْنِ إذَا أَسَاءَ عَلَى الشُّهُودِ أَوْ أَهْلِ الْفَتْوَى أَوْ عَرَضَ لَهُمْ بِمَا يُؤَدِّبُهُمْ أَدَبًا مُوجِعًا، قَالَهُ ابْنُ لُبَابَةَ وَابْنُ غَالِبٍ وَابْنُ وَلِيدٍ وَغَيْرُهُمْ، وَيَلْزَمُهُ أَنْ يَأْمُرَ الْخَصْمَيْنِ إذَا جَاءَ الشُّهُودُ لِأَدَاءِ الشَّهَادَةِ عَلَيْهِمَا بِالسُّكُوتِ وَأَنْ لَا يَتَعَرَّضَا لِلشُّهُودِ بِتَوْبِيخٍ وَلَا تَعْنِيتٍ، فَإِنْ فَعَلَا ذَلِكَ أَوْ فَعَلَهُ أَحَدُهُمَا بَعْدَ نَهْيٍ أُدِّبَ، وَالْعُقُوبَةُ فِي ذَلِكَ بِحَسَبِ الْقَائِلِ وَالْمَقُولِ لَهُ وَالْقَوْلِ، وَإِنَّمَا يُمْكِنُهُ مِنْ إثْبَاتِ الْقَدْحِ فِي شَهَادَتِهِ خَاصَّةً عَلَى مَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ وَفِي (مُفِيدِ الْحُكَّامِ) لِابْنِ هِشَامٍ أَنَّ مَنْ شَتَمَ رَجُلًا فِي مَجْلِسِ الْحَاكِمِ ضُرِبَ عَشْرَةَ أَسْوَاطٍ.
وَمِنْهَا إذَا نَهَى الْحَاكِمُ أَحَدَ الْخَصْمَيْنِ عَنْ الْكَلَامِ فَلَمْ يَفْعَلْ وَأَتَى بِالْحُجَجِ لِيُخَلِّطَ عَلَى صَاحِبِهِ وَيَمْنَعَهُ مِنْ الْكَلَامِ وَيُكْثِرَ مُعَارَضَتَهُ فِي كَلَامِهِ أَمَرَ الْقَاضِي بِأَدَبِهِ مِنْ مُفِيدِ الْحُكَّامِ.
وَمِنْهَا أَنَّ الشَّاهِدَ إذَا غَلِطَ فِي مَجْلِسِ الْقَاضِي فِي نَصِّ الشَّهَادَةِ فَعَلَى الْقَاضِي أَنْ يَأْمُرَ الْخَصْمَيْنِ أَنْ لَا يَعْرِضَا لَهُ لَا الْمُدَّعَى بِتَلْقِينٍ وَلَا الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِتَوْبِيخٍ فَإِنْ فَعَلَ أَحَدُهُمَا ذَلِكَ بَعْدَ النَّهْيِ أَمَرَ بِأَدَبِهِ قَالَ سَحْنُونٌ: وَكَانَ سَحْنُونٌ إذَا غَلِطَ عِنْدَهُ الشَّاهِدُ فِي شَهَادَتِهِ أَعْرَضَ عَنْهُ وَأَمَرَ الْكَاتِبَ أَنْ لَا يَكْتُبَ وَرُبَّمَا قَالَ لَهُ: تَثَبَّتْ ثُمَّ يُرَدِّدُهُ، فَإِذَا ثَبَتَ عَلَى شَهَادَتِهِ أَمَرَ كَاتِبَهُ فَكَتَبَ لَفْظَ الشَّهَادَةِ وَلَا يَزِيدُ وَلَا يُنْقِصُ وَلَا يُحَسِّنُ الشَّهَادَةَ.
وَمِنْهَا قَالَ أَشْهَبُ عَنْ مَالِكٍ فِي الْحَاكِمِ يَكْتُبُ الشَّهَادَةَ أَوْ الْأَمْرَ يُرِيدُهُ مِنْ الْخَصْمَيْنِ فِي كِتَابٍ وَيَخْتِمُهُ وَيَدْفَعُهُ إلَى صَاحِبِهِ ثُمَّ يُؤْتَى بِهِ فَيُعَرِّفُهُ بِخَاتَمِهِ أَتُرَى أَنْ يُجِيزَ مَا فِيهِ بِغَيْرِ بَيِّنَةٍ عَلَى أَنَّهُ خَاتَمُهُ، فَقَدْ تُمَثَّلُ الْخَوَاتِمُ. قَالَ: هُوَ أَعْلَمُ وَأَحَبُّ إلَيَّ أَنْ يَكُونَ الْكِتَابُ عِنْدَهُ، قَالَ أَصْبَغُ يُجِيزُهُ إذَا عَرَفَهُ وَعَرَفَ خَاتَمَهُ مِنْ (مُفِيدِ الْحُكَّامِ). وَمِنْهَا أَنَّهُ يَمْنَعُ ذَاتَ الْجَمَالِ وَالْمَنْطِقِ الرَّخِيمِ أَنْ تُبَاشِرَ الْخُصُومَةَ وَيَأْمُرُهَا أَنْ تُوَكِّلَ وَكِيلًا.
وَقَالَ الْمَازِرِيُّ إذَا كَانَتْ الدَّعْوَى عَلَى امْرَأَةٍ شَابَّةٍ ذَاتِ جَمَالٍ وَخَافَ عَلَيْهَا إنْ تَكَلَّمَتْ أَنْ يُؤَدِّيَ سَمَاعُ كَلَامِهَا إلَى الشَّغَفِ بِهَا، فَإِنَّهَا تُؤْمَرُ أَنْ تُوَكِّلَ، وَلَا يَكُونُ مِنْ حَقِّ الْخَصْمِ أَنْ يُؤْتِيَ بِهَا إلَى مَجْلِسِ الْقَضَاءِ، وَإِنْ اُحْتِيجَ إلَى أَنْ يَبْعَثَ إلَيْهَا وَهِيَ بِدَارِهَا تُخَاطِبُ مِنْ وَرَاءِ سِتْرِهَا مَنْ بَعَثَهُ الْقَاضِي إلَيْهَا مِمَّنْ يُؤْمَنُ فِي دِينِهِ فَعَلَ ذَلِكَ، وَيُكَلِّفُ الْقَاضِي مَنْ يَثِقُ بِدِينِهِ وَوَرَعِهِ النَّظَرَ فِي أَمْرِهَا وَسَمَاعِ حُكُومَتِهَا، «وَقَدْ أُحْضِرَتْ الْغَامِدِيَّةُ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى أَقَرَّتْ بِالزِّنَا فَأَمَرَ بِرَجْمِهَا وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمَرْأَةِ الْأُخْرَى وَاغْدُ يَا أُنَيْسُ عَلَى امْرَأَةِ هَذَا فَإِنْ اعْتَرَفَتْ فَارْجُمْهَا» فَلَمْ يَأْمُرْ بِإِحْضَارِهَا لِسَمَاعِ ذَلِكَ مِنْهَا، وَلَعَلَّهَا كَانَتْ عَلَى حَالٍ لَا يَحْسُنُ إحْضَارُهَا وَخِطَابُهَا بِمَحْضَرِ النَّاسِ.
وَمِنْهَا أَنَّهُ يُجِيبُ الْغَرِيمَ إذَا سَأَلَهُ رَفْعَ غَرِيمِهِ إنْ كَانَ فِي الْمِصْرِ أَوْ فِيمَا قَرُبَ مِنْهُ، فَإِنْ كَانَ بَعِيدًا لَمْ يَأْمُرْ بِرَفْعِهِ حَتَّى يَثْبُتَ الْحَقُّ عِنْدَهُ وَلَوْ بِشَاهِدٍ، وَالْقُرْبُ قِيلَ قَدْرُ ثَلَاثَةِ أَمْيَالٍ وَتَحْدِيدُ ذَلِكَ مَذْكُورٌ فِي الْقِسْمِ الثَّالِثِ فِي بَابِ الْعُقُوبَةِ بِالسَّجْنِ.
وَفِي (تَنْبِيهِ الْحُكَّامِ عَلَى مَآخِذِ الْأَحْكَامِ) قَالَ: وَيَنْبَغِي لَهُ إذَا سَأَلَهُ الطَّالِبُ رَفْعَ غَرِيمِهِ أَنْ يَسْأَلَهُ عَنْ الْوَجْهِ الَّذِي يَسْتَوْجِبُ بِهِ رَفْعَهُ، فَإِنْ أَظْهَرَ حُجَّةً أَوْ قَوْلًا يُوجِبُ ذَلِكَ أَجَابَهُ وَإِنْ لَمْ يُظْهِرْهُ عَلَى شَيْءٍ فَلَا يَبْعَثُ لِذَلِكَ أَحَدًا، لاسيما فِي الْمَوَاضِعِ الَّتِي تَبْعُدُ، وَلِأَنَّ حُضُورَ مَجْلِسِ الْحَاكِمِ يُزْرِي بِبَعْضِ النَّاسِ، فَقَدْ يَكُونُ لَهُ غَرَضٌ فِي إذَايَتِهِ مَذْكُورٌ فِي الْقِسْمِ الثَّالِثِ، قَالَ وَإِذَا كَانَ عَلَى خَصْمِهِ كَلَّفَهُ فِي ارْتِفَاعِهِ إلَى مَجْلِسِ الْحَاكِمِ فَلَا يَبْعَثُ لَهُ إلَّا بَعْدَ التَّوَثُّقِ، وَقَدْ كَانَ سَحْنُونٌ لَا يَكْتُبُ بِجَلْبِ أَحَدٍ إلَّا بَعْدَ أَنْ يُقِيمَ الطَّالِبُ عِنْدَهُ شَاهِدًا عَدْلًا أَوْ مَنْ يُزَكِّي، فَإِذَا تَعَيَّنَ عِنْدَ الْقَاضِي رَفْعُ الْمَطْلُوبِ نَظَرَ فَإِنْ كَانَ فِي الْمِصْرِ أَوْ بِقُرْبِهِ عَلَى أَمْيَالٍ يَسِيرَةٍ كَالثَّلَاثَةِ وَنَحْوِهَا دَفَعَ إلَى الطَّالِبِ طَابَعًا وَأَشْخَصَ مَعَهُ عَوِينًا وَأُجْرَتُهُ تَقَدَّمَ حُكْمُهَا فِي الْفَصْلُ الثَّانِي، وَإِنْ كَانَ مَوْضِعُهُ بَعِيدًا فَاخْتُلِفَ فِي ذَلِكَ فَقِيلَ يَكْتُبُ بِرَفْعِهِ: وَالْبَعِيدُ مَا زَادَ عَلَى مَحَلِّ الْقُرْبِ، فَقِيلَ إنْ كَانَ بَعِيدًا نَائِيًا فَلَا يَبْعَثُ إلَيْهِ بِالْقُدُومِ وَلْيَكْتُبْ إلَى أَهْلِ الْعَدْلِ وَالْأَمَانَةِ بِمَوْضِعِهِ فَيَأْمُرُ مَنْ يَكْتُبُ إلَيْهِ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَ الطَّالِبِ وَالْمَطْلُوبِ وَيَأْمُرَهُمَا بِالتَّنَاصُفِ، فَإِنْ أَبَيَا فَلْيَنْظُرْ فِي دَعْوَى الطَّالِبِ، فَإِنْ رَأَى لَهَا وَجْهًا وَلَمْ يَتَّهِمْهُ بِإِرَادَةِ تَعْنِيَتِهِ فَيَلْزَمُ الْمَطْلُوبُ الشُّخُوصَ مَعَ الطَّالِبِ، وَإِلَّا لَمْ يُكَلِّفْهُ الشُّخُوصَ مَعَهُ ذَلِكَ حُكِيَ عَنْ أَصْبَغُ قَالَ: وَهَذَا إذَا كَانَ الْمَوْضُوعُ الَّذِي يَشْخَصُ إلَيْهِ لَا مُؤْنَةَ فِيهِ عَلَى الْمَطْلُوبِ وَلَا عَلَى الطَّالِبِ وَلَا عَلَى الْبَيِّنَةِ، فَأَمَّا الْمَكَانُ الْبَعِيدُ مِنْ مَوْضِعِ الْقَاضِي فَلَا يَكْتُبُ بِرَفْعِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، وَلْيَكْتُبْ إلَى مَنْ يَثِقُ بِهِ فِي فَهْمِهِ وَدِينِهِ أَنْ يَنْظُرَ فِيمَا يَدَّعِي الطَّالِبُ وَيَسْمَعُ مِنْ بَيِّنَتِهِ وَيَنْظُرُ فِي مَنَافِعِهِمَا وَجَمِيعِ أُمُورِهِمَا ثُمَّ يَرْفَعُ ذَلِكَ إلَى الْقَاضِي وَيُخْبِرُهُ بِمَا ثَبَتَ عِنْدَهُ أَوْ رَآهُ فِي قَضِيَّتِهِمَا لِيَنْظُرَ فِيهِ فَإِذَا نَظَرَ الْقَاضِي فِيمَا جَاءَهُ مِنْ الَّذِي كُتِبَ إلَيْهِ وَرَأَى أَنْ يَكْتُبَ إلَيْهِ بِإِنْفَاذِ الْحُكْمِ فَعَلَ وَإِنْ رَأَى أَمْرًا يُوجِبُ رَفْعَ الْخَصْمَيْنِ فَعَلَ، فَإِنْ امْتَنَعَ الْمَطْلُوبُ مِنْ الشُّخُوصِ مَعَ الطَّالِبِ كَتَبَ أُمَنَاءُ الْقَاضِي إلَيْهِ بِذَلِكَ، فَإِذَا بَلَغَهُ ذَلِكَ كَتَبَ الْقَاضِي إلَى أُمَنَائِهِ يَأْمُرُهُمْ بِسَدِّ بَابِهِ وَتُعْقَلُ عَلَيْهِ ضِيَاعُهُ وَيُمْنَعُ مِنْ مَنَافِعِهِ حَتَّى يَحْضُرَ مَعَ غَرِيمِهِ قَالَ: وَلَا تَشْخَصُ الْبَيِّنَاتُ وَالْخُصُومُ مَعَ الْبُعْدِ كَسِتِّينَ مِيلًا وَنَحْوِهَا.
وَمِنْهَا أَنَّ مَنْ قَامَ بِشَكِيَّةٍ بِغَيْرِ حَقٍّ أَوْ ادَّعَى بَاطِلًا فَيَنْبَغِي أَنْ يُؤَدَّبَ وَأَقَلُّ ذَلِكَ بِالْحَبْسِ، لِيَنْدَفِعَ بِذَلِكَ أَهْلُ الْبَاطِلِ وَاللَّدَدِ عَنْ ذَلِكَ ذَكَرَهُ ابْنُ سَهْلٍ فِي شَهَادَةِ السَّمَاعِ فِي الْأَحْبَاسِ.
وَمِنْهَا أَنَّهُ إذَا لَمَزَهُ أَحَدُ الْخَصْمَيْنِ بِمَا يَكْرَهُ فَقَالَ لَهُ ظَلَمْتنِي وَأَرَادَ آذَاهُ فَلْيُعَزِّرْهُ إذَا كَانَ الْقَاضِي مِنْ أَهْلِ الْفَضْلِ، وَالْعُقُوبَةُ فِي مِثْلِ هَذَا أَمْثَلُ مِنْ الْعَفْوِ، وَهَذَا فِي اللَّمْزِ، وَأَمَّا إذَا صَرَّحَ بِالْإِسَاءَةِ عَلَى الْقَاضِي فَظَاهِرُ كَلَامِ مَالِكٍ أَنَّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ يَجِبُ فِيهَا تَأْدِيبُ الْقَائِلِ قَالَهُ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ. قَالَ ابْنُ حَبِيبٍ: وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يُعَزَّزَ لِنَفْسِهِ لِئَلَّا يُسْتَهَانُ بِهِ وَلِيُخِفْ النَّاسَ بِلُزُومِ الْحَقِّ وَاتِّبَاعِهِ.
وَمِنْهَا إذَا تَوَجَّهَ الْحَقُّ لِأَحَدِ الْخَصْمَيْنِ فَتَغَيَّبَ خَصْمُهُ فَطَلَبَ مِنْ الْحَاكِمِ رَسُولًا يُعِينُهُ عَلَى طَلَبِهِ فَيَجِبُ عَلَى الْحَاكِمِ إجَابَتُهُ إلَى ذَلِكَ.
وَمِنْهَا أَنَّهُ لَا يَسْأَلُ الْخَصْمَيْنِ إذَا دَخَلَا عَلَيْهِ مَنْ الْمُدَّعِي مِنْهُمَا بَلْ يَسْكُتُ حَتَّى يَبْدَأَ أَحَدُهُمَا بِالْكَلَامِ.
وَقَالَ بَعْضُهُمْ يَسْأَلُهَا قَالَ ابْنُ أَبِي زَمَنِينَ وَهُوَ شَأْنُ حُكَّامِ الْعَدْلِ.
وَقَالَ الْمَازِرِيُّ: هُوَ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ سَكَتَ عَنْهُمَا حَتَّى يَنْطِقَ أَحَدُهُمَا وَيَسْتَدْعِي مِنْ الْقَاضِي الْجَوَابَ. وَإِنْ شَاءَ سَأَلَهُمَا جَمِيعًا بِلَفْظِ التَّثْنِيَةِ فَقَالَ: مَا لَكُمَا وَمَا حَاجَتُكُمَا، وَلَا يَخُصُّ أَحَدَهُمَا بِسُؤَالٍ؛ لِأَنَّ سُؤَالَ أَحَدِهِمَا يُشْعِرُ بِعِنَايَةِ الْقَاضِي بِهِ وَقَبُولِهِ عَلَيْهِ دُونَ خَصْمِهِ، وَالْقَاضِي مَأْمُورٌ بِالْعَدْلِ بَيْنَهُمَا فِي مَدْخَلِهِمَا إلَيْهِ، فَلَا يَأْذَنُ لِأَحَدِهِمَا قَبْلَ الْآخَرِ، وَفِي مَخْرَجِهِمَا عَنْهُ فَلَا يَصْرِفُ أَحَدَهُمَا قَبْلَ الْآخَرِ، وَفِي لَحْظِهِ وَقَبُولِهِ بِوَجْهِهِ عَلَيْهِمَا وَفِي كَلَامِهِ لَهُمَا، وَقَدْ نَزَلَ ضَيْفٌ بِعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ فَخُوصِمَ عِنْدَهُ فَأَمَرَ ضَيْفَهُ أَنْ يَتَحَوَّلَ عَنْهُ مِنْ مَنْزِلِهِ. وَإِذَا قُلْنَا أَنَّهُ يَبْدَؤُهُمَا بِالسُّؤَالِ فَإِنْ قَالَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لَسْت مُدَّعِيًا أَقَامَهُمَا حَتَّى يَأْتِيَ أَحَدُهُمَا بِخَصْمِهِ فَيَكُونُ هُوَ الطَّالِبُ، فَإِنْ تَنَازَعَا فِيمَنْ هُوَ الْمُدَّعَى نَظَرَ إلَى الطَّلَبِ فَإِنْ لَمْ يَعْرِفْهُ أَوْ لَمْ تَقُمْ بَيِّنَةٌ لِأَحَدِهِمَا أَنَّهُ هُوَ الَّذِي دَعَا صَاحِبَهُ إلَى الْحَاكِمِ أَمَرَهُمَا بِالِانْصِرَافِ، فَمَنْ أَبَى إلَّا الْمُحَاكَمَةَ فَهُوَ الْمُدَّعِي، فَإِنْ تَنَازَعَا مَعًا أَقْرَعَ بَيْنَهُمَا وَعَلَى الْقَوْلِ أَنَّ الْقَاضِيَ بِالْخِيَارِ فِيمَنْ يَبْدَأُ مِنْهُمَا، وَإِنْ كَانَ الْقَوْلُ الْأَوَّلُ أَظْهَرُ، فَقَدْ أَشَارَ ابْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ مَعَ هَذَا التَّخْيِيرِ إلَى أَنَّ الْقَاضِيَ يَبْدَأُ بِأَضْعَفِهِمَا، وَحَكَى ابْنُ الْمُنْذِرِ قَوْلَيْنِ آخَرَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنْ يُتْرَكَا إلَى أَنْ يَصْطَلِحَا، وَالْآخَرُ أَنْ يَسْتَحْلِفَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِصَاحِبِهِ، وَاسْتَضْعَفَ الْمَازِرِيُّ هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ بِأَنَّهُمَا قَدْ لَا يَصْطَلِحَانِ وَبِأَنَّهُمَا قَدْ يَتَنَازَعَانِ فِيمَنْ يَبْدَأُ مِنْهُمَا بِالْيَمِينِ.
وَفِي الْمَجْمُوعَةِ أَنَّ أَحَدَ الْخَصْمَيْنِ إذَا قَالَ أَنَا الْمُدَّعِي وَسَكَتَ الْآخَرُ فَإِنَّ لِلْقَاضِي أَنْ يَسْأَلَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ إذَا سَكَتَ الْآخَرُ عَنْ إنْكَارِ قَوْلِهِ إنَّهُ هُوَ الْمُدَّعِي، قَالَ: وَأَحَبُّ إلَيَّ أَنْ لَا يَسْأَلَهُ الْقَاضِي حَتَّى يُسَلِّمَ لَهُ الْآخَرُ نُطْقًا.
وَمِنْهَا أَنَّ الْقَاضِيَ لَا يَسْتَحْلِفُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ إذَا أَنْكَرَ إلَّا بِإِذْنِ الْمُدَّعِي إلَّا أَنْ يَكُونَ مِنْ شَاهِدِ الْحَالِ، مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ أَرَادَ ذَلِكَ مِنْ الْقَاضِي، وَقَدْ ذُكِرَ عَنْ بَعْضِ الْقُضَاةِ أَنَّ رَجُلًا ادَّعَى عَلَى آخَرَ ثَلَاثِينَ دِينَارًا فَأَنْكَرَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فَاسْتَحْلَفَهُ الْقَاضِي فَقَالَ الطَّالِبُ لَمْ آذَنْ فِي هَذِهِ الْيَمِينِ وَلَمْ أَرْضَ بِهَا ولابد أَنْ تُعَادَ الْيَمِينُ، فَأَمَرَ الْقَاضِي غُلَامَهُ أَنْ يَدْفَعَ عَنْ الْمَطْلُوبِ مِنْ مَالِهِ ثَلَاثِينَ دِينَارًا كَرَاهَةَ أَنْ يُكَلِّفَهُ إعَادَةَ الْيَمِينِ الَّتِي قَضَى عَلَيْهِ بِهَا، وَإِذَا اسْتَحْلَفَهُ لَهُ فلابد مِنْ حُضُورِ الْمَحْلُوفِ لَهُ أَوْ وَكِيلِهِ فَإِنْ تَغَيَّبَ وَثَبَتَ تَغَيُّبُهُ عِنْدَ الْقَاضِي أَقَامَ مَنْ يَقْتَضِيهَا.
وَمِنْهَا فِي (مُعِينِ الْحُكَّامِ)، إذَا ذَكَرَ الْمُدَّعِي دَعْوَاهُ كُلِّفَ الْخَصْمُ الْجَوَابَ عَنْهَا مَكَانَهُ إنْ فَهِمَهَا وَأَحَاطَ بِهَا عِلْمًا وَإِنْ كَانَ فِيهَا إشْكَالٌ أَوْ طُولٌ أُمْهِلَ بِحَسَبِ ذَلِكَ، فَإِنْ امْتَنَعَ بَعْدَ ذَلِكَ كُلِّهِ مِنْ الْجَوَابِ أُكْرِهَ بِالسَّجْنِ وَالْأَدَبِ، وَيَكُونُ ذَلِكَ كُلُّهُ فِي فَوْرٍ وَاحِدٍ، فَإِنْ اسْتَلَجَّ فِي الْإِبَايَةِ وَالتَّمَادِي عَلَيْهَا عُدَّ ذَلِكَ كُلُّهُ مِنْهُ إقْرَارًا بِحَقِّ الطَّالِبِ وَقَضَى لَهُ بِلَا يَمِينٍ.
وَمِنْهَا إذَا تَوَجَّهَ الْحَقُّ عَلَى الْمَطْلُوبِ فَسَأَلَ تَأْخِيرَهُ أَيَّامًا لِيَنْظُرَ فِي ذَلِكَ أَنْظَرَهُ الْقَاضِي بِمَا يَرَاهُ مِنْ ذَلِكَ عَلَى حَسَبِ اجْتِهَادِهِ. هَذَا مَذْهَبُ سَحْنُونٍ فِي تَأْخِيرِ الْغَرِيمِ بِغَيْرِ إذْنِ رَبِّ الْحَقِّ، وَهُوَ دَلِيلُ مَا فِي كِتَابِ الشُّفْعَةِ مِنْ الْمُدَوَّنَةِ فِي تَأْخِيرِ ثَمَنِ الشِّقْصِ الْمُسْتَشْفَعِ فِيهِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ وَسَيَأْتِي هَذَا.
وَمِنْهَا أَنَّهُ إذَا حُبِسَ الْغَرِيمُ الْمَجْهُولُ الْحَالِ فَادَّعَى الْفَقْرَ فَلَا يُكَلِّفُهُ الْقَاضِي الْبَيِّنَةَ بِأَنَّهُ لَا مَالَ لَهُ، وَإِنَّمَا يَسْأَلُ الْقَاضِي عَنْهُ أَهْلَ الْخِبْرَةِ بِهِ وَالْمَعْرِفَةِ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ لَهُ مَالًا حَلَّفَهُ وَخَلَّى سَبِيلَهُ، قَالَهُ ابْنُ رُشْدٍ فِي (الْبَيَانِ) قَالَ: وَهَذَا فِي مَجْهُولِ الْحَالِ وَأَمَّا إنْ حَبَسَهُ لِلتُّهْمَةِ أَنَّهُ أَخْفَى مَالَهُ لَهُ فَلَا يَكْتَفِي إلَّا بِالْبَيِّنَةِ انْتَهَى، وَأَمَّا مَعْلُومُ الْمَلَاءِ فَلَا يُقْبَلُ مِنْهُ بَيِّنَةٌ إلَّا بِذَهَابِ مَا بِيَدِهِ ذَكَرَهُ اللَّخْمِيُّ.
وَمِنْهَا أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ لِلْقَاضِي أَنْ يُرَاقِبَ أَحْوَالَ الْخُصُومِ عِنْدَ الْإِدْلَاءِ بِالْحُجَجِ وَدَعْوَى الْحُقُوقِ، فَإِنْ تَوَسَّمَ فِي أَحَدِ الْخَصْمَيْنِ أَنَّهُ أَبْطَنَ شُبْهَةً أَوْ اتَّهَمَهُ بِدَعْوَى الْبَاطِلِ إلَّا أَنَّ حُجَّتَهُ فِي الظَّاهِرِ مُتَّجِهَةٌ، وَكِتَابَ الْحَقِّ الَّذِي بِيَدِهِ مُوَافِقٌ لِظَاهِرِ دَعْوَاهُ، فَلْيَتَلَطَّفْ الْقَاضِي فِي الْفَحْصِ وَالْبَحْثِ عَنْ حَقِيقَةِ مَا تَوَهَّمَ فِيهِ، فَإِنَّ النَّاسَ الْيَوْمَ كَثُرَتْ مُخَادَعَتُهُمْ وَاتُّهِمَتْ أَمَانَتُهُمْ، فَإِنْ لَمْ يَنْكَشِفْ لَهُ مَا يَقْدَحُ فِي دَعْوَاهُ فَحَسَنٌ أَنْ يَتَقَدَّمَ إلَيْهِ بِالْمَوْعِظَةِ إنْ رَأَى لِذَلِكَ وَجْهًا وَيُخَوِّفَهُ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَيُذَكِّرَهُ قَوْلَهُ: {وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} [البقرة: 188] فَإِنْ أَنَابَ وَإِلَّا أَمْضَى الْحُكْمَ عَلَى ظَاهِرِهِ، وَإِنْ تَزَايَدَتْ عِنْدَهُ بِسَبَبِ الْفَحْصِ عَنْ ذَلِكَ شُبْهَةٌ فَلْيَقِفْ وَيُوَالِي الْكَشْفَ وَيُرَدِّدُهُ الْأَيَّامَ وَنَحْوَهَا وَلَا يَعْجَلُ فِي الْحُكْمِ مَعَ قُوَّةِ الشُّبْهَةِ، وَلْيَجْتَهِدْ فِي ذَلِكَ بِحَسَبِ قُدْرَتِهِ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُ حَقِيقَةُ الْأَمْرِ فِي تِلْكَ الدَّعْوَى أَوْ تَنْتَفِي عَنْهُ الشُّبْهَةُ مِنْ (تَنْبِيهِ الْحَاكِمِ عَلَى مَآخِذِ الْأَحْكَامِ) لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسَى بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ أَصْبَغَ الْأَزْدِيِّ الشَّهِيرِ بِابْنِ الْمُنَاصِفِ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى.
وَمِنْهَا قَالَ الْمُتَيْطِيُّ يَنْبَغِي لِلْقَاضِي مَوْعِظَةُ الْخَصْمَيْنِ وَتَعْرِيفُهُمَا بِأَنَّ مَنْ خَاصَمَ فِي بَاطِلٍ فَإِنَّهُ خَائِضٌ فِي سَخَطِ اللَّهِ تَعَالَى، وَمَنْ حَلَفَ لِيَقْطَعَ مَالَ أَخِيهِ بِيَمِينٍ فَاجِرَةٍ فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنْ النَّارِ، وَيَعِظُ الشُّهُودَ أَيْضًا كَمَا رُوِيَ عَنْ شُرَيْحٍ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ لِمَنْ يَشْهَدُ عِنْدَهُ: إنَّمَا يَقْضِي عَلَى هَذَا الْمُسْلِمِ أَنْتُمَا بِشَهَادَتِكُمَا وَإِنِّي مُتَّقٍ بِكُمَا مِنْ النَّارِ فَاتَّقِيَا اللَّهَ وَالنَّارَ..
وَمِنْهَا أَنَّهُ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يُسَهِّلَ إذْنَ الْبَيِّنَاتِ وَلَا يَمْطُلَهُمْ فَيَتَفَرَّقُوا فَيَعْسُرُ جَمْعَهُمْ، وَرُبَّمَا أَدَّى ذَلِكَ إلَى ضَجَرِ صَاحِبِ الْحَقِّ فَيَتْرُكُ حَقَّهُ أَوْ بَعْضَهُ بِالْمُصَالَحَةِ عَنْهُ لِمَا يُدْرِكُهُ مِنْ الْمَشَقَّةِ. قَالَ ابْنُ سَهْلٍ وَلِهَذَا رَأَيْت بَعْضَ الْقُضَاةِ يَأْمُرُ أَوَّلَ جُلُوسِهِ بِإِدْخَالِ الْبَيِّنَةِ وَيَسْمَعُ مِنْهَا قَالَ وَقَدْ قَالَ مَنْ حَضَرَنِي مِمَّنْ عُنِيَ بِالْعِلْمِ كَانَ فُلَانُ ابْنُ فُلَانٍ مِمَّنْ اُمْتُحِنَ بِالْخُصُومَةِ وَكَانَ يَقُولُ نَقْلُ الْجِبَالِ عِنْدَهُ أَيْسَرُ مِنْ نَقْلِ الْبَيِّنَةِ، يَعْنِي إلَى مَجْلِسِ الْحَاكِمِ، فَإِذَا حَضَرُوا آنَسَهُمْ وَقَرَّبَهُمْ وَبَسَطَهُمْ وَسَأَلَهُمْ عَنْ شَهَادَتِهِمْ فَإِذَا كَانَتْ تَامَّةً قَيَّدَهَا وَإِنْ كَانَتْ نَاقِصَةً سَأَلَهُمْ عَنْ بَقِيَّتِهَا، وَإِنْ كَانَتْ مُجْمَلَةً سَأَلَهُمْ عَنْ تَفْسِيرِهِمَا، وَإِنْ كَانَتْ غَيْرَ عَامِلَةٍ أَعْرَضَ عَنْهَا إعْرَاضًا جَمِيلًا، فَأَعْلَمَ الْمُدَّعِيَ أَنَّهُ لَمْ يَأْتِ بِشَيْءٍ.
وَمِنْهَا أَنَّهُ لَا يَسْمَعُ الدَّعْوَى فِي الْأَشْيَاءِ التَّافِهَةِ الْحَقِيرَةِ الَّتِي لَا يَتَشَاحُّ الْعُقَلَاءُ فِيهَا كَعُشْرِ سِمْسِمَةٍ قَالَهُ الْقَرَافِيُّ.
وَمِنْهَا قَالَ ابْنُ سَهْلٍ يَجِبُ عَلَى الْقَاضِي إذَا حَضَرَ عِنْدَهُ الْخَصْمَانِ أَنْ يَسْأَلَ الْمُدَّعِيَ عَنْ دَعْوَاهُ وَيَفْهَمَهَا عَنْهُ، وَإِذَا كَانَتْ دَعْوًى لَا يَجِبُ بِهَا عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ حَتَّى أَعْلَمَهُ بِذَلِكَ، وَلَمْ يَسْأَلْ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ عَنْ شَيْءِ وَأَمَرَهُمَا بِالْخُرُوجِ عَنْهُ، وَإِنْ نَقَصَ مِنْ دَعْوَاهُ مَا فِيهِ بَيَانُ مَطْلَبِهِ أَمَرَهُ بِتَمَامِهِ وَإِنْ أَتَى بِإِشْكَالِ أَمْرِهِ بِبَيَانِهِ، فَإِنْ صَحَّتْ الدَّعْوَى سَأَلَ الْمَطْلُوبَ عَنْهَا فَإِنْ أَقَرَّ أَوْ أَنْكَرَ نَظَرَ فِي ذَلِكَ وَإِنْ أَبْهَمَ جَوَابَهُ أَمَرَهُ بِتَفْسِيرِهِ حَتَّى يَرْتَفِعَ الْإِشْكَالُ، وَقَيَّدَ ذَلِكَ عَنْهُمَا إنْ كَانَ فِيهِ طُولٌ وَالْتِبَاسٌ، وَإِنْ كَانَ أَمْرًا قَرِيبًا لَمْ يَحْتَجْ إلَى تَقْيِيدِهِ، وَلَا يَدَعُ الْحُكَّامُ أَخْذَ الْخُصُومِ بِذَلِكَ.
وَقَالَ الْمَازِرِيُّ: إذَا صَدَرَتْ الدَّعْوَى مِنْ الْمُدَّعِي فَهَلْ يَجِبُ عَلَى الْقَاضِي أَنْ يَسْأَلَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ عَنْ الْجَوَابِ قَبْلَ أَنْ يَأْذَنَ لَهُ الْمُدَّعِي فِي ذَلِكَ أَمْ لَا، وَقَدْ ذُكِرَ أَنَّ عِيسَى بْنَ أَبَانَ لَمَّا وَلِيَ قَضَاءَ الْبَصْرَةِ وَهُوَ مِمَّنْ عَاصَرَ الشَّافِعِيَّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى قَصَدَهُ أَخَوَانِ كَانَا مِمَّنْ يَتَوَكَّلُونَ فِي أَبْوَابِ الْقُضَاةِ فَادَّعَى أَحَدُهُمَا بِشَيْءٍ عَلَى آخَرَ فَقَالَ الْقَاضِي لِلْآخَرِ أَجِبْهُ فَقَالَ لَهُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ: وَمَنْ أَذِنَ لَك أَنْ تَسْتَدْعِيَ الْجَوَابَ عَلَيَّ فَقَالَ لَهُ الْمُدَّعِي: لَمْ آذَنْ لَك فِي ذَلِكَ فَوَجَمَ الْقَاضِي فَقَالَ لَهُ:
إنَّمَا أَرَدْنَا أَنْ نُعْلِمَك مَكَانَنَا مِنْ الْعِلْمِ، قَالَ الْمَازِرِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وَهَذِهِ مُنَاقَشَةٌ لَيْسَ تَحْتَهَا كَبِيرُ فَائِدَةٍ؛ لِأَنَّ الْمَفْهُومَ مِنْ جِهَةِ الْعَوَائِدِ وَشَوَاهِدِ الْحَالِ أَنَّ إحْضَارَ الْخَصْمِ وَالدَّعْوَى عَلَيْهِ يُغْنِيهِ عَنْ النُّطْقِ بِسُؤَالِ الْقَاضِي، وَالْأَصْلُ أَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَى الْقَاضِي اسْتِعْلَامُ مَا عِنْدَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ دُونَ إذْنٍ مِنْ الْمُدَّعِي، لَكِنَّ الْعَادَةَ فِي مِثْلِ هَذَا تَقُومُ مَقَامَ سُؤَالِ الْقَاضِي، وَهَذَا هُوَ الظَّاهِرُ مِنْ مَذَاهِبِ الْعُلَمَاءِ، وَهُوَ أَظْهَرُ الرِّوَايَاتِ، وَأَنَّ لِلْقَاضِي أَنْ يَسْأَلَهُ وَإِنْ لَمْ يَقُلْ الْمُدَّعِي لِلْقَاضِي اسْأَلْهُ لِي الْجَوَابَ اكْتِفَاءً بِشَهَادَةِ الْحَالِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ ذَلِكَ مُرَادُ الْمُدَّعِي وَإِنْ لَمْ يَنْطِقْ بِهِ.
وَمِنْهَا أَنَّ الْغَرِيمَ إذَا دَعَا غَرِيمَهُ فَلَمْ يُجِبْهُ أَدَّبَهُ وَجَرَّحَهُ إنْ كَانَ عَدْلًا، فَإِنْ تَغَيَّبَ شَدَّدَ الْقَاضِي عَلَيْهِ فِي الطَّلَبِ، وَأُجْرَةُ الرَّسُولِ عَلَى الطَّالِبِ، فَإِنْ تَغَيَّبَ الْمَطْلُوبُ وَتَبَيَّنَ لَدَدُهُ فَالْإِجَارَةُ عَلَيْهِ، وَنَحْوُ ذَلِكَ لِلَّخْمِيِّ.
وَقَالَ ابْنُ الْفَخَّارِ: لَا يَلْزَمُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ شَيْءٌ وَالْمَرْجِعُ عِنْدَهُمْ الْأَوَّلُ اُنْظُرْ (أَحْكَامَ ابْنِ سَهْلٍ). وَالْمَسْأَلَةُ مَبْسُوطَةٌ فِي بَابِ (الْقَضَاءِ بِالنُّكُولِ عَنْ مَجْلِسِ الْحَاكِمِ) وَفِي (مُفِيدِ الْحُكَّامِ) لِابْنِ هِشَامٍ. مَنْ اسْتَهَانَ بِدَعْوَةِ الْقَاضِي أَوْ الْحَاكِمِ وَلَمْ يُجِبْ ضُرِبَ أَرْبَعِينَ.
وَمِنْهَا أَنَّهُ يَنْظُرُ فِي دَعْوَى الْمُدَّعِي فَإِنْ كَانَتْ مَسْمُوعَةً أَمَرَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِالْجَوَابِ وَإِنْ كَانَ فِي دَعْوَاهُ طُولٌ أَمَرَهُ بِتَقْيِيدِ مَقَالَتِهِ ثُمَّ يَأْمُرُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِرَدِّ الْجَوَابِ فِي الْحَالِ إنْ كَانَ مِمَّنْ يَفْهَمُهَا وَإِلَّا أَنْظَرَهُ بِقَدْرِ مَا يَرَى أَنَّهُ يَفْهَمُهَا، وَإِنْ كَانَتْ طَوِيلَةً مُشْتَمِلَةً عَلَى فُصُولٍ وَسَأَلَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ أَنْ يَكْتُبَ لَهُ بِهَا نُسْخَةً لِيَفْهَمَهَا أُجِيبَ إلَى ذَلِكَ، وَإِنْ كَانَتْ أَلْفَاظُهَا يَسِيرَةً مَفْهُومَةً لَمْ يُجَبْ إلَى ذَلِكَ. وَمِنْهَا قَالَ ابْنُ الْمَوَّازِ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وَإِنْ سَأَلَ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ أَنْ تُنْسَخَ لَهُ شَهَادَاتُ الشُّهُودِ فَذَلِكَ لَهُ؛ لِأَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَسْأَلَهُمْ وَيُذَكِّرَهُمْ، فَإِنْ ذَكَرُوا مَا ذَكَّرَهُمْ فَعَلَيْهِمْ أَنْ لَا يَرْجِعُوا وَلَا يَضُرَّ ذَلِكَ شَهَادَتَهُمْ الْأُولَى إلَّا أَنْ يَرْجِعُوا عَنْ شَيْءٍ فِيهَا فَيُقْبَلُ مِنْهُمْ رُجُوعُهُمْ مَا لَمْ يَحْكُمْ بِهَا (مِنْ رِسَالَةِ الْقَضَاءِ).
وَمِنْهَا أَنَّهُ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَمْنَعَ مِنْ رَفْعِ الصَّوْتِ عِنْدَهُ، فَإِنَّ ذَلِكَ مِمَّا يُبْرِمُهُ وَيُضْجِرُهُ وَيُحَيِّرُهُ.
وَمِنْهَا فِي مُخْتَصَرِ الْوَاضِحَةِ: وَيَنْبَغِي لِلْقَاضِي إذَا شَهِدَ الشَّاهِدُ عِنْدَهُ أَنْ يَكْتُبَ شَهَادَتَهُ وَاسْمَهُ وَنَعْتَهُ وَقَبِيلَتَهُ وَمَسْكَنَهُ وَمَسْجِدَهُ الَّذِي يُصَلِّي فِيهِ وَالسَّنَةَ وَالشَّهْرَ الَّذِي شَهِدَ فِيهِ، ثُمَّ يَرْفَعُ ذَلِكَ عِنْدَهُ، وَيَرْفَعُهُ فِي دِيوَانِهِ، فَقَدْ يَحْتَاجُ الْمَشْهُودُ لَهُ إلَى شَهَادَتِهِ، فَرُبَّمَا زَادَ الشَّاهِدُ فِيهَا أَوْ نَقَصَ، وَفَائِدَةُ تَسْمِيَتِهِ وَنَعْتِهِ أَنَّهُ لَا يَتَسَمَّى لَهُ أَحَدٌ بِغَيْرِ اسْمِهِ مِمَّنْ هُوَ فِي النَّاسِ عَدْلٌ إذَا سَأَلَ عَنْهُ وَبَعَثَ بِالسُّؤَالِ إلَى مَسْجِدِهِ وَمَسْكَنِهِ بِالِاسْمِ وَالنَّعْتِ وَالنَّسَبِ.
وَمِنْهَا أَنَّهُ لَا يُحْلِفُ الشَّاهِدَ؛ لِأَنَّهُ إنْ كَانَ عَدْلًا فَإِنَّهَا تَجُوزُ الشَّهَادَةُ بِعَدَالَتِهِ وَإِنْ كَانَ غَيْرَ عَدْلٍ فَيَمِينُهُ لَا تُجِيزُ شَهَادَتَهُ، وَسَيَأْتِي فِي بَابِ الْقَضَاءِ بِالسِّيَاسَةِ فِي بَابِ الْأَقْضِيَةِ ذِكْرُ تَحْلِيفِ الشُّهُودِ. تَنْبِيهٌ فِي مُخْتَصَرِ الْوَاضِحَةِ: وَلَا يَنْبَغِي لِلْقَاضِي أَنْ يُجِيزَ بَيْنَ النَّاسِ شَهَادَاتٍ وَجَدَهَا فِي دِيوَانِهِ لَا يَعْرِفُهَا إلَّا بِطَوَابِعِهَا، وَلَكِنْ إنْ كَانَ خَطَّهَا هُوَ بِنَفْسِهِ أَوْ خَطَّهَا كَاتِبُهُ وَكَانَ عِنْدَهُ عَدْلًا مَأْمُونًا وَلَمْ يَسْتَنْكِرْ شَيْئًا فَلْيُنْفِذْهَا قَالَهُ مُطَرِّفٌ وَأَصْبَغُ وَابْنُ الْمَاجِشُونِ، وَقَالَهُ ابْنُ حَبِيبٍ.
[مَسْأَلَةٌ عَنْ الْقَاضِي يَكْتُبُ شَهَادَةَ الْقَوْمِ فِي الْكِتَابِ]
مَسْأَلَةٌ:
قَالَ ابْنُ حَبِيبٍ: أَخْبَرَنِي أَصْبَغُ عَنْ أَشْهَبَ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ الْقَاضِي يَكْتُبُ شَهَادَةَ الْقَوْمِ فِي الْكِتَابِ يُرِيدُ مِنْ أَمْرِ الْخَصْمَيْنِ ثُمَّ يَخْتِمُ عَلَيْهِ وَيَدْفَعُهُ إلَى صَاحِبِهِ ثُمَّ يُؤْتَى بِهِ فَيُعَرِّفُهُ بِخَاتَمِهِ، أَتُرَى أَنْ يُجِيزَ مَا فِيهِ بِغَيْرِ بَيِّنَةٍ؛ لِأَنَّهُ خَاتَمُهُ وَالْخَوَاتِمُ رُبَّمَا عُمِلَ عَلَيْهَا؟ فَقَالَ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ هُوَ أَعْلَمُ، وَأَحَبُّ إلَيَّ أَنْ يَكُونَ الْكِتَابُ عِنْدَهُ، وَقَدْ كَانَ الْكُثَيْرِيُّ لَا يَلِي كُتُبَهُ غَيْرُهُ.
وَقَالَ لِي أَصْبَغُ: وَأَرَى أَنْ يُجِيزَ مَا فِي الْكِتَابِ إذَا عَرَفَهُ وَعَرَفَ خَاتَمَهُ.
مَسْأَلَةٌ:
قَالَ ابْنُ الْمَاجِشُونِ: الْعَمَلُ عِنْدَنَا أَنْ يَسْمَعَ الْقَاضِي مِنْ بَيِّنَةِ الْخَصْمِ وَيُوقِعَ شَهَادَتَهُمْ حَضَرَ الْخَصْمُ أَوْ لَمْ يَحْضُرْ، فَإِذَا حَضَرَ الْخَصْمُ قَرَأَ عَلَيْهِ الشَّهَادَةَ وَفِيهَا أَسْمَاءُ الشُّهُودِ وَأَنْسَابُهُمْ وَمَسَاكِنُهُمْ فَإِنْ كَانَ عِنْدَهُ فِي شَهَادَتِهِمْ مَدْفَعٌ أَوْ فِي عَدَالَتِهِمْ مُجَرَّحٌ أَطْرَدَهُ ذَلِكَ وَإِلَّا أَلْزَمَهُ الْقَضَاءَ، وَإِنْ سَأَلَهُ أَنْ يُعِيدَ عَلَيْهِ الْبَيِّنَةَ حَتَّى يَشْهَدُوا بِمَحْضَرِهِ فَلَيْسَ لَهُ ذَلِكَ، وَلَا يَنْبَغِي لِلْقَاضِي أَنْ يُجِيبَهُ إلَى ذَلِكَ، وَلَوْ سَأَلَهُ الْخَصْمُ ابْتِدَاءً أَنْ لَا يَسْمَعَ مِنْ بَيِّنَةِ صَاحِبِهِ إذَا أَتَى بِهَا إلَّا بِمَحْضَرِهِ، فَإِنْ خَشِيَ الْقَاضِي عَلَيْهِ دَلَسَهُ أَوْ اسْتِرَابَةً وَرَأَى أَنَّ اجْتِمَاعَهُمْ أَجْمَعُ لِلْفَصْلِ وَأَبْرَأُ مِنْ الدَّخَلِ فَلْيُجِبْهُ، وَإِنْ أَمِنَ مِنْ ذَلِكَ فَلَا يُجِبْهُ، وَلَوْ أَجَابَهُ حِينَ سَأَلَهُ ذَلِكَ عَنْ غَيْرِ شَيْءٍ خَافَهُ عَلَيْهِ فَلْيُمْضِ ذَلِكَ لِاخْتِلَافِ النَّاسِ فِيهِ، فَقَدْ قَالَ بَعْضُ الْعِرَاقِيِّينَ: لَا يَكُونُ إيقَاعُ الشُّهُودِ إلَّا بِمَحْضَرِ الْخَصْمِ الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ.
وَقَالَ لِي مُطَرِّفٌ وَأَصْبَغُ مِثْلَهُ، قَالَهُ ابْنُ حَبِيبٍ فِي مُخْتَصَرِ الْوَاضِحَةِ، قَالَ فَضْلُ بْنُ سَلَمَةَ: وَسَحْنُونٌ لَا يَرَى إيقَاعَ الشَّهَادَةِ إلَّا بِمَحْضَرٍ مِنْ الْخَصْمِ إلَّا أَنْ يَكُونَ الْخَصْمُ غَائِبًا غَيْبَةً بَعِيدَةً، قَالَ ابْنُ سَهْلٍ: وَالْأَحْسَنُ أَنْ يَشْهَدَ الشُّهُودُ بِمَحْضَرِ الْمَطْلُوبِ إنْ كَانَ حَاضِرَ الْبَلَدِ أَوْ قَرِيبَ الْغَيْبَةِ، وَلِسَحْنُونٍ فِي الْعُتْبِيَّةِ إنْ قَصَّرَ الْقَاضِي فِي إحْضَارِ الْخَصْمِ عِنْدَ الشَّهَادَةِ عَلَيْهِ ثُمَّ سَأَلَهُ الْمَطْلُوبُ إعَادَتَهَا فَأَرَى أَنْ يُعِيدَهَا إلَّا أَنْ لَا يَقْدِرَ عَلَى ذَلِكَ لِغَيْبَةِ الْبَيِّنَةِ فَلْيَدَعْ شَهَادَتَهُمْ بِمَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ وَيَصِيرُ كَالْبَعِيدِ الْغَيْبَةِ، وَهَذَا مَذْهَبُ سَحْنُونٍ كَمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ، فِي كِتَابِ ابْنِ الْمَوَّازِ: إنْ كَانَ قَرِيبًا فَلْيُحْضِرْهُ حَتَّى يَشْهَدُوا عَلَيْهِ أَوْ يُحْضِرَ وَكِيلَهُ، وَقَدْ يُذَكِّرُهُمْ أَمْرًا يَنْفَعُهُ فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ جَازَ ثُمَّ إذَا أَحْضَرَهُ أَخْبَرَهُ بِشَهَادَتِهِمْ، وَإِذَا أَمَرَ الْقَاضِي الْمَشْهُودَ عَلَيْهِ أَنْ يَحْضُرَ يَوْمَ كَذَا لِتَقَعَ الشَّهَادَةُ بِحَضْرَتِهِ وَأَشْهَدَ عَلَيْهِ خَصْمَهُ بِذَلِكَ يَحْضُرُ فَلْيَسْمَعْهَا الْحَاكِمُ عَلَيْهِ فِي غَيْبَتِهِ، وَيُقِرَّهَا عَلَيْهِ إذَا حَضَرَ، وَلَا يُعِيدُ لَهُ الشُّهُودَ، قَالَهُ ابْنُ عَبْدُ الْحَكَمِ فِي رِسَالَةِ الْقَضَاءِ.
[مَسْأَلَةٌ قَالَ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ لِلْقَاضِي اعْرِضْ عَلَيَّ شَهَادَتَهُمْ]
مَسْأَلَةٌ:
وَإِذَا قَالَ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ لِلْقَاضِي: اعْرِضْ عَلَيَّ شَهَادَتَهُمْ فَإِنْ كَانَ فِيهِمَا مَا لَا يُرْضِينِي دَفَعْتُهُ، فَيَلْزَمُ الْقَاضِي ذَلِكَ، قِيلَ لِابْنِ الْقَاسِمِ: فَيَكُونُ ذَلِكَ بِغَيْرِ مَحْضَرِ الْمَشْهُودِ لَهُ قَالَ: مَا أُبَالِي حَضَرَ أَوْ لَمْ يَحْضُرْ، قَالَ أَصْبَغُ: مِثْلَهُ.
وَقَالَ ابْنُ رُشْدٍ: وَهَذَا مِمَّا لَا أَخْتَلِفُ فِيهِ؛ لِأَنَّ مِنْ حَقِّ الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ أَنْ يَعْرِضَ عَلَيْهِ مَا شُهِدَ بِهِ عَلَيْهِ وَيُعْذَرُ إلَيْهِ فِيهِ، وَلَا حَقَّ لِلْمَشْهُودِ لَهُ فِي أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ بِحَضْرَتِهِ، كَمَا أَنَّهُ لَا حَقَّ لِلْمَشْهُودِ عَلَيْهِ أَنْ يَشْهَدَ الشُّهُودُ بِحَضْرَتِهِ.
[مَسْأَلَةٌ حَكَمَ الْقَاضِي عَلَى الْغَائِبِ ثُمَّ قَدِمَ الْغَائِبُ وَأَرَادَ أَنْ يَبْتَدِئَ الْخُصُومَةَ]
مَسْأَلَةٌ:
وَإِذَا حَكَمَ الْقَاضِي عَلَى الْغَائِبِ وَلَمْ يُسَلِّمْ الشُّهُودُ الَّذِينَ حَكَمَ بِهِمْ ثُمَّ قَدِمَ الْغَائِبُ وَأَرَادَ أَنْ يَبْتَدِئَ الْخُصُومَةَ.
وَقَالَ: لَوْ عَلِمْت مَنْ شَهِدَ عَلَيَّ لَرَدَدْت شَهَادَتَهُ كَانَ ذَلِكَ مِنْ حَقِّهِ، وَسَيَأْتِي ذَلِكَ مَبْسُوطًا فِي فَصْلِ الْحُكْمِ عَلَى الْغَائِبِ.

.فَصْلٌ فِي الْقَاضِي يَسْمَعُ بَيِّنَةَ أَحَدِ الْخَصْمَيْنِ ثُمَّ يُرِيدُ رَفْعَهُمَا إلَى حَاكِمٍ آخَرَ:

فِي أَحْكَامِ ابْنِ سَهْلٍ فِي رَجُلٍ قَامَ بِكِتَابٍ فِيهِ حَقٌّ عَلَى امْرَأَةٍ، فَأَنْكَرَتْ ذَلِكَ الْحَقَّ، فَأَتَى بِبَيِّنَةٍ فَلَمْ يَعْرِفْهُمْ الْحَاكِمُ، فَقَالَ لَهُ الطَّالِبُ: إنْ كُنْت لَمْ تَعْرِفْهُمْ وَلَسْت أَقْدِرُ عَلَى تَعْدِيلِهِمْ فَدَعْنَا نَمْضِي إلَى غَيْرِك مِنْ الْحُكَّامِ، فَقَالَتْ الْمَرْأَةُ: وَكَيْفَ بَعْدَ أَنْ أَنْكَرْت؟ وَأَتَى بِبَيِّنَةٍ لَمْ تَعْرِفْهُمْ وَلَمْ تَقْبَلْهُمْ، وَأَنَا أَرْجُو أَنْ تُعَجِّزَهُ وَتَقْطَعَ عَنِّي طَلَبَهُ وَتَعْنِيَتَهُ، وَكَيْفَ تُخْرِجُنَا مِنْ عَدْلِك إلَى مَنْ لَيْسَ مِثْلَك مِنْ الْحُكَّامِ؟ فَشَاوَرَ الْقَاضِي فِي ذَلِكَ وَسَأَلَ عَنْهُ، فَقَالَ ابْنُ لُبَابَةَ: هَذَا إلَى اجْتِهَادِ الْحَاكِمِ إنْ كَانَتْ بَيِّنَةٌ يُشْبِهُ مِثْلُهَا أَنْ يَقْبَلَهَا حَاكِمٌ وَيَرُدَّهَا آخَرُ فَلَا بَأْسَ أَنْ يَأْذَنَ لِلطَّالِبِ فِي الذَّهَابِ لِغَيْرِهِ، فَلَعَلَّ حَقَّ الرَّجُلِ يَصِحُّ عِنْدَ غَيْرِ هَذَا الْحَاكِمِ، وَإِنْ كَانَتْ بَيِّنَةٌ ضَعِيفَةٌ لَا يُرْجَى قَبُولُ مِثْلِهَا فَلَا يَدَعَهُمَا يَمْضِيَانِ إلَى غَيْرِهِ وَيَسْتَمِرُّ فِي نَظَرِهِ، قَالَ ابْنُ سَهْلٍ: وَهَذَا مِنْ لَحْنِ الْفِقْهِ وَلَوْ سُوِّغَ لِلنَّاسِ هَذَا وَشِبْهُهُ لَكَانَ عَوْنًا عَلَى التَّشْغِيبِ وَتَطْوِيلِ الْخِصَامِ عَلَى الْمَطْلُوبِ، وَهُمْ لَا يُجِيزُونَ لِلطَّالِبِ التَّوْكِيلَ عَلَى الْخِصَامِ بَعْدَ مُجَالَسَةِ الْمَطْلُوبِ عِنْدَ الْحَاكِمِ مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا وَانْعِقَادِ الْمَقَالَاتِ، إلَّا لِعُذْرٍ بَيِّنٍ لِلْحَاكِمِ مِنْ مَرَضٍ مُثْبَتٍ أَوْ سَفَرٍ خَطِرٍ، وَقَدْ أَجَازُوا تَحْكِيمَ الْمُتَدَاعِيَيْنِ رَجُلًا يَحْكُمُ بَيْنَهُمَا وَيَنْفُذُ حُكْمُهُ عَلَيْهِمَا، فَهَذَا الَّذِي قَالَهُ ابْنُ لُبَابَةَ لَا يَنْبَغِي أَلَّا يَقُولَ بِهِ أَحَدٌ وَلَا يُبِيحَهُ حَاكِمٌ مَعَ مَا فِيهِ مِنْ إذْلَالِ الْحُكَّامِ وَالِاسْتِخْفَافِ بِهِمْ، فَلَا يَنْبَغِي لِلْقَاضِي أَنْ يَصْرِفَ مِنْ ابْتِدَاءِ التَّحَاكُمِ عِنْدَ رَجَاءِ أَنْ يُظْهِرَ حَقَّهُ عِنْدَ غَيْرِهِ، بَلْ يُعْجِزُهُ إنْ عَجَزَ وَيَقْطَعُ عَنْ الْمَطْلُوبِ تَعْنِيَتُهُ إيَّاهُ. وَكَانَ يَنْبَغِي لِلرَّاغِبِ فِي هَذَا أَنْ يَخْتَارَ لِنَفْسِهِ الْحَاكِمَ الَّذِي يَظُنُّ ظُهُورَ حَقِّهِ عِنْدَهُ، وَأَمَّا بَعْدَ ابْتِدَائِهِ عِنْدَ حَاكِمٍ ثُمَّ يُرِيدُ الْعُدُولَ عَنْهُ إلَى آخَرَ فَغَيْرُ سَائِغٍ لَهُ، وَقَدْ كَانَ مَنْ يَنْزِلُ بِهِ ذَلِكَ مِنْ الْحُكَّامِ بِقُرْطُبَةَ يُوَكِّلُ بِمَنْ بَلَغَهُ عَنْهُ مِثْلَ ذَلِكَ مَنْ يَرُدُّهُ بِهِ لِإِتْمَامِ تَحَاكُمِهِ لَدَيْهِ، وَهُوَ الَّذِي لَا يَنْبَغِي غَيْرُهُ وَلَا يُسَامَحُ فِيمَا سِوَاهُ، وَالْمَازِرِيُّ فِي شَرْحِ التَّلْقِينِ نَحْوَ ذَلِكَ، قَالَ: وَهَلْ يُمْكِنُ أَحَدَ الْمُحَكِّمَيْنِ مِنْ الرُّجُوعِ عَنْ الرِّضَا بِقَوْلِ الْمُحَكَّمِ؟ فِيهِ خِلَافٌ، بِخِلَافِ الْقَاضِي مِنْ قِبَلِ الْإِمَامِ الَّذِي يَنْفُذُ حُكْمُهُ عَلَى مَنْ كَرِهَ، يَعْنِي أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ الرُّجُوعُ وَلَا عَدَمُ الرِّضَا بِتَمَامِ الْحُكُومَةِ عِنْدَ الْحَاكِمِ.
فَرْعٌ:
وَفِي أَحْكَامِ ابْنِ سَهْلٍ أَيْضًا فِي امْرَأَةٍ قَامَتْ عِنْدَ الْقَاضِي بِصَدَاقٍ لَمْ يُعْرَفْ مِنْ شُهُودِهِ الَّذِينَ قَالُوا إنَّهُمْ يَعْرِفُونَ عَيْنَهَا غَيْرَ شَاهِدٍ وَاحِدٍ، وَرَأَى أَنَّ غَيْرَهُ لَا يَتَعَدَّلُونَ فَصَرَفَهَا عَنْ نَظَرِهِ، وَقَالَ لَهَا اذْهَبِي إلَى مَنْ شِئْت مِنْ الْحُكَّامِ فَلَعَلَّ غَيْرِي يَعْرِفُ بَيِّنَتَك، فَاسْتَحْسَنَ الْفُقَهَاءُ فِعْلَهُ وَقَالُوا: رُبَّ حَقٍّ لَا يَثْبُتُ عِنْدَ حَاكِمٍ وَيَثْبُتُ عِنْدَ غَيْرِهِ. وَيُمْكِنُ الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا بِأَنَّ الْمَسْأَلَةَ الْأُولَى وَقَعَ فِيهَا الدَّعْوَى وَالْإِنْكَارُ وَانْعَقَدَتْ بَيْنَهُمَا الْمَقَالَاتُ وَسُمِعَتْ الْبَيِّنَةُ، وَفِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ لَمْ يَحْضُرْ مَعَهَا غُرَمَاؤُهَا بَلْ رَفَعَتْ أَمْرَهَا إلَى الْقَاضِي فَوَقَفَ عَلَى كِتَابِهَا ثُمَّ صَرَفَهَا عَنْ نَفْسِهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
[مَسْأَلَةٌ فِي اسْتِئْنَافُ الشَّهَادَةِ عِنْدَ حَاكِمٍ ثَانٍ]
مَسْأَلَةٌ:
مِنْ هَذَا الْمَعْنَى قَالَ ابْنُ سَهْلٍ يَجُوزُ اسْتِئْنَافُ الشَّهَادَةِ عِنْدَ حَاكِمٍ ثَانٍ إذَا لَمْ يَشْهَدْ الْحَاكِمُ الْأَوَّلُ بِقَبُولِهَا ذَكَرَهُ فِي شَهَادَةٍ رُفِعَتْ إلَى الْقَاضِي فِي خُصُومَةٍ فَلَمْ يَشْهَدْ الْقَاضِي بِقَبُولِ تِلْكَ الشَّهَادَةِ لِعِلَلٍ دَخَلَتْهَا، وَاخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ مِنْهَا مِنْ أَجَلِ تِلْكَ الْعِلَلِ. فَبَقِيَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ حَتَّى صُرِفَ الْأَمْرُ بَيْنَ الْمُتَنَازِعَيْنِ إلَى حَاكِمٍ آخَرَ، فَبَعَثَ إلَى الْحَاكِمِ الْأَوَّلِ أَنْ يَبْعَثَ إلَيْهِ تِلْكَ الشَّهَادَةَ فَسَأَلَ الْحَاكِمُ الْأَوَّلُ الْفُقَهَاءَ عَنْ هَذَا فَأَجَابُوهُ: الَّذِي نَقُولُ بِهِ عَلَى مَذْهَبِ أَصْحَابِنَا وَقَوْلِهِمْ إنَّ ذَلِكَ لَا يَجِبُ عَلَيْك؛ لِأَنَّك لَمْ تَكُنْ قَيَّدْت الشَّهَادَةَ بِقَوْلِ أَشَهِدْت بِهِ عَلَى نَفْسِك فَعَلَى مَنْ صَارَ النَّظَرُ إلَيْهِ ابْتِدَاءُ النَّظَرِ فِي الْخُصُومَةِ، وَلَا يَلْزَمُك أَنْ تَرْفَعَ إلَيْهِ الشَّهَادَةَ الَّتِي قَيَّدْت عِنْدَك.
[مَسْأَلَةٌ رُفِعَتْ قَضِيَّةٌ إلَى الْحَاكِمِ وَأَحْضَرَ الْمُدَّعِي شَاهِدًا وَاحِدًا]
مَسْأَلَةٌ:
إذَا رُفِعَتْ قَضِيَّةٌ إلَى الْحَاكِمِ وَأَحْضَرَ الْمُدَّعِي شَاهِدًا وَاحِدًا ثُمَّ صَرَفَ الْأَمِيرُ الْقَضِيَّةَ عَنْ ذَلِكَ الْحَاكِمِ إلَى حَاكِمٍ آخَرَ فَنَظَرَ فِيهَا وَلَمْ يَتِمَّ نَظَرُهُ ثُمَّ رُدَّتْ إلَى الْحَاكِمِ الْأَوَّلِ لِيَنْظُرَ فِيهَا فلابد مِنْ إعَادَةِ الشَّاهِدِ الْأَوَّلِ لِيُؤَدِّيَ شَهَادَتَهُ، وَذَلِكَ كَنَظَرٍ مُبْتَدَأٍ، فَإِنْ كَانَ انْصِرَافُ الْقَضِيَّةِ عَنْهُ بِغَيْرِ أَمْرِ الْأَمِيرِ فَشَهَادَةُ الشَّاهِدِ الْأَوَّلِ مُجْزِئَةٌ وَلَا تُعَادُ (مِنْ ابْنِ سَهْلٍ)، وَهَذَا وَمَا قَبْلَهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ لِلْحَاكِمِ أَنْ يَنْظُرَ فِيمَا نَظَرَ فِيهِ غَيْرُهُ مِنْ الْحُكَّامِ مِمَّا لَمْ يَفْصِلْ فِيهِ حُكْمٌ.
[مَسْأَلَةٌ تَوَاضَعَ الْخَصْمَانِ عِنْدَ الْقَاضِي الْحُجَجَ]
مَسْأَلَةٌ:
قَالَ أَصْبَغُ وَإِذَا تَوَاضَعَ الْخَصْمَانِ عِنْدَ الْقَاضِي الْحُجَجَ، فَأَرَادَ الْحُكْمَ عَلَى أَحَدِهِمَا بِمَا تَبَيَّنَ مِنْ الْحَقِّ فَاسْتَغَاثَ بِالْأَمِيرِ وَهُوَ جَائِزٌ فَأَمَرَهُ بِتَرْكِ النَّظَرِ فِي ذَلِكَ فَحَقٌّ عَلَيْهِ أَنْ يُنَفِّذَ لَهُ حُكْمَهُ وَلَا يَنْظُرَ فِي قَوْلِ الْأَمِيرِ إلَّا أَنْ يَعْزِلَهُ رَأْسًا، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ فِي مُبْتَدَأِ أَمَدِهِمَا وَقَبْلَ أَنْ تَبَيَّنَ لَهُ حَقُّ أَحَدِهِمَا فَنَهَاهُ الْأَمِيرُ عَنْ النَّظَرِ فِي أَمْرِهِمَا فَأَرَى أَنْ يَنْتَهِيَ وَيَدَعَهُمَا، وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ تُبَيِّنُ مَعْنَى الْمَسْأَلَةِ الَّتِي قَبْلَهَا أَنَّ الْأَمِيرَ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَصْرِفَ الْقَضِيَّةَ عَنْ الْحَاكِمِ إلَى حَاكِمٍ آخَرَ بَعْدَ تَمَامِ نَظَرِ الْأَوَّلِ (مِنْ مُخْتَصَرِ الْوَاضِحَةِ).
مَسْأَلَةٌ:
قَالَ ابْنُ حَبِيبٍ قَالَ مُطَرِّفٌ فِي الْقَاضِي يَتَوَاضَعُ الْخَصْمَانِ عِنْدَهُ الْحُجَجَ، فَيَقُولُ لَهُمَا: اجْتَهَدَا فَإِنِّي لَسْت أُقِيلُكُمَا: فَيَضَعَانِ حُجَّتَهُمَا وَيُوَقَّعُ ذَلِكَ فِي دِيوَانِ الْقَاضِي ثُمَّ يُرِيدُ أَحَدُهُمَا أَنْ يَتَحَوَّلَ مِنْ حُجَّتِهِ إلَى حُجَّةٍ أُخْرَى فَإِنِّي أَرَى لَهُ أَنْ يُقِيلَ النَّاسَ مِنْ حُجَجِهِمْ وَلَا يُظْفِرُهَا عَلَيْهِمْ حُجَجًا لَا يَنْتَقِلُونَ عَنْهَا إلَى غَيْرِهَا؛ لِأَنَّ الرَّجُلَ قَدْ يَضَعُ حُجَّتَهُ فَيُسْقِطُ مِنْهَا كَثِيرًا نِسْيَانًا لَهَا أَوْ عَجَلًا أَوْ حَصَرًا إلَّا أَنْ يَسْتَوْعِبَ أَمْرَ الْخَصْمَيْنِ بِالْكَشْفِ عَنْ أَمْرِهِمَا وَيُعْجِزَا أَنْفُسَهُمَا وَيَقُولَا لَهُ لَيْسَ عِنْدَنَا مِنْ الْبَيِّنَةِ وَالْحُجَجِ إلَّا الَّذِي وَضَعْنَاهُ عِنْدَك، ثُمَّ إنَّ الْقَاضِيَ وَقَفَ لِيَسْتَشِيرَ فِي ذَلِكَ فَحِينَئِذٍ إنْ بَدَا لِأَحَدِهِمَا أَنْ يَنْتَقِلَ عَنْ حُجَّتِهِ إلَى غَيْرِهَا تَكُونُ أَنْفَعَ لَهُ، لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ إلَّا أَنْ يَرَى الْقَاضِي لِذَلِكَ وَجْهًا وَيَثْبُتُ عِنْدَهُ عُذْرُهُ، فَإِنْ أَتَى بِبَيِّنَةٍ وَكَانَ قَدْ عَجَزَ نَفْسُهُ عَنْهَا فَإِنْ رَأَى السُّلْطَانُ أَنَّ بَيِّنَتَهُ تِلْكَ كَانَتْ غَائِبَةً غَيْبَةً بَعِيدَةً أَوْ لَمْ يَكُنْ يَعْرِفُ بِهَا قَبْلَ ذَلِكَ مِنْهُ وَنَظَرَ لَهُ مَا لَمْ يَفْصِلْ الْحُكْمُ بَيْنَهُمَا، فَحِينَئِذٍ لَا يَنْظُرُ لَهُ فِي بَيِّنَتِهِ وَلَا يَعْذِرُهُ بِغَيْبَتِهَا وَلَا بِمَا خَفِيَ عَنْهُ مِنْ أَمْرِهَا، وَكَذَا لَوْ أَرَادَ أَنْ يَأْتِيَ بِحُجَّةٍ لَمْ يَكُنْ أَتَى بِهَا أَوْ يَجْرَحَ مَنْ كَانَ مُكِّنَ مِنْ جَرْحِهِ فَلَمْ يَفْعَلْ لَمْ يَكُنْ لَهُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ وَمَضَى أَمْرُهُ، وَهَذَا الَّذِي عَلَيْهِ أَمْرُ الْحُكَّامِ بِالْمَدِينَةِ وَقَالَهُ أَصْبَغُ.
وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ وَغَيْرُهُ مِنْ أَصْحَابِنَا فِي ذَلِكَ هُوَ الْأَمْرُ عِنْدَنَا. قَالَ فَضْلُ بْنُ سَلَمَةَ قَالَ ابْنُ عَبْدُوسٍ وَحَكَى ابْنُ الْقَاسِمِ وَغَيْرُهُ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ أَنَّهُ إذَا أَتَى بِبَيِّنَةٍ لَمْ يَكُنْ عَلِمَ بِهَا أَنَّهُ يَقُومُ بِهَا.

.الْفَصْلُ السَّابِعُ فِي اسْتِخْلَافِ الْقَاضِي:

وَإِذَا نَهَى الْإِمَامُ الْقَاضِيَ عَنْ الِاسْتِخْلَافِ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَسْتَخْلِفَ، وَإِنْ أَذِنَ لَهُ فِيهِ اسْتَخْلَفَ عَلَى مُقْتَضَى الْإِذْنِ، فَإِنْ تَجَرَّدَ عَقْدُ التَّوْلِيَةِ عَنْ النَّهْيِ وَالْإِذْنِ جَمِيعًا، فَقَالَ ابْنُ الْمَاجِشُونِ وَمُطَرِّفٌ وَأَصْبَغُ: لَيْسَ لِقَاضِي الْخَلِيفَةِ اسْتِخْلَافُ قَاضٍ مَكَانَهُ إذَا كَانَ حَاضِرًا يَحْكُمُ وَلَا إنْ عَاقَهُ مَا يَعُوقُ مِنْ الشُّغْلِ. قَالَ ابْنُ رُشْدٍ: وَهَذَا يَسْتَخْلِفُ فِي الْبَلَدِ الَّذِي هُوَ فِيهِ؛ لِيَكْفِيَهُ بَعْضَ تَعَبِ الْخُصُومِ، وَأَمَّا إنْ كَانَ عَمَلُ الْقَاضِي وَاسِعًا فَيُرِيدُ أَنْ يَقْدُمَ فِي الْجِهَاتِ الْبَعِيدَةِ فَالْمَشْهُورُ الْجَوَازُ.
وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ: لابد مِنْ إذْنِ الْخَلِيفَةِ، وَفِي الْمَازِرِيِّ: قَالَ ابْنُ الْمَاجِشُونِ: إذَا وَلَّاهُ الْإِمَامُ عَلَى ثَلَاثَةِ كُوَرٍ لَمْ يَلْزَمْهُ أَنْ يَدُورَ عَلَيْهِمَا، وَلَهُ أَنْ يَسْتَخْلِفَ، وَأَمَّا إنْ سَافَرَ الْقَاضِي قَالَ فِي كِتَابِ ابْنِ حَبِيبٍ: أَوْ مَرِضَ فَلَهُ أَنْ يَجْعَلَ فِي مَكَانِهِ مَنْ يَقُومُ مَقَامَهُ وَيُنَفِّذُ أُمُورَهُ، وَلَا يَكُونُ مُتَعَدِّيًا عَلَى مَنْ اسْتَقْضَاهُ.
وَقَالَ سَحْنُونٌ: لَا يَسْتَخْلِفُ، وَإِنْ سَافَرَ أَوْ مَرِضَ إلَّا بِإِذْنِ الْخَلِيفَةِ، وَكَأَنَّهُ رَآهُ وَكِيلًا مَخْصُوصًا، وَفِي الْمَازِرِيِّ: فَإِنْ فَعَلَ فَقَضَاءُ الْمُسْتَخْلَفِ لَا يَنْفُذُ إلَّا إذَا أَنْفَذَهُ الْقَاضِي الَّذِي اسْتَخْلَفَهُ.
مَسْأَلَةٌ:
وَلَا يُشْتَرَطُ فِي نَائِبِ الْقَاضِي أَنْ يَكُونَ بِصِفَاتِ الْقَضَاءِ الْمُتَقَدِّمَةِ إلَّا إذَا كَانَ مُسْتَخْلَفًا فِي جَمِيعِ الْأَحْكَامِ فَحِينَئِذٍ لابد أَنْ يَكُونَ عَالِمًا بِهَا، وَإِنْ اُسْتُخْلِفَ فِي شَيْءٍ خَاصٍّ مِثْلَ سَمَاعِ الشَّهَادَةِ وَالنَّقْلِ فَلَا يُشْتَرَطُ إلَّا مَعْرِفَتُهُ بِذَلِكَ الْقَدْرِ خَاصَّةً.
مَسْأَلَةٌ:
قَالَ ابْنُ رَاشِدٍ: وَيَجُوزُ لِلْقَاضِي أَنْ يَسْتَخْلِفَ نَائِبًا عَلَى النَّظَرِ فِي الْمَنَاكِحِ وَمَا يُضَافُ إلَيْهَا مِنْ فَرْضِ النَّفَقَاتِ، وَعَلَى الْحِسْبَةِ وَعَلَى النَّظَرِ فِي الْأَحْبَاسِ، وَلَا يَحْتَاجُ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ إلَى إذْنِ الْخَلِيفَةِ.
مَسْأَلَةٌ:
وَفِي مُخْتَصَرِ الْوَاضِحَةِ قَالَ ابْنُ حَبِيبٍ: وَإِذَا أَرْسَلَ الْقَاضِي إلَى الْفَقِيهِ وَقَالَ اُنْظُرْ بَيْنَهُمَا ثُمَّ أَمْضِ مَا تَرَى فَذَلِكَ جَائِزٌ مَاضٍ، وَكَأَنَّهُ إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ سُلْطَانٌ مُتَّصِلٌ يَصْحَبُهُ بَعْدَ مَا يَقُومُ مِنْ مَجْلِسِ حُكْمِهِ بِمَنْزِلَةِ مُشِيرٍ أَمْضَى الْقَاضِي رَأْيَهُ فَلَزِمَ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ لَهُ بَعْدُ أَمْرٌ إلَّا بِتَجْدِيدٍ وَأَجَلٍ حَادِثٍ مِنْ الْقَاضِي، وَلَيْسَ يُسَمَّى هَذَا قَاضِيًا، وَلَا عَامِلًا، وَلَا سُلْطَانًا، وَلَا مُسْتَخْلَفًا، وَكَأَنَّهُ حَكَّمَهُ الْقَاضِي بَيْنَهُمَا، قَالَ فَضْلُ بْنُ سَلَمَةَ: وَأَبَى ذَلِكَ سَحْنُونٌ، قَالَ: لَا يَنْفُذُ إلَّا أَنْ يَكُونَ رَفَعَ ذَلِكَ إلَى الْقَاضِي بَعْدَ ذَلِكَ فَتَرَكَهُ فَيَكُونُ كَأَنَّهُ أَنْفَذَهُ. قَالَ فَضْلٌ: وَإِنَّمَا قَالَ سَحْنُونٌ هَذَا فِي الْقَاضِي يُحَكِّمُ الرَّجُلَ عَلَى النَّظَرِ بَيْنَ الْخَصْمَيْنِ، وَإِرْسَالُهُ إلَى الْفَقِيهِ عِنْدِي أَنَّهُ مِثْلُهُ فَتَدَبَّرْهُ.
مَسْأَلَةٌ:
وَفِي وَثَائِقِ ابْنِ الْعَطَّارِ، وَلَا يُسَجِّلُ نَائِبُ الْقَاضِي بِمَا ثَبَتَ عِنْدَهُ فَإِنْ فَعَلَ فَلَا يَجُوزُ تَسْجِيلُهُ وَيَبْطُلُ، وَلَا تَقُومُ بِهِ لِلْقَائِمِ حُجَّةٌ إلَّا أَنْ يُجِيزَهُ الْقَاضِي الَّذِي اسْتَخْلَفَهُ قَبْلَ أَنْ يُعْزَلَ أَوْ يَمُوتَ، وَإِنْ كَانَتْ اسْتِنَابَةُ الْقَاضِي لِنَائِبِهِ عَنْ إذْنِ الْإِمَامِ وَرَأْيِهِ، وَكَانَ ذَلِكَ مُسْتَفِيضًا مَعْرُوفًا مَشْهُورًا كَاشْتِهَارِ وِلَايَةِ الْقَاضِي، فَلِلنَّائِبِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ أَنْ يُسَجِّلَ وَيُنَفِّذَ تَسْجِيلَهُ دُونَ إجَازَةِ الْقَاضِي، وَلَيْسَ لِأَحَدٍ رَدُّهُ، وَلَا الِاعْتِرَاضُ فِيهِ بِوَجْهٍ مِنْ الْوُجُوهِ، وَإِذَا قُلْنَا: إنَّ النَّائِبَ لَا يُسَجِّلُ فَإِنَّ لَهُ أَنْ يَسْمَعَ الْبَيِّنَةَ وَيَشْهَدَ عِنْدَهُ الشُّهُودُ فِيمَا فِيهِ التَّنَازُعُ، وَلَهُ قَبُولُ مَنْ عُرِفَ مِنْهُمْ بِعَدَالَةٍ، وَتُعْقَدُ عِنْدَهُ الْمَقَالَاتُ ثُمَّ يُرْفَعُ ذَلِكَ كُلُّهُ إلَى الْقَاضِي الَّذِي اسْتَخْلَفَهُ وَيُخْبِرُهُ بِهِ بِحَضْرَةِ شَاهِدَيْنِ لِيَثْبُتَ بِهِمَا عِنْدَ الْقَاضِي إخْبَارُهُ لَهُ، وَيَلْزَمُ الْقَاضِيَ حِينَئِذٍ أَنْ يُجِيزَ فِعْلَ نَائِبِهِ وَيُنَفِّذَ مَا ثَبَتَ عِنْدَهُ وَيُسَجِّلَ بِهِ لِلْمَحْكُومِ لَهُ.

.فَصْلٌ:[نَائِبُ الْقَاضِي يَنْعَزِلُ بِمَوْتِ الْقَاضِي]

نَائِبُ الْقَاضِي يَنْعَزِلُ بِمَوْتِ الْقَاضِي، قَالَ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ: وَعِنْدِي أَنَّ هَذَا صَحِيحٌ إنْ كَانَ اسْتِنَابَةً بِمُقْتَضَى الْوِلَايَةِ عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ لَهُ ذَلِكَ، وَأَمَّا إنْ اسْتَنَابَ رَجُلًا مُعَيَّنًا بِإِذْنِ الْأَمِيرِ أَوْ الْخَلِيفَةِ فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَنْعَزِلَ النَّائِبُ بِمَوْتِ الْقَاضِي، وَلَوْ أَذِنَ لَهُ فِي النِّيَابَةِ إذْنًا مُطْلَقًا مِنْ غَيْرِ تَعْيِينِ رَجُلٍ، فَاخْتَارَ الْقَاضِي رَجُلًا فَفِي انْعِزَالِ هَذَا النَّائِبِ بِمَوْتِ الْقَاضِي نَظَرٌ. وَأَمَّا إذَا مَاتَ الْخَلِيفَةُ أَوْ الْأَمِيرُ فَلَا يَنْعَزِلُ مَنْ قَدَّمَاهُ لِلْقَضَاءِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ كَانَ مِنْهُمَا نَظَرًا لِلْمُسْلِمِينَ لَيْسَ لَهُمَا فِيهِ حَظٌّ، وَلَا يَعْزِلُهُ إلَّا الْخَلِيفَةُ الثَّانِي أَوْ الْأَمِيرُ الثَّانِي.

.الْفَصْلُ الثَّامِنُ فِي التَّحْكِيمِ:

فِي التَّحْكِيمِ وَمَعْنَاهُ أَنَّ الْخَصْمَيْنِ إذَا حَكَّمَا بَيْنَهُمَا رَجُلًا وَارْتَضَيَاهُ؛ لَأَنْ يَحْكُمَ بَيْنَهُمَا، فَإِنَّ ذَلِكَ جَائِزٌ فِي الْأَمْوَالِ وَمَا فِي مَعْنَاهَا، وَلَا يُقِيمُ الْمُحَكَّمُ حَدًّا، وَلَا يُلَاعِنُ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ، وَلَا يُحَكَّمُ فِي قِصَاصٍ أَوْ قَذْفٍ أَوْ طَلَاقٍ أَوْ عَتَاقٍ أَوْ نَسَبٍ أَوْ وَلَاءٍ، وَإِنَّمَا اُسْتُثْنِيَتْ هَذِهِ الْمَسَائِلُ مِنْ هَذِهِ الْقَاعِدَةِ؛ لِاسْتِلْزَامِهَا إثْبَاتَ حُكْمٍ أَوْ نَفْيَهُ مِنْ غَيْرِ الْمُتَحَاكِمَيْنِ، وَمَنْ عَدَا هَذَيْنِ الْمُتَحَاكِمَيْنِ لَمْ يَرْضَ بِحُكْمِ هَذَا الْمُحَكَّمِ، فَاللِّعَانُ يَتَعَلَّقُ بِهِ حَقُّ الْوَلَدِ فِي نَفْيِ نَسَبِهِ مِنْ أَبِيهِ، فَقَدْ يَنْفِيهِ هَذَا الْمُحَكَّمُ، وَلَيْسَ لَهُ وِلَايَةٌ عَلَى الْحُكْمِ فِي هَذَا الْوَلَدِ، وَكَذَلِكَ النَّسَبُ وَالْوَلَاءُ يَسْرِي إلَى غَيْرِ الْمُحَكِّمَيْنِ، وَمَنْ يَسْرِي ذَلِكَ إلَيْهِ لَمْ يَرْضَ بِحُكْمِ الْمُحَكَّمِ، وَكَذَلِكَ الطَّلَاقُ وَالْعِتْقُ فِيهِمَا حَقٌّ لِلَّهِ تَعَالَى إذْ لَا يَجُوزُ أَنْ تَبْقَى الْمُطَلَّقَةُ الْبَائِنُ فِي الْعِصْمَةِ، وَلَا أَنْ يُرَدَّ الْعَتِيقُ إلَى الرِّقِّ، وَإِنْ رَضِيَ، وَاَللَّهُ تَعَالَى لَمْ يَجْعَلْ النَّظَرَ فِي هَذِهِ الْحُقُوقِ إلَى هَذَا الرَّجُلِ الْمُحَكَّمِ، وَحَيْثُ قُلْنَا لَا يَحْكُمُ فِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ فَلَوْ حَكَمَ فِيهَا بِغَيْرِ الْجَوْرِ نَفَذَ حُكْمُهُ وَيُنْهَى عَنْ الْعَوْدِ لِمِثْلِهِ، وَلَوْ أَقَامَ ذَلِكَ بِنَفْسِهِ فَقَتَلَ أَوْ اقْتَصَّ أَوْ ضَرَبَ الْحَدَّ أُدِّبَ وَزُجِرَ وَمَضَى مَا كَانَ صَوَابًا مِنْ حُكْمِهِ وَصَارَ الْمَحْدُودُ بِالْقَذْفِ مَحْدُودًا وَالتَّلَاعُنُ مَاضِيًا.
مَسْأَلَةٌ:
وَلَا يُشْتَرَطُ دَوَامُ الرِّضَا إلَى حِينِ نُفُوذِ الْحُكْمِ بَلْ لَوْ أَقَامَا الْبَيِّنَةَ عِنْدَهُ ثُمَّ بَدَا لِأَحَدِهِمَا قَبْلَ أَنْ يَحْكُمَ فَلْيَقْضِ بَيْنَهُمَا وَيَجُوزُ حُكْمُهُ.
وَقَالَ أَصْبَغُ: لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الرُّجُوعُ مَا لَمْ يَنْشَبَا فِي الْخُصُومَةِ عِنْدَهُ فَيَلْزَمُهُمَا التَّمَادِي فِيهَا، كَمَا لَيْسَ لِأَحَدِهِمَا إذَا تَرَافَعَا الْخُصُومَةُ عِنْدَ الْقَاضِي أَنْ يُوَكِّلَ وَكِيلًا أَوْ يَعْزِلَهُ.
وَقَالَ سَحْنُونٌ فِي كِتَابِ ابْنِهِ: لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الرُّجُوعُ مَا لَمْ يُفْصَلْ الْحُكْمُ بَيْنَهُمَا.
وَقَالَ ابْنُ الْمَاجِشُونِ: لَيْسَ لِأَحَدِهِمَا الرُّجُوعُ كَانَ ذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يُقَاعِدَ صَاحِبَهُ لَوْ بَعْدَ مَا نَاشَبَهُ الْخُصُومَةَ وَحُكْمُهُ لَازِمٌ لَهُمَا.
مَسْأَلَةٌ:
إذَا حَكَمَ الْمُحَكَّمُ فَلَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَنْقُضَ حُكْمَهُ، وَإِنْ خَالَفَ مَذْهَبَهُ إلَّا أَنْ يَكُونَ جَوْرًا بَيِّنًا لَمْ يَخْتَلِفْ فِيهِ أَهْلُ الْعِلْمِ.
مَسْأَلَةٌ:
قَالَ اللَّخْمِيُّ: إنَّمَا يَجُوزُ التَّحْكِيمُ إذَا كَانَ الْمُحَكَّمُ عَدْلًا مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ أَوْ عَامِّيًّا وَاسْتَرْشَدَ الْعُلَمَاءَ، فَإِنْ حَكَمَ، وَلَمْ يَسْتَرْشِدْ رُدَّ، وَإِنْ وَافَقَ قَوْلَ قَائِلٍ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ تَخَاطُرٌ مِنْهُمَا وَغَرَرٌ.
وَقَالَ الْمَازِرِيُّ: لَا يُحَكَّمُ إلَّا مَنْ يَصِحُّ أَنْ يُوَلَّى الْقَضَاءَ. قَالَ: وَإِذَا كَانَ الْمُحَكَّمُ مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ مَالِكِيًّا، وَلَمْ يَخْرُجْ بِاجْتِهَادِهِ عَنْ مَذْهَبِ مَالِكٍ لَزِمَ حُكْمُهُ، وَإِنْ خَرَجَ عَنْ ذَلِكَ لَمْ يَلْزَمْ إذَا كَانَ الْخِصَامُ بَيْنَ مَالِكِيَّيْنِ؛ لِأَنَّهُمَا لَمْ يُحَكِّمَاهُ عَلَى أَنْ يَخْرُجَ مِنْ قَوْلِ مَالِكٍ وَأَصْحَابِهِ، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَا شَافِعِيَّيْنِ أَوْ حَنَفِيَّيْنِ وَحَكَّمَاهُ عَلَى مِثْلِ ذَلِكَ لَمْ يَلْزَمْ حُكْمُهُ إنْ حَكَّمَ بَيْنَهُمَا بِغَيْرِ ذَلِكَ.
مَسْأَلَةٌ:
وَإِذَا حَكَّمَ الْخَصْمَانِ عَبْدًا أَوْ امْرَأَةً أَوْ مَسْخُوطًا أَوْ صَبِيًّا أَوْ مَعْتُوهًا أَوْ مُوَسْوِسًا أَوْ كَافِرًا أَوْ مَجْنُونًا فَإِنَّ أَحْكَامَ الْمَجْنُونِ وَالْمُوَسْوِسِ وَالْكَافِرِ لَا تَلْزَمُ بِلَا خِلَافٍ، وَاخْتُلِفَ فِيمَنْ عَدَاهُمْ، قَالَ أَصْبَغُ: وَرُبَّ غُلَامٍ لَمْ يَبْلُغْ لَهُ عِلْمٌ بِالْقَضَاءِ. قَالَ الْمَازِرِيُّ: وَفِي الْمَذْهَبِ فِي ذَلِكَ أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ: الْجَوَازُ فِي الْجَمِيعِ، وَالْمَنْعُ فِي الْجَمِيعِ، وَالْجَوَازُ إلَّا فِي الْمَسْخُوطِ وَالصَّبِيِّ.
مَسْأَلَةٌ:
فَإِذَا حَكَّمَ أَحَدُ الْخَصْمَيْنِ صَاحِبَهُ فَحَكَمَ لِنَفْسِهِ أَوْ عَلَيْهَا جَازَ وَمَضَى مَا لَمْ يَكُنْ جَوْرًا بَيِّنًا، وَلَيْسَ تَحْكِيمُ الْخَصْمِ خَصِيمَهُ كَتَحْكِيمِ خَصْمٍ الْقَاضِيَ. قَالَ أَصْبَغُ: لَا أُحِبُّ ذَلِكَ، فَإِنْ وَقَعَ مَضَى، وَلْيَذْكُرْ فِي حُكْمِهِ رِضَاهُ بِالتَّحَاكُمِ إلَيْهِ، وَقِيلَ لَا يَجُوزُ حُكْمُ الْقَاضِي لِنَفْسِهِ وَقِيلَ يَجُوزُ.

.الرُّكْنُ الثَّانِي مِنْ أَرْكَانِ الْقَضَاءِ الْمَقْضِيُّ بِهِ:

وَهُوَ الْحُكْمُ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى فَإِنْ لَمْ يَجِدْ فَبِسُنَّةِ نَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّتِي صَاحَبَهَا الْعَمَلُ. فَإِذَا كَانَ خَبَرًا صَحِبَتْ غَيْرَهُ الْأَعْمَالُ قَضَى بِمَا صَحِبَتْهُ الْأَعْمَالُ، وَهَذَا مَعْلُومٌ مِنْ أَصْلِ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ إذْ الْعَمَلُ مُقَدَّمٌ عَلَى خَبَرِ الْآحَادِ، وَكَذَلِكَ الْقِيَاسُ، عِنْدَهُ مُقَدَّمٌ عَلَى أَخْبَارِ الْآحَادِ عَلَى مَا ذَهَبَ إلَيْهِ أَبُو بَكْرٍ الْأَبْهَرِيُّ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ فِي السُّنَّةِ شَيْئًا نَظَرَ فِي أَقْوَالِ الصَّحَابَةِ فَقَضَى بِمَا اتَّفَقُوا عَلَيْهِ، فَإِنْ اخْتَلَفُوا قَضَى بِمَا صَحِبَتْهُ الْأَعْمَالُ مِنْ ذَلِكَ، فَإِنْ لَمْ يَصِحَّ عِنْدَهُ أَيْضًا أَنَّ الْعَمَلَ اتَّصَلَ بِقَوْلِ بَعْضِهِمْ تَخَيَّرَ مِنْ أَقْوَالِهِمْ، وَلَا يُخَالِفُهُمْ جَمِيعًا، وَقَدْ قِيلَ: لَهُ أَنْ يَجْتَهِدَ، وَإِنْ خَالَفَهُمْ جَمِيعًا، وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ فِي إجْمَاعِ التَّابِعِينَ بَعْدَ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، وَفِي كُلِّ إجْمَاعٍ يَنْعَقِدُ فِي كُلِّ عَصْرٍ مِنْ الْأَعْصَارِ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ؛ لِقَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} [النساء: 115]؛ وَلِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَنْ تَجْتَمِعَ أُمَّتِي عَلَى ضَلَالَةٍ»؛ وَلِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «يَدُ اللَّهِ مَعَ الْجَمَاعَةِ»، فَإِذَا ضَمِنَ اللَّهُ تَعَالَى حِفْظَ الْجَمَاعَةِ لَمْ يَجُزْ عَلَيْهِمْ الْغَلَطُ وَالسَّهْوُ. فَإِنْ لَمْ يَجِدْ فِي النَّازِلَةِ إجْمَاعًا قَضَى بِمَا يُؤَدِّي إلَيْهِ النَّظَرُ وَالِاجْتِهَادُ فِي الْقِيَاسِ عَلَى الْأُصُولِ بَعْدَ مَشُورَةِ أَهْلِ الْعِلْمِ، فَإِنْ اجْتَمَعُوا عَلَى شَيْءٍ أَخَذَ بِهِ، وَإِنْ اخْتَلَفُوا نَظَرَ إلَى أَحْسَنِ أَقْوَالِهِمْ عِنْدَهُ، وَإِنْ رَأَى خِلَافَ رَأْيِهِمْ قَضَى بِمَا رَأَى إذَا كَانَ نَظِيرًا لَهُمْ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ نُظَرَائِهِمْ فَلَيْسَ لَهُ ذَلِكَ.
قَالَ ابْنُ حَبِيبٍ وَهُوَ قَوْلٌ فِيهِ اعْتِرَاضٌ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ إذَا كَانَ مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ فَلَهُ أَنْ يَقْضِيَ بِمَا رَأَى، وَإِنْ كَانُوا أَعْلَمَ مِنْهُ؛ لِأَنَّ التَّقْلِيدَ لَا يَصِحُّ لِلْمُجْتَهِدِ فِيمَا يُرَى خِلَافُهُ بِإِجْمَاعٍ، وَإِنَّمَا يَصِحُّ لَهُ التَّقْلِيدُ مَا لَمْ يَتَبَيَّنْ لَهُ فِي النَّازِلَةِ حُكْمٌ، وَهَذَا عَلَى مَذْهَبِ مَنْ يَرَى التَّقْلِيدَ وَيَقُولُ بِهِ، وَاخْتَلَفُوا هَلْ لِلْمُجْتَهِدِ أَنْ يَتْرُكَ النَّظَرَ وَالِاجْتِهَادَ وَيُقَلِّدَ مَنْ قَدْ نَظَرَ وَاجْتَهَدَ أَمْ لَا وَالْمُجْتَهِدُ مَنْ يَعْرِفُ مِنْ الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ الْأَحْكَامُ وَخَاصَّهُ وَعَامَّهُ وَمُجْمَلَهُ وَمُبَيَّنَهُ وَنَاسِخَهُ وَمَنْسُوخَهُ وَمُتَوَاتِرَ السُّنَّةِ وَغَيْرَهُ وَالْمُتَّصِلَ وَالْمُرْسَلَ، وَحَالَ الرُّوَاةِ قُوَّةً وَضَعْفًا، وَلِسَانَ الْعَرَبِ لُغَةً وَنَحْوًا، وَأَقْوَالَ الْعُلَمَاءِ مِنْ الصَّحَابَةِ فَمَنْ بَعْدَهُمْ إجْمَاعًا وَاخْتِلَافًا، وَالْقِيَاسَ بِأَنْوَاعِهِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ: أَحَدُهُمَا أَنَّ ذَلِكَ لَهُ، وَالثَّانِي أَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ لَهُ، وَالثَّالِثُ أَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ لَهُ إلَّا أَنْ يَخَافَ فَوَاتَ النَّازِلَةِ.

.فَصْلٌ لَمْ يَكُنْ الْقَاضِي مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ:

فَصْلٌ: وَأَمَّا إنْ لَمْ يَكُنْ الْقَاضِي مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ فَفَرْضُهُ الْمَشُورَةُ وَالتَّقْلِيدُ، فَإِنْ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ قَضَى بِقَوْلِ أَعْلَمَهُمْ، وَقِيلَ بِقَوْلِ أَكْثَرِهِمْ عَلَى مَا وَقَعَ فِي الْمُدَوَّنَةِ فِي الْحِكَايَةِ عَنْ الْفُقَهَاءِ السَّبْعَةِ، وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ، وَقِيلَ إنَّ لَهُ أَنْ يَحْكُمَ بِقَوْلِ مَنْ شَاءَ مِنْهُمْ إذَا تَحَرَّى الصَّوَابَ بِذَلِكَ، وَلَمْ يَقْصِدْ الْهَوَى، وَلَهُ أَنْ يَكْتَفِيَ بِمَشُورَةٍ وَاحِدَةٍ مِنْ الْعُلَمَاءِ، فَإِنْ فَعَلَ ذَلِكَ فَالِاخْتِيَارُ أَنْ يُشَاوِرَ أَعْلَمَهُمْ، فَإِنْ شَاوَرَ مَنْ دُونَهُ فِي الْعِلْمِ، وَأَخَذَ بِقَوْلِهِ فَذَلِكَ جَائِزٌ إذَا كَانَ مِنْ أَهْلِ النَّظَرِ وَالِاجْتِهَادِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ مِنْ كَلَامِ الْقَاضِي أَبِي بَكْرٍ أَنَّ الْمُقَلِّدَ يَقْضِي بِفَتْوَى مُقَلَّدِهِ فِي عَيْنِ النَّازِلَةِ، فَإِنْ قَاسَ عَلَى قَوْلِهِ فَهُوَ مُتَعَدٍّ.
وَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو بَكْرٍ الطُّرْطُوشِيُّ: أَخْبَرَنِي الْقَاضِي أَبُو الْوَلِيدِ الْبَاجِيُّ أَنَّ الْوُلَاةَ كَانُوا بِقُرْطُبَةَ إذَا، وَلَّوْا رَجُلًا الْقَضَاءَ شَرَطُوا عَلَيْهِ فِي سِجِلِّهِ أَنْ لَا يَخْرُجَ عَنْ قَوْلِ ابْنِ الْقَاسِمِ مَا وَجَدَهُ، قَالَ الشَّيْخُ أَبُو بَكْرٍ: وَهَذَا جَهْلٌ عَظِيمٌ مِنْهُمْ، يُرِيدُ؛ لِأَنَّ الْحَقَّ لَيْسَ فِي شَيْءٍ مُعَيَّنٍ، وَإِنَّمَا قَالَ الشَّيْخُ أَبُو بَكْرٍ هَذَا؛ لِوُجُودِ الْمُجْتَهِدِينَ وَأَهْلِ النَّظَرِ فِي قُضَاةِ ذَلِكَ الزَّمَانِ فَتَكَلَّمَ عَلَى أَهْلِ زَمَانِهِ، وَكَانَ مُعَاصِرًا لِلْإِمَامِ أَبِي عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْبَرِّ وَالْقَاضِي أَبِي الْوَلِيدِ الْبَاجِيِّ وَالْقَاضِي أَبِي الْوَلِيدِ بْنِ رُشْدٍ وَالْقَاضِي أَبِي بَكْرٍ بْنِ الْعَرَبِيِّ وَالْقَاضِي أَبِي مُحَمَّدٍ بْنِ عَطِيَّةَ صَاحِبِ التَّفْسِيرِ وَغَيْرِ هَؤُلَاءِ مِنْ نُظَرَائِهِمْ وَقَدْ عُدِمَ هَذَا النَّمَطُ فِي زَمَانِنَا مِنْ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ، وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ الْبَاجِيُّ عَنْ وُلَاةِ قُرْطُبَةَ وَرَدَ نَحْوَهُ عَنْ سَحْنُونٍ، وَذَلِكَ أَنَّهُ وَلَّى رَجُلًا الْقَضَاءَ، وَكَانَ الرَّجُلُ مِمَّنْ سَمِعَ بَعْضَ كَلَامِ أَهْلِ الْعِرَاقِ، فَشَرَطَ عَلَيْهِ سَحْنُونٌ أَنْ لَا يَقْضِيَ إلَّا بِقَوْلِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ، وَلَا يَتَعَدَّى ذَلِكَ، قَالَ ابْنُ رَاشِدٍ: وَهَذَا يُؤَيِّدُ مَا ذَكَرَهُ الْبَاجِيُّ، وَيُؤَيِّدُ مَا قَالَهُ الشَّيْخُ أَبُو بَكْرٍ، فَكَيْفَ يَقُولُ ذَلِكَ وَالْمَالِكِيَّةُ إذَا تَحَاكَمُوا إلَيْهِ فَإِنَّمَا يَأْتُونَهُ؛ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ بِمَذْهَبِ مَالِكٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي فَصْلِ التَّحْكِيمِ عَنْ اللَّخْمِيِّ أَنَّ الْحَكَمَ إذَا كَانَ مُجْتَهِدًا وَالْخِصَامُ بَيْنَ مَالِكِيَّيْنِ، فَإِنْ لَمْ يَخْرُجْ بِاجْتِهَادِهِ عَنْ مَذْهَبِ مَالِكٍ نَفَذَ حُكْمُهُ، وَإِنْ خَرَجَ عَنْ ذَلِكَ لَمْ يَلْزَمْ حُكْمُهُ بَيْنَهُمَا، فَانْظُرْ تَمَامَ ذَلِكَ هُنَاكَ، وَذَكَرَ الْمَازِرِيُّ نَحْوَ ذَلِكَ.
مَسْأَلَةٌ:
وَإِذَا لَمْ يُوجَدْ مُجْتَهِدٌ وَوَلَّى الْإِمَامُ مُقَلِّدًا فَقَالَ ابْنُ الْحَاجِبِ يَلْزَمُهُ الْمَصِيرُ إلَى قَوْلِ مُقَلَّدٍ وَقِيلَ لَا يَلْزَمُهُ، وَقِيلَ لَا يَجُوزُ إلَّا بِاجْتِهَادِهِ، فَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ هُوَ الصَّحِيحُ، وَالْقَوْلُ الثَّانِي يُرِيدُ بِهِ إذَا كَانَ الْمُقَلَّدُ مِمَّنْ لَهُ فِقْهُ نَفْسٍ وَقُدْرَةٌ عَلَى التَّرْجِيحِ بَيْنَ أَقَاوِيلِ أَهْلِ مَذْهَبِهِ، وَيَعْلَمُ مِنْهَا مَا هُوَ أُجْرِيَ عَلَى أَصْلِ إمَامِهِ مِمَّا لَيْسَ كَذَلِكَ. وَأَمَّا إنْ لَمْ يَكُنْ بِهَذِهِ الْمَرْتَبَةِ فَيَلْزَمُهُ الْمَصِيرُ إلَى الْمَشْهُورِ، قَالَ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ: وَمَنْ لَمْ يَكُنْ بِهَذِهِ الْمَرْتَبَةِ فَيَظْهَرُ مِنْ كَلَامِ الشُّيُوخِ اخْتِلَافٌ بَيْنَهُمْ هَلْ تَجُوزُ تَوْلِيَتُهُ الْقَضَاءَ أَوْ لَا؟ وَأَمَّا الْقَوْلُ الثَّالِثُ وَهُوَ قَوْلُهُ: وَقِيلَ لَا يَجُوزُ إلَّا بِاجْتِهَادِهِ فَقَالَ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ: مَعْنَاهُ أَنَّهُ لَا تَجُوزُ تَوْلِيَةُ الْمُقَلِّدِ أَلْبَتَّةَ، وَيَرَى هَذَا الْقَائِلُ أَنَّ رُتْبَةَ الِاجْتِهَادِ مَقْدُورٌ عَلَى تَحْصِيلِهَا وَهِيَ شَرْطٌ فِي الْفُتْيَا وَالْقَضَاءِ.
فَصْلٌ: كَثِيرًا مَا يُوجَدُ فِي كُتُبِ الْمُتَأَخِّرِينَ وَالْمُوَثِّقِينَ فِي الْمَسْأَلَةِ ذَاتِ الْأَقْوَالِ الَّذِي جَرَى بِهِ الْعَمَلُ، كَذَا وَاَلَّذِي جَرَى بِهِ الْقَضَاءُ وَاسْتَمَرَّتْ عَلَيْهِ الْفُتْيَا كَذَا، فَهَلْ يَكُونُ هَذَا مُرَجِّحًا لِذَلِكَ الْقَوْلِ حَتَّى يَجُوزَ لِلْقَاضِي الْعُدُولُ عَنْ الْمَشْهُورِ إلَى هَذَا الْقَوْلِ أَوْ لَا؟ وَهَلْ لَهُ أَنْ يَخْتَارَ أَحَدَ الْأَقْوَالِ فَيَقْضِيَ بِهِ أَمْ لَا؟ وَوَقَعَ فِي الْفَتْوَى لِابْنِ عَبْدِ النُّورِ مِنْ كَلَامِ الْفَقِيهِ أَبِي مُحَمَّدٍ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَلِيِّ بْن سَمَارَى فِي جَوَابِهِ عَنْ مَسَائِلَ مُخْتَلِفَةٍ سُئِلَ عَنْهَا فِي سُؤَالٍ وَاحِدٍ، فَأَجَابَ: وَرَدَ سُؤَالُك- وَفَّقَنَا اللَّهُ، وَإِيَّاكَ- مُقْتَضِيًا جَوَابًا وَهُوَ إذَا وُجِدَ لِمَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَوْلَانِ أَوْ ثَلَاثَةٌ، وَلَا يُعْلَمُ الْمُتَقَدِّمُ مِنْهَا مِنْ الْمُتَأَخِّرِ فَالْمُقَلِّدُ عَلَى مَا يَعْتَمِدُ مِنْ ذَلِكَ، وَمَنْ حَصَّلَ طَرَفًا مِنْ النَّظَرِ فِي طُرُقِ أَدِلَّةِ الِاجْتِهَادِ هَلْ لَهُ أَنْ يُرَجِّحَ أَحَدَ الْأَقْوَالِ أَوْ لَا؟ قَالَ السَّائِلُ أَيْضًا: وَمَذْهَبِي أَنْ لَا يَلْتَفِتَ إلَى قَوْلِ مَنْ قَالَ بِالتَّخْيِيرِ بَيْنَ الْأَقْوَالِ وَهِيَ عِنْدِي مَسْأَلَةٌ صَعْبَةٌ، قَالَ: وَلَا أُسَلِّمُ قَوْلَ مَنْ قَالَ إذَا اخْتَلَفَ أَصْحَابُ مَالِكِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ ابْنِ الْقَاسِمِ فِي حَقِّ الَّذِي يُقَلِّدُ أَوْ يَجْتَهِدُ فِيهَا عَلَى أُصُولِ الْمَذْهَبِ لَوْ عَلَى مَا يَقْتَضِيهِ النَّظَرُ، وَإِذَا كَانَ التَّرْجِيحُ بِنَوْعٍ مِنْ النَّظَرِ مِثْلَ أَنْ يَقُولَ: أَصْلُ مَالِكٍ كَذَا، وَاَلَّذِي يَعْتَمِدُ عَلَيْهِ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي كَثِيرٍ مِنْ مَسَائِلِهِ كَذَا، وَالْوَاحِدُ مِنْهَا يُوَافِقُ أَصْلَ الْمَذْهَبِ وَهُوَ الْمَعْرُوفُ مِنْ فَتْوَاهُ، وَهُوَ الَّذِي يُعَوَّلُ عَلَيْهِ، أَوْ يَقُولُ الْقَوْلُ الْوَاحِدُ مِنْ هَذِهِ الْأَقْوَالِ هُوَ الَّذِي جَرَى عَلَيْهِ الْعَمَلُ وَاسْتَمَرَّ بِهِ الْحُكْمُ وَهَذَا فِيهِ مَا فِيهِ مِنْ تَرْكِ ذِكْرِ مَنْ جَرَى الْعَمَلُ بِاخْتِيَارِهِ فَهَلْ يُعَدُّ هَذَا مِنْ التَّرْجِيحِ الَّذِي يُعَوَّلُ عَلَيْهِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَمْ لَا، هَذَا كُلُّهُ وَقَعَ فِي الْجَوَابِ حِكَايَةً لِقَوْلِ السَّائِلِ، ثُمَّ أَجَابَ الشَّيْخُ عَنْ ذَلِكَ وَتَكَلَّمَ عَلَى الْمُجْتَهِدِ وَصِفَتِهِ وَطَرِيقَتِهِ فِي الْفَتْوَى ثُمَّ قَالَ: وَتَقَرَّرَ هُنَا أَصْلًا يَنْبَنِي عَلَيْهِ الْكَلَامُ وَهُوَ أَنَّ الْمُكَلَّفِينَ قِسْمَانِ: مُجْتَهِدٌ وَغَيْرُ مُجْتَهِدٍ، فَتَكَلَّمَ عَلَى شُرُوطِ الْمُجْتَهِدِ، ثُمَّ قَالَ: وَأَمَّا غَيْرُ الْمُجْتَهِدِ وَهُوَ الَّذِي وَرَدَ السُّؤَالُ عَنْهُ فَلَمَّا تَعَلَّقَتْ الْأَحْكَامُ الشَّرْعِيَّةُ بِأَحْكَامِهِ، وَلَيْسَ أَهْلًا لِابْتِدَاعِهَا وَاسْتِنْبَاطِهَا مِنْ مَأْخَذِهَا أَوْجَبَ الشَّرْعُ عَلَيْهِ الرُّجُوعَ إلَى قَوْلِ الْمُجْتَهِدِينَ الْعُدُولِ، فَنَزَّلَ الشَّرْعُ ظَنَّ الْمُجْتَهِدِ فِي حَقِّهِ كَظَنِّهِ لَوْ كَانَ مُجْتَهِدًا لِضَرُورَةِ الْعَمَلِ، وَهَذَا أَمْرٌ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ.
وَاَلَّذِي يَجِبُ الِاعْتِمَادُ عَلَيْهِ إذَا تَعَارَضَ نَصَّانِ لِمَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ أَوْ لِغَيْرِهِ مِنْ الْمُجْتَهِدِينَ أَنْ يَنْظُرَ إلَى التَّارِيخِ فَيَعْمَلُ بِالْمُتَأَخِّرِ، فَإِذَا الْتَبَسَ التَّارِيخُ عَلَيْهِ يَعْنِي، وَكَانَ مِنْ أَهْلِ الْفُتْيَا، وَقَدْ قَرَّرْنَا أَنَّهُ لَا يُفْتِي فِي مَذْهَبِ الْإِمَامِ إلَّا مَنْ كَانَ مُجْتَهِدًا فِي ذَلِكَ الْمَذْهَبِ كَمُحَمَّدِ بْنِ الْمَوَّازِ، وَالْقَاضِي إسْمَاعِيلَ، وَأَبِي مُحَمَّدٍ بْنِ أَبِي زَيْدٍ وَنُظَرَائِهِمْ مِنْ الْمُجْتَهِدِينَ فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ، فَمِثْلُ هَؤُلَاءِ إذَا أُشْكِلَ عَلَيْهِمْ التَّارِيخُ فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ فَهُمْ يَعْرِفُونَ أُصُولَ مَنْ اجْتَهَدُوا فِي مَذْهَبِهِ وَمَأْخَذِهِ وَمَا يَنْبَنِي عَلَيْهِ مَذْهَبُهُ، فَيَغْلِبُ عَلَى ظَنِّهِ الْمُتَقَدِّمُ مِنْ الْمُتَأَخِّرِ، لِاطِّلَاعِهِمْ عَلَى الْمَذْهَبِ وَمَأْخَذِهِ وَمَعْرِفَتِهِمْ أَنَّ أَحَدَ الْمَأْخَذَيْنِ أَرْجَحُ مِنْ الْآخَرِ، فَيَغْلِبُ عَلَى الظَّنِّ أَنَّ الْحُكْمَ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ الْمَأْخَذُ هُوَ الرَّاجِحُ وَأَمَّا مَنْ لَمْ يَبْلُغْ رُتْبَةَ الِاجْتِهَادِ فِي الْمَذْهَبِ، وَرَأَى قَوْلَ ابْنِ الْقَاسِمِ رِوَايَةً عَنْ مَالِكٍ، وَرِوَايَةَ غَيْرِهِ عَنْ مَالِكٍ أَيْضًا فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَجْزِمَ بِقَوْلِ ابْنِ الْقَاسِمِ أَنَّهُ الْمُتَأَخِّرُ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ رُتْبَةُ الِاجْتِهَادِ فِي الْمَذْهَبِ، قَالَ: وَكَانَ شَيْخُنَا شَمْسُ الدِّينِ إمَامُ الْمَالِكِيَّةِ بِالدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ أَبُو الْحَسَنِ الْأَنْبَارِيُّ- قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ- يُرَجِّحُ قَوْلَ ابْنِ الْقَاسِمِ وَيَرَى أَنَّهُ الْمُتَأَخِّرُ إلَّا فِيمَا شَذَّ، وَتَقْرِيرُ هَذِهِ الطَّرِيقَةِ عَلَى مَذْهَبِ شَيْخِنَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنْ نَقُولَ: الْقَوْلَانِ وَالثَّلَاثَةُ مَوْجُودَةٌ فِي الْمَذْهَبِ وَقَدْ صَارَتْ هَذِهِ الْأَقْوَالُ الثَّلَاثَةُ هُنَا مَثَلًا بِمَنْزِلَةِ النُّصُوصِ الْمُتَوَاتِرَةِ عَنْ الشَّرِيعَةِ، فَإِذَا جُهِلَ التَّارِيخُ وَنُقِلَ عَلَى أَلْسِنَةِ الْآحَادِ الْمُتَقَدِّمُ وَالْمُتَأَخِّرُ فَيُنْسَخُ الْمُتَقَدِّمُ وَصَارَ النَّسْخُ هُنَا ظَاهِرًا بِالظَّنِّ؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ فِي هَذَا مَعْلُومٌ فَلَمَّا الْتَبَسَ بَعْدَهُ اكْتَفَى فِي التَّعْيِينِ بِأَخْبَارِ الْآحَادِ، وَالْمَطْلُوبُ فِي هَذَا الْمَحَلِّ مَا يَغْلِبُ عَلَى الظَّنِّ. وَقَوْلُ ابْنِ الْقَاسِمِ هُوَ رِوَايَتُهُ عَنْ مَالِكٍ فِيمَا يَغْلِبُ عَلَى الظَّنِّ، وَبَيَانُ ذَلِكَ أَنَّ ابْنَ الْقَاسِمِ لَزِمَ مَالِكًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَزْيَدَ مِنْ عِشْرِينَ سَنَةً، وَلَمْ يُفَارِقْهُ حَتَّى تُوُفِّيَ، وَكَانَ لَا يَغِيبُ عَنْ مَجْلِسِهِ إلَّا لِعُذْرٍ، وَكَانَ عَالِمًا بِالْمُتَقَدِّمِ وَالْمُتَأَخِّرِ، وَالظَّنُّ بِهِ مَعَ ثِقَتِنَا بِعِلْمِهِ بِمَذْهَبِ مَالِكٍ أَنَّهُ يَعْلَمُ الْمُتَقَدِّمَ مِنْ الْمُتَأَخِّرِ، وَأَنَّ الْأَوَّلَ مَتْرُوكٌ وَالْمُتَأَخِّرَ مَعْمُولٌ بِهِ، وَهُوَ قَدْ نَقَلَ مَذْهَبَهُ لِلنَّاسِ لِيَعْمَلُوا بِهِ.
وَاَلَّذِي يُعْمَلُ بِهِ هُوَ الْمُتَأَخِّرُ دُونَ الْمُتَقَدِّمِ، وَلَوْ نُقِلَ قَوْلُ مَالِكٍ مُطْلَقًا لَأَوْرَثَ وَقْفًا وَحِيرَةً، وَيُعْتَقَدُ أَنَّهُ مَا نُقِلَ الْقَوْلُ إلَّا لِيُعْمَلَ بِهِ وَانْضَافَ إلَى ذَلِكَ كَثْرَةُ وَرَعِهِ فَيَغْلِبُ عَلَى الظَّنِّ أَنَّهُ الْمُتَأَخِّرُ، إلَّا أَنْ يُنْقَلَ الْمُتَقَدِّمُ وَيُنَصَّ عَلَيْهِ أَوْ يُرَى مِنْ حَيْثُ النَّظَرِ أَنَّ مَأْخَذَهُ أَرْجَحُ فِي ظَنِّهِ مِنْ مَأْخَذِ الْمُتَأَخِّرِ فَيَحْكِي الْقَوْلَيْنِ، وَيَقُولُ: وَبِأَوَّلِ قَوْلَيْهِ أَقُولُ لَا عَلَى مَعْنَى التَّقْلِيدِ لِمَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بَلْ لِمَا أَدَّاهُ إلَيْهِ اجْتِهَادُهُ. وَأَمَّا مَنْ قَلَّدَ مَالِكًا فَإِنَّمَا يَأْخُذُ بِالْقَوْلِ الْمَرْجُوعِ إلَيْهِ عِنْدَ ابْنِ الْقَاسِمِ؛ لِأَنَّهُ يَغْلِبُ عَلَى الظَّنِّ الرَّاجِحُ لِمَصِيرِ مَالِكٍ إلَيْهِ آخِرًا مَعَ ذِكْرِهِ الْقَوْلَ الْأَوَّلَ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ مَنْ حَصَّلَ طَرَفًا مِنْ النَّظَرِ فِي طُرُقِ الِاجْتِهَادِ هَلْ لَهُ أَنْ يُرَجِّحَ أَحَدَ الْأَقْوَالِ؟ فَالْجَوَابُ عَنْ هَذَا أَنَّ مَنْ كَانَ عَارِفًا بِمَأْخَذِ صَاحِبِ الْمَذْهَبِ مَاهِرًا فِي الْأُصُولِ عَالِمًا بِمَا تَقَدَّمَ وَمَا تَأَخَّرَ عَالِمًا بِالتَّرْجِيحِ فَيَجُوزُ لَهُ ذَلِكَ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ بِهَذِهِ الصِّفَةِ، وَقَدْ أَخَذَ بِطَرَفٍ مِنْ النَّظَرِ وَاسْتَأْنَسَ بِمَذَاهِبِ الْفُقَهَاءِ فَلَا يَجُوزُ تَقْلِيدُهُ فِيمَا نَقَلَ مِنْ ذَلِكَ، وَيُرْجَعُ إلَى قَوْلِ مَنْ كَانَ مُجْتَهِدًا فِي الْمَذْهَبِ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ مَنْ هَذِهِ صِفَتُهُ فَلْيَنْتَقِلْ إلَى مَذْهَبٍ آخَرَ فَلْيُقَلِّدْ مَنْ كَانَ عَالِمًا بِهِ مُجْتَهِدًا فِيهِ، فَإِنْ كَانَ شَغَرَ الزَّمَانُ مِنْ الْمُجْتَهِدِينَ وَالْمُفْتِينَ فِي الْمَذَاهِبِ، فَهَلْ لَهُ أَنْ يُقَلِّدَ مَنْ هَذِهِ صِفَتُهُ أَوْ لَا؟ هَذِهِ مَسْأَلَةٌ لَا أَذْكُرُ فِيهَا نَصًّا لِعَالِمٍ، وَاَلَّذِي يَظْهَرُ لِي التَّقْلِيدُ لِضَرُورَةِ الْعَمَلِ.
وَقَدْ قَالَ بَعْضُ الْمُحَقِّقِينَ عِنْدَ شُغُورِ الزَّمَانِ مِنْ الْمُجْتَهِدِينَ، وَلَمْ نَجِدْ قَوْلًا لِمُجْتَهِدٍ مَيِّتٍ وَوَجَدْنَا مَنْ حَصَّلَ طَرَفًا مِنْ النَّظَرِ وَأَحْكَمَ الْأَكْثَرَ فَإِنَّهُ يُقَلِّدُ مَعَ الْقَوْلِ بِأَنَّهُ لَيْسَ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ الْآنَ مُجْتَهِدٌ وَهَذَا مَذْهَبِي، فَهَذَا الِاعْتِقَادُ لَا يُتَصَوَّرُ إلَّا مِنْ عَالِمٍ مُجْتَهِدٍ مُطْلَقًا وَحِينَئِذٍ تَصِحُّ دَعْوَاهُ.
قَالَ: وَقَوْلُهُ لَا يُلْتَفَتُ إلَى قَوْلِ مَنْ قَالَ بِالتَّخْيِيرِ بَيْنَ الْأَقْوَالِ فَهِيَ مَقَالَةٌ ضَعِيفَةٌ.
وَقَوْلُهُ: لَا أُسَلِّمُ قَوْلَ مَنْ قَالَ إذَا اخْتَلَفَ أَصْحَابُ مَالِكٍ فَالْقَوْلُ قَوْلُ ابْنِ الْقَاسِمِ فِي الَّذِي يَنْقُلُهُ عَنْ مَالِكٍ وَفِيمَا يَجْتَهِدُ فِيهِ عَلَى أُصُولِ الْمَذْهَبِ وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى هَذَا. قَالَ: وَأَمَّا قَوْلُهُ الَّذِي جَرَى بِهِ الْعَمَلُ كَذَا فَإِنْ كَانَ يُرِيدُ عَمَلَ أَهْلِ الْأَنْدَلُسِ أَوْ جِهَةً مِنْ الْجِهَاتِ فَلَيْسَ يَتَرَجَّحُ بِهَذَا، وَإِذَا لَمْ يَعْتَمِدْ عَلَى عَمَلِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مُطْلَقًا دُونَ تَقْيِيدٍ وَتَفْصِيلٍ وَهِيَ مُسْتَقَرُّ الْوَحْيِ وَمَنْزِلُ الرِّسَالَةِ، فَكَيْفَ يُرَجَّحُ بِعَمَلِ أَهْلِ قُرْطُبَةَ؟ انْتَهَى مَا لَخَّصْته مِنْ الْجَوَابِ.
وَكَلَامُهُ فِي الْجَوَابِ عَمَّا جَرَى بِهِ الْعَمَلُ غَيْرُ شَافٍ وَقِيَاسُهُ عَلَى عَمَلِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ غَيْرُ مُسْتَقِيمٍ، فَإِنَّ اخْتِلَافَ الْعُلَمَاءِ فِي عَمَلِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ إنَّمَا هُوَ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْإِجْمَاعِ هَلْ يَكُونُ عَمَلُهُمْ إجْمَاعًا أَمْ لَا؟، وَلَيْسَ ذَلِكَ مِنْ هَذَا الْبَابِ الَّذِي نَحْنُ فِيهِ، وَنُصُوصُ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْ أَهْلِ الْمَذْهَبِ مُتَوَاطِئَةٌ عَلَى أَنَّ هَذَا مِمَّا يُرَجَّحُ بِهِ، إلَّا أَنْ يَخْتَلِفَ الْعُرْفُ فِي بَلَدَيْنِ فَلَا يَكُونُ ذَلِكَ حِينَئِذٍ مُرَجِّحًا، وَذَلِكَ مِثْلُ مَا نَقَلَهُ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ فِي مَسْأَلَةِ اخْتِلَافِ الزَّوْجَيْنِ عَنْ ابْنِ رُشْدٍ قَالَ: قَالَ ابْنُ رُشْدٍ الْعُرْفُ عِنْدَنَا فِي ذَوَاتِ الْأَقْدَارِ أَنَّ الْمَرْأَةَ لَا تَخْرُجُ مِنْ الدَّارِ، فَلَوْ اخْتَلَفَا فِيهَا لِمُوجِبِ أَنْ يَكُونَ الْقَوْلُ قَوْلَ الْمَرْأَةِ، قَالَ: وَكَذَلِكَ حَفِظْت عَنْ شَيْخِنَا ابْنِ رِزْقٍ قَالَ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ: وَهَذَا الْبَابُ عِنْدَ الْمُحَقِّقِينَ تَابِعٌ لِلْعُرْفِ فَرُبَّ مَتَاعٍ يَشْهَدُ الْعُرْفُ فِي بَلَدٍ أَوْ زَمَانٍ أَنَّهُ لِلرِّجَالِ، وَيَشْهَدُ فِي بَلَدٍ آخَرَ أَوْ زَمَانٍ آخَرَ أَنَّهُ لِلنِّسَاءِ، وَيَشْهَدُ فِي الزَّمَانِ الْوَاحِدِ وَالْمَكَانِ الْوَاحِدِ أَنَّهُ مَتَاعُ النِّسَاءِ بِالنِّسْبَةِ إلَى قَوْمٍ وَمِنْ مَتَاعِ الرِّجَالِ إلَى قَوْمٍ آخَرِينَ، كَالنُّحَاسِ الْمَصْنُوعِ فِي بَلَدِنَا فَإِنَّهُ مِنْ مَتَاعِ النِّسَاءِ بِالنِّسْبَةِ إلَى جِهَازِ الْأَنْدَلُسِ، وَمِنْ مَتَاعِ الرِّجَالِ بِالنِّسْبَةِ إلَى جِهَازِ الْحَضَرِ، فَلَوْ قَالَ عَالِمٌ: الَّذِي جَرَى بِهِ الْعَمَلُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ كَذَا لَمْ يَعُمَّ ذَلِكَ سَائِرَ الْبِلَادِ بَلْ يَخْتَصُّ بِهِ ذَلِكَ الْمَوْضِعُ الَّذِي جَرَى فِيهِ ذَلِكَ، وَمِثْلُ هَذَا لَا تَجِدُهُمْ يَقُولُونَ فِيهِ الَّذِي جَرَى بِهِ الْعَمَلُ وَاسْتَقَرَّتْ عَلَيْهِ الْأَحْكَامُ كَذَا، بَلْ يَقُولُونَ الَّذِي جَرَى بِهِ الْعَمَلُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي بَلَدِ كَذَا وَفِي عُرْفِهِمْ كَذَا، وَكَذَا وَأَمَّا غَيْرُ ذَلِكَ مِنْ الْمَسَائِلِ الَّتِي يَذْكُرُونَ مَا جَرَى بِهِ الْعَمَلُ فِيهَا لِلتَّعَرُّفِ الَّذِي اقْتَضَتْهُ الْمَصْلَحَةُ فِي حَقِّ الْعَامَّةِ وَتَغَيُّرِ الْعَوَائِدِ وَذَلِكَ أَمْرٌ عَامٌّ، فَإِنَّهُ مِمَّا يُرَجَّحُ بِهِ ذَلِكَ الْقَوْلُ الْمَعْمُولُ بِهِ، وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَخْتَلِفَ فِي هَذَا، وَظَاهِرُ النُّصُوصِ تَشْهَدُ بِذَلِكَ وَهَذَا أَيْضًا مَذْهَبُ الشَّافِعِيَّةِ، فَقَدْ ذَكَرَ أَبُو عَمْرِو بْنُ الصَّلَاحِ الشَّافِعِيُّ فِي كِتَابِ أَحْكَامِ الْمُفْتِي وَالْمُسْتَفْتِي: أَنَّ الْقَوْلَ الْقَدِيمَ إذَا قِيلَ فِيهِ: إنَّهُ جَرَى بِهِ الْعَمَلُ فَإِنَّ هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْقَوْلَ الْقَدِيمَ هُوَ الْمُفْتَى بِهِ.
وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ شَارِحُ ابْنِ الْحَاجِبِ فِي (بَابِ الْحَجْرِ) وَذَكَرْت هَذَا الْقَوْلَ؛ لِأَنَّهُ جَرَى بِهِ الْعَمَلُ فِي بَعْضِ الْبِلَادِ فَيَنْتَفِي بِهِ فِي الْعَمَلِيَّاتِ يُرِيدُ فِي الْقَضَايَا الْمُتَعَلِّقَةِ بِالْأَحْكَامِ.

.فَصْلٌ وَلَيْسَ لِلْمُحَكَّمِ أَنْ يَخْتَارَ قَوْلًا يُفْتِي أَوْ يَحْكُمُ بِهِ:

فَصْلٌ: وَإِذَا تَقَرَّرَ أَنَّهُ إذَا كَانَتْ الْمَسْأَلَةُ ذَاتَ أَقْوَالٍ أَوْ رِوَايَاتٍ فَالْفَتْوَى وَالْحُكْمُ بِقَوْلِ مَالِكٍ الْمَرْجُوعِ إلَيْهِ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَخْتَارَ قَوْلًا يُفْتِي أَوْ يَحْكُمُ بِهِ، وَتَقَدَّمَ أَنَّ بَعْضَهُمْ حَمَلَ قَوْلَ ابْنِ الْقَاسِمِ عَلَى أَنَّهُ الْقَوْلُ الْمَرْجُوعُ إلَيْهِ، فَمِمَّا يَزِيدُ ذَلِكَ تَقْوِيَةً مَا نَقَلَهُ ابْنُ أَبِي حَمْزَةَ فِي (إقْلِيدِ التَّقَالِيدِ) قَالَ: قَالَ بَعْضُ الشُّيُوخِ: إذَا اخْتَلَفَ النَّاسُ عَنْ مَالِكٍ فَالْقَوْلُ مَا قَالَهُ ابْنُ الْقَاسِمِ، وَعَلَى ذَلِكَ اعْتَمَدَ شُيُوخُ الْأَنْدَلُسِ، وَإِفْرِيقِيَةَ إذْ تَرَجَّحَ ذَلِكَ عِنْدَهُمْ، قَالَ أَبُو عُمَرَ بْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: كَانَ أَصْبَغُ بْنُ خَلِيلٍ صَاحِبَ رِيَاسَةِ الْأَنْدَلُسِ خَمْسِينَ سَنَةً، وَكَانَ فَقِيرًا لَمْ يَكْتَسِبْ شَيْئًا، وَلَا تَرَكَ مَالًا بَلَغَتْ تَرِكَتُهُ كُلُّهَا مِائَةَ دِينَارٍ، قَالَ: وَسَمِعْت أَحْمَدَ بْنَ خَالِدٍ يَقُولُ: دَخَلْت يَوْمًا عَلَى أَصْبَغَ بْنِ خَلِيلٍ فَقَالَ لِي يَا أَحْمَدُ فَقُلْت: نَعَمْ، فَقَالَ اُنْظُرْ إلَى هَذِهِ الْكُوَّةِ لِكُوَّةٍ عَلَى رَأْسِهِ فِي حَائِطِ بَيْتِهِ، فَقُلْت لَهُ نَعَمْ، فَقَالَ وَاَللَّهِ الَّذِي لَا إلَهَ إلَّا هُوَ لَقَدْ رَدَدْت مِنْهَا ثَلَثَمِائَةِ دِينَارٍ صِحَاحًا عَلَى أَنْ أُفْتِيَ فِي مَسْأَلَةٍ بِغَيْرِ رَأْيِ ابْنِ الْقَاسِمِ مِمَّا قَالَهُ غَيْرُهُ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ فَمَا رَأَيْت نَفْسِي فِي سَعَةٍ مِنْ ذَلِكَ.
وَحَدَّثَ ابْنُ أَبِي حَمْزَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ نَصْرٍ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ زِيَادٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ وَضَّاحٍ عَنْ سَحْنُونٍ قَالَ: سَمِعْت ابْنَ الْقَاسِمِ يَقُولُ رَضِيت بِمَالِكِ بْنِ أَنَسٍ لِنَفْسِي وَجَعَلْته بَيْنِي وَبَيْنَ النَّارِ.
وَقَالَ ابْنُ وَضَّاحٍ وَقَالَ سَحْنُونٌ: وَأَنَا رَضِيت ابْنَ الْقَاسِمِ لِنَفْسِي وَجَعَلْته بَيْنِي وَبَيْنَ النَّارِ، قَالَ ابْنُ وَضَّاحٍ وَمَا سَحْنُونٌ بِدُونِهِمَا؟ قَالَ ابْنُ زِيَادٍ وَأَنَا رَضِيت ابْنَ وَضَّاحٍ لِنَفْسِي.
تَنْبِيهٌ:
وَهَذَا لَيْسَ عَلَى إطْلَاقِهِ فَفِي الطُّرَرِ عَلَى التَّهْذِيبِ لِأَبِي الْحَسَنِ الطَّنْجِيِّ قَالَ: قَوْلُ مَالِكٍ فِي الْمُدَوَّنَةِ أَوْلَى مِنْ قَوْلِ ابْنِ الْقَاسِمِ فِيهَا؛ لِأَنَّهُ الْإِمَامُ الْأَعْظَمُ، وَقَوْلُ ابْنِ الْقَاسِمِ فِيهَا أَوْلَى مِنْ قَوْلِ غَيْرِهِ فِيهَا؛ لِأَنَّهُ أَعْلَمُ بِمَذْهَبِ مَالِكٍ، وَقَوْلُ غَيْرِهِ فِيهَا أَوْلَى مِنْ قَوْلِ ابْنِ الْقَاسِمِ فِي غَيْرِهَا وَذَلِكَ لِصِحَّتِهَا.
فَصْلٌ:
فَتَقَرَّرَ بِمَا ذَكَرْنَاهُ أَنَّ قَوْلَ ابْنِ الْقَاسِمِ هُوَ الْمَشْهُورُ فِي الْمَذْهَبِ إذَا كَانَ فِي الْمُدَوَّنَةِ، وَالْمَشْهُورُ فِي إصْلَاحِ عُلَمَاءِ الْمَغَارِبَةِ هُوَ مَذْهَبُ الْمُدَوَّنَةِ، وَالْعِرَاقِيُّونَ كَثِيرًا مَا يُخَالِفُونَ الْمَغَارِبَةَ فِي تَعْيِينِ الْمَشْهُورِ، وَيُشْهِرُونَ بَعْضَ الرِّوَايَاتِ، وَاَلَّذِي جَرَى بِهِ عَمَلُ الْمُتَأَخِّرِينَ وَاسْتَمَرَّ تَشْهِيرُ مَا شَهَرَهُ الْمِصْرِيُّونَ وَالْمَغَارِبَةُ.
قَالَ ابْنُ رُشْدٍ: وَسَمِعْت بَعْضَ الْفُضَلَاءِ يُنْكِرُ لَفْظَةَ (مَشْهُورٌ) فَإِنَّهُ قَدْ يَشْتَهِرُ عِنْدَ النَّاسِ شَيْءٌ، وَلَيْسَ لَهُ أَصْلٌ، قَالَ: وَإِنَّمَا يُعَوَّلُ عَلَى مَا يَعْضُدُهُ الدَّلِيلُ.
وَقَالَ ابْنُ بَشِيرٍ: اُخْتُلِفَ فِي الْمَشْهُورِ عَلَى قَوْلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ مَا قَوِيَ دَلِيلُهُ وَالْآخَرُ مَا كَثُرَ قَائِلُهُ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ مَا قَوِيَ دَلِيلُهُ، قَالَ ابْنُ رَاشِدٍ: وَيُعَكَّرُ عَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ: إنَّ الْأَشْيَاخَ رُبَّمَا ذَكَرُوا فِي قَوْلِهِ أَنَّهُ الْمَشْهُورُ، وَيَقُولُونَ: إنَّ الْقَوْلَ الْآخَرَ هُوَ الصَّحِيحُ. انْتَهَى.
وَلَيْسَ فِي هَذَا إشْكَالٌ؛ لِأَنَّ الْمَشْهُورَ هُوَ مَذْهَبُ الْمُدَوَّنَةِ، وَقَدْ يَعْضُدُ الْقَوْلَ الْآخَرَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ وَرُبَّمَا رَوَاهُ مَالِكٌ، وَلَا يَقُولُ بِهِ الْمُعَارِضُ قَامَ عِنْدَ الْإِمَامِ لَا يَتَحَقَّقهُ هَذَا الْمُقَلِّدُ أَوْ لَا يَظْهَرُ لَهُ وَجْهُ الْعُدُولِ عَنْهُ، فَيَقُولُ: وَالصَّحِيحُ كَذَا لِقِيَامِ الدَّلِيلِ وَصِحَّةِ الْحَدِيثِ، وَكَثِيرًا مَا يَفْعَلُ ذَلِكَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ وَابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ فِي شَرْحِ ابْنِ الْحَاجِبِ، قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ: وَلَيْسَ كُلُّ فَقِيهٍ يُسَوَّغُ لَهُ أَنْ يَسْتَقْبِلَ بِالْعَمَلِ بِمَا يَرَاهُ حُجَّةً مِنْ الْحَدِيثِ، وَلَمَّا قَالَ الشَّافِعِيُّ: إذَا صَحَّ الْحَدِيثُ فَهُوَ مَذْهَبِي سَلَكَ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ هَذَا الْمَسْلَكَ فَأَخَذَ بِأَحَادِيثَ تَرَكَهَا الشَّافِعِيُّ عَمْدًا عَلَى عِلْمٍ مِنْهُ بِصِحَّتِهَا لِمَانِعٍ اطَّلَعَ عَلَيْهِ، وَخَفِيَ عَلَى غَيْرِهِ، وَقَدْ صَنَّفَ الْإِمَامُ ابْنُ حَزْمٍ كِتَابًا اعْتَرَضَ فِيهِ عَلَى الْإِمَامِ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي الْأَحَادِيثِ الَّتِي رَوَاهَا، وَلَمْ يَعْمَلْ بِهَا. وَسَرَدَ الْأَحَادِيثَ وَشَنَّعَ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ وَوَقَفَ عَلَى الْجَوَابِ عَنْ ذَلِكَ لِلْقَاضِي أَبِي إِسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ الرَّفِيعِ التُّونِسِيِّ.
فَلَا يَلْزَمُ مِنْ عَدَمِ اطِّلَاعِهِمْ عَلَى الْمُعَارِضِ انْتِفَاؤُهُ، وَقَالَ ابْنُ رَاشِدٍ: وَيُعَكِّرُ عَلَى الْقَوْلِ الثَّانِي أَنَّ الْمَشْهُورَ مَا كَثُرَ قَائِلُهُ أَنَّ بَعْضَ الْمَسَائِلِ وَجَدْنَا الْمَشْهُورَ فِيهَا الْمَنْعَ وَالْأَكْثَرُونَ عَلَى الْجَوَازِ، مِثْلَ مَسْأَلَةِ الْتِزَامِ الْمَرْأَةِ لِزَوْجِهَا إرْضَاعَ وَلَدِهَا حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ عِنْدَ الطَّلَاقِ، وَالْتِزَامِ نَفَقَتِهِ، وَكِسْوَتِهِ سَنَتَيْنِ بَعْدَ الْحَوْلَيْنِ وَالْمَشْهُورُ أَنَّ ذَلِكَ لَا يَلْزَمُ إلَّا فِي الْحَوْلَيْنِ فَقَطْ وَيَسْقُطُ الزَّائِدُ، وَاَلَّذِي جَرَى بِهِ الْعَمَلُ وَاسْتَقَرَّ عَلَيْهِ أَحْكُمُ فُقَهَاءِ الْأَنْدَلُسِ إمْضَاءُ ذَلِكَ بَعْدَ الْحَوْلَيْنِ. انْتَهَى.
قَالَ ابْنُ خُوَيْزِ مَنْدَادٍ وَمَسَائِلُ الْمَذْهَبِ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمَشْهُورَ مَا قَوِيَ دَلِيلُهُ، وَأَنَّ مَالِكًا رَحِمَهُ اللَّهُ كَانَ يُرَاعِي مِنْ الْخِلَافِ مَا قَوِيَ دَلِيلُهُ لَا مَا كَثُرَ قَائِلُهُ، وَقَدْ أَجَازَ رَحِمَهُ اللَّهُ الصَّلَاةَ عَلَى جُلُودِ السِّبَاعِ إذَا ذُكِّيَتْ وَأَكْثَرُهُمْ عَلَى خِلَافِهِ، وَأَبَاحَ بَيْعَ مَا فِيهِ حَقُّ تَوْفِيَةٍ مِنْ غَيْرِ الطَّعَامِ قَبْلَ قَبْضِهِ، وَأَجَازَ أَكْلَ الصَّيْدِ إذَا أَكَلَ مِنْهُ الْكَلْبُ، وَلَمْ يُرَاعِ فِي ذَلِكَ خِلَافَ الْجُمْهُورِ، وَاسْتَدَلَّ عَلَى ذَلِكَ ابْنُ خُوَيْزِ مَنْدَادٍ فِي كِتَابِهِ الْجَامِعِ لِأُصُولِ الْفِقْهِ بِمَسَائِلَ وَأَدِلَّةٍ مِنْ الْحَدِيثِ يَطُولُ ذِكْرُهَا، وَأَمَّا مَا وَقَعَ فِي كَلَامِ ابْنِ الْحَاجِبِ مِنْ ذِكْرِ الْأَشْهَرِ مَرَّةً وَذِكْرِ الْمَشْهُورِ أُخْرَى فَقَالَ ابْنُ رَاشِدٍ إنَّ ذِكْرَ الْأَشْهَرِ فِي اصْطِلَاحِهِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْقَوْلَ الْآخَرَ مَشْهُورٌ؛ لِأَنَّ صِيغَةَ أَفْعَلَ ظَاهِرَةٌ فِي التَّفْضِيلِ، وَلَكِنِّي رَأَيْته يُطْلِقُ الْأَشْهَرَ عَلَى مَا يَقُولُ غَيْرُهُ فِيهِ: إنَّهُ مَشْهُورٌ، قَالَ فَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ قَصَدَ هَذِهِ الْعِبَارَةَ لِرَشَاقَتِهَا وَقِلَّةِ حُرُوفِهَا، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ- انْتَهَى.
وَهَذَا مَقْصِدٌ بَعِيدٌ عَنْ مُرَادِ الْمُؤَلِّفِ، وَقَالَ غَيْرُهُ لَعَلَّهُ قَصَدَ ذَلِكَ لِقِيَامِ الْأَشْهَرِيَّةِ عِنْدَهُ، وَهَذَا أَيْضًا أَبْعَدُ مِنْ الْأَوَّلِ، فَإِنَّ الْمُؤَلِّفَ رَحِمَهُ اللَّهُ كَانَ مَشْهُورًا بِالْوَرَعِ التَّامِّ وَالتَّحَرُّزِ مِنْ أَنْ يَدْخُلَ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْعُهْدَةِ، وَاَلَّذِي يَظْهَرُ- وَاَللَّهُ أَعْلَمُ-: أَنَّ قَصْدَهُ الْإِفَادَةُ بِمَا نَقَلَهُ أَئِمَّةُ الْمَذْهَبِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ الْعِرَاقِيِّينَ يُخَالِفُونَ فِي الْمَشْهُورِ، وَكَذَلِكَ جَمَاعَةٌ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْ الْمِصْرِيِّينَ وَالْمَغَارِبَةِ يُخَالِفُونَ فِي الْمَشْهُورِ كَابْنِ الْعَرَبِيِّ مِنْ الْمَغَارِبَةِ وَالْقَاضِي سَنَدٍ مِنْ الْمِصْرِيِّينَ وَغَيْرِهِمَا مِنْ الشُّيُوخِ فَأَفَادَ بِقَوْلِهِ الْأَشْهَرُ تَعْيِينَ الْمَشْهُورِ الَّذِي هُوَ مَذْهَبُ الْمُدَوَّنَةِ، وَأَنَّ الْقَوْلَ الثَّانِيَ شَهَرَهُ بَعْضُ الْأَئِمَّةِ، وَفَائِدَةُ ذَلِكَ أَنَّ الْحُكْمَ وَالْفَتْوَى يَكُونُ بِالْأَشْهَرِ لَا بِالْقَوْلِ الْمُقَابِلِ لَهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

.فَصْلٌ يَلْزَمُ الْقَاضِيَ الْمُقَلِّدَ إذَا وَجَدَ الْمَشْهُورَ أَنْ لَا يَخْرُجَ عَنْهُ:

وَذَكَرَ عَنْ الْمَازِرِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ: أَنَّهُ بَلَغَ رُتْبَةَ الِاجْتِهَادِ وَمَا أَفْتَى قَطُّ بِغَيْرِ الْمَشْهُورِ وَعَاشَ ثَلَاثًا وَثَمَانِينَ سَنَةً، وَكَفَى بِهِ قُدْوَةً فِي هَذَا، فَإِنْ لَمْ يَقِفْ عَلَى الْمَشْهُورِ مِنْ الرِّوَايَتَيْنِ أَوْ الْقَوْلَيْنِ فَلَيْسَ لَهُ التَّشَهِّي وَالْحُكْمُ بِمَا شَاءَ مِنْهُمَا مِنْ غَيْرِ نَظَرٍ فِي التَّرْجِيحِ، فَقَدْ قَالَ أَبُو عَمْرِو بْنُ الصَّلَاحِ فِي كِتَابِ الْمُفْتِي وَالْمُسْتَفْتِي: اعْلَمْ بِأَنَّ مَنْ يَكْتَفِي بِأَنْ يَكُونَ فُتْيَاهُ أَوْ عَمَلُهُ مُوَافِقًا لِقَوْلٍ أَوْ وَجْهٍ فِي الْمَسْأَلَةِ وَيَعْمَلُ بِمَا شَاءَ مِنْ الْأَقْوَالِ وَالْوُجُوهِ مِنْ غَيْرِ نَظَرٍ فِي التَّرْجِيحِ فَقَدْ جَهِلَ وَخَرَقَ الْإِجْمَاعَ، وَسَبِيلُهُ سَبِيلُ الَّذِي حَكَى عَنْهُ أَبُو الْوَلِيدِ الْبَاجِيُّ الْمَالِكِيُّ مِنْ فُقَهَاءِ أَصْحَابِهِ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: إنَّ الَّذِي لِصَدِيقِي عَلَيَّ إذَا وَقَعَتْ لَهُ حُكُومَةٌ أَنْ أُفْتِيَهُ بِالرِّوَايَةِ الَّتِي تُوَافِقُهُ، وَحَكَى الْبَاجِيُّ عَمَّنْ يَثِقُ بِهِ أَنَّهُ وَقَعَتْ لَهُ وَاقِعَةٌ فَأَفْتَى فِيهَا وَهُوَ غَائِبٌ جَمَاعَةٌ مِنْ فُقَهَائِهِمْ يَعْنِي فُقَهَاءَ الْمَالِكِيَّةِ مِنْ أَهْلِ الصَّلَاحِ بِمَا يَضُرُّهُ فَلَمَّا عَادَ سَأَلَهُمْ فَقَالُوا مَا عَلِمْنَا أَنَّهَا لَك وَأَفْتَوْهُ بِالرِّوَايَةِ الْأُخْرَى الَّتِي تُوَافِقُ قَصْدَهُ. قَالَ الْبَاجِيُّ: وَهَذَا مِمَّا لَا اخْتِلَافَ فِيهِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ مِمَّنْ يُعْتَدُّ بِهِ فِي الْإِجْمَاعِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ.
قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ: وَقَدْ قَالَ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي اخْتِلَافِ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرَضِيَ عَنْهُمْ مُخْطِئٌ وَمُصِيبٌ فَعَلَيْك بِالِاجْتِهَادِ.
وَقَالَ: لَيْسَ كَمَا قَالَ أُنَاسٌ فِيهِ تَوْسِعَةٌ لَنَا قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ: قُلْت لَا تَوْسِعَةَ فِيهِ بِمَعْنَى أَنَّهُ يَتَخَيَّرُ بَيْنَ أَقْوَالِهِمْ مِنْ غَيْرِ تَوَقُّفٍ عَلَى ظُهُورِ الرَّاجِحِ، وَفِيهِ تَوْسِعَةٌ بِمَعْنَى أَنَّ اخْتِلَافَهُمْ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ لِلِاجْتِهَادِ مَجَالًا فِيمَا بَيْنَ أَقْوَالِهِمْ، وَأَنْ لَيْسَ مِمَّا يُقْطَعُ فِيهِ بِقَوْلِ وَاحِدٍ مُتَعَيَّنٍ لَا مَجَالَ لِلِاجْتِهَادِ فِي خِلَافِهِ، قَالَ: فَإِذَا وَجَدَ مَنْ لَيْسَ أَهْلًا لِلتَّخْرِيجِ، وَلِلتَّرْجِيحِ بِالدَّلِيلِ اخْتِلَافًا بَيْنَ أَئِمَّةِ الْمَذْهَبِ فِي الْأَصَحِّ مِنْ الْقَوْلَيْنِ أَوْ الْوَجْهَيْنِ. فَيَنْبَغِي أَنْ يَفْزَعَ فِي التَّرْجِيحِ إلَى صِفَاتِهِمْ الْمُوجِبَةِ لِزِيَادَةِ الثِّقَةِ بِآرَائِهِمْ فَيَعْمَلُ بِقَوْلِ الْأَكْبَرِ وَالْأَرْوَعِ وَالْأَعْلَمِ، فَإِذَا اخْتَصَّ وَاحِدٌ مِنْهُمْ بِصِفَةٍ أُخْرَى قَدَّمَ الَّذِي هُوَ أَحْرَى مِنْهُمَا بِالْإِصَابَةِ، فَالْأَعْلَمُ الْوَرِعُ مُقَدَّمٌ عَلَى الْأَوْرَعِ الْعَالِمِ، وَاعْتَبَرْنَا ذَلِكَ فِي هَذَا كَمَا اعْتَبَرْنَا فِي التَّرْجِيحِ عِنْدَ تَعَارُضِ الْأَخْبَارِ صِفَاتِ رُوَاتِهَا.
وَكَذَلِكَ إذَا وَجَدَ قَوْلَيْنِ أَوْ وَجْهَيْنِ لَمْ يَبْلُغْهُ عَنْ أَحَدٍ مِنْ أَئِمَّتِهِ بَيَانُ الْأَصَحِّ مِنْهُمَا اعْتَبَرَ أَوْصَافَ نَاقِلِيهِمَا أَوْ قَائِلِيهِمَا، فَمَا رَوَاهُ الْمُزَنِيّ أَوْ الرَّبِيعُ الْمُرَادِيُّ مُقَدَّمٌ عِنْدَ أَصْحَابِنَا عَلَى مَا حَكَاهُ أَبُو سُلَيْمَانَ الْخَطَّابِيُّ عَنْهُمْ، وَالْمُزَنِيُّ وَالرَّبِيعُ مِنْ كِبَارِ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ دُونَ أَبِي سُلَيْمَانَ الْخَطَّابِيِّ، وَهَذَا الْحُكْمُ جَارٍ فِي أَصْحَابِ الْمَذَاهِبِ الْأَرْبَعَةِ وَمُقَلِّدِيهِمْ. قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ وَفِيمَا اسْتَنْفَدْته مِنْ الْغَرَائِبِ بِخُرَاسَانَ عَنْ الشَّيْخِ حُسَيْنِ بْنِ مَسْعُودٍ صَاحِبِ التَّهْذِيبِ عَنْ شَيْخِهِ الْقَاضِي حُسَيْنِ بْنِ مُحَمَّدٍ قَالَ: إذَا اخْتَلَفَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ فِي مَسْأَلَةٍ وَأَحَدُ الْقَوْلَيْنِ يُوَافِقُ مَذْهَبَ أَبِي حَنِيفَةَ فَأَيُّهُمَا أَوْلَى بِالْفَتْوَى؟ قَالَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ: مَا يُخَالِفُ قَوْلَ أَبِي حَنِيفَةَ أَوْلَى؛ لِأَنَّهُ لَوْلَا أَنَّ الشَّافِعِيَّ عَرَفَ فِيهِ مَعْنًى خَفِيًّا لَكَانَ لَا يُخَالِفُ أَبَا حَنِيفَةَ.
وَقَالَ الشَّيْخُ الْقَفَّالُ مَا يُوَافِقُ قَوْلَ أَبِي حَنِيفَةَ أَوْلَى. قَالَ: وَكَانَ الْقَاضِي يَذْهَبُ إلَى التَّرْجِيحِ بِالْمَعْنَى وَيَقُولُ كُلُّ قَوْلٍ كَانَ مَعْنَاهُ أَرْجَحَ فَذَلِكَ أَوْلَى وَأُفْتِي بِهِ، قَالَ قُلْت: وَقَوْلُ الْقَفَّالِ الْمَرْوَزِيِّ أَظْهَرُ مِنْ قَوْلِ أَبِي حَامِدٍ الْإسْفَرايِينِيّ، وَكِلَاهُمَا مَحْمُولٌ عَلَى مَا إذَا لَمْ يُعَارِضْ ذَلِكَ مِنْ جِهَةِ الْقَوْلِ الْآخَرِ تَرْجِيحٌ آخَرُ مِثْلُهُ أَوْ أَقْوَى مِنْهُ، وَهَذِهِ الْأَنْوَاعُ مِنْ التَّرْجِيحِ مُعْتَبَرَةٌ أَيْضًا بِالنِّسْبَةِ إلَى أَئِمَّةِ الْمَذْهَبِ، قَالَ ابْنُ أَبِي زَيْدٍ فِي أَوَّلِ النَّوَادِرِ: إنَّ كِتَابَهُ اشْتَمَلَ عَلَى كَثِيرٍ مِنْ اخْتِلَافِ الْمَالِكِيِّينَ.
قَالَ: وَلَا يَنْبَغِي الِاخْتِيَارُ مِنْ الِاخْتِلَافِ لِلْمُتَعَلِّمِ، وَلَا لِلْمُقَصِّرِ وَمَنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ مَحَلٌّ لِاخْتِيَارِ الْقَوْلِ فَلَهُ فِي اخْتِيَارِ الْمُتَعَصِّبِينَ مِنْ أَصْحَابِنَا مِنْ نُقَّادِهِمْ مُقْنِعٌ مِثْلُ سَحْنُونٍ وَأَصْبَغَ وَعِيسَى بْنِ دِينَارٍ وَمَنْ بَعْدَهُمْ، مِثْلُ ابْنِ الْمَوَّازِ وَابْنِ عَبْدُوسٍ وَابْنِ سَحْنُونٍ وَابْنِ الْمَوَّازِ أَكْثَرُهُمْ تَكَلُّفًا لِلِاخْتِيَارَاتِ، وَابْنُ حَبِيبٍ لَا يَبْلُغُ فِي اخْتِيَارَاتِهِ وَقُوَّةِ رِوَايَاتِهِ مَبْلَغَ مَنْ ذَكَرْنَا.
وَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِلْمُفْتِي أَنْ يَتَسَاهَلَ فِي الْفَتْوَى لَا، وَمَنْ عُرِفَ بِذَلِكَ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُسْتَفْتَى، وَكَذَلِكَ الْحَاكِمُ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ الْمُفْتِي وَالْحَاكِمِ إلَّا أَنَّ الْمُفْتِيَ مُخْبِرٌ وَالْحَاكِمَ مُلْزِمٌ، وَالتَّسَاهُلُ قَدْ يَكُونُ بِأَنْ لَا يَثْبُتَ وَيُسْرِعَ بِالْفَتْوَى أَوْ الْحُكْمِ قَبْلَ اسْتِيفَاءِ حَقِّهَا مِنْ النَّظَرِ وَالْفِكْرِ، وَرُبَّمَا يَحْمِلُهُ عَلَى ذَلِكَ تَوَهُّمُهُ أَنَّ الْإِسْرَاعَ بَرَاعَةٌ وَالْإِبْطَاءَ عَجْزٌ وَمَنْقَصَةٌ وَذَلِكَ جَهْلٌ، فَلَأَنْ يُبْطِئَ وَلَا يُخْطِئَ أَجْمَلُ بِهِ مِنْ أَنْ يَعْجَلَ فَيَضِلَّ وَيُضِلَّ، وَقَدْ يَكُونُ تَسَاهُلُهُ وَانْحِلَالُهُ بِأَنْ تَحْمِلَهُ الْأَغْرَاضُ الْفَاسِدَةُ عَلَى تَتَبُّعِ الْحِيَلِ الْمَحْظُورَةِ أَوْ الْمَكْرُوهَةِ وَالتَّمَسُّكِ بِالشُّبَهِ طَلَبًا لِلتَّرْخِيصِ عَلَى مَنْ يَرُومُ نَفْعَهُ أَوْ التَّغْلِيظِ عَلَى مَنْ يُرِيدُ ضَرَّهُ، قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ: وَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ فَقَدْ هَانَ عَلَيْهِ دِينُهُ، وَنَسْأَلُ اللَّهَ الْعَفْوَ وَالْعَافِيَةَ.
قَالَ: أَمَّا إذَا صَحَّ قَصْدُ الْمُفْتِي وَاحْتَسَبَ فِي تَطَلُّبِ حِيلَةٍ لَا شُبْهَةَ فِيهَا، وَلَا تَجُرُّ إلَى مَفْسَدَةٍ؛ لِيُخَلِّصَ بِهَا الْمُسْتَفْتِيَ مِنْ وَرْطَةِ يَمِينٍ أَوْ نَحْوِهَا فَذَلِكَ حَسَنٌ جَمِيلٌ.
قَالَ الْقَرَافِيُّ: لَا يَنْبَغِي لِلْمُفْتِي إذَا كَانَ فِي الْمَسْأَلَةِ قَوْلَانِ أَحَدُهُمَا فِيهِ تَشْدِيدٌ وَالْآخَرُ تَخْفِيفٌ أَنْ يُفْتِيَ الْعَامَّةَ بِالتَّشْدِيدِ وَالْخَاصَّ مِنْ وُلَاةِ الْأُمُورِ بِالتَّخْفِيفِ وَذَلِكَ قَرِيبٌ مِنْ الْفُسُوقِ وَالْخِيَانَةِ فِي الدِّينِ وَالتَّلَاعُبِ بِالْمُسْلِمِينَ، وَذَلِكَ دَلِيلُ فَرَاغِ الْقَلْبِ مِنْ تَعْظِيمِ اللَّهِ تَعَالَى وَإِجْلَالِهِ وَتَقْوَاهُ، وَعِمَارَتِهِ بِاللَّعِبِ وَحُبِّ الرِّيَاسَةِ وَالتَّقْرِيبِ إلَى الْخَلْقِ دُونَ الْخَالِقِ نَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ صِفَاتِ الْغَافِلِينَ، وَالْحَاكِمُ كَالْمُفْتِي فِي هَذَا.
سُؤَالٌ: ذَكَرَهُ الْقَرَافِيُّ فِي كِتَابِ (الْإِحْكَامُ فِي تَمْيِيزِ الْفَتَاوَى عَنْ الْأَحْكَامِ) السُّؤَالُ الثَّانِي وَالْعِشْرُونَ هَلْ يَجِبُ عَلَى الْحَاكِمِ أَنْ لَا يَحْكُمَ إلَّا بِالرَّاجِحِ عِنْدَهُ كَمَا يَجِبُ عَلَى الْمُجْتَهِدِ أَنْ لَا يُفْتِيَ إلَّا بِالرَّاجِحِ عِنْدَهُ أَوْ لَهُ أَنْ يَحْكُمَ بِأَحَدِ الْقَوْلَيْنِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ رَاجِحًا عِنْدَهُ؟. وَالْجَوَابُ: أَنَّ الْحَاكِمَ إنْ كَانَ مُجْتَهِدًا فَلَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَحْكُمَ أَوْ يُفْتِيَ إلَّا بِالرَّاجِحِ عِنْدَهُ، وَإِنْ كَانَ مُقَلِّدًا جَازَ لَهُ أَنْ يُفْتِيَ بِالْمَشْهُورِ فِي مَذْهَبِهِ، وَأَنْ يَحْكُمَ بِهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ رَاجِحًا عِنْدَهُ مُقَلِّدًا فِي رُجْحَانِ الْقَوْلِ الْمَحْكُومِ بِهِ أَمَامَهُ الَّذِي يُقَلِّدُهُ فِي الْفُتْيَا، وَأَمَّا اتِّبَاعُ الْهَوَى فِي الْحُكْمِ وَالْفُتْيَا فَحَرَامٌ إجْمَاعًا، نَعَمْ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِيمَا تَعَارَضَتْ الْأَدِلَّةُ عِنْدَ الْمُجْتَهِدِ وَتَسَاوَتْ وَعَجَزَ عَنْ التَّرْجِيحِ هَلْ يَتَسَاقَطَانِ أَوْ يَخْتَارُوا وَاحِدًا مِنْهُمَا يُفْتِي بِهِ؟.
قَوْلَانِ لِلْعُلَمَاءِ، فَعَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّهُ يَخْتَارُ أَحَدَهُمَا يُفْتِي بِهِ فَلَهُ أَنْ يَخْتَارَ أَحَدَهُمَا يَحْكُمُ بِهِ مَعَ أَنَّهُ لَيْسَ أَرْجَحَ عِنْدَهُ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى؛ لِأَنَّ الْفُتْيَا شَرْعٌ عَامٌّ عَلَى الْمُكَلَّفِينَ إلَى قِيَامِ السَّاعَةِ، وَالْحُكْمُ يَخْتَصُّ بِالْوَقَائِعِ الْجُزْئِيَّةِ، فَإِذَا جَازَ الِاخْتِيَارُ فِي الشَّرَائِعِ الْعَامَّةِ فَأَوْلَى أَنْ يَجُوزَ فِي الْأُمُورِ الْجُزْئِيَّةِ الْخَاصَّةِ، وَهَذَا مُقْتَضَى الْفِقْهِ وَالْقَوَاعِدِ، وَعَلَى هَذَا التَّقْرِيرِ يُتَصَوَّرُ الْحُكْمُ بِالرَّاجِحِ وَغَيْرِ الرَّاجِحِ، وَلَيْسَ اتِّبَاعًا لِلْهَوَى، بَلْ ذَلِكَ بَعْدَ بَذْلِ الْجَهْدِ وَالْعَجْزِ عَنْ التَّرْجِيحِ وَحُصُولِ التَّسَاوِي، أَمَّا الْفُتْيَا وَالْحُكْمُ بِمَا هُوَ مَرْجُوحٌ فَخِلَافُ الْإِجْمَاعِ، وَقَالَ أَيْضًا فِي أَوَّلِ هَذَا الْكِتَابِ: إنَّ لِلْحَاكِمِ أَنْ يَحْكُمَ بِأَحَدِ الْقَوْلَيْنِ الْمُسْتَوِيَيْنِ مِنْ غَيْرِ تَرْجِيحٍ، وَلَا مَعْرِفَةٍ بِأَدِلَّةِ الْقَوْلَيْنِ إجْمَاعًا، فَتَأَمَّلْ هَذَا مَعَ مَا سَبَقَ مِنْ كَلَامِهِ فِي قَوْلِهِ بَعْدَ بَذْلِ الْجَهْدِ وَالْعَجْزِ عَنْ التَّرْجِيحِ.
وَقَالَ عِزُّ الدِّينِ عَبْدُ السَّلَامِ الشَّافِعِيُّ: مِنْ كَانَ لِإِمَامِهِ فِي الْمَسْأَلَةِ قَوْلَانِ فَلَهُ أَنْ يُقَلِّدَ أَيَّهمَا أَحَبَّ، نَقَلَهُ ابْنُ عَبْدِ النُّورِ التُّونِسِيُّ فِي الْفَتَاوَى.

.فَصْلٌ عَنْ الرَّجُلِ إذَا لَمْ يَسْتَبْحِرْ فِي الْعِلْمِ هَلْ لَهُ أَنْ يُفْتِيَ بِمَا رَآهُ:

فَصْلٌ: وَفِي الْفَتَاوَى لِابْنِ عَبْدِ النُّورِ.
وَسُئِلَ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ بْنُ أَبِي زَيْدٍ عَنْ الرَّجُلِ إذَا لَمْ يَسْتَبْحِرْ فِي الْعِلْمِ، وَإِنَّمَا نَظَرَ فِي الْمُدَوَّنَةِ وَالْمُوَطَّأِ وَالْمُخْتَصَرِ وَنَحْوُ ذَلِكَ يُسْأَلُ عَنْ النَّازِلَةِ، هَلْ لَهُ أَنْ يُفْتِيَ بِمَا رَآهُ فِي هَذِهِ الدَّوَاوِينِ لِمَالِكٍ أَوْ لِأَحَدٍ مِنْ أَصْحَابِهِ أَوْ بِاخْتِيَارٍ لِسَحْنُونٍ أَوْ لِابْنِ سَحْنُونٍ أَوْ لِابْنِ الْمَوَّازِ وَشَبَهِهِمْ؟
فَأَجَابَ عَنْ ذَلِكَ إذَا سُئِلَ عَنْ نَازِلَةٍ وَجَدَهَا فِي هَذِهِ الْكُتُبِ فَلْيُفْتِ بِهَا وَيَحْمِلُ نَفْسَهُ عَلَيْهَا إنْ نَزَلَتْ بِهِ، وَكَذَلِكَ إنْ وَجَدَ مِثْلَهَا لِابْنِ الْقَاسِم أَوْ لِأَحَدٍ مِنْ نُظَرَائِهِ أَوْ لَمْ يَجِدْهَا إلَّا لِسَحْنُونٍ أَوْ لِابْنِهِ أَوْ لِابْنِ الْمَوَّاز أَوْ لِأَصْبَغَ أَوْ لِابْنِ عَبْدُوسٍ أَوْ شَبَهِ هَؤُلَاءِ فَإِنْ كَانَ شَيْئًا يُخْتَلَفُ فِيهِ بَيْنَ أَصْحَابِ مَالِكٍ أَوْ لِأَحَدٍ مِنْ هَؤُلَاءِ الْمُعَيَّنِينَ فِيهِ اخْتِيَارٌ مِثْلُ سَحْنُونٍ وَأَصْبَغَ وَمَنْ دُونَهُمَا، مِنْ ابْنِ عَبْدُوسٍ وَابْنِ سَحْنُونٍ وَابْنِ الْمَوَّازِ وَنَحْوِهِمْ، فَلَهُ أَنْ يُفْتِيَ بِاخْتِيَارِ مَنْ وَجَدَ مِنْ اخْتِيَارِ هَؤُلَاءِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، ولاسيما إنَّك قُلْت وَالْبَلَدُ عَارٌ، وَلَا يَرُدُّهُ إلَّا إلَى مَنْ هُوَ دُونَهُ أَوْ مَنْ يَحْمِلُهُ عَلَى غَيْرِ مَذْهَبِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ، وَكَذَلِكَ إنْ كَتَبَ إلَى مَنْ اتَّسَعَ فِي الْعِلْمِ وَاسْتَبْحَرَ فَأَفْتَاهُ بِشَيْءٍ وَسِعَهُ أَنْ يَعْمَلَ بِهِ وَيَحْمِلَ عَلَيْهِ مَنْ سَأَلَهُ أَيْضًا.
فَصْلٌ:
قَالَ الْمَازِرِيُّ فِي كِتَابِ الْأَقْضِيَةِ الَّذِي يُفْتِي فِي هَذَا الزَّمَانِ أَقَلُّ مَرَاتِبِهِمْ فِي نَقْلِ الْمَذْهَبِ، أَنْ يَكُونَ قَدْ اسْتَبْحَرَ فِي الِاطِّلَاعِ عَلَى رِوَايَاتِ الْمَذْهَبِ، وَتَأْوِيلِ الْأَشْيَاخِ لَهَا وَتَوْجِيهِهِمْ بِمَا وَقَعَ فِيهَا مِنْ اخْتِلَافِ ظَوَاهِرَ، وَاخْتِلَافِ مَذَاهِبَ وَتَشْبِيهِهِمْ مَسَائِلَ بِمَسَائِلَ قَدْ يَسْبِقُ إلَى النَّفْسِ تَبَاعُدُهَا وَتَفْرِيقُهُمْ بَيْنَ مَسَائِلَ وَمَسَائِلَ قَدْ يَقَعُ فِي النَّفْسِ تَقَارُبُهَا وَتَشَابُهُهَا، إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا بَسَطَهُ الْمُتَأَخِّرُونَ فِي كُتُبِهِمْ، وَأَشَارَ إلَيْهِ مَنْ تَقَدَّمَ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ فِي كَثِيرٍ مِنْ رِوَايَاتِهِمْ، فَهَذَا لِعَدَمِ النُّظَّارِ يَقْتَصِرُ عَلَى نَقْلِهِ عَنْ الْمَذَاهِبِ.
وَسُئِلَ ابْنُ أَبِي زَيْدٍ أَيْضًا عَنْ الْمُفْتِي يُخْبِرُ الْمُسْتَفْتِي بِاخْتِلَافِ النَّاسِ، فَأَجَابَ: مِنْ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ: إنَّ الْمُسْتَفْتِيَ إذَا اسْتَفْتَى الْمُفْتِيَ فَيُخْبِرُهُ بِاخْتِلَافِ النَّاسِ أَنَّهُ لَهُ أَنْ يَخْتَارَ لِنَفْسِهِ فِي أَيِّ الْأَقْوَالِ شَاءَ، بِمَنْزِلَةِ رَجُلٍ دَخَلَ الْمَسْجِدَ فَوَجَدَ أَبَا الْمُصْعَبِ فِي مَجْلِسٍ وَابْنَ وَهْبٍ فِي مَجْلِسٍ وَغَيْرَهُمَا كَذَلِكَ، فَلَهُ أَنْ يَقْصِدَ أَيَّهُمَا شَاءَ فَيَسْأَلَهُ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَعْمَلَ بِقَوْلِ مَنْ شَاءَ مِنْهُمْ وَهُمْ أَحْيَاءٌ، أَوْ يَخْتَارَ مَا ثَبَتَ مِنْ أَقْوَالِهِمْ بَعْدَ مَوْتِهِمْ، قُلْت لِأَبِي مُحَمَّدٍ: فَمَا تَقُولُ أَنْتَ فِي ذَلِكَ؟. قَالَ أَمَّا مَنْ فِيهِ فَضْلُ الِاخْتِيَارِ فَلَهُ أَنْ يَخْتَارَ لِنَفْسِهِ، وَمَنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ فَضْلُ الِاخْتِيَارِ قَلَّدَ رَجُلًا يَقْوَى فِي نَفْسِهِ، فَاخْتِيَارُ الرَّجُلِ كَاخْتِيَارِ الْقَوْلِ. انْتَهَى. وَقَوْلُهُ: قَلَّدَ رَجُلًا يَقْوَى فِي نَفْسِهِ مُوَافِقٌ لِمَا نَقَلَهُ ابْنُ الصَّلَاحِ قَبْلَ هَذَا مِنْ التَّرْجِيحِ بَيْنَ أَقْوَالِ أَهْلِ الْمَذْهَبِ، وَأَنَّهُ يُقَدِّمُ قَوْلَ الْأَعْلَمِ الْوَرِعِ عَلَى الْأَوْرَعِ الْعَالِمِ، وَالْحَاكِمُ كَالْمُفْتِي فِي الْآخِذِ بِاخْتِيَارِ أَحَدِ الْأَئِمَّةِ الْمُجْتَهِدِينَ فِي الْمَذْهَبِ، وَيُلْصَقُ بِهِمْ مَنْ اتَّسَعَ فِي الْعِلْمِ وَاسْتَبْحَرَ فِيهِ، كَمَا قَالَ ابْنُ أَبِي زَيْدٍ قَالَ ابْنُ هِشَامٍ فِي (مُفِيدُ الْحُكَّامِ): وَإِذَا لَمْ يَكُنْ الْقَاضِي مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ وَاخْتَلَفَ عَلَيْهِ الْعُلَمَاءُ فِيمَا يُشَاوِرُهُمْ فِيهِ، فَقِيلَ يَأْخُذُ بِقَوْلِ أَعْلَمِهِمْ، وَقِيلَ بِقَوْلِ أَكْثَرِهِمْ، وَقِيلَ يَأْخُذُ بِقَوْلِ مَنْ شَاءَ مِنْهُمْ، وَفِي (الْمُتَيْطِيَّةِ) يَنْظُرُ فِي أَقْوَالِهِمْ فَمَا رَآهُ عِنْدَهُ أَقْرَبَ إلَى الْحَقِّ أَخَذَ بِهِ.

.فَصْلٌ مَنْ كَانَتْ فُتْيَاهُ نَقْلًا لِمَذْهَبِ إمَامِهِ:

فَصْلٌ: قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ: لَا يَجُوزُ لِمَنْ كَانَتْ فُتْيَاهُ نَقْلًا لِمَذْهَبِ إمَامِهِ إذَا اعْتَمَدَ فِي نَقْلِهِ عَلَى كُتُبٍ أَنْ يَعْتَمِدَ إلَّا عَلَى كِتَابٍ مَوْثُوقٍ بِصِحَّتِهِ وَجَازَ ذَلِكَ، كَمَا جَازَ اعْتِمَادُ الرَّاوِي عَلَى كِتَابِهِ، وَاعْتِمَادُ الْمُسْتَفْتِي عَلَى مَا يَكْتُبُهُ الْمُفْتِي، وَتَحْصُلُ لَهُ الثِّقَةُ بِمَا يَجِدُهُ فِي نُسْخَةٍ غَيْرِ مَوْثُوقٍ بِصِحَّتِهَا بِأَنْ يَجِدَهُ فِي نُسَخٍ عِدَّةٍ مِنْ أَمْثَالِهَا، وَقَدْ تَحْصُلُ لَهُ الثِّقَةُ بِمَا يَجِدُ فِي النُّسْخَةِ الَّتِي هِيَ غَيْرُ مَوْثُوقٍ بِهَا بِأَنْ يَرَاهُ كَلَامًا مُنْتَظِمًا وَهُوَ خَبِيرٌ فَطِنٌ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ فِي الْغَالِبِ مَوَاقِعُ الْإِسْقَاطِ وَالتَّغْيِيرِ، وَإِذَا لَمْ يَجِدْهُ إلَّا فِي مَوْضِعٍ لَمْ يَثِقْ بِصِحَّتِهِ نَظَرَ، فَإِنْ وَجَدَهُ مُوَافِقًا لِأُصُولِ الْمَذْهَبِ وَهُوَ أَهْلٌ لِلتَّخْرِيجِ مِثْلُهُ عَلَى الْمَذْهَبِ لَوْ لَمْ يَجِدْهُ مَنْقُولًا فَلَهُ أَنْ يُفْتِيَ بِهِ، فَإِنْ أَرَادَ أَنْ يَحْكِيَهُ عَنْ إمَامِهِ فَلَا يَقُولُ قَالَ الشَّافِعِيُّ مَثَلًا كَذَا، وَكَذَا وَلْيَقُلْ وَجَدْت عَنْ الشَّافِعِيِّ كَذَا، وَكَذَا، أَوْ بَلَغَنِي عَنْهُ، أَوْ مَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنْ الْعِبَارَاتِ. وَأَمَّا إذَا لَمْ يَكُنْ أَهْلًا لِتَخْرِيجِ مِثْلِهِ فَلَا يَجُوزُ لَهُ ذَلِكَ فِيهِ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَذْكُرَهُ بِلَفْظٍ جَازِمٍ مُطْلَقٍ، فَإِنَّ سَبِيلَ مِثْلِهِ النَّقْلُ الْمَحْضُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَحْصُلْ لَهُ مَا يَجُوزُ لَهُ مِثْلُ مَا جَازَ لِلْأَوَّلِ، وَيَجُوزُ لَهُ أَنْ يَذْكُرَ فِي غَيْرِ مَقَامِ الْفَتْوَى مُفْصِحًا بِحَالِهِ فِيهِ فَيَقُولُ: وَجَدْته فِي نُسْخَةٍ مِنْ الْكِتَابِ الْفُلَانِيِّ أَوْ مِنْ كِتَابِ فُلَانٍ لَا أَعْرِفُ صِحَّتَهَا، أَوْ وَجَدْت عَنْ فُلَانٍ كَذَا، وَكَذَا، أَوْ بَلَغَنِي عَنْهُ كَذَا، وَكَذَا وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنْ الْعِبَارَاتِ.
وَسُئِلَ عِزُّ الدِّينِ بْنُ عَبْدِ السَّلَامِ عَنْ الْمُقَلِّدِ وَالْمُفْتِي يَأْخُذُ بِقَوْلٍ يُنْسَبُ إلَى إمَامِهِ، وَلَا يَرْوِيهِ هَذَا الْمُفْتِي عَنْ صَاحِبِ مَذْهَبِهِ، وَإِنَّمَا حَفِظَهُ مِنْ كُتُبِ الْمَذْهَبِ، وَهِيَ غَيْرُ مَرْوِيَّةٍ، وَلَا مُسْنَدَةٌ إلَى مُؤَلِّفِيهَا، فَهَلْ يَسُوغُ لِمَنْ هَذِهِ حَالُهُ الْفُتْيَا أَمْ لَا؟. وَهُوَ سُؤَالٌ طَوِيلٌ فِيهِ مَسَائِلُ عَدِيدَةٌ فَأَجَابَ عَنْ هَذَا الْفَصْلِ بِأَنْ قَالَ: وَأَمَّا الِاعْتِمَادُ عَلَى كُتُبِ الْفِقْهِ الصَّحِيحَةِ الْمَوْثُوقِ بِهَا فَقَدْ اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ فِي هَذَا الْعَصْرِ عَلَى جَوَازِ الِاعْتِمَادِ عَلَيْهَا؛ لِأَنَّ الثِّقَةَ قَدْ حَصَلَتْ بِهَا كَمَا تَحْصُلُ بِالرِّوَايَةِ، وَكَذَلِكَ قَدْ اعْتَمَدَ النَّاسُ عَلَى الْكُتُبِ الْمَشْهُورَةِ فِي النَّحْوِ وَاللُّغَةِ وَالطِّبِّ وَسَائِرِ الْعُلُومِ لِحُصُولِ الثِّقَةِ بِذَلِكَ وَبُعْدِ التَّدْلِيسِ، وَمَنْ اعْتَقَدَ أَنَّ النَّاسَ اتَّفَقُوا عَلَى الْخَطَأِ فِي ذَلِكَ فَهُوَ أَوْلَى بِالْخَطَإِ مِنْهُمْ، وَلَوْلَا جَوَازُ اعْتِقَادِ ذَلِكَ لَتَعَطَّلَ كَثِيرٌ مِنْ الْمَصَالِحِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالطِّبِّ وَالنَّحْوِ وَاللُّغَةِ وَالْعَرَبِيَّةِ فِي الشَّرِيعَةِ، وَقَدْ رَجَعَ الشَّرْعُ إلَى أَقْوَالِ الْأَطِبَّاءِ فِي صُوَرٍ، وَلَيْسَتْ كُتُبُهُمْ فِي الْأَصْلِ إلَّا عَنْ قَوْمٍ كُفَّارٍ، وَلَكِنْ لَمَّا بَعُدَ التَّدْلِيسُ فِيهَا اعْتَمَدَ عَلَيْهَا، كَمَا اعْتَمَدَ فِي اللُّغَةِ عَلَى أَشْعَارِ كُفَّارٍ مِنْ الْعَرَبِ لِبُعْدِ التَّدْلِيسِ فِيهَا. قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ: قَالَ الصَّيْمَرِيُّ قَلَّمَا وُجِدَ التَّزْوِيرُ عَلَى الْمُفْتِي، وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى حَرَسَ أَمْرَ الدِّينِ فَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالشُّكْرُ.
مَسْأَلَةٌ:
وَمِثْلُ هَذَا مَا ذَكَرَهُ الْقَرَافِيُّ فِي كِتَابِ (الْإِحْكَامُ فِي تَمْيِيزِ الْفَتَاوَى عَنْ الْأَحْكَامِ) فَقَالَ كَانَ الْأَصْلُ يَقْتَضِي أَنْ لَا تَجُوزَ الْفُتْيَا إلَّا بِمَا يَرْوِيهِ الْعَدْلُ عَنْ الْمُجْتَهِدِ الَّذِي يُقَلِّدُهُ الْمُفْتِي حَتَّى يَصِحَّ ذَلِكَ عِنْدَ الْمُفْتِي كَمَا تَصِحُّ الْأَحَادِيثُ عِنْدَ الْمُجْتَهِدِ؛ لِأَنَّهُ نَقْلٌ لِدِينِ اللَّهِ تَعَالَى فِي الْمَوْضِعَيْنِ، وَعَلَى هَذَا كَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَحْرُمَ غَيْرُ ذَلِكَ، غَيْرَ أَنَّ النَّاسَ تَوَسَّعُوا فِي هَذَا الْعَصْرِ فَصَارُوا يُفْتُونَ مِنْ كُتُبٍ يُطَالِعُونَهَا مِنْ غَيْرِ رِوَايَةٍ، وَهُوَ خَطَرٌ عَظِيمٌ فِي الدِّينِ، وَخُرُوجٌ عَنْ الْقَوَاعِدِ، غَيْرَ أَنَّ الْكُتُبَ الْمَشْهُورَةَ؛ لِأَجْلِ شُهْرَتِهَا بَعُدَتْ بُعْدًا شَدِيدًا عَنْ التَّحْرِيفِ وَالتَّزْوِيرِ فَاعْتَمَدَ النَّاسُ عَلَيْهَا اعْتِمَادًا عَلَى ظَاهِرِ الْحَالِ، وَلِذَلِكَ أَيْضًا أُهْمِلَتْ رِوَايَةُ كُتُبِ النَّحْوِ وَاللُّغَةِ بِالْعَنْعَنَةِ عَنْ الْعُدُولِ بِنَاءً عَلَى بُعْدِهَا عَنْ التَّحْرِيفِ، وَإِنْ كَانَتْ اللُّغَةُ هِيَ أَسَاسُ الشَّرْعِ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، فَإِهْمَالُ ذَلِكَ فِي النَّحْوِ وَاللُّغَةِ وَالتَّصْرِيفِ قَدِيمًا وَحَدِيثًا يَعْضُدُ أَهْلَ الْعَصْرِ فِي إهْمَالِ ذَلِكَ فِي كُتُبِ الْفِقْهِ بِجَامِعِ بُعْدِ الْجَمِيعِ عَنْ التَّحْرِيفِ، وَعَلَى هَذَا تَحْرِيمُ الْفُتْيَا مِنْ الْكُتُبِ الْغَرِيبَةِ الَّتِي لَمْ تَشْتَهِرْ حَتَّى تَتَظَافَرَ عَلَيْهَا الْخَوَاطِرُ وَيُعْلَمُ صِحَّةُ مَا فِيهَا، وَكَذَلِكَ الْكُتُبُ الْحَدِيثَةُ التَّصْنِيفِ إذَا لَمْ يَشْتَهِرْ عَزْوُ مَا فِيهَا مِنْ الْمَنْقُولِ إلَى الْكُتُبِ الْمَشْهُورَةِ، أَوْ يُعْلَمُ أَنَّ مُصَنِّفَهَا كَانَ يَعْتَمِدُ هَذَا النَّوْعَ مِنْ الصِّحَّةِ وَهُوَ مَوْثُوقٌ بِعَدَالَتِهِ، وَكَذَلِكَ حَوَاشِي الْكُتُبِ تَحْرُمُ الْفَتْوَى بِهَا؛ لِعَدَمِ صِحَّتِهَا وَالْوُثُوقِ بِهَا انْتَهَى.
وَمُرَادُهُ إنْ كَانَتْ الْحَوَاشِي غَرِيبَةَ النَّقْلِ، وَأَمَّا إذَا كَانَ مَا فِيهَا مَوْجُودًا فِي الْأُمَّهَاتِ أَوْ مَنْسُوبًا إلَى مَحَلِّهِ، وَهِيَ بِخَطٍّ يَوْثُقُ بِهِ فَلَا فَرْقَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ سَائِرِ التَّصَانِيفِ، وَلَمْ تَزَلْ الْعُلَمَاءُ وَأَئِمَّةُ الْمَذْهَبِ يَنْقُلُونَ مَا عَلَى حَوَاشِي كُتُبِ الْأَئِمَّةِ الْمَوْثُوقِ بِعِلْمِهِمْ بِخُطُوطِهِمْ، وَذَلِكَ مَوْجُودٌ فِي كَلَامِ الْقَاضِي عِيَاضٍ وَالْقَاضِي أَبِي الْأَصْبَغِ بْنِ سَهْلٍ وَغَيْرِهِمَا، إذَا وَجَدُوا حَاشِيَةً يَعْرِفُونَ كَاتِبَهَا نَقَلُوا ذَلِكَ عَنْهُ وَنَسَبُوهَا إلَيْهِ، وَأَدْخَلُوا ذَلِكَ فِي مُصَنَّفَاتِهِمْ، وَأَمَّا حَيْثُ يُجْهَلُ الْكَاتِبُ وَيَكُونُ النَّقْلُ غَرِيبًا فَلَا شَكَّ فِيمَا قَالَهُ الْقَرَافِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى، وَمِنْ ذَلِكَ الطُّرَرُ لِأَبِي إبْرَاهِيمَ الْأَعْرَجِ عَلَى التَّهْذِيبِ وَهُوَ مِنْ الْكُتُبِ الْمُعْتَمَدَةِ عَلَيْهَا الْمَوْثُوقِ بِصِحَّةِ مَا فِيهَا، وَكَذَلِكَ الطُّرَرُ لِابْنِ عَاتٍ عَلَى الْوَثَائِقِ الْمَجْمُوعَةِ، وَكَذَلِكَ فِي الطُّرَرِ لِأَبِي الْحَسَنِ السِّنْجِيِّ عَلَى التَّهْذِيبِ مِنْ الْحَوَاشِي الْمَوْثُوقِ بِهَا، وَهُوَ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالدِّينِ وَالْوَرَعِ، وَغَالِبُ مَا فِيهَا مَنْسُوبٌ إلَى مَحَلِّهِ.

.فَصْلٌ بَيَانُ مَا يُنْقَضُ فِيهِ قَضَاءُ الْقَاضِي:

فَصْلٌ: وَيَلْحَقُ بِهَذَا الرُّكْنِ بَيَانُ مَا يُنْقَضُ فِيهِ قَضَاءُ الْقَاضِي وَقَدْ نَصَّ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ حُكْمَ الْحَاكِمِ لَا يَسْتَقِرُّ فِي أَرْبَعَةِ مَوَاضِعَ وَيُنْقَضُ ذَلِكَ إذَا وَقَعَ عَلَى خِلَافِ الْإِجْمَاعِ أَوْ الْقَوَاعِدِ أَوْ بِالنَّصِّ الْجَلِيِّ أَوْ الْقِيَاسِ، وَمِثَالُ ذَلِكَ كَمَا لَوْ حَكَمَ بِأَنَّ الْمِيرَاثَ كُلَّهُ لِلْأَخِ دُونَ الْجَدِّ فَهَذَا خِلَافُ الْإِجْمَاعِ؛ لِأَنَّ الْأُمَّةَ عَلَى الْقَوْلَيْنِ الْمَالُ كُلُّهُ لِلْجَدِّ أَوْ يُقَاسِمُ الْأَخَ، أَمَّا حِرْمَانُ الْجَدِّ بِالْكُلِّيَّةِ فَلَمْ يَقُلْ بِهِ أَحَدٌ، فَمَتَى حَكَمَ بِهِ حَاكِمٌ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْأَخَ يُدْلِي بِالْبُنُوَّةِ، وَالْجَدُّ يُدْلِي بِالْأُبُوَّةِ وَالْبُنُوَّةُ مُقَدَّمَةٌ عَلَى الْأُبُوَّةِ نَقَضْنَا هَذَا الْحُكْمَ، وَإِنْ كَانَ مُفْتِيًا لَمْ نُقَلِّدْهُ. وَمِثَالُ مُخَالَفَةِ الْقَوَاعِدِ الْمَسْأَلَةُ السُّرَيْجِيَّةُ مَتَى حَكَمَ حَاكِمٌ بِتَقْرِيرِ النِّكَاحِ فِي حَقِّ مَنْ قَالَ إنْ وَقَعَ عَلَيْك طَلَاقِي فَأَنْتِ طَالِقٌ قَبْلَهُ ثَلَاثًا فَطَلَّقَهَا ثَلَاثًا أَوْ أَقَلَّ، فَالصَّحِيحُ لُزُومُ الثَّلَاثِ لَهُ، فَإِذَا مَاتَتْ أَوْ مَاتَ وَحَكَمَ حَاكِمٌ بِالتَّوَارُثِ بَيْنَهُمَا نَقَضْنَا حُكْمَهُ؛ لِأَنَّهُ عَلَى خِلَافِ الْقَوَاعِدِ؛ لِأَنَّ مِنْ قَوَاعِدِ الشَّرْعِ صِحَّةُ اجْتِمَاعِ الشَّرْطِ مَعَ الْمَشْرُوطِ؛ لِأَنَّ حِكْمَتَهُ إنَّمَا تَظْهَرُ فِيهِ، فَإِذَا كَانَ الشَّرْطُ لَا يَصِحُّ اجْتِمَاعُهُ مَعَ مَشْرُوطِهِ فَلَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ فِي الشَّرْعِ شَرْطًا، فَلِذَلِكَ يُنْقَضُ حُكْمُ الْحَاكِمِ فِي الْمَسْأَلَةِ السُّرَيْجِيَّةِ، وَهِيَ الَّتِي وَقَعَ التَّمْثِيلُ بِهَا.
وَمِثَالُ مُخَالَفَةِ النَّصِّ إذَا حَكَمَ بِشُفْعَةِ الْجَارِ فَإِنَّ الْحَدِيثَ الصَّحِيحَ وَارِدٌ فِي اخْتِصَاصِهَا بِالشَّرِيكِ، وَلَمْ يَثْبُتْ لَهُ مُعَارِضٌ صَحِيحٌ، فَيُنْقَضُ الْحُكْمُ بِخِلَافِهِ. وَمِثَالُ مُخَالَفَةِ الْقِيَاسِ قَبُولُ شَهَادَةِ النَّصْرَانِيِّ فَإِنَّ الْحُكْمَ بِشَهَادَتِهِ يُنْقَضُ؛ لِأَنَّ الْفَاسِقَ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ وَالْكَافِرُ أَشَدُّ مِنْهُ فُسُوقًا وَأَبْعَدُ عَنْ الْمَنَاصِبِ الشَّرْعِيَّةِ فِي مُقْتَضَى الْقِيَاسِ، فَيُنْقَضُ الْحُكْمُ لِذَلِكَ.
تَنْبِيهٌ:
قَالَ الْقَرَافِيُّ فِي مَعْنَى قَوْلِ الْعُلَمَاءِ: إنَّ حُكْمَ الْحَاكِمِ يُنْقَضُ إذَا خَالَفَ الْقَوَاعِدَ أَوْ الْقِيَاسَ وَالنَّصَّ، فَالْمُرَادُ إذَا لَمْ يَكُنْ لَهَا مُعَارِضٌ رَاجِحٌ عَلَيْهَا أَمَّا إذَا كَانَ لَهَا مُعَارِضٌ فَلَا يُنْقَضُ الْحُكْمُ إذَا كَانَ وَفْقَ مُعَارِضِهَا الرَّاجِحِ إجْمَاعًا كَالْقَضَاءِ بِصِحَّةِ عَقْدِ الْقِرَاضِ، وَالْمُسَاقَاةِ وَالسَّلَمِ وَالْحَوَالَةِ وَنَحْوِهَا، فَإِنَّهَا عَلَى خِلَافِ الْقَوَاعِدِ وَالنُّصُوصِ وَالْأَقْيِسَةِ، وَلَكِنْ لَا دَلَالَةَ خَاصَّةً مُقَدَّمَةٌ عَلَى الْقَوَاعِدِ وَالنُّصُوصِ وَالْأَقْيِسَةِ.
فَصْلٌ:
وَفِي مُخْتَصَرِ الْوَاضِحَةِ قَالَ ابْنُ الْمَاجِشُونِ وَمَنْ حَكَمَ بِالْعُمْرَى الْمُعَقَّبَةِ وَجَعَلَهَا لِلْمُعْمَرِ، وَلِعَقِبِهِ فَلَا يَرُدُّهَا هَذَا الْحُكْمُ، قَالَ ابْنُ حَبِيبٍ: وَكَذَا قَالَ مُطَرِّفٌ.
وَقَالَ هَذَا الَّذِي عَلَيْهِ حُكَّامُنَا بِالْمَدِينَةِ، وَكَذَا قَالَ لِي أَصْبَغُ، وَقَالَهُ ابْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ أَيْضًا، قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ: وَإِنْ كُنْت قَدْ سَمِعْت ابْنَ الْقَاسِمِ يَقُولُ: فَاَلَّذِي يُطَلِّقُ امْرَأَتَهُ أَلْبَتَّةَ فَيَرْفَعُ أَمَرَهُ إلَى مَنْ لَا يَرَى أَلْبَتَّةَ فَجَعَلَهَا وَاحِدَةً فَتَزَوَّجَهَا قَبْلَ أَنْ تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ أَنَّهُ يُفَرَّقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا، وَلَيْسَ هَذَا مِنْ الِاخْتِلَافِ الَّذِي يُقَرُّ إذَا حُكِمَ بِهِ.
وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ: وَلَسْت أَرَاهُ وَأَرَى أَنْ يُقَرَّ كُلُّ قَضَاءٍ قُضِيَ بِهِ مِمَّا اخْتَلَفَ النَّاسُ فِيهِ كَائِنًا مَا كَانَ، مَا لَمْ يَكُنْ خَطَأً بَيِّنًا لَمْ يَأْتِ فِيهِ خِلَافٌ مِنْ أَحَدٍ.

.فَصْلٌ فِي نَقْضِ الْقَاضِي أَحْكَامَ نَفْسِهِ:

وَلَهُ ذَلِكَ إنْ ظَهَرَ لَهُ الْخَطَأُ، وَإِنْ كَانَ قَدْ أَصَابَ قَوْلَ قَائِلٍ.
وَفِي وَثَائِقِ ابْنِ الْعَطَّارِ، وَلِلْقَاضِي الرُّجُوعُ عَمَّا حَكَمَ بِهِ وَقَضَى مِمَّا فِيهِ اخْتِلَافٌ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَمِمَّا تَبَيَّنَ لَهُ فِيهِ الْوَهْمُ مَا دَامَ عَلَى خُطَّتِهِ. فَإِنْ عُزِلَ أَوْ مَاتَ بَعْدَمَا حَكَمَ بِهِ لَمْ يَكُنْ لِغَيْرِهِ فَسْخُ شَيْءٍ مِنْ أَحْكَامِهِ مِمَّا فِيهِ اخْتِلَافٌ، وَإِنْ كَانَ وَجْهًا ضَعِيفًا.
وَفِي (الطُّرَرِ عَلَى التَّهْذِيبِ) لِلطَّنْجِيِّ: إذَا قَضَى الْقَاضِي بِقَضِيَّةٍ فِيهَا اخْتِلَافٌ وَوَافَقَ قَوْلًا شَاذًّا نُقِضَ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ شَاذًّا لَمْ يُنْقَضْ وَمُرَادُهُ بِالشَّاذِّ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ مِثْلُ الْقَوْلِ بِشُفْعَةِ الْجِوَارِ، وَسَيَأْتِي بَيَانُ ذَلِكَ- إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى- وَقَالَ سَحْنُونٌ: إذَا قَضَى الْقَاضِي بِقَضِيَّةٍ، وَكَانَ الْحُكْمُ مُخْتَلَفًا فِيهِ، وَلَهُ فِيهِ رَأْيٌ فَحَكَمَ بِغَيْرِهِ سَهْوًا فَلَهُ نَقْضُهُ.
وَقَالَ ابْنُ رَاشِدٍ: وَوَجْهُ سَهْوِهِ أَوْ غَلَطِهِ لَا يُعْرَفُ إلَّا مِنْ قَوْلِهِ. قَالَ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ: وَقَدْ تَشْهَدُ عِنْدَهُ بَيِّنَةٌ أَنَّ رَأْيَهُ كَانَ غَيْرَ ذَلِكَ وَأَنَّهُ حَكَمَ بِهِ سَهْوًا كَمَا تَشْهَدُ هَذِهِ الْبَيِّنَةُ عِنْدَ غَيْرِهِ فَيَجِبُ عَلَيْهِ حِينَئِذٍ نَقْضُ ذَلِكَ الْحُكْمِ أَيْضًا، وَكَوْنُ ذَلِكَ الْحُكْمِ قَدْ وَقَعَ مِنْهُ لَا يَمْنَعُ مِنْ أَنْ يَنْسَى مَا كَانَ قَدْ عَزَمَ عَلَيْهِ أَوَّلًا، وَلَيْسَ لِغَيْرِهِ نَقْضُهُ، وَإِنْ كَانَ رَأَى بَعْدَ الْحُكْمِ رَأْيًا سِوَاهُ لَمْ يَنْقُضْهُ.
وَفِي مُخْتَصَرِ الْوَاضِحَةِ قَالَ ابْنُ حَبِيبٍ وَأَخْبَرَنِي مُطَرِّفٌ وَابْنُ الْمَاجِشُونِ عَنْ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ وَعَنْ غَيْرِهِ مِنْ عُلَمَاءِ الْمَدِينَةِ فِي الْقَاضِي يَقْضِي بِالْقَضَاءِ ثُمَّ يَرَى مَا هُوَ أَحْسَنُ مِنْهُ فَيُرِيدُ الرُّجُوعَ عَنْهُ إلَى مَا رَأَى فَذَلِكَ لَهُ مَا كَانَ عَلَى وِلَايَتِهِ الَّتِي فِيهَا قَضَى بِذَلِكَ الْقَضَاءِ الَّذِي يُرِيدُ الرُّجُوعَ عَنْهُ، فَإِنْ كَانَ الْقَضَاءُ الْأَوَّلُ مِمَّا لَوْ قَضَى بِهِ قَاضٍ لَمْ يَجُزْ لِهَذَا نَقْضُهُ فَلَيْسَ لَهُ نَقْضُهُ، وَقَالَ لِي أَصْبَغُ مِثْلَهُ.
وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ: لَمْ أَسْمَعْ أَحَدًا مِنْ أَصْحَابِنَا اخْتَلَفَ فِي ذَلِكَ. وَأَنَا لَا أَرَى ذَلِكَ، وَقَضَاؤُهُ وَقَضَاءُ غَيْرِهِ عِنْدِي وَاحِدٌ لَا يَرْجِعُ عَمَّا اخْتَلَفَ فِيهِ، وَلَا إلَى مَا هُوَ أَحْسَنُ مِنْهُ حَتَّى يَكُونَ الْأَوَّلُ خَطَأً بَيِّنًا صُرَاحًا، قَالَ ابْنُ حَبِيبٍ: وَقَوْلِي عَلَى مَا اجْتَمَعُوا عَلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ.
وَقَالَ سَحْنُونٌ أَيْضًا لَا يَجُوزُ فَسْخُهُ، قَالَ ابْنُ الْحَاجِبِ:، وَلَوْ حَكَمَ قَصْدًا فَظَهَرَ أَنَّ غَيْرَهُ أَصْوَبُ، فَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ بِفَسْخِ الْأَوَّلِ.
وَقَالَ ابْنُ الْمَاجِشُونِ وَسَحْنُونٌ: لَا يَجُوزُ فَسْخُهُ وَصَوَّبَهُ الْأَئِمَّةُ، يَعْنِي وَصَوَّبَهُ أَئِمَّةُ الْمُتَأَخِّرِينَ قِيَاسًا عَلَى حُكْمِ غَيْرِهِ؛ وَلِأَنَّهُ لَوْ كَانَ لَهُ نَقْضُ هَذَا لِرَأْيِهِ الثَّانِي لَكَانَ لَهُ فَسْخُ الثَّانِي وَالثَّالِثِ، وَلَا يَقِفُ عَلَى حَدٍّ، وَلَا يَثِقُ أَحَدٌ بِمَا قَضَى لَهُ بِهِ وَذَلِكَ ضَرَرٌ شَدِيدٌ، وَقِيلَ: إنْ كَانَ الْقَضَاءُ بِمَالٍ فَسَخَهُ، وَإِنْ كَانَ ثُبُوتَ نِكَاحٍ أَوْ فَسْخَهُ لَمْ يَنْقُضْهُ، قَالَ ابْنُ رَاشِدٍ: وَالْمَشْهُورُ هُوَ الْأَوَّلُ وَهُوَ الصَّوَابُ؛ لِأَنَّهُ رُجُوعٌ إلَى الصَّوَابِ.
وَقَالَ لِي مُطَرِّفٌ وَابْنُ الْمَاجِشُونِ وَأَصْبَغُ: وَلَوْ عُزِلَ الْقَاضِي ثُمَّ وُلِّيَ فَأَرَادَ نَقْضَ قَضَاءٍ كَانَ قَدْ قَضَى بِهِ فِي وِلَايَتِهِ الْأُولَى وَالرُّجُوعَ عَنْهُ إلَى مَا هُوَ أَحْسَنُ مِنْهُ لَمْ يَجُزْ ذَلِكَ لَهُ إلَّا عَلَى مَا يَجُوزُ لَهُ مِنْ نَقْضِ قَضَاءِ غَيْرِهِ قَبْلَهُ إنْ كَانَ خَطَأً بَيِّنًا لَمْ يُخْتَلَفْ فِيهِ، أَوْ أَمْرًا شَاذًّا مِمَّا اُخْتُلِفَ فِيهِ.

.فَصْلٌ فِي الْقَاضِي يَقْضِي لِأَحَدِ الْخَصْمَيْنِ عَلَى ثُمَّ يَشْهَدُ لِلْآخَرِ:

فَصْلٌ: وَقَالَ ابْنُ حَبِيبٍ قَالَ لِي مُطَرِّفٌ فِي الْقَاضِي يَقْضِي لِأَحَدِ الْخَصْمَيْنِ عَلَى صَاحِبِهِ ثُمَّ يَشْهَدُ لِلْآخَرِ عَلَى فَسْخِ حُكْمِ الْأَوَّلِ وَيَكْتُبُ لَهُ بِالْفَسْخِ كِتَابًا فَلَا أَرَى ذَلِكَ فَسْخًا يَنْقُضُ الْحُكْمَ الْأَوَّلَ إذَا كَانَ الْأَوَّلُ صَوَابًا غَيْرَ مُخْتَلَفٍ فِيهِ، حَتَّى يُلَخِّصَ فِي الْفَسْخِ مَا يَسْتَوْجِبُ بِهِ فَسْخَ الْحُكْمِ الْأَوَّلِ أَوْ يَرْجِعَ عَنْهُ إلَى مَا هُوَ أَحْسَنُ مِنْهُ، فَيَرْجِعُ مِنْ حُكْمٍ إلَى حُكْمٍ، إلَّا أَنْ يَقُولَ تَبَيَّنَ لِي أَنَّ الشُّهُودَ شَهِدُوا بِبَاطِلٍ، هَذَا يَكْفِي مِنْ التَّلْخِيصِ، وَهُوَ فَسْخٌ بَيِّنٌ.
وَقَالَ ابْنُ نَافِعٍ مِثْلَهُ. وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ: وَقِيلَ لَا يُشْتَرَطُ فِي فَسْخِهِ حُكْمَ نَفْسِهِ أَنْ يُبَيِّنَ مُوجِبَ الْفَسْخِ لِضَعْفِ التُّهْمَةِ؛ لِأَنَّ النُّفُوسَ مَجْبُولَةٌ عَلَى نَفْيِ النَّقْصِ عَنْهَا، قَالَ فَضْلُ بْنُ سَلَمَةَ: اُنْظُرْ قَوْلَهُ (إلَّا أَنْ يَقُولَ تَبَيَّنَ لِي أَنَّ الشُّهُودَ شَهِدُوا بِبَاطِلٍ) كَيْفَ يُمْكِنُهُ فَسْخُ حُكْمِهِ بِهَذَا.
قَالَ ابْنُ حَبِيبٍ وَقَالَ لِي ابْنُ الْمَاجِشُونِ وَأَصْبَغُ مِثْلَهُ، وَبِهِ أَقُولُ، وَالشَّهَادَةُ عَلَى الْفَسْخِ تَكْفِيهِ إذَا كَانَ مَأْمُونًا، وَلَمْ يَقُلْ سِوَى قَوْلِهِ: إنِّي قَدْ رَجَعْتُ عَنْ ذَلِكَ الْحُكْمِ الَّذِي حَكَمْتُ بِهِ لِفُلَانٍ، وَكَانَ رُجُوعًا؛ لِأَنَّهُ قَدْ اسْتَشْرَفَ حُجَّتَهُمْ وَهُوَ الْمَسْئُولُ عَنْهُ وَالْمُؤْتَمَنُ عَلَيْهِ، وَلَكِنْ لَوْ كَانَ مَعَ الرُّجُوعِ وَالْفَسْخِ لِلْحُكْمِ قَالَ قَضَيْت لِلْآخَرِ يَعْنِي الْمَقْضِيَّ عَلَيْهِ أَوَّلًا لَمْ يَجُزْ قَضَاؤُهُ هَكَذَا، وَعَادَا جَمِيعًا إلَى رَأْسِ أَمْرِهِمَا يَعْنِي، أَنَّ الْفَسْخَ يَمْضِي دُونَ الْحُكْمِ لِلْمَقْضِيِّ بِهِ أَوَّلًا، وَإِنَّمَا اخْتَلَفَ حُكْمُ الْقَضَاءِ وَالْفَسْخِ فَجَازَ الْفَسْخُ، وَلَمْ يَجُزْ الْقَضَاءُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَقْضِي عَلَى أَحَدِ الْخَصْمَيْنِ حَتَّى يَضْرِبَ لِلْمَقْضِيِّ عَلَيْهِ الْأَجَلَ فِي الْجُرْحِ وَالْحُجَجِ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَحْكُمَ عَلَيْهِ وَهُوَ غَائِبٌ عَنْ هَذَا، فَقَدْ اسْتَبْرَأَ أَمْرَهُ قَبْلَ الْحُكْمِ عَلَيْهِ. قَالَ ابْنُ حَبِيبٍ، وَإِذَا كَانَ الْفَاسِخُ لِلْقَضَاءِ غَيْرَ الْقَاضِي الَّذِي حَكَمَ بِهِ فَهُنَا لَا يَكُونُ إشْهَادُهُ عَلَى فَسْخِ مَا حَكَمَ بِهِ غَيْرُهُ فَسْخًا حَتَّى يَتَبَيَّنَ فِي الْفَسْخِ مَا رَدَّ بِهِ الْقَضِيَّةَ، وَمَا هُوَ أَحَقُّ مِنْهَا، وَمَا يَجُوزُ بِهِ فَسْخُهُ، وَكَذَلِكَ قَالُوا لِي أَجْمَعُونَ، وَلَمْ يَخْتَلِفُوا فِي هَذَا.

.فَصْلٌ فِي نَقْضِ الْقَاضِي أَحْكَامَ غَيْرِهِ:

وَنَظَرُهُ فِي أَحْكَامِ غَيْرِهِ يَخْتَلِفُ، فَأَمَّا الْعَالِمُ الْعَدْلُ فَلَا يُتَعَرَّضُ لِأَحْكَامِهِ بِوَجْهٍ إلَّا عَلَى وَجْهِ التَّجْوِيزِ لَهَا إنْ عَرَضَ فِيهَا عَارِضٌ بِوَجْهِ خُصُومَةٍ فَأَمَّا عَلَى وَجْهِ الْكَشْفِ لَهَا وَالتَّعَقُّبِ فَلَا، وَإِنْ سَأَلَهُ الْخَصْمُ ذَلِكَ إلَّا أَنْ يَظْهَرَ لَهُ خَطَأٌ، وَهَذَا فِيمَا جُهِلَ حَالُهُ مِنْ أَحْكَامِهِ هَلْ وَافَقَ الْحَقَّ أَوْ خَالَفَهُ؟ فَهَذَا الْوَجْهُ هُوَ الَّذِي نَفَى عَنْهُ الْكَشْفَ وَالتَّعَقُّبَ، فَإِنْ ظَهَرَ لَهُ خَطَأٌ بَيِّنٌ لَمْ يَخْتَلِفْ فِيهِ وَثَبَتَ ذَلِكَ عِنْدَهُ فَيَرُدُّهُ وَيَفْسَخُهُ عَنْ الْمَحْكُومِ بِهِ عَلَيْهِ، وَقَدْ يَذْكُرُ الْقَاضِي فِي حُكْمِهِ الْوَجْهَ الَّذِي بَنَى عَلَيْهِ حُكْمَهُ، فَيُوجَدُ مُخَالِفًا لِنَصٍّ أَوْ إجْمَاعٍ فَيُوجِبُ فَسْخَهُ، وَكَذَلِكَ إذَا قَامَتْ بَيِّنَةٌ عَلَى أَنَّهَا عَلِمَتْ قَصْدَهُ إلَى الْحُكْمِ بِغَيْرِ مَا وَقَعَ، وَأَنَّ هَذَا الْحُكْمَ وَقَعَ مِنْهُ سَهْوًا أَوْ غَلَطًا فَيَنْقُضُهُ مَنْ بَعْدَهُ كَمَا يَنْقُضُهُ هُوَ.
وَأَمَّا الْقَاضِي الْعَدْلُ الْجَاهِلُ فَإِنَّ أَقْضِيَتَهُ تُكْشَفُ فَمَا كَانَ مِنْهَا صَوَابًا أُمْضِيَ وَمَا كَانَ مِنْهَا خَطَأً بَيِّنًا لَمْ يُخْتَلَفْ فِي رَدِّهِ.
قَالَ اللَّخْمِيُّ: وَأَرَى أَنْ يُرَدَّ مِنْ أَحْكَامِهِ مَا كَانَ مُخْتَلَفًا فِيهِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ كَانَ مِنْهُ حَدْسًا وَتَخْمِينًا، وَالْقَضَاءُ بِمِثْلِ ذَلِكَ كُلِّهِ بَاطِلٌ، وَنَحْوُهُ لِابْنِ مُحْرِزٍ.
وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ: وَرَوَى بَعْضُ الشُّيُوخِ أَنَّ هَذَا مُقَيَّدًا بِمَا إذَا عُلِمَ مِنْهُ أَنَّهُ كَانَ يُشَاوِرُ أَهْلَ الْعِلْمِ فِي أَحْكَامِهِ، وَأَمَّا إنْ كَانَ لَا يُشَاوِرُهُمْ فَتُنْقَضُ كُلُّهَا؛ لِأَنَّهُ حَكَمَ حِينَئِذٍ بِالْحَدْسِ وَالتَّخْمِينِ. وَهَذَا تَقْيِيدٌ صَحِيحٌ، وَهُوَ مَعْنَى كَلَامِ اللَّخْمِيِّ، وَهَكَذَا هُوَ مَنْقُولٌ عَنْ اللَّخْمِيِّ، وَهَذَا قَدْ جَمَعَ بَيْنَ وَصْفَيْنِ الْجَهْلِ وَالْجَوْرِ لِقِلَّةِ الْمُشَاوَرَةِ.
وَفِي (الْوَثَائِقِ الْمَجْمُوعَةِ) إذَا كَانَ الْقَاضِي مِنْ أَهْلِ الْعَدْلِ إلَّا أَنَّهُ عُرِفَ مِنْهُ أَنَّهُ لَا يُشَاوِرُ فِي أَحْكَامِهِ فَإِنَّهَا تُتَصَفَّحُ، فَمَا كَانَ مِنْهَا مُوَافِقًا لِلسُّنَّةِ نَفَذَ وَمَا كَانَ مُخَالِفًا لِمَا عَلَيْهِ أَهْلُ بَلَدِهِ، إلَّا أَنَّهُ وَافَقَ قَوْلَ قَائِلٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ الْقَوْلُ لَا يُعْمَلُ بِهِ فَإِنَّهُ يَنْفُذُ حُكْمُهُ بِذَلِكَ، وَلَا يُفْسَخُ، وَيُفْسَخُ مِنْهَا مَا كَانَ خَطَأً بَيِّنًا.
قَالَ ابْنُ حَبِيبٍ: وَأَمَّا الْقَاضِي الْجَائِرُ فِي أَحْكَامِهِ إذَا كَانَ مَعْرُوفًا بِذَلِكَ، وَكَانَ غَيْرَ عَدْلٍ فِي حَالِهِ وَسِيرَتِهِ عَالِمًا كَانَ أَوْ جَاهِلًا ظَهَرَ جَوْرُهُ أَوْ خَفِيَ فَإِنَّ أَقْضِيَتَهُ كُلَّهَا تُرَدُّ صَوَابًا كَانَتْ أَوْ خَطَأً؛ لِأَنَّهُ لَا يُؤْمَنُ حَيْفُهُ، وَأَنْ يَكُونَ أَظْهَرَ الصَّوَابَ وَالْعَدْلَ فِي قَضَائِهِ وَأَشْهَدَ عَلَى ذَلِكَ، وَيَكُونُ بَاطِنُ أَمْرِهِ فِيهِ الْجَوْرُ وَالْحَيْفُ إلَّا مَا عُرِفَ مِنْ أَحْكَامِهِ أَنَّ حُكْمَهُ فِيهِ صَوَابٌ، وَبَاطِنُ أَمْرِهِ كَانَ صَحِيحًا مُسْتَقِيمًا، وَشَهِدَ بِذَلِكَ مَنْ عَرَفَ الْقَضِيَّةَ وَعَرَفَ كَيْفَ شَهِدَ فِيهَا مِنْ أَهْلِ الْعَدْلِ، فَإِنَّهُ يَمْضِي وَلَا يُرَدُّ؛ لِأَنَّهُ إذَا رُدَّ وَقَدْ مَاتَتْ الْبَيِّنَةُ وَانْقَطَعَتْ الْحُجَّةُ كَانَ ذَلِكَ إبْطَالًا لِلْحَقِّ.
وَقَالَ لِي أَصْبَغُ فِي ذَلِكَ: هَكَذَا سَمِعْت ابْنَ الْقَاسِمِ وَأَصْحَابَنَا يَقُولُونَ، غَيْرَ أَنِّي أَرَى أَقْضِيَةَ الْخُلَفَاءِ وَالْأُمَرَاءِ وَقُضَاةِ السُّوءِ جَائِزَةً مَا عَدَلَ فِيهِ مِنْهَا وَيُنْقَضُ مِنْهَا مَا تَبَيَّنَ فِيهِ جَوْرُهُ وَاسْتُرِيبَ، وَلَمْ يَتَحَقَّقْ، وَيُعْمَلُ فِيهِ بِالْكَشْفِ، كَمَا يُصْنَعُ بِأَقْضِيَةِ الْجَاهِلِ، إلَّا أَنْ يُعْرَفَ الْقَاضِي بِالْجَوْرِ وَالْحَيْفِ فِي أَحْكَامِهِ كُلِّهَا أَوْ بَعْضِهَا، فَتُرَدُّ أَحْكَامُهُ كُلُّهَا مَا عُرِفَ بِالْجَوْرِ فِيهَا أَوْ جَهِلَ، وَهَذَا خِلَافُ مَا نَقَلَهُ ابْنُ الْحَاجِبِ عَنْ أَصْبَغَ حَيْثُ يَقُولُ: وَتُنْبَذُ أَحْكَامُ الْجَائِرِ.
وَقَالَ أَصْبَغُ: هُوَ كَالْجَاهِلِ؛ لِأَنَّ أَصْبَغَ مُوَافِقٌ عَلَى نَبْذِ أَحْكَامِ الْجَاهِلِ، وَيُفْصَلُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَقْضِيَةِ الْخُلَفَاءِ وَالْأُمَرَاءِ وَقُضَاةِ السُّوءِ، كَأَنَّهُمْ عِنْدَهُ أَخَفُّ مِنْهُ حَالًا؛ لِأَنَّ الْجَوْرَ يُتَوَقَّعُ مِنْهُمْ، وَلَكِنَّهُ غَيْرُ مَشْهُورٍ، وَلَا مَعْرُوفٍ، وَلَوْ عُرِفَ لَكَانَ الْحُكْمُ وَاحِدًا.
وَحَكَى ابْنُ رَاشِدٍ فِي غَيْرِ الْعَدْلِ ثَلَاثَةَ أَقْوَالٍ: فَسْخُ أَحْكَامِهِ مُطْلَقًا وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ الْقَاسِمِ فِي الْمُسْتَخْرَجَةِ، وَعَدَمُهُ مُطْلَقًا وَاخْتَارَهُ الْقَاضِي إسْمَاعِيلُ. قَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ: لَا يَجُوزُ لِلْقَاضِي أَنْ يَنْظُرَ فِي أَقْضِيَةِ غَيْرِهِ. قِيلَ: فَإِنْ قَامَ عِنْدَهُ قَائِمٌ فَقَالَ هَذَا كِتَابُ الْقَاضِي قَدْ حَكَمَ فِيهِ بِجَوْرٍ بَيِّنٍ، قَالَ: أَرَى أَنْ يَنْظُرَ فِيهِ فَإِنْ تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ حَكَمَ بِجَوْرٍ بَيِّنٍ وَوَجَدَهُ فِي الْقَضَاءِ مُفَسَّرًا مِثْلَ أَنْ يَقْضِيَ بِشَهَادَةِ نَصْرَانِيٍّ أَوْ يَقْضِيَ لِلْجَارِ بِالشُّفْعَةِ أَوْ بِالْمِيرَاثِ لِلْعَمَّةِ أَوْ لِلْخَالَةِ، فَأَرَى أَنْ يَفْسَخَهُ، وَأَمَّا إنْ وُجِدَ الْقَضَاءُ مُبْهَمًا لَمْ يَتَبَيَّنْ فِيهِ الْجَوْرُ وَالْخَطَأُ الصُّرَاحُ مِثْلُ أَنْ يَجِدَ فِيهِ شَهِدَتْ عِنْدِي بَيِّنَةٌ فَقَبِلْتهَا، وَرَأَيْت أَنَّ الْحَقَّ لِفُلَانٍ فَقَضَيْت لَهُ بِمَا تَبَيَّنَ لِي، فَلَا أَرَى لَهُ أَنْ يَنْظُرَ فِيهِ.
قَالَ الْقَاضِي إسْمَاعِيلُ: وَيُحْمَلُ الْقَضَاءُ عَلَى الصِّحَّةِ مَا لَمْ يَثْبُتْ الْجَوْرُ، وَفِي التَّعَرُّضِ لِذَلِكَ ضَرَرٌ بِالنَّاسِ وَوَهْنٌ لِلْقَضَاءِ، فَإِنَّ الْقَاضِيَ لَا يَخْلُو مِنْ أَعْدَاءٍ يَرْمُونَهُ بِالْجَوْرِ، فَإِذَا مَاتَ أَوْ عُزِلَ قَامُوا يُرِيدُونَ الِانْتِقَامَ مِنْهُ بِنَقْضِ أَحْكَامِهِ، فَلَا يَنْبَغِي لِلسُّلْطَانِ أَنْ يُمَكِّنَهُمْ مِنْ ذَلِكَ. قَالَ ابْنُ رَاشِدٍ: وَمَا قَالُوهُ بَيِّنٌ إلَّا قَوْلَهُ شَهِدَتْ عِنْدِي بِذَلِكَ بَيِّنَةٌ فَقَبِلْتهَا، فَفِيهِ نَظَرٌ.
فَقَدْ يُقْبَلُ غَيْرُ الْعُدُولِ، وَإِنَّمَا الَّذِي يَنْبَغِي أَنْ يَنْظُرَ فَإِنْ صَرَّحَ بِأَسْمَاءِ الشُّهُودِ وَهُمْ عُدُولٌ وَبَيَّنَ وَجْهَ الْحُكْمِ فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُفْسَخَ، وَأَمَّا مَعَ الْإِجْمَالِ فَلَا.
وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: رَأْيُ أَصْبَغَ قَالَ: أَرَى أَنْ يَمْضِيَ مِنْ أَحْكَامِهِ مَا عَدَلَ فِيهِ، وَلَمْ يَسْتَرِبْ فِيهِ، وَيُفْسَخُ مَا تَبَيَّنَ فِيهِ الْجَوْرُ إنْ اُسْتُرِيبَ، وَيُفْعَلُ فِيهَا مِنْ الْكَشْفِ مَا يُفْعَلُ بِأَقْضِيَةِ الْجُهَّالِ، وَأَشَارَ ابْنُ رَاشِدٍ بِغَيْرِ الْعَدْلِ إلَى الْقَاضِي الْجَائِرِ وَخُلَفَاءِ الْقُضَاةِ وَالْأُمَرَاءِ، وَنَقْلُهُ لِقَوْلِ أَصْبَغَ مُوَافِقٌ لِمَا نَقَلَهُ ابْنُ الْحَاجِبِ فَانْظُرْهُ مَعَ مَا تَقَدَّمَ عَنْ الْوَاضِحَةِ.

.فَصْلٌ فِيمَا لَا يُنَفَّذُ مِنْ أَحْكَامِ الْقَاضِي وَيُنْقَضُ إذَا اطَّلَعَ عَلَيْهِ:

فَصْلٌ: فِيمَا لَا يُنَفَّذُ مِنْ أَحْكَامِ الْقَاضِي وَيُنْقَضُ إذَا اطَّلَعَ عَلَيْهِ وَحُكْمُ الْحَاكِمِ لَا يُحِلُّ حَرَامًا، وَلَا يُحَرِّمُ حَلَالًا عَلَى مَنْ عَلِمَهُ فِي بَاطِنِ الْأَمْرِ؛ لِأَنَّ الْحَاكِمَ إنَّمَا يَحْكُمُ بِمَا ظَهَرَ وَهُوَ الَّذِي تَعَبَّدَ بِهِ، وَلَا يُنْقَلُ الْبَاطِنُ عِنْدَ مَنْ عَلِمَهُ عَمَّا هُوَ عَلَيْهِ مِنْ التَّحْلِيلِ وَالتَّحْرِيمِ. قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم: «إنَّمَا أَنَا بَشَرٌ، وَلَعَلَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ إلَيَّ فَلَعَلَّ أَحَدَكُمْ أَنْ يَكُونَ أَلْحَنَ بِحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ فَأَقْضِي لَهُ عَلَى نَحْوِ مَا أَسْمَعُ مِنْهُ فَمَنْ قَضَيْتُ لَهُ بِشَيْءٍ مِنْ حَقِّ أَخِيهِ فَلَا يَأْخُذْ مِنْهُ شَيْئًا فَإِنَّمَا أَقْطَعُ لَهُ قِطْعَةً مِنْ النَّارِ» وَهَذَا إجْمَاعٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي الْأَمْوَالِ. وَاخْتَلَفُوا فِي انْعِقَادِ النِّكَاحِ أَوْ حَلِّ عَقْدِهِ بِظَاهِرِ مَا يَقْضِي بِهِ الْحَاكِمُ وَهُوَ خِلَافُ الْبَاطِنِ، فَذَهَبَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ رَحِمَهُمُ اللَّهُ وَجُمْهُورُ أَهْلِ الْعِلْمِ إلَى أَنَّ الْأَمْوَالَ وَالْفُرُوجَ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ؛ لِأَنَّهَا حُقُوقٌ كُلُّهَا تَدْخُلُ تَحْتَ قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «فَمَنْ قَضَيْتُ لَهُ بِشَيْءٍ مِنْ حَقِّ أَخِيهِ فَلَا يَأْخُذْ» فَلَا يُحِلُّ مِنْهَا الْقَضَاءُ الظَّاهِرُ مَا هُوَ حَرَامٌ فِي الْبَاطِنِ.
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَكَثِيرٌ مِنْ أَصْحَابِنَا الْمَالِكِيَّةِ عَلَى مَا حَكَى عَنْهُمْ أَبُو عُمَرَ بْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: إنَّمَا ذَلِكَ فِي الْأَمْوَالِ خَاصَّةً.
فَلَوْ أَنَّ رَجُلَيْنِ تَعَمَّدَا الشَّهَادَةَ بِالزُّورِ عَلَى رَجُلٍ أَنَّهُ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ فَقَبِلَ الْقَاضِي شَهَادَتَهُمَا لِظَاهِرِ عَدَالَتِهِمَا، وَهُمَا قَدْ تَعَمَّدَا الْكَذِبَ أَوْ غَلِطَا، فَفَرَّقَ الْقَاضِي بِشَهَادَتِهِمَا بَيْنَ الرَّجُلِ وَامْرَأَتِهِ ثُمَّ اعْتَدَّتْ الْمَرْأَةُ فَإِنَّهُ جَائِزٌ لِأَحَدِ الشَّاهِدَيْنِ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا، وَهُوَ عَالِمٌ بِأَنَّهُ كَاذِبٌ فِي شَهَادَتِهِ قَالُوا؛ لِأَنَّهَا لَمَّا حَلَّتْ لِلْأَزْوَاجِ بِالْحُكْمِ الظَّاهِرِ فَالشَّاهِدُ وَغَيْرُهُ سَوَاءٌ؛ لِأَنَّ قَضَاءَ الْقَاضِي وَحُكْمَهُ فَرَّقَ بَيْنَهُمَا وَقَطَعَ الْعِصْمَةَ، وَلَوْلَا ذَلِكَ مَا حَلَّتْ لِزَوْجٍ غَيْرِهِ، وَاحْتَجُّوا بِحُكْمِ اللِّعَانِ، وَقَالُوا: مَعْلُومٌ أَنَّ الزَّوْجَةَ إنَّمَا وَصَلَتْ إلَى فِرَاقِ زَوْجِهَا بِاللِّعَانِ الْكَاذِبِ الَّذِي لَوْ عَلِمَ الْحَاكِمُ كَذِبَهَا فِيهِ مَا فَرَّقَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ زَوْجِهَا. قَالُوا، وَكُلُّ مَنْ شَهِدَ عَلَيْهِ بِالنِّكَاحِ أَوْ بِالطَّلَاقِ وَقَضَى عَلَيْهِ بِذَلِكَ لَمْ يُمْكِنْهُ الِامْتِنَاعُ مِنْهُ، وَلَزِمَ الْحُكْمُ بِشَهَادَةِ الشُّهُودِ عَلَيْهِ، وَكَانَتْ فُرْقَتُهُ فِي الظَّاهِرِ فُرْقَةً عَامَّةً، فَلَمَّا كَانَ كَذَلِكَ دَخَلَ فِيهِ الشَّاهِدُ وَغَيْرُهُ انْتَهَى مِنْ الْمُقَدِّمَاتِ.
وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ: وَمِنْ ذَلِكَ لَوْ قَامَ لَهُ شَاهِدَا زُورٍ أَنَّهُ نَكَحَ امْرَأَةً فَحَكَمَ الْقَاضِي بِهَا حَلَّ لَهُ وَطْؤُهَا، وَكَذَلِكَ لَوْ شَهِدَ رَجُلَانِ عَلَى امْرَأَةٍ أَنَّهَا زَوْجَةٌ لِفُلَانٍ، وَهِيَ فِي بَاطِنِ الْأَمْرِ زَوْجَةٌ لِغَيْرِهِ فَإِنَّهَا تَحِلُّ لِهَذَا الَّذِي شُهِدَ لَهُ بِهَا، وَمِنْ ذَلِكَ الْحُكْمُ بِشُفْعَةِ الْجِوَارِ لَا تَحِلُّ لِلْمَالِكِيِّ، وَلَا يَجُوزُ لَهُ التَّمَسُّكُ بِهَا؛ لِأَنَّهُ يَعْتَقِدُ بُطْلَانَ مَا حُكِمَ لَهُ بِهِ، فَهُوَ يُشْبِهُ مَا تَقَدَّمَ، وَلَيْسَ مِنْهُ؛ لِأَنَّ الْحَاكِمَ فِي الصُّوَرِ الْأُوَلِ لَوْ عَلِمَ بَاطِنَ أَمْرِ الشُّهُودِ لَمْ يَحْكُمْ بِذَلِكَ بِخِلَافِ الشُّفْعَةِ، وَعَلَى مَا قَالُوهُ فِي الشُّفْعَةِ لَوْ غَصَبَ غَاصِبٌ شَيْئًا وَنَقَلَهُ عَنْ مَكَانِ الْغَصْبِ، وَكَانَ مِمَّا اُخْتُلِفَ فِيهِ، هَلْ يَفُوتُ بِالنَّقْلِ أَمْ لَا فَقَضَى الْقَاضِي لِرَبِّهِ بِأَخْذِهِ، وَكَانَ مَذْهَبُهُ أَنَّهُ يَفُوتُ بِنَقْلِهِ، وَتَجِبُ فِيهِ الْقِيمَةُ، فَيَنْبَغِي عَلَى هَذَا أَنْ لَا يَكُونَ لِرَبِّهِ التَّصَرُّفُ فِيهِ. وَمِنْ ذَلِكَ الْحُكْمُ بِاسْتِسْعَاءِ مَنْ أُعْتِقَ بَعْضُهُ، وَكَانَ الْمُعْتَقُ مُعْسِرًا، فَإِنَّهُ يُنْقَضُ، وَيُرَدُّ الْعَبْدُ عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ، قَالَهُ ابْنُ حَبِيبٍ فِي الْوَاضِحَةِ. وَمِنْ ذَلِكَ الْحُكْمُ لِلنَّصْرَانِيِّ عَلَى النَّصْرَانِيِّ بِشَهَادَةِ النَّصْرَانِيِّ فَإِنَّهُ يُنْقَضُ وقَوْله تَعَالَى: {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} [البقرة: 282]. وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُ أَهْلِ الْعِرَاقِ فِي تَوْرِيثِ الْعَمَّةِ وَالْخَالَةِ، وَمِيرَاثِ الْمَوْلَى الْأَسْفَلِ فَإِنَّهُ يُنْقَضُ مِنْ مُخْتَصَرِ الْوَاضِحَةِ.

.فَصْلٌ مَنْزِل حُبِسَ عَلَى الْمَسَاكِينِ فَرُفِعَ إلَى قَاضٍ فَبَاعَهُ عَلَى الْمَسَاكِينِ:

فَصْلٌ: وَفِي مُخْتَصَرِ الْوَاضِحَةِ قَالَ ابْنُ حَبِيبٍ قَالَ لِي مُطَرِّفٌ: فِي مَنْزِلٍ حُبِسَ عَلَى الْمَسَاكِينِ فَرُفِعَ إلَى قَاضٍ فَجَهِلَ وَبَاعَهُ وَفَرَّقَ ثَمَنَهُ عَلَى الْمَسَاكِينِ، ثُمَّ رُفِعَ إلَى غَيْرِهِ بَعْدَهُ، أَرَى أَنْ يُفْسَخَ الْبَيْعُ وَيُرَدَّ الْمَنْزِلُ حَبْسًا كَمَا كَانَ، وَيُدْفَعَ الثَّمَنُ لِلْمُشْتَرِي مِنْ غَلَّةِ الْحَبْسِ، وَلَا شَيْءَ عَلَى الْقَاضِي؛ لِأَنَّ خَطَأَ السُّلْطَانِ فِي الْأَمْوَالِ عَلَى الِاجْتِهَادِ هَدَرٌ.

.فَصْلٌ فِي ذِكْرِ مَا لَا يُعْتَبَرُ فِي أَفْعَالِ الْقَاضِي إذَا عُزِلَ أَوْ مَاتَ:

وَفِي الْمُدَوَّنَةِ قَالَ سَحْنُونٌ قُلْت لِابْنِ الْقَاسِمِ إذَا عُزِلَ الْقَاضِي أَوْ مَاتَ وَقَدْ شَهِدَ الشُّهُودُ عِنْدَ الْمَعْزُولِ أَوْ الْمَيِّتِ وَأَثْبَتَ ذَلِكَ فِي دِيوَانِهِ ثُمَّ وُلِّيَ غَيْرُهُ فَهَلْ يَنْظُرُ هَذَا الَّذِي وُلِّيَ الْقَضَاءَ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ وَيُجِيزُهُ، قَالَ: لَا يُجِيزُ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ إلَّا أَنْ تَقُومَ عَلَيْهِ بَيِّنَةٌ، فَإِنْ لَمْ تَقُمْ عَلَيْهِ بَيِّنَةٌ لَمْ يَجُزْ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ وَأَمَرَهُمْ الْقَاضِي الْمُسْتَجِدُّ أَنْ يُعِيدُوا شَهَادَتَهُمْ، فَإِنْ قَالَ الْقَاضِي الْمَعْزُولُ: كُلُّ شَيْءٍ فِي دِيوَانِي قَدْ شَهِدَ بِهِ الشُّهُودُ عِنْدِي لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ، وَلَا يَكُونُ لِلْمَشْهُودِ لَهُ الْيَمِينُ عَلَى الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ بِاَللَّهِ مَا هَذِهِ الشَّهَادَةُ الَّتِي فِي دِيوَانِ الْقَاضِي مِمَّا شَهِدَ بِهِ عَلَى الشُّهُودِ فَإِنْ نَكَلَ عَنْ الْيَمِينِ أُمْضِيَتْ عَلَيْهِ الشَّهَادَةُ وَحَلَفَ الْمَشْهُودُ لَهُ أَنَّ هَذِهِ الشَّهَادَةَ مِمَّا شَهِدَ بِهِ عَلَيْك الشُّهُودُ، وَثَبَتَتْ الشَّهَادَةُ، وَيَنْظُرُ فِيهَا الْقَاضِي عَلَى مَا كَانَ يَنْظُرُ فِيهَا الْقَاضِي الْمَعْزُولُ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ الْقَاسِمِ عَنْ الْمُقْنِعِ لِابْنِ بِطَالٍ.
مَسْأَلَةٌ:
وَلَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ الْقَاضِي الْمَعْزُولِ عَلَى مَا حَكَمَ، وَلَا يَحْلِفُ الْمَحْكُومُ لَهُ مَعَ شَهَادَةِ الْقَاضِي؛ لِأَنَّهُ هُوَ الْحَاكِمُ فِيهَا، وَكَذَلِكَ قَالَ عِيسَى عَنْ ابْنِ الْقَاسِمِ فِي الْقَاضِي يَأْمُرُ بِبَيْعِ التَّرِكَةِ فَتُبَاعُ أَوْ يَقْضِي بِالْقَضِيَّةِ ثُمَّ يُعْزَلُ لَا تَجُوزُ شَهَادَتُهُ فِيمَا قَضَى بِهِ أَوْ أَمَرَ بِهِ لَا وَحْدَهُ، وَلَا مَعَ غَيْرِهِ قَالَ ابْنُ وَهْبٍ وَابْنُ الْقَاسِمِ حَتَّى يَشْهَدَ مَعَهُ رَجُلَانِ سِوَاهُ.
مَسْأَلَةٌ:
قَالَ سَحْنُونٌ، وَلَوْ أَنَّ قَاضِيًا أَشْهَدَ عَلَى كُتُبٍ فِي يَدِهِ أَنَّهُ قَدْ قَامَتْ عِنْدَهُ بَيِّنَةٌ زُكِّيَتْ ثُمَّ مَاتَ الْقَاضِي وَالْكُتُبُ فِي يَدِهِ فَإِنَّ هَذَا لَا يُنْفِذُهُ مَنْ بَعْدَهُ؛ لِأَنَّ الْبَيِّنَةَ لَمْ تَشْهَدْ أَنَّ الْأَوَّلَ نَفَّذَ الْقَضَاءَ بِهَا، وَهُوَ مَا لَمْ يُنَفِّذْ الْقَضَاءَ قَدْ يَحْدُثُ لَهُ أَمْرٌ مِنْ الْأُمُورِ مِنْ (الْمُقْنِعِ).
مَسْأَلَةٌ:
إذَا قَالَ الْقَاضِي بَعْدَ الْعَزْلِ كُنْت قَضَيْت بِكَذَا لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ بِلَا خِلَافٍ؛ لِأَنَّهُ مُقِرٌّ عَلَى غَيْرِهِ، كَمَا لَوْ شَهِدَ مَعَ غَيْرِهِ أَنَّهُ قَضَى بِكَذَا؛ لِأَنَّهُ شَاهِدٌ عَلَى فِعْلِ نَفْسِهِ كَمَا تَقَدَّمَ، وَفِي قَبُولِ قَوْلِهِ فِي حَالِ الْوِلَايَةِ قَوْلَانِ. وَلَوْ قَامَتْ الْبَيِّنَةُ بِأَنَّهُ قَضَى فَالْحُكْمُ ثَابِتٌ قَامَتْ فِي حَالِ الْوِلَايَةِ أَوْ بَعْدَ الْعَزْلِ.
تَنْبِيهٌ:
إذَا لَمْ يَشْهَدْ الشُّهُودُ عَلَى حُكْمِهِ، وَإِنَّمَا عَلِمُوا أَنَّهُ حَكَمَ، وَلَمْ يُشْهِدْهُمْ فَشَهِدُوا بِذَلِكَ بَعْدَ عَزْلِهِ؛ لِكَوْنِ الشُّهُودِ الَّذِينَ أَشْهَدَهُمْ عَلَى حُكْمِهِ جُرِّحُوا فَالظَّاهِرُ أَنَّ شَهَادَتَهُمْ غَيْرُ مَقْبُولَةٍ؛ لِأَنَّ الْقَاضِيَ إنَّمَا يَشْهَدُ عَلَيْهِ فِي مَجْلِسِ حُكْمِهِ، وَأَمَّا مَا اسْتَرْعَى عَلَيْهِ فَيَنْبَغِي أَنْ يُقْبَلَ نَقَلَهُ ابْنُ رَاشِدٍ.

.فَصْلٌ فِي الْكَشْفِ عَنْ الْقُضَاةِ:

وَيَنْبَغِي لِلْإِمَامِ أَنْ يَتَفَقَّدَ أَحْوَالَ الْقُضَاةِ فَإِنَّهُمْ قِوَامُ أَمْرِهِ وَرَأْسُ سُلْطَانِهِ، وَكَذَلِكَ قَاضِي الْجَمَاعَةِ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَتَفَقَّدَ قُضَاتَهُ وَنُوَّابَهُ فَيَتَصَفَّحَ أَقْضِيَتَهُمْ وَيُرَاعِيَ أُمُورَهُمْ وَسِيرَتَهُمْ فِي النَّاسِ.
وَعَلَى الْإِمَامِ وَالْقَاضِي الْجَامِعِ لِأَحْكَامِ الْقَضَاءِ أَنْ يَسْأَلَ الثِّقَاتِ عَنْهُمْ وَيَسْأَلَ قَوْمًا صَالِحِينَ مِمَّنْ لَا يَتَّهِمُ عَلَيْهِمْ، وَلَا يُخْدَعُ، فَإِنَّ كَثِيرًا مِنْ ذَوِي الْأَغْرَاضِ يُلْقِي فِي قُلُوبِ الصَّالِحِينَ مِنْ الْقَاضِي شَيْئًا لِيَتَوَصَّلَ بِذَلِكَ إلَى ذَمِّ الصُّلَحَاءِ لَهُ عِنْدَ ذِكْرِهِ عِنْدَهُمْ وَسُؤَالِهِمْ عَنْهُ، فَإِذَا ظَهَرَتْ الشَّكِيَّةُ بِهِمْ، وَلَمْ تُعْرَفْ أَحْوَالُهُمْ سَأَلَ عَنْهُمْ كَمَا تَقَدَّمَ، فَإِنْ كَانُوا عَلَى طَرِيقِ اسْتِقَامَةٍ أَبْقَاهُمْ، وَإِنْ كَانُوا عَلَى مَا ذُكِرَ عَنْهُمْ عَزَلَهُمْ.
وَاخْتُلِفَ فِي عَزْلِ مَنْ اُشْتُهِرَتْ عَدَالَتُهُ بِتَظَاهُرِ الشَّكْوَى. قَالَ مُطَرِّفٌ: لَيْسَ عَلَيْهِ عَزْلُ مَنْ عُرِفَ بِالْعَدَالَةِ وَالرِّضَا إذَا اشْتَكَى بِهِ، وَإِنْ وَجَدَ مِنْهُ عِوَضًا فَإِنَّ فِي ذَلِكَ فَسَادًا لِلنَّاسِ عَلَى قُضَاتِهِمْ.
وَقَالَ أَصْبَغُ: أَحَبُّ إلَيَّ أَنْ يَعْزِلَهُ، وَإِنْ كَانَ مَشْهُورًا بِالْعَدَالَةِ وَالرِّضَا، إذَا وَجَدَ مِنْهُ بَدَلًا؛ لِأَنَّ فِي ذَلِكَ صَلَاحًا لِلنَّاسِ يَعْنِي لِمَا ظَهَرَ مِنْ اسْتِيلَاءِ الْقُضَاةِ وَقَهْرِهِمْ، فَفِي ذَلِكَ كَفٌّ لَهُمْ، وَأَمَّا إنْ كَانَ الْمَشْكُوُّ غَيْرَ مَشْهُورٍ بِالْعَدَالَةِ فَلْيَعْزِلْهُ إذَا وَجَدَ مِنْهُ بَدَلًا وَتَظَاهَرَتْ عَلَيْهِ الشَّكِيَّةُ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ مِنْهُ بَدَلًا كَشَفَ عَنْ حَالِهِ. وَوَجْهُ الْكَشْفِ أَنْ يَبْعَثَ إلَى رِجَالٍ يُوثَقُ بِهِمْ مِنْ أَهْلِ بَلَدِهِ فَيَسْأَلَهُمْ عَنْهُ سِرًّا، فَإِنْ صَدَقُوا مَا قِيلَ فِيهِ مِنْ الشَّكِيَّةِ عَزَلَهُ وَنَظَرَ أَقْضِيَتَهُ وَأَحْكَامَهُ، فَمَا وَافَقَ الْحَقَّ أَمْضَاهُ وَمَا خَالَفَهُ فَسَخَهُ، وَإِنْ قَالَ الَّذِينَ سُئِلُوا عَنْهُ مَا نَعْلَمُ إلَّا خَيْرًا أَبْقَاهُ وَنَظَرَ فِي أَقْضِيَتِهِ وَأَحْكَامِهِ فَمَا وَافَقَ السُّنَّةَ مَضَى وَمَا لَمْ يُوَافِقْ شَيْئًا مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ رَدَّهُ، وَحُمِلَ ذَلِكَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى الْخَطَأِ وَأَنَّهُ لَمْ يَتَعَمَّدْ جَوْرًا.

.فَصْلٌ وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُمَكِّنَ الْقَاضِي النَّاسَ مِنْ خُصُومَةِ قُضَاتِهِمْ:

فَصْلٌ: وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُمَكِّنَ النَّاسَ مِنْ خُصُومَةِ قُضَاتِهِمْ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يَخْلُو مِنْ وَجْهَيْنِ: إمَّا أَنْ يَكُونَ عَدْلًا فَيُسْتَهَانُ بِذَلِكَ وَيُؤْذَى، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ فَاسِقًا فَاجِرًا وَهُوَ أَلْحَنُ بِحُجَّتِهِ مِمَّنْ شَكَاهُ فَيَبْطُلُ حَقُّهُ وَيَتَسَلَّطُ ذَلِكَ الْقَاضِي عَلَى النَّاسِ.
وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: فِي الْقَاضِي يُعْزَلُ فَيَدَّعِي النَّاسُ أَنَّهُ جَارَ عَلَيْهِمْ أَنَّهُ لَا خُصُومَةَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهُ، وَلَا يَنْظُرُ فِيمَا قَالُوا عَنْهُ، إلَّا أَنْ يَرَى الَّذِي بَعْدَهُ جَوْرًا بَيِّنًا فَيَرُدَّهُ، وَلَا شَيْءَ عَلَى الْقَاضِي (مِنْ تَنْبِيهِ الْحُكَّامِ).

.فَصْلٌ هَلْ يَنْعَزِلُ الْقَاضِي بِنَفْسِ الْفِسْقِ أَوْ حَتَّى يَعْزِلَهُ الْإِمَامُ:

فَصْلٌ: اُخْتُلِفَ هَلْ يَنْعَزِلُ الْقَاضِي بِنَفْسِ الْفِسْقِ أَوْ حَتَّى يَعْزِلَهُ الْإِمَامُ، قَالَ الْمَازِرِيُّ: ظَاهِرُ الْمَذْهَبِ عَلَى قَوْلَيْنِ: وَأَشَارَ إلَى تَرْجِيحِ عَدَمِ الْعَزْلِ وَهُوَ قَوْلُ أَصْبَغَ، وَمَذْهَبُ ابْنِ الْقَصَّارِ أَنَّهُ إذَا ظَهَرَ عَلَيْهِ الْفِسْقُ بَعْدَ وِلَايَتِهِ انْفَسَخَ عَقْدُهُ وَوِلَايَتُهُ.

.فَصْلٌ فِي عَزْلُ الْقَاضِي نَفْسَهُ اخْتِيَارًا:

فَصْلٌ: وَأَمَّا عَزْلُ الْقَاضِي نَفْسَهُ اخْتِيَارًا لَا عَجْزًا، وَلَا لِعُذْرٍ فَالظَّاهِرُ عِنْدَ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ أَنَّهُ يُمَكَّنُ مِنْ ذَلِكَ، قَالَ الْمَازِرِيُّ: وَهَذَا عِنْدِي يَنْبَنِي عَلَى النَّظَرِ فِي عَزْلِ الْوَكِيلِ نَفْسَهُ، فَإِنَّ الْقَاضِيَ نَائِبٌ عَنْ الْإِمَامِ الَّذِي وَلَّاهُ وَوَكِيلٌ مِنْ قِبَلِهِ فَحُكْمُهُ حُكْمُ الْوَكِيلِ، وَالْقَاضِي وَالْوَكِيلُ وَالْوَصِيُّ كَالْوَاهِبِينَ مَنَافِعَهُمْ، وَالْوَاهِبُ شَيْئًا مَعْلُومًا إلَى أَجَلٍ مَعْلُومٍ تَلْزَمُهُ هِبَتُهُ بِالْقَوْلِ عَلَى الْمَشْهُورِ. لَكِنْ يَنْبَغِي أَنْ يُلْتَفَتَ فِي عَزْلِ الْقَاضِي نَفْسَهُ اخْتِيَارًا إلَى النَّظَرِ، هَلْ تَعَلَّقَ لِأَحَدٍ حَقٌّ بِقَضَائِهِ حَتَّى يَكُونَ انْعِزَالُهُ ضَرَرًا لِمَنْ الْتَزَمَ الْقَضَاءَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ خَصْمِهِ فَيُمْنَعُ مِنْ ذَلِكَ، وَقَدْ مُنِعَ فِي الْمُدَوَّنَةِ الْوَصِيُّ مِنْ عَزْلِ نَفْسِهِ إذَا مَاتَ الْمَيِّتُ وَقَدْ قَبِلَ الْوَصِيَّةَ، لِمَا يَلْحَقُ الْمُوصَى بِهِ مِنْ ضَرَرِ الْعَزْلِ وَتَبْقِيَتِهِ مُهْمَلًا (اُنْظُرْ الْمَازِرِيَّ).

.فَصْلٌ إذَا عُزِلَ الْقَاضِي فَحَكَمَ فِي أَشْيَاءَ قَبْلَ بُلُوغِ الْعَزْلِ:

فَظَاهِرُ الْمَذْهَبِ أَنَّ أَحْكَامَهُ تِلْكَ نَافِذَةٌ لِضَرُورَةِ النَّاسِ إلَى ذَلِكَ وَانْظُرْ هَلْ يَسْتَحِقُّ الْقَاضِي الْمُتَوَلِّي مَعْلُومَ الْقَضَاءِ مِنْ يَوْمِ وِلَايَتِهِ إذَا وُلِّيَ عَلَى بَلَدٍ يَحْتَاجُ إلَى السَّفَرِ إلَيْهَا أَوْ لَا يَسْتَحِقُّ شَيْئًا، إلَّا بِالْمُبَاشَرَةِ وَيَكُونُ الْمَعْزُولُ مِنْ الْمَعْلُومِ إلَى يَوْمِ بُلُوغِ الْعَزْلِ، وَلَمْ أَقِفْ فِيهِ عَلَى نَصٍّ.

.فَصْلٌ الْقَاضِي إذَا أَقَرَّ بِأَنَّهُ حَكَمَ بِالْجَوْرِ:

فَصْلٌ: وَفِي مُخْتَصَرِ الْوَاضِحَةِ: وَعَلَى الْقَاضِي إذَا أَقَرَّ بِأَنَّهُ حَكَمَ بِالْجَوْرِ أَوْ ثَبَتَ ذَلِكَ عَلَيْهِ بِالْبَيِّنَةِ الْعُقُوبَةُ الْمُوجِعَةُ وَيُعْزَلُ وَيُشَهَّرُ وَيُفْضَحُ، وَلَا يَجُوزُ وِلَايَتُهُ أَبَدًا، وَلَا شَهَادَتُهُ، وَإِنْ صَلُحَتْ حَالُهُ وَأَحْدَثَ تَوْبَةً لِمَا اجْتَرَمَ فِي حُكْمِ اللَّهِ تَعَالَى وَيَكْتُبُ أَمْرَهُ فِي كِتَابٍ لِئَلَّا يَنْدَرِسَ الزَّمَانُ فَتُقْبَلَ شَهَادَتُهُ، وَالْقَاضِي أَقْبَحُ مِنْ شَاهِدِ الزُّورِ حَالًا، وَقَدْ ذَكَرْت عُقُوبَةَ شَاهِدِ الزُّورِ فِي بَابِ التَّعْزِيرِ وَنَبَّهْت عَلَى عُقُوبَةِ الْقَاضِي أَيْضًا هُنَالِكَ.

.فَصْلٌ فِي جَمْعِ الْفُقَهَاءِ لِلنَّظَرِ فِي حُكْمِ الْقَاضِي:

وَفِي مُخْتَصَرِ الْوَاضِحَةِ قَالَ ابْنُ حَبِيبٍ قَالَ مُطَرِّفٌ: وَإِذَا اشْتَكَى عَلَى الْقَاضِي فِي قَضِيَّةٍ حَكَمَ بِهَا وَرُفِعَ ذَلِكَ إلَى الْأَمِيرِ، فَإِنْ كَانَ الْقَاضِي مَأْمُونًا فِي أَحْكَامِهِ عَدْلًا فِي أَحْوَالِهِ بَصِيرًا بِقَضَائِهِ أَرَى أَنْ لَا يَعْرِضَ لَهُ الْأَمِيرُ فِي ذَلِكَ، وَلَا يَقْبَلُ شَكْوَى مَنْ شَكَاهُ، وَلَا يَجْلِسُ الْفُقَهَاءُ لِلنَّظَرِ فِي قَضَائِهِ فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ الْخَطَأِ إنْ فَعَلَهُ، وَمِنْ الْفُقَهَاءِ إنْ تَابَعُوهُ عَلَى ذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ عِنْدَهُ مُتَّهَمًا فِي أَحْكَامِهِ أَوْ غَيْرَ عَدْلٍ فِي حَالِهِ أَوْ جَاهِلًا بِقَضَائِهِ فَلْيَعْزِلْهُ وَيُوَلِّ غَيْرَهُ.
قَالَ مُطَرِّفٌ: وَلَوْ جَهِلَ الْأَمِيرُ فَأَجْلَسَ فُقَهَاءَ بَلَدِهِ وَأَمَرَهُمْ بِالنَّظَرِ فِي تِلْكَ الْحُكُومَةِ وَجَهِلُوا هُمْ أَيْضًا أَوْ أُكْرِهُوا عَلَى النَّظَرِ، فَنَظَرُوا فَرَأَوْا فَسْخَ ذَلِكَ الْحُكْمِ، فَفَسَخَهُ الْأَمِيرُ، أَوْ رَدَّ قَضِيَّتَهُ إلَى مَا رَأَى الْفُقَهَاءُ فَأَرَى لِمَنْ نَظَرَ فِي هَذَا بَعْدَ ذَلِكَ أَنْ يَنْظُرَ فِي الْحُكْمِ الْأَوَّلِ، فَإِنْ كَانَ صَوَابًا بِالِاخْتِلَافِ فِيهِ، أَوْ كَانَ مِمَّا اخْتَلَفَ فِيهِ أَهْلُ الْعِلْمِ أَوْ مِمَّا اخْتَلَفَ فِيهِ الْأَئِمَّةُ الْمَاضُونَ فَأَخَذَ بِبَعْضِ ذَلِكَ فَحُكْمُهُ مَاضٍ، وَالْفَسْخُ الَّذِي تَكَلَّفَهُ الْأَمِيرُ وَالْفُقَهَاءُ بَاطِلٌ، وَإِنْ كَانَ الْحُكْمُ الْأَوَّلُ خَطَأً بَيِّنًا أَمْضَى فَسْخَهُ، وَأَجَازَ مَا فَعَلَهُ الْأَمِيرُ وَالْفُقَهَاءُ، وَلَوْ كَانَ الْحُكْمُ الْأَوَّلُ خَطَأً بَيِّنًا أَوْ لَعَلَّهُ قَدْ عُرِفَ مِنْ الْقَاضِي بَعْضُ مَا لَا يَنْبَغِي مِنْ الْقُضَاةِ، وَلَكِنَّ الْأَمِيرَ لَمْ يَعْزِلْهُ وَأَرَادَ النَّظَرَ فِي تَصْحِيحِ ذَلِكَ الْحُكْمِ بِعَيْنِهِ، فَحِينَئِذٍ يَجُوزُ لِلْفُقَهَاءِ فِيهِ، فَإِذَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّ حُكْمَهُ خَطَأٌ بَيِّنٌ فَلْيَرُدَّهُ. قَالَ: وَإِنْ اخْتَلَفُوا عَلَى الْأَمِيرِ فَرَأَى بَعْضُهُمْ رَأْيًا وَرَأَى بَعْضُهُمْ رَأْيًا غَيْرَهُ لَمْ يَمِلْ مَعَ أَكْثَرِهِمْ، وَلَكِنْ يَنْظُرُ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ، فَمَا رَآهُ صَوَابًا قَضَى بِهِ وَأَنْفَذَهُ، وَكَذَلِكَ يَنْبَغِي لِلْقَاضِي أَنْ يَفْعَلَ إذَا اخْتَلَفَ عَلَيْهِ الْمُشِيرُونَ مِنْ الْفُقَهَاءِ.
قَالَ مُطَرِّفٌ: وَلَوْ كَانَ الْقَاضِي لَمْ يَكُنْ فَصَلَ بَعْدُ فِي الْخُصُومَةِ فَصْلًا فَلَمَّا أَجْلَسَ مَعَهُ غَيْرَهُ لِلنَّظَرِ فِيهَا، قَالَ قَدْ حَكَمْت لَمْ يُقْبَلْ ذَلِكَ مِنْهُ؛ لِأَنَّ الْمَنْعَ عَنْ النَّظَرِ فِي تِلْكَ الْحُكُومَةِ وَحْدَهَا قَدْ لَزِمَهُ، بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ عُزِلَ ثُمَّ قَالَ قَدْ كُنْت حَكَمْت لِفُلَانٍ عَلَى فُلَانٍ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ إلَّا بِبَيِّنَةٍ تَقُومُ عَلَى ذَلِكَ.
قَالَ مُطَرِّفٌ: وَلَوْ كَانَ الْقَاضِي الْمُشْتَكَى فِي غَيْرِ بَلَدِ الْأَمِيرِ الَّذِي هُوَ بِهِ حَيْثُ يَكُونُ قَاضِي الْجَمَاعَةِ، فَهَذَا كَمَا تَقَدَّمَ يُنْظَرُ فَإِنْ كَانَ الْقَاضِي مَعْرُوفًا مَشْهُورًا بِالْعَدْلِ فِي أَحْكَامِهِ وَالصَّلَاحِ فِي أَحْوَالِهِ أَقَرَّهُ، وَلَمْ يُقْبَلْ عَلَيْهِ شَكْوَى، وَلَمْ يَكْتُبْ بِأَنْ يَجْلِسَ مَعَهُ غَيْرُهُ، وَلَا يَفْعَلُ هَذَا بِأَحَدٍ مِنْ قُضَاتِهِ، إلَّا أَنْ يُشْتَكَى مِنْهُ اسْتِبْدَادًا بِرَأْيٍ أَوْ تَرْكَ رَأْيِ مَنْ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يُشَاوِرَهُ، فَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَكْتُبَ إلَيْهِ أَنْ يُشَاوِرَ فِي أُمُورِهِ وَأَحْكَامِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُسَمِّيَ لَهُ أَحَدًا أَوْ يُجْلِسَ مَعَهُ أَحَدًا، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ الْقَاضِي غَيْرَ مَشْهُورٍ بِالْعَدْلِ وَالرِّضَا وَتَظَاهَرَتْ الشَّكِيَّةُ عَلَيْهِ كَتَبَ إلَى رِجَالٍ صَالِحِينَ مِنْ أَهْلِ بَلَدِ ذَلِكَ الْقَاضِي فَأَقْدَمَهُمْ لِلْمَسْأَلَةِ عَنْهُ وَالْكَشْفِ عَنْ حَالِهِ، فَإِنْ كَانَ عَلَى مَا يَجِبُ أَمْضَاهُ، وَإِنْ كَانَ عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ عَزَلَهُ.
قَالَ: وَلَوْ جَهِلَ الْأَمِيرُ، وَكَتَبَ إلَى نَاسٍ يَأْمُرُهُمْ بِالْجُلُوسِ مَعَهُ فِي تِلْكَ الْحُكُومَةِ فَفَعَلُوا وَاخْتَلَفَ رَأْيُهُمْ فِيهَا فَإِنْ كَانَ الْأَمِيرُ كَتَبَ إلَى ذَلِكَ الْقَاضِي وَالْأُمَنَاءِ أَنْ يَرْفَعُوا إلَيْهِ مَا اجْتَمَعُوا عَلَيْهِ، وَاخْتَلَفُوا فِيهِ فَفَعَلُوا ذَلِكَ ثُمَّ كَانَ هُوَ مُنَفِّذُ الْحُكْمِ فِي ذَلِكَ فَذَلِكَ لَهُ، وَإِنْ كَتَبَ إلَيْهِمْ أَنْ يَنْظُرُوا مَعَهُ ثُمَّ يَجْتَهِدُوا وَيَحْكُمَ بِأَفْضَلَ مَا يَرَاهُ مَعَهُمْ جَازَ لَهُ أَنْ يَحْكُمَ بِاَلَّذِي يَرَاهُ مَعَ بَعْضِ مَنْ جَلَسَ مَعَهُ، فَيَكُونُ ذَلِكَ لَازِمًا لِمَنْ حَكَمَ بِهِ عَلَيْهِ، وَإِنْ لَمْ يَجْتَمِعْ عَلَى ذَلِكَ جَمِيعُ مَنْ أُمِرَ بِالنَّظَرِ مَعَهُ فِي ذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ حُكْمُهُ عَلَى مِثْلِ مَا كَانَ عَلَيْهِ قَبْلَ أَنْ يَجْلِسُوا مَعَهُ وَقَدْ اجْتَمَعُوا عَلَى خِلَافِهِ لَمْ أَرَ أَنْ يَحْكُمَ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ الْآنَ عَلَى مِثْلِ مَا اشْتَكَى مِنْهُ، وَلَكِنْ يَكْتُبُ بِذَلِكَ مِنْ رَأْيِهِ وَرَأْيِ الْقَوْمِ إلَى الْأَمِيرِ، فَيَكُونُ هُوَ الْآمِرُ بِاَلَّذِي يَرَاهُ وَالْحَاكِمُ فِيهِ دُونَهُمْ، وَقَدْ سُئِلَ ابْنُ الْقَاسِمِ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ فَقَالَ فِيهِ مِثْلَ قَوْلِ مُطَرِّفٍ الَّذِي تَقَدَّمَ، فَتَدَبَّرْ ذَلِكَ كُلَّهُ.

.فَصْلٌ فِي قِيَامِ الْمَحْكُومِ عَلَيْهِ بِطَلَبِ فَسْخِ الْحُكْمِ:

وَهُوَ عَلَى وُجُوهٍ.
الْأَوَّلُ: إنْ كَانَ قِيَامُهُ عَلَى الْقَاضِي الْعَالِمِ الْعَادِلِ لَمْ تُسْمَعْ دَعْوَاهُ.
الثَّانِي: إنْ كَانَ قِيَامُهُ لِمَا اتَّصَفَ بِهِ الْقَاضِي مِنْ جَهْلٍ أَوْ جَوْرٍ أَوْ نَسَبَهُ الْمُدَّعَى إلَيْهِ فَقَدْ تَقَدَّمَ حُكْمُهُ.
الثَّالِثُ: إنْ كَانَ قِيَامُهُ لِعَدَاوَةٍ بَيْنَهُ وَبَيْنَ ابْنِهِ أَوْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْأَبَوَيْنِ وَجَبَ الْفَسْخُ.
الرَّابِعُ: أَنْ يَأْتِيَ الْمَحْكُومُ عَلَيْهِ بِبَيِّنَةٍ لَمْ يَعْلَمْ بِهَا فَفِيهَا ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ. قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ فِي الْمُدَوَّنَةِ: يَسْمَعُ مِنْ بَيِّنَتِهِ فَإِنْ شَهِدَتْ بِمَا يُوجِبُ الْفَسْخَ فُسِخَ وَقَالَ سَحْنُونٌ: لَا يُسْمَعُ مِنْهَا.
وَقَالَ ابْنُ الْمَوَّازِ: إنْ قَامَ بِهَا عِنْدَ ذَلِكَ الْقَاضِي الْحَاكِمِ نَقَضَهُ، وَإِنْ قَامَ عِنْدَ غَيْرِهِ لَمْ يَنْقُضْهُ.
الْخَامِسُ: أَنْ يُنْسَبَ الْقَاضِي إلَى التَّقْصِيرِ فِي الْكَشْفِ عَنْ الشُّهُودِ وَيَأْتِيَ بِمَا يُوجِبُ سُقُوطَ شَهَادَةِ مَنْ شَهِدَ عَلَيْهِ فَإِنْ أَثْبَتَ تَقَدُّمَ جُرْحَتِهِ بِفِسْقٍ فَفِي نَقْضِ الْحُكْمِ بِذَلِكَ قَوْلَانِ لِمَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ وَبِالنَّقْضِ قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ وَبِعَدَمِهِ قَالَ أَشْهَبُ وَسَحْنُونٌ، وَإِنْ ثَبَتَ الْعَدَاوَةُ فَيَجْرِي عَلَى الْقَوْلَيْنِ، وَكَذَا الْخِلَافُ إنْ كَانَ الْقَدْحُ بِالْقَرَابَةِ، وَصَوَّبَ الْمَازِرِيُّ عَدَمَ النَّقْضِ، وَإِنْ أَثْبَتَ أَنَّ أَحَدَ الشَّاهِدَيْنِ عَبْدٌ أَوْ ذِمِّيٌّ أَوْ مَوْلًى عَلَيْهِ انْتَقَضَ، وَلَزِمَ الْمَقْضِيَّ لَهُ بِالْمَالِ رَدُّهُ، إلَّا أَنْ يَحْلِفَ مَعَ الشَّاهِدِ الْبَاقِي.
السَّادِسُ: أَنْ يُنْكِرَ الْمَحْكُومُ عَلَيْهِ الْخِصَامَ عِنْدَ الْقَاضِي الْحَاكِمِ، وَقَالَ الْقَاضِي كُنْت خَاصَمْت عِنْدِي وَأَعْذَرْت إلَيْك فَلَمْ تَأْتِ بِحُجَّةٍ، وَحَكَمْت عَلَيْك، فَقَالَ أَصْبَغُ: الْقَوْلُ قَوْلُ الْقَاضِي إنْ كَانَ بَاقِيًا عَلَى وِلَايَتِهِ لَمْ يَنْعَزِلْ.
وَفِي (الْجَلَّابِ) لَا يُقْبَلُ قَوْلُ الْقَاضِي إلَّا بِبَيِّنَةٍ، قَالَ اللَّخْمِيُّ: وَهُوَ أَشْبَهُ فِي قُضَاةِ الْوَقْتِ.
السَّابِعُ: أَنْ تُنْكِرَ الْبَيِّنَةُ أَنْ تَكُونَ شَهِدَتْ عِنْدَ الْقَاضِي وَادَّعَى الْقَاضِي أَنَّهُمْ شَهِدُوا عِنْدَهُ فَفِي النَّقْضِ قَوْلَانِ، وَإِلَى عَدَمِ النَّقْضِ ذَهَبَ ابْنُ الْقَاسِمِ، وَذَهَبَ ابْنُ الْمَوَّازِ إلَى أَنَّ الْحُكْمَ يُنْقَضُ.
الثَّامِنُ: أَنْ يَقُولَ الْمَحْكُومُ عَلَيْهِ كُنْت أَغْفَلْت حُجَّةَ كَذَا لَمْ يُقْبَلْ مِنْهُ. وَلَمْ يُنْقَضْ الْحُكْمُ.
التَّاسِعُ: إذَا أَجَابَ الْقَائِمُ بَعْدَ انْصِرَامِ الْأَجَلِ بِأَنَّ لَهُ بَيِّنَةً يَرْتَجِيهَا نَظَرَ الْحَاكِمُ فِي ذَلِكَ، فَإِنْ كَانَتْ قَرِيبَةً أَجَّلَهُ بَعْدَ ذَلِكَ، وَإِنْ كَانَتْ بَعِيدَةً وَتَبَيَّنَ لَدَدُهُ قَضَى عَلَيْهِ، وَأَرْجَأَ الْحُجَّةَ لَهُ، وَلَهُ الْقِيَامُ بِهَا مَتَى جَاءَتْ عِنْدَ الْقَاضِي، أَوْ عِنْدَ غَيْرِهِ، وَلِمَنْ وُلِّيَ بَعْدَهُ نَقْضُ ذَلِكَ الْحُكْمِ بِسَبَبِ ذَلِكَ الْمَذْكُورِ، وَكَذَلِكَ كُلُّ تَسْجِيلٍ يَتَضَمَّنُ إرْجَاءَ الْحُجَّةِ لِغَائِبٍ أَوْ صَغِيرٍ أَوْ لِحَاضِرٍ بَعُدَتْ بَيِّنَتُهُ، أَوْ لِمَحْكُومٍ عَلَيْهِ لَمْ يُعْجِزْهُ الْقَاضِي، فَلِلْقَاضِي الثَّانِي تَعَقُّبُهُ بِمَا يَجِبُ بِخِلَافِ السِّجِلَّاتِ الْمُطْلَقَةِ.
الْعَاشِرُ: إذَا قَامَ الْمَحْكُومُ عَلَيْهِ وَادَّعَى أَنَّ الْقَاضِيَ حَكَمَ عَلَيْهِ بِمَا لَا يُنَصُّ فِيهِ فَالْحُكْمُ فِي ذَلِكَ أَنَّ الْقَاضِيَ إنْ حَكَمَ فِي الْمَسْكُوتِ عَنْهُ بِمَا هُوَ خِلَافُ الْقَوَاعِدِ نُقِضَ، وَإِنْ حَكَمَ فِيهَا بِمَا هِيَ قَابِلَةٌ مِنْ الْخِلَافِ لَمْ يُنْقَضْ.
الْحَادِيَ عَشَرَ: إذَا ادَّعَى عَلَيْهِ أَنَّ الشُّهُودَ قَدْ رَجَعُوا لَمْ يَنْفَعْهُ ذَلِكَ، وَلَمْ يُنْقَضْ الْحُكْمُ؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ قَدْ ثَبَتَ بِقَوْلِ عُدُولٍ وَدَعْوَى الشُّهُودِ بَعْدَ ذَلِكَ الْكَذِبِ اعْتِرَافٌ مِنْهُمْ أَنَّهُمْ فَسَقَةٌ، وَالْفَاسِقُ لَا يُنْقَضُ الْحُكْمُ بِقَوْلِهِ، فَيَبْقَى الْحُكْمُ عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ مِنْ الْمَذْهَبِ، وَمِنْ كِتَابِ الْأَحْكَامِ لِلْقَرَافِيِّ، وَمِنْ أَحْكَامِ ابْنِ سَهْلٍ وَمِنْ الْمَازِرِيِّ.

.الرُّكْنُ الثَّالِثُ الْمَقْضِيُّ لَهُ:

وَهُوَ كُلُّ مَنْ تَجُوزُ شَهَادَتُهُ لَهُ وَفِي حُكْمِهِ لِأَقَارِبِهِ الَّذِينَ لَا تَجُوزُ شَهَادَتُهُ لَهُمْ أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ: الْمَنْعُ لِمُحَمَّدٍ وَمُطَرِّفٍ وَالْجَوَازُ لِأَصْبَغَ، قَالَ: وَهَذَا إنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْقِيَامِ بِالْحَقِّ وَقَدْ يَحْكُمُ لِلْخَلِيفَةِ وَهُوَ فِيهِ أَقْوَى تُهْمَةً، وَالْجَوَازُ إلَّا لِزَوْجَتِهِ وَوَلَدِهِ الصَّغِيرِ وَيَتِيمِهِ الَّذِي يَلِي مَالَهُ.
وَفِي ابْنِ يُونُسَ، وَلَا يَحْكُمُ لِعَمِّهِ إلَّا أَنْ يَكُونَ مُبْرَزًا فِي الْعَدَالَةِ، وَالرَّابِعُ: التَّفْرِقَةُ فَإِنْ قَالَ ثَبَتَ عِنْدِي لَمْ يَجُزْ إنْ حَضَرَ الشُّهُودُ، وَكَانَتْ الشَّهَادَةُ ظَاهِرَةً جَازَ إلَّا لِزَوْجَتِهِ وَوَلَدِهِ الصَّغِيرِ وَيَتِيمِهِ، وَاخْتَارَهُ ابْنُ حَبِيبٍ، وَاخْتَارَ اللَّخْمِيُّ الْمَنْعَ مُطْلَقًا، قَالَ: وَلَوْ حَكَمَ بِمَا تَلْحَقُهُ فِيهِ الْحَمِيَّةُ مِنْ غَيْرِ الْمَالِ لَمْ يَجُزْ بِحَالٍ مِنْ (شَرْحِ ابْنِ الْحَاجِبِ) لِابْنِ رَاشِدٍ، وَإِذَا قُلْنَا بِعَدَمِ الْجَوَازِ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَرْفَعَ الشَّهَادَةَ بِمَا يَثْبُتُ عِنْدَهُ لِمَنْ هُوَ فَوْقَهُ، وَلَوْ كَانَ مِمَّا تَجُوزُ شَهَادَتُهُ فِيهِ رَفَعَ لِمَنْ هُوَ فَوْقَهُ، وَاخْتُلِفَ هَلْ يَرْفَعُ إلَى مَنْ هُوَ دُونَهُ مِمَّنْ وَلَّاهُ هُوَ، فَقِيلَ لَا يَجُوزُ، هُوَ أَصْلُ قَوْلِهِ فِي الْمُدَوَّنَةِ، وَقِيلَ يَجُوزُ مِنْ الْمَذْهَبِ.
مَسْأَلَةٌ:
وَلَا يَجُوزُ لِلْقَاضِي أَنْ يَحْكُمَ لِنَفْسِهِ فَإِنْ كَانَ لَهُ قِبَلَ أَحَدٍ شَيْءٌ رَفَعَ ذَلِكَ إلَى غَيْرِهِ، وَوَكَّلَ وَكِيلًا يُخَاصِمُ عَنْهُ، وَإِنْ شَاءَ خَاصَمَ، وَلَمْ يُوَكِّلْ فَإِنْ رَضِيَ صَاحِبُهُ أَنْ يُحَكِّمَهُ فِي ذَلِكَ فَلَا يَقْبَلُ، وَلَا يَجُوزُ حُكْمُهُ لِنَفْسِهِ إلَّا أَنْ يَشَاءَ أَنْ يَحْكُمَ عَلَيْهَا فَيَكُونَ كَالْإِقْرَارِ مِنْهُ بِمَا ادَّعَى خَصْمُهُ عَلَيْهِ، وَقَالَ أَصْبَغُ فِي تَحْكِيمِ خَصْمِ الْقَاضِي لَهُ: لَا أُحِبُّهُ فَإِنْ وَقَعَ مَضَى، وَلْيَذْكُرْ فِي حُكْمِهِ رِضَاهُ بِتَحْكِيمِهِ، وَيُوقِعُ عِنْدَهُ شَهَادَةَ مَنْ شَهِدَ بِرِضَاهُ.
قَالَ ابْنُ رَاشِدٍ: فَإِنْ اجْتَمَعَ فِي الْقَضِيَّةِ حَقَّانِ حَقٌّ لِلَّهِ تَعَالَى وَحَقٌّ لِلْقَاضِي لَمْ يَجُزْ أَنْ يَحْكُمَ لِنَفْسِهِ، وَفِي حُكْمِهِ فِي حَقِّ اللَّهِ قَوْلَانِ لِمُحَمَّدٍ وَابْنِ عَبْدِ الْحَكَمِ، وَيُتَصَوَّرُ هَذَا فِي بَيْعِ مَنْ أَعْتَقَهُ الْمِدْيَانُ إذَا كَانَ الْقَاضِي غَرِيمَهُ لِتَعَارُضِ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى فِي الْعِتْقِ وَحَقِّ الْقَاضِي فِي الْمَالِيَّةِ.
مَسْأَلَةٌ:
وَفِي الْمُقْنِعِ لِابْنِ بَطَّالٍ قَالَ مُطَرِّفٌ: وَلَا بَأْسَ أَنْ يَقْضِيَ الْقَاضِي بَيْنَ الْخَصْمَيْنِ لَهُ عَلَى أَحَدِهِمَا دَيْنٌ إذَا كَانَ بِهِ مُوسِرًا، فَإِنْ كَانَ بِهِ مُعْسِرًا لَمْ يَجُزْ لَهُ النَّظَرُ بَيْنَهُمَا مِثْلَ الشَّهَادَةِ مِنْهُ لِأَحَدِهِمَا.
مَسْأَلَةٌ:
لَوْ شَهِدَ عِنْدَ الْقَاضِي رَجُلَانِ أَنَّ هَذَا سَرَقَ مَتَاعَ هَذَا الْقَاضِي قَطَعَهُ، وَلَمْ يُغَرِّمْهُ حَتَّى يَرْفَعَهُ إلَى غَيْرِهِ؛ لِأَنَّ الْغُرْمَ حَقٌّ لَهُ وَهُوَ لَا يَحْكُمُ لِنَفْسِهِ.
مَسْأَلَةٌ:
وَفِي ابْنِ يُونُسَ، وَلَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَحْكُمَ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ عَشِيرَتِهِ وَبَيْنَ خَصْمِهِ، وَإِنْ رَضِيَ الْخَصْمُ، بِخِلَافِ رَجُلَيْنِ رَضِيَا بِحُكْمِ أَجْنَبِيٍّ فَيَنْفُذُ ذَلِكَ عَلَيْهِمَا.
مَسْأَلَةٌ:
وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَحْكُمَ بَيْنَ عَبْدِهِ وَبَيْنَ خَصْمِهِ، وَإِنْ رَضِيَ الْخَصْمُ بِذَلِكَ، فَإِنْ فَعَلَ فَيُشْهِدُ عَلَى رِضَاهُ وَيَحْكُمُ بِالْعَدْلِ وَيَجْتَهِدُ.
مَسْأَلَةٌ:
وَمِمَّا يَجْرِي مَجْرَى الْقَاضِي فِي الْمَنْعِ مِنْ الْحُكْمِ لِمَنْ يُتَّهَمُ عَلَيْهِ، الْمُفْتِي يُفْتِي لِمَنْ يُتَّهَمُ عَلَيْهِ مِمَّنْ لَا تَجُوزُ شَهَادَتُهُ، فَيَنْبَغِي لِلْمُفْتِي الْهُرُوبُ مِنْ هَذَا مَتَى قَدَرَ عَلَيْهِ، قَالَ الْمَازِرِيُّ: وَقَدْ نَزَلَ بِي مِثْلُ هَذَا فِي خِصَامٍ لِزَوْجَتِي فِي مَوَارِيثَ، وَسَأَلَنِي الْقَاضِي وَالْخُصُومُ فِي الْفَتْوَى فَامْتَنَعْت مِنْ ذَلِكَ.
مَسْأَلَةٌ:
فَإِذَا قَضَى الْقَاضِي لِنَفْسِهِ أَوْ لِمَنْ لَا يَجُوزُ قَضَاؤُهُ لَهُ بِاخْتِلَافٍ مِنْ الْعُلَمَاءِ غَيْرِ شَاذٍّ فَأَحَبُّ إلَيَّ إنْ رَأَى أَفْضَلَ مِنْهُ أَنْ يَفْسَخَهُ، فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ حَتَّى مَاتَ أَوْ عُزِلَ فَلَا يَفْسَخُهُ غَيْرُهُ إلَّا فِي خَطَأٍ بَيِّنٍ، فَإِنْ حَكَمَ عَلَى نَفْسِهِ أَوْ عَلَى مَنْ لَا يَجُوزُ حُكْمُهُ لَهُ بِاخْتِلَافٍ غَيْرِ شَاذٍّ فَلَا أُحِبُّ أَنْ يَفْسَخَهُ؛ لِأَنَّهُ لَا يُتَّهَمُ فِيهِ.

.الرُّكْنُ الرَّابِعُ فِي الْمَقْضِيُّ فِيهِ:

الرُّكْنُ الرَّابِعُ: الْمَقْضِيُّ فِيهِ وَهُوَ جَمِيعُ الْحُقُوقِ، قَالَ الْقَاضِي أَبُو الْأَصْبَغِ بْنُ سَهْلٍ: اعْلَمْ أَنَّ خُطَّةَ الْقَضَاءِ أَعْظَمُ الْخُطَطِ قَدْرًا، وَأَجَلُّهَا خَطَرًا. وَعَلَى الْقَاضِي مَدَارُ الْأَحْكَامِ، وَإِلَيْهِ النَّظَرُ فِي جَمِيعِ وُجُوهِ الْقَضَاءِ، مِنْ الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ بِلَا تَحْدِيدٍ.
وَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ إبْرَاهِيمُ بْنُ يَحْيَى بْنِ الْأَمِينِ: لِلْقَاضِي النَّظَرُ فِي جَمِيعِ الْأَشْيَاءِ إلَّا فِي قَبْضِ الْخَرَاجِ، وَاخْتُلِفَ هَلْ لَهُ أَنْ يَقْبِضَ أَمْوَالَ الصَّدَقَاتِ وَيَصْرِفَهَا فِي مُسْتَحَقِّيهَا إذَا لَمْ يَحْضُرْ نَاظِرٌ أَمْ لَا؟. وَاخْتُلِفَ هَلْ إقَامَةُ الْجُمَعِ وَالْأَعْيَادِ إلَيْهِ أَمْ لَا؟. وَقَالَ فِي بَابِ الْإِمَارَةِ: اُخْتُلِفَ هَلْ لِمَنْ وَلِيَ الْإِمَارَةَ الْخَاصَّةَ أَنْ يَؤُمَّ فِي الْجُمَعِ وَالْأَعْيَادِ وَالْقَاضِي أَوْلَى مِنْهُ بِذَلِكَ.
مَسْأَلَةٌ:
قَالَ ابْنُ سَهْلٍ: وَيَخْتَصُّ بِوُجُوهٍ لَا يُشَارِكُهُ فِيهَا غَيْرُهُ مِنْ الْحُكَّامِ، وَذَلِكَ النَّظَرُ فِي الْوَصَايَا وَالْأَحْبَاسِ، قَالَ ابْنُ الْأَمِيرِ: يُرِيدُ الْمُعَقَّبَةَ وَالتَّرْشِيدَ وَالتَّحْجِيرَ وَالتَّسْفِيهَ، وَالْقَسْمَ وَالْمَوَارِيثَ، وَالنَّظَرَ لِلْأَيْتَامِ، وَالنَّظَرَ فِي مَالِ الْغُيَّابِ، وَالنَّظَرَ فِي الْأَنْسَابِ. زَادَ أَحْمَدُ بْنُ يَحْيَى بْنِ أَبِي عِيسَى فَقَالَ: وَإِنِّي لَأَرَى مِثْلَ ذَلِكَ فِي الْجِرَاحَاتِ وَالتَّدْمِيَاتِ وَمَا أَشْبَهَهَا، قَالَ ابْنُ الْأَمِينِ: وَالْإِثْبَاتَ وَالتَّسْجِيلَ، قَالَ ابْنُ سَهْلٍ: وَلَا يَجِبُ لِلْقَاضِي أَنْ يَرْفَعَ نَظَرًا مَنْ عِنْدَهُ إلَى غَيْرِهِ مِنْ الْحُكَّامِ، كَمَا يَرْفَعُ غَيْرُهُ مِنْ الْحُكَّامِ إلَيْهِ، فَهَذِهِ الْأُمُورُ الَّتِي قَدَّمْنَا ذِكْرَهَا لَا تُرْفَعُ إلَّا إلَيْهِ، وَلَا تَكُونُ إلَّا فِي دِيوَانِهِ، وَإِذَا ضَيَّعَ الْقَاضِي ذَلِكَ كَانَتْ مِنْهُ هُجْنَةٌ، قَالَ ابْنُ لُبَابَةَ: وَهَذَا الَّذِي أَعْرِفُهُ وَأَقُولُ بِهِ، وَأَدْرَكْت النَّاسَ عَلَيْهِ مِنْ تَرْتِيبِ أَحْكَامِ الْقُضَاةِ فِي الْأُمُورِ الَّتِي لَا يَنْبَغِي لِغَيْرِهِمْ النَّظَرُ فِيهَا، وَذَكَرَ ابْنُ سَهْلٍ أَسْمَاءَ الشُّيُوخِ الْقَائِلِينَ بِذَلِكَ وَهُمْ: ابْنُ لُبَابَةَ، وَعُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ يَحْيَى اللَّيْثِيُّ رَاوِي الْمُوَطَّأِ عَنْ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ وَأَيُّوبُ بْنُ سُلَيْمَانَ، وَسَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ، وَمُحَمَّدُ بْنُ الْوَلِيدِ، وَخَالِدُ بْنُ وَهْبٍ، وَأَحْمَدُ بْنُ مَطَرٍ، وَطَاهِرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَسَعِيدُ بْنُ حِمْيَرَ، وَأَحْمَدُ بْنُ يَحْيَى بْنِ أَبِي عِيسَى، وَيَحْيَى بْنُ سُلَيْمَانَ، وَأَحْمَدُ بْنُ بَقِيِّ بْنِ مَخْلَدٍ. وَهَؤُلَاءِ شُيُوخُ الْفُتْيَا وَأَصْحَابُ الشُّورَى، وَعَنْهُمْ يَصْدُرُ الْحَلُّ وَالْعَقْدُ رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ.
فَصْلٌ:
وَأَمَّا غَيْرُ الْقَاضِي فَمَقْصُورٌ عَلَى مَا قَدُمَ عَلَيْهِ، قَالَ ابْنُ رَاشِدٍ: وَفِي (الْمُتَيْطِيَّةِ) أَرْبَعُ مَسَائِلَ فِي الْمُدَوَّنَةِ لَا يَحْكُمُ فِيهَا صَاحِبُ الشُّرْطَةِ: التَّحْجِيرُ وَالْحُكْمُ عَلَى الْغَائِبِ، وَإِقَامَةُ الْحُدُودِ وَالْقَسْمُ بَيْنَ الصِّغَارِ وَالْكِبَارِ، وَمَا عَدَاهَا يَجُوزُ حُكْمُهُ فِيهِ.

.فَصْلٌ فِي الشَّيْءِ الْمُدَّعَى فِيهِ:

يَكُونُ فِي غَيْرِ بَلَدِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، وَأَيْنَ تَكُونُ مُحَاكَمَتُهُمَا.
وَفِي مُخْتَصَرِ الْوَاضِحَةِ فِي الرَّجُلِ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ يَكُونُ لَهُ دَارٌ بِمَكَّةَ فَيَدَّعِيهَا رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ، قَالَ ابْنُ حَبِيبٍ قَالَ ابْنُ الْمَاجِشُونِ:
إنَّمَا تَكُونُ خُصُومَتُهُمَا حَيْثُ الدَّارُ وَالشَّيْءُ الْمُدَّعَى فِيهِ فَثَمَّ يَسْمَعُ مِنْ بَيِّنَةِ الْمُدَّعِي وَحُجَّتِهِ، وَيَضْرِبُ لِصَاحِبِ الدَّارِ أَجَلًا حَتَّى يَأْتِيَ فَيَدْفَعَ عَنْ نَفْسِهِ أَوْ يُوَكِّلَ لَهُ وَكِيلًا يَقُومُ عَنْهُ فِي الْخُصُومَةِ فِي ذَلِكَ.
قَالَ فَضْلُ بْنُ سَلَمَةَ: وَهَذَا أَيْضًا مَذْهَبُ سَحْنُونٍ وَابْنِ كِنَانَةَ قَالَ ابْنُ كِنَانَةَ: إلَّا أَنْ يَكُونَ أَحَدُ الْقَاضِيَيْنِ جَائِرًا فَالْخُصُومَةُ عِنْدَ الْأَعْدَلِ. قَالَ ابْنُ حَبِيبٍ- وَخَالَفَ مُطَرِّفٌ وَأَصْبَغُ: قَوْلَ ابْنِ الْمَاجِشُونِ فِي ذَلِكَ.
وَقَالَ إنَّمَا تَكُونُ الْخُصُومَةُ حَيْثُ يَكُونُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، وَلَا يُلْتَفَتُ إلَى مَوْضِعِ الْمُدَّعِي، وَلَا مَوْضِعِ الْمُدَّعَى فِيهِ، غَيْرَ أَنَّ مِنْ حَقِّ الْمُدَّعِي إنْ شَاءَ بَدَأَ بِقَاضِيهِ يَعْنِي بِقَاضِي مَكَّةَ فَرَفَعَ إلَيْهِ أَمْرَهُ وَأَثْبَتَ عِنْدَهُ بَيِّنَتَهُ، ثُمَّ كَتَبَ قَاضِي مَكَّةَ بِذَلِكَ إلَى قَاضِي الْمَدِينَةِ وَخَرَجَ بِنَفْسِهِ، وَإِنْ شَاءَ أَنْ يُوَكِّلَ أَثْبَتَ وَكَالَةَ وَكِيلِهِ عِنْدَ قَاضِي مَكَّةَ، ثُمَّ خَرَجَ الْوَكِيلُ بِالْكِتَابِ، فَإِذَا قَدِمَ الْمُدَّعِي أَوْ وَكِيلُهُ اسْتَدْعَى عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ عِنْدَ قَاضِي الْمَدِينَةِ، وَأَخْرَجَ كِتَابَ قَاضِي مَكَّةَ، فَإِذَا ثَبَتَ الْكِتَابُ عِنْدَ قَاضِي الْمَدِينَةِ لَزِمَهُ قَبُولُ مَا فِيهِ وَقَرَأَهُ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، وَسَأَلَهُ الْمَخْرَجَ مِنْ ذَلِكَ إنْ كَانَ لَهُ مَخْرَجٌ، وَإِلَّا أَنْفَذَ الْحَاكِمُ عَلَيْهِ إنْ تَبَيَّنَ لَهُ إنْفَاذُهُ.
أَمَّا لَوْ كَانَ الْمُدَّعِي أَوْ وَكِيلُهُ لَمْ يَأْتِ بِكِتَابٍ مِنْ عِنْدِ قَاضِي مَكَّةَ، وَإِنَّمَا قَدِمَ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فَاسْتَعْدَى عَلَيْهِ قَاضِي الْمَدِينَةِ، فَيَنْبَغِي لِقَاضِي الْمَدِينَةِ إذَا أَعْلَمَهُ الْمُدَّعِي أَنَّ بَيِّنَتَهُ بِمَكَّةَ حَيْثُ الدَّارُ أَنْ يَكْتُبَ لَهُ إلَى قَاضِي مَكَّةَ أَنْ يَسْمَعَ مِنْ بَيِّنَتِهِ، ثُمَّ يَكْتُبَ بِذَلِكَ إلَيْهِ، وَيُؤَجِّلَ لَهُ عَلَى قَدْرِ الْمَسَافَةِ، وَوَجْهِ مَطْلَبِ الْأَمْرِ. قَالَ ابْنُ حَبِيبٍ: وَبِهَذَا أَقُولُ. قَالَ فَضْلٌ: وَهَذَا مَذْهَبُ ابْنِ الْقَاسِمِ. قَالَ ابْنُ حَبِيبٍ: قَالَ لِي أَصْبَغُ، وَلَوْ أَنَّ الْمَدَنِيَّ خَرَجَ إلَى ضَيْعَتِهِ بِمَكَّةَ أَوْ جَاءَهَا حَاجًّا فَتَعَلَّقَ بِهِ الْمَكِّيُّ يُرِيدُ مُخَاصَمَتَهُ ثُمَّ كَانَ لَهُ ذَلِكَ، وَلَمْ يَكُنْ لِلْمُدَّعَى عَلَيْهِ أَنْ يَأْبَى ذَلِكَ ثُمَّ قَالَ لِي: اُنْظُرْ كُلَّ مَنْ تَعَلَّقَ بِرَجُلٍ فِي حَقٍّ مِنْ الْحُقُوقِ فَإِنَّمَا يُخَاصِمُهُ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي تَعَلَّقَ بِهِ فِيهِ إنْ كَانَ لِذَلِكَ الْمَوْضِعِ أَمِيرٌ يَحْكُمُ أَوْ قَاضٍ كَانَ الْمُدَّعَى فِيهِ فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ أَوْ غَائِبًا عَنْهُ كَانَ إقْرَارُهُمَا بِغَيْرِ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ، أَوْ لَمْ يَكُنْ.
قَالَ ابْنُ حَبِيبٍ: وَأَنَا أَقُولُ بِهَذَا إذَا تَعَلَّقَ بِهِ فِي دَيْنٍ أَوْ مَالٍ أَوْ حَقٍّ مِمَّا يَكُونُ فِي ذِمَمِ الرِّجَالِ. وَأَمَّا فِي الْعَقَارِ فَإِنْ كَانَ أَيْضًا فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي فِيهِ الْمُدَّعَى فِيهِ فَكَذَلِكَ؛ لِأَنَّ ابْنَ الْمَاجِشُونِ رَأَى أَنْ يَرْفَعَ مَعَهُ إلَى حَيْثُ يَكُونُ الشَّيْءُ الْمُدَّعَى فِيهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ الشَّيْءُ فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ الَّذِي تَعَلَّقَ بِهِ فِيهِ، وَإِنَّمَا هُوَ فِي قَرَارِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ وَغَيْرِهِ فَلَيْسَ لِلْمُدَّعِي أَنْ يَحْبِسَهُ لِمُخَاصَمَتِهِ فِيهِ.

.الرُّكْنُ الْخَامِسُ الْمَقْضِيُّ عَلَيْهِ:

وَهُوَ كُلُّ مَنْ تَوَجَّهَ عَلَيْهِ حَقٌّ، إمَّا بِإِقْرَارِهِ، وَإِمَّا بِالشَّهَادَةِ عَلَيْهِ بَعْدَ الْعَجْزِ عَنْ الدَّفْعِ، وَبَعْدَ الْإِعْذَارِ إلَيْهِ قَبْلَ الْحُكْمِ، وَإِمَّا بِالشَّهَادَةِ عَلَيْهِ، وَيَمِينِ الِاسْتِبْرَاءِ إنْ كَانَ الْحَقُّ عَلَى مَيِّتٍ أَوْ عَلَى غَائِبٍ، وَإِمَّا بَلَدُهُ وَتَغَيُّبُهُ عَنْ حُضُورِ مَجْلِسِ الْحُكْمِ وَقِيَامُ الْبَيِّنَةِ عَلَيْهِ.
وَإِمَّا بِالشَّهَادَةِ عَلَيْهِ، وَلَدَدِهِ عَنْ الْجَوَابِ عَلَى طَبَقِ الدَّعْوَى، وَسَيَأْتِي بَيَانُ الْحُكْمِ عَلَى هَذِهِ الْوُجُوهِ كُلِّهَا كُلُّ مَسْأَلَةٍ فِي مَحَلِّهَا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

.فَصْلٌ فِي أَنْوَاع الْمَقْضِيُّ عَلَيْهِ:

فَصْلٌ: وَالْمَقْضِيُّ عَلَيْهِ أَنْوَاعٌ مِنْهُمْ الْحَاضِرُ الْمَالِكُ أَمْرَهُ، وَمِنْهُمْ الْغَائِبُ، وَمِنْهُمْ الصَّغِيرُ الْمَحْجُورُ عَلَيْهِ، وَمِنْهُمْ السَّفِيهُ الْمُوَلَّى عَلَيْهِ، وَمِنْهُمْ الْوَرَثَةُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِمْ فِي مَالِ الْمَيِّتِ، وَفِيهِمْ الصَّغِيرُ وَالْكَبِيرُ. فَأَمَّا الْحَاضِرُ الْمَالِكُ أَمْرَهُ فَقَدْ تَقَدَّمَ فِي سِيرَةِ الْقَاضِي مَعَ الْخُصُومِ بَعْضُ أَحْكَامِهِ، وَسَيَأْتِي تَمَامًا فِي الْإِعْذَارِ وَالتَّعْجِيزِ وَالْجَوَابِ وَالنُّكُولِ وَالْيَمِينِ وَالْبَيِّنَةِ، وَأَمَّا الْغَائِبُ فَقَدْ ذَكَرْتُ الدَّعْوَى عَلَيْهِ فِي فَصْلِ الدَّعَاوَى وَذُكِرَ أَنْوَاعُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِمْ، وَنَذْكُرُ هُنَا طُرُقًا مِمَّا يَتَعَلَّقُ بِهِ (وَأَمَّا) الصَّغِيرُ وَالسَّفِيهُ وَالْوَرَثَةُ فَهُمْ مَذْكُورُونَ فِي الدَّعَاوَى فِي أَنْوَاعِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِمْ.

.فَصْلٌ لَا يَحْكُمُ الْقَاضِي عَلَى عَدُوِّهِ:

فَصْلٌ: وَلَا يَحْكُمُ عَلَى عَدُوِّهِ كَمَا لَا تَجُوزُ شَهَادَتُهُ عَلَيْهِ.
مَسْأَلَةٌ:
وَيَجُوزُ لِلْقَاضِي أَنْ يَحْكُمَ بَيْنَ أَهْلِ الذِّمَّةِ إذَا تَظَالَمُوا أَوْ تَرَافَعُوا إلَيْهِ وَرَضَوْا بِحُكْمِهِ، وَلْيَحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِحُكْمِ الْإِسْلَامِ قَالَ ابْنُ مُحْرِزٍ وَظَاهِرُ هَذَا أَنَّا نَحْكُمُ بَيْنَهُمْ، وَإِنْ لَمْ تَرْضَ أَسَاقِفَتُهُمْ قَالَ: وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ فِي (الْعُتْبِيَّةِ): لَا يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ حَتَّى تَرْضَى أَسَاقِفَتُهُمْ.
وَقَالَ غَيْرُهُ: ذَلِكَ غَيْرُ لَازِمٍ؛ لِأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ رَجَمَ الْيَهُودِيَّيْنِ، وَلَمْ يَأْتِ فِي الْخَبَرِ، أَنَّهُ شَاوَرَ أَسَاقِفَتَهُمْ.
وَفِي الْوَثَائِقِ الْمَجْمُوعَةِ، وَإِنَّمَا لِحَاكِمِ الْمُسْلِمِينَ أَنْ يَحْكُمَ بَيْنَهُمْ فِي التَّظَالُمِ. مِثْلَ أَنْ يَمْنَعَ وَارِثٌ وَارِثًا حَقَّهُ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ، إذَا رَضِيَ الْمُتَطَالِبَانِ بِذَلِكَ، وَأَمَّا الْخَمْرُ وَالرِّبَا وَالزِّنَا وَالطَّلَاقُ وَالْعَتَاقُ فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَحْكُمَ بَيْنَهُمْ فِيهِ.
فَرْعٌ:
وَتَجُوزُ شَهَادَةُ الْمُسْلِمِينَ عَلَى جَمِيعِ أَهْلِ الْمِلَلِ، وَلَا تَجُوزُ شَهَادَةُ أَهْلِ الذِّمَّةِ عَلَى شَيْءٍ مِنْ أُمُورِ الْمُسْلِمِينَ فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ لَا فِي وَصِيَّةٍ، وَلَا فِي سَفَرٍ، وَلَا فِي حَضَرٍ، وَلَا تَجُوزُ شَهَادَةُ يَهُودِيٍّ عَلَى نَصْرَانِيٍّ، وَلَا بِالْعَكْسِ.

.فَصْلٌ لَا يَحْكُمُ الْقَاضِي عَلَى أَحَدٍ إلَّا بَعْدَ أَنْ يَسْأَلَهُ أَبَقِيَتْ لَك حُجَّةٌ:

فَصْلٌ: وَلَا يَحْكُمُ الْقَاضِي عَلَى أَحَدٍ إلَّا بَعْدَ أَنْ يَسْأَلَهُ أَبَقِيَتْ لَك حُجَّةٌ؟ فَيَقُولُ لَا عَلَى مَا هُوَ مَذْكُورٌ فِي فَصْلِ الْإِعْذَارِ.
تَنْبِيهٌ:
وَالْمَحْكُومُ عَلَيْهِ تَارَةً يَكُونُ هُوَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ وَتَارَةً تَقْوَى حُجَّةُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ وَتَضْعُفُ حُجَّةُ الْمُدَّعِي فَيَتَوَجَّهُ الْحُكْمُ عَلَى الْمُدَّعِي بِالْإِبْرَاءِ أَوْ غَيْرِهِ مِنْ الْوُجُوهِ، وَقَدْ ذَكَرْت ذَلِكَ فِي فَصْلِ الْإِعْذَارِ.
مَسْأَلَةٌ:
وَإِذَا أَقَرَّ أَحَدُ الْخَصْمَيْنِ عِنْدَ الْقَاضِي بِشَيْءٍ، وَلَيْسَ عِنْدَهُ أَحَدٌ ثُمَّ جَحَدَ ذَلِكَ الْإِقْرَارَ فَإِنَّهُ لَا يُقْضَى عَلَيْهِ إلَّا بِبَيِّنَةٍ سِوَاهُ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ عِنْدَهُ بَيِّنَةٌ رَفَعَ ذَلِكَ إلَى مَنْ فَوْقَهُ، وَكَانَ شَاهِدًا، وَكَذَلِكَ مَا اطَّلَعَ عَلَيْهِ مِنْ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى أَوْ رَآهُ مَنْ غَصَبَ أَوْ سَمِعَ مَنْ قَذَفَ فَلْيَرْفَعْهُ إلَى مَنْ هُوَ فَوْقَهُ وَيَكُونُ هُوَ شَاهِدًا.
وَقَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ: يَحْكُمُ بِمَا أَقَرَّ بِهِ الْخَصْمُ فِي مَجْلِسِهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَعْضُ هَذَا فِي الْآدَابِ وَبَعْضُهُ مَذْكُورٌ فِي بَابِ قَضَاءِ الْقَاضِي بِعِلْمِهِ.

.فَصْلٌ مِنْ مَسَائِل الْحُكْمِ عَلَى الْغَائِبِ:

وَفِي (الْمُتَيْطِيَّةِ) وَيَنْبَغِي لِلْحَاكِمِ أَنْ يُصَرِّحَ بِأَسْمَاءِ الشُّهُودِ الَّذِينَ ثَبَتَ بِهِمْ الْحُكْمُ عَلَى الْغَائِبِ؛ لِأَنَّهُ حُكْمٌ عَلَى غَائِبٍ، فَيَحْتَاجُ إلَى تَسْمِيَتِهِمْ لِإِرْجَاءِ الْحُجَّةِ لَهُ فِيهِمْ، فَإِنْ لَمْ يُصَرِّحْ بِأَسْمَائِهِمْ، وَكَانَ الْحَاكِمُ لَيْسَ مَشْهُورًا بِالْعَدْلِ وَالْفَضْلِ فَإِنَّ ذَلِكَ مِمَّا يُبِيحُ لِمَنْ بَعْدَهُ أَنْ يَتَعَقَّبَ ذَلِكَ الْحُكْمَ؛ لِأَنَّ هَذَا مِمَّا لَا يَمْضِي إلَّا مِنْ الْحَاكِمِ الْعَدْلِ، فَإِنْ قَدِمَ هَذَا الْغَائِبُ فَأَرَادَ رَدَّ الْقَضَاءِ عَنْهُ وَأَنْ يَبْتَدِئَ الْخُصُومَةَ كَانَ ذَلِكَ مِنْ حَقِّهِ إذَا تَعَلَّلَ فِي شَهَادَةِ الشُّهُودِ قَالَ: لَوْ عَلِمْت مَنْ شَهِدَ عَلَيَّ لَرَدَدْت شَهَادَتَهُ عَنِّي.
وَقَالَ الْمَازِرِيُّ: إذَا لَمْ يُصَرِّحْ الْقَاضِي بِأَسْمَاءِ الشُّهُودِ فِي الْحُكْمِ عَلَى الْغَائِبِ فَالْمَشْهُورُ أَنَّ ذَلِكَ حُكْمٌ لَا يَنْفُذُ دُونَ أَنْ يَعْرِفَ الْغَائِبُ مَنْ يَشْهَدُ عَلَيْهِ، وَوَقَعَ فِي الْمَذْهَبِ رِوَايَةٌ أَنَّ ذَلِكَ يَنْفُذُ، وَلَكِنَّهَا مَطْرُوحَةٌ عِنْدَ الْقُضَاةِ الْمَالِكِيَّةِ.
مَسْأَلَةٌ:
قَالَ أَشْهَبُ: يَنْبَغِي لِلْقَاضِي إذَا سَجَّلَ بَيْنَ الْخَصْمَيْنِ أَنْ يَذْكُرَ فِي الْكِتَابِ أَسْمَاءَ الشُّهُودِ فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ حَتَّى أَوْقَعَ الْحُكْمَ فَالْأَحَبُّ إلَيَّ أَنْ يُبَدِّلَ الْكِتَابَ، فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ حَتَّى عُزِلَ أَوْ مَاتَ نَفَذَ الْحُكْمُ إلَّا عَلَى الْغَائِبِ؛ لِأَنَّهُ إنْ قَدِمَ فَقَالَ- مَنْ الشَّاهِدُ عَلَيَّ- فَإِنَّ عِنْدِي تَجْرِيحَهُ فَالْقَضِيَّةُ مَرْدُودَةٌ، وَالْخُصُومَةُ مُؤْتَنَفَةٌ، وَالْبَيِّنَةُ مُعَادَةٌ، وَلَا حُجَّةَ لِلْحَاضِرِ الَّذِي قَدْ مَضَى الْحُكْمُ عَلَيْهِ فِي تَرْكِ تَسْمِيَةِ الْقَاضِي.
مَسْأَلَةٌ:
قَالَ ابْنُ أَبِي زَمَنِينَ: سَحْنُونٌ يَذْهَبُ فِي الْحُكْمِ عَلَى الْحَاضِرِ إلَى تَرْكِ التَّصْرِيحِ بِأَسْمَاءِ الشُّهُودِ، إذْ قَدْ يَحْكُمُ الْقَاضِي بِهِمْ وَهُمْ عُدُولٌ ثُمَّ تَحْدُثُ لَهُمْ جُرْحَةٌ، وَقَدْ عُزِلَ الْقَاضِي أَوْ مَاتَ، فَيَدَّعِي الْمَقْضِيُّ عَلَيْهِ أَنَّ الْقَاضِيَ قَبِلَ شُهُودًا غَيْرَ عُدُولٍ، فَالتَّسْمِيَةُ مِمَّا تُوهِنُ الْحُكْمَ عِنْدَهُ، وَإِلَى قَوْلِ أَصْبَغَ وَتَسْمِيَةِ الشُّهُودِ ذَهَبَ مَنْ رَأَيْته مِنْ فَقِيهٍ وَحَاكِمٍ، وَلِسَحْنُونٍ فِي الْمَجْمُوعَةِ أَنَّ تَسْمِيَتَهُمْ لَا تَلْزَمُ فِي الْحُكْمِ عَلَى الْغَالِبِ، وَسَوَّى أَصْبَغُ فِي هَذَا بَيْنَ الْحُكْمِ عَلَى الْغَائِبِ وَالْحَاضِرِ، وَبِهِ جَرَى الْعَمَلُ فَهُوَ فِي الْحَاضِرِ مُسْتَحَبٌّ وَفِي الْغَائِبِ وَاجِبٌ لِإِرْجَاءِ الْحُجَّةِ لَهُ.
مَسْأَلَةٌ:
قَالَ الْقَاضِي أَبُو الْوَلِيدِ بْنُ رُشْدٍ: الْحُكْمُ عَلَى الْغَائِبِ فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ أَحَدُهَا غَائِبٌ قَرِيبُ الْغَيْبَةِ عَلَى مَسِيرَةِ الْيَوْمِ وَالْيَوْمَيْنِ وَالثَّلَاثَةِ فَهَذَا يُكْتَبُ إلَيْهِ وَيُعْذَرُ إلَيْهِ فِي كُلِّ حَقٍّ، فَإِمَّا وَكَّلَ، وَإِمَّا قَدِمَ، فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ حَكَمَ عَلَيْهِ فِي الدَّيْنِ وَبِيعَ عَلَيْهِ مَالُهُ مِنْ الْأَصْلِ وَغَيْرِهِ.
وَفِي اسْتِحْقَاقِ الْعُرُوضِ وَالْحَيَوَانِ وَالْأُصُولِ وَجَمِيعِ الْأَشْيَاءِ مِنْ الطَّلَاقِ وَالْعِتْقِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَلَمْ تُرْجَ لَهُ حُجَّةٌ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ لَا عُذْرَ لَهُ. وَالثَّانِي غَائِبٌ بَعِيدُ الْغَيْبَةِ عَلَى مَسِيرَةِ عَشَرَةِ أَيَّامٍ وَشِبْهِهَا، فَهَذَا يَحْكُمُ عَلَيْهِ فِيمَا عَدَا الِاسْتِحْقَاقَ فِي الرِّبَاعِ وَالْأُصُولِ مِنْ الدُّيُونِ وَالْحَيَوَانِ وَالْعُرُوضِ، وَتُرْجَى لَهُ الْحُجَّةُ فِي ذَلِكَ، وَالثَّالِثُ غَائِبٌ مُنْقَطِعُ الْغَيْبَةِ مِثْلُ مَكَّةَ مِنْ إفْرِيقِيَّةَ وَالْمَدِينَةِ مِنْ الْأَنْدَلُسِ، وَخُرَاسَانَ، فَهَذَا يُحْكَمُ عَلَيْهِ فِي كُلِّ شَيْءٍ مِنْ الدُّيُونِ وَالْحَيَوَانِ وَالْعُرُوضِ وَالرِّبَاعِ وَالْأُصُولِ وَتُرْجَى لَهُ الْحُجَّةُ فِي ذَلِكَ.
مَسْأَلَةٌ:
وَفِي الْوَاضِحَةِ وَالْعُتْبِيَّةِ قَالَ سَحْنُونٌ، أَخْبَرَنَا أَشْهَبُ قَالَ كَتَبَ ابْنُ غَانِمٍ إلَى مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ عَنْ الْخَصْمَيْنِ يَخْتَصِمَانِ إلَيْهِ فِي الْأَرْضِ فَيُقِيمُ أَحَدُهُمَا الْبَيِّنَةَ عَلَى الْآخَرِ بِأَنَّهَا لَهُ، فَإِذَا عَلِمَ بِذَلِكَ الَّذِي قَامَتْ عَلَيْهِ الْبَيِّنَةُ هَرَبَ وَتَغَيَّبَ فَطَلَبَ فَلَمْ يُوجَدْ، أَيَقْضِي عَلَيْهِ وَهُوَ غَائِبٌ؟. فَقَالَ مَالِكٌ اُكْتُبْ إلَيْهِ إذَا ثَبَتَ عِنْدَك الْحُجَجُ وَسَأَلْته عَمَّا تُرِيدُ أَنْ تَسْأَلَهُ عَنْهُ، وَاسْتَقَرَّ عِنْدَك عِلْمُ كُلِّ مَا تُرِيدُ أَنْ تَسْأَلَهُ عَنْهُ، فَلَمْ تَبْقَ لَهُ حُجَّةٌ فَتَغَيَّبَ فَاقْضِ عَلَيْهِ وَهُوَ غَائِبٌ، قَالَ ابْنُ رُشْدٍ: هَذَا كَمَا قَالَ إذَا تَغَيَّبَ بَعْدَ أَنْ اسْتَوْفَى جَمِيعَ حُجَجِهِ وَهَرَبَ فِرَارًا مِنْ الْقَضَاءِ عَلَيْهِ أَنَّهُ يُقْضَى عَلَيْهِ وَيُعْجِزُهُ، وَلَا يَكُونُ لَهُ إذَا قَدِمَ أَنْ يَقُومَ بِحُجَّةٍ. بِمَنْزِلَةِ أَنْ لَوْ قَضَى عَلَيْهِ وَهُوَ حَاضِرٌ إلَّا عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ الْمَحْكُومَ عَلَيْهِ إذَا أَتَى بِحُجَّةٍ لَهَا وَجْهٌ بَعْدَ الْحُكْمِ عَلَيْهِ تُسْمَعُ مِنْهُ، وَأَمَّا إنْ هَرَبَ وَتَغَيَّبَ قَبْلَ أَنْ يَسْتَوْفِيَ جَمِيعَ حُجَجِهِ فَالْوَاجِبُ فِي ذَلِكَ أَنْ يَتَلَوَّمَ لَهُ، فَإِنْ لَمْ يَخْرُجْ وَتَمَادَى عَلَى تَغَيُّبِهِ وَاخْتِفَائِهِ قَضَى عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَقْطَعَ حُجَّتَهُ.
مَسْأَلَةٌ:
وَذَكَرَ الْفَقِيهُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْبَاجِيُّ فِي وَثَائِقِهِ فِي بَابِ تَطْلِيقِ الْمَرْأَةِ نَفْسَهَا عَلَى زَوْجِهَا بِشَرْطِ الْمَغِيبِ، أَنَّهُ لابد مِنْ التَّصْرِيحِ فِي الْحُكْمِ بِأَسْمَاءِ الشُّهُودِ مِنْ أَجْلِ أَنَّ الْحُجَّةَ مُرْجَاةٌ لِلْغَائِبِ فِي قَوْلِ ابْنِ الْقَاسِمِ، وَبِهِ الْحُكْمُ، فَإِنْ لَمْ يُصَرِّحْ عَنْ الشُّهُودِ فِيهِ نَفَذَ الْحُكْمُ، وَلَمْ يَكُنْ لِغَيْرِهِ أَنْ يَنْقُضُهُ، وَإِنْ كَانَ فِي غَيْرِ الطَّلَاقِ يَعْنِي مِنْ الدُّيُونِ وَنَحْوِهَا مِمَّا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ، قَالَ: وَإِذَا كَانَ الْحُكْمُ عَلَى الْغَائِبِ فلابد أَنْ يَكْشِفَ فِي تَسْجِيلِهِ عَنْ أَسْمَاءِ الشُّهُودِ لِيَعْرِفَ الْغَائِبُ مَنْ شَهِدَ عَلَيْهِ، وَفِي مَنْ يَدْفَعُ، وَكَذَلِكَ يَلْزَمُهُ أَنْ يَفْعَلَ فِي كُلِّ مَا يَنْبَغِي فِيهِ إعْذَارٌ، فَإِنْ وَقَعَ الْحُكْمُ مُجْمَلًا، وَلَمْ يَكْشِفْ عَنْ أَسْمَاءِ الشُّهُودِ فَلَيْسَ يُنْقَضُ الْحُكْمُ وَهُوَ تَامٌّ، وَيُكْرَهُ لَهُ ذَلِكَ إنْ لَمْ يَفْعَلْهُ، وَإِنْ فَعَلَهُ لَزِمَ الْحُكْمُ وَيُقَالُ لِلْمَحْكُومِ عَلَيْهِ: اذْهَبْ إلَى الْحَاكِمِ الَّذِي حَكَمَ عَلَيْك يَكْشِفُ عَمَّا حَكَمَ بِهِ عَلَيْك، هَكَذَا هُوَ فِي كِتَابِ الْأَقْضِيَةِ مِنْ الْمُسْتَخْرَجَةِ، وَالْقَضَاءُ بِذَلِكَ نَافِذٌ.
وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: الْكَشْفُ عَنْ أَسْمَاءِ الشُّهُودِ أَحْسَنُ؛ لِأَنَّهُ يَتَوَجَّهُ إلَى الْقَاضِي فَيَجِدُهُ قَدْ مَاتَ فَيَبْطُلُ حَقُّهُ، فَلَا يَجِبُ أَنْ يَكُونَ الْحُكْمُ إلَّا كَامِلًا، وَذَكَرَ ابْنُ سَحْنُونٍ عَنْ أَبِيهِ فِي كِتَابِ الْقَضَاءِ إنْ كَانَ الْحُكْمُ عَلَى غَائِبٍ فلابد مِنْ التَّصْرِيحِ بِأَسْمَاءِ الشُّهُودِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ لِسَحْنُونٍ خِلَافُ هَذَا مِنْ (مُفِيدِ الْحُكَّامِ).

.فَصْلٌ فِي إرْجَاءِ الْحُجَّةِ لِلْغَائِبِ:

قَالَ ابْنُ سَهْلٍ: إرْجَاءُ الْحُجَّةِ لِلْغَائِبِ فِيمَا يُحْكَمُ بِهِ عَلَيْهِ أَصْلٌ مَعْمُولٌ بِهِ عِنْدَ الْحُكَّامِ وَالْقُضَاةِ، وَلَا يَنْبَغِي الْعُدُولُ عَنْهُ، وَلَا الْحُكْمُ بِغَيْرِهِ، إذْ هُوَ كَالْإِجْمَاعِ فِي الْمَذْهَبِ. وَذُكِرَ عَنْ سَحْنُونٍ أَنَّهُ لَا تُرْجَى لَهُ حُجَّةٌ وَهُوَ ضَعِيفٌ لَا يُوجَدُ عَنْهُ فِي الْأُصُولِ، وَإِنَّمَا رِوَايَتُهُ فِي حَوَاشِي الْمُدَوَّنَاتِ الْمَسْمُوعَةِ عَلَى ابْنِ وَضَّاحٍ أَوْ عَلَى رِوَايَةٍ مِنْهَا أَدْخَلَهَا ابْنُ الْهِنْدِيِّ فِي وَثَائِقِهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
وَعَنْ سَحْنُونٍ فِي كِتَابِ ابْنِهِ وَفِي (الْعُتْبِيَّةِ) خِلَافُهُ عَلَى مَا عَلَيْهِ جَمَاعَتُهُمْ وَجَرَى بِهِ الْعَمَلُ مِنْ فَتْوَاهُمْ، وَلِابْنِ الْمَاجِشُونِ فِي ذَلِكَ تَنْوِيعٌ فِي كِتَابِ ابْنِ حَبِيبٍ، وَإِرْجَاءُ الْحُجَّةِ مُصَرَّحٌ بِهِ فِي أُصُولِنَا الْوَاضِحَةِ وَغَيْرِهَا وَهُوَ فِي الْمُدَوَّنَةِ فِي ثَانِي النِّكَاحِ وَفِي الْخُلْعِ وَفِي كِتَابِ الشُّفْعَةِ وَغَيْرِهَا. اُنْظُرْ الثَّانِي مِنْ أَحْكَامِ ابْنِ سَهْلٍ فِي رَسْمِ مَطَاحِنَ وَرِثَتْهَا زَوْجَةٌ وَابْنَانِ غَائِبَانِ وَفِي (مُفِيدِ الْحُكَّامِ) أَنَّ ابْنَ الْمَاجِشُونِ وَأَصْبَغَ يَرَيَانِ أَنَّهُ لَا تُرْجَى حُجَّةٌ لِغَائِبٍ. وَذَلِكَ أَنَّ مِنْ أَصْلِهِمَا أَنْ يُقَدِّمَ الْقَاضِي لَهُ وَكِيلًا يَقُومُ بِحُجَّتِهِ وَيُعْذِرُ إلَيْهِ، فَهُوَ عِنْدَهُمَا كَالْحَضَرِ، وَابْنُ الْقَاسِمِ يَرَى إرْجَاءَ الْحُجَّةِ لِلْغَائِبِ؛ لِأَنَّ مِنْ أَصْلِهِ أَنَّهُ لَا يُقِيمُ لَهُ وَكِيلًا، وَعَلَى هَذَا يَجْرِي الْخِلَافُ فِي تَسْمِيَةِ الشُّهُودِ فِي الْحُكْمِ عَلَيْهِ، وَأَنَّهُ إنْ لَمْ يُسَمِّهِمْ فَالْحُكْمُ مَفْسُوخٌ وَيُسْتَأْنَفُ الْخِصَامُ وَالصَّبِيُّ كَالْغَائِبِ.
وَفِي الْمُدَوَّنَةِ فِي كِتَابِ الْقِسْمَةِ لَيْسَ لِلْقَاضِي أَنْ يُوَكِّلَ لِلْغَائِبِ مَنْ يُعْذِرُ إلَيْهِ فِي شَهَادَةِ الَّذِينَ شَهِدُوا عَلَيْهِ، وَلَا يُقِيمُ لِصَبِيٍّ، وَلَا لِغَائِبٍ وَكِيلًا يَقُومُ بِحُجَّتِهِمَا.
وَفِي الْوَاضِحَةِ خِلَافُهُ مِنْ قَوْلِ عَبْدِ الْمَلِكِ، وَكَذَلِكَ فِي سَمَاعِ أَصْبَغَ مِنْ كِتَابِ الْأَقْضِيَةِ.

.الرُّكْنُ السَّادِسُ فِي كَيْفِيَّةِ الْقَضَاءِ:

.الْقِسْمُ الْأَوَّلُ فِي مَعْرِفَةِ تَصَرُّفَاتِ الْحُكَّامِ:

الرُّكْنُ السَّادِسُ فِي كَيْفِيَّةِ الْقَضَاءِ. وَمَعْرِفَةُ ذَلِكَ تَتَوَقَّفُ عَلَى الْعِلْمِ بِتِسْعَةِ أَقْسَامٍ.
الْقِسْمُ الْأَوَّلُ فِي مَعْرِفَةِ تَصَرُّفَاتِ الْحُكَّامِ وَاصْطِلَاحِهِمْ فِي الْأَحْكَامِ وَفِيهِ فُصُولٌ:
الْأَوَّلُ: فِي تَقْرِيرَاتِ الْحُكَّامِ عَلَى الْوَقَائِعِ وَمَا هُوَ مِنْهَا حُكْمٌ وَمَا لَيْسَ بِحُكْمٍ.
الثَّانِي: فِي بَيَانِ الْفَرْقِ بَيْنَ تَصَرُّفَاتِ الْحُكَّامِ الَّتِي هِيَ حُكْمٌ لَا يَجُوزُ تَعَقُّبُهَا وَاَلَّتِي لَيْسَتْ بِحُكْمٍ وَيَجُوزُ تَعَقُّبُهَا.
الثَّالِثُ: فِي بَيَانِ الْمَوَاضِعِ الَّتِي تَفْتَقِرُ إلَى الْحَاكِمِ وَمَا لَا تَفْتَقِرُ وَمَا اُخْتُلِفَ فِيهِ، وَبَيَانُ أَبْوَابِ الْفِقْهِ الَّتِي يَدْخُلُهَا الْحُكْمُ اسْتِقْلَالًا أَوْ تَضَمُّنًا.
الرَّابِعُ: الْفَرْقُ بَيْنَ أَلْفَاظِ الْحُكْمِ الَّتِي جَرَتْ بِهَا عَادَةُ الْحُكَّامِ فِي التَّسْجِيلَاتِ وَبَيَانِ أَحْكَامِهَا وَمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا.
الْخَامِسُ: فِي الْفَرْقِ بَيْنَ الثُّبُوتِ وَالْحُكْمِ.
السَّادِسُ: فِي مَعْنَى تَنْفِيذِ الْقَاضِي حُكْمَ نَفْسِهِ وَمَعْنَى تَنْفِيذِهِ حُكْمَ غَيْرِهِ.
السَّابِعُ: فِي بَيَانِ مَا يَدُلُّ عَلَى صُدُورِ الْحُكْمِ.
الثَّامِنُ: فِي تَنْبِيهَاتٍ يَنْبَغِي لِلْحَاكِمِ التَّنَبُّهُ لَهَا بِمَا يَشْهَدُ بِهِ عَلَى نَفْسِهِ فِي التَّسْجِيلَاتِ، وَمَا يَمْتَنِعُ الْإِشْهَادُ بِهِ.
التَّاسِعُ: فِي بَيَانِ الْحُكْمِ الْمُعَلَّقِ.

.الْفَصْلُ الْأَوَّلُ فِي تَقْرِيرِ الْحَاكِمِ مَا رُفِعَ إلَيْهِ:

اخْتَلَفَ أَهْلُ الْمَذْهَبِ هَلْ يَكُونُ تَقْرِيرُ الْحَاكِمِ عَلَى الْوَاقِعَةِ حُكْمًا بِالْوَاقِعِ فِيهَا أَمْ لَا؟ كَمَا إذَا زَوَّجَتْ امْرَأَةٌ نَفْسَهَا بِغَيْرِ إذْنِ وَلِيِّهَا وَرُفِعَ ذَلِكَ إلَى قَاضٍ يَرَاهُ جَائِزًا فَأَقَرَّهُ وَأَجَازَهُ، ثُمَّ عُزِلَ قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: لَيْسَ لِغَيْرِهِ فَسْخُهُ، وَإِقْرَارُهُ عَلَيْهِ كَالْحُكْمِ بِهِ وَاخْتَارَهُ ابْنُ مُحْرِزٍ وَهُوَ ظَاهِرُ الْمُدَوَّنَةِ، يُرِيدُ أَنَّ ذَلِكَ كَالْحُكْمِ فَلَا يَعْتَرِضُهُ قَاضٍ آخَرُ.
وَقَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ: لَيْسَ بِحُكْمٍ، وَلِغَيْرِهِ فَسْخُهُ وَهَذَا بِخِلَافِ مَا لَوْ رُفِعَ لَهُ فَقَالَ: لَا أُجِيزُ النِّكَاحَ بِغَيْرِ وَلِيٍّ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَحْكُمَ بِفَسْخِهِ، فَهَذِهِ فَتْوَى، وَلِغَيْرِهِ الْحُكْمُ فِي تِلْكَ الْوَاقِعَةِ بِمَا يَرَاهُ.
فَرْعٌ:
وَكَذَلِكَ إذَا قَالَ لَا أُجِيزُ الشَّاهِدَ وَالْيَمِينَ فَهُوَ فَتْوَى اتِّفَاقًا.
فَرْعٌ:
قَالَ ابْنُ يُونُسَ قَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ: إذَا قِيلَ: إنَّ التَّخْيِيرَ طَلْقَةٌ فَاخْتَارَتْ نَفْسَهَا فَتَزَوَّجَهَا قَبْلَ زَوْجٍ، فَرُفِعَ إلَى حَاكِمٍ يَرَى ذَلِكَ فَأَقَرَّهُ فَلِمَنْ بَعْدَهُ فَسْخُ الْعَقْدِ، وَيَجْعَلُ طَلَاقَهَا ثَلَاثًا، وَإِنْ كَانَ الْحَاكِمُ الْأَوَّلُ قَدْ أَشْهَدَ بِذَلِكَ، وَكَتَبَ بِهِ، وَهَذِهِ الزِّيَادَةُ مِنْ (مُخْتَصَرِ الْوَاضِحَةِ) لِفَضْلِ بْنِ سَلَمَةَ.
فَرْعٌ:
وَإِنْ عَلَّقَ الطَّلَاقَ أَوْ الْعَتَاقَ عَلَى الْمِلْكِ أَوْ تَزَوَّجَ وَهُوَ مُحْرِمٌ فَرُفِعَ ذَلِكَ إلَى حَاكِمٍ فَأَقَرَّ النِّكَاحَ عَلَى حَالِهِ وَأَقَرَّ الْمَمْلُوكَ رَقِيقًا وَأَجَازَ نِكَاحَ الْمُحْرِمِ وَأَقَرَّهُ ثُمَّ رُفِعَ إلَى غَيْرِهِ فَلَهُ أَنْ يَحْكُمَ فِي ذَلِكَ بِمَا رَآهُ عَلَى قَوْلِ عَبْدِ الْمَلِكِ.
فَرْعٌ:
وَكَذَلِكَ لَوْ أَقَامَ شَاهِدًا عَلَى الْقَتْلِ فَرُفِعَ لِمَنْ لَا يَرَى الْقَسَامَةَ فَلَمْ يَحْكُمْ بِهَا فَلِغَيْرِهِ الْحُكْمُ؛ لِأَنَّ سُكُوتَ الْأَوَّلِ عَنْ الْحُكْمِ لَيْسَ بِحُكْمٍ.
فَرْعٌ:
فَلَوْ قَالَ الْحَاكِمُ لَا أَسْمَعُ بَيِّنَتَك؛ لِأَنَّك حَلَفْت قَبْلَهَا مَعَ قُدْرَتِك عَلَى إحْضَارِهَا، أَوْ قَالَ: لَا أَرُدُّ الْيَمِينَ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، أَوْ قَالَ: لَا أَحْكُمُ بِالشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ أَوْ لَا أُحَلِّفُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهَا يَمِينُ تُهْمَةٍ، وَمَذْهَبِي أَنَّهَا لَا تَجِبُ، فَهَذَا كُلُّهُ لَيْسَ بِحُكْمٍ شَرْعِيٍّ، وَلِغَيْرِهِ مِنْ الْحُكَّامِ أَنْ يَفْعَلَ مَا تَرَكَهُ، وَهَذَا كُلُّهُ عَلَى مَا رَأَى عَبْدُ الْمَلِكِ كَمَا ذَكَرَهُ ابْنُ يُونُسَ.
تَنْبِيهٌ:
أَمَّا لَوْ حَكَمَ حَاكِمٌ بِشَيْءٍ فَرُفِعَ لِلثَّانِي وَهُوَ لَا يَعْتَقِدُ صِحَّتَهُ، فَهَلْ يَنْقُضُهُ وَيَحْكُمُ فِيهِ بِرَأْيِهِ أَوْ لَا؟. فِيهِ خِلَافٌ وَتَفْصِيلٌ، تَقَدَّمَ فِي نَقْضِ أَحْكَامِ الْقَاضِي.

.الْفَصْلُ الثَّانِي فِي تَصَرُّفَاتِ الْحَاكِمِ الَّتِي تَسْتَلْزِمُ الْحُكْمَ:

وَمَا تَسْتَلْزِمُهُ وَالْمَوَاضِعِ الَّتِي يَتَعَلَّقُ حُكْمُ الْحَاكِمِ فِيهَا بِمَا بَاشَرَهُ حُكْمُهُ، وَلَا يَتَنَاوَلُ عَوَارِضَ تِلْكَ الْوَاقِعَةِ، وَبَيَانِ التَّصَرُّفَاتِ الَّتِي تُشْبِهُ الْحُكْمَ، وَلَيْسَتْ بِحُكْمٍ. اعْلَمْ أَنَّ فِعْلَ الْحَاكِمِ فِي الْوَاقِعَةِ قَدْ يَسْتَلْزِمُ الْحُكْمَ، وَقَدْ يُعَرَّى عَنْ الْحُكْمِ أَلْبَتَّةَ. فَالْأَوَّلُ كُلُّ مَا حَكَمَ فِيهِ بِالصِّحَّةِ أَوْ الْمُوجِبِ، وَذَلِكَ مِثْلُ أَنْ يَقُولَ الْحَاكِمُ قَدْ حَكَمْت بِصِحَّةِ بَيْعِ الْعَبْدِ الَّذِي أَعْتَقَهُ مَنْ أَحَاطَ الدَّيْنُ بِمَالِهِ، فَالْحُكْمُ بِصِحَّةِ الْبَيْعِ عَلَى سَبِيلِ الْمُطَابَقَةِ، وَيَدُلُّ ذَلِكَ بِالِالْتِزَامِ عَلَى الْحُكْمِ بِإِبْطَالِ الْعِتْقِ الْمُتَقَدِّمِ عَلَى الْبَيْعِ فَإِنَّهُ يَلْزَمُ مِنْ صِحَّةِ الْبَيْعِ بُطْلَانُ الْعِتْقِ.
فَرْعٌ:
وَذَلِكَ إذَا بَاعَ الْحَاكِمُ هَذَا الْعَبْدَ الَّذِي أَعْتَقَهُ مَنْ أَحَاطَ الدَّيْنُ بِمَالِهِ فَإِنَّ إقْدَامَهُ عَلَى الْبَيْعِ حُكْمٌ بِبُطْلَانِ الْعِتْقِ.
فَرْعٌ:
وَكَذَلِكَ إقْدَامُ الْحَاكِمِ عَلَى تَزْوِيجِ امْرَأَةٍ تَزَوَّجَتْ زَوَاجًا يَسْتَحِقُّ الْفَسْخَ، فَإِنَّ نَفْسَ الْعَقْدِ عَلَيْهَا يَسْتَلْزِمُ الْحُكْمَ بِفَسْخِ نِكَاحِهَا الْمُتَقَدِّمِ، يُرِيدُ أَنَّ الْحَاكِمَ زَوَّجَهَا قَبْلَ دُخُولِ الْأَوَّلِ بِهَا.
فَرْعٌ:
وَكَذَلِكَ بَيْعُ الْحَاكِمِ مِلْكَ الْمِدْيَانِ فَإِنَّهُ حُكْمٌ بِنَقْلِ الْمِلْكِ عَنْهُ وَخُرُوجِهِ مِنْ يَدِهِ؛ لِأَنَّ نَقْلَ الْأَمْلَاكِ وَفَسْخَ الْعُقُودِ لَا شَكَّ أَنَّهُ حُكْمٌ، وَالثَّانِي كَسَمَاعِ الدَّعْوَى وَالْجَوَابِ وَسَمَاعِ الشُّهُودِ وَتَزْوِيجِ يَتِيمَةٍ تَحْتَ حَجْرِهِ أَوْ بَيْعِ سِلْعَةٍ لَهَا، فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يَدُلُّ عَلَى الْحُكْمِ أَلْبَتَّةَ، بَلْ لِغَيْرِهِ مِنْ الْحُكَّامِ أَنْ يَنْظُرَ فِيهِ، فَإِنْ كَانَ مُخْتَلًّا فِي بَعْضِ شُرُوطِهِ عِنْدَ الْحَاكِمِ الثَّانِي فَلَهُ فَسْخُهُ.
فَرْعٌ مِنْهُ: اعْلَمْ أَنَّ الْقَاضِيَ إذَا حَكَمَ بِفَسْخِ نِكَاحٍ أَوْ بَيْعٍ أَوْ إجَارَةٍ وَشِبْهِ ذَلِكَ لِمُوجِبٍ مِنْ مُوجِبَاتِ الْفَسْخِ، وَذَلِكَ فِي مَسْأَلَةٍ مُخْتَلَفٍ فِيهَا، وَمَثَارُ الْخِلَافِ فِيهَا اجْتِهَادِيٌّ، أَيْ لَيْسَ فِيهَا نَصٌّ جَلِيٌّ يَمْنَعُ مِنْ الِاجْتِهَادِ، فَإِنَّ حُكْمَ الْحَاكِمِ لَا يَتَعَدَّى ذَلِكَ الْفَسْخَ، وَأَمَّا مَا يَتْبَعُ ذَلِكَ مِنْ الْأَحْكَامِ الْعَوَارِضِ فَذَلِكَ الْقَاضِي بِالنِّسْبَةِ إلَيْهَا كَالْمُفْتِي، وَكَذَلِكَ لَوْ حَدَثَتْ قَضِيَّةٌ أُخْرَى مِثْلُ الْقَضِيَّةِ الَّتِي حَكَمَ فِيهَا بِالْفَسْخِ فِي وِلَايَةِ ذَلِكَ الْقَاضِي، وَلَمْ تُرْفَعْ إلَيْهِ أَوْ رُفِعَتْ إلَيْهِ، وَلَمْ يَنْظُرْ فِيهَا حَتَّى عُزِلَ أَوْ مَاتَ فَإِنَّهَا تَحْتَاجُ إلَى إنْشَاءِ نَظَرٍ آخَرَ مِنْ الْقَاضِي الْأَوَّلِ، أَوْ مِنْ الْقَاضِي الثَّانِي، وَلَا يَكُونُ حُكْمُ الْقَاضِي الْأَوَّلِ مُتَنَاوِلًا إلَّا لِمَا بَاشَرَهُ بِالْحُكْمِ وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ حُكْمَ الْقَاضِي لَا يَتَعَلَّقُ إلَّا بِالْجُزْئِيَّاتِ دُونَ الْكُلِّيَّاتِ؛ لِأَنَّ مُعْظَمَ مَا يَنْظُرُ الْقَاضِي فِيهِ يَحْتَاجُ فِيهِ إلَى بَيِّنَةٍ وَالْبَيِّنَةُ إنَّمَا تَشْهَدُ بِمَا رَأَتْهُ أَوْ شَافَهَتْهُ، وَذَلِكَ أَمْرٌ جُزْئِيٌّ هَذَا هُوَ غَالِبُ مَا تَشْهَدُ بِهِ الْبَيِّنَةُ وَيَحْكُمُ الْقُضَاةُ بِهِ.
فَرْعٌ:
إذَا ثَبَتَ مَا قَرَّرْنَاهُ فَإِنَّ الْقَاضِيَ إذَا فَسَخَ نِكَاحًا بَيْنَ زَوْجَيْنِ بِسَبَبِ أَنَّ أَحَدَهُمَا رَضَعَ أُمَّ الْآخَرِ وَهُوَ كَبِيرٌ، فَالْفَسْخُ ثَابِتٌ لَا يَنْقُضُهُ أَحَدٌ، وَلَكِنَّهُ إنْ تَزَوَّجَهَا بَعْدَ ذَلِكَ فَرُفِعَ أَمْرُهُمَا إلَى غَيْرِهِ مِمَّنْ وَلِيَ بَعْدَهُ لَمْ يَمْنَعْهُ ذَلِكَ الْفَسْخُ أَنْ يَجْتَهِدَ وَيُبِيحَهَا لَهُ إنْ أَدَّاهُ اجْتِهَادُهُ إلَى أَنَّ رَضَاعَ الْكِبَارِ لَا يَنْشُرُ الْحُرْمَةَ، وَكَذَا لَوْ رُفِعَ إلَيْهِ نَفْسِهِ وَبِغَيْرِ اجْتِهَادِهِ فَلَهُ أَنْ يُبِيحَهَا لَهُ.
فَرْعٌ:
وَكَذَا مَنْ تَزَوَّجَ امْرَأَةً فِي عِدَّتِهَا وَرُفِعَ ذَلِكَ إلَى قَاضٍ مَالِكِيٍّ، فَإِنَّهُ يَرَى مَعَ الْفَسْخِ تَأْبِيدَ التَّحْرِيمِ وَمَعَ هَذَا فَإِنَّ حُكْمَهُ لَا يَتَعَدَّى الْفَسْخَ فَإِذَا تَزَوَّجَهَا بَعْدَ ذَلِكَ وَرُفِعَ أَمْرُهُمَا إلَى قَاضٍ آخَرَ لَا يَرَى تَأْبِيدَ التَّحْرِيمِ لَمْ يَكُنْ الْقَضَاءُ الْأَوَّلُ مَانِعًا مِنْ أَنْ يُبِيحَهَا لَهُ، وَيَكُونُ الْحُكْمُ فِي حَقِّ الْمَرْأَتَيْنِ فِي هَذَا الْفَرْعِ وَاَلَّذِي قَبْلَهُ حُكْمُ امْرَأَتَيْنِ لَمْ يَتَقَدَّمْ عَلَيْهِمَا حُكْمٌ.
فَرْعٌ:
وَكَذَلِكَ لَوْ جَمَعَ رَجُلٌ فِي عَقْدِ النِّكَاحِ بَيْنَ النِّكَاحِ وَالْبَيْعِ أَوْ بَيْنَ النِّكَاحِ وَالْإِجَارَةِ وَرُفِعَ ذَلِكَ إلَى قَاضٍ مَالِكِيٍّ فَحَكَمَ بِالْفَسْخِ عَلَى مَشْهُورِ الْمَذْهَبِ لِرَأْيٍ رَآهُ أَوْ لِتَقْلِيدِهِ ابْنَ الْقَاسِمِ فِي ذَلِكَ، ثُمَّ تَزَوَّجَ ذَلِكَ الرَّجُلُ تِلْكَ الْمَرْأَةَ بِعَيْنِهَا عَلَى ذَلِكَ الْوَجْهِ الْفَاسِدِ الَّذِي حَكَمَ الْقَاضِي بِفَسْخِهِ بَيْنَهُمَا، فَرُفِعَ أَمْرُهُمَا إلَى الْقَاضِي الْأَوَّلِ أَوْ إلَى قَاضٍ غَيْرِهِ، فَإِنَّ حُكْمَ الْقَاضِي الْأَوَّلِ لَا يَتَنَاوَلُ فَسَادَ هَذَا الْفِعْلِ الثَّانِي، بَلْ إذَا أَدَّى نَظَرُ الْقَاضِي الثَّانِي إلَى خِلَافِ مَا أَدَّى إلَيْهِ اجْتِهَادُ الْأَوَّلِ، إمَّا مِنْ إمْضَاءِ النِّكَاحِ أَوْ الْبَيْعِ مُطْلَقًا أَوْ بِشَرْطِ أَنْ يَبْقَى لِلْبُضْعِ رُبُعُ دِينَارٍ أَمْضَاهُ. انْتَهَى مِنْ كَلَامِ الْقَرَافِيِّ رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِ.

.فَصْلٌ الْمَوَاضِعِ الَّتِي تَصَرُّفَاتُ الْحُكَّامِ فِيهَا لَيْسَتْ بِحُكْمٍ:

فَصْلٌ: قَالَ الْقَرَافِيُّ فِي الْمَوَاضِعِ الَّتِي تَصَرُّفَاتُ الْحُكَّامِ فِيهَا لَيْسَتْ بِحُكْمٍ، وَلِغَيْرِهَا مِنْ الْحُكَّامِ تَغْيِيرُهَا وَالنَّظَرُ فِيهَا: وَهِيَ أَنْوَاعٌ كَثِيرَةٌ، وَقَدْ الْتَبَسَ أَمْرُ ذَلِكَ عَلَى كَثِيرٍ مِنْ الْفُقَهَاءِ، فَإِنَّ الْحُكْمَ لَا يَجُوزُ نَقْضُهُ وَغَيْرُهُ يَجُوزُ نَقْضُهُ وَأَنَا أَذْكُرُ مِنْ جُمْلَةِ مَا ذَكَرُوهُ عِشْرِينَ نَوْعًا وَهِيَ عَامَّةُ تَصَرُّفَاتِهِمْ فَيَسْلَمُ فِيهَا مِنْ الْغَلَطِ.
النَّوْعُ الْأَوَّلُ: الْعُقُودُ كَالْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ فِي أَمْوَالِ الْأَيْتَامِ وَالْغَائِبِينَ وَالْمَجَانِينَ، وَعَقْدِ النِّكَاحِ عَلَى مَنْ بَلَغَ مِنْ الْأَيْتَامِ، وَعَلَى مَنْ هُوَ تَحْتَ الْحَجْرِ مِنْ النِّسَاءِ وَمَنْ لَيْسَ لَهَا وَلِيٌّ، وَعَقْدِ الْإِجَارَةِ عَلَى الْأَمْلَاكِ الْمَحْجُورِ عَلَيْهِمْ، وَنَحْوِ ذَلِكَ، فَهَذِهِ التَّصَرُّفَاتُ لَيْسَتْ حُكْمًا، وَلِغَيْرِهِمْ النَّظَرُ فِيهَا، فَإِنْ وَجَدَهَا بِالثَّمَنِ الْبَخْسِ أَوْ بِدُونِ أُجْرَةِ الْمِثْلِ أَوْ وَجَدَ الْمَرْأَةَ غَيْرَ كُفْءٍ، فَلَهُ نَقْلُ ذَلِكَ عَلَى الْأَوْضَاعِ الشَّرْعِيَّةِ، وَلَا تَكُونُ هَذِهِ التَّصَرُّفَاتُ فِي هَذِهِ الْأَعْيَانِ وَالْمَنَافِعِ حُكْمًا فِي نَفْسِهَا أَلْبَتَّةَ، نَعَمْ قَدْ تَكُونُ حُكْمًا فِي غَيْرِهَا بِأَنْ تَتَوَقَّفَ هَذِهِ التَّصَرُّفَاتُ عَلَى إبْطَالِ تَصَرُّفَاتٍ مُتَقَدِّمَةٍ عَلَى هَذِهِ التَّصَرُّفَاتِ الْوَاقِعَةِ مِنْ الْحَاكِمِ الْآنَ كَتَزْوِيجِهَا بَعْدَ أَنْ تَزَوَّجَتْ مِنْ غَيْرِ هَذَا الزَّوْجِ وَالْحَاكِمُ يَعْلَمُ ذَلِكَ، أَوْ بِيعَ الْعَيْنُ مِنْ رَجُلٍ آخَرَ، وَالْحَاكِمُ يَعْلَمُ ذَلِكَ وَنَحْوُ ذَلِكَ، فَإِنَّ ثُبُوتَ هَذِهِ التَّصَرُّفَاتِ الْأَخِيرَةِ فِي هَذِهِ الْعُقُودِ يَقْتَضِي فَسْخَ تِلْكَ الْعُقُودِ السَّابِقَةِ ظَاهِرًا، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ ذَلِكَ.
النَّوْعُ الثَّانِي: إثْبَاتُ الصِّفَاتِ فِي الذَّوَاتِ نَحْوَ ثُبُوتِ الْعَدَالَةِ عِنْدَ حَاكِمٍ أَوْ الْجُرْحِ، أَوْ أَهْلِيَّةِ الْإِمَامَةِ لِلصَّلَاةِ، أَوْ أَهْلِيَّةِ الْحَضَانَةِ، أَوْ أَهْلِيَّةِ الْوَصِيَّةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ. فَجَمِيعُ إثْبَاتِ الصِّفَاتِ مِمَّا هُوَ مِنْ هَذَا النَّوْعِ لَيْسَ حُكْمًا، وَلِغَيْرِهِ مِنْ الْحُكَّامِ أَنْ لَا يَقْبَلَ ذَلِكَ، وَيَعْتَقِدَ فَسْخَهُ إذَا ثَبَتَ سَبَبُهُ عِنْدَهُ، وَيَقْبَلَ ذَلِكَ الْمَجْرُوحَ إنْ ثَبَتَ عِنْدَهُ عَدَالَتُهُ، وَكَذَلِكَ جَمِيعُ هَذِهِ الصِّفَاتِ.
النَّوْعُ الثَّالِثُ: ثُبُوتُ أَسْبَابِ الْمُطَالَبَاتِ نَحْوَ ثُبُوتِ مِقْدَارِ قِيمَةِ الْمُتْلَفِ فِي الْمُتْلَفَاتِ، وَإِثْبَاتِ الدُّيُونِ عَلَى الْغُرَمَاءِ، وَإِثْبَاتِ النَّفَقَاتِ لِلْأَقَارِبِ وَالزَّوْجَاتِ، وَإِثْبَاتِ أُجْرَةِ الْمِثْلِ فِي مَنَافِعِ الْأَعْيَانِ وَنَحْوِهِ، فَإِنَّ إثْبَاتَ الْحَاكِمِ لِجَمِيعِ هَذِهِ الْأَسْبَابِ لَيْسَ حُكْمًا، وَلِغَيْرِهِ مِنْ الْحُكَّامِ أَنْ يُغَيِّرَ مِقْدَارَ تِلْكَ الْأُجْرَةِ وَتِلْكَ النَّفَقَةِ وَغَيْرِهَا مِنْ الْأَسْبَابِ الْمُقْتَضِيَةِ لِلْمُطَالَبَةِ.
النَّوْعُ الرَّابِعُ: إثْبَاتُ الْحُجَجِ الْمُوجِبَةِ لِثُبُوتِ الْأَسْبَابِ الْمُوجِبَةِ لِلِاسْتِحْقَاقِ، نَحْوَ كَوْنِ الْحَاكِمِ يَثْبُتُ عِنْدَهُ التَّحْلِيفُ مِمَّنْ يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ الْحَلِفُ، وَثُبُوتِ إقَامَةِ الْبَيِّنَاتِ مِمَّنْ أَقَامَهَا، وَثُبُوتِ الْإِقْرَارَاتِ مِنْ الْخُصُومِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، فَإِنَّ هَذِهِ حُجَجٌ تُوجِبُ ثُبُوتَ أَسْبَابٍ مُوجِبَةٍ لِاسْتِحْقَاقِ مُسَبَّبَاتِهَا، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ كَوْنِ الْحَاكِمِ أَثْبَتَهَا أَنْ يَكُونَ حُكْمًا، بَلْ لِغَيْرِهِ أَنْ يَنْظُرَ فِي ذَلِكَ فَيُبْطِلُ أَوْ لَا يُبْطِلُ، بَلْ إذَا اطَّلَعَ فِيهَا عَلَى ذَلِكَ تَعَقَّبَهُ، وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ الْإِثْبَاتُ السَّابِقُ مَانِعًا مِنْ تَعَقُّبِ الْخَلَلِ فِي تِلْكَ الْحُجَجِ.
النَّوْعُ الْخَامِسُ: إثْبَاتُ أَسْبَابِ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ نَحْوِ الزَّوَالِ وَرُؤْيَةِ الْهِلَالِ فِي رَمَضَانَ وَشَوَّالٍ وَذِي الْحِجَّةِ، مِمَّا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ الصَّوْمُ وَوُجُوبُ الْفِطْرِ، أَوْ فِعْلُ النُّسُكِ وَنَحْوُ ذَلِكَ، فَجَمِيعُ إثْبَاتِ ذَلِكَ لَيْسَ بِحُكْمٍ، بَلْ هُوَ كَإِثْبَاتِ الصِّفَاتِ، وَلِلْمَالِكِيِّ أَنْ لَا يَصُومَ فِي رَمَضَانَ إذَا أَثْبَتَهُ الشَّافِعِيُّ بِوَاحِدٍ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِحُكْمٍ، وَإِنَّمَا إثْبَاتُ سَبَبٍ، فَمَنْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ عِنْدَهُ سَبَبًا فَلَا يَلْزَمُهُ أَنْ يُرَتِّبَ عَلَيْهِ حُكْمًا.
النَّوْعُ السَّادِسُ: مِنْ تَصَرُّفَاتِ الْحُكَّامِ الْفَتَاوَى فِي الْعِبَادَاتِ وَغَيْرِهَا مِنْ تَحْرِيمِ الْأَبْضَاعِ، وَإِبَاحَةِ الِانْتِفَاعِ بِطَهَارَةِ الْمِيَاهِ وَنَجَاسَةِ الْأَعْيَانِ فَلَيْسَ ذَلِكَ بِحُكْمٍ، بَلْ لِمَنْ لَا يَعْتَقِدُ ذَلِكَ أَنْ يُفْتِيَ بِخِلَافِ مَا أَفْتَى بِهِ الْحَاكِمُ وَالْإِمَامُ الْأَعْظَمُ، وَكَذَلِكَ إذَا أَمَرَ بِمَعْرُوفٍ وَنَهَى عَنْ مُنْكَرٍ هُوَ يَعْتَقِدُهُ مُنْكَرًا أَوْ مَعْرُوفًا، فَلِمَنْ لَا يَعْتَقِدُ ذَلِكَ أَنْ لَا يَفْعَلَ مِثْلَ فِعْلِهِمْ، إلَّا أَنْ يَدْعُوَهُ الْإِمَامُ لِلْإِنْكَارِ، وَتَكُونَ مُخَالَفَتُهُ شِقَاقًا، فَتَجِبَ الطَّاعَةُ لِذَلِكَ. وَأَمَّا الْحَاكِمُ فَلَا يُسَاعَدُ عَلَى مَا نَعْتَقِدُ نَحْنُ خِلَافَ مَا هُوَ عَلَيْهِ، إلَّا أَنْ تُخْشَى فِتْنَةٌ يَنْهَى الشَّرْعُ عَنْ الْمُسَامَحَةِ فِيهَا.
النَّوْعُ السَّابِعُ: تَنْفِيذَاتُ الْأَحْكَامِ الصَّادِرَةِ عَنْ الْحَاكِمِ فِيمَا تَقَدَّمَ الْحُكْمُ فِيهِ مِنْ غَيْرِ الْمُنَفِّذِ بِأَنْ يَقُولَ ثَبَتَ عِنْدِي أَنَّهُ ثَبَتَ عِنْدَ فُلَانٍ مِنْ الْحُكَّامِ كَذَا، فَهَذَا لَيْسَ بِحُكْمٍ مِنْ الْمُنَفِّذِ أَلْبَتَّةَ، وَكَذَلِكَ إذَا قَالَ ثَبَتَ عِنْدِي أَنَّ فُلَانًا حَكَمَ بِكَذَا فَلَيْسَ حُكْمًا مِنْ هَذَا الْمُثْبِتِ، بَلْ لَوْ اعْتَقَدَ أَنَّ ذَلِكَ الْحُكْمَ عَلَى خِلَافِ الْإِجْمَاعِ صَحَّ مِنْهُ أَنْ يَقُولَ ثَبَتَ عِنْدِي أَنَّهُ ثَبَتَ عِنْدَ فُلَانٍ كَذَا كَذَا؛ لِأَنَّ التَّصَرُّفَ الْفَاسِدَ وَالْحَرَامَ قَدْ يَثْبُتُ عِنْدَ الْحَاكِمِ؛ لِيُرَتِّبَ عَلَيْهِ تَأْدِيبَ ذَلِكَ الْحَاكِمِ أَوْ عَزْلَهُ.
تَنْبِيهٌ:
كُلُّ تَسْجِيلٍ يَتَضَمَّنُ إرْجَاءَ الْحُجَّةِ لِغَائِبٍ أَوْ صَغِيرٍ حَاضِرٍ بَعُدَتْ بَيِّنَتُهُ فَلِلْقَاضِي الثَّانِي تَعَقُّبُهُ بِمَا يَجِبُ، بِخِلَافِ التَّسْجِيلَاتِ الْمُطْلَقَةِ.
النَّوْعُ الثَّامِنُ: تَصَرُّفَاتُ الْحُكَّامِ بِتَعَاطِي أَسْبَابِ الِاسْتِخْلَاصِ وَوُصُولِ الْحُقُوقِ إلَى مُسْتَحَقِّيهَا مِنْ الْحَبْسِ وَالْإِطْلَاقِ، وَأَخْذِ الْكُفَلَاءِ الْأَمْلِيَاءِ، وَأَخْذِ الرُّهُونِ لِذَوِي الْحُقُوقِ وَتَقْدِيرِ مُدَّةِ الْحَبْسِ بِالشُّهُودِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، فَهَذِهِ التَّصَرُّفَاتُ كَيْفَمَا تَقَلَّبَتْ لَيْسَتْ حُكْمًا لَازِمًا، وَلِغَيْرِ الْأَوَّلِ مِنْ الْحُكَّامِ تَغْيِيرُ ذَلِكَ وَإِبْطَالُهُ بِالطُّرُقِ الشَّرْعِيَّةِ عَلَى مَا تَقْتَضِيهِ الْمَصْلَحَةُ شَرْعًا.
النَّوْعُ التَّاسِعُ: التَّصَرُّفَاتُ فِي أَنْوَاعِ الْحُجَجِ بِأَنْ يَقُولَ لَا أَسْمَعُ الْبَيِّنَةَ؛ لِأَنَّك حَلَفْت قَبْلَهَا مَعَ عِلْمِك بِهَا، وَقُدْرَتِك عَلَى إحْضَارِهَا، فَلِغَيْرِهِ مِنْ الْحُكَّامِ أَنْ يَفْعَلَ مَا تَرَكَهُ وَقَدْ تَقَدَّمَ هَذَا، وَمَا مَعَهُ مِنْ الصُّوَرِ الَّتِي لَيْسَتْ بِحُكْمٍ.
النَّوْعُ الْعَاشِرُ: مِنْ التَّصَرُّفَاتِ: تَوْلِيَةُ النُّوَّابِ فِي الْأَحْكَامِ، وَنَصْبُ الْكُتَّابِ وَالْقُسَّامِ، وَالْمُتَرْجِمِينَ وَالْمُقَوِّمِينَ، وَأُمَنَاءِ الْحُكْمِ لِلْأَيْتَامِ، وَإِقَامَةُ الْحُجَّابِ، وَالْوَزَعَةِ وَنَصْبُ الْأُمَنَاءِ فِي أَمْوَالِ الْغُيَّابِ وَالْمَجَانِينِ. فَهَذَا وَمَا أَشْبَهَهُ لَيْسَ بِحُكْمٍ فِي هَذِهِ الْمَوَاطِنِ، وَلِغَيْرِهِ مِنْ الْحُكَّامِ نَقْضُ ذَلِكَ، وَإِبْدَالُهُ بِالطُّرُقِ الشَّرْعِيَّةِ، لَا بِمُجَرَّدِ التَّشَهِّي وَالْغَرَضِ.
النَّوْعُ الْحَادِيَ عَشَرَ: إثْبَاتُ الصِّفَاتِ فِي الذَّوَاتِ الْمُوجِبَةِ لِلتَّصَرُّفِ فِي الْأَمْوَالِ كَالتَّرْشِيدِ، وَإِزَالَةِ الْحَجْرِ عَنْ الْمُفْلِسِينَ وَالْمَجَانِينَ وَالْمُبَذِّرِينَ وَنَحْوِ ذَلِكَ بِحُكْمٍ يَتَعَذَّرُ نَقْضُهُ، بَلْ لِغَيْرِهِ أَنْ يَنْظُرَ فِي تِلْكَ الْأَسْبَابِ، وَمَتَى ظَهَرَ لَهُ وَتَحَقَّقَ عِنْدَهُ ضِدُّ مَا تَحَقَّقَ عِنْدَ الْأَوَّلِ نُقِضَ ذَلِكَ وَحُكِمَ بِضِدِّهِ، فَيُطْلَقُ مَنْ حُجِرَ عَلَيْهِ وَيُحْجَرُ عَلَى مَنْ أَطْلَقَهُ الْأَوَّلُ؛ لِأَنَّهُ إثْبَاتُ صِفَةٍ لَا إنْشَاءُ حُكْمٍ.
النَّوْعُ الثَّانِيَ عَشَرَ: مِنْ تَصَرُّفَاتِ الْأَئِمَّةِ الْإِطْلَاقَاتُ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ، وَتَقْدِيرُ مَقَادِيرِهَا فِي كُلِّ عَطَاءٍ، وَالْإِطْلَاقَاتُ مِنْ الْفَيْءِ وَالْخُمُسِ فِي الْجِهَادِ، وَالْإِطْلَاقَاتُ مِنْ أَمْوَالِ الْأَيْتَامِ الَّتِي تَحْتَ أَيْدِي الْحُكَّامِ عَلَى مَصَالِحِ الْأَيْتَامِ، وَالْإِطْلَاقَاتُ فِي الْأَرْزَاقِ لِلْقُضَاةِ وَالْعُلَمَاءِ وَأَئِمَّةِ الصَّلَاةِ وَالْقُسَّامِ وَأَرْبَابِ الْبُيُوتِ وَالصُّلَحَاءِ، وَإِطْلَاقَاتُ الْإِقْطَاعَاتِ لِلْأَجْنَادِ وَغَيْرِهِمْ، فَهَذَا كُلُّهُ لَيْسَ حُكْمًا، وَلِغَيْرِهِ إذَا رُفِعَ إلَيْهِ أَنْ يَنْظُرَ بِمَا يَرَاهُ مِنْ الطُّرُقِ الشَّرْعِيَّةِ.
النَّوْعُ الثَّالِثَ عَشَرَ: اتِّخَاذُ الْأَحْمِيَةِ مِنْ الْأَرَاضِي الْمُشْتَرَكَةِ بَيْنَ عَامَّةِ الْمُسْلِمِينَ تَرْعَى فِيهَا إبِلُ الصَّدَقَةِ وَغَيْرُهَا، كَمَا فَعَلَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَهَذَا لَيْسَ حُكْمًا، وَلِغَيْرِهِ بَعْدَ أَنْ يُبْطِلَ ذَلِكَ الْحِمَى وَيَفْعَلَ فِي تِلْكَ الْأَرْضِ مَا تَقْتَضِيهِ الْمَصْلَحَةُ الشَّرْعِيَّةُ.
النَّوْعُ الرَّابِعَ عَشَرَ: تَأْمِيرُ الْأُمَرَاءِ عَلَى الْجُيُوشِ وَالسَّرَايَا لَيْسَ بِحُكْمٍ، فَقَدْ عَزَمَ الصَّحَابَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ عَلَى رَدِّ جَيْشِ أُسَامَةَ، وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَهَّزَهُ وَهُوَ مَرِيضٌ فَنَفَذَهُ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لِمَا ظَهَرَ لَهُ أَنَّ تَنْفِيذَهُ هُوَ الْمَصْلَحَةُ؛ لِأَنَّ تَنْفِيذَهُ عَقِيبَ مَوْتِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدُلُّ عَلَى اجْتِمَاعِ كَلِمَةِ الْمُسْلِمِينَ وَقُوَّتِهِمْ عَلَى مَا كَانُوا عَلَيْهِ، وَاهْتِمَامِهِمْ بِالْجُيُوشِ وَالسَّرَايَا.
النَّوْعُ الْخَامِسَ عَشَرَ: تَعْيِينُ أَحَدِ الْخِصَالِ فِي عُقُوبَةِ الْمُحَارِبِينَ وَذَلِكَ التَّعْيِينُ لَيْسَ بِحُكْمٍ، فَلَوْ رُفِعَ لِغَيْرِهِ مِمَّنْ يَرَى التَّخْيِيرَ مُطْلَقًا قَبْلَ التَّنْفِيذِ وَرَأَى الْمَصْلَحَةَ فِي تَعْيِينِ غَيْرِ مَا عَيَّنَهُ الْأَوَّلُ كَانَ ذَلِكَ لَهُ؛ لِأَنَّ تَعْيِينَ الْأَوَّلِ لَيْسَ حُكْمًا شَرْعِيًّا.
النَّوْعُ السَّادِسَ عَشَرَ: تَعْيِينُ مِقْدَارٍ مِنْ التَّعْزِيرَاتِ إذَا رُفِعَ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ الْحَاكِمِ قَبْلَ التَّنْفِيذِ فَرَأَى خِلَافَ ذَلِكَ، فَلَهُ تَعْيِينُ مِقْدَارِهِ، وَإِبْطَالُ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِحُكْمٍ شَرْعِيٍّ بَلْ اجْتِهَادٌ فِي سَبَبٍ هُوَ الْجِنَايَةُ، فَإِذَا ظَهَرَ لِلثَّانِي أَنَّهَا لَا تَقْتَضِي ذَلِكَ فَلَهُ الْحُكْمُ بِمَا يَرَاهُ، وَهَذَا بِخِلَافِ تَعْيِين الْأُسَارَى لِلرِّقِّ وَنَحْوِهِ؛ لِأَنَّهَا مَسْأَلَةُ خِلَافٍ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: إنَّ الْأُسَارَى يُقْتَلُونَ فَقَطْ، وَمَذْهَبُنَا وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ جَوَازُ الِاسْتِرْقَاقِ أَوْ ضَرْبُ الْجِزْيَةِ، فَإِذَا اخْتَارَ أَحَدَهُمَا فَهُوَ حُكْمٌ مِنْهُ بِاَلَّذِي اخْتَارَهُ، وَهُوَ إنْشَاءُ حُكْمٍ فِي مُخْتَلَفٍ فِيهِ، وَكَذَلِكَ كُلُّ خَصْلَةٍ مِنْ الْخِصَالِ الْخَمْسِ الَّتِي يُخَيَّرُ فِيهَا الْإِمَامُ بَيْنَ الْأَسْرِ وَالْمَنِّ وَالْفِدَاءِ وَضَرْبِ الْجِزْيَةِ وَالْقَتْلِ وَالِاسْتِرْقَاقِ، فَاخْتِيَارُهُ لِخَصْلَةٍ مِنْ ذَلِكَ إنْشَاءُ حُكْمٍ فِي مُخْتَلَفٍ فِيهِ، بِخِلَافِ مَقَادِيرِ التَّعْزِيرَاتِ لَيْسَ فِيهَا خِلَافٌ، وَإِنَّمَا هُوَ بِحَسَبِ الْقَائِلِ وَالْمَقُولِ فِيهِ وَالْقَوْلِ، أَوْ وَقَعَ مِنْهُ فِعْلٌ فَالتَّعْزِيرَاتُ بِحَسَبِ عِظَمِهِ وَحَقَارَتِهِ، وَكَذَلِكَ اخْتِيَارُهُ لِخَصْلَةٍ مِنْ عُقُوبَةِ الْمُحَارِبِينَ إنْ وَجَدَ مِنْ الْمُحَارِبِينَ الْقَتْلَ، وَعَيَّنَ الْإِمَامُ الْقَتْلَ فَلَيْسَ ذَلِكَ إنْشَاءُ حُكْمٍ فِي مُخْتَلَفٍ فِيهِ. أَمَّا إذَا عَيَّنَ الْإِمَامُ الْقَتْلَ فِي مُحَارِبٍ لَمْ يُقْتَلْ بَلْ عَيَّنَ الْقَتْلَ لِعِظَمِ رَأْيِهِ وَدَهَائِهِ، وَإِنَّ قَتْلَهُ مَصْلَحَةٌ لِلْمُسْلِمِينَ، فَهَذِهِ مَسْأَلَةُ خِلَافٍ، فَالشَّافِعِيُّ يَمْنَعُ قَتْلَ الْمُحَارِبِ إلَّا إذَا قَتَلَ، وَلَا يَقْطَعُهُ إلَّا إذَا قَطَعَ، فَتَصِيرُ هَذِهِ كَمَسْأَلَةِ الْأُسَارَى فَتَتَعَيَّنُ خَصْلَةٌ مِنْ خِصَالِ عُقُوبَةِ الْمُحَارِبِ، وَيَكُونُ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ إنْشَاءُ حُكْمٍ فِي مُخْتَلَفٍ فِيهِ لَا يَجُوزُ لِغَيْرِهِ نَقْضُهُ، وَكَذَلِكَ تَعْيِينُ أَرْضِ الْعَنْوَةِ لِلْبَيْعِ أَوْ الْقَسْمِ أَوْ الْوَقْفِ إنْشَاءُ حُكْمٍ فِي مُخْتَلَفٍ فِيهِ.
النَّوْعُ السَّابِعَ عَشَرَ: الْأَمْرُ بِقَتْلِ الْجُنَاةِ وَرَدْعِ الطُّغَاةِ إذَا لَمْ يَنْفُذْ، لَيْسَ هُوَ إنْشَاءُ حُكْمٍ فِي مُخْتَلَفٍ فِيهِ، وَلِغَيْرِهِ مِنْ الْقُضَاةِ إذَا اتَّصَلَ بِهِ أَنْ يَنْظُرَ فِي تَحْقِيقِ سَبَبِهِ، إلَّا أَنْ تَكُونَ الْمَسْأَلَةُ مُخْتَلَفًا فِيهَا كَتَارِكِ الصَّلَاةِ وَقَتْلِ الزَّنَادِقَةِ، فَإِنَّهُ إذَا عَيَّنَ الْقَتْلَ، وَحَكَمَ بِهِ كَانَ هَذَا إنْشَاءُ حُكْمٍ فِي مُخْتَلَفٍ فِيهِ، فَلَيْسَ لِغَيْرِهِ نَقْضُهُ بِخِلَافِ قِتَالِ الْبُغَاةِ الْمُجْمَعِ عَلَيْهِ وَنَحْوِهِ فَإِنَّهُ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
النَّوْعُ الثَّامِنَ عَشَرَ: عَقْدُ الصُّلْحِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَالْكُفَّارِ لَيْسَ مِنْ الْمُخْتَلَفِ فِيهِ، بَلْ جَوَازُهُ عِنْدَ سَبَبِهِ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الصُّلْحَ إنَّمَا هُوَ الْتِزَامٌ لِكِفَايَةِ الشَّرِّ حَالَةَ الضَّعْفِ، وَلِغَيْرِهِ بَعْدَهُ أَنْ يَنْظُرَ هَلْ السَّبَبُ يَقْتَضِي ذَلِكَ فَيُبْقِيَهُ أَوْ لَا فَيَنْقُضَهُ وَيُبْطِلَهُ.
النَّوْعُ التَّاسِعَ عَشَرَ: عَقْدُ الْجِزْيَةِ لِلْكُفَّارِ لَا يَجُوزُ نَقْضُهُ لَكِنْ لَيْسَ لِكَوْنِهِ حُكْمًا إنْشَائِيًّا كَالْقَضَاءِ بِصِحَّةِ الْعُقُودِ الْمُخْتَلَفِ فِيهَا؛ بَلْ لِأَنَّ الشَّرْعَ وَضَعَ هَذَا الْعَقْدَ مُوجِبًا لِلِاسْتِمْرَارِ فِي حَقِّ الْمَعْقُودِ لَهُ، وَلِذُرِّيَّتِهِ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، إلَّا أَنْ يَكُونَ وَقَعَ عَلَى وَجْهٍ يَقْتَضِي النَّقْضَ كَعَقْدِهِ لِأَهْلِ دِينٍ لَا يَجُوزُ إقْرَارُهُمْ عَلَى ذَلِكَ، نَحْوَ الزَّنَادِقَةِ وَالْمُرْتَدِّينَ وَنَحْوِهِمْ.
النَّوْعُ الْعِشْرُونَ: تَقْرِيرُ الْخَارِجِ عَلَى الْأَرَضِينَ وَمَا يُؤْخَذُ مِنْ تُجَّارِ الْحَرْبِيِّينَ لَيْسَ بِحُكْمٍ، إنَّمَا هُوَ تَرْتِيبُ مَا تَقْتَضِيهِ الْأَسْبَابُ الْحَاضِرَةُ، فَإِنْ ظَهَرَ لِغَيْرِهِ أَنَّ السَّبَبَ عَلَى خِلَافِ مَا اعْتَقَدَهُ الْأَوَّلُ فَعَلَ غَيْرَ ذَلِكَ، وَإِنْ تَبَيَّنَ أَنَّ الْعَقْدَ عَلَى خِلَافِ الْغِبْطَةِ لِلْمُسْلِمِينَ نَقْضُهُ كَمَا إذَا بَاعَ مَالَ الْيَتِيمِ بِالْبَخْسِ فَإِنَّهُ يُنْقَضُ.

.فَصْلٌ فِي بَيَانِ مَا يَفْتَقِرُ لِحُكْمِ الْحَاكِمِ وَمَا لَا يَفْتَقِرُ إلَيْهِ:

وَبَيَانِ الْمَوَاضِعِ الَّتِي يَدْخُلُهَا الْحُكْمُ وَاَلَّتِي لَا يَدْخُلُهَا. وَالْأَحْكَامُ عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ.

.الْقِسْمُ الْأَوَّلُ: لابد فِيهِ مِنْ حُكْمِ الْحَاكِمِ:

وَهُوَ مَا يَحْتَاجُ إلَى نَظَرٍ وَتَحْرِيرٍ وَبَذْلِ جَهْدٍ فِي تَحْرِيرِ سَبَبِهِ وَمِقْدَارِ مُسَبِّبِهِ، وَذَلِكَ كَالطَّلَاقِ بِالْإِعْسَارِ وَالطَّلَاقِ بِالِاضْطِرَارِ وَالطَّلَاقِ عَلَى الْمَوْلَى؛ لِأَنَّهُ يَفْتَقِرُ إلَى تَحْقِيقِ الْإِعْسَارِ، وَهَلْ هُوَ مِمَّنْ يَلْزَمُهُ الطَّلَاقُ بِعَدَمِ النَّفَقَةِ أَمْ لَا، كَمَا لَوْ تَزَوَّجَتْ فَقِيرًا عَلِمَتْ بِفَقْرِهِ فَإِنَّهَا لَا تَطْلُقُ عَلَيْهِ بِالْإِعْسَارِ بِالنَّفَقَةِ، وَكَذَلِكَ تَحْقِيقُ حَالِهِ، وَهُوَ هَلْ هُوَ مِمَّنْ يُرْجَى لَهُ شَيْءٌ أَمْ لَا؟، وَكَذَلِكَ تَحْقِيقُ صُورَةِ الْإِضْرَارِ، وَكَذَلِكَ يَمِينُ الْمَوْلَى، يُنْظَرُ هَلْ هِيَ لِعُذْرٍ أَوْ لِغَيْرِ عُذْرٍ؟ كَمَنْ حَلَفَ أَنْ لَا يَطَأَهَا وَهِيَ مُرْضِعٌ خَوْفًا عَلَى وَلَدِهِ فَيُنْظَرُ فِيمَا ادَّعَاهُ، فَإِنْ كَانَ مَقْصُودُهُ الْإِضْرَارَ طَلُقَتْ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ لِمَصْلَحَةٍ لَمْ تَطْلُقْ عَلَيْهِ، وَكَذَلِكَ التَّطْلِيقُ عَلَى الْغَائِبِ، وَكَذَلِكَ التَّطْلِيقُ عَلَى الْمُعْتَرِضِ وَنَحْوِ هَؤُلَاءِ.
تَنْبِيهٌ:
إذَا تَقَرَّرَ أَنَّ هَذِهِ الْمَسَائِلَ وَمَا أَشْبَهَهَا لابد فِيهَا مِنْ حُكْمِ الْحَاكِمِ، فَهَلْ صُدُورُ الطَّلَاقِ فِيهَا صَادِرٌ عَنْ الْحُكْمِ أَوْ عَنْ الزَّوْجَةِ أَوْ بَعْضِهِ عَنْ الْحَاكِمِ وَبَعْضِهِ عَنْ الزَّوْجَةِ؟ اُخْتُلِفَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، فَحَكَى ابْنُ سَهْلٍ فِيهَا أَنَّ الْقَاضِيَ أَبَا مُحَمَّدٍ سِرَاجًا، وَكَانَ أَحَدَ الْمُشَاوِرِينَ بِالْأَنْدَلُسِ أَجَابَ فِيهَا أَنَّ الطَّلَاقَ لِلرِّجَالِ إلَّا مَا وَقَعَ فِيهِ تَخْيِيرٌ أَوْ تَمْلِيكٌ، فَذَلِكَ بِيَدِ الْمَرْأَةِ، بِمَا جَعَلَ الزَّوْجُ إلَيْهَا، أَوْ وَضَعَهُ بِيَدِهَا، وَمَا سِوَى ذَلِكَ مِمَّا فِيهِ حُكْمُ الْحَاكِمِ فَالطَّلَاقُ إلَيْهِ. وَأَجَابَ لِلْغَائِبِ فِيهَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ عَتَّابٍ بِجَوَابٍ يَطُولُ ذِكْرُهُ بِحُرُوفِهِ. مُلَخَّصُهُ: أَنَّ مَنْ قَامَتْ فِي مَغِيبِ زَوْجِهَا بِعَدَمِ النَّفَقَةِ وَنَظَرَ فِي أَمْرِهَا بِمَا يَجِبُ النَّظَرُ لِلْغَائِبِ فَإِنَّ الْقَاضِيَ يُبِيحُ لَهَا أَنْ تُطَلِّقَ نَفْسَهَا طَلْقَةً يَمْلِكُ الْغَائِبُ فِيهَا رَجْعَتَهَا إنْ رَجَعَ مُوسِرًا فِي عِدَّتِهَا، وَنَصَّ عَلَى ذَلِكَ ابْنُ الْعَطَّارِ، قَالَ ابْنُ عَتَّابٍ: وَهُوَ مِنْ الْعُلَمَاءِ الْفُقَهَاءِ الْمَوْثُوقِ بِهِمْ: وَلَا مُخَالِفَ لَهُ فِيمَا أَعْلَمُ.
وَالْحُجَّةُ لَهُ قَائِمَةٌ عَنْ السُّنَّةِ وَهُوَ حَدِيثُ بَرِيرَةَ فَقَدْ قَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَنْتِ أَمْلَكُ بِنَفْسِك إنْ شِئْت أَقَمْت مَعَ زَوْجِك، وَإِنْ شِئْت فَارَقْتِيهِ» وَمَعْنَى الْمَسْأَلَةِ السَّابِقَةِ رَاجِعَةٌ إلَى هَذَا الْأَصْلِ وَمُسْتَنْبَطَةٌ مِنْهُ، فَالْحَاكِمُ يَقُولُ لِلْقَائِمَةِ عِنْدَهُ بِعَدَمِ النَّفَقَةِ بَعْدَ كَمَالِ نَظَرِهِ بِمَا يَجِبُ إنْ شِئْت أَنْ تُطَلِّقِي نَفْسَك، وَإِنْ شِئْت التَّرَبُّصَ عَلَيْهِ، فَإِنْ طَلَّقْت أَشْهَدْت عَلَى ذَلِكَ قَالَ ابْنُ عَتَّابٍ: وَهَذَا وَاضِحٌ إلَّا عِنْدَ مَنْ عَانَدَ السُّنَّةَ وَخَالَفَ الْأَئِمَّةَ، وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى مَا قُلْنَا مَا وَقَعَ فِي الْمُدَوَّنَةِ قِيلَ لِابْنِ الْقَاسِمِ لِمَ جَعَلَ مَالِكٌ خِيَارَ الْأَمَةِ بِطَلْقَةٍ بَائِنَةٍ؟. قَالَ: لِأَنَّ كُلَّ فُرْقَةٍ مِنْ قِبَلِ السُّلْطَانِ فَهِيَ تَطْلِيقَةٌ بَائِنَةٌ عِنْدَ مَالِكٍ، وَإِنْ لَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهَا مَالٌ. أَلَا تَرَى أَنَّ الزَّوْجَ إذَا لَمْ يَسْتَطِعْ أَنْ يَمَسَّ امْرَأَتَهُ فَضَرَبَ لَهُ أَجَلَ سَنَةٍ وَفَرَّقَ بَيْنَهُمَا أَنَّهَا تَطْلِيقَةٌ بَائِنَةٌ، وَالْمَعْنَى الْمَقْصُودُ إلَيْهِ مِنْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ الْمَرْأَةَ هِيَ الْمُفَارِقَةُ وَأَضَافَهُ إلَى السُّلْطَانِ، وَمِثْلُ ذَلِكَ بِالْمُعْتَرِضِ عَنْ امْرَأَتِهِ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى اتِّفَاقِهِمَا فِي الْحُكْمِ، وَمِنْ هَذَا الْمَعْنَى: الْحُرُّ يَتَزَوَّجُ الْأَمَةَ عَلَى الْحُرَّةِ فَلَهَا الْخِيَارُ، وَلَهَا إيقَاعُ الطَّلَاقِ.
وَجُمْلَةُ الْقَوْلِ أَنَّ الْحَقَّ إذَا كَانَ لِلْمَرْأَةِ خَالِصًا فَإِنْفَاذُ الطَّلَاقِ إلَيْهَا مَعَ إبَاحَةِ الْحَاكِمِ لَهَا ذَلِكَ، كَمَا جَاءَ فِي حَدِيثِ بَرِيرَةَ، وَنِسْبَةُ الطَّلَاقِ إلَى الْقَاضِي؛ لِكَوْنِهِ يُنْفِذُهُ وَيَحْكُمُ بِهِ كَمَا يُقَالُ فَرَّقَ السُّلْطَانُ بَيْنَهُمَا، وَكَمَا يُقَالُ قَطَعَ الْأَمِيرُ السَّارِقَ وَرَجَمَ وَجَلَدَ وَهُوَ لَمْ يَفْعَلْ، وَإِنَّمَا أَمَرَ بِهِ، فَمَا جَاءَ مِنْ تَفْرِيقِ السُّلْطَانِ فَهُوَ بِهَذَا الْمَعْنَى، وَلَوْ أَرَادَ السُّلْطَانُ إنْفَاذَ الطَّلَاقِ فِيمَا تَقَدَّمَ وَفِي الْعِنِّينِ وَفِي الْأَمَةِ تُعْتَقُ، وَفِي الْحُرِّ يَتَزَوَّجُ الْأَمَةَ عَلَى الْحُرَّةِ، فَقَالَتْ الْمَرْأَةُ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ كُلِّهَا أَنَا أُقِيمُ، وَلَا أُرِيدُ الْفِرَاقَ كَانَ ذَلِكَ لَهَا.
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ ابْنِ الْقَاسِمِ فِي امْرَأَةِ الْمُعْتَرِضِ تَقُولُ لَا تُطَلِّقُونِي وَأَنَا أَصْبِرُ إلَى أَجَلٍ آخَرَ، قَالَ ذَلِكَ لَهَا ثُمَّ تُطَلِّقُ نَفْسَهَا مَتَى شَاءَتْ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ، وَكَذَلِكَ الَّذِي يَحْلِفُ لَيَقْضِيَنَّ فُلَانًا حَقَّهُ أَنَّهُ يُوقَفُ عَنْ امْرَأَتِهِ، فَإِذَا جَاءَتْ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ قِيلَ لَهُ فَيْءٌ، وَإِلَّا طَلَّقْنَا عَلَيْك، فَتَقُولُ امْرَأَتُهُ أَنَا أُنْظِرُهُ شَهْرَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةً، فَذَلِكَ لَهَا، ثُمَّ تَطْلُقُ مَتَى شَاءَتْ، بِغَيْرِ أَمْرِ السُّلْطَانِ. وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ ظَاهِرَةٌ فِي أَنَّ الْمَرْأَةَ تُطَلِّقُ نَفْسَهَا، وَلَا اعْتِرَاضَ مِمَّا فِي السُّؤَالِ مِنْ قَوْلِ الْمَرْأَةِ لَا تُطَلِّقُونِي؛ لِأَنَّهَا جَهِلَتْ أَنَّ ذَلِكَ لَهَا؛ وَلِأَنَّهُ أَعْقَبَ ذَلِكَ بِالْبَيَانِ بِأَنَّهَا هِيَ الْمُطَلِّقَةُ بَعْدَ التَّأْخِيرِ، فَكَذَلِكَ تَكُونُ هِيَ الْمُطَلِّقَةَ فِي الْمَسْأَلَةِ السَّابِقَةِ إنْ أَحَبَّتْ ذَلِكَ، وَكَذَلِكَ لَا اعْتِرَاضَ بِقَوْلِهِ فِي مَسْأَلَةِ الْمَوْلَى، وَإِلَّا طَلَّقْنَا عَلَيْك؛ لِأَنَّ مَعْنَاهُ أَنَّا نَجْعَلُ ذَلِكَ إلَى الْمَرْأَةِ فَتُنَفِّذُ هِيَ طَلَاقَهَا إنْ شَاءَتْ.
وَطَلَاقُ الْمَوْلَى عَلَى قِسْمَيْنِ: قِسْمٌ تُوقِعُهُ الْمَرْأَةُ وَهُوَ فِي الصُّورَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ وَقِسْمٌ يُوقِعُهُ الْحَاكِمُ، وَهُوَ إذَا قَالَ لَهَا: إنْ وَطِئْتُك فَأَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا، فَفِيهَا أَقْوَالٌ. أَحَدُهَا: أَنَّهُ مَوْلٍ، وَلَا يُمَكَّنُ مِنْ وَطْئِهَا؛ لِأَنَّ بَاقِيَ وَطْئِهِ بَعْدَ الْتِقَاءِ الْخِتَانَيْنِ حَرَامٌ، فَإِذَا رَفَعَتْهُ إلَى الْحَاكِمِ فَإِنَّ الْحَاكِمَ يُنْجِزُ عَلَيْهِ الطَّلَاقَ، قَالَهُ ابْنُ الْقَاسِمِ، وَإِنْ لَمْ تَرْفَعْهُ وَرَضِيَتْ بِالْمَقَامِ بِلَا وَطْءٍ فَلَهَا ذَلِكَ، قَالَ ابْنُ سَهْلٍ: سَمِعْت أَبَا مَرْوَانَ بْنَ مَالِكٍ الْقُرْطُبِيَّ يَسْتَحْسِنُ إيرَادَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مِنْ الشَّيْخِ ابْنِ عَتَّابٍ، وَيَقُولُ لَوْ كَانَتْ لِأَحَدٍ مِنْ الْمُتَقَدِّمِينَ لَعُدَّتْ مِنْ فَضَائِلِهِ.
قَالَ ابْنُ سَهْلٍ: وَفِي سَمَاعِ عِيسَى عَنْ ابْنِ الْقَاسِمِ فِيمَنْ تَزَوَّجَ حُرَّةً عَلَى أَنَّهُ حُرٌّ فَإِذَا هُوَ عَبْدٌ، قَالَ لَهَا أَنْ تَخْتَارَ قَبْلَ أَنْ تَرْفَعَ ذَلِكَ إلَى السُّلْطَانِ، فَمَا طَلَّقَتْ بِهِ نَفْسَهَا جَازَ عَلَيْهِ، وَأَمَّا الْمَجْذُومُ فَلَا خِيَارَ لَهَا حَتَّى تَرْفَعَ ذَلِكَ إلَى السُّلْطَانِ، ثُمَّ لَيْسَ لِلسُّلْطَانِ أَنْ يُفَوِّضَ إلَيْهَا أَمْرَهَا تُطَلِّقُ مَتَى شَاءَتْ، وَلَكِنْ عَلَى السُّلْطَانِ إذَا كَرِهَتْهُ وَأَرَادَتْ فِرَاقَهُ أَنْ يُفَرِّقَ بَيْنَهُمَا بِوَاحِدَةٍ، إذَا يَئِسَ مِنْ بُرْئِهِ، وَكَذَلِكَ الْمَجْنُونُ إلَّا أَنَّهُ يَضْرِبُ لَهُ أَجَلَ سَنَةٍ كَانَ مُوَسْوِسًا أَوْ يَغِيبُ مَرَّةً وَيُفِيقُ أُخْرَى، وَهَذَا يُوَضِّحُ الْمَعْنَى الَّذِي قَصَدَهُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ عَتَّابٍ مِنْ تَقْسِيمِ الطَّلَاقِ الْمَحْكُومِ بِهِ، أَنَّ قِسْمًا مِنْهُ تُوقِعُهُ الْمَرْأَةُ خَاصَّةً دُونَ الْحَاكِمِ، وَقِسْمًا آخَرَ يُنْفِذُهُ الْحَاكِمُ إذَا طَلَبَتْهُ.
تَنْبِيهٌ:
وَلَمْ يَذْكُرْ ابْنُ عَتَّابٍ فِي التَّقْسِيمِ الطَّلَاقُ الَّذِي يُوقِعُهُ الْحَاكِمُ بِغَيْرِ إذْنِ الْمَرْأَةِ، وَإِنْ كَرِهَتْ إيقَاعَهُ كَزَوَاجِهَا بِغَيْرِ وَلِيٍّ وَتَزْوِيجِهَا مِمَّنْ لَيْسَ بِكُفْءٍ وَنِكَاحِهَا لِلْفَاسِقِ، وَمَنْ تَزَوَّجَتْ مَعَ وُجُودِ وَالِدِهَا، وَلَمْ يَسْتَأْذِنْهُ وَلِيُّهَا الَّذِي زَوَّجَهَا عَلَى مَا فِيهِ مِنْ التَّفْصِيلِ وَأَنْوَاعِ الْأَنْكِحَةِ الْفَاسِدَةِ وَهُوَ بَابٌ يَطُولُ تَعْدَادُهُ.

.فَصْلٌ وَمِمَّا يَفْتَقِرُ إلَى حُكْمِ الْحَاكِمِ تَفْلِيسُ مَنْ أَحَاطَ الدَّيْنُ بِمَالِهِ:

وَكَذَلِكَ بَيْعُ مَنْ أَعْتَقَهُ الدَّيَّانُ لِتَعَارُضِ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى فِي الْعِتْقِ وَحَقِّ الْغُرَمَاءِ فِي الْمَالِيَّةِ، وَكَذَلِكَ إذَا هَرَبَ الْجَمَّالُ، وَكَانَ الزَّمَانُ غَيْرَ مُعَيَّنٍ، وَلَمْ يَفُتْ الْمَقْصُودُ فَإِذَا رُفِعَ ذَلِكَ إلَى السُّلْطَانِ نَظَرَ فِي ذَلِكَ فَيَفْسَخُهُ عَنْهُ إنْ كَانَ فِي الصَّبْرِ مَضَرَّةٌ، وَلَا يُفْسَخُ بِغَيْرِ حُكْمِ الْحَاكِمِ مِنْ كِتَابِ (قَيْدُ الْمُشْكِلِ وَحَلُّ الْمُعْضِلِ) لِابْنِ يَاسِينَ، وَيَلْحَقُ بِذَلِكَ الْحُدُودُ، فَإِنَّهَا تَفْتَقِرُ إلَى حُكْمِ حَاكِمٍ، وَإِنْ كَانَتْ مَقَادِيرُهَا مَعْلُومَةً؛ لِأَنَّ تَفْوِيضَهَا لِجَمِيعِ النَّاسِ يُؤَدِّي إلَى الْفِتَنِ وَالشَّحْنَاءِ وَالْقَتْلِ وَفَسَادِ الْأَنْفُسِ وَالْأَمْوَالِ، وَكَذَلِكَ إذَا حَلَفَ لَيَضْرِبَنَّ عَبْدَهُ ضَرْبًا مُبَرِّحًا فَعِتْقُهُ عَلَيْهِ، يَفْتَقِرُ لِحُكْمِ الْحَاكِمِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَدْرِي هَلْ ثَمَّ جِنَايَةٍ تَقْتَضِي مِثْلَ هَذَا الضَّرْبِ أَمْ لَا، وَيَحْتَاجُ إلَى تَحْقِيقِ كَوْنِ ذَلِكَ الضَّرْبِ مُبَرِّحًا بِذَلِكَ الْعَبْدِ، وَهَلْ السَّيِّدُ عَاصٍ بِهِ فَيُعْتَقُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْحَلِفَ عَلَى الْمَعْصِيَةِ يُوجِبُ تَعْجِيلَ الْعِتْقِ، أَوْ لَيْسَ عَاصِيًا فَلَا يَلْزَمُهُ عِتْقٌ وَهَذَا بَعْدَ وُقُوعِهِ مِنْ السَّيِّدِ.
وَكَذَلِكَ مَنْ أَعْتَقَ نِصْفَ عَبْدِهِ فَإِنَّهُ لَا يُعْتَقُ عَلَيْهِ بَقِيَّةُ الْعَبْدِ إلَّا بِالْحُكْمِ؛ لِتَعَارُضِ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى فِي الْعِتْقِ وَحَقِّ السَّيِّدِ فِي الْمِلْكِ وَحَقِّ الْعَبْدِ فِي تَخْلِيصِ الْكَسْبِ، وَقُوَّةُ الْخِلَافِ فِي التَّكْمِيلِ عَلَيْهِ. وَكَذَلِكَ تَعْجِيزُ الْمُكَاتَبِ إذَا كَانَ لَهُ مَالٌ ظَاهِرٌ لَا يَكُونُ إلَّا بِالْحُكْمِ، وَلَوْ رَضِيَ بِتَعْجِيزِ نَفْسِهِ هُوَ وَسَيِّدُهُ لَمْ يَكُنْ لَهُمَا ذَلِكَ، وَكَذَلِكَ التَّطْلِيقُ عَلَى الْغَائِبِينَ مِنْ الْمَفْقُودِينَ وَغَيْرِهِمْ، فلابد فِي ذَلِكَ مِنْ حُكْمِ الْحَاكِمِ، وَكَذَلِكَ قِسْمَةُ الْغَنَائِمِ، وَإِنْ كَانَتْ مَعْلُومَةَ الْمَقَادِيرِ، وَأَسْبَابُ الِاسْتِحْقَاقَاتِ فلابد فِيهَا مِنْ الْحَاكِمِ، وَلَوْ فُوِّضَتْ لِجَمِيعِ النَّاسِ لَدَخَلَهُمْ الطَّمَعُ، وَأَحَبَّ كُلُّ إنْسَانٍ لِنَفْسِهِ مِنْ كَرَائِمِ الْأَمْوَالِ مَا يَطْلُبُهُ غَيْرُهُ، فَكَانَ ذَلِكَ يُؤَدِّي إلَى الْفِتَنِ، وَكَذَلِكَ جِبَايَةُ الْجِزْيَةِ وَأَخْذُ الْخَرَاجَاتِ مِنْ أَرَاضِي الْعَنْوَةِ لَوْ جُعِلَتْ إلَى الْعَامَّةِ لَفَسَدَ الْحَالُ، فلابد فِيهَا مِنْ حُكْمِ الْحَاكِمِ، وَكَذَلِكَ التَّعْزِيرَاتُ؛ لِأَنَّهَا تَفْتَقِرُ إلَى تَحْرِيرِ الْجِنَايَةِ وَحَالِ الْجَانِي وَالْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ، فلابد فِيهَا مِنْ الْحَاكِمِ، وَكَذَلِكَ مَا جَرَى هَذَا الْمَجْرَى كَاسْتِيفَاءِ الْقِصَاصِ. وَكَثِيرٌ مِنْ الْأَحْكَامِ، يَطُولُ تَتَبُّعُهَا.

.الْقِسْمُ الثَّانِي مَا لَا يَحْتَاجُ إلَى حُكْمِ حَاكِمٍ:

كَتَحْرِيمِ الْمُحَرَّمَاتِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهَا، كَالْعَصِيرِ إذَا اشْتَدَّ، وَالْمُخْتَلَفِ فِيهَا كَتَحْرِيمِ السِّبَاعِ، وَكَذَلِكَ وَفَاءُ الدُّيُونِ وَرَدُّ الْوَدَائِعِ وَالْمَغْصُوبِ وَأَحْكَامِ الْعِبَادَاتِ، فَالْمُبَادَرَةُ بِهَا مُتَعَيَّنٌ، وَلَا يَفْتَقِرُ فِيهَا إلَى حُكْمِ الْحَاكِمِ اسْتِقْلَالًا، وَأَمَّا بِطَرِيقِ الْعَرْضِ فَيَدْخُلُهَا حُكْمُ الْحَاكِمِ، وَسَيَأْتِي بَيَانُهُ، وَمِمَّا لَا يَفْتَقِرُ فِيهِ لِحُكْمِ الْحَاكِمِ إذَا هَرَبَ الْجَمَّالُ بِالْإِبِلِ، وَكَانَ الْكِرَاءُ لِشَهْرٍ بِعَيْنِهِ انْفَسَخَ بِمُضِيِّهِ مِنْ غَيْرِ افْتِقَارٍ لِحُكْمِ الْحَاكِمِ، وَإِنْ كَانَ بِغَيْرِ عَيْنِهِ، وَلَمْ يَفُتْ مَا اُكْتُرِيَتْ لَهُ فَلْيُرْفَعْ إلَى الْحَاكِمِ فَيَنْظُرُ فَإِنْ كَانَ لَا ضَرَرَ عَلَى الْمُكْتَرِي فِي الصَّبْرِ لَمْ يُعَجِّلْ بِالْفَسْخِ، وَإِنْ كَانَ فِي الصَّبْرِ مَضَرَّةٌ فُسِخَ، فَإِنْ لَمْ يُرْفَعْ إلَى الْحَاكِمِ فَهَلْ يُفْسَخُ كَالْمُعَيَّنِ أَوْ لَا قَوْلَانِ مِنْ الْمَذْهَبِ فِي ضَبْطِ قَوَاعِدِ الْمَذْهَبِ لِابْنِ رَاشِدٍ.

.الْقِسْمُ الثَّالِثُ مَا اُخْتُلِفَ فِيهِ هَلْ يَفْتَقِرُ إلَى حُكْمٍ أَوْ لَا:

مِثَالُ ذَلِكَ: قَبْضُ الْمَغْصُوبِ مِنْ الْغَاصِبِ إذَا كَانَ الْمَغْصُوبُ مِنْهُ غَائِبًا، وَكَذَلِكَ مَنْ أَعْتَقَ شِرْكًا لَهُ فِي عَبْدٍ هَلْ يَفْتَقِرُ التَّكْمِيلُ وَعِتْقُ بَاقِيهِ إلَى حُكْمِ حَاكِمٍ أَمْ لَا. قَالَ ابْنُ يُونُسَ: اتَّفَقَ أَصْحَابُنَا عَلَى أَنَّهُ يُعْتَقُ بِمُجَرَّدِ التَّقْوِيمِ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ إلَى حُكْمِ الْحَاكِمِ.
وَقَالَ غَيْرُهُ يَفْتَقِرُ إلَى الْحَاكِمِ، وَكَذَلِكَ عِتْقُ الْقَرِيبِ إذَا مَلَكَهُ الْحُرُّ الْمَلِيءُ الْمَشْهُورُ عَدَمُ افْتِقَارِهِ لِحُكْمٍ، وَقِيلَ لابد فِيهِ مِنْ الْحُكْمِ، وَكَذَلِكَ الْعِتْقُ بِالْمُثْلَةِ.
قَالَ مَالِكٌ: لَا يُعْتَقُ إلَّا بِالْحُكْمِ، وَقَالَ أَشْهَبُ لَا يَفْتَقِرُ، وَكَذَلِكَ فَسْخُ الْبَيْعِ بَعْدَ تَحْلِيفِ الْمُتَبَايِعَيْنِ يَجْرِي فِيهِ الْخِلَافُ. وَكَذَلِكَ فَسْخُ النِّكَاحِ بَعْدَ التَّحَالُفِ فِيهِ الْخِلَافُ أَيْضًا، وَكَذَلِكَ الْيَتِيمُ الْمَحْجُورُ عَلَيْهِ بِوَصِيٍّ مِنْ قِبَلِ الْأَبِ هَلْ يَكْفِي إطْلَاقُهُ لِلْيَتِيمِ مِنْ الْحَجْرِ دُونَ مُطَالَعَةِ الْحَاكِمِ فِي ذَلِكَ أَوْ لابد مِنْ اسْتِئْذَانِ الْحَاكِمِ فِي ذَلِكَ حَتَّى يَكُونَ إطْلَاقُ الْوَصِيِّ لَهُ بِإِذْنِ الْحَاكِمِ فِيهِ خِلَافٌ، وَكَذَلِكَ وُقُوعُ الْفُرْقَةِ بَيْنَ الْمُتَلَاعِنَيْنِ: قَالَ مَالِكٌ وَابْنُ الْقَاسِمِ: تَقَعُ الْفُرْقَةُ بِتَمَامِ التَّحَالُفِ دُونَ حُكْمِ الْحَاكِمِ.
وَقَالَ ابْنُ حَبِيبٍ لَا تَقَعُ الْفُرْقَةُ بِتَمَامِ لِعَانِهِمَا حَتَّى يُفَرِّقَ الْإِمَامُ بَيْنَهُمَا، وَكَذَلِكَ إذَا تَزَوَّجَتْ الْحَاضِنَةُ فَهَلْ يَسْقُطُ حَظُّهَا مِنْ الْحَضَانَةِ بِالدُّخُولِ أَوْ بِالْحُكْمِ بِأَخْذِ الْوَلَدِ مِنْهَا قَوْلَانِ.
وَكَذَلِكَ إذَا قَالَ لِزَوْجَتِهِ: إنْ لَمْ تَحِيضِي فَأَنْتِ طَالِقٌ، فَإِنَّهُ يَحْنَثُ عَلَى الْمَشْهُورِ، وَعَلَى الْمَشْهُورِ فَهَلْ يَفْتَقِرُ الطَّلَاقُ إلَى الْحَاكِمِ أَوْ يَقَعُ بِمُجَرَّدِ نُطْقِهِ قَوْلَانِ. اخْتَارَ اللَّخْمِيُّ أَنَّهُ لَا يَقَعُ إلَّا بِالْحُكْمِ. وَكَذَلِكَ السَّلَمُ الْمُخْتَلَفُ فِي فَسَادِهِ هَلْ يَفْتَقِرُ فَسْخُهُ إلَى حُكْمِ الْحَاكِمِ أَوْ لَا، وَإِذَا قُلْنَا يَفْتَقِرُ فَهُوَ كَالسَّلَمِ الصَّحِيحِ حَتَّى يُبَاشِرَ الْحُكْمَ بِالْفَسْخِ. اُخْتُلِفَ إذَا هَرَبَ الْجَمَّالُ، وَكَانَ الْكِرَاءُ لِقَصْدِ أَمْرٍ لَهُ بِأَنْ يَفُوتَ بِفَوَاتِهِ كَالْحَجِّ وَالْخُرُوجِ إلَى الْبِلَادِ الشَّاسِعَةِ مَعَ الرُّفْقَةِ الْعَظِيمَةِ فَجَاءَهُ الْجَمَّالُ بَعْدَ فَوَاتِ الْوَقْتِ، فَقِيلَ يَنْفَسِخُ بِفَوَاتِ ذَلِكَ كَالزَّمَنِ الْمُعَيَّنِ، وَقِيلَ لَا يَنْفَسِخُ لِتَوَقُّعِ الْحَجِّ وَالسَّفَرِ فِي وَقْتٍ ثَانٍ. وَفِي الْمُدَوَّنَةِ لَا يَنْفَسِخُ إلَّا فِي الْحَجِّ وَحْدَهُ، وَلَا يُخْتَلَفُ أَنَّهُ إذَا رَفَعَهُ إلَى الْحَاكِمِ فَفَسَخَهُ أَنَّهُ يُفْسَخُ مِنْ كِتَابِ (قَيْدُ الْمُشْكِلِ)، وَكَذَلِكَ الْقَاضِي هَلْ يَنْعَزِلُ بِمُجَرَّدِ فِسْقِهِ أَوْ لَا حَتَّى يَعْزِلَهُ الْإِمَامُ؟ قَوْلَانِ. وَكَذَلِكَ الْمُفْلِسُ إذَا قُسِمَ مَالُهُ وَحَلَفَ أَنَّهُ لَمْ يَكْتُمْ شَيْئًا وَوَافَقَهُ الْغُرَمَاءُ عَلَى ذَلِكَ فَهَلْ يَنْفَكُّ عَنْهُ الْحَجْرُ، وَيَكُونُ لَهُ التَّصَرُّفُ فِيمَا يَكُونُ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْ الْمَالِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُزِيلَ عَنْهُ الْحَاكِمُ حَجْرَ التَّفْلِيسِ وَهُوَ أَكْثَرُ نُصُوصِهِمْ، وَاخْتَارَهُ اللَّخْمِيُّ، أَوْ لَا يَنْفَكُّ عَنْهُ إلَّا بِحُكْمِ حَاكِمٍ؟ وَهُوَ قَوْلُ الْقَاضِي عَبْدِ الْوَهَّابِ وَالْقَاضِي أَبِي الْحَسَنِ بْنِ الْقَصَّارِ، وَتَتَبَّعَ هَذَا عَنْ الْمَقْصُودِ.

.الْقِسْمُ الرَّابِعُ فِي بَيَانِ الْمَوَاضِعِ الَّتِي يَدْخُلُهَا الْحُكْمُ اسْتِقْلَالًا أَوْ تَضَمُّنًا:

مُلَخَّصًا مِنْ كَلَامِ الْإِمَامِ الْعَلَّامَةِ سِرَاجِ الدِّينِ عُمَرَ الْبُلْقِينِيِّ- مَتَّعَ اللَّهُ بِبَقَائِهِ- وَبَعْضُهُ مِنْ كَلَامِ أَهْلِ الْمَذْهَبِ، فَالطَّهَارَةُ لَا يَدْخُلُهَا شَيْءٌ مِنْ الْحُكْمِ بِالصِّحَّةِ، وَلَا بِالْمُوجِبِ اسْتِقْلَالًا، لَكِنْ يَدْخُلُهَا الْحُكْمُ بِطَرِيقِ التَّضَمُّنِ، كَتَعْلِيقِ عِتْقٍ أَوْ طَلَاقٍ عَلَى طَهَارَةِ مَاءٍ أَوْ نَجَاسَةٍ، فَإِذَا ثَبَتَ عِنْدَ الْحَاكِمِ وُقُوعُ الطَّلَاقِ؛ لِوُجُودِ الصِّفَةِ فَحَكَمَ بِصِحَّةِ الطَّلَاقِ أَوْ بِمُوجِبِ مَا صَدَرَ مِنْ الْمُعَلَّقِ وَوُجُودِ صِفَتِهِ كَانَ ذَلِكَ مُتَضَمِّنًا لِلْحُكْمِ بِالنَّجَاسَةِ أَوْ بِالطَّهَارَةِ، وَالصَّلَاةُ يَدْخُلُهَا الْحُكْمُ بِالتَّضَمُّنِ مِثْلَ مَنْ صَلَّى الْمَكْتُوبَةَ بِوُضُوءٍ خَالٍ عَنْ النِّيَّةِ، أَوْ مَعَ وُجُودِ مَسِّ الذَّكَرِ لِاعْتِقَادِهِ صِحَّةَ الصَّلَاةِ مَعَ ذَلِكَ، فَإِذَا حَكَمَ حَاكِمٌ بِعَدَالَةِ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ وَالْحَاكِمُ مُعْتَقِدٌ صِحَّةَ ذَلِكَ كَانَ حُكْمُهُ مُتَضَمِّنًا صِحَّةَ وُضُوئِهِ، وَعَلَى هَذَا قِيَاسُ الصَّلَاةِ الْخَالِيَةِ عَنْ قِرَاءَةِ الْفَاتِحَةِ أَوْ عَنْ الطُّمَأْنِينَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ.
قَالَ الشَّيْخُ سِرَاجُ الدِّينِ: وَلَقَدْ عَجِبْت مِنْ قَاضٍ حَضَرَ عِنْدَ السُّلْطَانِ وَوَقَعَ الْكَلَامُ فِي صِحَّةِ إقَامَةِ الْجُمُعَةِ فِي جَامِعٍ بَنَاهُ ذَلِكَ السُّلْطَانُ فَلَمَّا تَكَلَّمُوا فِي الْخِلَافِ فِي ذَلِكَ قَالَ الْقَاضِي: نَحْكُمُ بِصِحَّةِ إقَامَةِ الْجُمُعَةِ فِيهِ وَهَذَا الْكَلَامُ بَاطِلٌ، وَلَا يُتَصَوَّرُ أَنْ يَدْخُلَ ذَلِكَ، وَلَا نَحْوُهُ تَحْتَ الْحُكْمِ اسْتِقْلَالًا، وَلَا تَضَمُّنًا عَلَى الْإِطْلَاقِ، لَكِنْ يَدْخُلُ بِالنِّسْبَةِ إلَى وَاقِعَةٍ خَاصَّةٍ مِنْ تَعْلِيقِ الطَّلَاقِ أَوْ غَيْرِهِ عَلَى صِحَّةِ إقَامَةِ الْجُمُعَةِ فِي هَذَا الْمَكَانِ. فَالْحُكْمُ إذَا تَوَجَّهَ إلَى الْمُعَلَّقِ بِمَا الْتَزَمَهُ يَتَضَمَّنُ صِحَّةَ إقَامَةِ الْجُمُعَةِ فِي هَذَا الْمَكَانِ بِالنِّسْبَةِ إلَى إلْزَامِ الشَّخْصِ لَا مُطْلَقًا.
وَأَمَّا الزَّكَاةُ فَيَدْخُلُهَا الْحُكْمُ وَذَلِكَ مِثْلُ مَا لَوْ حَكَمَ حَاكِمٌ يَرَى جَوَازَ إخْرَاجِ الْقِيمَةِ فِي الزَّكَاةِ بِصِحَّةِ الْإِخْرَاجِ أَوْ بِمُوجِبِ الْإِخْرَاجِ عِنْدَهُ، وَهُوَ سُقُوطُ الْفَرْضِ بِذَلِكَ، كَانَ الْحُكْمُ بِالصِّحَّةِ وَالْمُوجِبِ فِي ذَلِكَ سَوَاءً، وَلَيْسَ لِلسَّاعِي إذَا كَانَ ذَلِكَ الْحُكْمُ مُخَالِفًا لِمَذْهَبِهِ أَنْ يُطَالِبَ الْمَالِكَ بِإِخْرَاجِ الْوَاجِبِ عِنْدَهُ، سَوَاءٌ حَكَمَ بِالصِّحَّةِ أَوْ حَكَمَ بِالْمُوجِبِ.
وَأَمَّا الصَّوْمُ فَدَخَلَهُ أَيْضًا، وَذَلِكَ إذَا صَامَ الْوَلِيُّ الْوَارِثُ مِنْ الْمَيِّتِ وَطَلَبَ الْوَصِيُّ أَنْ يُخْرِجَ الطَّعَامَ فَامْتَنَعَ الْوَارِثُ مِنْهُ، وَتَرَافَعَا إلَى حَاكِمٍ يَرَى صِحَّةَ الصَّوْمِ عَنْ الْمَيِّتِ فَحَكَمَ بِصِحَّتِهِ أَوْ بِمُوجِبِهِ فَلَيْسَ لِلْوَصِيِّ أَنْ يُخْرِجَ الطَّعَامَ حِينَئِذٍ، وَلَا أَنْ يُطَالِبَ الْوَارِثَ بِذَلِكَ، بِخِلَافِ مَا قَبْلَ الْحُكْمِ. وَأَمَّا الِاعْتِكَافُ فَيَدْخُلُهُ اسْتِقْلَالًا وَتَضَمُّنًا، أَمَّا الِاسْتِقْلَالُ فَفِي مَسَائِلَ. مِنْهَا: أَنَّهُ يَقْضِي لِلْمُكَاتَبِ عَلَى سَيِّدِهِ بِالِاعْتِكَافِ الْيَسِيرِ. وَمِنْهَا: مَنْ اعْتَكَفَتْ بِغَيْرِ إذْنِ زَوْجِهَا فَلَهُ مَنْعُهَا، وَكَذَلِكَ الْعَبْدُ، وَكَذَا لَوْ اعْتَكَفَ الْمِدْيَانُ هُرُوبًا مِنْ أَدَاءِ الْحَقِّ فَإِنَّ الْحَاكِمَ يَرَى فِيهِ رَأْيَهُ. وَمِنْهَا: إذَا وَطِئَ الْمُعْتَكِفُ أَدَّبَهُ الْحَاكِمُ، وَأَمَّا التَّضَمُّنُ فَكَمَا تَقَدَّمَ فِي الطَّهَارَةِ وَالصَّلَاةِ.
وَأَمَّا الْحَجُّ فَإِنَّهُ لَوْ فَسَخَ حَنْبَلِيٌّ حَجَّهُ إلَى عُمْرَةٍ حَيْثُ يَسُوغُ عِنْدَهُ، وَلَهُ زَوْجَةٌ لَيْسَ مُعْتَقَدُهَا ذَلِكَ فَامْتَنَعَتْ مِنْ تَمْكِينِهِ بَعْدَ التَّحَلُّلِ فَارْتَفَعَا إلَى حَاكِمٍ حَنْبَلِيٍّ فَحَكَمَ عَلَيْهَا بِصِحَّةِ مَا فَعَلَ زَوْجُهَا الْحَنْبَلِيُّ أَوْ حَكَمَ بِمُوجِبِ ذَلِكَ عِنْدَهُ فَهُمَا مُسْتَوِيَانِ، وَلَوْ حَكَمَ عَلَيْهَا بِالتَّمْكِينِ كَانَ مُتَضَمِّنًا لِلْحُكْمِ بِصِحَّةِ مَا فَعَلَهُ الزَّوْجُ وَهُوَ نَفْسُ الْمُوجِبِ. وَأَمَّا الْأُضْحِيَّةُ فَهِيَ عِبَادَةٌ لَا يَدْخُلُهَا الْحُكْمُ اسْتِقْلَالًا وَقَدْ يَدْخُلُهَا بِطَرِيقِ التَّضَمُّنِ فِي التَّعْلِيقِ كَمَا تَقَدَّمَ.
وَأَمَّا الصَّيْدُ فَيَدْخُلُهُ الْحُكْمُ اسْتِقْلَالًا فَإِذَا تَنَازَعَ اثْنَانِ فِي صَيْدٍ وَتَرَافَعَا إلَى الْحَاكِمِ وَتَصَادَقَا عَلَى فِعْلَيْنِ صَدَرَا مِنْهُمَا عَلَى التَّرْتِيبِ مَثَلًا أَوْ قَامَتْ الْبَيِّنَةُ عَلَى ذَلِكَ، وَكَانَ مُقْتَضَى مَذْهَبِ الْحَاكِمِ أَنَّهُ لِلْأَوَّلِ أَوْ لِلثَّانِي فَحَكَمَ لَهُ بِأَنَّهُ الْمَالِكُ كَانَ ذَلِكَ حُكْمًا مُسْتَقِلًّا صَحِيحًا، وَإِنَّمَا دَخَلَ الْحُكْمُ فِي ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ يُفْضِي إلَى الْمِلْكِ وَجَمِيعُ وُجُوهِ الْمِلْكِ يَدْخُلُهَا الْحُكْمُ.
وَأَمَّا الذَّبَائِحُ فَيَدْخُلُهَا الْحُكْمُ مِنْ جِهَةِ التَّقْصِيرِ الْمُقْتَضِي لِلتَّغْرِيمِ، وَكَذَلِكَ دَفْعُ الْأُجْرَةِ، لَوْ قَامَتْ الْبَيِّنَةُ أَنَّهُ ذَبْحٌ صَحِيحٌ فَإِنَّهُ يُحْكَمُ لَهُ بِاسْتِحْقَاقِ الْأُجْرَةِ. وَكَذَا لَوْ بَاعَ صَاحِبُ الذَّبِيحَةِ لِشَخْصٍ ثُمَّ ارْتَفَعَا إلَى حَاكِمٍ، وَادَّعَى الْمُشْتَرِي أَنَّهَا حَرَامٌ لِأَمْرٍ ادَّعَاهُ أَوْ ظَهَرَ لِلْحَاكِمِ ذَلِكَ بِإِقْرَارٍ أَوْ بَيِّنَةٍ حَكَمَ عَلَى الْبَائِعِ بِرَدِّ الثَّمَنِ كَانَ ذَلِكَ حُكْمًا مِنْهُ بِتَحْرِيمِ الذَّبِيحَةِ، وَكَذَا إذَا أَثْبَتَ التَّقْصِيرَ فِي الذَّبْحِ وَحَكَمَ بِالْغُرْمِ كَانَ ذَلِكَ مُتَضَمِّنًا لِلْحُكْمِ بِحُرْمَةِ الذَّبِيحَةِ. وَأَمَّا الْأَطْعِمَةُ فَيَدْخُلُهَا الْحُكْمُ اسْتِقْلَالًا. مِثَالُهُ: إذَا نَزَلَتْ بِرَجُلٍ مَخْمَصَةٌ فَوَجَدَ مَعَ رَجُلٍ طَعَامًا فَامْتَنَعَ مِنْ إطْعَامِهِ وَمِنْ مُسَاوَمَتِهِ، فَإِنَّ لَهُ أَنْ يُقَاتِلَهُ فَإِنْ مَاتَ الْجَائِعُ وَجَبَ الْقِصَاصُ، وَإِنْ أَخَذَهُ الْجَائِعُ قَهْرًا فَعَلَيْهِ قِيمَتُهُ.
وَأَمَّا الْأَيْمَانُ فَيَدْخُلُهَا الْحُكْمُ اسْتِقْلَالًا كَمَنْ حَلَفَ بِطَلَاقِ امْرَأَتِهِ لَيَجْلِدَنَّهَا مِائَةَ سَوْطٍ، فَإِنَّ الْحَاكِمَ يَمْنَعُهُ مِنْ ذَلِكَ، وَيُطَلِّقُهَا عَلَيْهِ، وَغَيْرُ ذَلِكَ كَثِيرٌ. وَأَمَّا الْجِهَادُ فَيَدْخُلُهُ اسْتِقْلَالًا فِي أَكْثَرِ مَسَائِلِهِ وَهُوَ وَاضِحٌ لَا يَحْتَاجُ إلَى تَمْثِيلٍ. وَأَمَّا النِّكَاحُ وَتَوَابِعُهُ فَدُخُولُ الْحُكْمِ بِالصِّحَّةِ وَالْمُوجِبِ فِيهِ وَاضِحٌ، وَكَذَا سَائِرُ الْمُعَامَلَاتِ مِنْ الْبَيْعِ وَالْقَرْضِ وَالرَّهْنِ وَالْإِجَارَةِ وَالْمُسَاقَاةِ وَالْقِسْمَةِ وَالشُّفْعَةِ وَالْعَارِيَّةِ الْوَدِيعَةِ وَالْحَبْسِ وَالْوَكَالَةِ وَالْحَوَالَةِ وَالْحَمَالَةِ وَالضَّمَانِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَبْوَابِ الْمُعَامَلَاتِ، كُلِّهَا يَدْخُلُهَا الْحُكْمُ بِالصِّحَّةِ، وَالْحُكْمُ الْمُوجِبُ، فَلَا نُطَوِّلُ بِالتَّمْثِيلِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ وَحْدَهُ.

.فَصْلٌ فِي الْفَرْقِ بَيْنَ أَلْفَاظِ الْحُكْمِ الْمُتَدَاوَلَةِ فِي التَّسْجِيلَاتِ:

وَهِيَ مَرَاتِبُ فِي الْقُوَّةِ وَالضَّعْفِ فَأَعْلَاهَا لِيُسَجِّلَ بِثُبُوتِهِ الْحُكْمَ بِصِحَّتِهِ أَعْنِي بِصِحَّةِ ذَلِكَ الْعَقْدِ وَقْفًا كَانَ أَوْ بَيْعًا أَوْ غَيْرَهُمَا، قَالَ الْإِمَامُ الْعَلَّامَةُ الشَّيْخُ سِرَاجُ الدِّينِ عُمَرُ الْبُلْقِينِيُّ الشَّافِعِيُّ- فَسَّحَ اللَّهُ لَهُ فِي مَدَّتِهِ-: الْحُكْمُ بِالصِّحَّةِ عِبَارَةٌ عَنْ قَضَاءِ مَنْ لَهُ ذَلِكَ فِي أَمْرٍ قَابِلٍ لِقَضَائِهِ ثَبَتَ عِنْدَهُ وُجُودُهُ بِشَرَائِطِهِ الْمُمْكِنِ ثُبُوتُهَا، أَنَّ ذَلِكَ الْأَمْرَ صَدَرَ مِنْ أَهْلِهِ فِي مَحَلِّهِ عَلَى الْوَجْهِ الْمُعْتَبَرِ عِنْدَهُ فِي ذَلِكَ شَرْعًا. فَقَوْلُنَا: عَنْ قَضَاءٍ، يُخْرِجُ الثُّبُوتَ فَلَيْسَ بِحُكْمٍ عَلَى الْأَصَحِّ وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهِ. وَقَوْلُهُ: مَنْ لَهُ ذَلِكَ يَدْخُلُ فِيهِ الْإِمَامُ وَنُوَّابُهُ الَّذِينَ لَهُمْ ذَلِكَ وَاَلَّذِي لَمْ يَبْلُغْهُ خَبَرُ الْعَزْلِ، وَحَاكِمُ أَهْلِ الْبَغْيِ إذَا لَمْ يَسْتَحِلَّ دِمَاءَ أَهْلِ الْعَدْلِ، وَالْكَافِرُ حَاكِمُ الْكَفَرَةِ إذَا حَكَمَ بَيْنَهُمْ، وَالْمُحَكَّمُ. وَقَوْلُنَا: قَابِلٌ لِقَضَائِهِ، يَخْرُجُ بِهِ مَا لَمْ يَقْبَلْ الْقَضَاءَ مِنْ عِبَادَةٍ مُجَرَّدَةٍ، وَمَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ إلْزَامٌ كَالْحُكْمِ عَلَى الْمُعْسِرِ، وَيَنْجَرُّ ذَلِكَ إلَى الْحُكْمِ بِالدَّيْنِ الْمُؤَجَّلِ وَالتَّدْبِيرِ وَالِاسْتِيلَادِ، دَوْمًا قَبْلَ الْقَضَاءِ، وَلَكِنْ لَا يَقْبَلُ الْإِلْزَامَ. وَقَوْلُنَا: ثَبَتَ عِنْدَهُ وُجُودُهُ يَعُمُّ الثُّبُوتَ بِالْبَيِّنَةِ الْكَامِلَةِ وَبِالشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ وَبِالْإِقْرَارِ وَبِعِلْمِ الْقَاضِي عِنْدَ الشَّافِعِيِّ وَالْحَنَفِيِّ وَبِالْيَمِينِ الْمَرْدُودَةِ بَعْدَ النُّكُولِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّة، وَأَمَّا مَا يَتَنَزَّلُ مَنْزِلَةَ ذَلِكَ مِمَّا سَيَأْتِي ذِكْرُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَيُفْهَمُ مِنْ قَوْلِنَا: وُجُودُهُ أَنَّ الْعَدَمَ لَا يَتَوَجَّهُ الْحُكْمُ إلَيْهِ، وَقَوْلُهُ: بِشَرَائِطِهِ الْمُمْكِنِ ثُبُوتُهَا، يُفْهَمُ مِنْهُ أَنَّ جَمِيعَ الشُّرُوطِ لَا يُعْتَبَرُ أَنْ تَثْبُتَ فِي الْحُكْمِ بِالصِّحَّةِ، وَإِنْ كَانَ مِنْ جُمْلَةِ الشُّرُوطِ فِي الْبَيْعِ مِثْلَ أَنْ يَكُونَ الْمَبِيعُ مَقْدُورًا عَلَى تَسْلِيمِهِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ، فَلَا يَصِحُّ بَيْعُ الْمَرْهُونِ وَيَقِفُ عَلَى إجَازَةِ الْمُرْتَهِنِ، وَلَا يَصِحُّ بَيْعُ الْمُكَاتَبِ وَالْجَانِي جِنَايَةً تُوجِبُ أَرْشًا مُتَعَلِّقًا بِرَقَبَتِهِ، وَلَا يَصِحُّ وَقْفُ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، وَلَا هِبَتُهُ، وَلَا يُكَلَّفُ أَحَدٌ انْتِفَاءَ ذَلِكَ فِي الْحُكْمِ بِصِحَّةِ الْبَيْعِ، وَلَا فِي الْحُكْمِ بِمُوجِبِهِ؛ لِأَنَّ انْتِفَاءَ غَيْرَ الْمَحْصُورِ مُتَعَذِّرٌ، وَإِنَّمَا طُلِبَ ذَلِكَ فِي أَنْ لَا وَارِثَ لِلْمَيِّتِ سِوَى الْقَائِمِ مِنْ أَجْلِ ظُهُورِ اسْتِحْقَاقِ مَنْ شَهِدَ لَهُ بِذَلِكَ وَهُوَ الْوَارِثُ؛ لِأَنَّ هَذِهِ مَوَانِعُ وَالْأَصْلُ عَدَمُهَا، وَاَلَّذِي يَعْتَمِدُ غَالِبًا فِي التَّسْجِيلَاتِ بِالْحُكْمِ بِالصِّحَّةِ فِي الْوَقْفِ. وَنَحْوُهُ إثْبَاتُ الْمِلْكِ وَالْحِيَازَةِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ، وَاكْتَفَوْا بِشُهْرَةِ بُلُوغِ مَنْ صَدَرَ مِنْهُ وَرُشْدِهِ.
فَإِنْ قِيلَ فَإِنَّا نَرَى الْحُكَّامَ فِي عُقُودِ الْأَنْكِحَةِ يَطْلُبُونَ الشَّهَادَةَ بِخُلُوِّ الزَّوْجَةِ مِنْ مَوَانِعِ النِّكَاحِ مِنْ زَوْجٍ وَعِدَّةٍ وَنَحْوِهِمَا، فَهَلَّا طَلَبُوا الشَّهَادَةَ عَلَى خُلُوِّ الْبَيْعِ مِنْ رَهْنٍ وَجِنَايَةٍ وَنَحْوِهِمَا. وَقُلْنَا: سَبَبُهُ الِاحْتِيَاطُ فِي الْأَبْضَاعِ وَأَيْضًا فَإِنَّ التَّزْوِيجَ لَوْ وَقَعَ كَانَ مُشْتَهِرًا غَالِبًا فَطَلَبْنَا الشَّهَادَةَ بِعَدَمِهِ لِإِمْكَانِ الِاطِّلَاعِ عَلَيْهِ بِخِلَافِ الرَّهْنِ وَنَحْوِهِ، وَقَوْلُنَا: إنَّ ذَلِكَ صَدَرَ مِنْ أَهْلِهِ فِي مَحَلِّهِ هَذَا هُوَ مَحَطُّ الْحُكْمِ بِالصِّحَّةِ. اهـ. مَا ذَكَرَهُ الشَّيْخُ سِرَاجُ الدِّينِ فِي الْحُدُودِ. وَذَكَرْت فِيهِ شَيْئًا مِنْ مَسَائِلِنَا.
قَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ السُّبْكِيُّ فِي شَرْحِ الْمِنْهَاجِ فِي بَابِ الْوَقْفِ مَا مُلَخَّصُهُ: إنَّ الْحُكْمَ إذَا تَقَرَّرَ بِالصِّحَّةِ أَعْلَى دَرَجَاتِ الْحُكْمِ، فَمِنْ شَرْطِ هَذَا الْحُكْمِ ثُبُوتُ مِلْكِ الْمَالِكِ وَحِيَازَتُهُ وَأَهْلِيَّتُهُ وَصِحَّةُ صِيغَتِهِ فِي مَذْهَبِ الْقَاضِي، يُرِيدُ إنْ كَانَ شَافِعِيًّا وَصِحَّةُ الصِّيغَةِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ إنَّمَا تُشْتَرَطُ فِي مَوَاضِعَ مَعْدُودَةٍ كَلَفْظِ (سَاقَيْتُك) فِي بَابِ الْمُسَاقَاةِ وَالْحَوَالَةِ، وَالصِّيغَةُ الْمُعْتَبَرَةُ فِي عَقْدِ النِّكَاحِ وَالْوَصِيَّةِ، وَالصِّيغَةُ فِي بَابِ الْإِقْرَارِ وَالْوَكَالَةِ وَالْحَبْسِ وَالْقِرَاضِ. قَالَ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ: الْقِرَاضُ لَا يَنْعَقِدُ بِكُلِّ لَفْظٍ بَلْ بِلَفْظِ الْقِرَاضِ أَوْ غَيْرِهِ مِنْ الْأَلْفَاظِ الَّتِي تَذْكُرُهَا الْفُقَهَاءُ، فَفِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ وَمَا أَشْبَهَهَا تُعْتَبَرُ صِحَّةُ الصِّيغَةِ أَوْ مَا يَقُومُ مَقَامَهَا فَإِذَا وَقَعَ الْحُكْمُ بِالصِّحَّةِ وَصَرَّحَ بِصِحَّةِ ذَلِكَ التَّصَرُّفِ أَعْنِي مَا تَقَدَّمَ فِي أَوَّلِ الْفَصْلِ فِي قَوْلِهِ أَعْنِي بِصِحَّةِ ذَلِكَ وَقْفًا كَانَ أَوْ بَيْعًا فَلَا سَبِيلَ إلَى نَقْضِهِ بِاجْتِهَادٍ مِثْلِهِ، إذَا كَانَ فِي مَحَلٍّ مُخْتَلَفٍ فِيهِ اخْتِلَافًا قَرِيبًا لَا يُنْقَضُ فِيهِ قَضَاءُ الْقَاضِي، وَكَمْ يَتَبَيَّنُ بِنَاؤُهُ عَلَى سَبَبٍ بَاطِلٍ، وَقَدْ يَعْرِضُ لِهَذَا اللَّفْظِ أَعْنِي الْحُكْمَ بِالصِّحَّةِ الْفَسَادُ مِنْ جِهَةٍ تُبَيِّنُ عَدَمَ الْمِلْكِ أَوْ شَرْطٌ آخَرُ فَلَا يُنَافِي ذَلِكَ مَا قَصَدَهُ، فَإِذَا تَبَيَّنَ بُطْلَانُ الْحُكْمِ لِفَوَاتِ مَحَلِّهِ نَقَضَهُ ذَلِكَ الْقَاضِي نَفْسُهُ أَوْ غَيْرُهُ؛ لِأَنَّ الْخَلَلَ الَّذِي ظَهَرَ تَبَيَّنَ أَنَّهُ مَحَلُّ الْحُكْمِ لَا فِي الْحُكْمِ وَمِنْ الْأَلْفَاظِ الْمُتَعَارَفَةِ فِي التَّسْجِيلِ، لِيُسَجِّلَ بِثُبُوتِهِ وَصِحَّتِهِ.
قَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ: كَثِيرًا مَا تُكْتَبُ هَذِهِ اللَّفْظَةُ فِي التَّسْجِيلَاتِ فَيُحْتَمَلُ عَوْدُ الضَّمِيرِ فِي صِحَّتِهِ عَلَى الثُّبُوتِ فَيُرَاجَعُ فِيهِ الْحَاكِمُ، وَلَا يَكُونُ صَرِيحًا فَإِنْ عَسُرَتْ الْمُرَاجَعَةُ فَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى الْحُكْمِ بِصِحَّةِ التَّصَرُّفِ كَمَا لَوْ صَرَّحَ بِهِ؛ لِأَنَّهُ كَالْمُتَعَارَفِ وَمَعْنَى صِحَّتِهِ كَوْنُهُ بِحَيْثُ تَتَرَتَّبُ آثَارُهُ عَلَيْهِ، وَمَعْنَى حُكْمِ الْقَاضِي بِذَلِكَ إلْزَامُهُ لِكُلِّ أَحَدٍ، فَإِذَا كَانَ فِي مَحَلٍّ مُخْتَلَفٍ فِيهِ نَفَذَ وَصَارَ فِي حُكْمِ الظَّاهِرِ كَالْمُجْمَعِ عَلَيْهِ، وَمِنْ شَرْطِ هَذَا الْحُكْمِ ثُبُوتُ الْمِلْكِ، وَالْحِيَازَةُ وَأَهْلِيَّةُ التَّصَرُّفِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي اللَّفْظِ الْأَوَّلِ، وَصِحَّةُ الصِّيغَةِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ، فَكُلَّمَا كَانَ مُخْتَلَفًا فِيهِ وَعَرَفَهُ الْقَاضِي وَحَكَمَ بِهِ مَعَ عِلْمِهِ بِالْخِلَافِ ارْتَفَعَ أَثَرُ ذَلِكَ الْخِلَافِ بِالنِّسْبَةِ إلَى تِلْكَ الْوَاقِعَةِ فَهِيَ صِحَّةٌ مُطْلَقَةٌ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ بِحَسَبِ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ رَفْعِ الْخِلَافِ، وَقَدْ يَعْرِضُ لِهَذَا الْفَسَادُ كَمَا تَقَدَّمَ.
وَمِنْ أَلْفَاظِ الْحُكْمِ لِيُسَجِّلَ بِثُبُوتِهِ وَالْحُكْمُ بِمُوجِبِهِ، وَهَذَا مِنْ الْأَلْفَاظِ الْمُتَعَارَفَةِ الَّتِي غَلَبَتْ فِي هَذَا الزَّمَانِ، وَهَذِهِ اللَّفْظَةُ أَحَطُّ رُتْبَةً مِنْ الْحُكْمِ بِالصِّحَّةِ. قَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ: لِأَنَّ الْحُكْمَ بِالصِّحَّةِ يَسْتَدْعِي ثَلَاثَةَ أَشْيَاءَ: أَهْلِيَّةَ التَّصَرُّفِ وَصِحَّةَ صِيغَتِهِ، وَكَوْنَ تَصَرُّفِهِ فِي مَحَلِّهِ، وَلِذَلِكَ اُشْتُرِطَ فِيهِ ثُبُوتُ الْمِلْكِ وَالْحِيَازَةُ، وَالْحُكْمُ بِالْمُوجِبِ يَسْتَدْعِي شَيْئَيْنِ، وَهُمَا: أَهْلِيَّةُ التَّصَرُّفِ وَصِحَّةُ صِيغَتِهِ، فَيُحْكَمُ بِمُوجِبِهَا وَهُوَ مُقْتَضَاهَا، وَمَعْنَاهُ أَنَّهُ إنْ كَانَ مَالِكًا صَحَّ الْحُكْمُ؛ لِأَنَّ مُقْتَضَاهَا وَمُوجِبَهَا ذَلِكَ، وَكَأَنَّهُ حَكَمَ بِصِحَّةِ تِلْكَ الصِّيغَةِ الصَّادِرَةِ مِنْ ذَلِكَ الشَّخْصِ فَلَا يَتَطَرَّقُ إلَيْهِ نَقْضٌ مِنْ ذَلِكَ الْوَجْهِ.
قَالَ: وَلِذَلِكَ أَقُولُ: لَيْسَ حَاكِمٌ آخَرُ يَرَى خِلَافَ ذَلِكَ نَقَضَهُ، وَلَا يُنْقَضُ إلَّا أَنْ يَتَبَيَّنَ عَدَمُ الْمِلْكِ، فَيَكُونُ نَقْضُهُ كَنَقْضِ الْحُكْمِ بِالصِّحَّةِ.
تَنْبِيهٌ:
وَإِنَّمَا جَازَ الْحُكْمُ بِالْمُوجِبِ مَعَ عَدَمِ ثُبُوتِ الْمِلْكِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَعْسُرُ إثْبَاتُ الْمِلْكِ، قَالَ: وَلَمْ نَجِدْ هَذِهِ اللَّفْظَةَ وَهِيَ الْحُكْمُ بِالْمُوجِبِ فِي شَيْءٍ مِنْ كُتُبِ الْمَذَاهِبِ، إلَّا فِي كِتَابِ أَصْحَابِنَا.
وَقَدْ تَعَرَّضَ الشَّيْخُ الْعَلَّامَةُ سِرَاجُ الدِّينِ الْبُلْقِينِيُّ لِبَيَانِ حَدِّ اللَّفْظَةِ فَقَالَ مَا مُلَخَّصُهُ: الْحُكْمُ بِالْمُوجِبِ هُوَ قَضَاءُ الْمُتَوَلِّي بِأَمْرٍ ثَبَتَ عِنْدَهُ بِالْإِلْزَامِ بِمَا يَتَرَتَّبُ عَلَى ذَلِكَ الْأَمْرِ خَاصًّا أَوْ عَامًّا عَلَى الْوَجْهِ الْمُعْتَبَرِ عِنْدَهُ فِي ذَلِكَ شَرْعًا، فَذِكْرُ الْقَضَاءِ يَخْرُجُ بِهِ الثُّبُوتُ، فَإِنَّهُ لَيْسَ بِحُكْمٍ عَلَى الْأَصَحِّ كَمَا سَيَأْتِي إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَيُفْهَمُ مِنْ قَوْلِهِ (الْمُتَوَلِّي) الْإِمَامُ وَنُوَّابُهُ الَّذِينَ لَهُمْ ذَلِكَ عَلَى مَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي حَدِّ الْحُكْمِ بِالصِّحَّةِ، وَيَجْرِي فِي قَوْلِهِ (ثَبَتَ عِنْدَهُ) مَا تَقَدَّمَ فِي حَدِّ الصِّحَّةِ فِي مَعْنَى ذَلِكَ وَقَوْلُهُ (بِالْإِلْزَامِ) إلَى آخِرِهِ يَعْنِي بِالْإِلْزَامِ بِذَلِكَ الْأَمْرَ الَّذِي ثَبَتَ عِنْدَهُ وَهُوَ صُدُورُ الصِّيغَةِ فِي ذَلِكَ، فَالْحُكْمُ يَتَوَجَّهُ إلَى الْإِلْزَامِ بِذَلِكَ الشَّيْءِ الْخَاصِّ لَا مُطْلَقًا كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي كَلَامِ الشَّيْخِ تَقِيِّ الدِّينِ. وَمِنْ هَا هُنَا يَظْهَرُ بَيْنَ الْحُكْمِ بِالصِّحَّةِ وَالْحُكْمِ بِالْمُوجِبِ فُرُوقٌ.
الْأَوَّلُ: أَنَّ الْحُكْمَ بِالصِّحَّةِ مُنْصَبٌّ إلَى نَفَاذِ الْعَقْدِ الصَّادِرِ مِنْ بَيْعٍ أَوْ وَقْفٍ وَنَحْوِهِمَا، وَالْحُكْمُ بِالْمُوجِبِ مُنْصَبٌّ إلَى ثُبُوتِ صُدُورِ ذَلِكَ الشَّيْءِ وَالْحُكْمُ عَلَى مَنْ صَدَرَ مِنْهُ بِمُوجِبِ مَا صَدَرَ مِنْهُ، وَلَا يَسْتَدْعِي ثُبُوتَ أَنَّهُ مَالِكٌ مَثَلًا إلَى حِينِ الْبَيْعِ أَوْ الْوُقُوفِ، وَلَا بَقِيَّةَ مَا تَقَدَّمَ فِيمَا يُعْتَبَرُ فِي الْحُكْمِ بِالصِّحَّةِ، وَهَذَا بِالنِّسْبَةِ إلَى الْبَائِعِ أَوْ الْوَاقِفِ، إذَا حَكَمَ عَلَيْهِ الْقَاضِي بِمُوجِبِ مَا صَدَرَ مِنْهُ، وَهَذَا غَيْرُ سَالِمٍ مِنْ الِاعْتِرَاضِ وَسَيَأْتِي مَا يَرُدُّ عَلَيْهِ.
الثَّانِي: أَنَّ الْعَقْدَ الصَّادِرَ إذَا كَانَ صَحِيحًا بِاتِّفَاقٍ وَوَقَعَ الْخِلَافُ فِي مُوجِبِهِ فَالْحُكْمُ بِالصِّحَّةِ فِيهِ لَا يَمْنَعُ مِنْ الْعَمَلِ بِمُوجِبِهِ عِنْدَ غَيْرِ الَّذِي حَكَمَ بِالصِّحَّةِ، وَلَوْ حَكَمَ فِيهِ الْأَوَّلُ بِالْمُوجِبِ امْتَنَعَ الْعَمَلُ بِمُوجِبِهِ عِنْدَ الْحَاكِمِ الثَّانِي، مِثَالُ ذَلِكَ التَّدْبِيرُ صَحِيحٌ بِاتِّفَاقٍ، وَمُوجِبُهُ إذَا كَانَ تَدْبِيرًا مُطْلَقًا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ مُنِعَ الْبَيْعُ، فَلَوْ حَكَمَ حَنَفِيٌّ بِصِحَّةِ التَّدْبِيرِ الْمَذْكُورِ لَمْ يَكُنْ مَانِعًا مِنْ بَيْعِهِ عِنْدَ مَنْ يَرَى صِحَّةَ بَيْعِ الْمُدَبَّرِ، وَلَوْ حَكَمَ الْحَنَفِيُّ بِمُوجِبِ التَّدْبِيرِ امْتَنَعَ الْبَيْعُ إلَّا عِنْدَ مَنْ يَرَى نَقْضَ الْحُكْمِ الْمَذْكُورِ لِمُخَالَفَتِهِ السُّنَّةَ الصَّحِيحَةَ، وَهَذَا النَّقْضُ حِينَئِذٍ لِمُدْرَكٍ آخَرَ.
الثَّالِثُ أَنَّ كُلَّ دَعْوَةٍ كَانَ الْمَطْلُوبُ فِيهَا إلْزَامَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِمَا أَقَرَّ بِهِ أَوْ قَامَتْ بِهِ عَلَيْهِ الْبَيِّنَةُ، فَإِنَّ الْحُكْمَ حِينَئِذٍ فِيهَا بِالْإِلْزَامِ هُوَ الْحُكْمُ بِالْمُوجِبِ، وَلَا يَكُونُ بِالصِّحَّةِ، وَلَكِنْ يَتَضَمَّنُ الْحُكْمُ بِالْمُوجِبِ الْحُكْمَ بِصِحَّةِ الْإِقْرَارِ وَنَحْوِهِ.
الرَّابِعُ: أَنَّ الْحُكْمَ عَلَى الزَّانِي بِمُوجِبِ زِنَاهُ وَعَلَى السَّارِقِ بِمُوجِبِ سَرِقَتِهِ، فَإِنَّهُ يَدْخُلُهُ الْحُكْمُ بِالْمُوجِبِ، وَلَا يَدْخُلُهُ الْحُكْمُ بِالصِّحَّةِ، وَكَذَا الْحُكْمُ بِحَبْسِ الْمِدْيَانِ حُكْمٌ بِالْمُوجِبِ، وَلَا يَدْخُلُهُ الْحُكْمُ بِصِحَّةِ الْحَبْسِ، إلَّا إذَا كَانَ مُخْتَلَفًا فِيهِ، وَطُلِبَ فِيهِ الْحُكْمُ بِالصِّحَّةِ بِطَرِيقِهِ، فَإِنَّهُ يُحْكَمُ حِينَئِذٍ بِالصِّحَّةِ، وَيَكُونُ الْحُكْمُ بِالْمُوجِبِ وَالْحَالُ مَا ذُكِرَ مُتَضَمِّنًا لِلْحُكْمِ بِصِحَّةِ الْحَبْسِ الْمُخْتَلَفِ فِيهِ، وَهَذَا ضَابِطٌ يَنْبَغِي التَّنْبِيهُ لَهُ.
الْخَامِسُ: أَنَّ الْحُكْمَ بِتَنْفِيذِ الْحُكْمِ الْمُخْتَلَفِ فِيهِ يَكُونُ بِالصِّحَّةِ عِنْدَ الْمُوَافِقِ، وَكَذَا عِنْدَ الْمُخَالِفِ الَّذِي يُجِيزُ التَّنْفِيذَ فِي الْمُخْتَلَفِ فِيهِ، فَالْحُكْمُ بِمُوجِبِ الْحُكْمِ الْمُخْتَلَفِ فِيهِ يَكُونُ حُكْمًا بِالْإِلْزَامِ بِالْحُكْمِ الْمُخْتَلَفِ فِيهِ، فَيَكُونُ حُكْمًا بِالْإِلْزَامِ بِذَلِكَ الشَّيْءِ الْمَحْكُومِ بِهِ، فَيَجُوزُ مِنْ الْمُوَافِقِ، وَلَا يَجُوزُ مِنْ الْمُخَالِفِ؛ لِأَنَّهُ ابْتِدَاءُ حُكْمٍ بِذَلِكَ الشَّيْءِ مِنْ غَيْرِ تَعَرُّضٍ لِلْحُكْمِ الْأَوَّلِ فِي هَذَا الْحُكْمِ الثَّانِي، وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ عِنْدَ الْمُخَالِفِ.
تَنْبِيهٌ:
قَوْلُهُ: لِأَنَّهُ ابْتِدَاءُ حُكْمٍ مُخَالِفٍ لِمَا قَالَهُ الْقَرَافِيُّ؛ لِأَنَّ التَّنْفِيذَ عِنْدَهُ لَيْسَ هُوَ إنْشَاءُ حُكْمٍ إلَّا أَنْ يُنْشِئَ فِيهِ حُكْمًا وَسَيَأْتِي مَا ذَكَرَهُ فِي ذَلِكَ.
السَّادِسُ: لَوْ تَرَافَعَ الْمُتَبَايِعَانِ إلَى حَاكِمٍ شَافِعِيٍّ أَوْ مَالِكِيٍّ وَتَنَازَعَا عَلَى وَجْهٍ يَقْتَضِي التَّحَالُفَ فَحَكَمَ بِتَحَالُفِهِمَا كَانَ ذَلِكَ مِنْهُ حُكْمًا بِالْإِلْزَامِ لَا بِصِحَّةِ التَّحَالُفِ، فَالتَّحَالُفُ قَبْلَ وُقُوعِهِ لَا يُحْكَمُ بِصِحَّتِهِ، وَكَذَا كُلُّ يَمِينٍ وَإِلْزَامٍ فِيمَا لَمْ يَقَعْ فَإِنَّهُ لَا يُحْكَمُ فِيهِ إلَّا بِالْإِلْزَامِ، وَهُوَ مُوجِبُ الْحُجَّةِ الْقَائِمَةِ، وَلَا يُحْكَمُ فِيهِ بِالصِّحَّةِ.
السَّابِعُ: لَوْ حَكَمَ حَنَفِيٌّ بِمُوجِبِ الْبَيْعِ بَعْدَ ثُبُوتِ مِلْكِ الْبَائِعِ، وَأَنَّهُ مِنْ أَهْلِ التَّصَرُّفِ، لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ بِصِحَّةِ الْبَيْعِ، وَلَكِنْ يَكُونُ بَعْدَ قَبْضِ الْمُشْتَرِي حُكْمًا لَهُ بِالْمِلْكِ؛ لِأَنَّ مُوجِبَ الْبَيْعِ الْفَاسِدِ عِنْدَهُ بَعْدَ الْقَبْضِ حُصُولُ الْمِلْكِ عَلَى مَا هُوَ مُقَرَّرٌ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ، وَمُوجِبَ الْبَيْعِ الْفَاسِدِ بَعْدَ الْفَوَاتِ حُصُولُ الْمِلْكِ عَلَى مَا هُوَ مُقَرَّرٌ فِيمَا يَفُوتُ بِهِ الْبَيْعُ، وَعَلَى هَذَا فَلَوْ عَرَفَ الْحَاكِمُ فَسَادَ الْبَيْعِ وَحُصُولَ قَبْضِ الْمُشْتَرِي أَوْ فَسَادَ الْبَيْعِ وَفَوَاتَ الْمَبِيعِ بِيَدِهِ، وَطَلَبَ الْمُشْتَرِي مِنْ الْقَاضِي الْحُكْمَ بِالْمِلْكِ أَوْ بِمُوجِبِ مَا جَرَى، فَإِنَّهُ يَحْكُمُ لَهُ بِذَلِكَ، أَعْنِي بِالْمُوجِبِ، وَلَا يَحْكُمُ لَهُ بِالصِّحَّةِ أَعْنِي صِحَّةَ الْبَيْعِ، وَلَا بِصِحَّةِ الْقَبْضِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَقَعْ فِي الْأَصْلِ قَبْضًا صَحِيحًا.
الثَّامِنُ: يُتَصَوَّرُ الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا فِي بَعْضِ صُوَرِ الْقَبْضِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَفِي قَبْضِ الْمُخْتَلَفِ فِي صِحَّتِهِ وَفَسَادِهِ كَمَا إذَا أَذِنَ الْبَائِعُ لِلْمُشْتَرِي أَنْ يَكِيلَ لِنَفْسِهِ مَا اشْتَرَاهُ مَكِيلًا فَفَعَلَ فَإِنَّ فِي صِحَّةِ الْقَبْضِ وَجْهَيْنِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَأَصَحُّهُمَا أَنَّهُ لَا يَصِحُّ، وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ يَصِحُّ. قَالَ الشَّيْخُ سِرَاجُ الدِّينِ الْبُلْقِينِيُّ: فَلَوْ اشْتَرَى قَمْحًا مَثَلًا وَشَرَطَ فِيهِ الْكَيْلَ، وَكَانَ الْبَائِعُ قَدْ اشْتَرَاهُ مَكِيلًا وَهُوَ فِي مِكْيَالِ الْبَائِعِ، فَهَلْ يُغْنِي ذَلِكَ عَنْ التَّجْدِيدِ فِيهِ وَجْهَانِ. رَجَّحَ جَمْعٌ مِنْ الْأَصْحَابِ أَنَّهُ يُكْتَفَى بِهِ، وَظَاهِرُ نَصِّ الشَّافِعِيِّ عَدَمُ الِاكْتِفَاءِ حَتَّى يَجْرِيَ فِيهِ الصَّاعَانِ، وَمَذْهَبُ مَالِكٍ جَوَازُ ذَلِكَ ذَكَرَهُ اللَّخْمِيُّ فِي التَّبْصِرَةِ فِي السَّلَمِ الثَّانِي. فَإِذَا فَرَّعْنَا عَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَارْتَفَعَتْ قَضِيَّةٌ مِنْ هَاتَيْنِ أَعْنِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ وَاَلَّتِي قَبْلَهَا لِحَاكِمٍ شَافِعِيٍّ مَثَلًا، فَحَكَمَ بِصِحَّةِ تَصَرُّفِ الْمُشْتَرِي التَّصَرُّفَ الَّذِي لَا يَصِحُّ الْعَقْدُ إلَّا بَعْدَ صِحَّةِ الْقَبْضِ، فَإِنَّ ذَلِكَ لِتَضَمُّنِ الْحُكْمِ بِصِحَّةِ الْقَبْضِ، وَلَوْ حَكَمَ بِصِحَّةِ الْقَبْضِ بِطَرِيقِهِ صَحَّ، وَلَوْ حَكَمَ بِمُوجِبِ الْقَبْضِ، وَلَمْ يَتَعَرَّضْ لِمُعْتَقَدِهِ فِي الْقَبْضِ الْمَذْكُورِ لَمْ يَكُنْ الْحُكْمُ مُفِيدًا لِصِحَّةِ الْقَبْضِ عَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ خِلَافًا لِلْمَالِكِيَّةِ.
قَالَ: إلَّا أَنْ يُبَيِّنَ الْحَاكِمُ عَقِيدَتَهُ فِي الْقَبْضِ، وَيَقُولُ: حَكَمْت بِمُوجِبِ الْقَبْضِ فِي ذَلِكَ عَلَى مُعْتَقِدِي، فَلَوْ كَانَ مُعْتَقَدُ الْحَاكِمِ أَنَّ الْقَبْضَ لَيْسَ بِصَحِيحٍ وَمُعْتَقَدُهُ أَنَّهُ يَسْتَقِرُّ بِهِ عَقْدُ الْبَيْعِ كَمَا جَزَمَ بِهِ الْإِمَامُ وَغَيْرُهُ، وَهُوَ أَحَدُ الْوَجْهَيْنِ، كَانَ الْحُكْمُ بِمُوجِبِ الْقَبْضِ حِينَئِذٍ مُقْتَضَاهُ اسْتِقْرَارُ الْبَيْعِ بِهَذَا الْقَبْضِ.
التَّاسِعُ: أَنَّ الْحُكْمَ بِالْمُوجِبِ يَتَضَمَّنُ أَشْيَاءَ لَا يَتَضَمَّنُهَا الْحُكْمُ بِالصِّحَّةِ، فَمِنْهَا الْحُكْمُ بِإِلْزَامِهِ بِمُجَرَّدِ الْعَقْدِ إذَا صَدَرَ الْحُكْمُ بِذَلِكَ، وَبَيَانُهُ أَنَّ الْمَالِكِيَّ وَالْحَنَفِيَّ إذَا حَكَمَا بِصِحَّةِ الْبَيْعِ أَعْنِي بِمُجَرَّدِ عَقْدِ الْبَيْعِ لَمْ يَمْنَعْ ذَلِكَ إثْبَاتَ خِيَارِ الْمَجْلِسِ، وَلَا فَسْخَ الْمُتَعَاقِدَيْنِ أَوْ أَحَدِهِمَا بِسَبَبِ ذَلِكَ الْحُكْمِ؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ بِالصِّحَّةِ يُجَامِعُ ذَلِكَ، فَأَمَّا لَوْ حَكَمَ الْمَالِكِيُّ أَوْ الْحَنَفِيُّ بِمُوجِبِ الْبَيْعِ، وَالْإِلْزَامُ بِمُقْتَضَاهُ فَإِنَّهُ عَلَى الْحَاكِمِ الشَّافِعِيِّ تَمْكِينُ الْمُتَعَاقِدَيْنِ أَوْ أَحَدِهِمَا مِنْ الْفَسْخِ لِخِيَارِ الْمَجْلِسِ، وَلَيْسَ لِلْمُتَعَاقِدَيْنِ، وَلَا لِأَحَدِهِمَا الِانْفِرَادُ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يُؤَدِّي إلَى نَقْضِ حُكْمِ الْحَاكِمِ فِي الْمَحَلِّ الَّذِي حَكَمَ بِهِ وَهُوَ الْإِيجَابُ، وَهَذَا إذَا لَمْ يَنْظُرْ إلَى نَقْضِ الْقَضَاءِ بِنَفْيِ خِيَارِ الْمَجْلِسِ فَإِنْ نَظَرْنَا إلَى ذَلِكَ فَذَلِكَ لِمُدْرَكٍ آخَرَ.
وَمِنْهَا الْقَرْضُ فَإِنَّهُ يَدْخُلُهُ الْحُكْمُ بِالصِّحَّةِ إذَا وُجِدَ مُقْتَضِيهَا وَيَدْخُلُهُ الْحُكْمُ بِالْمُوجِبِ فَيَنْظُرُ فِيهِ حِينَئِذٍ إلَى عَقِيدَةِ الْحَاكِمِ فِي حُكْمِهِ بِالْمُوجِبِ فَإِنْ كَانَ مِنْ عَقِيدَتِهِ أَنَّ الْقَرْضَ يُمْلَكُ بِالْقَبْضِ كَمَا تَقُولُهُ الْمَالِكِيَّةُ فَإِنَّهُ لَا يَرْجِعُ الْمُقْرِضُ فِيمَا أَقْرَضَهُ، فَإِنَّ الْحَاكِمَ قَدْ حَكَمَ بِصِحَّةِ الْقَرْضِ لَمْ يَمْتَنِعْ عَلَى الْمُقْرِضِ الرُّجُوعُ فِي الْقَرْضِ عِنْدَ حَاكِمٍ يَرَى الرُّجُوعَ فِيهِ، إذْ هُوَ فَرْضٌ صَحِيحٌ، وَيَصِحُّ الرُّجُوعُ فِيهِ فَلَا يُنَافِي الْحُكْمُ بِالصِّحَّةِ الْقِيَامَ بِالرُّجُوعِ فِي الْقَرْضِ، وَإِنْ حَكَمَ بِالْمُوجِبِ وَالْإِلْزَامِ بِمُقْتَضَى مَذْهَبِهِ امْتَنَعَ عَلَى الْمُقْرِضِ الرُّجُوعُ فِي الْعَيْنِ الْمُقْرَضَةِ الْبَاقِيَةِ عِنْدَ الْمُقْتَرِضِ؛ لِأَنَّ مُوجِبَ الْقَرْضِ عِنْدَ الْحَاكِمِ الْمَذْكُورِ امْتِنَاعُ الرُّجُوعِ.
وَمِنْهَا: الرَّهْنُ فَإِنَّهُ يَدْخُلُهُ الْحُكْمُ بِالصِّحَّةِ وَالْحُكْمُ بِالْمُوجِبِ، وَالْحُكْمُ فِيهِ بِالصِّحَّةِ لَا يَمْنَعُ الْمُخَالِفَ فِي الْآثَارِ مِنْ الْعَمَلِ بِأَثَرِهِ عَلَى عَقِيدَتِهِ فَإِنَّهُ لَا يُنَاقِضُ شَيْئًا مِنْ الْحُكْمِ بِالصِّحَّةِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى. وَإِنْ صَدَرَ فِيهِ الْحُكْمُ بِالْمُوجِبِ، وَالْإِلْزَامُ بِمُقْتَضَاهُ نُظِرَ إلَى الْمُخْتَلَفِ فِيهِ، فَإِنْ كَانَ مِنْ مُوجِبِهِ عِنْدَ الْحَاكِمِ الْمَذْكُورِ الْإِلْزَامُ امْتَنَعَ عَلَى الْمُخَالِفِ الْعَمَلُ بِمَا يُخَالِفُ عَقِيدَةَ الْحَاكِمِ الْمَذْكُورِ. وَمِثَالُهُ لَوْ حَكَمَ شَافِعِيٌّ بِصِحَّةِ الرَّهْنِ وَحَصَلَ فِيهِ إعَادَتُهُ إلَى الرَّاهِنِ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مَانِعًا لِمَنْ يَرَى فَسْخَ الرَّهْنِ بِالْعَوْدِ إلَى الرَّاهِنِ عَلَى وَجْهٍ مَخْصُوصٍ، وَهُوَ أَنْ يُعِيدَهُ اخْتِيَارًا أَوْ يَفُوتَ الْحَقُّ فِيهِ بِإِعْتَاقِ الرَّاهِنِ مَثَلًا وَقِيَامِ الْغُرَمَاءِ عَلَيْهِ، أَوْ إذْنِ الْمُرْتَهِنِ لِلرَّاهِنِ فِي الْوَطْءِ أَنْ يَفْسَخَهُ؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ بِالصِّحَّةِ لَيْسَ مُنَافِيًا لِلْفَسْخِ بِمَا ذُكِرَ، بِخِلَافِ مَا لَوْ حَكَمَ شَافِعِيٌّ بِمُوجِبِ الرَّهْنِ عِنْدَهُ، وَالْإِلْزَامُ بِمُقْتَضَاهُ فَإِنَّهُ يَمْتَنِعُ عَلَى الْحَاكِمِ الْمَالِكِيِّ أَنْ يَفْسَخَهُ بِمَا سَبَقَ ذِكْرُهُ؛ لِأَنَّ مُوجِبَهُ عِنْدَ الْحَاكِمِ الشَّافِعِيِّ دَوَامُ الْحَقِّ فِيهِ لِلْمُرْتَهِنِ مَعَ الْعَوْدِ مُطْلَقًا، فَالْحُكْمُ بِالْفَسْخِ لِأَجْلِ الْعَوْدِ الْمَذْكُورِ مُنَافٍ لِحُكْمِ الشَّافِعِيِّ بِمُوجِبِهِ عِنْدَهُ- وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ-. فَهَذِهِ الْفُرُوقُ التِّسْعَةُ مَعَ الْفَرْقِ الْأَوَّلِ، وَهُوَ الْعَاشِرُ يَحْصُلُ بِهَا التَّمْيِيزُ بَيْنَ الْحُكْمِ بِالصِّحَّةِ وَالْحُكْمِ بِالْمُوجِبِ.

.فَصْلٌ فِي بَيَانِ مَا يَجْتَمِعُ فِيهِ الْحُكْمُ بِالصِّحَّةِ وَالْحُكْمُ بِالْمُوجِبِ:

وَذَلِكَ فِي أُمُورٍ: مِنْهَا أَنَّهُ لَا يُنْقَضُ الْحُكْمُ بِوَاحِدٍ مِنْهَا إذَا صَدَرَا فِي مَجَالِ الِاجْتِهَادِ الَّتِي لَا يُنْقَضُ الْحُكْمُ فِيهَا، وَإِنَّمَا اسْتَوَيَا فِي ذَلِكَ لِتَضَمُّنِ الْحُكْمِ بِالْمُوجِبِ الْحُكْمَ بِالصِّحَّةِ، إمَّا عَامًّا عِنْدَ اسْتِيفَاءِ الشُّرُوطِ أَوْ خَاصًّا بِالنِّسْبَةِ إلَى الْمَحْكُومِ عَلَيْهِ بِذَلِكَ، فَكَمَا لَا يَرِدُ النَّقْضُ عَلَى الْحَاكِمِ بِالصِّحَّةِ لَا يَرِدُ عَلَى مَا يَتَضَمَّنُهَا إذَا أَجَزْنَاهُ، فَأَمَّا إذَا قُلْنَا: لَا يَجُوزُ الْحُكْمُ بِالْمُوجِبِ مَعَ عَدَمِ اسْتِيفَاءِ الشُّرُوطِ فَيَكُونُ الْحُكْمُ قَدْ وَقَعَ مُخْتَلًّا، وَالْحُكْمُ الْمُخْتَلَفُ فِيهِ غَيْرُ الْحُكْمِ بِأَمْرٍ مُخْتَلَفٍ فِيهِ، فَيَسُوغُ لِمَنْ لَا يَرَى الْحُكْمَ بِذَلِكَ أَنْ يَنْقُضَهُ إلَّا إذَا حَكَمَ حَاكِمٌ قَبْلَهُ بِصِحَّةِ الْحُكْمِ الصَّادِرِ بِالْمُوجِبِ، وَكَانَ الْحَاكِمُ مِمَّنْ يَرَى تَسْوِيغَ الْحُكْمِ بِالْمُوجِبِ عَلَى الْوَجْهِ الْمَذْكُورِ، فَإِنَّهُ حِينَئِذٍ لَا يُنْقَضُ.
وَمِنْهَا: أَنَّهُ إذَا رُفِعَ لِلْقَاضِي كِتَابُ حُكْمٍ يُسَوَّغُ تَنْفِيذُهُ عِنْدَ نَفَّذَهُ قَرُبَتْ الْمَسَافَةُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْحُكْمِ فِيهِ أَوْ بَعُدَتْ، سَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ الْحُكْمُ بِالصِّحَّةِ أَوْ بِالْمُوجِبِ، بِخِلَافِ كِتَابِ سَمَاعِ الْبَيِّنَةِ فَإِنَّهُ لَا يَقْبَلُهُ إلَّا إذَا كَانَتْ الْمَسَافَةُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ سَامِعِ الْبَيِّنَةِ بِحَيْثُ تُقْبَلُ فِي مِثْلِهَا الشَّهَادَةُ عَلَى الشَّهَادَةِ. وَمِنْهُمْ مَنْ أَجَازَ إمْضَاءَ ذَلِكَ أَيْضًا بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ حُكْمٌ بِقِيَامِ الْبَيِّنَةِ، وَرَجَّحَهُ الْإِمَامُ الْغَزَالِيُّ مِنْ الشَّافِعِيَّةِ، وَالْأَوَّلُ هُوَ الْمَشْهُورُ وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ، يَعْنِي اشْتِرَاطَ الْمَسَافَةِ الْمَذْكُورَةِ، وَذَلِكَ مَذْكُورٌ فِي بَابِ الشَّهَادَةِ عَلَى الشَّهَادَةِ.
وَمِنْهَا تَقْدِيمُ الشُّهُودِ الرَّاجِعِينَ بَعْدَ الْحُكْمِ بِالصِّحَّةِ أَوْ بِالْمُوجِبِ فِي الْمَوَاضِعِ الَّتِي يَثْبُتُ فِيهَا تَغْرِيمُهُمْ.
وَمِنْهَا أَنَّهُ لَوْ حَكَمَ حَاكِمٌ يَرَى جَوَازَ إخْرَاجِ الْقِيمَة فِي الزَّكَاةِ بِصِحَّةِ الْإِخْرَاجِ أَوْ بِمُوجِبِ الْإِخْرَاجِ عِنْدَهُ، وَهُوَ سُقُوطُ الْفَرْضِ بِذَلِكَ كَانَا سَوَاءً فِي ذَلِكَ، وَلَيْسَ لِلسَّاعِي أَنْ يَطْلُبَ الْمَالِكَ بِإِخْرَاجِ الْوَاجِبِ عِنْدَهُ إذَا كَانَ ذَلِكَ مُخَالِفًا لِمَذْهَبِهِ. وَمِنْهَا: إذَا تَرَافَعَ الْوَلِيُّ الْوَارِثُ وَالْوَصِيُّ إلَى حَكَمٍ يَرَى صِحَّةَ الصَّوْمِ عَنْ الْمَيِّتِ فَطَلَبَ الْوَصِيُّ أَنْ يُخْرِجَ الطَّعَامَ وَامْتَنَعَ الْوَارِثُ وَصَامَ عَنْ الْمَيِّتِ فَحَكَمَ الْحَاكِمُ بِصِحَّةِ الصَّوْمِ أَوْ بِمُوجِبِهِ، فَإِنَّهُ لَيْسَ لِلْوَصِيِّ مُطَالَبَةُ الْوَارِثِ.
تَنْبِيهٌ:
إذَا كَانَ الْحُكْمُ بِالْمُوجِبِ مُسْتَوْفِيًا لِمَا يُعْتَبَرُ فِي الْحُكْمِ بِالصِّحَّةِ كَانَ أَقْوَى؛ لِوُجُودِ الْإِلْزَامِ فِيهِ وَتَضَمُّنِهِ الْحُكْمَ بِالصِّحَّةِ.

.فَصْلٌ قَدْ يَتَضَمَّنُ الْحُكْمَ بِالْمُوجِبِ وَالْحُكْمَ بِالصِّحَّةِ:

مِثَالُ ذَلِكَ: إذَا شَهِدَتْ عِنْدَهُ الشُّهُودُ بِأَنَّ هَذَا وَقْفٌ وَذَكَرُوا الْمَصْرِفَ عَلَى وَجْهٍ مُعَيَّنٍ فَحَكَمَ الْقَاضِي بِمُوجِبِ شَهَادَتِهِمْ، كَانَ ذَلِكَ الْحُكْمُ مُتَضَمِّنًا لِلْحُكْمِ بِالصِّحَّةِ وَالْحُكْمِ بِالْمُوجِبِ.
تَنْبِيهٌ:
قَالَ الشَّيْخُ سِرَاجُ الدِّينِ وَاعْلَمْ أَنَّ الَّذِي تَقَدَّمَ فِي الْحُكْمِ بِالْمُوجِبِ مِنْ أَنَّهُ لَا يَقْتَضِي اسْتِيفَاءَ الشُّرُوطِ الْمُعْتَبَرَةِ فِي الْحُكْمِ بِالصِّحَّةِ، وَأَنَّهُ الَّذِي جَرَى بِهِ عَمَلُ الْقُضَاةِ يُخَالِفُ مَا نَصَّ عَلَيْهِ الْإِمَامُ الشَّافِعِيُّ وَمَا نَصَّ عَلَيْهِ الْمَالِكِيَّةُ أَيْضًا فِي الْقِسْمَةِ، وَهُوَ أَنَّهُ إذَا كَانَ بِأَيْدِي جَمَاعَةٍ أَرْضٌ أَوْ غَيْرُهَا فَجَاءُوا إلَى الْحَاكِمِ وَطَلَبُوا مِنْهُ الْقِسْمَةَ وَلَمْ يُثْبِتُوا أَنَّهَا مِلْكُهُمْ فَإِنَّ الْوَاجِبَ عَلَى الْقَاضِي أَنْ لَا يُجِيبَهُمْ، وَيَقُولَ لَهُمْ إنْ شِئْتُمْ فَاقْسِمُوا بَيْنَ أَنْفُسِكُمْ أَوْ يَقْسِمُ بَيْنَكُمْ مَنْ تَرْضَوْنَ، وَإِنْ شِئْتُمْ قَسْمِي فَأَقِيمُوا الْبَيِّنَةَ عَلَى أُصُولِ حُقُوقِكُمْ مِنْهَا، وَذَلِكَ أَنِّي إنْ قَسَمْت بِلَا بَيِّنَةٍ وَجِئْتُمْ بِشُهُودٍ يَشْهَدُونَ أَنِّي قَسَمْت بَيْنَكُمْ هَذِهِ الدَّارَ إلَى قَاضٍ غَيْرِي كَانَ ذَلِكَ سَبَبًا لَأَنْ يُجْعَلَ ذَلِكَ حُكْمًا مِنِّي لَكُمْ بِهَا، وَلَعَلَّهَا لِغَيْرِكُمْ لَيْسَ لَكُمْ مِنْهَا شَيْءٌ، فَلَا يَقْسِمُ الْحَاكِمُ إلَّا بِبَيِّنَةٍ، وَهَذَا النَّصُّ لِلْمَالِكِيَّةِ كَمَا ذَكَرَهُ الشَّيْخُ سِرَاجُ الدِّينِ، قَالَ: وَقِيلَ يَقْسِمُ الْقَاضِي بَيْنَهُمْ وَيُشْهِدُ أَنَّهُ قَسَمَ عَلَى إقْرَارِهِمْ.
تَنْبِيهٌ:
وَعَلَى هَذَا فَلَا يَجُوزُ لِلْحَاكِمِ الْمَالِكِيِّ أَنْ يَحْكُمَ بِالْمُوجِبِ إلَّا بَعْدَ أَنْ يَسْتَوْفِيَ الشُّرُوطَ الْمَطْلُوبَةَ فِي الْحُكْمِ بِالصِّحَّةِ، هَكَذَا قَالَ الشَّيْخُ سِرَاجُ الدِّينِ، قَالَ: وَعَلَى هَذَا فَمَنْ أَحْضَرَ كِتَابَ وَقْفٍ أَوْ بَيْعٍ وَأَثْبَتَ صُدُورَهُ وَلَمْ يَثْبُتْ عِنْدَ الْحَاكِمِ مَا يَقْتَضِي الْحُكْمَ بِصِحَّتِهِ فَلَا يَجُوزُ لِلْقَاضِي أَنْ يُجِيبَهُ إلَى الْحُكْمِ بِصِحَّتِهِ وَلَا بِمُوجِبِهِ، لِأَنَّ الْوَاقِفَ قَدْ يَأْتِي مَثَلًا بِشُهُودٍ يَشْهَدُونَ عِنْدَ حَاكِمٍ آخَرَ أَنَّ الْحَاكِمَ الْأَوَّلَ حَكَمَ بِمُوجِبِ هَذَا الْوَقْفِ فَيَجْعَلُهُ الْحَاكِمُ الثَّانِي حُكْمًا مِنْ الْأَوَّلِ بِنَفَاذِ الْوَقْفِ، وَلَعَلَّهُ لِغَيْرِ الْوَاقِفِ، فَعَلَى هَذَا لَا يُجِيبُهُ إلَى الْحُكْمِ بِمُوجِبِهِ إلَّا بِبَيِّنَةٍ يَشْهَدُونَ أَنَّهُ مِلْكُهُ حِينَ الْوَقْفِ، قَالَ: وَهَذَا مَذْهَبُ مَالِكٍ وَيَزِيدُونَ: الْحِيَازَةَ، عَلَى مَا هُوَ مَبْسُوطٌ فِي مَحَلِّهِ، وَمَا ذَكَرَهُ صَحِيحٌ، فَيَنْبَغِي التَّنْبِيهُ لَهُ، وَهَذَا هُوَ الِاعْتِرَاضُ الْوَارِدُ عَلَى الْفَرْقِ الْأَوَّلِ مِنْ الْفُرُوقِ الْعَشَرَةِ، قَالَ: وَهَذَا عِنْدَ الْحَاكِمِ فِيمَا يُثْبِتُهُ مِنْ صُدُورِ وَقْفٍ أَوْ بَيْعٍ، وَأَمَّا الشَّهَادَةُ عِنْدَ الْحَاكِمِ بِصِيغَةِ الْمَصْدَرِ أَوْ بِصِيغَةِ اسْمِ الْمَفْعُولِ كَقَوْلِ الشُّهُودِ نَشْهَدُ أَنَّ هَذَا وَقْفٌ أَوْ هَذَا مَبِيعٌ مِنْ فُلَانٍ أَوْ هَذِهِ مَنْكُوحَةُ فُلَانٍ، فَإِنَّ الْحَاكِمَ يَحْكُمُ بِمُوجِبِ شَهَادَتِهِمْ، وَيَكُونُ ذَلِكَ مُتَضَمِّنًا لِلْحُكْمِ بِصِحَّةِ الْوَقْفِ وَنَحْوِهِ، فَلْيَعْرِفْ الْفَقِيهُ الْفَرْقَ بَيْنَ الشَّهَادَةِ بِالْمَصْدَرِ أَوْ بِاسْمِ الْمَفْعُولِ وَلْيَقِسْ عَلَى ذَلِكَ. اهـ.
وَعَلَى هَذَا فَيَنْبَغِي أَنْ يَكْتُبَ فِي الْأَمْرِ بِالتَّسْجِيلِ لِيُسَجِّلَ بِثُبُوتِهِ وَالْحُكْمِ بِمُوجَبِ مَا قَامَتْ بِهِ الْبَيِّنَةُ، وَاَللَّهُ- سُبْحَانَهُ- أَعْلَمُ.
تَنْبِيهٌ:
وَلَمْ أَقِفْ لِلْمَالِكِيَّةِ عَلَى هَذِهِ التَّفْرِقَةِ، وَظَاهِرُ قَوَاعِدِهِمْ عَدَمُ اعْتِبَارِهَا، وَذَكَرَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ عَنْ الْمَالِكِيَّةِ مَا ذَكَرْته قَبْلُ، وَاسْتَبْعَدَهُ، فَقَالَ: قَالَ الْمَالِكِيَّةُ: لَيْسَ لِلْقَاضِي أَنْ يَحْكُمَ حَتَّى يَثْبُتَ عِنْدَهُ الْمِلْكُ وَالْحِيَازَةُ، يُرِيدُ إلَى حِينِ صُدُورِ الْوَقْفِ، قَالَ: وَهَذَا بَعِيدٌ وَفِيهِ تَعْطِيلٌ لِلْحُقُوقِ، وَالْيَدُ يُكْتَفَى بِهَا فِي الْمُعَامَلَاتِ.

.فَصْلٌ فِي الْحُكْمِ بِمَضْمُونِ هَذِهِ اللَّفْظَةِ:

ذَكَرَهَا الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ اسْتِطْرَادًا فِي كَلَامِهِ فِي الْحُكْمِ بِالْمُوجِبِ فَقَالَ: وَقَدْ عَرَضَ فِي هَذِهِ الْأَزْمِنَةِ بَحْثٌ فِي الْحُكْمِ بِالْمُوجِبِ وَشَغَفَ بِهِ جَمَاعَةٌ مِمَّنْ، لَقِينَاهُمْ وَعَاصَرْنَاهُمْ وَبَحَثْنَا مَعَهُمْ مِنْ أَصْحَابِنَا، وَهُوَ أَنَّ الْمُوجِبَ عِنْدَهُمْ أَمْرٌ مُبْهَمٌ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الصِّحَّةُ وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ غَيْرَهَا، وَحُكْمُ الْقَاضِي يَنْبَغِي أَنْ يُعَيَّنَ، فَإِذَا لَمْ يُعَيَّنْ فَلَا يَصِحُّ وَلَا يُرْفَعُ الْخِلَافُ، وَلَا يُمْنَعُ الْحُكْمُ مِنْ قَاضٍ يَرَى خِلَافَ ذَلِكَ، وَنَقَضُوا بِهَذَا أَوْقَافًا كَثِيرَةً وَأَحْكَامًا كَثِيرَةً، وَتَعَلَّقُوا فِي ذَلِكَ بِمَا ذَكَرَهُ أَبُو سَعِيدٍ الْهَرَوِيُّ وَالرَّافِعِيُّ عَنْهُ وَمَالَ إلَيْهِ، وَهُوَ أَنَّ مَا يُكْتَبَ عَلَى ظُهُورِ الْكُتُبِ الْحُكْمِيَّةِ وَهُوَ صَحَّ وُرُودُ هَذَا الْكِتَابِ عَلَيَّ فَقَبِلْته قَبُولَ مِثْلِهِ، وَأُلْزِمْت الْعَمَلَ بِمُوجِبِهِ لَيْسَ بِحُكْمٍ؛ لِاحْتِمَالِ أَنَّ الْمُرَادَ تَصْحِيحُ الْكِتَابِ وَإِثْبَاتُ الْحُجَّةِ، قَالَ وَاَلَّذِي وَقَفْت عَلَيْهِ فِي كِتَابِ أَبِي سَعِيدٍ وَأُلْزِمْت الْعَمَلَ بِمَضْمُونِهِ لَا بِمُوجِبِهِ.
قَالَ: وَنَحْنُ نَتَكَلَّمُ عَلَيْهَا فَنَقُولُ إذَا أَعَدْنَا الضَّمِيرَ عَلَى الْكِتَابِ صَحَّ مَا قَالَاهُ؛ لِأَنَّ مَضْمُونَ الْكِتَابِ وَمُوجِبَهُ مَعْنَاهُمَا صُدُورُ مَا تَضَمَّنَهُ مِنْ إقْرَارٍ أَوْ إنْشَاءٍ، وَأَنَّهُ لَيْسَ بِزَوْدٍ فَلِذَلِكَ صَوَّبَ الرَّافِعِيُّ أَنَّهُ لَيْسَ بِحُكْمٍ، وَنَحْنُ نُوَافِقُهُ فِي تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ، إذَا أُرِيدَ بِهَذِهِ اللَّفْظَةِ هَذَا الْمَعْنَى، أَوْ اُحْتُمِلَ أَنَّهَا مُرَادُ الْحَاكِمِ، أَمَّا إذَا حَكَمَ بِمُوجِبِ الْإِقْرَارِ أَوْ بِمُوجِبِ الْوَقْفِ فَلَيْسَ مُوجِبُهُ إلَّا كَوْنَهُ وَقْفًا، وَكَوْنُ الْمُقِرِّ بِهِ لَازِمًا، وَقَوْلُ مَنْ قَالَ مُوجِبُهُ يَحْتَمِلُ الصِّحَّةَ وَالْفَسَادَ مَمْنُوعٌ، فَإِنَّ اللَّفْظَ الصَّحِيحَ يُوجِبُ حُكْمَهُ وَاللَّفْظَ الْفَاسِدَ لَا يُوجِبُ شَيْئًا، نَعَمْ قَدْ يَكُونُ لَفْظٌ يَحْتَمِلُ مُوجِبَيْنِ فَيَجِبُ عَلَى الْحَاكِمِ أَنْ يُبَيِّنَ فِي حُكْمِهِ مَا أَرَادَهُ، وَإِبْهَامُ ذَلِكَ لَا يَجُوزُ عِنْدَ الْقُدْرَةِ، إلَّا أَنْ يَخْشَى مِنْ ظَالِمٍ وَنَحْوِهِ يُرِيدُهُ فَيَكْتُبَ لَهُ لِيُسَجِّلَ بِثُبُوتِهِ وَالْحُكْمِ بِمُوجِبِهِ أَوْ مَضْمُونِهِ، وَمُرَادُهُ إعَادَةُ الضَّمِيرِ فِي مُوجِبِهِ وَمَضْمُونِهِ عَلَى الْكِتَابِ كَمَا تَقَدَّمَ، فَيَفْعَلُ ذَلِكَ مُدَافَعَةً لَهُ، فَإِذَا عُلِمَ ذَلِكَ مِنْ مُرَادِهِ عَمِلَ بِمُقْتَضَاهُ، وَبِدُونِ ذَلِكَ لَا يُحْمَلُ حُكْمُ الْقَاضِي إلَّا عَلَى الْبَيَانِ الْوَاضِحِ، وَمَتَى حَصَلَ التَّرَدُّدُ فِي مُوجِبِ اللَّفْظِ مِثْلُ الْهِبَةِ هَلْ مُجَرَّدُ الْقَوْلِ فِيهَا يَكْفِي فِي اللُّزُومِ وَنَقْلِ الْمِلْكِ أَوْ لَا يَكْفِي؟. حَتَّى يَكُونَ الْوَاجِبُ صَحِيحًا حَائِزًا.
وَمِثْلُ التَّبَرُّعِ فِي الطَّاعُونِ هَلْ يَكُونُ مِنْ الثُّلُثِ أَوْ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ أَوْ أَشْبَهَ ذَلِكَ، وَقَالَ الْقَاضِي حَكَمْت بِمُوجِبِهِ وَلَمْ يُبَيِّنْ فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَصِحَّ هَذَا الْحُكْمُ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُقَالَ يُرْجَعُ إلَى مَذْهَبِ الْقَاضِي فَيُحْمَلُ حُكْمُهُ عَلَيْهِ وَالْمُخْتَارُ الْأَوَّلُ. وَاعْلَمْ أَنَّهُ يَنْبَغِي لِلْقَاضِي أَنْ يَصُونَ حُكْمَهُ عَنْ ذَلِكَ وَيُبَيِّنَ مَقْصُودَهُ، ثُمَّ قَالَ وَلَيْسَ هَذَا مِمَّا نَحْنُ فِيهِ، وَكَلَامُنَا إذَا حَكَمَ بِمُوجِبِ وَقْفٍ أَوْ بَيْعٍ أَوْ إقْرَارٍ وَنَحْوِهِمَا فَهُوَ حُكْمٌ عَلَى الْعَاقِدِ بِمُقْتَضَى إقْرَارِهِ، وَلَيْسَ لِحَاكِمٍ آخَرَ نَقْضُهُ لِاقْتِضَاءِ مَذْهَبِهِ بُطْلَانَهُ؛ لِأَنَّ فِيهِ نَقْضَ الِاجْتِهَادِ بِالِاجْتِهَادِ، قَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ: وَمِنْ أَلْفَاظِ الْحُكْمِ أَنْ يَحْكُمَ بِالثُّبُوتِ وَحَقِيقَتُهُ حُكْمٌ بِتَعْدِيلِ الْبَيِّنَةِ وَسَمَاعِهَا، وَفَائِدَتُهَا عَدَمُ احْتِيَاجِ حَاكِمٍ آخَرَ إلَى النَّظَرِ فِيهَا وَجَوَازِ التَّنْفِيذِ فِي الْبُلْدَانِ فَإِنَّ فِي تَنْفِيذِ الثُّبُوتِ فِي الْبَلَدِ مِنْ غَيْرِ اقْتِرَانِهِ بِحُكْمٍ خِلَافًا، فَإِذَا صَرَّحَ بِالْحُكْمِ كَمَا ذَكَرْنَاهُ جَازَ التَّنْفِيذُ فَهُمَا فَائِدَتَانِ، قَالَ: وَقَدْ تَوَسَّعَ بَعْضُ قُضَاةِ الْمَالِكِيَّةِ فِي هَذَا الزَّمَانِ فَعَمَدَ إلَى أَوْقَافٍ وَقَفَهَا وَاقِفُونَ وَاسْتَمَرَّتْ فِي أَيْدِيهِمْ يَصْرِفُونَهَا عَلَى حُكْمِ الْوَقْفِ ثُمَّ بِأَيْدِي نُظَّارِهَا بَعْدَهُمْ كَذَلِكَ مُدَّةَ مِائَةِ سَنَةٍ أَوْ أَكْثَرَ فَأَبْطَلَهَا، وَرَدَّهَا إلَى مِلْكِ وَرَثَةِ الْوَاقِفِ، وَلَمْ يَلْتَفِتْ إلَى الْيَدِ الْمُسْتَمِرَّةِ عَلَى حُكْمِ الْوَقْفِ، وَلَا إلَى سُكُوتِ الْوَارِثِينَ وَوَارِثِيهِمْ عَنْ الْمُطَالَبَةِ بِذَلِكَ، وَمَذْهَبُ مَالِكٍ فِي الْحَوْزِ إذَا طَالَتْ الْمُدَّةُ وَامْتِنَاعُ الدَّعْوَى مَعْرُوفٌ، وَيَنْبَغِي أَنْ يَسْتَحْضِرَهَا هُنَا، وَرُبَّمَا كَانَتْ تِلْكَ الْأَوْقَافُ قَدْ ثَبَتَتْ عِنْدَ حَاكِمٍ فَيَتَعَلَّقُ فِي إبْطَالِهَا بِعَدَمِ الْحَوْزِ، وَبِأَنَّ الثُّبُوتَ لَيْسَ بِحُكْمٍ وَرُبَّمَا اقْتَرَنَ بِذَلِكَ الثُّبُوتِ حُكْمٌ، وَلَكِنْ لَمْ يَقُلْ: (حَكَمْت بِصِحَّتِهِ) فَتَعَلَّقَ بِأَنَّهُ لَا يَمْتَنِعُ مِنْ الْإِبْطَالِ إلَّا حُكْمُ حَاكِمٍ بِصِحَّةِ الْوَقْفِ، قَالَ: وَأَنَا أَذْكُرُهَا هُنَا قَاعِدَةً فَأَقُولُ: الْقَاضِي الْمُعْتَبَرُ حُكْمُهُ تَارَةً يَقْتَصِرُ عَلَى الثُّبُوتِ وَتَارَةً يُضِيفُ إلَيْهِ حُكْمًا أَوْ يَذْكُرُ الْحُكْمَ مُجَرَّدًا، وَمِنْ لَوَازِمِهِ أَنْ يَكُونَ قَدْ تَقَدَّمَهُ ثُبُوتٌ. فَالْحَالَةُ الْأُولَى، وَهِيَ أَنْ يَقْتَصِرَ عَلَى الثُّبُوتِ فَتَارَةً يُضِيفُ الثُّبُوتَ إلَى السَّبَبِ الَّذِي نَشَأَ عَنْهُ الْحُكْمُ، وَتَارَةً يُضِيفُ الثُّبُوتَ إلَى الْحُكْمِ نَفْسِهِ فَهُمَا قِسْمَانِ.
الْقِسْمُ الْأَوَّلُ: أَنْ يُضِيفَهُ إلَى السَّبَبِ كَإِثْبَاتِ جَرَيَانِ عَقْدِ الْوَقْفِ أَوْ الْبَيْعِ أَوْ الْهِبَةِ أَوْ النِّكَاحِ وَنَحْوِهَا هَذَا غَالِبُ مَا يَقَعُ مِنْ الثُّبُوتِ، وَقَدْ يَقُولُ الْقَاضِي: ثَبَتَ عِنْدِي قِيَامُ الْبَيِّنَةِ بِهَذِهِ الْعُقُودِ أَوْ ثَبَتَ عِنْدِي الْإِقْرَارُ بِهَا أَوْ بِالدَّيْنِ مَثَلًا، فَالْبَيِّنَةُ وَالْإِقْرَارُ لَيْسَا بِسَبَبَيْنِ لِلْحُكْمِ، بَلْ لِأَسْبَابِهِ، يَعْنِي أَنَّهُمَا سَبَبَانِ لِإِثْبَاتِ الْحُكْمِ لَا لِلْحَاكِمِ بِحَقِيقَةِ ثُبُوتِ قِيَامِ الْبَيِّنَةِ تَزْكِيَتُهَا وَقَبُولُهَا، وَقَدْ تَرَدَّدَ الْفُقَهَاءُ فِي أَنَّ الثُّبُوتَ حُكْمٌ أَوْ لَيْسَ بِحُكْمٍ، وَالصَّحِيحُ عِنْدَنَا وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ أَنَّهُ لَيْسَ بِحُكْمٍ، وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّهُ حُكْمٌ، وَلَا يُتَّجَهُ فِي مَعْنَى كَوْنِهِ إلَّا أَنَّهُ حُكْمٌ بِتَعْدِيلِ الْبَيِّنَةِ وَقَبُولِهَا وَجَرَيَانِ ذَلِكَ الْأَمْرِ الْمَشْهُودِ بِهِ، وَأَمَّا صِحَّتُهُ أَوْ الْإِلْزَامُ بِشَيْءٍ فَلَا؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ الْإِلْزَامُ، وَذَكَرَ ذَلِكَ الشَّيْخُ سِرَاجُ الدِّينِ فَقَالَ: وَهَذَا هُوَ التَّحْقِيقُ، قَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ: وَقَدْ يُقَالُ إنَّ الثُّبُوتَ يَدُلُّ عَلَى الْحُكْمِ بِالصِّحَّةِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ لِلْقَاضِي أَنْ يُثْبِتَ بَاطِلًا لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «إنِّي لَا أَشْهَدُ عَلَى جَوْرٍ» وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا يَدُلُّ عَلَى الْحُكْمِ بِالصِّحَّةِ؛ لِأَنَّ الْحَاكِمَ قَدْ يُثْبِتُ الشَّيْءَ؛ لِيَنْظُرَ كَوْنَهُ صَحِيحًا أَوْ بَاطِلًا، وَقَدْ يُثْبِتُ الشَّيْءَ الْبَاطِلَ.
وَقَالَ الْقَرَافِيُّ: إنَّهُ قَدْ يُثْبِتُ مَا يَعْتَقِدُ بُطْلَانَهُ؛ لِيَنْظُرَ غَيْرَهُ فِيهِ. أَمَّا إثْبَاتُ مَا يَعْتَقِدُ بُطْلَانَهُ لَا لِقَصْدِ الْإِبْطَالِ وَلَا لِيَنْظُرَ غَيْرَهُ فِيهِ، فَلَا يَنْبَغِي لِلْحَاكِمِ أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ.
قَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ: وَالْحَقُّ الصَّحِيحُ أَنَّ الثُّبُوتَ لَيْسَ حُكْمًا بِالثَّابِتِ، بَلْ غَايَتُهُ أَنْ يَكُونَ حُكْمًا بِثُبُوتِهِ يَعْنِي لِجَرَيَانِ الْعَقْدِ وَصُدُورِهِ، وَسَيَأْتِي تَحْقِيقُ ذَلِكَ فِي (الْفَرْقِ بَيْنَ الثُّبُوتِ وَالْحُكْمِ) وَقَدْ يَقَعُ فِي لَفْظِ الْحُكَّامِ لِيُسَجِّلَ بِثُبُوتِهِ وَالْحُكْمِ بِمَا قَامَتْ بِهِ الْبَيِّنَةُ (فَمَا) إنْ كَانَتْ مَصْدَرِيَّةً فَهُوَ كَقَوْلِهِ بِقِيَامِ الْبَيِّنَةِ، وَإِنْ كَانَتْ مَوْصُولَةً وَهُوَ الظَّاهِرُ فَهُوَ كَإِثْبَاتِ جَرَيَانِ الْعُقُودِ الْمَشْهُودِ بِهَا، وَجَعَلَ الثُّبُوتَ حُكْمًا فِيمَا إذَا كَانَ الثَّابِتُ هُوَ الْمَعْقُودَ أَقْوَى مِنْهُ فِيمَا إذَا كَانَ الثَّابِتُ قِيَامَ الْبَيِّنَةِ، وَفِي مِثْلِ قَوْلِهِ: ثَبَتَ مَا قَامَتْ بِهِ الْبَيِّنَةُ، وَقَدْ يُرَجَّحُ أَحَدُهُمَا عَلَى الْآخَرِ وَالْكُلُّ ضَعِيفٌ.
الْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يُضِيفَ الثُّبُوتَ إلَى الْحُكْمِ كَقَوْلِهِ ثَبَتَ عِنْدِي أَنَّ هَذِهِ الدَّارَ وَقْفٌ أَوْ مِلْكُ فُلَانٍ، أَوْ أَنَّ هَذِهِ الْمَرْأَةَ زَوْجَةُ فُلَانٍ، فَهَذَا مِثْلُ الْحُكْمِ، فَلَا يُمْكِنُ التَّعَرُّضُ لِنَقْضِهِ إلَّا أَنْ يَتَحَقَّقَ أَنَّ مُسْتَنَدَهُ جَرَيَانُ عَقْدٍ مُخْتَلَفٍ فِيهِ، كَقَوْلِ الْحَنَفِيِّ ثَبَتَ عِنْدِي أَنَّ هَذِهِ زَوَّجَتْ نَفْسَهَا وَنَحْوَ ذَلِكَ، فَحِينَئِذٍ يَعُودُ الْخِلَافُ فِي أَنَّ الثُّبُوتَ حُكْمٌ أَوْ لَا، وَيَقْوَى جَرَيَانُ الْخِلَافِ فِيهِ. فَإِنْ قُلْنَا: إنَّهُ حُكْمٌ امْتَنَعَ عَلَى حَاكِمٍ آخَرَ إبْطَالُهُ، وَإِنْ قُلْنَا: إنَّهُ لَيْسَ بِحُكْمٍ لَا يَمْتَنِعُ، وَمَنْ يَقُولُ بِنَقْضِ حُكْمِ الْقَاضِي بِلَا وَلِيٍّ لَمْ يَمْتَنِعْ عِنْدَهُ عَلَى الْوَجْهَيْنِ جَمِيعًا، وَلَوْ لَمْ يُصَرِّحْ الْقَاضِي بِبَيَانِ السَّبَبِ وَاقْتَصَرَ عَلَى قَوْلِهِ ثَبَتَ عِنْدِي أَنَّهَا زَوْجَةٌ وَعَلِمَ بِبَيِّنَةٍ أُخْرَى أَنَّ مُسْتَنَدَهُ تَزْوِيجُهَا نَفْسَهَا، فَالظَّاهِرُ أَنَّ الْأَمْرَ كَذَلِكَ، لَكِنَّ الْعِلْمَ بِذَلِكَ صَعْبٌ؛ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ جَاءَ وَلِيُّهَا فَجَدَّدَ عَقْدَهَا بِحُضُورِهِ فِي غَيْبَةِ مَنْ شَهِدَ عَلَيْهِ بِالثُّبُوتِ الْمُطْلَقِ، وَبِتَزْوِيجِهِ نَفْسَهَا وَإِنْ كَانَ احْتِمَالًا بَعِيدًا.
الْحَالَةُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يَقْتَرِنَ بِالثُّبُوتِ حُكْمٌ وَأَلْفَاظُ الْحُكْمِ مُتَعَدِّدَةٌ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَعْضُهَا وَسَيَأْتِي ذِكْرُ مَا بَقِيَ- إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَحِينَئِذٍ لَا سَبِيلَ إلَى نَقْضِهِ بِاجْتِهَادٍ مِثْلِهِ، فَمَتَى كَانَ فِي مَحَلٍّ مُخْتَلَفٍ فِيهِ اخْتِلَافًا قَرِيبًا لَا يُنْقَضُ فِيهِ قَضَاءُ الْقَاضِي، وَلَمْ يَكُنْ بَنَاهُ عَلَى سَبَبٍ بَاطِلٍ لَمْ يُنْقَضُ بِحَالٍ، وَالْمَقْطُوعُ بِهِ فِي ذَلِكَ إذَا صَرَّحَ بِصِحَّةِ ذَلِكَ التَّصَرُّفِ، هَذَا فِيمَا إذَا حَكَمَ بِالصِّحَّةِ، وَإِنْ حَكَمَ بِالْمُوجِبِ فَقَدْ تَقَدَّمَ مَا فِيهِ وَمِنْ أَلْفَاظِ الْحُكْمِ لِيُسَجِّلَ بِثُبُوتِهِ وَالْحُكْمُ بِمَا ثَبَتَ عِنْدَهُ، فَإِنْ حَمَلْنَاهُ عَلَى الثُّبُوتِ فَالْحُكْمُ فِيهِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي الْحُكْمِ بِالثُّبُوتِ، وَإِنْ حَمَلْنَاهُ عَلَى الثَّابِتِ عِنْدَهُ فَهُوَ مَاضٍ وَلَا يُحْكَمُ بِهِ بِطَرِيقِ الْحَقِيقَةِ، وَإِنَّمَا يُحْكَمُ بِطَرِيقِ الْحَقِيقَةِ بِحُكْمٍ شَرْعِيٍّ مِنْ إيجَابٍ أَوْ مَنْعٍ أَوْ طَلَاقٍ، فَإِذَا قَالَ: حَكَمْت بِأَنَّ هَذَا بَاعَ أَوْ وَهَبَ أَوْ وَقَفَ أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ، فَمَعْنَاهُ حَكَمْت بِأَنَّهُ ثَبَتَ عِنْدِي ذَلِكَ، فَيَرْجِعُ إلَى مَا تَقَدَّمَ فِي الْحُكْمِ بِالثُّبُوتِ، وَمِنْ أَلْفَاظِ الْحُكْمِ لِيُسَجِّلَ بِثُبُوتِهِ وَالْحُكْمِ بِهِ. قَالَ: وَكَثِيرًا مَا يُوجَدُ فِي إسْجَالَاتِ الْحُكَّامِ لِيُسَجِّلَ بِثُبُوتِهِ، وَالْحُكْمِ بِهِ وَالضَّمِيرُ يَرْجِعُ إلَى مَا تَقَدَّمَ عَلَى الِاحْتِمَالَاتِ الْمُتَقَدِّمَةِ، فَهُوَ غَيْرُ خَارِجٍ عَنْهَا، وَمِنْ فَوَائِدِ ذَلِكَ غَيْرِ الْفَائِدَتَيْنِ الْمُتَقَدِّمَتَيْنِ فِي أَوَّلِ الْكَلَامِ عَلَى الْحُكْمِ بِالثُّبُوتِ وَهُوَ أَنَّهُ هَلْ يَمْتَنِعُ عَلَى حَاكِمٍ آخَرَ نَقْضُهُ لِمَعْنًى يَرْجِعُ إلَى ذَاتِ تِلْكَ التَّصَرُّفَاتِ إنْشَاءً كَانَ أَوْ إقْرَارًا، أَوْ لَا يَمْتَنِعُ النَّقْضُ؟. فِيهِ تَفْصِيلٌ، وَهُوَ أَنَّهُ إنْ أَطْلَقَ الْبَيْعَ أَوْ نَحْوَهُ أَوْ ذَكَرَ صِيغَتَهُ وَشُرُوطَهُ وَكَيْفَ وَقَعَ كَمَا هُوَ الْعَادَةُ فِي الْكُتُبِ فَيُمْنَعُ نَقْضُهُ؛ لِأَنَّهُ حُكْمٌ بِوُقُوعِ ذَلِكَ الْإِنْشَاءِ أَوْ الْإِقْرَارِ، وَالْأَلْفَاظُ الشَّرْعِيَّةُ إذَا أُطْلِقَتْ تُحْمَلُ عَلَى الصَّحِيحِ.
قَالَ: وَإِنَّمَا قَيَّدْت بِقَوْلِي: (لِمَعْنًى يَرْجِعُ إلَى ذَاتِ ذَلِكَ التَّصَرُّفِ) احْتِرَازًا مِنْ أَنْ يُنْقَضَ لِعَدَمِ أَهْلِيَّةِ الْعَاقِدِ أَوْ لِعَدَمِ شُرُوطِ مَحَلِّهِ حَيْثُ لَا يُطْلَقُ كَمَا سَنَذْكُرُهُ فِي الْقِسْمِ الثَّانِي، وَهُوَ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى التَّصَرُّفِ الْمَعْهُودِ، كَمَا هُوَ الْوَاقِعُ فِي الْكُتُبِ الْحُكْمِيَّةِ، وَالْأَمْرُ كَذَلِكَ إذَا قَالَ ثَبَتَ عِنْدِي الْبَيْعُ أَوْ الْوَقْفُ وَنَحْوُهُمَا، فَإِنَّهُ إنَّمَا يُحْمَلُ عَلَى الصَّحِيحِ، فَإِذَا قَالَ: (لِيُسَجِّلَ بِثُبُوتِهِ وَالْحُكْمِ بِهِ)، فَالْمُرَادُ ذَلِكَ التَّصَرُّفُ الْمَشْرُوحُ فِي الْكِتَابِ، فَقَدْ يَكُونُ صَحِيحًا مُجْمَعًا عَلَيْهِ، وَقَدْ يَكُونُ فَاسِدًا مُجْمَعًا عَلَيْهِ، وَقَدْ يَكُونُ مُخْتَلَفًا فِيهِ. وَالْقِسْمُ الثَّانِي: وَهُوَ كَوْنُهُ فَاسِدًا مُجْمَعًا عَلَيْهِ لَيْسَ لِلْقَاضِي إثْبَاتُهُ، إلَّا إذَا قَصَدَ إبْطَالَهُ. وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: وَهُوَ كَوْنُهُ مُخْتَلَفًا فِيهِ، فَإِنَّ لِمَنْ يَرَى صِحَّتَهُ أَنْ يُثْبِتَهُ وَيَحْكُمَ بِثُبُوتِهِ وَبِصِحَّتِهِ عَلَى مَذْهَبِهِ، فَإِنْ حَكَمَ بِالثُّبُوتِ فَلَا يُنْقَضُ، وَإِنْ أَثْبَتَ ثُبُوتًا مُجَرَّدًا فَلِغَيْرِهِ نَقْضُهُ، وَكَذَا إنْ حَكَمَ بِالثُّبُوتِ فَلَيْسَ لِمَنْ يَرَى فَسَادَهُ أَنْ يُثْبِتَهُ إلَّا لِغَرَضِ إبْطَالِهِ يُرِيدُ أَوْ لِيَنْظُرَ غَيْرُهُ فِيهِ، كَمَا لَوْ مَاتَتْ شُهُودُ الْكِتَابِ فَأَثْبَتَهُ الْمَالِكِيُّ بِالْخَطِّ لِيَنْظُرَ فِيهِ الشَّافِعِيُّ قَالَ: وَإِذَا رَأَيْنَا حَاكِمًا أَثْبَتَهُ أَوْ حَكَمَ بِثُبُوتِهِ وَلَمْ نَعْلَمْ قَصْدَهُ فَيُحْمَلُ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَتَّضِحْ لَهُ حُكْمٌ.

.فَصْلٌ فِي الْفَرْقِ بَيْنَ الثُّبُوتِ وَالْحُكْمِ:

قَالَ الْقَرَافِيُّ فِي كِتَابِ الْفَرْقِ بَيْنَ الْفَتَاوَى وَالْأَحْكَامِ فِي السُّؤَالِ الثَّلَاثِينَ: إنْ قُلْت: مَا الْفَرْقُ بَيْنَ الثُّبُوتِ وَالْحُكْمِ، وَهَلْ الثُّبُوتُ حُكْمٌ أَوْ لَا؟ وَإِذَا قُلْنَا: بِأَنَّ الثُّبُوتَ حُكْمٌ فَهَلْ هُوَ عَيْنُ الْحُكْمِ أَوْ يَسْتَلْزِمُهُ ظَاهِرًا؟ وَعَلَى التَّقْدِيرَيْنِ فَهَلْ ذَلِكَ عَامٌّ فِي جَمِيعِ صُوَرِ الثُّبُوتِ أَمْ لَا؟
جَوَابُهُ: أَنَّ الثُّبُوتَ هُوَ قِيَامُ الْحُجَّةِ عَلَى ثُبُوتِ السَّبَبِ عِنْدَ الْحَاكِمِ فَإِذَا ثَبَتَ بِالْبَيِّنَةِ أَنَّ السَّيِّدَ أَعْتَقَ شِقْصًا لَهُ فِي عَبْدٍ، أَوْ أَنَّ النِّكَاحَ كَانَ بِغَيْرِ وَلِيٍّ، أَوْ بِصَدَاقٍ فَاسِدٍ، أَوْ أَنَّ الشَّرِيكَ بَاعَ حِصَّتَهُ مِنْ أَجْنَبِيٍّ فِي مَسْأَلَةِ الشُّفْعَةِ، أَوْ أَنَّهَا زَوْجَةٌ لِلْمَيِّتِ حَتَّى تَرِثَ وَنَحْوَ ذَلِكَ مِنْ ثُبُوتِ أَسْبَابِ الْحُكْمِ، فَإِنْ بَقِيَتْ عِنْدَ الْحَاكِمِ رِيبَةٌ أَوْ لَمْ تَبْقَ وَلَكِنْ بَقِيَ عَلَيْهِ أَنْ يَسْأَلَ الْخَصْمَ هَلْ لَهُ مَطْعَنٌ أَوْ مُعَارِضٌ وَنَحْوُ ذَلِكَ؟ فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَخْتَلِفَ فِي هَذَا أَنَّهُ لَيْسَ ثُبُوتًا وَلَا حُكْمًا؛ لِوُجُودِ الرِّيبَةِ أَوْ عَدَمِ الْإِعْذَارِ، وَإِنْ قَامَتْ الْحُجَّةُ عَلَى سَبَبِ الْحُكْمِ وَانْتَفَتْ الرِّيبَةُ وَحَصَلَتْ الشُّرُوطُ فَهَذَا هُوَ الثُّبُوتُ، وَالْحُكْمُ مِنْ لَازِمِهِ فَيَتَعَيَّنُ عَلَى الْحَاكِمِ الْحُكْمُ إذَا سُئِلَ بِهِ، فَصَارَ الْحُكْمُ مِنْ لَوَازِمِ الثُّبُوتِ، فَيَجِبُ أَنْ يَعْتَقِدَ أَنَّهُ حُكْمٌ، فَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ الْفُقَهَاءِ مِنْ أَهْلِ الْمَذْهَبِ: الْمَشْهُورُ أَنَّ الثُّبُوتَ حُكْمٌ يُرِيدُ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ الْخَاصَّةِ وَلَيْسَ ذَلِكَ فِي جَمِيعِ صُوَرِ الثُّبُوتِ، وَسَيَأْتِي بَيَانُهُ، وَهَذَا التَّشْهِيرُ مُخَالِفٌ لِمَا نَقَلَهُ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ عَنْ مَذْهَبِ مَالِكٍ: أَنَّ الصَّحِيحَ عِنْدَهُمْ، وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ أَنَّهُ لَيْسَ بِحُكْمٍ، وَقَالَهُ الشَّيْخُ سِرَاجُ الدِّينِ أَيْضًا.
وَقَالَ: إنَّهُ التَّحْقِيقُ، وَقَدْ سَبَقَ بَيَانُهُ. قَالَ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ: وَلَيْسَ قَوْلُ الْقَاضِي ثَبَتَ عِنْدِي كَذَا حُكْمًا مِنْهُ بِمُقْتَضَى مَا ثَبَتَ عِنْدَهُ فَإِنَّ ذَلِكَ أَعَمُّ مِنْهُ، قَالَ: وَإِنَّمَا ذَكَرْنَا هَذَا؛ لِأَنَّ بَعْضَ الْقَرَوِيِّينَ غَلِطَ فِي ذَلِكَ، وَأَلَّفَ الْمَازِرِيُّ جُزْءًا فِي الرَّدِّ عَلَيْهِ، وَجَلَبَ فِيهِ نُصُوصَ الْمَذْهَبِ.
قَالَ الْقَرَافِيُّ: وَالْقَوْلُ الشَّاذُّ يَرَى أَنَّ حَقِيقَةَ الْحُكْمِ مُغَايِرَةٌ لِحَقِيقَةِ الثُّبُوتِ وَمَعَ تَغَايُرِ الْحَقَائِقِ لَا يُمْكِنُ الْقَوْلُ بِحُصُولِ أَحَدِ الْمُتَغَايِرَيْنِ عِنْدَ حُصُولِ الْآخَرِ، إلَّا أَنْ يَجْزِمَ بِالْمُلَازَمَةِ، وَاللُّزُومُ غَيْرُ مَوْثُوقٍ بِهِ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ عِنْدَ الْحَاكِمِ رِيبَةٌ مَا عَلِمْنَا بِهَا، فَيَتَوَقَّفُ حَتَّى يَحْصُلَ الْيَقِينُ بِالتَّصْرِيحِ بِأَنَّهُ حُكْمٌ، هَذَا فِي الصُّوَرِ الْمُتَنَازَعِ فِيهَا الَّتِي حَكَمَ الْحَاكِمُ فِيهَا بِطَرِيقِ الْإِنْشَاءِ.
أَمَّا الصُّوَرُ الْمُجْمَعُ عَلَيْهَا كَثُبُوتِ الْقِيمَةِ فِي الْإِتْلَافِ، وَالْقَتْلِ لِلْقِصَاصِ وَثُبُوتِ الدَّيْنِ عِنْدَهُ فِي الذِّمَّةِ، وَعَقْدِ الْقِرَاضِ، وَثُبُوتِ السَّرِقَةِ لِلْقَطْعِ، فَالثُّبُوتُ الْكَامِلُ فِي هَذِهِ الصُّوَرِ جَمِيعِهَا لَا يَسْتَلْزِمُ إنْشَاءَ حُكْمٍ مِنْ جِهَةِ الْحَاكِمِ، بَلْ أَحْكَامُ هَذِهِ الصُّوَرِ مُتَقَرِّرَةٌ فِي أَصْلِ الشَّرِيعَةِ إجْمَاعًا، وَوَظِيفَةُ الْحُكَّامِ فِي هَذِهِ الصُّوَرِ إنَّمَا هِيَ التَّنْفِيذُ وَسَيَأْتِي بَيَانُ مَعْنَاهُ. وَأَمَّا فِيمَا عَدَا التَّنْفِيذَ فَالْحَاكِمُ وَالْمُفْتِي فِيهِ سَوَاءٌ، وَلَيْسَ هَا هُنَا حُكْمٌ اسْتَنَابَ صَاحِبُ الشَّرْعِ فِيهِ الْحَاكِمَ أَصْلًا أَلْبَتَّةَ، بَلْ هَذِهِ أَحْكَامٌ تَتْبَعُ أَسْبَابَهَا كَانَ ثَمَّ حَاكِمٌ أَمْ لَا، نَعَمْ الَّذِي يَقِفُ عَلَى الْحَاكِمِ التَّنْفِيذُ مَعَ أَنَّهُ غَيْرُ مُخْتَصٍّ بِهِ فِي الدَّيْنِ وَشِبْهِهِ، فَأَوْدَعَ الْمُتْلِفُ الْقِيمَةَ وَالْمَدِينُ الدَّيْنَ وَسَلَّمَ الْبَائِعُ الْبَيْعَ اسْتَغْنَى عَنْ مُنَفِّذٍ مِنْ حَاكِمٍ أَوْ غَيْرِهِ، وَإِنَّمَا يَحْتَاجُ إلَى الْحَاكِمِ فِي الصُّوَرِ الْمُجْمَعِ عَلَيْهَا إذَا كَانَتْ تَفْتَقِرُ إلَى نَظَرٍ وَاجْتِهَادٍ وَتَحْرِيرِ أَسْبَابٍ، كَفَسْخِ الْأَنْكِحَةِ، أَوْ كَانَ تَفْوِيضُهَا لِلنَّاسِ يُؤَدِّي إلَى التَّهَارُجِ وَالْقِتَالِ كَالْحُدُودِ وَالتَّعَازِيرِ، مَعَ أَنَّ التَّعَازِيرَ مِنْ الْقِسْمِ الَّذِي يَفْتَقِرُ إلَى نَظَرٍ وَاجْتِهَادٍ فِي تَقْدِيرِ التَّعْزِيرِ بِقَدْرِ الْجِنَايَةِ وَالْجَانِي وَالْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ، فَظَهَرَ أَنَّ الثُّبُوتَ غَيْرُ الْحُكْمِ قَطْعًا، وَقَدْ يَسْتَلْزِمُ الْحُكْمَ وَقَدْ لَا يَسْتَلْزِمُهُ، وَقَدْ تَكُونُ الصُّورَةُ قَابِلَةً لِاسْتِلْزَامِ الْحُكْمِ وَقَدْ لَا تَكُونُ قَابِلَةً كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي صُوَرِ الْإِجْمَاعِ.
وَإِنَّ الْقَوْلَ بِأَنَّ الثُّبُوتَ حُكْمٌ فِي جَمِيعِ الصُّوَرِ خَطَأٌ قَطْعًا، وَأَنَّهُ يَتَعَيَّنُ تَخْصِيصُ هَذِهِ الْعِبَارَةِ، وَتَأْوِيلُ كَلَامِ الْعُلَمَاءِ، وَحَمْلُهُ عَلَى مَعْنًى صَحِيحٍ.
وَقَالَ أَيْضًا فِي الْقَوَاعِدِ فِي (الْفَرْقِ الْخَامِسِ وَالْعِشْرِينَ وَالْمِائَتَيْنِ) اُخْتُلِفَ فِي الْحُكْمِ وَالثُّبُوتِ هَلْ هُمَا مَعْنًى وَاحِدٌ أَوْ الثُّبُوتُ غَيْرُ الْحُكْمِ؟. وَالْعَجَبُ أَنَّ الثُّبُوتَ يُوجَدُ فِي الْعِبَادَاتِ وَالْمَوَاطِنِ الَّتِي لَا حُكْمَ فِيهَا بِالضَّرُورَةِ إجْمَاعًا فَيَثْبُتُ عِنْدَ الْحَاكِمِ هِلَالُ رَمَضَانَ وَهِلَالُ شَوَّالٍ، وَتَثْبُتُ طَهَارَةُ الْمَاءِ وَنَجَاسَتُهُ، وَيَثْبُتُ عِنْدَ الْحَاكِمِ التَّحْرِيمُ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ بِسَبَبِ الرَّضَاعِ، وَيَثْبُتُ التَّحْلِيلُ بِسَبَبِ الْعَقْدِ، وَلَيْسَ فِي ذَلِكَ شَيْءٌ مِنْ الْحُكْمِ، وَإِذَا وُجِدَ الثُّبُوتُ بِدُونِ الْحُكْمِ كَانَ أَعَمَّ مِنْ الْحُكْمِ، وَالْأَعَمُّ مِنْ الشَّيْءِ غَيْرُهُ بِالضَّرُورَةِ، ثُمَّ الَّذِي يُفْهَمُ مِنْ الثُّبُوتِ هُوَ مَفْهُومٌ مِنْ الْحُجَّةِ كَالْبَيِّنَةِ وَغَيْرِهَا السَّالِمَةِ مِنْ الْمَطَاعِنِ فَمَتَى وُجِدَ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ فَإِنَّهُ يُقَالُ فِي عُرْفِ الِاسْتِعْمَالِ ثَبَتَ عِنْدَ الْقَاضِي ذَلِكَ.
وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ يُوجَدُ الْحُكْمُ بِدُونِ الثُّبُوتِ أَيْضًا، كَالْحُكْمِ بِالِاجْتِهَادِ كَإِعْطَاءِ أَمِيرِ الْجَيْشِ الْأَمَانَ لِلْعَدُوِّ، وَكَذَلِكَ فِي قَسْمِ الْحَبْسِ بَيْنَ أَهْلِهِ يَجْتَهِدُ وَيُفَضِّلُ أَهْلَ الْحَاجَةِ، وَإِذَا أَسَرَ الْإِمَامُ الْعَدُوَّ فَالْإِمَامُ مُخَيَّرٌ فِي خَمْسَةِ أَشْيَاءَ، وَكَذَلِكَ عَقْدُ الصُّلْحِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَالْكُفَّارِ، وَتَقْدِيرُ نَفَقَةِ الزَّوْجَةِ وَالْأَوْلَادِ، وَقَدْ أَفْرَدْت لِذَلِكَ بَابًا سَيَأْتِي إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا عُلِمَ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَعَمُّ مِنْ الْآخَرِ مِنْ وَجْهٍ وَأَخَصُّ مِنْ وَجْهٍ، ثُمَّ ثُبُوتُ الْحُجَّةِ مُغَايِرٌ لِلْكَلَامِ النَّفْسَانِيِّ الْإِنْشَائِيِّ الَّذِي هُوَ الْحُكْمُ كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي التَّعْرِيفِ بِحَقِيقَةِ الْحُكْمِ، فَثَبَتَ كَوْنُهُمَا غَيْرَيْنِ بِالضَّرُورَةِ، وَأَنَّ الثُّبُوتَ هُوَ نُهُوضُ الْحُجَّةِ، وَالْحُكْمُ إنْشَاءُ كَلَامٍ فِي النَّفْسِ هُوَ إلْزَامٌ أَوْ إطْلَاقٌ.

.فَصْلٌ فِي مَعْنَى تَنْفِيذِ الْحُكْمِ:

وَهُوَ عَلَى قِسْمَيْنِ:
تَنْفِيذُ حُكْمِ نَفْسِهِ، وَتَنْفِيذُ حُكْمِ غَيْرِهِ.
فَالْأَوَّلُ: مَعْنَاهُ الْإِلْزَامُ بِالْحَبْسِ وَأَخْذُ الْمَالِ بِيَدِ الْقُوَّةِ وَدَفْعُهُ لِمُسْتَحِقِّهِ، وَتَخْلِيصُ سَائِرِ الْحُقُوقِ، وَإِيقَاعُ الطَّلَاقِ عَلَى مَنْ يَجُوزُ لَهُ إيقَاعُهُ عَلَيْهِ، وَنَحْوُ ذَلِكَ، فَالتَّنْفِيذُ غَيْرُ الثُّبُوتِ وَالْحُكْمِ، فَالثُّبُوتُ هُوَ الرُّتْبَةُ الْأُولَى، وَالْحُكْمُ هُوَ الرُّتْبَةُ الْوُسْطَى، وَالتَّنْفِيذُ هُوَ الرُّتْبَةُ الثَّالِثَةُ. وَلَيْسَ كُلُّ الْحُكَّامِ لَهُمْ قُوَّةُ التَّنْفِيذِ لاسيما الْحَاكِمُ الضَّعِيفُ الْقُدْرَةِ عَلَى الْجَبَابِرَةِ فَهُوَ يُنْشِئُ الْإِلْزَامَ، وَلَا يَخْطِرُ لَهُ تَنْفِيذُهُ؛ لِتَعَذُّرِ ذَلِكَ عَلَيْهِ، فَالْحَاكِمُ مِنْ حَيْثُ هُوَ حَاكِمٌ لَيْسَ لَهُ إلَّا الْإِنْشَاءُ، وَأَمَّا قُوَّةُ التَّنْفِيذِ فَأَمْرٌ زَائِدٌ عَلَى كَوْنِهِ حَاكِمًا، أَلَا تَرَى أَنَّ الْمُحَكَّمَ لَيْسَ لَهُ قُوَّةُ التَّنْفِيذِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ هَذَا فِي الرُّتْبَةِ السَّادِسَةِ مِنْ رُتَبِ الْوِلَايَةِ.
الْقِسْمُ الثَّانِي: تَنْفِيذُ حُكْمِ غَيْرِهِ، وَذَلِكَ بِأَنْ يَقُولَ فِيمَا تَقَدَّمَ الْحُكْمُ فِيهِ مِنْ غَيْرِهِ ثَبَتَ عِنْدِي أَنَّهُ ثَبَتَ عِنْدَ فُلَانٍ مِنْ الْحُكَّامِ كَذَا، فَهَذَا لَيْسَ بِحُكْمٍ مِنْ الْمُنَفِّذِ أَلْبَتَّةَ، وَكَذَا إذَا قَالَ ثَبَتَ عِنْدِي أَنَّ فُلَانًا حَكَمَ بِكَذَا، وَكَذَا فَلَيْسَ حُكْمًا مِنْ هَذَا الْمُثْبِتِ، بَلْ لَوْ اعْتَقَدَ أَنَّ ذَلِكَ الْحُكْمَ عَلَى خِلَافِ الْإِجْمَاعِ صَحَّ مِنْهُ أَنْ يَقُولَ ثَبَتَ عِنْدِي أَنَّهُ ثَبَتَ عِنْدَ فُلَانٍ كَذَا وَكَذَا؛ لِأَنَّ التَّصَرُّفَ الْفَاسِدَ وَالْحَرَامَ قَدْ يَثْبُتُ عِنْدَ الْحَاكِمِ لِيُرَتِّبَ عَلَيْهِ مُوجِبَ ذَلِكَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ هَذَا فِي النَّوْعِ السَّابِعِ مِنْ تَصَرُّفَاتِ الْحُكَّامِ.
وَبِالْجُمْلَةِ لَيْسَ فِي التَّنْفِيذِ حُكْمٌ أَلْبَتَّةَ، وَلَا فِي الْإِثْبَاتِ أَنَّ فُلَانًا حَكَمَ مُسَاعَدَةً عَلَى صِحَّةِ الْحُكْمِ السَّابِقِ، فَلَا يُعْتَدُّ بِكَثْرَةِ الْإِثْبَاتِ عِنْدَ الْحُكَّامِ، فَهُوَ كُلُّهُ كَحُكْمٍ وَاحِدٍ، وَهُوَ رَاجِعٌ إلَى الْحَاكِمِ الْأَوَّلِ، إلَّا أَنْ يَقُولَ الثَّانِي حَكَمْت بِمَا حَكَمَ بِهِ الْأَوَّلُ وَأُلْزِمْت بِمُوجِبِهِ وَمُقْتَضَاهُ.
تَنْبِيهٌ:
هَذَا حُكْمُ مَا إذَا كَانَ الْحَاكِمُ الْأَوَّلُ وَالْمُنَفِّذُ الثَّانِي مَذْهَبُهُمَا وَاحِدٌ، أَمَّا مَعَ اخْتِلَافِ الْمَذْهَبِ فَقَالَ الْمَازِرِيُّ: إذَا وَرَدَ عَلَى حَاكِمٍ حُكْمٌ بِأَحَدِ الْمَذَاهِبِ الْمَشْهُورَةِ وَالْقَاضِي الْوَارِدُ عَلَيْهِ الْحُكْمُ اعْتِقَادُهُ مَذْهَبٌ آخَرُ فَهَلْ يَلْزَمُهُ تَنْفِيذُ هَذَا الْحُكْمِ، وَإِلْزَامُ الْمَحْكُومِ عَلَيْهِ بِدَفْعِ الْمَالِ الَّذِي حَكَمَ بِهِ عَلَيْهِ الْقَاضِي، وَإِلْزَامُ الزَّوْجَةِ الْمَحْكُومِ عَلَيْهَا بِصِحَّةِ النِّكَاحِ وَتَمْكِينِ الزَّوْجِ مِنْهَا، مَعَ أَنَّ مُقْتَضَى مَذْهَبِهِ هُوَ خِلَافُ مَا نَفَّذَ بِهِ ذَلِكَ الْحُكْمَ؟. فِي ذَلِكَ قَوْلَانِ، أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ يَقِفُ عَنْ تَنْفِيذِهِ وَإِبْطَالِهِ؛ لِأَنَّهُ إنْ نَفَّذَهُ وَأَلْزَمَ الْمَحْكُومَ عَلَيْهِ مَا فِيهِ أَلْزَمَهُ مَا لَا يَرَى أَنَّهُ الْحَقُّ عِنْدَهُ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ يُنَفِّذُهُ وَيَلْزَمُ الْمَحْكُومَ عَلَيْهِ مَا تَضَمَّنَهُ الْحُكْمُ؛ لِأَنَّ تَوَقُّفَهُ عَنْ إنْفَاذِهِ كَإِبْطَالِهِ، وَقَدْ قُلْنَا إنَّهُ مَمْنُوعٌ مِنْ نَقْضِ الْأَحْكَامِ الْمُجْتَهَدِ فِيهَا.

.فَصْلٌ فِي الْمَنْعِ مِنْ تَنْفِيذِ مَا حَكَمَ بِهِ حَاكِمُ أَهْلِ الذِّمَّةِ:

وَفِي الْوَثَائِقِ الْمَجْمُوعَةِ، إذَا ثَبَتَ عِنْدَ حَاكِمٍ أَصْلُ مَطْلَبٍ بِشَهَادَةِ أَهْلِ الذِّمَّةِ وَأَشْهَدَ حَاكِمُهُمْ عَلَى ثُبُوتِ ذَلِكَ عِنْدَهُ مُسْلِمَيْنِ، فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ لِحَاكِمِ الْمُسْلِمِينَ أَنْ يُنْفِذَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ إذَا أَنْفَذَ ذَلِكَ فَقَدْ أَنْفَذَ شَهَادَةَ أَهْلِ الذِّمَّةِ الدِّينُ وَاحِدٌ، أَمَّا مَعَ اخْتِلَافِ الْمَذْهَبِ، فَقَالَ الْمَازِرِيُّ: إذَا وَرَدَ عَلَى حَاكِمٍ حُكْمٌ بِأَحَدٍ ثَبَتَ بِهِمْ الْأَصْلُ، وَإِنَّمَا شَهِدَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى حُكْمِ حَاكِمِهِمْ فَشَهَادَتُهُمْ فَرْعٌ وَشَهَادَةُ أَهْلِ الذِّمَّةِ هِيَ الْأَصْلُ. فَائِدَةٌ: فَإِنْ قِيلَ: مَا مَعْنَى مَا يُكْتَبُ فِي التَّسْجِيلَاتِ قَدِيمًا وَحَدِيثًا وَهُوَ نَافِذُ الْقَضَاءِ وَالْحُكْمِ مَاضِيهِمَا قُلْنَا كُلٌّ مِنْ اللَّفْظَيْنِ إذَا اُسْتُعْمِلَ وَحْدَهُ فَهُوَ بِمَعْنَى الْآخَرِ، فَإِذَا جُمِعَ بَيْنَهُمَا احْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ تَأْكِيدًا، كَقَوْلِهِمْ فِي الْوَثَائِقِ طَائِعًا مُخْتَارًا وَقَوْلِهِمْ فِي صِحَّةٍ مِنْهُ وَسَلَامَةٍ، فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ زِيَادَةِ تَأْكِيدِ الْمُوَثَّقِ.
وَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ ثُبُوتُ ذَلِكَ فِي الْحُكْمِ بِإِقْرَارِهِ بَلْ يُقْضَى عَلَيْهِ، فَإِنْ ادَّعَى الْإِكْرَاهَ عَلَى الْإِقْرَارِ مَثَلًا فَالْقَوْلُ قَوْلُ خَصْمِهِ مَعَ يَمِينِهِ، إلَّا إذَا كَانَ هُنَاكَ قَرِينَةٌ تَدُلُّ عَلَى الْإِكْرَاهِ، فَإِنَّ النَّصَّ لِلشَّافِعِيِّ أَنَّهُ يُصَدَّقُ بِيَمِينِهِ، وَكَذَا مُقْتَضَى مَذْهَبِ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ؛ وَلْنَرْجِعْ إلَى مَا تَقَدَّمَ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَتَغَايَرَا مِنْ وَجْهٍ كَمَا تَقُولُ فِي الْإِيمَانِ وَالْإِسْلَامِ وَالْفَقْرِ وَالْمَسْكَنَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، فَإِنْ قِيلَ: فَمَا وَجْهُ التَّغَايُرِ عِنْدَ الِاجْتِمَاعِ قُلْنَا ظَاهِرُ كَلَامِ الشَّافِعِيِّ يَقْتَضِي أَنَّ الْقَضَاءَ هُوَ الْإِخْبَارُ عَنْ الْمُسْتَنَدِ، وَأَنَّ الْحُكْمَ عِبَارَةٌ عَنْ الْإِنْفَاذِ الَّذِي هُوَ بِمَعْنَى الْإِلْزَامِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَتَغَايَرَا مِنْ وَجْهٍ آخَرَ، وَهُوَ أَنَّهُ حَكَمَ بِأَنَّ حُكْمَ الشَّرْعِ فِي الْوَاقِعَةِ الْمَخْصُوصَةِ كَذَا، وَقَضَى بِهِ وَأَلْزَمَ. اهـ مِنْ كَلَامِ الشَّيْخِ الْعَلَّامَةِ سِرَاجِ الدِّينِ الْبُلْقِينِيِّ- مَتَّعَ اللَّهُ بِحَيَاتِهِ-.

.فَصْلٌ فِيمَا يَدُلُّ عَلَى الْحُكْمِ:

قَالَ الْقَرَافِيُّ: اعْلَمْ أَنَّهُ كَمَا يَدُلُّ الْقَوْلُ عَلَى الْحُكْمِ فِي قَوْلِ الْحَاكِمِ أُشْهِدُكُمْ أَنِّي حَكَمْت بِكَذَا، فَكَذَلِكَ الْفِعْلُ يَدُلُّ عَلَى الْحُكْمِ أَيْضًا، وَذَلِكَ إذَا كَتَبَ الْحَاكِمُ إلَى حَاكِمٍ آخَرَ أَنِّي قَدْ حَكَمْت بِكَذَا، فَهَذِهِ الْكِتَابَةُ تَدُلُّ عَلَى الْحُكْمِ كَمَا هُوَ مَشْرُوحٌ فِي كِتَابِ الْقَاضِي إلَى الْقَاضِي، وَكَذَلِكَ لَوْ سُئِلَ هَلْ حَكَمْت بِكَذَا فَأَشَارَ بِرَأْسِهِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يَدُلُّ وَيُفْهَمُ أَنَّهُ حَكَمَ بِهِ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَتَبَ الْحُكْمَ بِيَدِهِ، وَقَالَ اشْهَدُوا عَلَيَّ بِمَضْمُونِهِ، فَجَمِيعُ ذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى صُدُورِ الْحُكْمِ، وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ حُكْمَ الْحَاكِمِ أَمْرٌ نَفْسَانِيٌّ لَا لِسَانِيٌّ؛ لِأَنَّهُ تَارَةً يُخْبِرُ عَنْهُ الْقَوْلَ وَتَارَةً بِالْفِعْلِ وَتَارَةً بِالْإِشَارَةِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْحُكْمَ غَيْرُ قَوْلِهِ وَكِتَابَتِهِ وَإِشَارَتِهِ، وَإِنَّمَا هَذِهِ الْأُمُورُ دَالَّةٌ عَلَى الْحُكْمِ كَسَائِرِ مَا يَقُومُ بِالنَّفْسِ مِنْ الْأَحْكَامِ وَالْأَخْبَارِ وَغَيْرِهِمَا.

.فَصْلٌ فِي أَنَّ الْحُكْمَ الشَّرْعِيَّ أَمْرٌ قَائِمٌ بِالنَّفْسِ لَا بِاللِّسَانِ:

وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْحُكْمَ الشَّرْعِيَّ أَمْرٌ قَائِمٌ بِالنَّفْسِ لَا بِاللِّسَانِ، أَنَّهُ قَدْ يَقْتَرِنُ إنْشَاءُ الْحُكْمِ بِمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ فَيُوَافِقُ إنْشَاءُ الْحُكْمِ وَقْتَ الْإِشْهَادِ عَلَيْهِ، وَقَدْ يَفْتَرِقَانِ سِنِينَ كَثِيرَةً بِأَنْ يَحْكُمَ فِي شَيْءٍ وَلَا يُشْهِدُ بِالْحُكْمِ عَلَى نَفْسِهِ فِي ذَلِكَ إلَّا بَعْدَ مُدَّةٍ طَوِيلَةٍ، فَتَبَيَّنَ أَنَّ الْحُكْمَ الشَّرْعِيَّ فِي نَفْسِهِ قَائِمٌ بِذَاتِهِ مِنْ كَلَامِهِ النَّفْسَانِيِّ لَا اللِّسَانِيِّ.

.فَصْلٌ فِي أَنَّ الْحُكْمَ تَارَةً يَكُونُ خَبَرًا يَحْتَمِلُ الصِّدْقَ وَالْكَذِبَ:

وَتَارَةً يَكُونُ إنْشَاءً قَالَ الْقَرَافِيُّ: وَاعْلَمْ أَنَّ الْحُكْمَ تَارَةً يَكُونُ خَبَرًا يَحْتَمِلُ الصِّدْقَ وَالْكَذِبَ، وَتَارَةً يَكُونُ إنْشَاءً لَا يَحْتَمِلُ الصِّدْقَ وَالْكَذِبَ، فَالْأَوَّلُ مِثْلُ أَنْ يَقُولَ قَدْ حَكَمْت بِكَذَا فِي الصُّورَةِ الْفُلَانِيَّةِ، فَإِنَّ هَذَا اللَّفْظَ يَحْتَمِلُ الصِّدْقَ وَالْكَذِبَ بِحَسَبِ مَا يُطَّلَعُ عَلَيْهِ مِنْ حَالِهِ، وَالثَّانِي مِثْلُ أَنْ يَقُولَ اشْهَدُوا عَلَيَّ بِكَذَا أَوْ أَنِّي أَلْزَمْت فُلَانًا بِكَذَا فَهَذَا إنْشَاءٌ لَا يَحْتَمِلُ الصِّدْقَ وَلَا الْكَذِبَ؛ لِأَنَّهُ إنْشَاءُ الطَّلَبِ مِنْ الشُّهُودِ أَنْ يَشْهَدُوا عَلَيْهِ بِكَذَا، وَإِنَّمَا يُوصَفُ هَذَا بِالصِّحَّةِ أَوْ الْفَسَادِ وَاَللَّهُ- سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- أَعْلَمُ.
تَنْبِيهَاتٌ:
فِي التَّسْجِيلَاتِ بِإِحْيَاءِ الْكُتُبِ الْقَدِيمَةِ وَمَا يَمْتَنِعُ مِنْ الْإِشْهَادِ بِهِ، وَفِي الْمُقْنِعِ لِابْنِ بَطَّالٍ قَالَ ابْنُ حَبِيبٍ عَنْ ابْنِ الْمَاجِشُونِ فِيمَنْ بِيَدِهِ حُكْمٌ مِنْ قَاضٍ أَوْ شِرَاءِ عَبْدٍ أَوْ مَنْزِلٍ، فَيَقُومُ بِذَلِكَ إلَى سُلْطَانِ مَوْضِعِهِ لِيَسْمَعَ مِنْ بَيِّنَتِهِ عَلَى ذَلِكَ لِيُحْيِيَهُ لَهُ بِالْحُكْمِ فَلَا يَنْبَغِي ذَلِكَ لِلْإِمَامِ، حَتَّى يُعَارِضَهُ فِيهِ أَحَدٌ بِخُصُومَةٍ أَوْ دَعْوَى، وَلِيُحْيِيَهُ صَاحِبُهُ بِأَنْ يُشْهِدَ عَلَى شَهَادَةِ شُهُودِ الْكِتَابِ إنْشَاءً، إلَّا أَنْ يَكُونَ طَرَأَتْ لَهُ بَيِّنَةٌ عَلَى ذَلِكَ، الْحَقِّ مِنْ بَلَدٍ آخَرَ، وَقَلَّ مَنْ يَعْرِفُهُمْ هَا هُنَا، وَمَنْ يَعْدِلُهُمْ، فَيَسْأَلُ الْقَاضِيَ أَنْ يَسْمَعَ مِنْ أُولَئِكَ قَبْلَ تَفَرُّقِهِمْ عَنْهُ وَيُحْيِيَ لَهُ بِهِمْ حَقَّهُ قَبْلَ فَوْتِهِ بِشَهَادَةِ مَنْ شَهِدَ لَهُ عَلَيْهِ وَمَوْتِهِ، وَأَنَّهُ يَجِدُ الْآنَ مَنْ يَعْدِلُ بِهِ شَهَادَةَ الطَّارِئِينَ مِمَّنْ يَعْرِفُهُمْ السُّلْطَانُ، وَلَا يُمْكِنُهُ أَنْ يُحْيِيَهُ بِالْإِشْهَادِ عَلَى شَهَادَتِهِمْ إذْ لَا يَعْرِفُونَهُمْ فَمِثْلُ هَذَا يَنْبَغِي لِلْإِمَامِ أَنْ يَنْظُرَ لَهُ فِيهِ وَيُحْيِيَ لَهُ حَقَّهُ، وَيُشْهِدَ لَهُ عَلَى ذَلِكَ وَيَذْكُرَ فِي الْإِشْهَادِ عَلَى الْقَاضِي أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يُخَاصِمُهُ فِيهِ أَحَدٌ، وَلَا قَطَعَ السُّلْطَانُ بِهِ حُجَّةَ أَحَدٍ يَقُومُ عَلَيْهِ، وَنَحْوُ هَذَا مِمَّا يَتَبَيَّنُ بِهِ سَبَبُ الْإِحْيَاءِ، أَوْ يَكُونُ حَقًّا أَوْ حُكْمًا قَدْ دُرِسَتْ وَثِيقَتُهُ وَأَشْفَتْ عَلَى الذَّهَابِ، وَلَا يُمْكِنُهُ أَنْ يُجِيبَهَا إلَّا بِنَظَرِ السُّلْطَانِ، فَإِنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ يَنْظُرَ لَهُ فِيهَا بِمَا يُحْيِيهَا، وَيُبَيِّنَ أَنَّهُ لَمْ يَقْطَعْ بِهِ حُجَّةَ أَحَدٍ.
نَوْعٌ مِنْهُ: وَفِي ثَمَانِيَةِ أَبِي زَيْدٍ قَالَ أَبُو زَيْدٍ قَالَ أَصْبَغُ: وَقَدْ سُئِلَ فِي الرَّجُلِ يَأْتِي إلَى قَاضٍ بِكِتَابٍ فِيهِ قَضَاءُ غَيْرِهِ فَيَسْأَلُهُ أَنْ يُثْبِتَهُ عِنْدَهُ بِشَاهِدَيْنِ عَدْلَيْنِ، بِأَنَّ الْقَاضِيَ الْأَوَّلَ حَكَمَ لَهُ بِمَا فِيهِ، وَيُشْهِدَ لَهُ بِثُبُوتِهِ عِنْدَهُ لِمَا يَتَخَوَّفُ مِنْ مَوْتِ شَاهِدَيْهِ أَوْ حَوَادِثَ يَخْشَاهَا عَلَيْهِ، هَلْ يَسْمَعُ مِنْ بَيِّنَتِهِ؟ قَالَ نَعَمْ وَأَرَاهُ حَسَنًا، وَيُشْهِدُ فِي كِتَابِهِ عَلَى مَا ثَبَتَ عِنْدَهُ مِنْ ذَلِكَ، قِيلَ لَهُ فَيُشْهِدُ لَهُ أَنَّهُ أَنْفَذَهُ إنْفَاذًا كَالْقَاضِي الْأَوَّلِ، قَالَ لَا يُشْهِدُ أَنَّهُ أَنْفَذَهُ، إنَّمَا يُشْهِدُ أَنَّهُ ثَبَتَ عِنْدَهُ أَنَّ الْقَاضِيَ فُلَانًا حَكَمَ بِمَا فِيهِ وَذَلِكَ بَعْدَ مَا يَتَدَبَّرُهُ، وَيَرَى أَنَّ الْقَاضِيَ الْأَوَّلَ قَدْ أَصَابَ وَجْهَ الْقَضَاءِ فِيمَا تَبَيَّنَ لَهُ، فَإِنْ رَأَى أَنَّهُ أَخْطَأَ فِيهِ لَمْ يَسْمَعْ مِنْ بَيِّنَتِهِ عِنْدَهُ، إلَّا أَنْ يَبْتَدِئَ عِنْدَهُ خُصُومَةً مُبْتَدَأَةً، قِيلَ لَهُ: فَإِنْ كَانَ قَدْ وَجَدَ فِي قَضَاءِ الْأَوَّلِ خِلَافًا لِرَأْيِهِ وَهُوَ مِمَّا اخْتَلَفَ فِيهِ أَهْلُ الْعِلْمِ مِمَّا لَا يَجُوزُ لَهُ فَسْخُ الْقَضَاءِ بِهِ، قَالَ لَا يَنْظُرُ فِي شَيْءٍ مِنْهُ، وَهَذَا أَحَدُ الْقَوْلَيْنِ اللَّذَيْنِ تَقَدَّمَ نَقْلُهُمَا عَنْ الْمَازِرِيِّ فِي مَعْنَى تَنْفِيذِ الْحُكْمِ، قِيلَ لِأَصْبَغَ: وَكَيْفَ يَنْظُرُ لَهُ فِي كِتَابِهِ وَيُحْيِيهِ لَهُ وَهُوَ لَمْ يُنَازِعْهُ أَحَدٌ فِيهِ، قَالَ ذَلِكَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّهُ لَا يَقْطَعُ حُجَّةَ الْمَقْضِيِّ عَلَيْهِ، فَمَتَى قَامَ فَهُوَ عَلَى حُجَّتِهِ. أَلَا تَرَى لَوْ أَنَّ عَبْدًا أَتَى إلَى السُّلْطَانِ فَزَعَمَ أَنَّ سَيِّدَهُ أَعْتَقَهُ وَقَامَتْ لَهُ بَيِّنَةٌ، وَسَيِّدُهُ مُقِرٌّ لَهُ بِالْعِتْقِ، غَيْرَ أَنَّ الْعَبْدَ سَأَلَ الْقَاضِي أَنْ يَسْمَعَ مِنْ بَيِّنَتِهِ وَيُحْيِيَ لَهُ عِتْقَهُ وَيُكْثِرَ لَهُ مِنْ الشُّهُودِ عَلَيْهِ؛ لِيَكُونَ إحْيَاءً لِلْعِتْقِ وَتَوْثِيقًا لِلْحُرِّيَّةِ، أَمَا كَانَ لِلْقَاضِي أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ، فَهُوَ مِثْلُهُ، وَهَذَا خِلَافُ مَا تَقَدَّمَ عَنْ (الْمُقْنِعِ) مِنْ أَنَّهُ لَا يُحْيِيهِ إلَّا لِضَرُورَةٍ كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ.
فَصْلٌ وَمِنْ ذَلِكَ إذَا ادَّعَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الْخَصْمَيْنِ أَرْضًا بِالصَّحْرَاءِ وَتَنَازَعَا فِيهَا، ثُمَّ أَتَيَا الْحَاكِمَ فَتَدَاعَيَا فِيهَا، ثُمَّ أَقَرَّ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ مِنْ غَيْرِ بَيِّنَةٍ فَلَا يَشْهَدُ الْحَاكِمُ أَنَّهُ حَكَمَ بِهَذِهِ الْأَرْضِ لِفُلَانٍ، وَلَكِنْ يَشْهَدُ لَهُ بِأَنَّ فُلَانًا أَقَرَّ لِفُلَانٍ بِكَذَا، وَلَا يَحْكُمُ لَهُ بِهَا، وَلَا يُشْهِدُ عَلَى نَفْسِهِ فِيهَا بِقَضَاءٍ، حَتَّى تَقُومَ عِنْدَهُ الْبَيِّنَةُ أَنَّهَا لَهُ قَالَهُ ابْنُ الْقَاسِمِ.

.فَصْلٌ فِيمَا إذَا ابْتَاعَ رَجُلٌ دَارًا مِنْ رَجُلٍ وَأَنْكَرَ الْبَائِعُ ذَلِكَ:

وَمِنْ ذَلِكَ إذَا ابْتَاعَ رَجُلٌ دَارًا مِنْ رَجُلٍ وَأَنْكَرَ الْبَائِعُ ذَلِكَ وَثَبَتَ عِنْدَ الْقَاضِي الْبَيِّنَةُ بِالِاشْتِرَاءِ، فَلَا يَكْتُبُ لَهُمْ الْقَاضِي كِتَابَ حُكْمٍ حَتَّى يُقِيمَ الْمُشْتَرِي عِنْدَهُ بَيِّنَتَهُ أَنَّ الْبَائِعَ بَاعَ مِنْهُ شَيْئًا يَعْرِفُونَهُ فِي مِلْكِهِ (مِنْ مُخْتَصَرِ الْوَاضِحَةِ) فِي بَابِ (الْقِسْمَةِ).
نَوْعٌ مِنْهُ: قَالَ أَصْبَغُ: لَا يَنْبَغِي لِلْقَاضِي إذَا عَزَلَ الْوَصِيَّ لِأَمْرٍ كَرِهَهُ أَوْ لِعُذْرٍ أَنْ يَكْتُبَ لَهُ بَرَاءَةً مِمَّا جَرَى عَلَى يَدَيْهِ قَبْلَ ذَلِكَ، مِمَّا زَعَمَ أَنَّهُ أَنْفَقَهُ عَلَى الْيَتِيمِ، وَإِنْ أَتَاهُ عَلَى ذَلِكَ بِبَيِّنَةٍ حَتَّى يَبْلُغَ الْيَتِيمُ مَبْلَغَ الدَّفْعِ عَنْ نَفْسِهِ، وَلَكِنْ إنْ أَخَذَ مِنْهُ مَالًا عِنْدَ الْعَزْلِ كَتَبَ لَهُ مِنْهُ بَرَاءَةً.
نَوْعٌ مِنْهُ: إذَا دَخَلَ تَحْتَ يَدَيْ الْقَاضِي مَالٌ لِغَائِبٍ فَقَامَ رَجُلٌ وَادَّعَى أَنَّهُ وَكِيلُهُ وَأَحْضَرَ عَقْدًا بِوَكَالَتِهِ، وَذَكَرَ الشُّهُودُ فِي الْعَقْدِ أَنَّ تَارِيخَ الشَّهَادَةِ بِالْوَكَالَةِ قَبْلَ كِتَابَةِ هَذَا الْعَقْدِ بِعَامٍ أَوْ نَحْوِهِ، وَفِي الْعَقْدِ أَنَّهُ وَكِيلُهُ عَلَى طَلَبِ حُقُوقِهِ كُلِّهَا وَقَبْضِهَا وَالْإِقْرَارِ وَالْإِنْكَارِ وَقَبْضِ مُسْتَغَلَّاتِهِ تَوْكِيلًا تَامًّا مُفَوَّضًا أَقَامَهُ فِيهِ مَقَامَ نَفْسِهِ، فَهَذَا مِمَّا لَا يَنْبَغِي لِلْقَاضِي أَنْ يُثْبِتَهُ لَهُ، فَإِنَّ الْمُوَكِّلَ الْغَائِبَ لَمْ يُشْهِدْ عَلَى نَفْسِهِ فِي هَذَا الْعَقْدِ الَّذِي أَظْهَرَ الْوَكِيلُ وَلَا رَأَى الْكِتَابَ، وَإِنَّمَا لَفَّقَ الْوَكِيلُ مَا فِي الْكِتَابِ مِنْ حِفْظِ الشُّهُودِ عَلَى وَجْهِ الِاسْتِرْعَاءِ، وَهَذَا الْمَوْضِعُ وَشِبْهُهُ لَا يَنْبَغِي لِلْقَاضِي أَنْ يَسْمَعَ الشَّهَادَةَ فِيهِ عَلَى الْوَكَالَةِ أَوْ غَيْرِهَا، إلَّا بِأَنْ يَنُصَّ الشَّاهِدُ مَعَانِيَهَا مِنْ حِفْظِهِ كَمَا يَزْعُمُ الْقَائِمُ بِالْوَكَالَةِ أَنَّ مِنْ حِفْظِهِمْ كَتَبَ ذَلِكَ، وَإِمَّا أَنْ يَقُولَ الشَّاهِدُ لِلْقَاضِي هَذِهِ شَهَادَتِي أَشْهَدُ بِهَا عِنْدَك لِيُعَلَّمَ لَهُ عَلَيْهَا يَعْنِي عَلَامَةَ الْأَدَاءِ وَالْقَبُولِ وَتَثْبُتُ الْوَكَالَةُ بِتِلْكَ الشَّهَادَةِ فَلَا يَجُوزُ ذَلِكَ وَلَا يَسَعُ الْقَاضِيَ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى التَّسَاهُلُ فِي مِثْلِ هَذَا، فَاَللَّهَ اللَّهَ فِي الِاهْتِبَالِ بِأُمُورِ النَّاسِ وَالنَّظَرِ لِنَفْسِك، قَالَهُ ابْنُ مَالِكٍ الْقُرْطُبِيُّ.
وَقَالَ ابْنُ عَتَّابٍ: لَا يَدْفَعُ الْقَاضِي ذَلِكَ الْمَالَ لِلْوَكِيلِ إلَّا بِتَوْكِيلِ الْغَائِبِ عَلَى قَبْضِهِ تَوْكِيلًا يَنُصُّ فِيهِ عَلَى قَبْضِهِ، وَأَمَّا بِالتَّوْكِيلِ الْمُكْتَتَبِ فَلَا، قَالَ ابْنُ سَهْلٍ: وَإِنَّمَا قَالَ ابْنُ عَتَّابٍ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّ الْوَكِيلَ غَيْرُ مَأْمُونٍ عَلَيْهِ، فَرَأَى مِنْ النَّظَرِ إبْقَاءَهُ تَحْتَ يَدِ أَمِينِ الْقَاضِي مَعَ مَا فِي الْوَكَالَةِ مِنْ الضَّعْفِ؛ لِأَنَّ الْمُوَكِّلَ لَمْ يَطَّلِعْ عَلَى عَقْدِ الْوَكَالَةِ.
نَوْعٌ مِنْهُ: وَمِنْ أَحْكَامِ ابْنِ سَهْلٍ أَيْضًا قَالَ: وَفِي نَوَازِلِ ابْنِ سَحْنُونٍ مَنْ أَتَى بِيَتِيمَةٍ بَلَغَتْ إلَى الْقَاضِي أَوْ يَتِيمٍ بَالِغٍ، وَقَالَ: إنَّ أَبَاهُ أَوْ أَبَا هَذَا أَوْصَى بِهِ إلَيَّ وَبِمَالِهِ وَقَدْ بَلَغَ مَبْلَغَ الرِّضَا وَأَنَا أَبْرَأُ إلَيْهِ بِمَالِهِ فَاكْتُبْ لِي بَرَاءَةً مِنْهُ قَالَ يَكْتُبُ لَهُ فِي الْبَرَاءَةِ، إنَّ فُلَانًا أَتَى بِفُلَانٍ صِفَتُهُ كَذَا وَزَعَمَ أَنَّهُ يُسَمَّى فُلَانًا أَوْ بِامْرَأَةٍ صِفَتُهَا كَذَا وَزَعَمَ أَنَّهَا تُسَمَّى فُلَانَةَ وَأَنَّ أَبَاهَا أَوْصَى إلَيْهِ بِهَا وَبِمَالِهَا، وَأَنَّهَا قَدْ بَلَغَتْ مَبْلَغَ الْأَخْذِ لِنَفْسِهَا وَالْإِعْطَاءِ مِنْهَا وَسَأَلَنَا أَنْ نَأْمُرَهُ بِدَفْعِ مَالِهَا وَأَنْ نَكْتُبَ لَهُ الْبَرَاءَةَ فَأَمَرْنَاهُ بِذَلِكَ، فَدَفَعَ لَهَا عِنْدَنَا كَذَا وَكَذَا، وَقَدْ أَشْهَدَنَا عَلَى بَرَاءَتِهِ مِنْهُ لِلْمُسْلِمِينَ فِي هَذَا الْكِتَابِ، وَيَكْتُبُ لَهُ هَذِهِ الْبَرَاءَةَ، وَإِنْ لَمْ يَعْرِفْ أَنَّهُ وَصِيُّهُ، إلَّا بِقَوْلِهِ. قِيلَ لَهُ: وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكْتُبَ لَهُ هَكَذَا قَالَ نَعَمْ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكْتُبَ لَهُ الْبَرَاءَةَ إلَّا هَكَذَا، ذَكَرَهَا ابْنُ سَهْلٍ فِي مَسَائِلِ الْمَحْجُورِ.

.فَصْلٌ لَا يُسَجِّلُ الْقَاضِي بِتَخْلِيدِ دَيْنٍ فِي ذِمَّةِ غَائِبٍ إلَّا أَنْ يَكُونَ مِنْ أَهْلِ عَمَلِهِ:

قَالَ ابْنُ الْعَطَّارِ وَغَيْرُهُ: لَا يُسَجِّلُ الْقَاضِي بِتَخْلِيدِ دَيْنٍ فِي ذِمَّةِ غَائِبٍ إلَّا أَنْ يَكُونَ مِنْ أَهْلِ عَمَلِهِ، وَإِنْ سَافَرَ إلَى غَيْرِ عَمَلِهِ، أَمَّا إنْ اسْتَوْطَنَ غَيْرَ عَمَلِهِ أَوْ لَمْ يَسْكُنْ قَبْلَ ذَلِكَ فِيهِ فَحَسْبُهُ أَنْ يُقَيِّدَ بِثُبُوتِ الدَّيْنِ لَا الْحُكْمُ بِتَخْلِيدِهِ فِي ذِمَّتِهِ.
مَسْأَلَةٌ:
لَا يُسَجِّلُ نَائِبُ الْقَاضِي بِمَا ثَبَتَ عِنْدَهُ، فَإِنْ فَعَلَ فَلَا يَجُوزُ تَسْجِيلُهُ، وَيَبْطُلُ إلَّا أَنْ يَكُونَ الْقَاضِي اسْتَنَابَهُ عَنْ إذْنِ الْإِمَامِ وَرَأْيِهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ حُكْمُ هَذَا مُسْتَوْفًى فِي الْبَابِ الْخَامِسِ فِي اسْتِخْلَافِ الْقَاضِي.

.فَصْلٌ فِي الْمَحْكُومُ لَهُ إذَا سَأَلَ الْقَاضِيَ أَنْ يُسَجِّلَ لَهُ بِمَا ثَبَتَ لَهُ عِنْدَهُ:

الْمَحْكُومُ لَهُ إذَا سَأَلَ الْقَاضِيَ أَنْ يُسَجِّلَ لَهُ بِمَا ثَبَتَ لَهُ عِنْدَهُ لَزِمَ الْحَاكِمَ أَنْ يُسَجِّلَ لَهُ ذَلِكَ وَيَذْكُرَ الْوَجْهَ الَّذِي ثَبَتَ بِهِ الْحَقُّ، وَإِنَّ ذَلِكَ يَغْلِبُ قِيَامَ الْبَيِّنَةِ بِكَذَا، أَوْ بِسَبَبِ نُكُولٍ، أَوْ لِأَجْلِ يَمِينٍ أَوْ بِسَبَبِ سُقُوطِ بَيِّنَةٍ جُرِّحَتْ؛ لِأَنَّهُ يَخْشَى أَنْ يَقُومَ عَلَيْهِ بَعْدَ ذَلِكَ بِتِلْكَ الْبَيِّنَةِ، وَاخْتُلِفَ إذَا عَجَزَ الْقَاضِي الطَّالِبُ، فَسَأَلَ الْمَطْلُوبُ مِنْ الْقَاضِي أَنْ يُسَجِّلَ لَهُ بِقَطْعِ حُجَّتِهِ عَنْهُ لِئَلَّا تَتَكَرَّرَ عَلَيْهِ تِلْكَ الدَّعْوَى وَيُعْتِقُهُ مَتَى شَاءَ، فَقِيلَ ذَلِكَ لَهُ.
وَقَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ لَيْسَ ذَلِكَ عَلَى الْقَاضِي مِنْ (تَنْبِيهِ الْحُكَّامِ) لِابْنِ الْمُنَاصِفِ.
مَسْأَلَةٌ:
قَوْلُ الْقَاضِي فِي سِجِلِّهِ فِي شَهَادَةِ غَيْرِ الْمَقْبُولِينَ إنَّهُمْ شَهِدُوا بِكَذَا وَاسْتُظْهِرَ بِهِمْ نَفْعٌ لِلْمَشْهُودِ لَهُ؛ لِأَنَّهُ مَتَى دَفَعَ الْغَائِبُ فِيمَنْ ثَبَتَ بِهِ ذَلِكَ كَانَ لِلْمَشْهُودِ لَهُ أَنْ يُعَدِّلَ اثْنَيْنِ مِنْ الَّذِينَ لَمْ يَقْبَلْهُمْ الْقَاضِي وَاسْتَغْنَى عَنْ إعَادَةِ شَهَادَتِهِمْ عِنْدَ غَيْرِهِ، وَزَكَّاهُمْ عَلَى أَعْيَانِهِمْ إنْ كَانُوا أَحْيَاءً، وَإِنْ كَانُوا مَوْتَى زَكَّاهُمْ بِشَهَادَةِ مَنْ يَقْطَعُ بِمَعْرِفَةِ أَعْيَانِهِمْ.

.فَصْلٌ لِلْقَاضِي إذَا سَجَّلَ بَيْنَ الْخَصْمَيْنِ أَنْ يَذْكُرَ فِي الْكِتَابِ أَسْمَاءَ الشُّهُودِ:

يَنْبَغِي لِلْقَاضِي إذَا سَجَّلَ بَيْنَ الْخَصْمَيْنِ أَنْ يَذْكُرَ فِي الْكِتَابِ أَسْمَاءَ الشُّهُودِ فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ حَتَّى وَقَعَ الْحُكْمُ فَالْأَحَبُّ إلَيَّ أَنْ يُبَدِّلَ الْكِتَابَ، فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ حَتَّى عُزِلَ أَوْ مَاتَ نَفَذَ الْحُكْمُ إلَّا عَلَى الْغَائِبِ، وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ وَنَظَائِرُهَا مَبْسُوطَةٌ فِي الْكَلَامِ عَلَى الْحُكْمِ عَلَى الْغَائِبِ، وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي جَوَازِ تَسْجِيلٍ لَمْ يُصَرِّحْ فِيهِ بِأَسْمَاءِ الشُّهُودِ، وَالْعَمَلُ عَلَى أَنَّهُ يُصَرِّحُ فِي الْحُكْمِ عَلَى الْغَائِبِ وَالصَّغِيرِ وَلَا يَحْتَاجُ إلَى ذَلِكَ فِي الْحُكْمِ عَلَى الْحَاضِرِ، وَفِي الرُّكْنِ الْخَامِسِ فِي الْمَقْضِيِّ عَلَيْهِ وَفِي آخِرِ فَصْلِ التَّعْجِيزِ أَيْضًا بَسَطَ هَذِهِ الْمَسَائِلَ.

.فَصْلٌ أَمَرَ كَاتِبَهُ عِنْدَ التَّسْجِيلِ أَنْ يُبْقِيَ بَيَاضًا لِيُتَمِّمَهُ الْقَاضِي بِخَطِّهِ:

وَفِي (الطُّرَرِ) ذَكَرَ ابْنُ مُغِيثٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ مِنْ الْقُضَاةِ مَنْ يَأْمُرُ كَاتِبَهُ عِنْدَ كِتَابَةِ التَّسْجِيلِ أَنْ يُبْقِيَ بَيَاضًا فِي آخِرِ التَّسْجِيلِ لِيُتَمِّمَهُ الْقَاضِي بِخَطِّهِ وَبِذَلِكَ جَرَتْ عَادَةُ الْقُضَاةِ فِي الْأَعْمَالِ الْمِصْرِيَّةِ وَالشَّامِيَّةِ وَالْحِجَازِيَّةِ، وَصِفَةُ مَا يَكْتُبُ حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ. قَالَ: وَبِمَا ذَكَرَهُ ابْنُ مُغِيثٍ جَرَى عَمَلُ الْقُضَاةِ بِقُرْطُبَةَ، وَفَعَلَهُ مُنْذَرُ بْنُ سَعِيدٍ وَابْنُ السُّلَيْمِ وَابْنُ زَرْبٍ.

.فَصْلٌ فِي الْحُكْمِ الْمُعَلَّقِ عَلَى شَرْطِ صِدْقِ الْمُدَّعِي وَإِرْجَاءِ الْحُجَّةِ لِلْخَصْمِ:

مَسْأَلَةٌ:
وَفِي (الْحَاوِي فِي الْفَتَاوَى) لِابْنِ عَبْدِ النُّورِ التُّونِسِيِّ قَالَ سُئِلَ الْمَازِرِيُّ عَنْ امْرَأَةٍ مَجْهُولَةٍ طَارِئَةٍ عَلَى بَلَدٍ فَأَتَتْ إلَى قَاضِيهِ فَذَكَرَتْ أَنَّ زَوْجَهَا غَابَ عَنْهَا فِي بَلَدِهَا غَيْبَةً مُنْقَطِعَةً وَلَا يَعْلَمُ صِدْقَهَا مِنْ كَذِبِهَا، وَشَكَتْ الضَّيْعَةَ، فَمَا تَرَى فِي أَمْرِهَا هَلْ تَطْلُقُ وَتُزَوَّجُ أَمْ لَا؟ فَأَجَابَ أَنَّهُ يَتَثَبَّتُ فِي أَمْرِهَا حَتَّى يَيْأَسَ مِنْ الْعُثُورِ عَلَى صِدْقِهَا أَوْ كَذِبِهَا، أَوْ تُثْبِتُ كَوْنَهَا طَارِئَةً مِنْ بَلَدٍ بَعِيدٍ يَتَعَذَّرُ مَعَهُ الْكَشْفُ عَنْ حَالِ الزَّوْجِ، فَتُسْتَحْلَفُ حِينَئِذٍ الْيَمِينَ الْوَاجِبَةَ فِي مِثْلِ هَذَا، وَأَنَّهَا صَادِقَةٌ فِيمَا ذَكَرَتْ، وَيُوقِعُ الطَّلَاقَ عَلَيْهَا، وَيَكْتُبُ لَهَا الْحَاكِمُ أَنَّهُ أَوْقَعَ عَلَيْهَا الطَّلَاقَ بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ الْأَمْرُ كَمَا ذَكَرَتْ.
مَسْأَلَةٌ:
وَفِي (الْبَيَانِ وَالتَّحْصِيلِ) فِي كِتَابِ السُّلْطَانِ فِي رَجُلٍ أَتَى إلَى زَمْزَمَ فَقَالَ لِرَجُلٍ: نَاوِلْنِي قَدَحَك، فَقَالَ إنِّي أَخَافُ عَلَيْهِ فَقَالَ هَذَا كِسَائِي عِنْدَك حَتَّى أَعُودَ بِهِ، فَأَخَذَ الْقَدَحَ وَوَضَعَ الْكِسَاءَ ثُمَّ رَجَعَ فَلَمْ يَجِدْ الرَّجُلَ فَحُكْمُهُ أَنْ يَأْتِيَ السُّلْطَانَ فَيُخْبِرَهُ فَيَأْمُرَهُ السُّلْطَانُ إنْ كَانَ صَادِقًا أَنْ يَبِيعَ الْقَدَحَ وَيَقْبِضَ ثَمَنَهُ مِنْ ثَمَنِ الْكِسَاءِ، قِيلَ لِأَشْهَبَ: وَيَأْمُرُهُ السُّلْطَانُ بِذَلِكَ؟ قَالَ نَعَمْ، يَأْمُرُ مِنْ غَيْرِ حُكْمٍ عَلَى الْغَائِبِ، وَيَقُولُ لَهُ إنْ كُنْت صَادِقًا فَافْعَلْ، فَإِنَّ جَاءَ الرَّجُلُ كَانَ عَلَى خُصُومَتِهِ. وَفَائِدَةُ رَفْعِهِ إلَى السُّلْطَانِ أَنَّ صَاحِبَ الْقَدَحَ إذَا جَاءَ لَمْ يَكُنْ لَهُ عَلَى الَّذِي بَاعَهُ إلَّا الثَّمَنُ الَّذِي بَاعَ بِهِ، وَإِنْ بَاعَهُ بِغَيْرِ أَمْرِ السُّلْطَانِ كَانَ عَلَيْهِ قِيمَةُ الْقَدَحِ بَالِغَةً مَا بَلَغَتْ.
مَسْأَلَةٌ:
وَفِي مُخْتَصَرِ الْوَاضِحَةِ لِفَضْلِ بْنِ سَلَمَةَ أَنَّ الْمَرْأَةَ إذَا رَفَعَتْ أَمْرَهَا إلَى الْقَاضِي وَطَلَبَتْ أَنْ يَفْرِضَ لَهَا النَّفَقَةَ عَلَى زَوْجِهَا الْغَائِبِ، وَحَالُهُ فِي الْعُسْرِ وَالْيُسْرِ مَجْهُولٌ، وَأَحَبَّتْ أَنْ يَنْظُرَ لَهَا فِي فَرْضِ النَّفَقَةِ عَلَيْهِ وَلُزُومِهَا لَهَا إنْ ظَهَرَ مَلِيًّا فَيُشْهِدُ لَهَا السُّلْطَانُ، لَئِنْ كَانَ فُلَانٌ زَوْجَ فُلَانَةَ مَلِيًّا الْيَوْمَ مُوسِرًا فِي غَيْبَتِهِ هَذِهِ فَقَدْ أَوْجَبْنَا عَلَيْهِ لِامْرَأَتِهِ فَرِيضَةَ مِثْلِهَا مِنْ مِثْلِهِ، وَإِنْ كَانَ مُعْسِرًا فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ، وَيَكْتُبُ التَّارِيخَ ثُمَّ تَكُونُ الْفَرِيضَةُ لَازِمَةً لَهُ إلَّا أَنْ يَثْبُتَ عَدَمُهُ فِي غَيْبَتِهِ كُلِّهَا حَتَّى قَدِمَ فَلَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ.

.الْقِسْمُ الثَّانِي فِي بَيَانِ الْمُدَّعِي مِنْ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ:

اعْلَمْ أَنَّ عِلْمَ الْقَضَاءِ يَدُورُ عَلَى مَعْرِفَةِ الْمُدَّعِي مِنْ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ أَصْلٌ مُشْكِلٌ، وَلَمْ يَخْتَلِفُوا فِي حُكْمِ مَا لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، وَأَنَّ عَلَى الْمُدَّعِي الْبَيِّنَةَ إذَا أَنْكَرَ الْمَطْلُوبَ، وَأَنَّ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ الْيَمِينَ إذَا لَمْ تَقُمْ الْبَيِّنَةُ، وَقَدْ اخْتَلَفَتْ عِبَارَاتُ الْفُقَهَاءِ فِي تَحْدِيدِ الْمُدَّعِي وَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ، قَالَ الْقَرَافِيُّ: الْمُدَّعِي مَنْ كَانَ قَوْلُهُ عَلَى خِلَافِ أَصْلٍ أَوْ عُرْفٍ، وَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ مَنْ كَانَ قَوْلُهُ عَلَى وَفْقِ أَصْلٍ أَوْ عُرْفٍ.
وَقَالَ ابْنُ شَاسٍ الْمُدَّعِي مَنْ تَجَرَّدَتْ دَعْوَاهُ عَنْ أَمْرٍ يُصَدِّقُهُ أَوْ كَانَ أَضْعَفَ الْمُتَدَاعِيَيْنِ أَمْرًا فِي الدَّلَالَةِ عَنْ الصِّدْقِ، أَوْ اقْتَرَنَ بِهَا مَا يُوهِنُهَا عَادَةً، وَذَلِكَ كَالْخَارِجِ عَنْ مَعْهُودٍ وَالْمُخَالِفِ لِأَصْلٍ، وَشِبْهِ ذَلِكَ وَمَنْ تَرَجَّحَ جَانِبُهُ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ فَهُوَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ. فَإِذَا ادَّعَى أَحَدُهُمَا مَا يُوَافِقُ الْعُرْفَ وَادَّعَى الْآخَرُ مَا يُخَالِفُهُ فَالْأَوَّلُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ وَالثَّانِي هُوَ الْمُدَّعِي، وَكَذَلِكَ كُلُّ مَنْ ادَّعَى وَفَاءَ مَا عَلَيْهِ أَوْ رَدَّ مَا عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ أَمْرٍ يُصَدِّقُ دَعْوَاهُ فَإِنَّهُ مُدَّعٍ، وَاخْتَصَرَ ذَلِكَ ابْنُ الْحَاجِبِ فَقَالَ الْمُدَّعِي مَنْ تَجَرَّدَ قَوْلُهُ عَنْ مُصَدِّقٍ وَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ مَنْ تَرَجَّحَ بِمَعْهُودٍ أَوْ أَصْلٍ، قَالَ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ: وَالْمَعْهُودُ هُوَ شَهَادَةُ الْعُرْفِ، وَالْأَصْلُ اسْتِصْحَابُ الْحَالِ.
وَقَالَ أَبُو عُمَرَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: إذَا أَشْكَلَ عَلَيْك الْمُدَّعِي مِنْ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فَوَاجِبُ الِاعْتِبَارِ فِيهِ أَنْ يَنْظُرَ هَلْ هُوَ آخِذٌ أَوْ دَافِعٌ وَهَلْ يَطْلُبُ اسْتِحْقَاقَ شَيْءٍ مِنْ غَيْرِهِ أَوْ يَنْفِيهِ، فَالطَّالِبُ أَبَدًا مُدَّعٍ وَالدَّافِعُ الْمُنْكِرُ مُدَّعًى عَلَيْهِ، فَقِفْ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ.
وَقَالَ غَيْرُهُ: كُلُّ مَنْ يُرِيدُ الْأَخْذَ أَوْ يَطْلُبُ الْبَرَاءَةَ مِنْ شَيْءٍ وَجَبَ عَلَيْهِ فَهُوَ مُدَّعٍ.
وَكَلَامُهُمْ وَتَحْوِيمُهُمْ عَلَى شَيْءٍ وَاحِدٍ وَهُوَ أَنَّ الْمُتَمَسِّكَ بِالْأَصْلِ هُوَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ وَمَنْ أَرَادَ النَّقْلَ عَنْهُ فَهُوَ الْمُدَّعِي غَيْرَ أَنَّهُ يَتَعَارَضُ النَّظَرُ فِي كَثِيرٍ مِنْ الْمَسَائِلِ مَنْ هُوَ الْمُتَمَسِّكُ بِالْأَصْلِ مِنْ الْخَصْمَيْنِ، كَمَا لَوْ ادَّعَى الزَّوْجُ أَنَّ سَيِّدَ الْأَمَةِ غَرَّهُ وَزَوَّجَهُ بِهَا وَأَنْكَرَ السَّيِّدُ، فَقَالَ أَشْهَبُ: الْقَوْلُ قَوْلُ الزَّوْجِ.
وَقَالَ سَحْنُونٌ: الْقَوْلُ قَوْلُ السَّيِّدِ، فَتَعَارَضَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ الْأَصْلُ وَالْغَالِبُ فَالْأَصْلُ عَدَمُ الْغُرُورِ فَيَكُونُ الْقَوْلُ قَوْلَ السَّيِّدِ، وَالْغَالِبُ عَدَمُ الدُّخُولِ عَلَى زَوَاجِ الْإِمَاءِ وَعَدَمِ الرِّضَا بِهِنَّ، وَزَوَاجُ الْأَحْرَارِ لِلْإِمَاءِ نَادِرٌ فَيُقَدَّمُ الْغَالِبُ عَلَى النَّادِرِ. وَمِثْلُ هَذَا كَثِيرٌ فِي مَسَائِلِ الدَّعَاوَى. وَأَيْضًا فَهُنَاكَ أُمُورٌ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي تَرْجِيحِ قَوْلِ أَحَدِ الْخَصْمَيْنِ عَلَى الْآخَرِ بِسَبَبِهَا كَدَعْوَى الْمَرْأَةِ عَلَى زَوْجِهَا الْحَاضِرِ مَعَهَا أَنَّهُ لَمْ يُنْفِقْ عَلَيْهَا، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الزَّوْجِ عِنْدَنَا؛ لِأَنَّ الْعُرْفَ وَالْغَالِبَ يَشْهَدُ بِصِدْقِهِ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ الْقَوْلُ قَوْلُ الْمَرْأَةِ تَمَسُّكًا بِالْأَصْلِ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ الْإِنْفَاقِ، وَأُمُورٌ اتَّفَقُوا عَلَى التَّرْجِيحِ بِهَا كَالْقَضَاءِ بِالنُّكُولِ وَاعْتِبَارِهِ فِي الْأَحْكَامِ فَهُوَ رُجُوعٌ إلَى الْقَرِينَةِ الظَّاهِرَةِ وَقُدِّمَ عَلَى أَصْلِ بَرَاءَةِ الذِّمَّةِ، وَلَكِنْ قَدْ يَخْتَلِفُ النَّظَرُ فِي تَحْقِيقِ حُصُولِ ذَلِكَ الْمُرَجِّحِ فِي صُورَةِ النِّزَاعِ.
تَنْبِيهٌ:
وَأَجْمَعُوا عَلَى اعْتِبَارِ الْأَصْلِ وَإِلْغَاءِ الْغَالِبِ فِي دَعْوَى الدَّيْنِ وَنَحْوِهِ، فَإِنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ الطَّالِبُ أَتْقَى النَّاسِ، وَالْغَالِبُ أَنَّهُ لَا يَدَّعِي إلَّا حَقًّا وَأَجْمَعُوا عَلَى اعْتِبَارِ الْغَالِبِ وَإِلْغَاءِ الْأَصْلِ فِي الْبَيِّنَةِ إذَا شَهِدَتْ، فَإِنَّ الْغَالِبَ صِدْقُهَا وَالْأَصْلُ بَرَاءَةُ الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ.
وَقَالَ الْمَازِرِيُّ فِي شَرْحِ التَّلْقِينِ: قَالَ بَعْضُهُمْ الْمُدَّعِي مَنْ إذَا سَكَتَ تُرِكَ وَسُكُوتُهُ وَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ مَنْ إذَا سَكَتَ لَمْ يُتْرَكْ وَسُكُوتُهُ.
وَقَالَ آخَرُونَ الْمُدَّعِي مَنْ ادَّعَى أَمْرًا خَفِيًّا وَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ مَنْ تَمَسَّكَ بِظَاهِرِ الْأَمْرِ، وَمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ اخْتِلَافِ الْحَدَّيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ لَا يَنْبَغِي أَنْ يَعْتَمِدَ عَلَيْهِ الْفَقِيهُ فِي كُلِّ مَسْأَلَةٍ تُعْرَضُ، بَلْ هَا هُنَا مَا هُوَ آكَدُ وَاعْتِبَارُهُ أَنْفَعُ مِمَّا قَدَّمْنَا ذِكْرَهُ وَهُوَ اسْتِصْحَابُ الْحَالِ، فَإِنَّهَا هِيَ الْأَصْلُ الْمُعْتَمَدُ عَلَيْهِ فِي مُقْتَضَى النَّظَرِ، وَلَا تَرَدُّدَ فِي ذَلِكَ وَلَا إشْكَالَ إذَا لَمْ يُعَارِضْ الْحَالُ الْحَالَ، وَلَكِنْ قَدْ يَعْتَرِضُ حَالَانِ اسْتِصْحَابَ أَحَدِ مَا يُضَادُّ اسْتِصْحَابَ الْحَالِ الْآخَرِ، فَهَاهُنَا يَقَعُ الْإِشْكَالُ، فَيَخْتَلِفُ أَهْلُ النَّظَرِ مِنْ الْأَئِمَّةِ فِي تَمْيِيزِ الْمُدَّعِي مِنْ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، وَيَفْتَقِرُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إلَى تَرْجِيحِ الْحَالَةِ الَّتِي اسْتَصْحَبَهَا، أَلَا تَرَى أَنَّ الْمَذْهَبَ عِنْدَنَا عَلَى قَوْلَيْنِ فِي مُكْرِي دَارٍ زَعَمَ بَعْدَ إنْفَاقِهِ هُوَ وَالْمُكْتَرِي عَلَى أَوَّلِهَا وَآخِرِهَا أَنَّهَا انْهَدَمَتْ شَهْرَيْنِ عَلَى قَوْلِ صَاحِبِ الدَّارِ، وَعَلَى قَوْلِ الْمُكْتَرِي تَكُونُ مُدَّةُ الْهَدْمِ ثَلَاثَةَ أَشْهُرٍ، فَإِنْ قِيلَ الْقَوْلُ قَوْلُ الْمُكْتَرِي؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ بَرَاءَةُ الذِّمَّةِ مِنْ الْمُطَالَبَةِ وَالْغَرَامَةِ فَيُسْتَصْحَبُ ذَلِكَ، وَإِذَا اسْتَصْحَبْنَاهُ كَانَ الْمُكْتَرِي هُوَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، وَالْقَوْلُ الْآخَرُ أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الْمُكْرِي؛ لِأَنَّ عَقْدَ الْكِرَاءِ أَوْجَبَ دَيْنًا فِي ذِمَّةِ الْمُكْتَرِي، وَالْمُكْتَرِي يَدَّعِي إسْقَاطَ بَعْضِهِ فَلَا يُصَدَّقُ اسْتِصْحَابًا لِحَالِ كَوْنِ الْكِرَاءِ دَيْنًا فِي ذِمَّتِهِ وَاسْتِصْحَابًا لِكَوْنِ الدَّارِ صَحِيحَةً.
وَكَذَلِكَ اُخْتُلِفَ عِنْدَنَا عَلَى قَوْلَيْنِ فِيمَنْ قَبَضَ مِنْ رَجُلٍ دَنَانِيرَ فَلَمَّا طَلَبَهُ بِهَا دَافِعُهَا زَعَمَ أَنَّهُ إنَّمَا قَبَضَهَا عَنْ سَلَفٍ كَانَ أَسْلَفَهُ لِدَافِعِهَا، وَقَالَ دَافِعُهَا بَلْ أَنَا أَسْلَفْتُك إيَّاهَا وَمَا كُنْت أَنْتَ أَسْلَفْتَنِي شَيْئًا قَطُّ، فَإِنْ اعْتَبَرْنَا الْفَرْقَ بَيْنَ الْمُدَّعِي وَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِأَنَّ الْمُدَّعِيَ مَنْ لَوْ سَكَتَ تُرِكَ وَسُكُوتُهُ وَجَدْنَا هَا هُنَا الدَّافِعَ هُوَ الْمُدَّعِي؛ لِأَنَّهُ لَوْ سَكَتَ لَتُرِكَ وَسُكُوتُهُ، وَالْقَابِضُ لَوْ سَكَتَ عَنْ جَوَابِ الطَّالِبِ مَا تُرِكَ وَسُكُوتُهُ، وَإِنْ بَنَيْنَا عَلَى الْأَصْلِ الْآخَرِ وَهُوَ دَعْوَى الْأَمْرِ الْجَلِيِّ أَوْ الْخَفِيِّ، فَإِنَّا إذَا اسْتَصْحَبْنَا كَوْنَ الدَّافِعِ بَرِيءَ الذِّمَّةِ مِنْ سَلَفِ هَذَا الْقَابِضِ صَدَّقْنَا الدَّافِعَ وَجَعَلْنَاهُ هُوَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ السَّلَفُ الَّذِي الْأَصْلُ عَدَمُهُ، وَإِنْ اعْتَبَرْنَا حَالَ الْقَابِضِ، وَأَنَّ الْأَصْلَ أَيْضًا فِيهِ بَرَاءَةُ ذِمَّتِهِ فَلَا يُؤْخَذُ بِأَكْثَرَ مِمَّا أَقَرَّ بِهِ، جَعَلْنَا الْقَابِضَ هُوَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، فَمَا يَعْرِضُ الْإِشْكَالُ إلَّا عِنْدَ تَصَادُمِ مُقْتَضَى الْأَحْوَالِ، فَيَفْتَقِرُ إلَى تَرْجِيحِ اسْتِصْحَابِ أَحَدِ الْحَالَيْنِ عَلَى الْآخَرِ.
وَقَدْ ذُكِرَ عَنْ شُرَيْحٍ الْقَاضِي أَنَّهُ قَالَ وُلِّيتُ الْقَضَاءَ وَعِنْدِي أَنِّي لَا أَعْجِزُ عَنْ مَعْرِفَةِ مَا يَتَخَاصَمُ إلَيَّ فِيهِ، فَأَوَّلُ مَا ارْتَفَعَ إلَيَّ خَصْمَانِ أَشْكَلَ عَلَى مِنْ أَمْرِهِمَا مَنْ الْمُدَّعِي وَمَنْ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ. قَالَ الْمَازِرِيُّ وَلَعَلَّهُ أَشَارَ إلَى هَذَا الَّذِي نَبَّهَنَا عَلَيْهِ، وَلِلْقَاضِي أَبِي الْوَلِيدِ بْنِ رُشْدٍ فِي الْمُقَدِّمَاتِ فِي بَابِ كِرَاءِ الرَّوَاحِلِ وَالدَّوَابِّ فَصْلٌ فِي تَمْيِيزِ الْمُدَّعِي مِنْ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، وَضَمَّنَهُ فَوَائِدَ تَرَكْنَا ذِكْرَهَا خَشْيَةَ الْإِطَالَةِ، فَبِهَذِهِ الْوُجُوهِ وَمَا أَشْبَهَهَا صَعُبَ عِلْمُ الْقَضَاءِ وَدَقَّ وَتَبَيَّنَ ذَلِكَ بِأَمْثِلَةٍ ذَكَرَهَا الْقَرَافِيُّ وَغَيْرُهُ.
مَسْأَلَةٌ:
إذَا بَلَغَ الْيَتِيمُ وَرَشَدَ وَطَلَبَ مِنْ الْوَصِيِّ مَالَهُ الَّذِي لَهُ تَحْتَ يَدِهِ، فَالْيَتِيمُ فِيمَا يَظْهَرُ أَنَّهُ صَارَ بِسَبَبِ طَلَبِهِ مُدَّعٍ وَهُوَ مُدَّعًى عَلَيْهِ وَالْوَصِيُّ الْمَطْلُوبُ هُوَ الْمُدَّعِي لِرَدِّ الْمَالِ فَعَلَيْهِ الْبَيِّنَةُ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ الْأَوْصِيَاءَ بِالْإِشْهَادِ عَلَى الْأَيْتَامِ إذَا بَلَغُوا وَدَفَعُوا إلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ، فَلَمْ يَأْتَمِنْهُمْ عَلَى الدَّفْعِ بَلْ عَلَى التَّصَرُّفِ وَالْإِنْفَاقِ خَاصَّةً، فَالْوَصِيُّ مَطْلُوبٌ وَهُوَ مُدَّعٍ وَالْيَتِيمُ طَالِبٌ وَهُوَ مُدَّعًى عَلَيْهِ، وَكَذَلِكَ فِي دَعْوَى الْإِنْفَاقِ عَلَى الْيَتِيمِ لَا يُقْبَلُ مِنْ قَوْلِهِ إلَّا مَا أَشْبَهَ الصِّدْقَ.
مَسْأَلَةٌ:
وَكَذَلِكَ طَالِبُ الْوَدِيعَةِ الَّذِي سَلَّمَهَا بِالْإِشْهَادِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَأْتَمِنْ الْمُودَعَ عِنْدَهُ لِمَا أُشْهِدَ عَلَيْهِ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ صَاحِبِ الْوَدِيعَةِ مَعَ يَمِينِهِ، وَإِنْ كَانَ طَالِبًا؛ لِأَنَّ ظَاهِرَ حَالِ الْمُودَعِ عِنْدَهُ أَنَّهُ لَا يَدْفَعُ مَا أُسْلِمَ إلَيْهِ بِبَيِّنَةٍ إلَّا بِالْإِشْهَادِ لِيَبْرَأَ مِنْهَا، وَالْأَصْلُ أَيْضًا عَدَمُ الدَّفْعِ، فَاجْتَمَعَ الْأَصْلُ وَالْغَالِبُ عَلَى تَصْدِيقِ صَاحِبِ الْوَدِيعَةِ دُونَ الْقَابِضِ لَهَا.
مَسْأَلَةٌ:
وَكَذَلِكَ الْقِرَاضُ إذَا قُبِضَ بِبَيِّنَةٍ، فَإِنْ قُبِضَتْ الْوَدِيعَةُ أَوْ الْقِرَاضُ بِغَيْرِ بَيِّنَةِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُودَعِ عِنْدَهُ وَقَوْلُ الْعَامِلِ؛ لِأَنَّ يَدَهُمَا يَدُ أَمَانَةٍ وَالْأَمِينُ مُصَدَّقٌ.
فَرْعٌ:
وَكَذَلِكَ مُدَّعِي حُرِّيَّةِ الْأَصْلِ صَغِيرًا كَانَ أَوْ كَبِيرًا يُقْبَلُ قَوْلُهُ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي النَّاسِ الْحُرِّيَّةُ، وَإِنَّمَا عُرِضَ لَهُمْ الْمِلْكُ بِسَبَبِ السَّبْيِ بِشَرْطِ الْكُفْرِ، وَالْأَصْلُ عَدَمُ السَّبْيِ مَا لَمْ يَثْبُتْ عَلَيْهِ حَوْزُ الْمِلْكِ، فَتَكُونُ دَعْوَى الْحُرِّيَّةِ حِينَئِذٍ نَاقِلَةً عَنْ الْأَصْلِ فَلَا تُسْمَعُ إلَّا بِبَيِّنَةٍ، لِكَوْنِهِ مُدَّعِيًا وَلِأَنَّ الْعُرْفَ يُكَذِّبُهُ.
فَرْعٌ:
وَأَمَّا مُدَّعِي الْعِتْقِ فَإِنَّهُ يَدَّعِي انْتِقَالَ الثَّابِتِ إلَى الْحُرِّيَّةِ وَذَلِكَ خِلَافُ الْأَصْلِ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ لَمَّا ثَبَتَ صَارَ أَصْلًا، فَمَنْ طَلَبَ الِانْتِقَالَ عَنْهُ فَهُوَ مُدَّعٍ وَعَلَيْهِ الْبَيِّنَةُ، وَأَمَّا إذَا تَجَرَّدَ الْأَصْلُ عَنْ الظَّاهِرِ وَعَنْ الْعُرْفِ كَمَنْ ادَّعَى عَلَى شَخْصٍ دَيْنًا أَوْ غَصْبًا أَوْ جِنَايَةً فَإِنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ هَذِهِ الْأُمُورِ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ مَعَ يَمِينِهِ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ يُخَالِفُ الطَّالِبَ وَيَعْضُدُ الْمَطْلُوبَ، إلَّا أَنْ يَكُونَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِالْغَصْبِ وَالْجِنَايَةِ مِمَّنْ اشْتَهَرَ بِذَلِكَ وَنُسِبَ إلَيْهِ، فَإِنَّهُ يُكْشَفُ عَنْهُ كَمَا سَيَأْتِي فِي بَابِ الْقَضَاءِ بِالسِّيَاسَةِ وَبِهَذَا يَظْهَرُ مَعْنَى قَوْلِ ابْنِ شَاسٍ الْمُدَّعِي هُوَ أَضْعَفُ الْمُتَدَاعِيَيْنِ سَبَبًا.

.فَصْلٌ فِيمَا إذَا تَدَاعَى قَزَّازٌ وَدَبَّاغٌ جِلْدًا:

فَصْلٌ: وَمِنْ الْأَمْثِلَةِ الَّتِي يَكُونُ الطَّالِبُ فِيهَا مُدَّعًى عَلَيْهِ إذَا تَدَاعَى قَزَّازٌ وَدَبَّاغٌ جِلْدًا فَإِنَّ الدَّبَّاغَ مُدَّعًى عَلَيْهِ، وَمِنْهَا: اخْتِلَافُ الزَّوْجَيْنِ فِي مَتَاعِ الْبَيْتِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الرَّجُلِ فِيمَا يُشْبِهُ أَنَّهُ لِلرِّجَالِ وَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمَرْأَةِ فِيمَا يُشْبِهُ أَنَّهُ لِلنِّسَاءِ. وَمِنْهَا: لَوْ تَدَاعَى قَاضٍ وَجُنْدِيٌّ رُمْحًا كَانَ الْجُنْدِيُّ مُدَّعًى عَلَيْهِ، وَمِنْهَا: إذَا تَنَازَعَا عَطَّارٌ وَصَبَّاغٌ مِسْكًا أَوْ صِبْغًا قُدِّمَ الْعَطَّارُ فِي الْمِسْكِ وَالصَّبَّاغُ فِي الصِّبْغِ، فَيَنْبَغِي أَنْ يَعْتَمِدَ التَّرْجِيحُ بِالْعَوَائِدِ وَظَاهِرِ الْأَحْوَالِ وَالْقَرَائِنِ.
تَنْبِيهٌ:
قَالَ الْقَرَافِيُّ: خُولِفَتْ قَاعِدَةُ الدَّعْوَى فِي خَمْسَةِ مَوَاطِنَ فَقُبِلَ فِيهَا قَوْلُ الطَّالِبِ: أَحَدُهَا اللِّعَانُ يُقْبَلُ فِيهِ قَوْلُ الزَّوْجِ؛ لِأَنَّ الْعَادَةَ أَنَّ الرَّجُلَ يَنْفِي عَنْ زَوْجَتِهِ الْفَوَاحِشَ فَحَيْثُ أَقْدَمَ عَلَى رَمْيِهَا بِالْفَاحِشَةِ مَعَ الْأَيْمَانِ قَدَّمَهُ الشَّرْعُ، وَثَانِيهَا الْقَسَامَةُ يُقْبَلُ فِيهَا قَوْلُ الطَّالِبِ لِتَرَجُّحِهِ بِاللَّوْثِ، وَثَالِثُهَا قَبُولُ الْأُمَنَاءِ فِي التَّلَفِ لِئَلَّا يَزْهَدَ النَّاسُ فِي قَبُولِ الْأَمَانَاتِ فَتَفُوتُ مَصَالِحُهَا وَحِفْظُهَا، وَالْأَمِينُ قَدْ يَكُونُ أَمِينًا مِنْ جِهَةِ مُسْتَحِقِّ الْأَمَانَةِ أَوْ مِنْ قِبَلِ الشَّرْعِ كَالْوَصِيِّ، وَالْمُلْتَقِطِ أَوْ مَنْ أَلْقَتْ الرِّيحُ الثَّوْبَ فِي بَيْتِهِ. وَرَابِعُهَا يُقْبَلُ قَوْلُ الْحَاكِمِ فِي التَّجْرِيحِ وَالتَّعْدِيلِ لِئَلَّا تَفُوتَ الْمَصَالِحُ الْمُتَرَتِّبَةُ عَلَى وِلَايَةِ الْأَحْكَامِ، وَيُقْبَلُ قَوْلُهُ فِي مَوَاضِعَ عَدِيدَةٍ سَيَأْتِي ذِكْرُهَا فِي بَابِ الْقَضَاءِ بِعِلْمِ الْقَاضِي. وَخَامِسُهَا قَبُولُ الْغَاصِبِ فِي التَّلَفِ مَعَ يَمِينِهِ لِضَرُورَةِ الْحَاجَةِ لِئَلَّا يَخْلُدَ فِي الْحَبْسِ.

.الْقِسْمُ الثَّالِثُ فِي ذِكْرِ الدَّعَاوَى وَأَقْسَامِهَا:

وَفِيهِ فُصُولٌ:
الْفَصْلُ الْأَوَّلُ: فِي بَيَانِ الدَّعْوَى الصَّحِيحَةِ وَشُرُوطِهَا وَكَيْفِيَّةِ تَصْحِيحِ الدَّعْوَى.
الْفَصْلُ الثَّانِي: فِي تَقْسِيمِ الدَّعَاوَى.
الْفَصْلُ الثَّالِثُ: فِي تَقْسِيمِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِمْ.
الْفَصْلُ الرَّابِعُ: فِي تَقْسِيمِ الْمُدَّعَى لَهُمْ وَمَا يُسْمَعُ مِنْ بَيِّنَاتِهِمْ وَمَا لَا يُسْمَعُ مِنْهَا.
الْفَصْلُ الْخَامِسُ: فِي بَيَانِ مَا يَتَوَقَّفُ سَمَاعُ الدَّعْوَى بِهِ عَلَى إثْبَاتِ أُمُورٍ.
الْفَصْلُ السَّادِسُ: فِي حُكْمِ الْوَكَالَةِ فِي الدَّعْوَى وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهَا.

.الْفَصْلُ الْأَوَّلُ فِي الدَّعْوَى الصَّحِيحَةِ:

وَلَهَا خَمْسَةُ شُرُوطٍ: الْأَوَّلُ: أَنْ تَكُونَ مَعْلُومَةً: فَلَوْ قَالَ لِي عَلَيْهِ شَيْءٌ لَمْ تُسْمَعْ دَعْوَاهُ؛ لِأَنَّهَا مَجْهُولَةٌ، قَالَهُ ابْنُ شَاسٍ، وَلَعَلَّهُ يُرِيدُ إذَا كَانَ يُعْلَمُ قَدْرُ حَقِّهِ وَامْتَنَعَ مِنْ بَيَانِهِ، وَقَدْ قَالَ الْمَازِرِيُّ فِي هَذِهِ الدَّعْوَى وَعِنْدِي أَنَّ هَذَا الطَّالِبُ لَوْ أَيْقَنَ بِعِمَارَةِ ذِمَّةِ الْمَطْلُوبِ بِشَيْءٍ وَجَهِلَ مَبْلَغَهُ وَأَرَادَ مِنْ خَصْمِهِ أَنْ يُجَاوِبَهُ عَنْ ذَلِكَ بِإِقْرَارٍ بِمَا ادَّعَى عَلَيْهِ بِهِ عَلَى وَجْهِ التَّفْصِيلِ، وَذَكَرَ الْمَبْلَغَ وَالْجِنْسَ لَزِمَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ الْجَوَابُ، أَمَّا لَوْ قَالَ لِي عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ فَضْلَةِ حِسَابٍ لَا أَعْلَمُ قَدْرَهُ وَقَامَتْ لَهُ بَيِّنَةٌ أَنَّهُمَا تَحَاسَبَا وَبَقِيَتْ لَهُ عِنْدَهُ بَقِيَّةٌ لَا عِلْمَ لَهُمْ بِقَدْرِهَا فَدَعْوَاهُ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ مَسْمُوعَةٌ. وَكَذَلِكَ لَوْ ادَّعَى حَقًّا فِي هَذِهِ الدَّارِ وَالْأَرْضِ وَقَامَتْ لَهُ بَيِّنَةٌ أَنَّ لَهُ فِيهَا حَقًّا لَا يَعْلَمُونَ قَدْرَهُ فَهِيَ دَعْوَى مَسْمُوعَةٌ، وَسَيَأْتِي كَثِيرٌ مِنْ هَذَا الْمَعْنَى فِي بَابِ الْقَضَاءِ بِالشَّهَادَاتِ النَّاقِصَةِ.
مَسْأَلَةٌ:
قَالَ الْمَازِرِيُّ: وَمِمَّا أُلْحِقَ بِمَسَائِلِ كَوْنِ الدَّعْوَى مَعْلُومَةً أَنَّ مَنْ ادَّعَى عَلَى سِمْسَارٍ أَنَّهُ دَفَعَ إلَيْهِ ثَوْبًا لِيَبِيعَهُ لَهُ بِدِينَارَيْنِ قِيمَتُهُ دِينَارٌ وَنِصْفٌ فَأَنْكَرَ السِّمْسَارُ أَنْ يَكُونَ دَفَعَ إلَيْهِ شَيْئًا فَإِنَّ الْمُدَّعِيَ مِنْ حَقِّهِ أَنْ تُسْمَعَ دَعْوَاهُ هَا هُنَا مَعَ كَوْنِهِ لَا يَدْرِي مَا يَجِبُ لَهُ عَلَى السِّمْسَارِ، هَلْ الثَّمَنُ الَّذِي سَمَّاهُ لَهُ وَأَمَرَهُ أَنْ يَبِيعَ بِهِ فَبَاعَ بِهِ، أَوْ قِيمَةُ الثَّوْبِ إنْ كَانَ اسْتَهْلَكَهُ، أَوْ عَيْنُ الثَّوْبِ إنْ كَانَ لَمْ يَبِعْهُ وَلَا اسْتَهْلَكَهُ؟ وَهَذَا لَا يَنْقُضُ الْأَصْلَ؛ لِأَنَّ الدَّعْوَى هَا هُنَا مَسْمُوعَةٌ وَتَعَلَّقَتْ بِأَمْرٍ مَعْلُومٍ فِي أَصْلِهِ، وَمَا يَتَفَرَّعُ عَنْهُ مِمَّا يَجِبُ فِيهِ لَا تَضُرُّ الْجَهَالَةُ بِهِ فِي أَصْلِ الدَّعْوَى؛ لِأَنَّهُ مُطَالَبٌ بِعَيْنِ الثَّوْبِ أَوْ بِقِيمَتِهِ إنْ اسْتَهْلَكَهُ، أَوْ بِرَدِّهِ إنْ مَنَعَهُ.
مَسْأَلَةٌ:
وَمِمَّا يَجْرِي فِي هَذَا الْأُسْلُوبِ مِمَّا اخْتَلَفَ فِيهِ فُقَهَاءُ الْأَمْصَارِ فِي الْمُدَّعِي أَمْرًا مَعْلُومًا هَلْ يَلْزَمُهُ بَيَانُ شُرُوطِ صِحَّتِهِ أَمْ لَا قَالَ الْمَازِرِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَعِنْدَنَا أَنَّ ذَلِكَ لَا يَلْزَمُهُ، بَلْ إنْ ادَّعَى رَجُلٌ عَلَى رَجُلٍ أَنَّهُ أَنْكَحَهُ ابْنَتَهُ أَوْ بَاعَ مِنْهُ دَارِهِ فَإِنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ فِي سَمَاعِ هَذِهِ الدَّعْوَى ذِكْرُ شُرُوطِ النِّكَاحِ وَصِحَّةُ الْبَيْعِ، وَلَا يَلْزَمُ الْقَاضِيَ اسْتِفْسَارُ الْمُدَّعِي لِذَلِكَ خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي النِّكَاحِ خَاصَّةً، فَقَدْ نَصَّ عَلَى أَنَّهُ لَا تُسْمَعُ الدَّعْوَى حَتَّى يَذْكُرَ الْمُدَّعِي شُرُوطَ الصِّحَّةِ فَيَقُولَ عَقَدْت النِّكَاحَ بِوَلِيٍّ وَصَدَاقٍ وَشَاهِدَيْنِ، بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِ فِي أَنَّ تَرْكَ الشَّهَادَةِ فِي النِّكَاحِ يُفْسِدُهُ. قَالَ: وَهَذَا مُعْتَرَضٌ بِأَنَّهُ يَلْزَمُهُ عَلَيْهِ اسْتِقْصَاءُ شُرُوطِ الصِّحَّةِ كُلِّهَا فِي النِّكَاحِ كَكَوْنِهِ لَمْ يَقَعْ فِي عِدَّةٍ وَلَا فِي إحْرَامٍ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ، وَلَمْ يَقُلْ بِهِ، وَوَافَقَنَا فِي دَعْوَى الْأَعْيَانِ أَوْ الدُّيُونِ فِي الذِّمَمِ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ الِاسْتِفْسَارُ فِيهَا، قَالَ: وَقَدْ اُتُّفِقَ عَلَى أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ الِاسْتِفْسَارُ عَنْ عُرُوِّ الْعَقْدِ مِمَّا يُفْسِدُهُ، فَلَا يَجِبُ أَنْ يَذْكُرَ فِي دَعْوَى النِّكَاحِ أَنَّهُ لَمْ يَقَعْ فِي عِدَّةٍ وَلَا فِي إحْرَامٍ وَلَا غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يُفْسِدُ الْعَقْدَ لَوْ ثَبَتَ فَلَا يَلْزَمُ عِنْدَنَا ذِكْرُ شُرُوطِ الصِّحَّةِ وَلَا ذِكْرُ اجْتِنَابِ شُرُوطِ الْفَسَادِ؛ لِأَنَّ الْعُقُودَ أَصْلُهَا الصِّحَّةُ حَتَّى يَثْبُتَ الْفَسَادُ.
الشَّرْطُ الثَّانِي: مِنْ شُرُوطِ الدَّعْوَى أَنْ تَكُونَ مِمَّا لَوْ أَقَرَّ بِهَا الْمُدَّعَى عَلَيْهِ لَزِمَتْهُ، فَإِنَّهُ لَوْ ادَّعَى رَجُلٌ عَلَى رَجُلٍ هِبَةً وَقُلْنَا إنَّ الْهِبَةَ تَلْزَمُ بِالْقَوْلِ، فَيَلْزَمُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ الْجَوَابُ بِإِقْرَارٍ أَوْ إنْكَارٍ وَإِنْ قُلْنَا بِقَوْلِ الْمُخَالِفِ، وَالْقَوْلُ الشَّاذُّ عِنْدَنَا أَنَّ الْهِبَةَ لَا تَلْزَمُ بِالْقَوْلِ وَلِلْوَاهِبِ الرُّجُوعُ عَنْهَا مَا لَمْ تُقْبَضْ، فَإِنَّ بَعْضَ النَّاسِ ذَهَبَ إلَى أَنَّ الْجَوَابَ فِيهِ لَا يَلْزَمُ؛ لِأَنَّ الْمَسْئُولَ عَنْ هَذَا لَوْ قَالَ ذَلِكَ وَقَالَ رَجَعْت عَنْهُ فَإِنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ مُطَالَبَتُهُ بِشَيْءٍ. وَلَا فَائِدَةَ فِي إلْزَامِهِ مَا لَوْ أَقَرَّ بِهِ لَمْ يَلْزَمْهُ إذَا رَجَعَ عَنْهُ، وَعَلَى هَذَا يَجْرِي الْأَمْرُ فِي دَعْوَى إنْسَانٍ عَلَى آخَرَ أَنَّهُ وَعَدَهُ بِشِرَاءٍ يُعْطِيهِ إيَّاهُ عَلَى الْقَوْلِ عِنْدَنَا أَنَّ الْوَاعِدَ لَا يُجْبَرُ عَلَى الْوَفَاءِ بِوَعْدِهِ، وَكَذَلِكَ الْوَصَايَا الَّتِي لَهُ أَنْ يَرْجِعَ عَنْهَا، وَكَذَلِكَ التَّدْبِيرُ عَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ الَّذِي يَرَى أَنَّ لَهُ الرُّجُوعَ عَنْهُ، فَإِنَّ هَذَا الْأَصْلَ ذَهَبَ بَعْضُ الْأَئِمَّةِ إلَى أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ الْجَوَابُ عَنْهُ حَتَّى يُضِيفَ إلَيْهِ مَا يَلْزَمُ الْمَطْلُوبَ بِمَا ادَّعَى عَلَيْهِ، فَيَقُولُ فِي الْهِبَةِ: يَلْزَمُك تَسْلِيمُهَا إلَيَّ، وَكَذَلِكَ فِي الْبَيْعِ عَلَى الْقَوْلِ بِخِيَارِ الْمَجْلِسِ وَيُضِيفُ إلَيْهِ أَنَّهُ لَمْ يَقَعْ الْفَسْخُ بَعْدَ الْعَقْدِ، قَالَ الْمَازِرِيُّ: وَهَذَا عِنْدِي إنَّمَا يُتَّجَهُ عَلَى الْبِنَاءِ أَنَّ الْإِنْكَارَ لِأَصْلِ الشَّيْءِ لَا يَحِلُّ مَحَلَّ الرُّجُوعِ عَنْهُ، وَعَلَى أَنَّ مَا فِيهِ الْخِيَارَ بَيْنَ إمْضَائِهِ أَوْ رَدِّهِ مَحْلُولٌ حَتَّى يَنْعَقِدَ بِرَفْعِ السَّبَبِ الْمُوجِبِ لِلْخِيَارِ، فَإِذَا بُنِيَ الْأَمْرُ عَلَى هَذَا اتَّجَهَ مَا حَكَيْنَاهُ عَنْ بَعْضِ الْأَئِمَّةِ.
الشَّرْطُ الثَّالِثُ: مِنْ شُرُوطِ سَمَاعِ الدَّعْوَى أَنْ تَكُونَ مِمَّا يَتَعَلَّقُ بِهَا حُكْمٌ أَوْ غَرَضٌ صَحِيحٌ، فَمِثَالُ مَا يَتَعَلَّقُ بِهَا حُكْمٌ أَنْ يَدَّعِيَ رَجُلٌ عَلَى رَجُلٍ بِدَيْنٍ وَيُقِيمَ الْبَيِّنَةَ عَلَى ذَلِكَ وَعَدَلَتْ الْبَيِّنَةُ، فَقَالَ الْمَطْلُوبُ لِلْقَاضِي: اسْتَحْلِفْ لِي الطَّالِبَ أَنَّهُ لَا يَعْلَمُ كَوْنَ شُهُودِهِ مَجْرُوحِينَ، فَإِنَّ هَذَا مِمَّا اخْتَلَفَ فِيهِ الْعُلَمَاءُ، هَلْ تَجِبُ فِيهِ الْيَمِينُ أَوْ لَا تَجِبُ؟ فَمَنْ لَمْ يُوجِبْهَا اعْتَلَّ بِأَنَّ حَقِيقَةَ الدَّعْوَى أَنْ تَكُونَ مُتَعَلِّقَةً بِاسْتِحْقَاقِ أَمْرٍ يُسْتَخْرَجُ مِنْ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، وَهَا هُنَا لَا يُطْلَبُ مِنْ الْقَاضِي اسْتِخْرَاجُ شَيْءٍ مِنْ الَّذِي شَهِدَتْ لَهُ الْبَيِّنَةُ بِحَقِّهِ. وَكَذَلِكَ اخْتَلَفُوا فِي الْمُدَّعِي إذَا طَالَبَ يَمِينَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فَقَالَ لَهُ الْمَطْلُوبُ: كُنْت اسْتَحْلَفْتَنِي، فَاحْلِفْ لِي أَنَّك لَمْ تَسْتَحْلِفْنِي فَمَنْ ذَهَبَ إلَى اسْتِحْلَافِهِ رَأَى أَنَّ الْمُعْتَبَرَ فِي هَذَا الْأَصْلِ أَنْ تَكُونَ الدَّعْوَى لَوْ أَقَرَّ بِهَا الْمُدَّعَى عَلَيْهِ لَا تَنْفَعُ الْمُدَّعِي بِإِقْرَارِهِ، فَيَجِبُ عَلَى هَذَا أَنْ يَحْلِفَ مَنْ أَقَامَ بَيِّنَةً وَعَدَلَتْ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَعْلَمْ بِفِسْقِهِمْ وَلَا اطَّلَعَ عَلَيْهِ إذَا قَالَ لَهُ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ: أَنَا أَعْلَمُ بِعِلْمِك بِفِسْقِ شُهُودِك، وَكَذَلِكَ إذَا قَالَ لَهُ احْلِفْ لِي أَنَّك لَمْ تَسْتَحْلِفْنِي عَلَى هَذَا الْحَقِّ فِيمَا مَضَى، لَمْ يَكُنْ لِلْمُدَّعِي أَنْ يُحَلِّفَهُ يَمِينًا ثَانِيَةً حَتَّى يَحْلِفَ، وَبِهَذَا مَضَى الْقَضَاءُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، وَالْفُتْيَا عِنْدَنَا أَنْ يَلْزَمَ الْمُدَّعِيَ الْيَمِينُ لِلْمُدَّعَى عَلَيْهِ أَنَّهُ مَا اسْتَحْلَفَهُ قَبْلَ ذَلِكَ أَوْ يَرُدَّ عَلَيْهِ الْيَمِينَ أَنَّهُ قَدْ اسْتَحْلَفَهُ عَلَى هَذِهِ الدَّعْوَى ثُمَّ لَا يُحَلِّفُهُ مَرَّةً أُخْرَى. وَقَاعِدَةُ الْمَذْهَبِ: أَنَّ كُلَّ دَعْوَى لَوْ أَقَرَّ بِهَا الْمُدَّعَى عَلَيْهِ لَا تَنْفَعُ الْمُدَّعِيَ بِإِقْرَارِهِ، فَإِنَّهُ إذَا لَمْ يُقِرَّ وَأَنْكَرَ تَعَلَّقَتْ عَلَيْهِ الْيَمِينُ عَلَى الْجُمْلَةِ مَا لَمْ يُحَرِّمْ بِذَلِكَ أَصْلًا مِنْ قَوَاعِدِ الشَّرْعِ، مِثْلَ أَنْ يَطْلُبَ الْمَحْكُومُ عَلَيْهِ الْقَاضِيَ بِالْيَمِينِ أَنَّهُ مَا جَارَ عَلَيْهِ، أَوْ يَطْلُبَ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ يَمِينَ الشُّهُودِ أَنَّهُمْ لَمْ يَكْذِبُوا فِي شَهَادَتِهِمْ، فَإِنَّ هَذَا لَا يَخْتَلِفُ فِي سُقُوطِ الدَّعْوَى وَكَوْنِهَا لَا يُلْتَفَتُ إلَيْهَا؛ لِأَنَّهَا تُفْسِدُ قَوَاعِدَ الشَّرْعِ فِي الْأَحْكَامِ، وَلَا شَاءَ أَحَدٌ أَنْ يَحُطَّ مَنْزِلَةَ الْقَاضِي أَوْ الشُّهُودِ إلَّا وَادَّعَى مِثْلَ ذَلِكَ حَتَّى يُؤَدِّيَ ذَلِكَ إلَى الْوُقُوفِ عَنْ الْقَضَاءِ وَالشَّهَادَةِ. وَأَمَّا تَحْلِيفُ الْقَاضِي لِلشُّهُودِ فَلَيْسَ مِنْ هَذَا الْبَابِ، وَسَيَأْتِي ذِكْرُهُ فِي قِسْمِ السِّيَاسَةِ.
مَسْأَلَةٌ:
وَتُسْتَثْنَى مِنْ هَذِهِ الْقَاعِدَةِ أَيْضًا دَعْوَى الْمَرْأَةِ عَلَى زَوْجِهَا أَنَّهُ طَلَّقَهَا، وَدَعْوَى الْعَبْدِ عَلَى سَيِّدِهِ أَنَّهُ أَعْتَقَهُ، فَإِنَّ عِنْدَنَا لَا تَتَعَلَّقُ الْيَمِينُ بِهَذِهِ الدَّعْوَى الْمُجَرَّدَةِ لِأَجْلِ أَنَّ ذَلِكَ لَوْ فُتِحَ فِيهِ الْبَابُ لَمْ تَشَأْ امْرَأَةٌ أَنْ تَسْتَحْلِفَ زَوْجَهَا كُلَّ يَوْمٍ مِرَارًا إلَّا وَفَعَلَتْ، وَكَذَا الْعَبْدُ مَعَ سَيِّدِهِ إذَا ادَّعَى عَلَيْهِ الْعِتْقَ فَسَقَطَتْ هَذِهِ الدَّعْوَى مَعَ كَوْنِهَا مُفِيدَةً لَوْ أَقَرَّ بِهَا الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، لِأَجْلِ مَا يُتَخَوَّفُ مِنْ تَكْرِيرِهَا مُضَارَّةُ حُصُولِ الْأَذَى لِلْأَزْوَاجِ وَالسَّادَاتِ فَأَمَّا قَوْلُنَا أَوْ غَرَضٌ صَحِيحٌ فَاحْتِرَازٌ مِنْ الدَّعْوَى بِعُشْرِ سِمْسِمَةٍ، فَإِنَّهُ لَا يَنْبَغِي لِلْحَاكِمِ سَمَاعُ مِثْلِ هَذِهِ الدَّعْوَى، وَنَصَّ الْقَرَافِيُّ أَنَّ هَذِهِ الدَّعْوَى وَشِبْهَهَا لَا تُسْمَعُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا نَفْعٌ شَرْعِيٌّ.
الشَّرْطُ الرَّابِعُ: أَنْ تَكُونَ الدَّعْوَى مُحَقَّقَةً فَلَوْ قَالَ أَظُنُّ أَنَّ لِي عَلَيْهِ أَلْفًا، أَوْ قَالَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فِي الْجَوَابِ أَظُنُّ أَنِّي قَضَيْته لَا تُسْمَعُ الدَّعْوَى لِتَعَذُّرِ الْحُكْمِ بِالْمَجْهُولِ، وَلَا يَنْبَغِي لِلْحَاكِمِ أَنْ يَدْخُلَ فِي الْخَطَرِ بِمُجَرَّدِ الْوَهْمِ مِنْ الْمُدَّعِي.
تَنْبِيهٌ:
وَيُنَزَّلُ مَنْزِلَةَ التَّحْقِيقِ الظَّنُّ الْغَالِبُ؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ لَوْ وَجَدَ وَثِيقَةً فِي تَرِكَةِ مُوَرِّثِهِ، أَوْ وَجَدَ ذَلِكَ بِخَطِّهِ أَوْ بِخَطِّ مَنْ يَثِقُ بِهِ أَوْ أَخْبَرَهُ عَدْلٌ بِحَقٍّ لَهُ فَالْمَنْقُولُ جَوَازُ الدَّعْوَى بِمِثْلِ هَذَا وَالْحَلِفُ بِمُجَرَّدِهِ. وَهَذِهِ الْأَسْبَابُ لَا تُفِيدُ إلَّا الظَّنَّ دُونَ التَّحَقُّقِ، لَكِنَّ غَالِبَ الْأَحْكَامِ وَالشَّهَادَاتِ إنَّمَا تَنْبَنِي عَلَى الظَّنِّ وَتَتَنَزَّلُ مَنْزِلَةَ التَّحْقِيقِ.
الشَّرْطُ الْخَامِسُ: أَنْ تَكُونَ الدَّعْوَى مِمَّا لَا تَشْهَدُ الْعَادَةُ وَالْعُرْفُ بِكَذِبِهَا (وَالدَّعَاوَى بِاعْتِبَارِ هَذَا الْمَعْنَى ثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ) نَوْعٌ تُكَذِّبُهُ الْعَادَةُ، وَنَوْعٌ تُصَدِّقُهُ الْعَادَةُ، وَنَوْعٌ مُتَوَسِّطٌ لَا تَقْضِي الْعَادَةُ بِصِدْقِهِ وَلَا بِكَذِبِهِ.
النَّوْعُ الْأَوَّلُ: مَا تَشْهَدُ الْعَادَةُ بِكَذِبِهِ كَدَعْوَى الْحَاضِرِ الْأَجْنَبِيِّ مِلْكَ دَارٍ بِيَدِ رَجُلٍ وَهُوَ يَرَاهُ يَهْدِمُ وَيَبْنِي وَيُؤَاجِرُ مَعَ طُولِ الزَّمَانِ مِنْ غَيْرِ مَانِعٍ يَمْنَعُهُ مِنْ الطَّلَبِ مِنْ تَوْقِيعِهِ رَهْبَةً أَوْ رَغْبَةً، وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ لَا يُعَارِضُهُ فِيهَا، وَلَا يَدَّعِي أَنَّ لَهُ فِيهَا حَقًّا، وَلَيْسَ بَيْنَهُمَا شَرِكَةٌ، ثُمَّ قَامَ يَدَّعِي أَنَّهَا لَهُ، وَيُرِيدُ أَنْ يُقِيمَ الْبَيِّنَةَ عَلَى دَعْوَاهُ فَهَذَا لَا تُسْمَعُ دَعْوَاهُ أَصْلًا، فَضْلًا عَنْ بَيِّنَتِهِ، لِتَكْذِيبِ الْعُرْفِ إيَّاهُ، وَمِنْ ذَلِكَ لَوْ قَالَ رَجُلٌ لِعَبْدٍ هَذَا ابْنِي فَإِنَّهُ يَلْتَحِقُ بِهِ مَا لَمْ يُكَذِّبْهُ الْحِسُّ بِأَنْ يَكُونَ أَكْبَرَ مِنْهُ سِنًّا، أَوْ الْعُرْفُ بِأَنْ يَسْتَيْقِنَ النَّاسُ أَنَّهُ لَيْسَ بِوَلَدِهِ، مِثْلَ أَنْ يَكُونَ الْغُلَامُ سِنْدِيًّا وَالرَّجُلُ فَارِسِيًّا لَمْ يَدْخُلْ بِلَادَ السِّنْدِ، قَالَ مَالِكٌ: فَلَا يُلْحَقُ بِهِ إنْ كَذَّبَهُ الشَّرْعُ بِأَنْ يَكُونَ مَشْهُورَ النَّسَبِ، وَمِنْ ذَلِكَ دَعْوَى الْغَصْبِ وَالْفَسَادِ عَلَى رَجُلٍ صَالِحٍ لَا يُنْسَبُ إلَيْهِ ذَلِكَ وَلَا يَلِيقُ بِهِ فَلَا تُسْمَعُ تِلْكَ الدَّعْوَى وَشِبْهُ ذَلِكَ.
النَّوْعُ الثَّانِي: مَا تُصَدِّقُهُ الْعَادَةُ مِثْلَ أَنْ يَدَّعِيَ سِلْعَةً مُعَيَّنَةً بِيَدِ رَجُلٍ، أَوْ يَدَّعِيَ غَرِيبٌ وَدِيعَةً عَلَى رَجُلٍ صَالِحٍ، أَوْ يَدَّعِيَ مُسَافِرٌ أَنَّهُ أَوْدَعَ أَحَدَ رُفْقَتِهِ وَكَالْمُدَّعِي عَلَى صَانِعٍ مُنْتَصِبٍ لِلْعَمَلِ أَنَّهُ دَفَعَ إلَيْهِ مَتَاعًا يَصْنَعُهُ لَهُ، وَكَالْمُدَّعِي عَلَى بَعْضِ أَهْلِ الْأَسْوَاقِ الْمُنْتَصِبِينَ لِلْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ أَنَّهُ بَاعَ مِنْهُ أَوْ اشْتَرَى، وَكَالرَّجُلِ يَذْكُرُ فِي مَرَضِ مَوْتِهِ أَنَّ لَهُ دَيْنًا قِبَلَ رَجُلٍ وَأَوْصَى أَنْ يُتَقَاضَى مِنْهُ فَيُنْكِرَهُ الْمَطْلُوبُ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ، فَهَذِهِ الدَّعْوَى مَسْمُوعَةٌ مِنْ مُدَّعِيهَا، وَيُمَكَّنُ مِنْ إقَامَةِ الْبَيِّنَةِ عَلَى مُطَابَقَتِهَا، أَوْ يُسْتَحْلَفُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، وَلَا يُحْتَاجُ فِي اسْتِحْلَافِهِ إلَى إثْبَاتِ خُلْطَةٍ.
النَّوْع الثَّالِث: وَهُوَ مَا لَا تَقْضِي الْعَادَةُ بِصِدْقِهِ وَلَا بِكَذِبِهِ، مِثْلَ أَنْ يَدَّعِيَ الرَّجُلُ دِينًا فِي ذِمَّةِ رَجُلٍ، أَوْ يَدَّعِيَ مُعَامَلَةً، فَهَذِهِ الدَّعْوَى أَيْضًا مَسْمُوعَةٌ مِنْ مُدَّعِيهَا وَيُمَكَّنُ مِنْ إقَامَةِ الْبَيِّنَةِ عَلَى مُطَابَقَتِهَا، فَأَمَّا اسْتِحْلَافُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فَلَيْسَ لَهُ ذَلِكَ إلَّا بِإِثْبَاتِ الْخُلْطَةِ بَيْنَهُمَا وَسَيَأْتِي ذَلِكَ.

.فَصْلٌ فِي كَيْفِيَّةِ تَصْحِيحِ الدَّعْوَى:

وَالْمُدَّعَى بِهِ أَنْوَاعٌ فَإِنْ كَانَتْ الدَّعْوَى فِي شَيْءٍ مِنْ الْأَعْيَانِ وَهُوَ بِيَدِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فَتَصْحِيحُ الدَّعْوَى أَنْ يُبَيِّنَ مَا يَدَّعِي وَيَذْكُرَ أَنَّهُ فِي يَدِ الْمَطْلُوبِ بِطَرِيقِ الْغَصْبِ أَوْ الْعَدَاءِ أَوْ الْوَدِيعَةِ أَوْ الْعَارِيَّةِ أَوْ الرَّهْنِ أَوْ الْإِجَارَةِ أَوْ الْمُسَاقَاةِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ، وَلَا يُشْتَرَطُ فِي الْمُدَّعِي أَنْ يَسْأَلَ الْحَاكِمَ النَّظَرَ بَيْنَهُمَا بِمَا يُوجِبُهُ الشَّرْعُ. قَالَ ابْنُ سَهْلٍ: إذَا نَقَصَ الْمُدَّعِي مِنْ دَعْوَاهُ مَا فِيهِ بَيَانُ مَطْلَبِهِ أَمَرَهُ بِتَمَامِهِ، وَإِنْ أَتَى بِإِشْكَالٍ أَمَرَهُ بِبَيَانِهِ فَإِذَا صَحَّتْ الدَّعْوَى سَأَلَ الْحَاكِمُ الْمَطْلُوبَ عَنْهَا.
تَنْبِيهٌ:
قَالَ الْمَازِرِيُّ فِي شَرْحِ التَّلْقِينِ وَالدَّعْوَى عَلَى الْغَائِبِ كَالْحَاضِرِ فَيَجِبُ أَنْ يَذْكُرَ الْحَقَّ وَمِقْدَارَهُ وَجِنْسَهُ، وَكَوْنَ الْبَيِّنَةِ تَشْهَدُ بِهِ وَيُفَصِّلُ فِي الدَّعْوَى عَلَى حَسَبِ مَا يَجِبُ فِي دَعْوَى الْحَاضِرِ، وَلَا يُشْتَرَطُ عِنْدَنَا مَا قَالَهُ الشَّافِعِيَّةُ فِي الدَّعْوَى عَلَى الْغَائِبِ أَنَّهُ يَقُولُ: إنَّ عِنْدَهُ بَيِّنَةً تَشْهَدُ، وَأَنَّ الْغَائِبَ مُنْكِرٌ لِحَقِّهِ، وَمَتَى ذَكَرَ أَنَّهُ مُقِرٌّ لَمْ يَقْضِ لَهُ عَلَيْهِ، قَالُوا: لِأَنَّ الْبَيِّنَةَ إنَّمَا تُطْلَبُ لِإِظْهَارِ مَا خَفِيَ وَأَمَّا إذَا كَانَ مُقِرًّا فَإِنَّهُ لَا يَحْتَاجُ إلَيْهَا، وَإِنْ شَهِدَتْ لَمْ تَقَعْ الشَّهَادَةُ مَوْقِعَهَا.
وَإِنْ كَانَتْ الدَّعْوَى فِي شَيْءٍ فِي الذِّمَّةِ فَيُبَيِّنُ قَدْرَهُ كَمَا تَقَدَّمَ، إلَّا أَنَّهُ لَا يَحْتَاجُ فِي هَذَا إلَى ذِكْرِ أَنَّهُ فِي يَدِهِ بَلْ يَذْكُرُ أَنَّهُ تَرَتَّبَ فِي ذِمَّتِهِ مِنْ بَيْعٍ أَوْ قَرْضٍ أَوْ سَلَمٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَإِنْ كَانَتْ الدَّعْوَى فِي دَارٍ أَوْ عَقَارٍ مِنْ الْأَرَاضِي فَيُبَيِّنُ مَوْضِعَهَا مِنْ الْبَلَدِ وَالْمَحَلَّةِ وَالسِّكَّةِ وَيَقُولُ ادَّعَى عَلَى فُلَانٍ ابْنِ فُلَانٍ هَذَا أَنَّ جَمِيعَ الدَّارِ الْمَوْصُوفَةِ الْمَحْدُودَةِ بِجَمِيعِ حُقُوقِهَا وَحُدُودِهَا مِلْكٌ لِي مِنْ جِهَةِ كَذَا، وَأَنَّهَا بِيَدِهِ بِطَرِيقِ كَذَا، كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ، وَسَيَأْتِي فِي قِسْمِ الْجَوَابِ عَنْ الدَّعْوَى كَلَامُ ابْنِ رُشْدٍ أَنَّ الْمُدَّعِيَ عَقَارًا بِيَدِ غَيْرِهِ إذَا زَعَمَ أَنَّهُ صَارَ إلَيْهِ عَمَّنْ وَرِثَهُ عَنْهُ أَنَّ الْمَطْلُوبَ لَا يُسْأَلُ عَنْ شَيْءٍ حَتَّى يُثْبِتَ الطَّالِبُ مَوْتَ مُوَرِّثِهِ الَّذِي ادَّعَى أَنَّهُ وَصَلَ إلَيْهِ مِنْ جِهَتِهِ. وَفِي الْمَسْأَلَةِ خِلَافٌ سَيَأْتِي، وَإِنْ كَانَتْ الدَّعْوَى فِي دَنَانِيرَ أَوْ دَرَاهِمَ فِي ذِمَّةِ الْمَطْلُوبِ أَوْ عَنْ ثَمَنِ شَيْءٍ مِنْ الْمَثْمُونَاتِ فلابد أَنْ يَذْكُرَ الْجِنْسَ دَنَانِيرَ أَوْ دَرَاهِمَ وَالنَّوْعَ مِصْرِيَّةً أَوْ مَغْرِبِيَّةً، وَالصِّفَةَ صِحَاحًا أَوْ مَكْسُورَةً، وَالْمِقْدَارَ وَالسِّكَّةَ، قَالَهُ الْقَرَافِيُّ فِي الْقَوَاعِدِ.
وَإِنْ كَانَتْ الدَّعْوَى فِي شَيْءٍ مِنْ ذَوَاتِ الْأَمْثَالِ فَإِنَّهُ يَذْكُرُ الْكَيْلَ أَوْ الْوَزْنَ أَوْ الْعَدَدَ وَيُبَيِّنُ مِنْ صِفَةِ ذَلِكَ مَا يَنْضَبِطُ بِهِ وَيَتَمَيَّزُ، وَإِنْ كَانَتْ الدَّعْوَى فِي شَيْءٍ مِنْ السَّلَمِ أَوْ الْقَرْضِ ذَكَرَ الصِّفَاتِ الْمُعْتَبَرَةَ الَّتِي يَضْبِطُهُ بِهَا أَهْلُ الْمَعْرِفَةِ، وَذَلِكَ يَخْتَلِفُ كَالتَّمْرِ فَإِنَّهُ أَنْوَاعٌ فَيَذْكُرُ الْبَرْنِيَّ مَثَلًا وَيَذْكُرُ الْجَوْدَةَ وَالْوَسَطَ وَكَذَا سَائِرُ الْأَلْوَانِ، وَالْقَمْحُ أَيْضًا يَتَنَوَّعُ وَكَذَا الثِّيَابُ وَالرَّقِيقُ وَالدَّوَابُّ وَالْخَشَبُ وَغَيْرُ ذَلِكَ، فَيَذْكُرُ فِي كُلِّ نَوْعٍ مَا يَنْضَبِطُ بِهِ وَيَتَمَيَّزُ. قَالَ الْقَرَافِيُّ: وَذِكْرُ الْقِيمَةِ مَعَ الصِّفَةِ أَحْوَطُ، ولابد فِي ذِكْرِ الْحَيَوَانِ مِنْ تَبْيِينِ أَسْنَانِهِ وَشِيَاتِهِ وَجِنْسِهِ وَذَكَرٌ هُوَ أَوْ أُنْثَى، وَيَذْكُرُ فِي الرَّقِيقِ حِلْيَتَهُ وَجِنْسَهُ وَسِنَّهُ وَأَنَّهُ خُمَاسِيٌّ أَوْ سُدَاسِيٌّ أَوْ مُحْتَلِمٌ أَوْ مُرَاهِقٌ أَوْ أَمْرَدُ أَوْ مُلْتَحٍ، وَإِنْ كَانَتْ الدَّعْوَى فِي شَيْءٍ مِنْ الْمُقَوَّمَاتِ فَيَصِفُهُ وَصْفًا تَنْضَبِطُ بِهِ قِيمَتُهُ وَتُعْرَفُ صِفَتُهُ عِنْدَ أَهْلِ الْمَعْرِفَةِ، وَإِنْ كَانَتْ الدَّعْوَى فِيمَا لَا تَضْبِطُهُ الصِّفَةُ كَالْجَوَاهِرِ فلابد مِنْ ذِكْرِ الْقِيمَةِ مِنْ غَالِبِ نَقْدِ الْبَلَدِ.
قَالَ الْقَرَافِيُّ: وَيَذْكُرُ فِي السَّيْفِ الْمُحَلَّى بِالذَّهَبِ قِيمَتَهُ فِضَّةً، وَالْمُحَلَّى بِالْفِضَّةِ قِيمَتَهُ ذَهَبًا، وَالْمُحَلَّى بِهِمَا يَذْكُرُ قِيمَتَهُ بِمَا شَاءَ مِنْهُمَا؛ لِأَنَّهُ مَوْضِعُ ضَرُورَةٍ، وَإِنْ كَانَتْ الدَّعْوَى بِأَنَّهُ أَتْلَفَ عَلَيْهِ شَيْئًا مِنْ ذَوَاتِ الْأَمْثَالِ أَوْ غَصَبَهُ إيَّاهُ وَلَمْ يَكُنْ الْمُدَّعَى فِيهِ قَائِمًا بِعَيْنِهِ فلابد مِنْ ذِكْرِ الْقِيمَةِ فِي الدَّعْوَى وَذِكْرِ الصِّفَةِ، وَذَلِكَ مَذْكُورٌ فِي بَابِ الرَّهْنِ، وَإِنْ كَانَتْ الدَّعْوَى فِي شَجَّةٍ أَوْ جُرْحٍ ذَكَرَ مَوْضِعَهُ وَقَدْرَهُ وَسَمَّاهُ إنْ عَرَفَ تَسْمِيَتَهُ لِيَقِفَ عَلَى ذَلِكَ أَهْلُ الْبَصَرِ بِهِ، وَإِنْ كَانَتْ الدَّعْوَى فِي قَذْفٍ ذَكَرَ لَفْظَ الْقَائِلِ، فَلَيْسَ كُلُّ شَتْمٍ وَسَبٍّ يُوجِبُ الْحَدَّ، وَإِنْ كَانَتْ الدَّعْوَى فِي سَرِقَةٍ فَإِنَّهُ يُبَيِّنُ مَا هِيَ وَمِقْدَارَهَا وَيَذْكُرُ الْحِرْزَ الَّذِي أَخَذَهَا مِنْهُ، وَأَنَّهُ خَرَجَ بِهَا مِنْ الْحِرْزِ، وَيَذْكُرُ صِفَةَ الْحِرْزِ، فَلَيْسَ كُلُّ مَا يُظَنُّ أَنَّهُ حِرْزٌ حِرْزًا شَرْعِيًّا، وَإِنْ كَانَتْ الدَّعْوَى فِي الْأَخْذِ بِالشُّفْعَةِ ذَكَرَ أَنَّهُ شَرِيكٌ لِلْبَائِعِ فِي ذَلِكَ الْمَبِيعِ، وَيَذْكُرُ صُدُورَ الْبَيْعِ فِي الْحِصَّةِ الَّتِي يُرِيدُ أَخْذَهَا بِالشُّفْعَةِ، وَإِنْ كَانَ الْمُسْتَشْفِعُونَ جَمَاعَةً ذَكَرَ أَنَّهُ أَحَدُهُمْ، وَإِنْ كَانَتْ الدَّعْوَى فِي الرَّدِّ بِالْعَيْبِ ذَكَرَ أَنَّهُ ابْتَاعَ كَذَا بِكَذَا مِنْ مُدَّةِ كَذَا، وَأَنَّهُ وَجَدَ بِهِ عَيْبًا مُتَقَدِّمًا عَلَى أَمَدِ التَّبَايُعِ لَمْ يَعْلَمْ بِهِ، وَإِنْ كَانَ الْبَائِعُ غَائِبًا ذَكَرَ غَيْبَتَهُ وَهَلْ هِيَ بَعِيدَةٌ أَوْ قَرِيبَةٌ، وَإِنْ كَانَتْ الدَّعْوَى فِي الزَّوْجِيَّةِ فَقَالَ ابْنُ شَاسٍ إذَا ادَّعَى أَنَّهُ تَزَوَّجَهَا تَزْوِيجًا صَحِيحًا سُمِعَتْ دَعْوَاهُ وَلَا يُشْتَرَطُ أَنْ يَقُولَ بِوَلِيٍّ وَبِرِضَاهَا، بَلْ لَوْ أَطْلَقَ سُمِعَ أَيْضًا، بَلْ لَوْ قَالَ هِيَ زَوْجَتِي كَفَاهُ الْإِطْلَاقُ، وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ ابْنُ شَاسٍ حُكْمُ الطَّارِئِينَ، أَمَّا لَوْ كَانَا بَلَدِيَّيْنِ وَادَّعَى أَنَّهُ نَكَحَهَا بِقُرْطُبَةَ مَثَلًا نِكَاحًا صَحِيحًا فَلَا يَسْمَعُ قَاضِي قُرْطُبَةَ الدَّعْوَى بَيْنَهُمَا قَبْلَ ثُبُوتِ الزَّوْجِيَّةِ عِنْدَهُ، وَيَلْزَمُ الْقَاضِيَ الْكَشْفُ عَنْ صِحَّةِ النِّكَاحِ قَبْلَ الْحُكْمِ، فَإِنْ لَمْ يَثْبُتْ وَأَقَرَّا بِالْوَطْءِ أَقَامَ الْقَاضِي عَلَيْهِمَا الْحَدَّ ذَكَرَهُ ابْنُ سَهْلٍ فِي كِتَابِهِ، وَفِيمَا ذَكَرْنَاهُ تَنْبِيهٌ عَلَى مَا لَمْ نَذْكُرُهُ فِي سَائِرِ الْأَبْوَابِ.

.الْفَصْلُ الثَّانِي فِي تَقْسِيمِ الدَّعَاوَى:

وَالدَّعَاوَى ثَمَانِيَةُ أَنْوَاعٍ مِنْهَا مَا لَا يَسْمَعُهُ الْحَاكِمُ وَلَا يَلْزَمُ الْمُدَّعِيَ بِسَبَبِ مَا ادَّعَاهُ شَيْئًا، وَمِنْهَا مَا لَا يَسْمَعُهُ الْحَاكِمُ وَيُؤَدَّبُ الْمُدَّعِي بِسَبَبِ مَا ادَّعَاهُ، وَمِنْهَا مَا يَسْمَعُ الْحَاكِمُ الدَّعْوَى بِهِ وَيُمَكِّنُ الْمُدَّعِيَ مِنْ إقَامَةِ الْبَيِّنَةِ عَلَى دَعْوَاهُ، وَلَا يُلْزِمُ الْحَاكِمُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِالْجَوَابِ، وَمِنْهَا مَا يَسْمَعُ الْحَاكِمُ وَيَمْنَعُ الْمُدَّعِيَ مِنْ إقَامَةِ الْبَيِّنَةِ عَلَى صِحَّةِ مَا ادَّعَاهُ وَيَرَى فِيهِ الْقَاضِي رَأْيَهُ، وَمِنْهَا مَا يَسْمَعُهُ الْحَاكِمُ وَلَا يَلْزَمُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ الْجَوَابُ عَنْهَا إلَّا بِشُرُوطٍ، وَمِنْهَا مَا يَسْمَعُهُ الْحَاكِمُ وَيُمَكِّنُ الْمُدَّعِيَ مِنْ إقَامَةِ الْبَيِّنَةِ بِمَا ادَّعَاهُ وَلَا يَحْكُمُ لَهُ بِمُوجِبِ مَا شَهِدَ لَهُ بِهِ عَلَى الْفَوْرِ، وَمِنْهَا مَا يَسْمَعُهُ الْحَاكِمُ وَيُمَكِّنُ الْمُدَّعِيَ مِنْ إقَامَةِ الْبَيِّنَةِ عَلَى دَعْوَاهُ وَيُلْزِمُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِالْجَوَابِ، وَمِنْهَا مَا لَا يَسْمَعُهُ الْحَاكِمُ وَلَا يُمَكِّنُ الْمُدَّعِيَ مِنْ إقَامَةِ الْبَيِّنَةِ عَلَى صِحَّةِ مَا ادَّعَاهُ وَيَغْرَمُ مَا ادَّعَى عَلَيْهِ بِهِ فَهَذِهِ ثَمَانِيَةُ أَنْوَاعٍ:
النَّوْعُ الْأَوَّلُ: الدَّعَاوَى الَّتِي يُكَذِّبُهَا الْعُرْفُ وَالْعَادَةُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهَا.
النَّوْعُ الثَّانِي: الدَّعَاوَى عَلَى أَهْلِ الدِّينِ وَالصَّلَاحِ بِمَا لَا يَلِيقُ بِهِمْ وَسَيَأْتِي ذِكْرُهَا فِي أَحْكَامِ السِّيَاسَةِ.
النَّوْعُ الثَّالِثُ: الدَّعَاوَى عَلَى الصَّغِيرِ وَالسَّفِيهِ وَسَيَأْتِي ذِكْرُ ذَلِكَ قَرِيبًا النَّوْعُ الرَّابِعُ: الدَّعَاوَى عَلَى مَنْ تَسَوَّرَ عَلَى مَالِ غَائِبٍ أَوْ قَرِيبٍ لِلْمُدَّعِي، فَيَقُومُ رَجُلٌ عِنْدَ الْقَاضِي يَدَّعِي نِيَابَتَهُ عَنْ الْغَائِبِ مِنْ غَيْرِ وَكَالَةٍ لِيَحْفَظَ لِلْغَائِبِ أَوْ لِقَرِيبِهِ مَالَهُ وَسَيَأْتِي ذَلِكَ.
النَّوْعُ الْخَامِسُ: دَعْوَى الرَّجُلِ الدَّارَ أَوْ الْعَقَارَ عَلَى مَنْ هُوَ حَائِزُهُ فَلَا يُلْزَمُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِذَلِكَ الْجَوَابَ إلَّا بِشُرُوطٍ يَأْتِي ذِكْرُهَا فِي فَصْلِ الْجَوَابِ عَنْ الدَّعْوَى فِي كَلَامِ ابْنِ رُشْدٍ وَغَيْرِهِ.
النَّوْعُ السَّادِسُ: دَعْوَى الرَّجُلِ أَنَّ الْمَفْقُودَ أَوْصَى لَهُ أَوْ أَوْصَى إلَيْهِ، فَإِنَّ الْقَاضِيَ يُمَكِّنُ الْمُدَّعِيَ مِنْ إقَامَةِ الْبَيِّنَةِ عَلَى دَعْوَاهُ وَيَسْمَعُهَا، وَيُثْبِتُ ذَلِكَ لَهُ، وَلَا يَشْهَدُ لَهُ بِمَا ثَبَتَ عِنْدَهُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَجِبُ لَهُ شَيْءٌ إلَّا بَعْدَ مَوْتِ الْمَفْقُودِ وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ تَأْتِي قَرِيبًا.
النَّوْعُ السَّابِعُ: الدَّعْوَى الصَّحِيحَةُ بِشُرُوطِهَا الْمُتَقَدِّمَةِ.
النَّوْعُ الثَّامِنُ: كَمَنْ ادَّعَى عَلَيْهِ بِوَدِيعَةٍ فَجَحَدَهَا، فَأُقِيمَتْ عَلَيْهِ الْبَيِّنَةُ بِهَا فَادَّعَى أَنَّهُ رَدَّهَا وَأَرَادَ إقَامَةَ الْبَيِّنَةِ عَلَى ذَلِكَ، فَلَا تُسْمَعُ دَعْوَاهُ، وَلَا يُمَكَّنُ مِنْ إقَامَةِ الْبَيِّنَةِ عَلَى مَا ادَّعَاهُ، وَلَهَا نَظَائِرُ كَثِيرَةٌ مَذْكُورَةٌ فِي فَصْلِ الدَّعَاوَى الَّتِي يَسْمَعُ الْحَاكِمُ الْبَيِّنَةَ عَلَيْهَا، وَالدَّعَاوَى الَّتِي لَا تُسْمَعُ عَلَيْهَا الْبَيِّنَةُ.

.الْفَصْلُ الثَّالِثُ فِي تَقْسِيمِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِمْ:

وَهُمْ عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ: دَعْوَى عَلَى الْحَاضِرِ الْمَالِكِ لِأَمْرِهِ، وَدَعْوَى عَلَى الصَّغِيرِ وَالسَّفِيهِ الْمُوَلَّى عَلَيْهِ، وَدَعْوَى عَلَى الْغَائِبِ، وَدَعْوَى فِي مَالِ الْمَيِّتِ.
الْقِسْمُ الْأَوَّلُ الدَّعْوَى عَلَى الْحَاضِرِ الرَّشِيدِ وَيُشْتَرَطُ فِي صِحَّةِ الدَّعْوَى عَلَيْهِ مَا تَقَدَّمَ وَذَلِكَ يُغْنِي عَنْ إعَادَتِهِ. الْقِسْمُ الثَّانِي فِي الدَّعْوَى عَلَى الصَّغِيرِ وَالسَّفِيهِ وَلَيْسَ لِلْحَاكِمِ أَنْ يَسْمَعَ الدَّعْوَى عَلَى مَنْ لَا يَصِحُّ إقْرَارُهُ فَلَا تُسْمَعُ عَلَى السَّفِيهِ، وَلَا يَنْبَغِي لِلْقَاضِي أَنْ يَسْأَلَهُ عَنْ شَيْءٍ مِمَّا يَدَّعِي بِهِ عَلَيْهِ، وَلَا يُكَلِّفَهُ فِي ذَلِكَ إقْرَارًا وَلَا إنْكَارًا، وَذَلِكَ فِي مِثْلِ الدَّعْوَى بِالدُّيُونِ وَالْمُعَامَلَاتِ مِنْ الْبَيْعِ وَالِابْتِيَاعِ وَالسَّلَفِ وَالْإِبَاحَةِ، وَأَمَّا إنْ كَانَتْ الدَّعْوَى مِمَّا يَلْزَمُهَا فِي أَمْوَالِهِمَا مِثْلُ مَا يَكُونُ مِنْهُمَا عَلَى الْعَدَاءِ كَاسْتِهْلَاكِ الشَّيْءِ أَوْ غَصْبِهِ أَوْ اخْتِلَاسِهِ أَوْ نَهْبِهِ، وَكَالْجُرْحِ وَالْقَتْلِ وَمَا أَشْبَهَهُ عَمْدًا أَوْ خَطَأً فَإِنَّهُ يَسْمَعُ الْبَيِّنَةَ مِنْ الْمُدَّعِي وَيُكَلِّفُهُ إثْبَاتَ صِحَّةِ دَعْوَاهُ، وَيَقْضِي بِذَلِكَ فِي أَمْوَالِهِمَا إنْ كَانَ لَهُمَا مَالٌ أَوْ يُتْبَعَانِ بِذَلِكَ، إلَّا فِي وَجْهٍ وَاحِدٍ اُخْتُلِفَ فِيهِ وَهُوَ مَا دُفِعَ مِنْ الْمَالِ لِلسَّفِيهِ لِيُخْتَبَرَ بِهِ فَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ لَا يَلْحَقُهُ فِيهِ دَيْنٌ وَلَا فِيمَا بَقِيَ لَهُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَخْرُجْ مِنْ الْوِلَايَةِ بِذَلِكَ وَقَالَ غَيْرُهُ: يَلْحَقُهُ ذَلِكَ فِيمَا أُذِنَ لَهُ فِيهِ خَاصَّةً.
قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: وَلَوْ دَفَعَ أَجْنَبِيٌّ إلَى مَحْجُورٍ مَا لَا يُتَّجَرُ فِيهِ فَمَا لَحِقَهُ مِنْ دَيْنٍ فِيهِ كَانَ ذَلِكَ الْمَالُ خَاصَّةً، بِخِلَافِ دَفْعِ الْوَصِيِّ، وَلَا يَلْزَمُ ذِمَّتَهُ وَلَا ذِمَّةَ الدَّافِعِ شَيْءٌ وَإِذَا فَرَّعْنَا عَلَى الْقَوْلِ بِلُزُومِ ذَلِكَ بِيَدِهِ سَمِعَ الْقَاضِي الْبَيِّنَةَ عَلَى بَيْعِهِ أَوْ إسْلَافِهِ، فَإِنْ شَهِدُوا عَلَى مُعَايَنَةِ ذَلِكَ أَنْفَذَهُ، وَإِنْ كَانُوا إنَّمَا شَهِدُوا عَلَى إقْرَارِهِ لَمْ يَلْزَمْهُ شَيْءٌ، إلَّا أَنْ يَشْهَدُوا أَنَّ إقْرَارَهُ كَانَ بِحَضْرَةِ الْمُبَايَعَةِ وَبِفَوْرِهَا، وَإِنْ كَانُوا لَمْ يَحْضُرُوهَا لَكِنَّهُمْ عَلِمُوا أَنَّ ذَلِكَ كَانَ فِي مَجْلِسِ التَّبَايُعِ وَفِي حِينِهِ فَتَجُوزُ، وَيُعَدِّي رَبُّ الْحَقِّ فِيمَا بِيَدِ السَّفِيهِ مِنْ الْمَالِ بَعْدَ الْإِعْذَارِ إلَى وَلِيِّهِ فِيمَا ثَبَتَ عَلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ.
مَسْأَلَةٌ:
وَمِنْ أَنْوَاعِ الْمُوَلَّى عَلَيْهِمْ الْعَبْدُ فَإِذَا ادَّعَى عَلَيْهِ بِمَا يُوجِبُ الْقِصَاصَ فَيَلْزَمُهُ الْجَوَابُ، وَإِنْ ادَّعَى عَلَيْهِ بِمَا يُوجِبُ الْأَرْشَ فَيُطْلَبُ الْجَوَابُ مِنْ السَّيِّدِ، وَإِنْ ادَّعَى عَلَيْهِ بِمَا يُوجِبُ الْمَالَ فَيُطْلَبُ الْجَوَابُ مِنْ الْعَبْدِ فَإِنْ أَقَرَّ وَكَانَ مَأْذُونًا فَهُوَ كَالْحُرِّ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَأْذُونًا وَقَفَ إقْرَارُهُ عَلَى سَيِّدِهِ فَيَرُدُّهُ أَوْ يُلْزِمُهُ إيَّاهُ، فَإِنْ أُعْتِقَ قَبْلَ أَنْ يَعْلَمَ مَا عِنْدَ سَيِّدِهِ لَزِمَهُ الدَّيْنُ، وَلَا يَحْكُمُ الْقَاضِي عَلَيْهِ بِإِلْزَامِ الدَّيْنِ ذِمَّتَهُ حَتَّى يَثْبُتَ عِنْدَهُ مَا عِنْدَ السَّيِّدِ فِيهِ مِنْ إلْزَامٍ أَوْ إسْقَاطٍ، وَذَلِكَ بَعْدَ أَنْ يَثْبُتَ عِنْدَهُ حَالُ الْعَبْدِ مِنْ إذْنٍ أَوْ حَجْرٍ فَإِنْ لَمْ يَثْبُتْ عِنْدَهُ شَيْءٌ فَهُوَ عَلَى الْحَجْرِ حَتَّى يَثْبُتَ عِنْدَهُ خِلَافُهُ.
مَسْأَلَةٌ:
قَالَ ابْنُ حَبِيبٍ قَالَ أَصْبَغُ فِي الصَّبِيِّ الَّذِي يُدَّعَى قِبَلَهُ أَوْ فِي يَدِهِ شَيْءٌ أَنَّ ابْنَ الْقَاسِمِ قَالَ فِي ذَلِكَ: لَا يَنْبَغِي لِلْقَاضِي أَنْ يُوَكِّلَ عَنْهُ وَكِيلًا يُخَاصِمُ عَنْهُ، وَلَسْت أَقُولُهُ يَعْنِي أَصْبَغَ، وَلَكِنْ الَّذِي يَنْبَغِي لِلْقَاضِي أَنْ يُوَكِّلَ عَلَيْهِ وَكِيلًا مُفَوِّضًا إلَيْهِ جَمِيعَ أُمُورِهِ فَتَكُونُ هَذِهِ الْخُصُومَةُ مِنْ أُمُورِهِ الَّتِي يَنْظُرُ لَهُ فِيهَا وَفِيمَا شَابَهَهَا؛ لِأَنَّ حَقًّا عَلَى الْقُضَاةِ أَنْ لَا يُهْمِلُوا الْأَيْتَامَ، وَإِنَّمَا الَّذِي أَكْرَهُ لَهُ أَنْ يُوَكِّلَ عَلَيْهِ وَكِيلًا لِهَذِهِ الْخُصُومَةِ ثُمَّ يَعْزِلُهُ عَنْهَا.
وَقَالَ ابْنُ الْمَاجِشُونِ مِثْلَ قَوْلِ أَصْبَغَ.
[الْقِسْمُ الثَّالِثُ فِي الدَّعْوَى عَلَى الْغَائِبِ]
وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الرُّكْنِ الْخَامِسِ فِي الْمَقْضِيِّ عَلَيْهِ جُمْلَةً مِنْ مَسَائِلِهِ، وَهُوَ عَلَى قِسْمَيْنِ غَائِبٌ عَنْ مَجْلِسِ الْحَاكِمِ وَغَائِبٌ عَنْ الْبَلَدِ، فَأَمَّا الْأَوَّلُ فَقَالَ سَحْنُونٌ لَا تُسْمَعُ الْبَيِّنَةُ دُونَ حُضُورِهِ إلَّا أَنْ يَتَوَارَى أَوْ يَتَعَزَّزَ بِسُلْطَانٍ فَيُقْضَى عَلَيْهِ، وَسَيَأْتِي حُكْمُ ذَلِكَ فِي بَابٍ مُفْرَدٍ، وَأَمَّا الثَّانِي: فَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ يُشْتَرَطُ فِي الْحُكْمِ عَلَى الْغَائِبِ وَسَمَاعِ الدَّعْوَى عَلَيْهِ أَنْ يَكُونَ لَهُ بِمَوْضِعِ الْحُكْمِ مَالٌ أَوْ وَكِيلٌ أَوْ حَمِيلٌ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُوَلَّ عَلَى جَمِيعِ النَّاسِ بَلْ عَلَى بَلَدٍ خَاصٍّ، وَفِي أَسْئِلَةِ الشَّيْخَيْنِ أَبِي عُمَرَ وَأَبِي بَكْرٍ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّ الْحُكْمَ عَلَى الْغَائِبِ فِي غَيْرِ عَمَلِهِ جَائِزٌ فِي الْقِسْمِ، إذَا كَانَ لَهُ فِي مَوْضِعِهِ مَا يَحْكُمُ عَلَيْهِ فِيهِ.
وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ فِي الْمُدَوَّنَةِ: سَمِعْت مَنْ يَذْكُرُ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ لَا يُقْضَى عَلَى الْغَائِبِ فِي الدُّورِ وَهُوَ رَأْيٌ، إلَّا فِي الْبَعِيدِ الْغَيْبَةِ الَّتِي لَا يُمْكِنُ الْمُدَّعِيَ السَّيْرُ إلَيْهِ لِبُعْدِهِ وَانْقِطَاعِهِ.
تَنْبِيهٌ:
وَلَا يُسَجِّلُ الْقَاضِي بِتَخْلِيدِ دَيْنٍ فِي ذِمَّةِ الْغَائِبِ إلَّا أَنْ يَكُونَ مِنْ أَهْلِ عَمَلِهِ وَلَا يَضُرُّ إنْ سَافَرَ إلَى غَيْرِ عَمَلِهِ، أَمَّا إنْ اسْتَوْطَنَ غَيْرَ عَمَلِهِ أَوْ لَمْ يَسْكُنْ قَبْلَ ذَلِكَ فِيهِ فَحَسْبُهُ أَنْ يُقَيَّدَ بِثُبُوتِ الدَّيْنِ لَا الْحُكْمِ بِتَخْلِيدِهِ، مَسْأَلَةٌ:
قَالَ ابْنُ حَبِيبٍ قَالَ أَصْبَغُ عَنْ ابْنِ الْقَاسِمِ: وَإِذَا ادَّعَى رَجُلٌ عَلَى غَائِبٍ فِي مَالِهِ حَقًّا أَوْ فِي دَارِهِ أَوْ فِي أَرْضِهِ وَغَيْبَتُهُ بَعِيدَةٌ مُنْقَطِعَةٌ فَلَا يُوَكِّلُ الْحَاكِمُ وَكِيلًا يَقُومُ عَنْهُ بِشَيْءٍ، وَلَكِنْ إنْ تَبَيَّنَ لِلْقَاضِي حَقٌّ عَلَى الْغَائِبِ وَرَأَى وَجْهَ حُكْمٍ حَكَمَ عَلَيْهِ، وَذَكَرَ فِي كِتَابِ الْحُكْمِ غَيْبَتَهُ وَأَنَّهُ قَدْ أَبْقَى لَهُ حُجَّتَهُ فَإِذَا قَدِمَ وَتَكَلَّمَ فِي ذَلِكَ وَجَاءَ بِحُجَّتِهِ نَظَرَ الْقَاضِي لَهُ فِيهَا.
وَقَالَ الْمَازِرِيُّ فِي شَرْحِ التَّلْقِينِ: وَالدَّعْوَى عَلَى الْغَائِبِ كَالدَّعْوَى عَلَى الْحَاضِرِ يَجِبُ أَنْ يَذْكُرَ الْحَقَّ وَجِنْسَهُ وَمِقْدَارَهُ، وَكَوْنُ الْبَيِّنَةِ تَشْهَدُ بِهِ وَيُفَصِّلُ الدَّعْوَى عَلَى حَسَبِ مَا يَجِبُ فِي دَعْوَى الْحَاضِرِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذَلِكَ بِزِيَادَةٍ فِي تَصْحِيحِ الدَّعْوَى.
مَسْأَلَةٌ:
وَإِذَا كَانَ الْغَائِبُ عَلَى مَسِيرَةِ الْيَوْمَيْنِ وَالثَّلَاثَةِ وَالطَّرِيقُ مَأْمُونَةٌ أَعْذَرَ إلَيْهِ فِي الدَّيْنِ بَعْدَ ثُبُوتِهِ، فَإِمَّا قَدِمَ وَإِلَّا وَكَّلَ، فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ بَاعَ عَلَيْهِ أُصُولَهُ، وَيَحْكُمُ عَلَيْهِ أَيْضًا فِي اسْتِحْقَاقِ الْأُصُولِ وَالْحَيَوَانِ وَالْعُرُوضِ وَجَمِيعِ الْأَشْيَاءِ مِنْ طَلَاقٍ وَغَيْرِهِ، وَلَا تُرْجَى لَهُ حُجَّةٌ، وَإِنْ كَانَ بَعِيدَ الْغَيْبَةِ كَعَشَرَةِ أَيَّامٍ وَنَحْوِهَا حَكَمَ عَلَيْهِ فِيمَا عَدَا الْأُصُولَ دُونَ إعْذَارٍ وَتُرْجَى لَهُ الْحُجَّةُ.
قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: وَلَا يُقِيمُ الْقَاضِي لِغَائِبٍ وَلَا لِطِفْلٍ مَنْ يَقُومُ بِحُجَّتِهِ، ابْنُ رُشْدٍ.
وَقَالَ سَحْنُونٌ وَابْنُ الْمَاجِشُونِ يَحْكُمُ عَلَى الْغَائِبِ فِي هَذِهِ الْغَيْبَةِ فِي الْأُصُولِ وَغَيْرِهَا وَلَا تُرْجَى لَهُ حُجَّةٌ، قَالَ: وَعَلَى قَوْلِهِمَا فَيُوَكِّلُ مَنْ يَعْذُرُ إلَيْهِ فِي حَقِّهِمَا بِبَيَانٍ، وَاَلَّذِي جَرَى بِهِ الْعَمَلُ أَنَّ الْقَاضِيَ لَا يَحْكُمُ عَلَى الْغَائِبِ فِي الْأُصُولِ وَإِنَّمَا يَسْمَعُ مِنْ بَيِّنَةِ الْقَائِمِ وَيَشْهَدُ بِمَا ثَبَتَ عِنْدَهُ وَلَا يَنْزِلُ الْمَشْهُودُ لَهُ فِي الْمَشْهُودِ بِهِ، أَيْ لَا يُسَلِّمُهُ إلَيْهِ.
وَقَالَ ابْنُ الْمَاجِشُونِ: الْعَمَلُ عِنْدَنَا أَنَّهُ يَسْمَعُ الْبَيِّنَةَ وَيُوقِعُ شَهَادَتَهُمْ فَإِذَا حَضَرَ عَرَّفَهُ بِهِمْ وَأَعْذَرَ إلَيْهِ فِيهِمْ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ مَدْفَعٌ قَضَى عَلَيْهِ.
مَسْأَلَةٌ:
وَإِنْ كَانَ بَعِيدَ الْغَيْبَةِ جِدًّا أَوْ مَفْقُودًا حَكَمَ عَلَيْهِ فِي الْأُصُولِ وَغَيْرِهَا. قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ سَمِعْت مَنْ يَذْكُرُ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ لَا يُقْضَى عَلَى الْغَائِبِ فِي الدُّورِ، وَهُوَ رَأْيٌ إلَّا فِي بَعِيدِ الْغَيْبَةِ كَالْأَنْدَلُسِ أَوْ طَنْجَةَ.
تَنْبِيهٌ:
وَلَا يُحْكَمُ عَلَى الْغَائِبِ إلَّا بَعْدَ يَمِينِ الْقَضَاءِ.
مَسْأَلَةٌ:
فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِلْغَائِبِ بِبَلَدِ الْقَائِمِ مَالٌ يَحْكُمُ عَلَيْهِ فِيهِ، وَطَلَبَ مِنْ الْقَاضِي أَنْ يُخَاطِبَ لَهُ عَلَى حُكْمِهِ عَلَيْهِ بِالدَّيْنِ أَجَابَهُ إلَى ذَلِكَ، وَالْخِطَابُ يَكُونُ بِالْإِشْهَادِ أَوْ بِالْكِتَابِ أَوْ بِالْمُشَافَهَةِ، وَسَيَأْتِي حُكْمُ ذَلِكَ فِي الْقَضَاءِ بِكِتَابِ الْقَاضِي وَمُشَافَهَتِهِ، وَسَيَأْتِي فِي فَصْلِ الْأَعْذَارِ مَا يَنْبَغِي لِلْحَاكِمِ مِنْ تَسْمِيَتِهِ الشُّهُودَ الَّذِينَ ثَبَتَ بِهِمْ الْحَقُّ عَلَى الْغَائِبِ. وَالْحَكَمُ إذَا لَمْ يُسَمِّ الشُّهُودَ.
مَسْأَلَةٌ:
إذَا كَانَتْ عِنْدَ رَجُلٍ كُتُبٌ لِغَائِبٍ فَقَامَ رَجُلٌ عِنْدَ الْقَاضِي وَذَكَرَ أَنَّ لَهُ فِي تِلْكَ الْكُتُبِ حَقًّا وَمَنْفَعَةً، وَسَأَلَهُ أَنْ يَأْمُرَ الرَّجُلَ بِإِحْضَارِ الْكُتُبِ؛ لِيَنْظُرَ لَهُ فِيهَا فَإِنَّ الْقَاضِيَ يَأْمُرُ الَّذِي عِنْدَهُ الْكُتُبُ بِإِحْضَارِهَا وَيَنْظُرُ فِيهَا (مِنْ ابْنِ سَهْلٍ فِي كِتَابِ الْأَقْضِيَةِ).
[الْقِسْمُ الرَّابِعُ الدَّعْوَى عَلَى الْمَيِّتِ]
وَلَا تُسْمَعُ الدَّعْوَى فِي مَالِ الْمَيِّتِ إلَّا بَعْدَ ثُبُوتِ وَفَاتِهِ وَعَدَدِ وَرَثَتِهِ فَإِنْ أَقَرَّ الْوَارِثُ الرَّشِيدُ بِهَا وَلَمْ يَكُنْ ثَمَّ غَيْرُهُ لَمْ يَفْتَقِرْ إلَى ثُبُوتِهَا، وَإِنْ ثَبَتَ الدَّيْنُ بِالشَّهَادَةِ، وَأَعْذَرَ فِيهِ لِلْوَارِثِ وَعَجَزَ عَنْ الدَّفْعِ حَلَّفَ الْقَاضِي الْمُدَّعِيَ يَمِينَ الْقَضَاءِ أَنَّهُ مَا اقْتَضَى ذَلِكَ الدَّيْنَ وَلَا شَيْئًا مِنْهُ، وَلَا سَقَطَ عَنْ الْمَيِّتِ بِوَجْهٍ، وَأَنَّهُ لَبَاقٍ لَهُ عَلَيْهِ وَفِي تَرِكَتِهِ بَعْدَ وَفَاتِهِ إلَى حِينِ يَمِينِهِ هَذِهِ، وَأَعْدَاهُ بِهِ عَلَى الْوَارِثِ.
مَسْأَلَةٌ:
وَيَمِينُ الْقَضَاءِ مُتَوَجِّهٌ عَلَى مَنْ يَقُومُ عَلَى الْمَيِّتِ أَوْ الْغَائِبِ أَوْ الْيَتِيمِ، أَوْ عَلَى الْأَحْبَاسِ، أَوْ عَلَى بَيْتِ الْمَالِ، أَوْ عَلَى الْمَسَاكِينِ وَغَيْرِ ذَلِكَ وَسَيَأْتِي ذِكْرُ ذَلِكَ.
مَسْأَلَةٌ:
وَلَوْ كَانَ الْوَرَثَةُ كُلُّهُمْ كِبَارًا وَلَمْ يَدَّعُوا الدَّفْعَ مِنْ الْمَيِّتِ وَلَا مِنْهُمْ فَفِي كِتَابِ ابْنِ شَعْبَانَ لَا يَلْزَمُ رَبَّ الدَّيْنِ يَمِينٌ بِخِلَافِ الْأَصَاغِرِ، وَظَاهِرُ مَا فِي النَّوَادِرِ خِلَافُهُ.
وَقَالَ بَعْضُ الشُّيُوخِ: لابد مِنْ الْيَمِينِ مَخَافَةَ طُرُوِّ دَيْنٍ أَوْ وَارِثٍ آخَرَ، فَإِنْ كَانُوا صِغَارًا فلابد مِنْ ثُبُوتِ الْوَصِيَّةِ وَصِغَرِ الْوَرَثَةِ، فَإِذَا ثَبَتَ ذَلِكَ كَانَتْ الْخُصُومَةُ مَعَ الْوَصِيِّ غَيْرَ أَنَّ الْوَصِيَّ لَا يُكَلَّفُ جَوَابًا؛ لِأَنَّ إقْرَارَهُ فِي ذَلِكَ أَوْ إنْكَارَهُ غَيْرُ عَامِلٍ، وَلَكِنْ يَحْضُرُ؛ لِيَعْلَمَ مَنْ شَهِدَ عَلَى الْمَيِّتِ؛ لِيَكُونَ ذَلِكَ أَعْوَنَ لَهُ فِي مَدْفَعٍ إنْ رَامَهُ.
مَسْأَلَةٌ:
وَإِنْ كَانَ الْوَارِثُ رَشِيدًا وَلَمْ يُخَلِّفْ الْمَيِّتُ مَالًا ظَاهِرًا فَلَهُ تَحْلِيفُهُ أَنَّهُ لَمْ يَرِثْ عَنْهُ شَيْئًا.

.الْفَصْلُ الرَّابِعُ فِي تَقْسِيمِ الْمُدَّعَى لَهُمْ وَمَا يُسْمَعُ مِنْ بَيِّنَاتِهِمْ وَمَا لَا يُسْمَعُ مِنْهَا:

وَهُمْ سِتَّةُ أَنْوَاعٍ:
النَّوْعُ الْأَوَّلُ: مَنْ يُرِيدُ إقَامَتَهَا لِصِحَّةِ مَا ادَّعَى بِهِ لِنَفْسِهِ.
النَّوْعُ الثَّانِي: مَنْ يُرِيدُ إقَامَتَهَا لِصِحَّةِ مَا ادَّعَى بِهِ لِمُوَكِّلِهِ.
النَّوْعُ الثَّالِثُ: مَنْ يُرِيدُ إقَامَتَهَا لِصِحَّةِ مَا ادَّعَى بِهِ لِقَرِيبِهِ أَوْ جَارِهِ مِنْ غَيْرِ وَكَالَةٍ لَهُ عَلَى مَا قَامَ فِيهِ.
النَّوْعُ الرَّابِعُ: مَنْ يُرِيدُ إقَامَتَهَا لِصِحَّةِ مَا ادَّعَى بِهِ عَلَى وَجْهِ الْحِسْبَةِ لِلْغَائِبِ.
النَّوْعُ الْخَامِسُ: مَنْ يُرِيدُ إقَامَتَهَا لِصِحَّةِ مَا ادَّعَى بِهِ لِمَنْ هُوَ تَحْتَ وِلَايَتِهِ مِنْ أَبٍ أَوْ وَصِيٍّ.
النَّوْعُ السَّادِسُ: مَنْ يُرِيدُ إقَامَتَهَا لِصِحَّةِ مَا ادَّعَى بِهِ لِنَفْسِهِ وَلِغَيْرِهِ.

.النَّوْعُ الْأَوَّلُ: مَنْ يُرِيدُ إقَامَتَهَا لِنَفْسِهِ:

وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ الدَّعْوَى الصَّحِيحَةَ يُمَكَّنُ مُدَّعِيهَا مِنْ إقَامَةِ الْبَيِّنَةِ عَلَى صِحَّتِهَا، وَقَدْ يُمْنَعُ مِنْ إقَامَتِهَا فِي وُجُوهٍ. مِنْهَا: إذَا اسْتَحْلَفَ الْمُدَّعِي الْمَطْلُوبَ مَعَ الْعِلْمِ بِبَيِّنَتِهِ الْحَاضِرَةِ ثُمَّ أَرَادَ الْقِيَامَ بِهَا، لَمْ يُمَكَّنْ مِنْ إقَامَتِهَا عَلَى خِلَافٍ فِيهِ، وَهَذَا مَبْسُوطٌ فِي الْبَابِ الْحَادِي وَالْعِشْرِينَ.
وَمِنْهَا: أَنَّ مَنْ ادَّعَى عَلَيْهِ بِدَيْنٍ مِنْ سَلَفٍ أَوْ ادَّعَى عَلَيْهِ بِقِرَاضٍ أَوْ ادَّعَى عَلَيْهِ بِوَدِيعَةٍ أَوْ بِبِضَاعَةٍ أَوْ رِسَالَةٍ أَوْ رَهْنٍ أَوْ عَارِيَّةٍ أَوْ هِبَةٍ أَوْ صَدَقَةٍ، أَوْ بِحَقٍّ مِنْ الْحُقُوقِ فَجَحَدَ أَنْ يَكُونَ عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ، فَلَمَّا خَافَ أَنْ تَقُومَ عَلَيْهِ الْبَيِّنَةُ بِذَلِكَ أَقَرَّ بِهِ وَادَّعَى فِيهِ وَجْهًا مِنْ الْوُجُوهِ يُرِيدُ إسْقَاطَ ذَلِكَ عَنْ نَفْسِهِ، لَمْ يَنْفَعْهُ ذَلِكَ وَإِنْ قَامَتْ لَهُ الْبَيِّنَةُ عَلَى مَا زَعَمَ أَخِيرًا؛ لِأَنَّ جُحُودَهُ أَوَّلًا إكْذَابٌ لِبَيِّنَتِهِ فَلَا تُسْمَعُ، وَإِنْ كَانُوا عُدُولًا، وَكَذَا لَوْ لَمْ يُقِرَّ بَلْ لَمَّا جَحَدَ قَامَتْ عَلَيْهِ الْبَيِّنَةُ فَأَرَادَ أَنْ يُقِيمَ الْبَيِّنَةَ بِمَا يُبْرِئُهُ مِنْ ذَلِكَ لَمْ تُسْمَعْ بَيِّنَتُهُ، إلَّا فِي بَعْضِ الْوُجُوهِ، وَقَدْ ذَكَرْنَاهَا فِي بَابِ الْقَضَاءِ بِالْجُحُودِ.
وَمِنْهَا: لَوْ أَنْكَرَ الْوَكِيلُ قَبْضَ الثَّمَنِ فَقَامَتْ عَلَيْهِ الْبَيِّنَةُ فَقَالَ تَلِفَ أَوْ رَدَدْته لَمْ تُسْمَعْ دَعْوَاهُ وَلَا بَيِّنَتُهُ؛ لِأَنَّهُ كَذَّبَهَا. وَمِنْهَا: مَنْ ثَبَتَ عَلَيْهِ حَقٌّ بِشَاهِدٍ فَقَالَ لِلْمُدَّعِي احْلِفْ مَعَ شَاهِدِك فَقَالَ أَخْشَى أَنْ أَحْلِفَ، وَتَدَّعِي الْعَدَمَ فَأَشْهَدَ لَهُ بِأَنَّهُ مُوسِرٌ، فَحَلَفَ الْمُدَّعِي، ثُمَّ ادَّعَى الْمَطْلُوبُ الْعَدَمَ وَأَقَامَ بَيِّنَةً عَلَى ذَلِكَ لَمْ تُسْمَعْ؛ لِأَنَّهُ أَكْذَبَهَا، وَقَدْ تَقَدَّمَتْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ.
وَمِنْهَا: قَالَ ابْنُ الْمَاجِشُونِ فِيمَنْ تَصَدَّقَ بِأَرْضٍ عَلَى رَجُلٍ ثُمَّ غَابَ الْمُتَصَدِّقُ فَأَرَادَ الْمُتَصَدَّقُ عَلَيْهِ أَنْ يُثْبِتَ صَدَقَتَهُ عِنْدَ السُّلْطَانِ؛ لِيَحُوزَهَا وَيَحِقَّهَا، فَلَا يَنْبَغِي لِلْحَاكِمِ أَنْ يَسْمَعَ بَيِّنَتَهُ عَلَى مِثْلِ هَذَا حَتَّى يَدْفَعَهُ عَنْ قَبْضِ ذَلِكَ دَافِعٌ، مِثْلُ ذَلِكَ الرَّجُلِ أَوْ وَكِيلِهِ أَوْ زَوْجَتِهِ، فَإِنْ قَالَ أَحَدٌ مِنْ هَؤُلَاءِ: خَرَجَ عَنَّا صَاحِبُنَا وَلَا نَعْلَمُهُ تَصَدَّقَ بِشَيْءٍ فَعِنْدَ ذَلِكَ يُضْرَبُ الْأَجَلُ لِلْغَائِبِ عَلَى قَدْرِ مَسَافَةِ سَفَرِهِ، وَبَعْدَ غَيْبَتِهِ، فَإِذَا انْقَضَتْ وَلَمْ يَأْتِ سَمِعَ مِنْ بَيِّنَتِهِ، فَإِذَا تَحَقَّقَ أَنَّهُ حَقٌّ دُفِعَ إلَيْهِ ذَلِكَ وَثَبَتَتْ الْعَطِيَّةُ، وَلَا نَرَى أَنْ تُوقَفَ الْأَرْضُ وَكِرَاؤُهَا؛ لِيَنْظُرَ حَالَ الْغَائِبِ. إنْ كَانَ حَيًّا يَوْمَ قَبْضِهَا أَوْ مَيِّتًا، بَلْ يُمْضِي لَهُ صَدَقَتَهُ بِمَا ظَهَرَ مِنْ حَقِيقَتِهَا، ثُمَّ إنْ ادَّعَى وَرَثَتُهُ بَعْدَ ذَلِكَ أَنَّ صَاحِبَهُمْ مَاتَ قَبْلَ حَوْزِ الصَّدَقَةِ بِالْحُكْمِ وَأَثْبَتُوا ذَلِكَ بِبَيِّنَةٍ قَامَتْ عَلَى التَّارِيخِ رَدَّتْهَا مِيرَاثًا، وَإِلَّا فَقَدْ نَفَذَتْ لِصَاحِبِهَا.
وَقَالَ مُطَرِّفٌ: لَا نَرَى أَنْ يَحْكُمَ فِيهَا وَلَا يَنْظُرَ فِيهَا بِشَيْءٍ حَتَّى يَقْدُمَ الْغَائِبُ، وَلَيْسَتْ الصَّدَقَةُ فِي الْحُكْمِ بِهَا عَلَى الْغَائِبِ كَغَيْرِهَا مِنْ الْحُقُوقِ.
وَقَالَ أَصْبَغُ: لَا أَرَى أَنْ يُسْمَعَ مِنْ بَيِّنَتِهِ فَإِذَا حَقَّتْ لَهُ الصَّدَقَةُ أَوْقَفَهَا وَكِرَاءَهَا لِيَنْظُرَ الْغَائِبَ أَحَيٌّ، هُوَ يَوْمَ الْحُكْمِ أَوْ مَيِّتٌ، فَإِنْ كَانَ يَوْمَئِذٍ حَيًّا دَفَعَهَا إلَيْهِ، وَمَا اجْتَمَعَ مِنْ كَرَائِهَا، وَإِنْ كَانَ مَيِّتًا كَانَتْ وَمَا اجْتَمَعَ مِنْ كَرَائِهَا مِيرَاثًا عَنْهُ لِوَرَثَتِهِ. قَالَ ابْنُ حَبِيبٍ وَقَوْلُ ابْنِ الْمَاجِشُونِ أَحَبُّ إلَيَّ؛ لِأَنَّهُ عَلَى الْحَيَاةِ حَتَّى يَثْبُتَ مَوْتُهُ.
وَمِنْهَا: إذَا حَلَّ الْقَاضِي بِغَيْرِ عَمَلِهِ فَأَتَاهُ قَوْمٌ مِنْ أَهْلِ عَمَلِهِ يَسْأَلُونَهُ أَنْ يَسْمَعَ مِنْ بَيِّنَتِهِمْ عَلَى رَجُلٍ فِي عَمَلِهِ فَلَيْسَ لَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ وَالِي ذَلِكَ الْبَلَدِ، فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَسْمَعَ مِنْ بَيِّنَتِهِ فِيهَا، وَلَا يَنْظُرَ فِي بَيِّنَةِ أَحَدٍ، وَلَا يَشْهَدُ عِنْدَهُ أَحَدٌ إلَّا فِي بَلَدِهِ، قَالَ أَصْبَغُ: إلَّا أَنْ يَبْعَثَ الْإِمَامُ الْقَاضِيَ إلَى بَلَدٍ لِأَمْرٍ يَنُوبُهُ مِنْ أَمْرِ الْعَامَّةِ، فَيَأْتِيَ إلَيْهِ رَجُلٌ فَيَذْكُرَ أَنَّ لَهُ حَقًّا عَلَى رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ عَمَلِهِ، وَبَيِّنَتُهُ فِي هَذَا الْبَلَدِ، وَيَسْأَلَهُ مِنْهُمْ فَلَهُ ذَلِكَ.
وَمِنْهَا: إذَا أَوْصَى الْمَفْقُودُ لِرَجُلٍ بِوَصِيَّةٍ أَوْ أَوْصَى إلَيْهِ وَادَّعَى الْمُوصَى لَهُ بِذَلِكَ جَازَ لِلْقَاضِي أَنْ يَسْمَعَ مِنْ بَيِّنَةِ الْمُوصَى لَهُ وَيَثْبُتُ لَهُ حَقُّهُ قَبْلَ تَمْوِيتِ الْمَفْقُودِ، قَالَ ابْنُ حَبِيبٍ: وَقَالَ مُطَرِّفٌ وَابْنُ الْمَاجِشُونِ: لَا يَسْمَعُ مِنْ بَيِّنَتِهِ وَلَا يُشْهِدُ لَهُ عَلَى مَا ثَبَتَ عِنْدَهُ مِنْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ لَا يَجِبُ لِهَذَا إلَّا بَعْدَ أَنْ يَمُوتَ الْمَفْقُودُ، وَلَيْسَ مِنْ الصَّوَابِ أَنْ يَسْمَعَ الْقَاضِي مِنْ بَيِّنَةِ رَجُلٍ عَلَى أَمْرٍ لَا يَحْكُمُ لَهُ بِهِ الْيَوْمَ، وَإِنَّمَا يَنْبَغِي لِهَذَا أَنْ يُشْهِدَ عَلَى شَهَادَةِ شُهَدَائِهِ، وَأَصْلُ هَذَا أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي لِلْقَاضِي أَنْ يَقْبَلَ مِنْ أَحَدٍ بَيِّنَةً إلَّا عَلَى أَمْرٍ يُدَافِعُ عَنْهُ أَوْ يُخَاصِمُ فِيهِ أَوْ يَطْلُبُ أَخْذَهُ يَوْمَ تَقُومُ بَيِّنَتُهُ وَهُوَ شَأْنُ الْحُكَّامِ عِنْدَنَا، قَالَ ابْنُ حَبِيبٍ: وَهَذَا أَحَبُّ إلَيَّ وَبِهِ أَقُولُ.
وَمِنْهَا: قَالَ ابْنُ حَبِيبٍ قَالَ لِي مُطَرِّفٌ وَابْنُ الْمَاجِشُونِ فِي الرَّجُلِ يَكُونُ فِي يَدِهِ الْحُكْمُ مِنْ السُّلْطَانِ أَوْ الشِّرَاءُ لِمَنْزِلِهِ أَوْ عَبْدِهِ أَوْ مَا أَشْبَهَ ذَلِكَ فَيَقُومُ بِهِ إلَى سُلْطَانِ مَوْضِعِهِ؛ لِيَسْمَعَ مِنْ بَيِّنَتِهِ وَيُحْيِيَ لَهُ ذَلِكَ بِالْإِشْهَادِ عَلَيْهِ وَالْإِمْضَاءِ لَهُ، إنْ كَانَ الَّذِي بِيَدِهِ حُكْمًا فَلَا يَنْبَغِي لِلسُّلْطَانِ أَنْ يَفْعَلَ هَذَا لِأَحَدٍ حَتَّى يُعَارَضَ فِيهِ بِخُصُومَةٍ أَوْ دَعْوَى أَوْ مَا أَشْبَهَ ذَلِكَ، وَلَكِنْ يَأْمُرُ صَاحِبَهُ يُجِيبُهُ بِالْإِشْهَادِ عَلَى شُهَدَاءِ حَقِّهِ أَوْ شُهَدَاءِ كِتَابِهِ إنْ أَحَبَّ، إلَّا أَنْ يَكُونَ طَرَأَتْ لَهُ الْبَيِّنَةُ عَلَى ذَلِكَ الْحَقِّ مِنْ غَيْرِ ذَلِكَ الْبَلَدِ وَقَلَّ مَنْ يَعْرِفُهُمْ وَيُعَدِّلُهُمْ، فَيُسْأَلُ أَنْ يَسْمَعَ مِنْهُمْ قَبْلَ تَفَرُّقِهِمْ وَيُحْيِيَ لَهُ حَقَّهُ بِهِمْ قَبْلَ مَوْتِهِ وَفَوَاتِ مَنْ يَشْهَدُ لَهُ عَلَيْهِ؛ وَلِأَنَّهُ يَجِدُ الْآنَ مَنْ يُعَدِّلُ بِهِ شُهَدَاءَهُ الطَّارِئِينَ عَلَيْهِ عِنْدَ السُّلْطَانِ مِمَّنْ يَعْرِفُهُمْ السُّلْطَانُ، وَلَا يُمْكِنُهُ أَنْ يُجِيبَهُ لِذَلِكَ بِالْإِشْهَادِ عَلَى شَهَادَتِهِمْ؛ لِأَنَّ مَنْ يُشْهِدُهُ عَلَى شَهَادَتِهِمْ لَا يَعْرِفُونَهُمْ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُعَدِّلُهُمْ عِنْدَ أُولَئِكَ الَّذِينَ أَشْهَدَهُمْ عَلَى شَهَادَتِهِمْ، فَمِثْلُ هَذَا يَنْبَغِي لِلْإِمَامِ أَنْ يَنْظُرَ لَهُ فِيهِ وَيُحْيِيَ لَهُ حَقَّهُ وَيُشْهِدَ لَهُ عَلَى ذَلِكَ، وَيَذْكُرَ فِي كِتَابِ الْإِشْهَادِ أَنَّهُ لَمْ يُخَاصِمْهُ فِي ذَلِكَ أَحَدٌ وَلَا قَطَعَ بِهِ حُجَّةَ أَحَدٍ يَقُومُ بِهَا عَلَيْهِ فِيهِ بَعْدَ الْيَوْمِ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنْ تَحْقِيقِ الْحَقِّ، وَإِظْهَارِ مَا يُتَّقَى مِنْ عَوْرَةٍ فَيَنْظُرُ فِيهِ أَوْ يَكُونُ حُكْمًا قَدْ خَرَجَتْ وَثِيقَتُهُ وَأَشْفَى مِنْهَا عَلَى ذَهَابِهِ، وَلَا يَجِدُ السَّبِيلَ إلَى إحْيَائِهِ إلَّا بِالسُّلْطَانِ، فَإِنَّهُ يَنْظُرُ لَهُ فِي إحْيَائِهِ بِمَا يَرَى وَيُشْهِدُ فِيهِ أَنَّهُ لَمْ يُخَاصِمْهُ أَحَدٌ وَلَمْ يَقْطَعْ بِاَلَّذِي فَعَلَ حُجَّةَ أَحَدٍ يَدَّعِي فِيهِ حَقًّا بَعْدَ الْيَوْمِ.
وَمِنْهَا: قَالَ ابْنُ حَبِيبٍ قَالَ لِي أَصْبَغُ لَا يَنْبَغِي لِلْقَاضِي إذَا عُزِلَ الْوَصِيُّ لِأَمْرٍ كَرِهَهُ مِنْهُ أَوْ لِعُذْرٍ رَآهُ فِيهِ أَنْ يَكْتُبَ لَهُ بَرَاءَةً مِمَّا جَرَى عَلَى يَدَيْهِ قَبْلَ ذَلِكَ مِمَّا زَعَمَ أَنَّهُ أَنْفَقَهُ عَلَيْهِ، وَإِنْ أَتَاهُ عَلَى ذَلِكَ بِبَيِّنَةٍ فَلَا يَسْمَعُهَا حَتَّى يَبْلُغَ الْيَتِيمُ مَبْلَغَ الدَّفْعِ عَنْ نَفْسِهِ، وَلَكِنْ إنْ أَخَذَ الْقَاضِي مِنْهُ مَالًا لِيَتِيمٍ كَانَ فِي يَدَيْهِ عِنْدَ عَزْلِهِ إيَّاهُ كَتَبَ لَهُ بَرَاءَةً مِنْهُ وَأَخَذَهُ مِنْهُ.
وَمِنْهَا: أَنَّ مَنْ ادَّعَى عَلَى صَغِيرٍ أَوْ سَفِيهٍ بِدَيْنٍ مِنْ مُعَامَلَةٍ أَوْ بَيْعٍ أَوْ ابْتِيَاعٍ أَوْ سَلَفٍ فَلَا يُسْمَعُ الدَّعْوَى عَلَيْهِ وَلَا يُمَكَّنُ مِنْ إقَامَةِ الْبَيِّنَةِ وَقَدْ تَقَدَّمَ هَذَا.
وَمِنْهَا: أَنَّ مَنْ كَانَتْ لَهُ دَعْوَى فَأَجَّلَهَا الْحَاكِمُ وَأَعْذَرَ إلَيْهِ ثُمَّ عَجَزَهُ فَإِنَّهُ لَا تُسْمَعُ مِنْهُ بَعْدَ ذَلِكَ حُجَّةٌ وَلَا يُمَكِّنُهُ مِنْ إقَامَةِ بَيِّنَةٍ فِيمَا ادَّعَاهُ إلَّا فِي مَوَاضِعَ مَخْصُوصَةٍ ذَكَرْتهَا فِي فَصْلِ التَّعْجِيزِ.
وَمِنْهَا: أَنَّ مَنْ كَانَ مَعْلُومَ الْمَلَاءَةِ ظَاهِرَ الْغِنَى وَلِلنَّاسِ عَلَيْهِ دُيُونٌ ثُمَّ ادَّعَى الْفَلَسَ وَطَلَبَ أَنْ يُقِيمَ عَلَى فَقْرِهِ فَإِنَّ الْقَاضِيَ لَا يَسْمَعُ مِنْهُ بَيِّنَةً بِالْعُدْمِ، وَإِنَّمَا يَسْمَعُ بَيِّنَتَهُ بِأَنَّهُ ذَهَبَ مَا بِيَدِهِ، وَحُكْمُهُ الضَّرْبُ وَالْحَبْسُ حَتَّى يُؤَدِّيَ مَا عَلَيْهِ. وَمِنْهَا: أَنَّ مَنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ مُنَجَّمٌ أَدَّى بَعْضَهُ ثُمَّ ادَّعَى الْعَجْزَ فَلَا تُسْمَعُ بَيِّنَتُهُ إلَّا أَنْ يَأْتِيَ بِبَيِّنَةٍ عَلَى ذَهَابِ مَا بِيَدِهِ، ذَكَرَ هَذَا وَمَا قَبْلَهُ اللَّخْمِيُّ وَالْمَازِرِيُّ.
وَمِنْهَا الرَّجُلُ يُطَلِّقُ زَوْجَتَهُ ثُمَّ تَطْلُبُ مِنْهُ نَفَقَةَ أَوْلَادِهِ فَيَدَّعِي الْعَدَمَ، فَلَا تُسْمَعُ بَيِّنَتُهُ إلَّا أَنْ يَأْتِيَ بِبَيِّنَةٍ بِذَهَابِ مَا بِيَدِهِ؛ لِأَنَّهُ بِالْأَمْسِ كَانَ يُنْفِقُ عَلَيْهِمْ وَعَلَى زَوْجَتِهِ، فَهُوَ الْيَوْم أَقْدَرُ لِزَوَالِ نَفَقَةِ الزَّوْجَةِ عَنْهُ اُنْظُرْ اللَّخْمِيَّ.

.النَّوْعُ الثَّانِي مَنْ يُرِيدُ إقَامَةَ الْبَيِّنَةِ عَلَى صِحَّةِ مَا ادَّعَى بِهِ لِمُوَكِّلِهِ:

مَسْأَلَةٌ:
وَمَنْ وَكَّلَ وَكِيلًا عَلَى طَلَبِ عَبْدٍ لَهُ آبِقٍ فَأَدْرَكَهُ الْوَكِيلُ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي فَأَرَادَ أَنْ يُقِيمَ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ لِلَّذِي وَكَّلَهُ لَمْ يُمَكَّنْ مِنْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الرَّجُلَ قَدْ يُوَكَّلُ عَلَى طَلَبِ الْآبِقِ وَلَا يُوَكَّلُ عَلَى الْخُصُومَةِ فِيهِ، فلابد أَنْ يُثْبِتَ الْوَكَالَةَ عَلَى الْخُصُومَةِ فِيهِ وَأَنَّهُ هَذَا الْعَبْدُ بِعَيْنِهِ، وَيُشْهِدُوا عَلَى الصِّفَةِ كَمَا وَصَفَ لَهُمْ صَاحِبُ الْعَبْدِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَكُونُ لِلرَّجُلِ الْعَبْدُ فَيَبِيعُهُ ثُمَّ يَكُونُ لَهُ آخَرُ فَيَأْبَقُ، فَلَعَلَّ هَذَا الْعَبْدَ قَدْ بَاعَهُ سَيِّدُهُ وَلَيْسَ هُوَ الَّذِي أَبَقَ مِنْهُ.
قَالَ مُطَرِّفٌ وَابْنُ الْمَاجِشُونِ: وَلَوْ أَشْهَدَهُمْ أَنَّهُ قَدْ وَكَّلَهُ عَلَى الْخُصُومَةِ فِي كُلِّ عَبْدٍ لَهُ لَكَانَ جَائِزًا أَيْضًا وَتَتِمُّ الْوَكَالَةُ، ثُمَّ تَشْهَدُ الْبَيِّنَةُ لَهُ أَنَّ هَذَا الْعَبْدَ عَبْدُ فُلَانٍ لَا يَعْلَمُونَهُ بَاعَ وَلَا وَهَبَ ثُمَّ يَنْظُرُ السُّلْطَانُ فِي غَيْبَةِ الْمُوَكِّلِ وَلَا يَحْلِفُ الْوَكِيلُ، فَإِنْ كَانَتْ قَرِيبَةً يُجْلَبُ مِنْ مِثْلِهَا إلَى الْيَمِينِ أُمِرَ أَنْ يُؤْتَى بِهِ حَتَّى يَحْلِفَ، وَإِنْ كَانَتْ بَعِيدَةً كَتَبَ الْقَاضِي إلَى أُمَنَائِهِ بِاَلَّذِي ثَبَتَ عِنْدَهُ لِصَاحِبِ الْعَبْدِ وَأَمَرَ مَنْ كَتَبَ إلَيْهِ أَنْ يُحَلِّفَهُ مَا بَاعَ وَلَا وَهَبَ، وَيَفْعَلُ ذَلِكَ الْمَكْتُوبُ إلَيْهِ، وَيَقْضِي بِهِ لِلْمُوَكِّلِ.
وَقَالَ أَصْبَغُ: إنْ كَانَتْ الْغَيْبَةُ بَعِيدَةً جِدًّا قَضَى بِهِ لِلْمُوَكِّلِ وَلَمْ يُحْبَسْ عَلَيْهِ بِالْيَمِينِ.
مَسْأَلَةٌ:
وَإِذَا أَتَى الْوَكِيلُ إلَى الْقَاضِي بِشُهُودِ الْحَقِّ الَّذِي وُكِّلَ عَلَيْهِ وَأَرَادَ أَنْ يَسْمَعَ الْقَاضِي مِنْ بَيِّنَتِهِ قَبْلَ أَنْ تَثْبُتَ وَكَالَتُهُ عِنْدَهُ فَاخْتُلِفَ فِي سَمَاعِهَا، فَأَمَّا ابْنُ الْقَاسِمِ فَقَالَ: إنْ خَافَ أَنْ يُجْرَحَ الشُّهُودُ وَكَانَ لِمَا سَأَلَهُ وَجْهٌ سَمِعَ بَيِّنَتَهُ ثُمَّ يُثْبِتُ الْوَكَالَةَ بَعْدَ ذَلِكَ وَإِلَّا لَمْ يَسْمَعْهَا حَتَّى تَثْبُتَ وَكَالَتُهُ. وَأَمَّا عَلَى قَوْلِ مُطَرِّفٍ وَابْنِ الْمَاجِشُونِ: أَنَّ الْقَاضِيَ لَا يَقْبَلُ مِنْ أَحَدٍ بَيِّنَةً إلَّا فِي حَالٍ يُحْكَمُ بِهَا لِلطَّالِبِ أَوْ يُدْفَعُ عَنْ الْمَطْلُوبِ، فَإِنَّهُ لَا يَسْمَعُ الْبَيِّنَةَ حَتَّى يُثْبِتَ وَكَالَتَهُ، وَإِنْ خَشِيَ غَيْبَتَهُمْ أَشْهَدَ عَلَى شَهَادَتِهِمْ.
مَسْأَلَةٌ:
وَإِذَا وَكَّلَتْ الْمَرْأَةُ رَجُلًا عَلَى عَقْدِ نِكَاحِهَا مِنْ رَجُلٍ فَعَقَدَهُ ثُمَّ قَامَ عَلَى الزَّوْجِ يَطْلُبُهُ بِالْحَالِ مِنْ صَدَاقِهَا، وَطَلَبَ مُخَاصَمَتَهُ فِي ذَلِكَ عِنْدَ الْقَاضِي، وَأَرَادَ إقَامَةَ الْبَيِّنَةِ أَنَّهُ وَكِيلُهَا لَمْ تُسْمَعْ دَعْوَاهُ وَلَا بَيِّنَتُهُ إلَّا أَنْ يَأْتِيَ بِبَيِّنَةٍ تَشْهَدُ لَهُ عَلَى التَّوْكِيلِ فِي قَبْضِ الصَّدَاقِ؛ لِأَنَّ عَقْدَ النِّكَاحِ لَا يَسْتَلْزِمُ قَبْضَ الصَّدَاقِ.
مَسْأَلَةٌ:
وَكَذَلِكَ الْوَكِيلُ عَلَى بَيْعِ الدَّارِ أَوْ الْعَقَارِ إذَا أَرَادَ قَبْضَ الثَّمَنِ مِنْ الْمُشْتَرِي، وَأَرَادَ أَنْ يُقِيمَ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ وَكِيلٌ عَلَى الْبَيْعِ لَمْ يُمَكَّنْ مِنْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْعُرْفَ وَالْعَادَةَ أَنَّ وَكِيلَ الْبَيْعِ فِي الدَّارِ وَالْعَقَارِ لَا يَقْبِضُ الثَّمَنَ فَلَيْسَ لَهُ ذَلِكَ إلَّا بِتَوْكِيلٍ خَاصٍّ عَلَى قَبْضِ الثَّمَنِ، إلَّا أَنْ يَكُونَ أَهْلُ بَلَدٍ جَرَتْ عَادَتُهُمْ بِأَنْ مُتَوَلِّي الْبَيْعِ يَتَوَلَّى قَبْضَ الثَّمَنِ فَيُجْزِئُهُ إقَامَةُ الْبَيِّنَةِ عَلَى الْوَكَالَةِ عَلَى الْبَيْعِ، وَهَذَا بِخِلَافِ الْوَكِيلِ عَلَى بَيْعِ السِّلَعِ فَإِنَّ لَهُ قَبْضَ الثَّمَنِ وَالْمُطَالَبَةَ بِهِ (اُنْظُرْ التَّقْيِيدَ عَلَى التَّهْذِيبِ وَالطُّرَرَ عَلَيْهِ أَيْضًا فِي كِتَابِ النِّكَاحِ مِنْ الْمُدَوَّنَةِ فِي بَابِ الصَّدَاقِ).
مَسْأَلَةٌ:
وَفِي أَحْكَامِ ابْنِ سَهْلٍ وَسُئِلَ سَحْنُونٌ عَمَّنْ وَكَّلَ رَجُلًا عَلَى مُخَاصَمَةِ رَجُلٍ فَلَمْ يَقُمْ الْوَكِيلُ بِذَلِكَ إلَّا بَعْدَ سَنَتَيْنِ، وَقَدْ أَنْشَبَ الْخُصُومَةَ قَبْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ أَتَى بِالْبَيِّنَةِ أَوْ لَمْ يُنْشِبْ خُصُومَةً وَلَمْ يَعْرِضْ فِي شَيْءٍ حَتَّى مَرَّتْ بِهِ السَّنَتَانِ ثُمَّ قَامَ بَعْدَهُمَا يَطْلُبُ بِتِلْكَ الْوَكَالَةِ الْقَدِيمَةِ فَهَلْ لَهُ أَنْ يُقِيمَ الْبَيِّنَةَ، وَيُخَاصِمَ فِي ذَلِكَ أَمْ يُجَدِّدَ الْوَكَالَةَ؟ فَقَالَ سَحْنُونٌ: يَبْعَثُ الْحَاكِمُ إلَى الْمُوَكِّلِ يَسْأَلُهُ أَهُوَ عَلَى وَكَالَتِهِ أَوْ خَلَعَهُ عَنْهَا، وَإِنْ كَانَ الْمُوَكِّلُ غَائِبًا فَهُوَ عَلَى وَكَالَتِهِ. قَالَ ابْنُ سَهْلٍ: رَأَيْت بَعْضَ شُيُوخِنَا يَسْتَكْثِرُ إمْسَاكَهُ عَنْ الْخُصُومَةِ سِتَّةَ أَشْهُرٍ أَوْ نَحْوَهَا، وَيَرَى تَجْدِيدَ الْوَكَالَةِ إنْ أَرَادَ الْخُصُومَةَ.

.النَّوْعُ الثَّالِثُ مَنْ يُرِيدُ إقَامَةَ الْبَيِّنَةِ لِصِحَّةِ مَا ادَّعَى بِهِ لِقَرِيبِهِ أَوْ جَارِهِ:

قَالَ ابْنُ حَبِيبٍ وَأَخْبَرَنِي مُطَرِّفٌ عَنْ مَالِكٍ فِي الرَّجُلِ يَتَعَلَّقُ بِالرَّجُلِ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ فَيَدَّعِي أَنَّ لِأَبِيهِ عَلَيْهِ دَيْنًا أَنَّهُ يُمَكَّنُ مِنْ إيقَاعِ الْبَيِّنَةِ عَلَيْهِ بِغَيْرِ تَوْكِيلٍ. قَالَ مُطَرِّفٌ: وَذَلِكَ إذَا كَانَ الْمُدَّعِي لَهُ قَرِيبًا، فَإِذَا أَتَى بِالْبَيِّنَةِ أَعْذَرَ إلَيْهِ السُّلْطَانُ بِالْمَالِ فَأَتَى بِهِ وَوَقَفَهُ لِلْغَائِبِ وَضَرَبَ لَهُ أَجَلًا، فَإِنْ جَاءَ فَطَلَبَهُ أَخَذَهُ، وَإِنْ قَالَ: كُنْتُ تَقَاضَيْتُهُ أَوْ لَمْ يَأْتِ الْأَجَلُ رُدَّ إلَى الْغَرِيمِ، وَإِنْ كَانَ بَعِيدًا لَمْ يُوقَفْ لَهُ شَيْءٌ وَلَمْ يَعْرِضْ لِلْغَرِيمِ إلَّا بِتَوْكِيلٍ يَثْبُتُ لِلْوَلَدِ تَفْوِيضٌ إلَيْهِ فِي أُمُورِ أَبِيهِ وَالْقِيَامُ لَهُ، وَلَوْ كَانَ مُقِرًّا بِالدَّيْنِ تُرِكَ وَلَمْ يَعْرِضْ لَهُ كَانَتْ غَيْبَةُ الْأَبِ قَرِيبَةً أَوْ بَعِيدَةً، إلَّا أَنْ يَثْبُتَ تَوْكِيلُ الْوَلَدِ فَيَأْخُذَهُ، وَلَوْ كَانَ حِينَ عَجَزَ الْغَرِيمُ عَنْ الدَّفْعِ وَمُكِّنَ الْمُدَّعِي مِنْ إقَامَةِ الْبَيِّنَةِ أَقَامَ شَاهِدًا وَاحِدًا وَعَجَزَ عَنْ الْآخَرِ حَلَفَ الْغَرِيمُ بِاَللَّهِ أَنَّهُ بَرِيءٌ مِنْ هَذَا الدَّيْنِ، فَإِنْ حَلَفَ بَرِئَ إلَّا مِنْ الْعُرْضَةِ لَهُ، فَإِذَا قَدِمَ الْغَائِبُ حَلَفَ مَعَ شَاهِدِهِ وَاتَّبَعَهُ بِهَذَا الْحَقِّ، وَإِنْ لَمْ يَحْلِفْ صَاحِبُ الْحَقِّ فَعَنْ حَقِّهِ نَكَلَ. أَمَّا لَوْ نَكَلَ الْغَرِيمُ عَنْ الْيَمِينِ أُخِذَ مِنْهُ الْحَقُّ مُعَجَّلًا ثُمَّ أُوقِفَ الْمَالُ كَمَا تَقَدَّمَ، فَإِذَا قَدِمَ الْغَائِبُ أَخَذَهُ بِلَا يَمِينٍ.
مَسْأَلَةٌ:
قَالَ ابْنُ حَبِيبٍ قَالَ مُطَرِّفٌ: فِي رَجُلٍ ادَّعَى عِنْدَ الْقَاضِي أَنَّ مَنْزِلًا لِابْنِ عَمِّهِ أَوْ قَرْيَةً لِجَارٍ لَهُ غَائِبٍ فِي يَدِ رَجُلٍ قَدْ خَشِيَ عَلَيْهِ التَّوَاءَ وَالْهَلَاكَ، فَسَأَلَ الْقَاضِي تَوْكِيلَهُ لَهُ؛ لِيُخَاصِمَهُ فِي ذَلِكَ، فَإِنَّ مَالِكًا كَتَبَ فِي هَذَا إلَى ابْنِ غَانِمٍ الْقَاضِي بِإِفْرِيقِيَةَ أَنْ لَا يَقْبَلَ لِلْقَائِمِ حُجَّةً إلَّا بِوَكَالَةٍ مِنْ الْغَائِبِ.
وَقَالَ أَصْبَغُ: كَذَلِكَ سَمِعْت ابْنَ الْقَاسِمِ يَقُولُ، وَيَذْكُرُهُ عَنْ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ وَزَادَ ابْنُ الْقَاسِمِ: وَلَا بَأْسَ عَلَى الْقَاضِي بِأَنْ يَأْمُرَ الَّذِي يَرْفَعُ إلَيْهِ ذَلِكَ بِأَنْ يُثْبِتَ مَالَ الْغَائِبِ عِنْدَهُ بِالْبَيِّنَةِ وَيَسْمَعَ مِنْهَا، وَيَكْتُبَ لِلْغَائِبِ بِذَلِكَ كِتَابًا، وَيَطْبَعَ عَلَيْهِ وَيُشْهِدَ لَهُ بِمَا فِيهِ، فَمَتَى قَامَ الْغَاصِبُ يَوْمًا عِنْدَ هَذَا الْقَاضِي الَّذِي كَتَبَ لَهُ بِذَلِكَ أَوْ عِنْدَ غَيْرِهِ وَإِنْ كَانَ قَدْ مَاتَ شُهُودُهُ، أَنْفَذَ لَهُ ذَلِكَ الْكِتَابَ بِمَا أَشْهَدَ الْقَاضِي مِنْ ثَبَاتِهِ.
مَسْأَلَةٌ:
فِي الرَّجُلِ يَهْلِكُ بِالْقَيْرَوَانِ وَيَتْرُكُ زَوْجَتَهُ وَأَخًا لَهُ غَائِبًا بِالْأَنْدَلُسِ وَيُخَلِّفُ مَتَاعًا وَحَيَوَانًا وَدُورًا، فَأَرَادَتْ الْمَرْأَةُ بَيْعَ ذَلِكَ وَادَّعَتْهُ، فَقَامَ وَلَدُ الْأَخِ الْغَائِبِ فَطَلَبَ مَنْ يُثْبِتُ ذَلِكَ لِلْمَيِّتِ فَقَالَ مَالِكٌ: إذَا ثَبَتَ عِنْدَ الْقَاضِي أَنَّ الْهَالِكَ مَاتَ وَأَخُوهُ حَيٌّ فَإِنَّهُ يُمَكَّنُ هَذَا الْقَائِمُ مِنْ مُخَاصَمَةِ الْمَرْأَةِ وَإِثْبَاتِ ذَلِكَ لِلْمَيِّتِ، فَمَا ثَبَتَ مِمَّا يَصِيرُ لِلْغَائِبِ لَمْ يُدْفَعْ لِوَلَدِهِ وَلَكِنْ يُوقَفُ لَهُ.
مَسْأَلَةٌ:
وَأَمَّا الْأَخُ يَقُومُ لِأَخِيهِ وَالْجَارُ يَقُومُ لِجَارِهِ فَلَيْسَ لَهُمَا ذَلِكَ، إلَّا أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ فِي الْعَبْدِ أَوْ الدَّابَّةِ أَوْ الثَّوْبِ يَدَّعِيهِ فِي يَدِ الرَّجُلِ لِأَبِيهِ أَوْ لِابْنِهِ أَوْ لِأَخِيهِ أَوْ لِجَارِهِ عَلَى وَجْهِ الْحِسْبَةِ وَالْحَبْسِ عَلَيْهِمْ، وَكُلُّهُمْ غَائِبٌ فَأَرَى أَنْ يُمَكَّنَ فِي مِثْلِ هَذَا مِنْ إيقَاعِ الْبَيِّنَةِ لِهَؤُلَاءِ كُلِّهِمْ؛ لِأَنَّ هَذِهِ أَشْيَاءُ تَفُوتُ وَتُحَوَّلُ وَتَغِيبُ، فَإِنْ أَقَامَ بَيِّنَةً قَاطِعَةً أَوْ شَاهِدًا وَاحِدًا ادَّعَاهُ السُّلْطَانُ بِحَمِيلِ قِيمَةِ ذَلِكَ الشَّيْءِ بَعْدَ أَنْ يَذْكُرَ صِفَتَهُ فِي كِتَابٍ وَيُشْهِدَ عَلَيْهِ كَمَا يُشْهِدُ عَلَى الْحُكْمِ، وَيَضْرِبُ فِيهِ أَجَلًا لِلْغَائِبِ، فَإِنْ أَبَى إلَى ذَلِكَ الْأَجَلِ حَلَفَ بِاَللَّهِ مَا بَاعَ وَلَا وَهَبَ وَلَا خَرَجَ عَنْ مِلْكِهِ وَلَا عَنْ يَدِهِ بِوَجْهِ حَقٍّ، وَيَأْخُذُهُ إذَا كَانَ قَدْ قَامَتْ لَهُ شَهَادَةٌ قَاطِعَةٌ، وَإِنْ كَانَ إنَّمَا قَامَ لَهُ شَاهِدٌ وَاحِدٌ حَلَفَ مَعَ شَاهِدِهِ أَنَّ حَقَّهُ لَحَقٌّ وَأَنَّهُ مَا بَاعَ وَلَا وَهَبَ وَلَا خَرَجَ ذَلِكَ مِنْ يَدِهِ بِوَجْهِ حَقٍّ.
وَقَالَ ابْنُ الْمَاجِشُونِ: لَسْت أَرَى أَنْ أُمَكِّنَ أَحَدًا مِنْ إيقَاعِ الْبَيِّنَةِ عَلَى أَحَدٍ بِدَعْوَاهُ عَلَيْهِ لِغَيْرِ نَفْسِهِ لَا لِأَبٍ وَلَا لِوَلَدٍ وَلَا لِجَارِهِ لَا لِأَخٍ فِي دَيْنٍ وَلَا فِي حَيَوَانٍ وَلَا فِي عَرَضٍ كَانَتْ غَيْبَةُ الْمُدَّعَى لَهُ قَرِيبَةً أَوْ بَعِيدَةً، وَلَا يَعْرِضُ لِلْمُدَّعِي ذَلِكَ عَلَيْهِ إلَّا بِوَكَالَةٍ لِلْقَائِمِ فِي ذَلِكَ، وَأَمَّا أَصْبَغُ فَذَهَبَ مُطَرِّفٌ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ إلَّا أَنَّهُ قَالَ فِي دَعْوَى الْوَلَدِ لِأَبِيهِ بِالدَّيْنِ إنْ كَانَتْ غَيْبَةُ الْأَبِ بَعِيدَةً وَقَدْ أَثْبَتَهُ الْوَلَدُ بِالْبَيِّنَةِ فَطُولُ غَيْبَتِهِ كَمَوْتِهِ يَقْبِضُهُ السُّلْطَانُ وَيُوقِفُهُ مَعَ مَالِهِ، قَالَ ابْنُ حَبِيبٍ: وَقَوْلُ مُطَرِّفٍ أَحَبُّ إلَيَّ وَبِهِ أَقُولُ.

.النَّوْعُ الرَّابِعُ مَنْ يُرِيدُ إقَامَةَ الْبَيِّنَةِ لِصِحَّةِ مَا ادَّعَى بِهِ لِلْغَائِبِ:

أَوْ لِغَيْرِهِ عَلَى وَجْهِ الْحِسْبَةِ قَالَ فَضْلُ بْنُ سَلَمَةَ: وَقَدْ حَكَى ابْنُ عَبْدُوسٍ لِابْنِ كِنَانَةَ فِي مَالِ الْغَائِبِ إذَا كَانَ بِيَدِ رَجُلٍ بِغَيْرِ خِلَافَةٍ، فَهَلْ يُمَكَّنُ أَحَدٌ مِنْ الْقِيَامِ فِيهِ بِغَيْرِ وَكَالَةٍ؟ فَقَالَ ذَلِكَ إلَى اجْتِهَادِ الْإِمَامِ وَنَظَرِهِ، وَهَذَا خِلَافُ مَا ذَهَبَ إلَيْهِ أَصْحَابُ مَالِكٍ. قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: وَلَوْ جَهِلَ الْإِمَامُ فَأَمَرَهُ بِالْمُخَاصَمَةِ فَحَكَمَ عَلَى الْقَائِمِ لَمْ يَجُزْ ذَلِكَ عَلَى الْغَائِبِ، وَلَا لَهُ.
وَقَالَ ابْنُ نَافِعٍ مِثْلَهُ.
مَسْأَلَةٌ:
قَالَ فَضْلٌ: وَقَدْ حَكَى ابْنُ عَبْدُوسٍ أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ أَنْعُمٍ قَاضِي أَفْرِيقِيَّةَ كَانَ يَفْعَلُ فِيمَنْ رَفَعَ إلَيْهِ مَالَ غَائِبٍ أَنَّهُ بِيَدِ غَيْرِهِ أَنَّهُ يُوَكِّلُهُ عَلَى الْقِيَامِ فِيهِ وَيُمَكِّنُهُ مِنْ مُخَاصَمَتِهِ، فَسُئِلَ مَالِكٌ عَنْ ذَلِكَ فَلَمْ يَرَهُ وَذَلِكَ لِطُولِ الزَّمَانِ وَدُرُوسِ الْعِلْمِ، قَالَ فَضْلٌ: وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَعْنَى قَوْلِ مَالِكٍ: أَنَّهُ لَوْ كَانَ فِيمَا قَرُبَ لَأَمْكَنَهُ مِنْ مُخَاصَمَتِهِ.
مَسْأَلَةٌ:
وَقَدْ حَكَى ابْنُ عَبْدُوسٍ فِي الْغَائِبِ يَخْرُجُ فِي سَفَرِهِ فَيُخَلِّفُ عَقَارًا أَوْ مَالًا أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ فَيَصِيرُ بِيَدِ رَجُلٍ بِغَيْرِ خِلَافَةٍ هَلْ يَنْزِعُهُ الْقَاضِي مِنْهُ وَيُوَكِّلُ عَلَيْهِ؟ فَقَالَ: إنْ كَانَ تَرَكَهُ بِيَدِ زَوْجَتِهِ وَوَلَدِهِ فَلَا يَعْرِضُ لَهُمْ فِيهِ، وَإِنْ كَانَ لَمْ يَتْرُكْهُ بِيَدِ أَحَدٍ فَقَامَ رَجُلٌ فَأَخَذَهُ فَإِنَّ الْقَاضِيَ يَنْزِعُهُ مِنْهُ وَيُوَكِّلُ لِلْغَائِبِ عَلَيْهِ، وَلَا يُمَكَّنُ أَهْلُ الْعَدَاءِ مِنْ عَدَائِهِمْ.
مَسْأَلَةٌ:
قَالَ ابْنُ حَبِيبٍ قَالَ أَصْبَغُ وَمُطَرِّفٌ: فِي الْأَرْضِ تَكُونُ لِلْغَائِبِ بِيَدِ الرَّجُلِ بِخِلَافَةٍ أَوْ بِغَيْرِ خِلَافَةٍ، لَا أَرَى لِسُلْطَانٍ أَنْ يَتَوَثَّقَ لِلْغَائِبِ مِنْهَا إنْ رُفِعَ ذَلِكَ إلَيْهِ، وَلَا يُمَكِّنُ أَحَدًا يُخَاصِمُ فِيهَا إلَّا بِوَكَالَةٍ، وَلَا يَقْبَلُهَا مِمَّنْ هِيَ بِيَدِهِ إنْ تَبَرَّأَ مِنْهَا إلَيْهِ، وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُشْهِدَ شُهُودًا عَلَى إقْرَارِ الْمُدَّعِي الَّذِي هِيَ فِي يَدِهِ أَنَّهَا لَيْسَتْ لَهُ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يُقِرُّ بِهَا لِمَنْ لَيْسَتْ لَهُ، فَيَكُونُ إشْهَادُ السُّلْطَانِ عَلَى إقْرَارِهِ حُجَّةً لِلْمُبْطِلِ، وَوَهْنًا لِلْمُحِقِّ، وَكَذَلِكَ وَرَثَتُهُ مِنْ بَعْدِهِ، وَلَا يَعْرِضُ لَهُمْ فِيمَا فِي أَيْدِيهِمْ مِنْ ذَلِكَ، قَالَ أَصْبَغُ: إلَّا أَنْ يَكُونَ هَذَا الْمُتَبَرِّي الْمُقِرُّ عَاجِزًا عَنْ وِلَايَتِهَا، فَإِنَّ لِلسُّلْطَانِ أَنْ يَأْمُرَهُ بِالْإِشْهَادِ عَلَى نَفْسِهِ بِمَا أَقَرَّ وَرَفْعِهِ إلَى الْحَاكِمِ ثُمَّ يُوَلِّيهَا الْقَاضِي مَنْ رَأَى لِلْغَائِبِ بِغَيْرِ حُكْمٍ وَلَا إشْهَادٍ مِنْهُ بِأَنَّهَا لَهُ إلَّا عَلَى حَالِ تَخْلِيَةِ هَذَا مِنْهَا، فَإِنْ جَاءَ طَالِبٌ سِوَاهُ لَمْ يُبْطِلْ عَنْهُ بِذَلِكَ شَيْئًا مِنْ حُجَّتِهِ.
قَالَ ابْنُ حَبِيبٍ قَالَ مُطَرِّفٌ وَأَصْبَغُ: وَلَوْ كَانَتْ الْأَرْضُ لَيْسَتْ بِيَدِ أَحَدٍ وَلَا يَدَّعِيهَا أَحَدٌ وَرَفَعَ إلَيْهِ الْعُدُولُ أَنَّ صَاحِبَهَا خَرَجَ عَنْهَا وَيُسَمُّونَهُ وَيَنْسُبُونَهُ، وَأَنَّهُ تَرَكَهَا هَكَذَا، وَقَدْ تَطَاوَلَ أَمْرُهَا وَخِيفَ أَنْ يَذْهَبَ حَقُّهُ فِيهَا فَلْيُوَكِّلْ عِنْدَ ذَلِكَ وَكِيلًا لِلْغَائِبِ وَيُشْهِدْ لَهُ بِهَا، وَلَوْ كَانَ إنَّمَا رَفَعَ إلَيْهِ ذَلِكَ مَنْ لَا تَجُوزُ شَهَادَتُهُ لَمْ يَنْبَغِ أَنْ يَعْرِضَ لَهَا بِتَوْكِيلٍ وَلَا بِإِشْهَادٍ خَوْفًا مِنْ أَنْ تَكُونَ لِغَيْرِ الَّذِي سُمِّيَتْ لَهُ، فَيَكُونُ إيقَافُ السُّلْطَانِ ذَلِكَ لَهُ وَفِعْلُهُ إنْ جَاءَ صَاحِبُهَا وَحِيلَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا شَبِيهًا بِالْحُكْمِ، أَوْ تَكُونَ أَرْضًا لِصَغِيرٍ لَا وَلِيَّ لَهُ فَيَنْبَغِي أَنْ يُوَلِّيَ عَلَيْهَا وَلِيًّا يَنْظُرُ فِيهَا وَفِي غَيْرِهَا مِنْ مَالِهِ.
مَسْأَلَةٌ:
وَإِذَا قَامَ مُحْتَسِبٌ لِلْغَائِبِ فَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ فِي شَيْءٍ تَسَوَّرَ فِيهِ عَلَى الْغَائِبِ فِي دَارِهِ أَوْ عَقَارِهِ أَوْ فِي عَيْبٍ أَحْدَثَ عَلَيْهِ فِي مِلْكِهِ أَوْ ضَرَرٍ أُحْدِثَ عَلَيْهِ فَالْحُكْمُ فِي الْقِيَامِ فِي الْعَيْبِ وَالضَّرَرِ مِثْلُ مَا تَقَدَّمَ فِي حُكْمِ الْوَلَدِ وَالْوَالِدِ وَالْجَارِ وَالْأَجْنَبِيِّ، وَمَنْ لَهُ إقَامَةُ الْبَيِّنَةِ، وَمَنْ لَا يُمَكِّنُهُ الْحَاكِمُ مِنْ الدَّعْوَى فِي مِثْلِ ذَلِكَ عَلَى مَا سَبَقَ مِنْ الِاخْتِلَافِ. وَانْظُرْ: لَوْ قَامَ مُحْتَسِبٌ فِيمَا تَسَوَّرَ عَلَى حَبْسٍ عَلَى الْفُقَرَاءِ أَوْ فِيمَا تَقَدَّمَ فِي النَّوْعِ الثَّالِثِ فِي مَسْأَلَةِ ابْنِ غَانِمٍ، وَمَا ذَكَرَهُ ابْنُ الْقَاسِمِ فِيهَا وَفِيمَا ذَكَرَهُ فِي هَذَا النَّوْعِ مَا يُؤْخَذُ مِنْهُ الْحُكْمُ فِي ذَلِكَ فَتَدَبَّرْهُ.

.النَّوْعُ الْخَامِسُ مَنْ يُرِيدُ إقَامَةَ الْبَيِّنَةِ لِصِحَّةِ مَا ادَّعَى بِهِ لِمَنْ هُوَ تَحْتَ وِلَايَتِهِ:

مَسْأَلَةٌ:
لَيْسَ لِلْأَبِ وَلَا لِلْوَصِيِّ الْقِيَامُ عَمَّنْ فِي نَظَرِهِمَا مِنْ ابْنَتِهِ أَوْ يَتِيمَتِهِ إذَا أَضَرَّ بِهَا زَوْجُهَا فِي نَفْسِهَا إلَّا بِتَوْكِيلِهَا، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُقِيمَ الْبَيِّنَةَ أَنَّهَا تَحْتَ حَجْرِهِ وَوِلَايَتِهِ وَيَدَّعِي لَهَا؛ لِأَنَّ لَهَا الرِّضَا بِاحْتِمَالِ الضَّرَرِ، وَإِنْ كَانَتْ مُوَلًّى عَلَيْهَا وَلَيْسَ لِلْأَبِ وَلَا لِلْوَصِيِّ فِي ذَلِكَ اعْتِرَاضٌ مِنْ (الْمُتَيْطِيَّةِ) فِي بَابِ الْأَخْذِ بِالشُّرُوطِ.
مَسْأَلَةٌ:
وَإِذَا أَقَامَتْ الزَّوْجَةُ الْمُوَلَّى عَلَيْهَا عِنْدَ زَوْجِهَا ثَمَانِ سِنِينَ أَوْ سَبْعَ سِنِينَ ثُمَّ أَرَادَ أَبُوهَا أَنْ يُطَالِبَ زَوْجَهَا بِالْكَالِئِ أَوْ بِغَيْرِهِ مِنْ حُقُوقِهِمَا لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ إلَّا بِتَوْكِيلِهَا لَهُ، إلَّا أَنْ يَتَّصِلَ سَفَهُهَا وَسُوءُ حَالِهَا وَتَبْذِيرُهَا لِمَالِهَا.
النَّوْعُ السَّادِسُ مَنْ يُرِيدُ إقَامَةَ الْبَيِّنَةِ لِصِحَّةِ مَا ادَّعَى بِهِ لِنَفْسِهِ وَلِغَيْرِهِ قَالَ ابْنُ حَبِيبٍ قَالَ لِي ابْنُ الْمَاجِشُونِ: فِي الْوَارِثِ يَطْلُبُ حَقًّا أَوْ مِيرَاثًا لَهُ وَلِشَرِكَتِهِ، أَنَّهُ يُمَكَّنُ مِنْ الْخُصُومَةِ فِي ذَلِكَ فَإِنْ قُضِيَ عَلَيْهِ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ قَضَاءً عَلَى الْغَائِبِ إلَّا بِتَوْكِيلٍ مِنْهُمْ لَهُ عَلَى طَلَبِ ذَلِكَ، وَإِنْ قُضِيَ لَهُ وَأَحْيَا مَا طَلَبَ قُضِيَ لَهُ بِحَظِّهِ فَقَطْ وَتَرَكَ حَظَّ الْغَائِبِ فِي يَدِ الْمَطْلُوبِ يَصْنَعُ فِيهِ مَا شَاءَ، يَطَأُ وَيُقَبِّلُ وَيَبِيعُ وَيَحْكُمُ كَمَا يَحْكُمُ فِي مَالِهِ، فَإِنْ قَدِمَ الْغُيَّبُ أَوْ وَرَثَتُهُمْ فَأَرَادَ أَخْذَ ذَلِكَ بِالْحُكْمِ الْأَوَّلِ أَخَذُوهُ بِلَا اسْتِيفَاءٍ وَلَا خُصُومَةٍ وَلَا شَيْءٍ. فَإِنْ قَالُوا: لَا حَقَّ لَنَا فِيهِ تُرِكَ فِي يَدِ الَّذِي هُوَ فِي يَدِهِ إلَّا أَنْ يَكُونَ أَحَدٌ مِنْهُمْ مُفْلِسًا قَدْ قَامَ عَلَيْهِ غُرَمَاؤُهُ فَلَا يَدْفَعُ عَنْ نَفْسِهِ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ، وَهُوَ حَقٌّ قَدْ وَجَبَ لَهُ عَنْ أَبِيهِ.
قَالَ ابْنُ حَبِيبٍ: وَزَادَ مُطَرِّفٌ فِي نَصِيبِ الْغُيَّبِ مِنْ الْوَرَثَةِ أَنَّهُ لَا يُورَثُ عَنْهُمْ إنْ مَاتُوا قَبْلَ قُدُومِهِمْ، وَلَا تُقْضَى مِنْهُ دُيُونُهُمْ، وَإِنْ لَمْ يُعْرَفْ لَهُمْ مَالٌ سِوَاهُ، حَتَّى تُعْرَفَ دَعْوَاهُمْ لَهُ وَطَلَبُهُمْ إيَّاهُ، قَالَ ابْنُ حَبِيبٍ: وَقَوْلُ ابْنِ الْمَاجِشُونِ أَحَبُّ إلَيَّ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ لِوَرَثَةِ الْغُيَّبِ إذَا طَلَبُوهُ وَإِنْ لَمْ يُعْلَمْ لِآبَائِهِمْ فِي ذَلِكَ دَعْوَى؛ لِأَنَّ رَجُلًا لَوْ قَامَ يَطْلُبُ دَارًا هَلَكَ عَنْهَا جَدُّهُ، وَقَدْ مَاتَ أَبُوهُ فَجَرَّ إلَى نَفْسِهِ مِيرَاثَ أَبِيهِ مِنْ تِلْكَ الدَّارِ فَذَلِكَ لَهُ إذَا أَحَقَّهَا، فَكَذَلِكَ هَذَا، قَالَ فَضْلُ بْنُ سَلَمَةَ إنْ قُضِيَ عَلَى الْغَائِبِ الْمُدَّعِي لِنَفْسِهِ وَلِغَيْرِهِ ثُمَّ قَدِمَ الْغَائِبُ فَإِنْ جَاءَ بِحُجَّةٍ مِثْلَ الْأَوَّلِ لَمْ يُمَكَّنْ مِنْ الْخُصُومَةِ وَلَا مِنْ إقَامَةِ الْبَيِّنَةِ، إلَّا أَنْ يَأْتِيَ بِحُجَّةٍ أَوْ بَيِّنَةٍ غَيْرِ مَا جَاءَ بِهِ الْأَوَّلُ فَيُمَكَّنُ. وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ الْقَاسِمِ وَأَصْحَابِ مَالِكٍ رَحِمَهُمُ اللَّهُ.
وَفِي مُخْتَصَرِ الْوَاضِحَةِ مَزِيدُ بَيَانٍ وَاخْتِلَافٍ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ.
مَسْأَلَةٌ:
وَفِي سَمَاعِ أَصْبَغَ قُلْت: فَإِذَا قَامَ رَجُلٌ يَطْلُبُ شَيْئًا لِلْعَامَّةِ وَهُوَ وَاحِدٌ مِنْهُمْ وَخَاصَمَ فِيهِ فَرَأَى الْقَاضِي أَنْ لَا حَقَّ لِلْعَامَّةِ فِي ذَلِكَ وَقَضَى بِهِ لِلْخَصْمِ كَيْفَ يَكْتُبُ الْحَاكِمُ أَعَلَى الْعَامَّةِ أَمْ عَلَى الْقَائِمِ، فَمَرَّةً قَالَ عَلَيْهِمْ وَمَرَّةً قَالَ عَلَيْهِ وَحْدَهُ، وَيَذْكُرُ فِيهِ أَنَّهُ قَامَ يَطْلُبُ لِلْعَامَّةِ كَذَا فَلَمْ أَرَ لَهُ حَقًّا وَحَكَمْت عَلَيْهِ، فَإِنْ قَامَ أَحَدٌ بَعْدَ ذَلِكَ يُرِيدُ مُخَاصَمَةَ الْمَقْضِيَّ لَهُ سَمِعَ الْقَاضِي مِنْ حُجَّتِهِ وَمِنْ بَيِّنَتِهِ، وَإِنْ قَالَ كَقَوْلِ الْمَقْضِيِّ عَلَيْهِ حَكَمَ عَلَيْهِ وَأَلْحَقَهُ بِهِ، وَلَمْ يَسْمَعْ حُجَّتَهُ وَلَا مِنْ بَيِّنَتِهِ، وَإِنْ جَاءَ بِغَيْرِ ذَلِكَ نَظَرَ لَهُ فِيهِ أَيْضًا وَلَا يُعَجَّزُ.
مَسْأَلَةٌ:
وَكَذَلِكَ قَالَ مَالِكٌ فِي أَحَدِ الشُّرَكَاءِ فِي الشَّيْءِ يُقْضَى عَلَيْهِ ثُمَّ يَقُومُ أَحَدُ شُرَكَائِهِ يُرِيدُ الْمُخَاصَمَةَ فِيهِ أَيْضًا مِثْلَ ذَلِكَ، وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ وَمَا قَبْلَهَا مِنْ الْمَسَائِلِ الَّتِي لَا يُعَجَّزُ فِيهَا الطَّالِبُ، وَقَدْ ذَكَرْنَاهَا مُسْتَوْفَاةً فِي فَصْلِ التَّأْجِيلِ وَالتَّلَوُّمِ وَالتَّعْجِيزِ فَانْظُرْهُ.

.الْفَصْلُ الْخَامِسُ فِي التَّنْبِيهِ عَلَى أَحْكَامٍ يَتَوَقَّفُ سَمَاعُ الدَّعْوَى بِهَا عَلَى إثْبَاتِ فُصُولٍ:

مَسْأَلَةٌ:
قَالَ ابْنُ رَاشِدٍ فِي الْمَذْهَبِ يَنْبَغِي لِلْحَاكِمِ أَنْ لَا يُمَكِّنَ الْمَرْأَةَ مِنْ النِّكَاحِ إلَّا بَعْدَ ثُبُوتِ مَا يَتَّصِلُ بِهِ إلَى ذَلِكَ وَذَلِكَ ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ:
الْأَوَّلُ: الْبِكْرُ الْيَتِيمَةُ الْبَلَدِيَّةُ إذَا أَرَادَتْ النِّكَاحَ، كَلَّفَهَا إثْبَاتَ يُتْمِهَا وَبَكَارَتِهَا وَبُلُوغِهَا وَخُلُوِّهَا مِنْ زَوْجٍ، وَأَنَّهُمْ مَا عَلِمُوا أَنَّ أَبَاهَا أَوْصَى بِهَا إلَى أَحَدٍ، وَلَا أَنَّ أَحَدًا مِنْ الْقُضَاةِ قَدَّمَ عَلَيْهَا مُقَدَّمًا، وَتُثْبِتُ أَيْضًا أَنَّهُ لَا وَلِيَّ نَسَبٍ لَهَا، أَوْ أَنَّ لَهَا وَلِيًّا أَحَقَّ بِعَقْدِ النِّكَاحِ عَلَيْهَا، وَتُثْبِتُ كَفَاءَةَ الزَّوْجِ، وَأَنَّ الصَّدَاقَ صَدَاقُ مِثْلِهَا عَلَى مِثْلِهِ. قَالَ فَضْلُ بْنُ سَلَمَةَ: وَأَنَّهَا حُرَّةٌ، وَيَسْمَعُ الشُّهُودُ مِنْهَا رِضَاهَا بِالزَّوْجِ وَبِالصَّدَاقِ، وَأَنَّهَا فَوَّضَتْ الْقَاضِيَ فِي نِكَاحِهَا بِذَلِكَ وَسَمَاعُهُمْ مِنْهَا صَمْتًا لَا نُطْقًا.
الثَّانِي: الثَّيِّبُ الْبَلَدِيَّةُ وَإِذَا طَلَبَتْ الثَّيِّبُ الزَّوَاجَ كَلَّفَهَا أَنْ تُثْبِتَ أَصْلَ الزَّوْجِيَّةِ وَطَلَاقَ الزَّوْجِ لَهَا أَوْ وَفَاتَهُ عَنْهَا، وَأَنَّهَا لَمْ تُخَلِّفْ زَوْجًا إنْ تَخَلَّلَ ذَلِكَ طُولٌ، وَأَنْ لَا وَلِيَّ لَهَا، وَأَنَّ وَلِيَّهَا فُلَانٌ وَأَنَّهُ أَحَقُّ بِعَقْدِ نِكَاحِهَا، وَعَلَى الْقَوْلِ بِاشْتِرَاطِ الْكَفَاءَةِ فِي الثَّيِّبِ فَتُثْبِتُ ذَلِكَ.
الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ الْأَبُ غَيْرَ مَعْرُوفٍ وَيَأْتِي إلَى الْحَاكِمِ لِيُزَوِّجَ ابْنَتَهُ، فَقَدْ كَلَّفَهُ بَعْضُ قُضَاةِ الْعَصْرِ أَنْ يُثْبِتَ أَنَّ لَهُ ابْنَةً.
مَسْأَلَةٌ:
قَالَ ابْنُ رَاشِدٍ جَرَتْ عَادَةُ قُضَاةِ الْعَصْرِ بِمَنْعِ الْمَرْأَةِ الْمَبْتُوتَةِ مِنْ رَجْعَةِ مُطَلِّقِهَا حَتَّى تُثْبِتَ دُخُولَ الزَّوْجِ الثَّانِي بِهَا دُخُولَ اهْتِدَاءٍ، وَأَنَّهُ كَانَ يَبِيتُ عِنْدَهَا وَيَتَصَرَّفُ عَلَيْهَا تَصَرُّفَ الْأَزْوَاجِ عَلَى الزَّوْجَاتِ، وَمَا عَلِمُوا فِي نِكَاحِهَا رِيبَةً وَلَا دُلْسَةً، وَأَمَّا لَوْ قَدِمَتْ مَبْتُوتَةٌ فَقَالَتْ تَزَوَّجْتُ فَأَرَادَ الَّذِي طَلَّقَهَا أَنْ يَتَزَوَّجَهَا، فَقَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ لَا أَعْلَمُ أَحَدًا مِنْ عُلَمَاءِ الْأُمَّةِ قَالَ إنَّهَا لَا تُصَدَّقُ.
مَسْأَلَةٌ:
إذَا ادَّعَتْ امْرَأَةٌ أَنَّ وَلِيَّهَا عَضَلَهَا، فَالصَّوَابُ فِي ذَلِكَ أَنْ يُسْأَلَ الْوَلِيُّ عَنْ ذَلِكَ فَإِنْ امْتَنَعَ مِنْ الْعَقْدِ عَلَيْهَا سُئِلَ عَنْ وَجْهِ امْتِنَاعِهِ، فَإِنْ ذَكَرَ مَا يُوجِبُهُ وَبِأَنَّ صَوَابَهُ تَرْكُهُ وَذَلِكَ وَإِنْ لَمْ يَتَبَيَّنْ صَوَابُهُ، وَدَامَ عَلَى امْتِنَاعِهِ فَعَلَى الزَّوْجِ أَنْ يُثْبِتَ رِضَاهَا وَالْكَفَاءَةَ، وَأَنَّهَا خُلُوٌّ مِنْ زَوْجٍ، وَفِي غَيْرِ عِدَّةٍ وَيُوَكِّلُ الْقَاضِي مَنْ يُنْكِحُهَا مِنْهُ، وَزَادَ فَضْلُ بْنُ سَلَمَةَ وَتُثْبِتُ حُرِّيَّتَهَا.
مَسْأَلَةٌ:
يَتِيمَةٌ رَغِبَتْ فِي نِكَاحِ رَجُلٍ وَرَفَعَتْ أَمْرَهَا إلَى الْقَاضِي وَسَأَلَتْهُ أَنْ يُزَوِّجَهَا مِنْهُ، فلابد أَنْ يَثْبُتَ عِنْدَ الْقَاضِي أَنَّ الزَّوْجَ كُفْءٌ لَهَا فِي حَالِهِ وَمَالِهِ وَجَمِيعِ أَسْبَابِهِ، وَأَنَّهَا يَتِيمَةٌ فِي سِنِّهَا، وَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ لَهَا وَصِيًّا مِنْ أَبٍ وَلَا وَكِيلًا مِنْ قَاضٍ وَلَا وَلِيَّ لَهَا غَيْرُ السُّلْطَانِ، وَأَنَّهَا خُلُوٌّ مِنْ زَوْجٍ فِي عِلْمِهِمْ، وَأَنَّهَا فِي غَيْرِ عِدَّةٍ مِنْ زَوْجٍ، وَلَا يَجِبُ عَلَى الْقَاضِي أَنْ يَسْأَلَهُمْ مِنْ أَيْنَ عَلِمُوا أَنَّهُ كُفُؤٌ لَهَا.
مَسْأَلَةٌ:
ادَّعَى رَجُلٌ عِنْدَ الْقَاضِي أَنَّ أَبَاهُ غَابَ مُنْذُ سِنِينَ غَيْبَةً مُنْقَطِعَةً لَا يُعْلَمُ لَهَا مُسْتَقَرٌّ، وَتَرَكَ عِنْدَهُ أُخْتًا بِكْرًا، وَقَدْ احْتَاجَتْ وَصَارَتْ فِي ضَيْعَةٍ وَخَطَبَهَا كُفُؤٌ، فَيُلْزِمُهُ الْحَاكِمُ إثْبَاتَ مَا ذَكَرَ مِنْ غَيْبَةِ الْأَبِ وَانْقِطَاعِ خَبَرِهِ، وَالْجَهْلِ بِمَكَانِهِ، أَوْ أَنَّهُ أَسِيرٌ وَيُثْبِتُ حَاجَةَ الْأُخْتِ وَكَفَاءَةَ الزَّوْجِ وَرِضَاهَا بِهِ، ثُمَّ يَأْمُرُ بَعْدَ ذَلِكَ مَنْ يُزَوِّجُهَا مِنْ ذَلِكَ الْخَاطِبِ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَتْ الْبِنْتُ هِيَ الْقَائِمَةَ بِذَلِكَ عِنْدَ الْحَاكِمِ، كَلَّفَهَا إثْبَاتَ ذَلِكَ ثُمَّ زَوَّجَهَا عَلَى الْمَشْهُورِ.
مَسْأَلَةٌ:
إذَا تَدَاعَى رَجُلٌ وَامْرَأَةٌ فِي شَيْءٍ مِنْ أُمُورِ الزَّوْجِيَّةِ وَأَقَرَّا بِالزَّوْجِيَّةِ فَإِنْ كَانَا طَارِئَيْنِ لَمْ يَعْرِضْ لَهُمَا الْحَاكِمُ، وَإِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْبَلَدِ وَادَّعَيَا وُقُوعَ الزَّوْجِيَّةِ فِي الْبَلَدِ كَلَّفَهُمَا إثْبَاتَ النِّكَاحِ، وَسَأَلَهُمَا عَنْ الْوَلِيِّ الْعَاقِدِ وَالشُّهُودِ بِذَلِكَ عَلَيْهِمَا، فَإِنْ بَانَ لَهُ كَذِبُهُمَا، وَأَقَرَّا بِالْوَطْءِ أَقَامَ عَلَيْهِمَا الْحَدَّ، اُنْظُرْ ابْنَ سَهْلٍ فِي الثَّانِي مِنْهُ فِي امْرَأَةٍ ادَّعَتْ عَلَى رَجُلٍ أَنَّهُ غَرَّبَ وَلَدَهَا.
مَسْأَلَةٌ:
إذَا أَرَادَ رَجُلٌ أَنْ يُزَوِّجَ يَتِيمَةً تَحْتَ نَظَرِهِ مِنْ وَلَدِهِ فلابد أَنْ يُثْبِتَ عِنْدَ الْقَاضِي رِضَا الْيَتِيمَةِ بِالزَّوْجِ، وَالسَّدَادَ فِي صَدَاقِهَا، وَأَنَّ الزَّوْجَ كُفُؤٌ لَهَا فِي جَمِيعِ أَحْوَالِهِ، وَحِينَئِذٍ يَأْذَنُ لَهُ الْقَاضِي أَنْ يُزَوِّجَهَا مِنْ وَلَدِهِ.
وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَوْ وَكَّلَ الْقَاضِي غَيْرَهُ عَلَى الْعَقْدِ كَانَ أَحَبَّ إلَيَّ، وَأَنْكَرَ ذَلِكَ ابْنُ لُبَابَةَ وَابْنُ سَهْلٍ.
وَقَالَ ابْنُ سَهْلٍ: لَا مَعْنَى لِمَا قَالَهُ هَذَا الْمُفْتِي؛ لِأَنَّ الْمَحْذُورَ قَدْ زَالَ بِمَا ثَبَتَ عِنْدَ الْقَاضِي، هَذَا مَعْنَى كَلَامِهِ.
مَسْأَلَةٌ:
رَجُلٌ أَنْكَحَ ابْنَتَهُ الْبِكْرَ مِنْ رَجُلٍ ثُمَّ غَابَ عَنْهَا الزَّوْجُ قَبْلَ بِنَائِهِ بِهَا غَيْبَةً طَوِيلَةً فِي الْقَيْرَوَانِ، فَقَامَ أَبُوهَا عِنْدَ الْقَاضِي يُرِيدُ تَطْلِيقَهَا عَلَيْهِ بِعَدَمِ النَّفَقَةِ، وَامْتَنَعَ هُوَ مِنْ الْإِنْفَاقِ عَلَيْهَا، فَيَلْزَمُهُ أَنْ يُثْبِتَ عِنْدَ الْقَاضِي مَغِيبَ الزَّوْجِ، وَأَنَّهُ لَمْ يُخَلِّفْ لَهَا شَيْئًا وَلَا أَرْسَلَ إلَيْهَا بِشَيْءٍ، وَلَا رَجَعَ مِنْ غَيْبَتِهِ، ثُمَّ يَتَلَوَّمُ الْقَاضِي عَلَيْهِ شَهْرَيْنِ.
قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ عَتَّابٍ: ولابد أَنْ يُثْبِتَ قِيَامَ الْأَبِ عَنْهَا بِتَوْكِيلِهَا إيَّاهُ عَلَى ذَلِكَ، وَلَيْسَ لِلْأَبِ قِيَامٌ فِي ذَلِكَ إلَّا بِتَوْكِيلِهَا إيَّاهُ، إذْ لَهَا أَنْ تَتَرَبَّصَ عَلَى زَوْجِهَا وَتُنْظِرَهُ وَتُنْفِقَ عَلَى نَفْسِهَا مِنْ مَالِهَا وَعَمَلِ يَدَيْهَا، وَالْيَمِينُ عَلَى الزَّوْجَةِ لَا عَلَى الْأَبِ، فَإِذَا حَلَفَتْ طَلَّقَتْ نَفْسَهَا، وَسَيَأْتِي بَعْدَ هَذَا صِفَةُ يَمِينِهَا. وَأَفْتَى أَبُو عُمَرَ بْنُ رَشِيقٍ فَقِيهُ الْمَرِيَّةِ إذَا ثَبَتَ الْمَغِيبُ وَسَأَلَ النَّفَقَةَ عَلَى ابْنَتِهِ بِتَوْكِيلِهَا إيَّاهُ عَلَى ذَلِكَ، فَلَهَا النَّفَقَةُ، مِنْ حِينِ قَامَتْ، وَيَضْرِبُ السُّلْطَانُ أَجَلَ شَهْرَيْنِ، فَإِذَا انْقَضَى الْأَجَلُ حَلَفَتْ الزَّوْجَةُ أَنَّهُ مَا تَرَكَ لَهَا نَفَقَةً وَلَا كِسْوَةً وَلَا شَيْئًا تُمَوِّنُ بِهِ نَفْسَهَا، وَلَا تَعْلَمُ لَهُ مَالًا تَرْجِعُ فِيهِ، وَلَا تَعْلَمُ أَنَّ الزَّوْجِيَّةَ انْقَطَعَتْ بَيْنَهُمَا، وَتَثْبُتُ هَذِهِ الْيَمِينُ عِنْدَ الْحَاكِمِ، وَيَكُونُ لَهَا أَنْ تُطَلِّقَ نَفْسَهَا مِنْ زَوْجِهَا طَلْقَةً وَاحِدَةً وَتَتَزَوَّجُ سَاعَتَئِذٍ، وَلَا عِدَّةَ عَلَيْهَا إذَا لَمْ يَبْنِ بِهَا.
مَسْأَلَةٌ:
إذَا شَكَتْ الْمَرْأَةُ مِنْ زَوْجِهَا الضَّرَرَ، فَإِنَّ الْحَاكِمَ يَأْمُرُهَا بِإِثْبَاتِ مَا ذَكَرَتْهُ، وَإِقَامَةِ الْبَيِّنَةِ عَلَى مَا ادَّعَتْهُ بَعْدَ تَبْيِينِهَا الضَّرَرَ مَا هُوَ وَكَيْفَ هُوَ. فَلَعَلَّ الضَّرَرَ كَانَ عِنْدَهَا مَنْعَهَا مِنْ الْحَمَّامَاتِ، وَتَأْدِيبَهَا عَلَى تَعْطِيلِ الصَّلَاةِ، فَإِذَا أَثْبَتَتْ ضَرَرًا لَا يَجُوزُ فِعْلُهُ بِهَا وُقِفَ عَلَيْهِ زَوْجُهَا، فَرُبَّمَا أَقَرَّ بِهِ فَأَسْقَطَ كُلْفَةَ الْإِثْبَاتِ عَنْهَا، وَإِنْ أَنْكَرَ دَعْوَاهَا أُمِرَتْ حِينَئِذٍ بِإِحْضَارِ بَيِّنَةٍ إنْ كَانَتْ مَعًا، فَإِنْ عَجَزَتْ عَنْهَا وَتَكَرَّرَتْ شَكْوَاهَا كَشَفَ الْقَاضِي عَنْ أَمْرِهَا مِنْ جِيرَانِهَا إنْ كَانَ فِيهِمْ عُدُولٌ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِمْ عُدُولٌ أُمِرَ زَوْجُهَا أَنْ يُسْكِنَهَا فِي مَوْضِعٍ حَوْلَهُ الْجِيرَانُ الْعُدُولُ، فَإِنْ بَانَ لَهُ مِنْ ضَرَرِهَا مَا يُوجِبُ تَأْدِيبَ زَوْجِهَا عَلَيْهِ أَدَّبَهُ وَنَهَاهُ عَنْ الْعَوْدَةِ إلَى مِثْلِهِ، وَإِنْ كَانَ لَهَا شَرْطٌ فِي الضَّرَرِ أَبَاحَ لَهَا الْأَخْذَ بِهِ، وَإِنْ عَمَى عَلَيْهِ خَبَرُهَا وَرَأَى إسْكَانَهُمَا مَعَ ثِقَةٍ يَتَفَقَّدُ أَمْرَهُمَا أَوْ إسْكَانَ ثِقَةٍ مَعَهُمَا نَظَرَ فِي ذَلِكَ بِاجْتِهَادِهِ، وَإِنَّمَا الْحُكْمَانِ إذَا اشْتَكَى الزَّوْجَانِ بَعْضُهُمَا بَعْضًا وَادَّعَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنَّ صَاحِبَهُ يَضُرُّ بِهِ، وَانْتَفَى هُوَ مِنْ الْإِضْرَارِ بِالْآخَرِ، وَتَكَرَّرَ ذَلِكَ مِنْ تَشَكِّيهِمَا عَلَى الْحَاكِمِ، وَلَمْ يَبِنْ لَهُ أَمْرُهُمَا، وَخَافَ الشِّقَاقَ بَيْنَهُمَا، فَحِينَئِذٍ يَبْعَثُ حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا، اُنْظُرْ أَحْكَامَ ابْنِ سَهْلٍ فِي بَابِ الطَّلَاقِ فِي مَسْأَلَةِ شَكْوَى ابْنَةِ تَمَّامٍ الْوَزِيرِ بِزَوْجِهَا فَقَدْ أَوْعَبَ الْكَلَامَ فِي شَرْحِهَا وَبَيَانِهَا.
مَسْأَلَةٌ:
لَا تَجِبُ الْمُلَاعَنَةُ إذَا كَانَ الزَّوْجُ وَالْمَرْأَةُ مِنْ أَهْلِ الْمِصْرِ إلَّا بَعْدَ ثُبُوتِ الزَّوْجِيَّةِ وَإِنْ لَمْ تَثْبُتْ الزَّوْجِيَّةُ لَزِمَ الْحَدُّ وَإِنْ لَمْ يَكُونَا مِنْ أَهْلِ الْمِصْرِ لَزِمَتْ الْمُلَاعَنَةُ وَإِنْ لَمْ تَثْبُتْ الزَّوْجِيَّةُ.
مَسْأَلَةٌ:
مَنْ ادَّعَى عَلَى غَيْرِهِ بِدَعْوَى فَإِنَّهُ لَا تَجِبُ لَهُ بِمُجَرَّدِ الدَّعْوَى يَمِينٌ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ حَتَّى تَثْبُتَ الْخُلْطَةُ بَيْنَهُمَا، إلَّا فِي مَسَائِلَ مَعْدُودَةٍ مَذْكُورَةٍ فِي مَسَائِلِ الْخُلْطَةِ.
مَسْأَلَةٌ:
مَنْ أَتَى الْقَاضِي مُتَعَلِّقًا بِرَجُلٍ يَرْمِيهِ بِدَمِ وَلِيِّهِ، فَإِنَّ الْقَاضِيَ إذَا جَاءَهُ مِثْلُ هَذَا فَيَلْزَمُهُ أَنْ يَأْمُرَ الْمُدَّعِيَ أَنْ يُثْبِتَ أَنَّهُ وَلِيُّ الدَّمِ، فَإِذَا ثَبَتَ لَهُ قَوَدُهُ مِنْ الْمُدَّعِي دَمَهُ كَشَفَ هَلْ لَهُ بَيِّنَةٌ عَلَى دَعْوَاهُ أَمْ لَا، وَلَا يَسْأَلُهُ عَنْ الْبَيِّنَةِ قَبْلَ ثُبُوتِ قَوَدِهِ مِنْ ابْنِ سَهْلٍ.
مَسْأَلَةٌ مِنْ الْوَصِيَّةِ:
إذَا ادَّعَى عَلَى الْوَصِيِّ فِي مَالِ الْمَيِّتِ، وَالْوَرَثَةُ صِغَارٌ فلابد مِنْ ثُبُوتِ الْوَصِيَّةِ وَصِغَرِ الْوَرَثَةِ، فَإِذَا ثَبَتَ ذَلِكَ كَانَتْ الْخُصُومَةُ مَعَ الْوَصِيِّ حِينَئِذٍ غَيْرَ أَنَّ الْوَصِيَّ لَا يُكَلَّفُ جَوَابًا؛ لِأَنَّ إقْرَارَهُ فِي ذَلِكَ أَوْ إنْكَارَهُ غَيْرُ مُعْتَدٍّ بِهِ، وَلَكِنْ يَحْضُرُ؛ لِيَعْلَمَ مَنْ شَهِدَ عَلَى الْمَيِّتِ؛ لِيَكُونَ ذَلِكَ أَعْوَنَ لَهُ فِي مَدْفَعٍ إنْ رَامَهُ.
مَسْأَلَةُ الرَّدِّ بِالْعَيْبِ:
إذَا ادَّعَى رَجُلٌ عَلَى رَجُلٍ أَنَّهُ اشْتَرَى مِنْهُ زَرِيعَةً وَزَرَعَهَا فَلَمْ تَنْبُتْ، فَإِنْ وَجَدَ مِنْ تِلْكَ الزَّرِيعَةِ بَقِيَّةً فَإِنَّهَا تُجَرَّبُ، فَيُعْرَفُ صِدْقُ الْمُشْتَرِي مِنْ كَذِبِهِ، فَيَجِبُ لَهُ إذَا عَرَفَ صِدْقَهُ الرُّجُوعُ بِقِيمَةِ الْعَيْبِ إنْ لَمْ يَكُنْ الْبَائِعُ مُدَلِّسًا، وَبِجَمِيعِ الثَّمَنِ إنْ كَانَ مُدَلِّسًا، وَلَا يَجِبُ لَهُ شَيْءٌ إذَا عُرِفَ كَذِبُهُ، فَإِنْ لَمْ يَبْقَ مِنْهَا مَا تُجَرَّبُ بِهِ كُلِّفَ الْمُبْتَاعُ أَنْ يُثْبِتَ أَنَّهُ زَرَعَهَا فِي أَرْضِ تُرْبَةٍ تُنْبِتُ فَلَمْ تَنْبُتْ، فَإِذَا أَثْبَتَ ذَلِكَ كَانَ الْأَمْرُ فِيهِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ الرُّجُوعِ بِجَمِيعِ الثَّمَنِ أَوْ بِقِيمَةِ الْعَيْبِ، وَإِنْ لَمْ يَثْبُتْ ذَلِكَ حَلَفَ الْبَائِعُ عَلَى الْعِلْمِ أَنَّهُ مَا عَلِمَ أَنَّهَا لَا تَنْبُتُ، مِنْ مُفِيدِ الْحُكَّامِ نَقَلَهُ عَنْ ابْنِ رُشْدٍ.
مَسْأَلَةٌ:
مِنْ الْقِسْمَةِ: وَفِي الْوَاضِحَةِ لَا يَجُوزُ لِلْقَاضِي إذَا سَأَلَهُ الْوَرَثَةُ أَوْ بَعْضُهُمْ أَنْ يَقْسِمَ بَيْنَهُمْ مَا وَرِثُوهُ أَنْ يَأْمُرَ بِقَسْمِ ذَلِكَ حَتَّى يَثْبُتَ عِنْدَهُ أَنَّ ذَلِكَ الشَّيْءَ إنْ كَانَ مِلْكًا لِلْهَالِكِ، وَمَالًا مِنْ أَمْوَالِهِ حَتَّى مَاتَ عَنْهُ، وَأَنَّ الْهَالِكَ كَانَ سَاكِنًا فِي تِلْكَ الدَّارِ إنْ كَانَتْ دَارًا، كَمَا يَسْكُنُ الرَّجُلُ دَارَ نَفْسِهِ، حَتَّى هَلَكَ فِيهَا، وَإِنْ كَانَتْ قَرْيَةً فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَأْمُرَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْمَةِ حَتَّى يَأْتُوهُ بِمَنْ يَحُوزُ مَا كَانَ سَهْمًا لِلْهَالِكِ وَصِفَتُهُ فِي كِتَابٍ وَشُهُودٍ يَعْرِفُونَهُ مِلْكًا لِلْهَالِكِ أَوْ فِي يَدَيْهِ وَعِمَارَتِهِ حَتَّى هَلَكَ عَنْهُ، خِيفَةَ أَنْ يُدْخِلُوا فِي قِسْمَتِهِمْ مَا لَيْسَ لَهُمْ بِحَقٍّ. اُنْظُرْ كَيْفَ جَعَلَ الشَّهَادَةَ بِالْيَدِ، وَالِاعْتِمَارُ كَالشَّهَادَةِ بِالْمِلْكِ، وَانْظُرْ مَا فِي السَّرِقَةِ وَالْغَصْبِ مِنْ الْمُدَوَّنَةِ مِنْ مُفِيدِ الْحُكَّامِ.
مَسْأَلَةٌ:
قَالَ ابْنُ زَرْبٍ: فِي الَّذِي يَكُونُ بِيَدِهِ الدَّارِ فَيَأْتِيهِ رَجُلٌ فَيَقُولُ إنَّهَا لِجَدِّهِ، هَلْ يَلْزَمُ الَّذِي بِيَدِهِ الدَّارُ أَنْ يُقِرَّ أَوْ يُنْكِرَ، فَقَالَ مَالِكٌ: يَلْزَمُهُ أَنْ يُقِرَّ أَوْ يُنْكِرَ، قَالَ الْقَاضِي ابْنُ زَرْبٍ: وَهَذَا بَعْدَ أَنْ يُثْبِتَ الطَّالِبُ مَوْتَ جَدِّهِ وَعِدَّةَ وَرَثَتِهِ، وَإِنَّمَا قِيلَ هَذَا؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَكُونُ جَدُّهُ حَيًّا أَوْ لَا يَكُونُ هُوَ مِنْ وَرَثَتِهِ، وَسَيَأْتِي بَيَانُ ذَلِكَ فِي الْقِسْمِ الرَّابِعِ فِي حُكْمِ الْجَوَابِ.
مَسْأَلَةٌ مِنْ الْحَجْرِ:
وَفِي أَحْكَامِ ابْنِ سَهْلٍ فِي مَسَائِلِ الْمَحْجُورِ: فِي بِكْرٍ يَتِيمَةٍ رَفَعَتْ إلَى الْقَاضِي كِتَابًا تَشْكُو فِيهِ حَالَهَا وَسُوءَ مَوْضِعِهَا، فَاَلَّذِي يَجِبُ فِي ذَلِكَ أَنْ يَبْعَثَ الْقَاضِي رَجُلَيْنِ يَعْرِفَانِهَا بِالْكِتَابِ الَّذِي رُفِعَ إلَى الْقَاضِي، فَإِذَا أَقَرَّتْ بِهِ سَأَلَ الْقَاضِي عَنْ حَالِهَا فَإِذَا ثَبَتَ عِنْدَهُ مَوْتُ أَبِيهَا وَأَنَّهُ لَا نَاظِرَ لَهَا بِوَصِيَّةٍ مِنْ أَبٍ وَلَا بِوِلَايَةٍ مِنْ قَاضٍ، وَأَنَّهَا بِحَالٍ مَكْرُوهٍ، وَكَّلَ الْقَاضِي لَهَا مَنْ يَقُومُ بِأَمْرِهَا وَيُقِيمُهُ مَقَامَ الْوَصِيِّ، وَيُخْرِجُهَا إلَى مَوْضِعٍ مَأْمُونٍ لِلْحَالَةِ الَّتِي اشْتَكَتْ إلَيْهَا بِهَا.
مَسْأَلَةٌ:
قَالَ الْجُزُولِيُّ فِي شَرْحِ الرِّسَالَةِ: لَا يَكُونُ الْحَاكِمُ وَلِيًّا فِي النِّكَاحِ حَتَّى يَثْبُتَ عِنْدَهُ أَرْبَعَةَ عَشَرَ فَصْلًا: وَهِيَ كَوْنُهَا صَحِيحَةً بَالِغَةً غَيْرَ مُحْرِمَةٍ، وَلَا مُحَرَّمَةً عَلَى الزَّوْجِ وَأَنَّهَا حُرَّةٌ، وَأَنَّهَا بِكْرٌ أَوْ ثَيِّبٌ، وَأَنْ لَا وَلِيَّ لَهَا أَوْ عَضَلَهُ لَهَا، أَوْ غَيْبَتَهُ، وَخُلُوُّهَا مِنْ الزَّوَاجِ وَالْعِدَّةِ، وَرِضَاهَا بِالزَّوْجِ وَالصَّدَاقِ، وَأَنَّهُ كُفْءٌ لَهَا فِي الْحَالِ وَالْمَآلِ، وَأَنَّ الْمَهْرَ مَهْرُ مِثْلِهَا فِي غَيْرِ الْمَالِكَةِ أَمْرَ نَفْسِهَا، وَإِنْ كَانَتْ غَيْرَ بَالِغَةٍ فَيُثْبِتُ فَقْرَهَا، وَأَنَّهَا بِنْتُ عَشَرَةِ أَعْوَامٍ مِنْ الشَّرْحِ الْكَبِيرِ.
مَسْأَلَةٌ:
إذَا طَلَبَ أَبُو الِابْنَةِ صِهْرَهُ بِالنَّقْدِ مِنْ الصَّدَاقِ وَالْبِنَاءِ بِأَهْلِهِ فَلَا يُسْمَعُ دَعْوَاهُ حَتَّى تَثْبُتَ عِنْدَهُ الزَّوْجِيَّةُ الْمَذْكُورَةُ، ثُمَّ حِينَئِذٍ يُلْزِمُ الزَّوْجَ بِمَا يَجِبُ عَلَيْهِ، فَإِنْ ادَّعَى الْإِعْسَارَ كَلَّفَهُ إثْبَاتَ عَدَمِهِ، وَسَيَأْتِي ذِكْرُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي الْآجَالِ.
مَسْأَلَةٌ:
إذَا ادَّعَى الطَّالِبُ أَنَّ الْمَطْلُوبَ تَغَيَّبَ وَدَعَا إلَى الطَّبْعِ عَلَى دَارِهِ أَوْ تَسْمِيرِهَا حَسَبَ مَا يَرَاهُ الْحَاكِمُ، فلابد أَنْ يَثْبُتَ عِنْدَ الْحَاكِمِ أَنَّهُ تَغَيَّبَ، وَيُثْبِتُ أَنَّ تِلْكَ الدَّارَ هِيَ دَارُ الْمَطْلُوبِ، وَحِينَئِذٍ يَنْظُرُ فِي ذَلِكَ.
مَسْأَلَةٌ مِنْ الْوَكَالَةِ:
لَا يَسْمَعُ الْقَاضِي مِنْ أَحَدٍ دَعْوَى الْوَكَالَةِ حَتَّى يُثْبِتَ عِنْدَهُ ذَلِكَ بِشَاهِدَيْنِ عَدْلَيْنِ أَوْ بِشَاهِدٍ وَيَمِينٍ عَلَى قَوْلِ مَالِكٍ وَابْنِ الْقَاسِمِ، ولابد أَنْ يَشْهَدَ الشُّهُودُ عِنْدَ الْقَاضِي عَلَى مَعْرِفَةِ عَيْنِ الْمُوَكِّلِ، وَيَثْبُتُ عِنْدَهُ أَيْضًا عَيْنُ الْوَكِيلِ إمَّا بِالشَّاهِدَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ أَوْ بِغَيْرِهِمَا. وَإِذَا حَضَرَ الْوَكِيلُ وَالْخَصْمُ وَتَقَارَّا عَلَى صِحَّةِ الْوَكَالَةِ فَلَا يُحْكَمُ بَيْنَهُمَا بِمُجَرَّدِ قَوْلِهِمَا؛ لِأَنَّهُ حَقٌّ لِغَيْرِهِمَا يُتَّهَمَانِ عَلَى التَّوَاطُؤِ عَلَيْهِ، وَلَوْ صَدَّقَ الْخَصْمُ الْوَكِيلَ فِي الدَّعْوَى وَاعْتَرَفَ بِالْمُدَّعَى بِهِ لَمْ يُجْبِرْهُ الْحَاكِمُ عَلَى دَفْعِهِ عَلَى الْمَشْهُورِ، حَتَّى يُثْبِتَ عِنْدَهُ صِحَّةَ الْوَكَالَةِ.
مَسْأَلَةٌ مِنْ بَابِ الرَّدِّ بِالْعَيْبِ:
وَمَنْ اشْتَرَى أَمَةً وَادَّعَى أَنَّهَا تَبُولُ فِي الْفِرَاشِ لَمْ تُسْمَعْ دَعْوَاهُ حَتَّى يُثْبِتَ أَنَّهَا كَانَتْ تَبُولُ عِنْدَ الْبَائِعِ، وَالْمَسْأَلَةُ مَبْسُوطَةٌ فِي بَابِ الْقَضَاءِ بِقَوْلِ امْرَأَةٍ بِانْفِرَادِهَا.
مَسْأَلَةٌ:
الْقَائِمُ بِالضَّرَرِ فِي الْعَقَارِ لَا يَحْكُمُ لَهُ إلَّا بَعْدَ ثُبُوتِ مِلْكِهِ الَّذِي يَدْفَعُ عَنْهُ، وَكَذَلِكَ يَنْبَغِي فِي كُلِّ ضَرَرٍ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ حُكْمٌ.
مَسْأَلَةٌ مِنْ بَابِ الرَّدِّ بِالْعَيْبِ:
وَفِي طُرَرِ التَّهْذِيبِ لِأَبِي إبْرَاهِيمَ الْأَعْرَجِ فِي كِتَابِ الْعُيُوبِ: إذَا قَامَ رَجُلٌ بِعَيْبٍ فِي سِلْعَةٍ وَاَلَّذِي بَاعَهَا غَائِبٌ، وَرُفِعَ ذَلِكَ إلَى الْحَاكِمِ، فَإِنَّهُ يُكَلِّفُهُ إثْبَاتَ سَبْعَةِ أَشْيَاءَ: أَنَّهُ ابْتَاعَ، وَأَنَّهُ نَقَدَ الثَّمَنَ، وَأَنَّهُ كَذَا وَكَذَا، وَأَمَدَ التَّبَايُعِ، وَإِثْبَاتَ الْعَيْبِ الَّذِي يُوجِبُ الرَّدَّ، وَهُوَ كُلُّ مَا يَنْقُصُ الثَّمَنَ، وَأَنَّهُ أَقْدَمُ مِنْ أَمَدِ التَّبَايُعِ، وَإِثْبَاتَ الْغَيْبَةِ بِحَيْثُ لَا يُعْلَمُ أَهِيَ بَعِيدَةٌ أَوْ قَرِيبَةٌ، ثُمَّ يُكَلِّفُهُ ثَلَاثَةَ أَيْمَانٍ: أَنَّهُ ابْتَاعَ بَيْعًا صَحِيحًا، وَأَنَّهُ لَمْ يَتَبَرَّأْ مِنْهُ، وَلَا أَعْلَمَهُ بِهِ، وَلَا بَيِّنَةَ لَهُ، وَأَنَّهُ مَا اطَّلَعَ عَلَيْهِ بَعْدَ الْبَيْعِ وَرَضِيَ بِهِ، وَلَهُ أَنْ يَجْمَعَ عَلَيْهِ ذَلِكَ فِي يَمِينٍ وَاحِدَةٍ.
مَسْأَلَةٌ مِنْ بَابِ الرَّهْنِ:
قَالَ ابْنُ رُشْدٍ فِي آخِرِ كِتَابِ السُّلْطَانِ: الَّذِي جَرَى بِهِ الْعَمَلُ أَنَّ الْقَاضِيَ لَا يَحْكُمُ لِلْمُرْتَهِنِ بِبَيْعِ الرَّهْنِ حَتَّى يُثْبِتَ عِنْدَهُ الرَّهْنُ وَالدَّيْنُ وَمِلْكُ الرَّاهِنِ لَهُ، وَيُحَلِّفُهُ مَعَ ذَلِكَ أَنَّهُ مَا وَهَبَ دَيْنَهُ وَلَا قَبَضَهُ وَلَا أَحَالَ بِهِ وَلَا اسْتَحَالَ بِهِ، وَأَنَّهُ لَبَاقٍ عَلَيْهِ إلَى حِينِ قِيَامِهِ.
مَسْأَلَةٌ مِنْ بَابِ الشُّفْعَةِ:
قَالَ ابْنُ رَاشِدٍ إذَا قَامَ الشَّفِيعُ يَطْلُبُ الْأَخْذَ بِالشُّفْعَةِ، وَرُفِعَ ذَلِكَ إلَى الْحَاكِمِ حَكَمَ لَهُ بِالْأَخْذِ مِنْ الْمُسْتَشْفَعِ مِنْهُ بَعْدَ ثُبُوتِ مِلْكِيَّتِهَا وَثُبُوتِ الشِّرَاءِ وَثُبُوتِ غَيْبَةِ الْمُبْتَاعِ إنْ كَانَ غَائِبًا وَتُرْجَأُ الْحُجَّةُ لَهُ، وَقَوْلُهُ بَعْدَ ثُبُوتِ مِلْكِيَّتِهَا، يَعْنِي أَنَّ الْقَائِمَ بِالشُّفْعَةِ يَلْزَمُهُ أَنْ يُثْبِتَ مِلْكِيَّتَهُ لِلْحِصَّةِ الَّتِي يُرِيدُ أَنْ يَسْتَشْفِعَ بِهَا، وَتَثْبُتُ مِلْكِيَّةُ الْبَائِعِ لِلْحِصَّةِ الَّتِي يُرِيدُ أَخْذَهَا بِالشُّفْعَةِ، وَيُثْبِتُ الْمُبْتَاعُ الشِّرَاءَ مِنْ شَرِيكِ الْقَائِمِ بِالشُّفْعَةِ.
مَسْأَلَةٌ مِنْ الدَّعَاوَى:
إذَا ادَّعَى رَجُلٌ عَلَى آخَرَ دَيْنًا مِنْ قِبَلِ أَبِيهِ الْمَيِّتِ أَوْ مُوَرِّثِهِ، فَيَلْزَمُهُ أَنْ يُثْبِتَ مَوْتَ مُوَرِّثِهِ وَعِدَّةَ وَرَثَتِهِ؛ لِيَعْلَمَ مَا يَسْتَحِقُّهُ مِمَّا يَدَّعِيهِ، ثُمَّ يَنْظُرُ فِي صِحَّةِ مَا يَدَّعِيهِ، وَكَذَلِكَ لَوْ ادَّعَى عَلَيْهِ أَنَّ عِنْدَهُ عُرُوضًا أَوْ نَحْوَهَا لِمَوْرُوثِهِ وَادَّعَى أَنَّهَا صَارَتْ إلَيْهِ بِالْمِيرَاثِ، فَيَلْزَمُهُ إثْبَاتُ مَوْتِ مُوَرِّثِهِ وَعِدَّةِ وَرَثَتِهِ وَانْتِقَالِ الْمِيرَاثِ إلَيْهِ، ثُمَّ يَنْظُرُ فِي الدَّعْوَى فَإِنْ اعْتَرَفَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِالْخُلْطَةِ وَأَنْكَرَ الْمُدَّعَى بِهِ تَوَجَّهَتْ عَلَيْهِ الْيَمِينُ، وَإِلَّا فَعَلَى الْمُدَّعِي إثْبَاتُ الْخُلْطَةِ، فَإِذَا ثَبَتَتْ أَوْ شَهِدَ بِهَا شَاهِدٌ وَاحِدٌ فَيَنْظُرُ، فَإِنْ ادَّعَى عَلَيْهِ الْعُرُوضَ وَالثِّيَابَ مِنْ بَيْعٍ أَوْ وَدِيعَةٍ أَوْ عَارِيَّةٍ فَالْيَمِينُ وَاجِبَةٌ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، وَإِنْ ادَّعَاهَا مِنْ طَرِيقِ غَصْبٍ أَوْ عِدَاءٍ فَإِنْ كَانَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ مِنْ أَهْلِ الْعِدَاءِ وَالتُّهَمِ لَزِمَتْهُ الْيَمِينُ، وَإِلَّا لَمْ تَجِبْ عَلَيْهِ يَمِينٌ.
مَسْأَلَةٌ مِنْ بَابِ الْحَجْرِ:
إذَا رُفِعَ إلَى الْحَاكِمِ مَالُ يَتِيمٍ وَسَأَلُوهُ أَنْ يَبِيعَهُ لِضَرُورَتِهِ لَمْ يَجُزْ لَهُ ذَلِكَ إلَّا بَعْدَ ثُبُوتِ مِلْكِهِ وَحِيَازَتِهِ، وَالْحَاجَةُ إلَى الْبَيْعِ، وَكَوْنُهُ أَيْسَرَ مَا يُبَاعُ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ الَّذِي رَفَعَهُ إلَى الْقَاضِي وَصِيًّا فلابد مِنْ إثْبَاتِ وَصِيَّتِهِ، وَإِثْبَاتِ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ ثُمَّ يَأْمُرُهُ بِالْبَيْعِ، ولابد حِينَئِذٍ مِنْ ثُبُوتِ انْتِهَاءِ الرَّغَبَاتِ وَالسَّدَادِ فِي الثَّمَنِ. وَفِي مُفِيدِ الْحُكَّامِ: بَيْعُ الْحَاضِنِ لِلْأُصُولِ لَا يَصِحُّ أَيْ لَا يَمْضِي حَتَّى تَشْهَدَ الْبَيِّنَةُ الْعَادِلَةُ لِلْمُبْتَاعِ بِمَعْرِفَةِ سَبْعَةِ شُرُوطٍ، فِي تَارِيخِ الْبَيْعِ وَهِيَ الْيُتْمُ، وَالْحَضَانَةُ، وَالْحَاجَةُ إلَى بَيْعِ مَا بِيعَ عَلَيْهِ، وَذَلِكَ بِأَنْ لَا يَكُونَ لَهُ عُرُوضٌ وَلَا قَرْضٌ غَيْرُ أُصُولِهِ، وَلَا يُمْكِنُ التَّحَيُّلُ عَلَى إقَامَةِ مَعِيشَتِهِ مِنْ صِنَاعَةٍ أَوْ تَصَرُّفٍ فِي غَيْرِ وَجْهِ الْمَسْأَلَةِ لِلنَّاسِ، وَالسَّدَادِ فِي الثَّمَنِ، وَأَنَّ الْمَبِيعَ أَحَقُّ مَا بِيعَ عَلَيْهِ، وَأَنْ يَكُونَ تَافِهًا لَا بَالَ لَهُ ثَمَنُ عِشْرِينَ دِينَارًا فَدُونَ ذَلِكَ، وَذَلِكَ فِي حَقِّ الْيَتِيمِ الْوَاحِدِ، وَأَنَّ الثَّمَنَ صُرِفَ فِي مَصَالِحِ الْيَتِيمِ وَانْتَفَعَ بِهِ فِي حِينِ الْبَيْعِ هَذَا مَعْنَى كَلَامِ أَصْبَغَ وَبِهِ الْعَمَلُ.
مَسْأَلَةٌ مِنْ بَابِ التَّفْلِيسِ:
قَالَ ابْنُ رُشْدٍ: إذَا قَامَ الْغُرَمَاءُ عَلَى الْمِدْيَانِ فَعَلَى الْقَاضِي أَنْ يُكَلِّفَهُمْ إثْبَاتَ دُيُونِهِمْ ثُمَّ يُعْذِرُ إلَى الْمُفْلِسِ فِيمَا ثَبَتَ عِنْدَهُ، وَإِلَى كُلِّ وَاحِدٍ فِي دَيْنِ صَاحِبِهِ.
وَقَالَ بَعْضُهُمْ لَا يَبِيعُ الْقَاضِي مَالًا حَتَّى يُثْبِتَ الْغُرَمَاءُ عِنْدَهُ أَنَّ مَا يَطْلُبُونَ بَيْعَهُ مِلْكٌ لِلْمُفْلِسِ، اُنْظُرْ ابْنَ عَبْدِ السَّلَامِ.
مَسْأَلَةٌ مِنْ الْوَدِيعَةِ:
إذَا أَتَى رَجُلٌ إلَى الْحَاكِمِ وَقَالَ لَهُ: فُلَانًا دَفَعَ إلَيَّ أَوْ بَعَثَ إلَيَّ دَنَانِيرَ وَذَكَرَ أَنَّهَا لِوَرَثَةِ فُلَانٍ، وَأَنْ أَدْفَعَهَا بِأَمْرِ الْحَاكِمِ إلَيْهِمْ، فَالْحُكْمُ فِي هَذَا أَنَّهُ إذَا ثَبَتَ عِنْدَ الْحَاكِمِ عِدَّةُ الْوَرَثَةِ، وَأَقَرَّ هَذَا أَنَّ الْغَائِبَ أَمَرَهُ بِدَفْعِهَا إلَيْهِمْ، كَتَبَ لَهُ الْحَاكِمُ أَنَّك ذَكَرْت أَنَّ فُلَانًا أَمَرَك بِدَفْعِ ذَلِكَ إلَى وَرَثَةِ فُلَانٍ بِأَمْرِي، وَأَنِّي أَمَرْتُك أَنْ تَدْفَعَهَا الْيَوْمَ بَعْدَ أَنْ ثَبَتَ عِنْدِي أَنَّهُمْ وَرَثَةُ فُلَانٍ.
مَسْأَلَةٌ مِنْ النِّكَاحِ:
إذَا قَامَتْ الْمَرْأَةُ تَدَّعِي بِشَرْطٍ فِي كِتَابِ صَدَاقِهَا، فلابد أَنْ تُثْبِتَ كِتَابَ الصَّدَاقِ حَتَّى يَثْبُتَ الشَّرْطُ.
مَسْأَلَةٌ:
فِي الْمَرْأَةِ تُرِيدُ الْفِرَاقَ مِنْ زَوْجِهَا بِشَرْطِ الْمَغِيبِ عَنْهَا، وَإِذَا شَرَطَ الْمَغِيبَ عَنْهَا، وَإِذَا شَرَطَ الزَّوْجُ لِزَوْجَتِهِ أَنَّهُ إنْ غَابَ عَنْهَا أَكْثَرَ مِنْ سَنَةٍ فَأَمْرُهَا بِيَدِهَا، فَقَامَتْ عِنْدَ الْحَاكِمِ تُرِيدُ الْأَخْذَ بِشَرْطِهَا، فَإِنَّ الْقَاضِيَ يُكَلِّفُهَا إثْبَاتَ الزَّوْجِيَّةِ وَالشَّرْطِ الَّذِي ادَّعَتْهُ وَغَيْبَتِهِ عَنْهَا، ثُمَّ يُحَلِّفُهَا فِي الْجَامِعِ لَقَدْ غَابَ عَنْهَا أَزْيَدَ مِنْ كَذَا وَمَا أَذِنَتْ لَهُ فِيمَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ، وَلَا رَجَعَ إلَيْهَا سِرًّا وَلَا جَهْرًا، وَمَا أَسْقَطَتْ شَرْطَهَا عَنْهُ، وَمَا كَانَ سُكُوتُهَا تَرْكًا مِنْهَا لِشَرْطِهَا، وَمَا عَلِمَتْ بِانْقِطَاعِ عِصْمَتِهَا مِنْهُ، فَإِذَا ثَبَتَ ذَلِكَ كُلُّهُ عِنْدَ الْحَاكِمِ أَبَاحَ لَهَا الْأَخْذَ بِشَرْطِهَا.
مَسْأَلَةٌ:
فِي الْمَرْأَةِ تُرِيدُ الْفِرَاقَ مِنْ زَوْجِهَا الْغَائِبِ لِعَدَمِ النَّفَقَةِ، وَإِذَا قَامَتْ الْمَرْأَةُ بِذَلِكَ كَلَّفَهَا الْقَاضِي إثْبَاتَ الزَّوْجِيَّةِ وَالْغَيْبَةِ وَاتِّصَالِهَا، وَأَنَّهُمْ مَا عَلِمُوهُ تَرَكَ لَهَا نَفَقَةً وَلَا بَعَثَ إلَيْهَا بِشَيْءٍ فَوَصَلَهَا، وَلَا أَحَالَهَا بِهَا فَاسْتَحَالَتْ، وَلَا أَحَالَتْ عَلَيْهِ أَحَدًا بِهَا وَلَا بِشَيْءٍ مِنْهَا فَاسْتَحَالَتْ وَلَا وَكَّلَتْ أَحَدًا عَلَى قَبْضِهَا مِنْهُ، وَلَا طَاعَ أَحَدٌ بِالْإِنْفَاقِ عَلَيْهَا بِسَبَبِهِ، وَلَا رَضِيَتْ بِالْمُقَامِ مَعَهُ دُونَ نَفَقَةٍ، وَلَا لَهُ مَالٌ تَعَدَّى فِيهِ بِنَفَقَتِهَا، فَإِذَا ثَبَتَتْ هَذِهِ الْفُصُولُ عِنْدَهُ نَظَرَ فِي الْغَيْبَةِ، فَإِنْ كَانَتْ قَرِيبَةً أَعْذَرَ إلَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ بَعِيدَةً أَوْ كَانَ غَيْرَ مَعْلُومِ الْمَكَانِ أَجَّلَهَا الْقَاضِي بِحَسَبِ مَا يَرَاهُ.
وَذَكَرَ الْمُتَيْطِيُّ خَمْسَةً وَأَرْبَعِينَ يَوْمًا، فَإِذَا انْقَضَى الْأَجَلُ اسْتَظْهَرَ عَلَيْهَا بِالْيَمِينِ، وَوَجَّهَ لِحُضُورِ يَمِينِهَا عَدْلَيْنِ، فَتَحْلِفُ أَنَّهُ مَا رَجَعَ إلَيْهَا مِنْ غَيْبَتِهِ سِرًّا وَجَهْرًا إلَى حِينِ يَمِينِهَا هَذِهِ، وَلَا تَرَكَ لَهَا نَفَقَةً قَلِيلَةً وَلَا كَثِيرَةً، وَتَذْكُرُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ الْفُصُولِ الْمَشْهُودِ بِهَا. ثُمَّ تَقُولُ: وَمَا عَلِمْت أَنَّ عِصْمَةَ النِّكَاحِ انْقَطَعَتْ بَيْنِي وَبَيْنَهُ حَتَّى الْآنَ، فَإِذَا ثَبَتَتْ يَمِينُهَا عِنْدَهُ طَلَّقَهَا عَلَيْهِ.
مَسْأَلَةٌ:
فِي امْرَأَةِ الْمَفْقُودِ وَإِذَا قَامَتْ الْمَرْأَةُ تُرِيدُ الطَّلَاقَ لِلْغَيْبَةِ لِمَا يَلْحَقُهَا مِنْ الْوَحْشَةِ وَعَدَمِ الْإِصَابَةِ وَكَانَ مَفْقُودًا فَإِنَّ الْقَاضِيَ يُكَلِّفُهَا إثْبَاتَ الزَّوْجِيَّةِ وَاتِّصَالِهَا إلَى حِينِ الْقِيَامِ وَأَنَّ زَوْجَهَا غَابَ عَنْهَا وَانْقَطَعَ خَبَرُهُ وَإِذَا ثَبَتَ عِنْدَهُ ذَلِكَ بَحَثَ عَنْهُ وَذَلِكَ مَبْسُوطٌ فِي مَحَلِّهِ.
مَسْأَلَةٌ:
فِي مَمْلُوكَةٍ قَامَتْ فِي مَغِيبِ سَيِّدِهَا بِعَدَمِ النَّفَقَةِ، وَذَكَرَتْ أَنَّ سَيِّدَهَا غَابَ عَنْهَا وَتَرَكَهَا بِلَا شَيْءٍ تُنْفِقُ مِنْهُ عَلَى نَفْسِهَا، وَأَنَّهُ لَمْ يُرْسِلْ إلَيْهَا شَيْئًا، وَسَأَلَتْ الْحَاكِمَ النَّظَرَ فِي أَمْرِهَا، فَكَلَّفَهَا مَا يَجِبُ إثْبَاتُهُ، وَذَلِكَ أَنَّهَا أَثْبَتَتْ عِنْدَهُ مِلْكَ سَيِّدِهَا إيَّاهَا وَمَغِيبَهُ، وَأَنَّهُ لَمْ يُخَلِّفْ عِنْدَهَا شَيْئًا لِنَفَقَتِهَا، وَلَا أَرْسَلَ شَيْئًا إلَيْهَا، وَأَنَّهَا لَا مَالَ لَهَا وَلَا مَالَ تَعَدَّى فِيهِ بِنَفَقَتِهَا، وَأَفْتَى ابْنُ عَتَّابٍ وَابْنُ الْقَطَّانِ إذَا ثَبَتَ ذَلِكَ فَيَأْمُرُ الْحَاكِمُ بِبَيْعِهَا وَيَقْبِضُ ثَمَنَهَا لِلْغَائِبِ وَيُوقِفُهُ عِنْدَهُ، أَوْ عِنْدَ ثِقَةٍ غَيْرِهِ حَتَّى يَقْدُمَ الْغَائِبُ.
مَسْأَلَةٌ:
فِيهَا اسْتِدْرَاكٌ عَلَى الْمُفْتِينَ فِيمَا أَفْتَوْا بِهِ بَعْضَ الْقُضَاةِ مِمَّا كَانَ يَلْزَمُهُمْ بَيَانُهُ مِمَّا يَجِبُ إثْبَاتُهُ عِنْدَ الْقَاضِي، وَهِيَ أَنَّ رَجُلًا قَامَ عِنْدَ الْقَاضِي وَأَثْبَتَ عِنْدَهُ مَوْتَ زَوْجَتِهِ فُلَانَةَ وَعِدَّةَ وَرَثَتِهَا وَهُمْ زَوْجُهَا الْقَائِمُ عِنْدَ الْقَاضِي، وَأُخْتُهَا الْحَاضِرَةُ، وَأَخُوهَا الْغَائِبُ بِالْمَشْرِقِ، وَأَثْبَتَ لِلْمَيِّتَةِ شِرْكًا فِي دَارٍ مَعَ أَخِيهَا الْغَائِبِ، وَأَنَّهَا أَوْصَتْ بِثُلُثِهَا لِأُخْتِهَا وَأَعْذَرَ الْقَاضِي فِي الْوَصِيَّةِ إلَى الْحَاضِرِينَ مِنْ وَرَثَةِ الْمَيِّتَةِ بِمَا وَجَبَ أَنْ يُعْذِرَ بِهِ، فَلَمْ يَكُنْ عِنْدَهُمْ مَدْفَعٌ فِي ذَلِكَ. وَسَأَلَ بَعْضُ الْوَرَثَةِ قَسْمَ الدَّارِ الَّتِي ثَبَتَ حَظُّ الْغَائِبِ فِيهَا، وَثَبَتَ عِنْدَ الْقَاضِي أَنَّ الَّذِي يَصِيرُ مِنْ الدَّارِ لِأَقَلِّهِمْ نَصِيبًا مِنْهَا مَا لَا يُنْتَفَعُ بِهِ لِلسُّكْنَى بِشَهَادَةِ فُلَانٍ وَفُلَانٍ، وَسَأَلَ هَذَا الرَّجُلُ الْقَائِمُ مِنْ الْقَاضِي أَنْ يَأْمُرَ بِبَيْعِ الدَّارِ إذْ لَا تَحْتَمِلُ الْقَسْمَ وَإِذْ لابد مِنْ بَيْعِ نَصِيبِ الْمَيِّتَةِ مِنْهَا لِتَنْفِيذِ وَصِيَّتِهَا، وَلِمَا دَعَا إلَيْهِ زَوْجُ الْمَيِّتَةِ مِنْ بَيْعِ نَصِيبِهِ مِنْهَا، وَسَأَلَ الْقَائِمُ أَنْ يُوَكِّلَ الْقَاضِي لِلْغَائِبِ مَنْ يَبِيعُ نَصِيبَهُ عَلَيْهِ، فَلَمَّا تَكَامَلَ ذَلِكَ عِنْدَ الْقَاضِي أَحَبَّ مَعْرِفَةَ الْوَاجِبِ فِي ذَلِكَ، وَكَتَبَ إلَيْهِ الْمُفْتُونَ الَّذِي نَقُولُ بِهِ- وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ لِلصَّوَابِ- أَنَّ عَلَى الْقَاضِي أَنْ يُوَكِّلَ لِلْغَائِبِ مَنْ يَبِيعُ عَلَيْهِ نَصِيبَهُ مِنْ الدَّارِ مَعَ مَنْ يُشْرِكُهُ فِيهَا مِنْ الْحَاضِرِينَ، وَيَقْبِضُ الْوَكِيلُ نَصِيبَ الْغَائِبِ لَهُ إلَى أَنْ يَقْدُمَ وَيُنَفِّذَ وَصِيُّ الْمَرْأَةِ وَصِيَّتَهَا مِنْ ثُلُثِ مَالِهَا عَلَى مَا يَجِبُ.
قَالَ ذَلِكَ مُحَمَّدُ بْنُ لُبَابَةَ، وَمُحَمَّدُ بْنُ الْوَلِيدِ، وَتَابَعَهُمَا أَيُّوبُ بْنُ سُلَيْمَانَ.
وَقَالَ: تُرْجَأُ الْحُجَّةُ لِلْغَائِبِ، وَتَابَعَهُمْ غَيْرُهُمْ مِنْ الْمُشَاوِرِينَ. اسْتِدْرَاكٌ: قَالَ الْقَاضِي أَبُو الْأَصْبَغِ بْنُ سَهْلٍ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ: وَجَوَابُهَا إغْفَالٌ لَمْ يَذْكُرْ فِيهَا ثُبُوتَ مَغِيبِ أَخِي الْمَيِّتَةِ، إنَّمَا ذَكَرَ فِي الْفُتْيَا عَلَى وَجْهِ الْحِكَايَةِ غَيْبَةَ الْغَائِبِ بِالْمَشْرِقِ وَكَانَ يَجِبُ أَنْ يَشْهَدَ بِمَغِيبِهِ وَاتِّصَالِهِ، وَأَنَّهُمْ لَا يَعْرِفُونَهُ رَجَعَ مِنْ مَغِيبِهِ إلَى حِينِ الشَّهَادَةِ، وَأَيْضًا لَمْ يُبَيِّنْ فِي الْفُتْيَا حَظَّ الْمَيِّتَةِ كَمْ هُوَ مِنْ الدَّارِ، وَإِنَّمَا قَالَ: وَأَثْبَتَ لِلْمَيِّتَةِ شِرْكًا فِي دَارٍ مَعَ أَخِيهَا، وَلَمْ يَذْكُرْ نَصِيبَهَا مِنْ نَصِيبِهِ، وَلَا مِلْكَهَا لِذَلِكَ النَّصِيبِ، وَلَا مِلْكَ أَخِيهَا لِبَاقِي الدَّارِ وَلَا حِيَازَتَهُمَا، وَلَا يَجِبُ لِلْقَاضِي أَنْ يَأْمُرَ بِقَسْمِهَا وَلَا بِالْبَيْعِ عَلَى الْغَائِبِ حَتَّى يَثْبُتَ ذَلِكَ كُلُّهُ، وَاتِّصَالُ الْمِلْكِ عَلَى مَا يَجِبُ وَأَيْضًا، وَقَعَ فِي السُّؤَالِ أَنَّ الْمَيِّتَةَ أَوْصَتْ بِثُلُثِهَا لِأُخْتِهَا وَهِيَ وَارِثَتُهَا، وَلَمْ يَذْكُرُوا أَنَّ الْوَصِيَّةَ لَا تَجُوزُ وَهُوَ إجْمَاعٌ، إلَّا أَنْ يُجِيزَهَا الْوَرَثَةُ وَبَعْضُهُمْ هُنَا غَائِبٌ، وَقَالُوا: إنَّ وَصِيَّ الْمَيِّتَةِ يُنَفِّذُ وَصِيَّتَهَا، وَهَذَا لَا يَكُونُ مَعَ غَيْبَةِ الْغَائِبِ، وَأَيْضًا أَنَّهُ وَقَعَ فِي السُّؤَالِ أَنَّهُ أَعْذَرَ، وَالْإِعْذَارُ فِي شَيْءٍ نَاقِصٍ لَا يُفِيدُ شَيْئًا، وَأَيْضًا إنَّهُمْ قَالُوا فِي جَوَابِهِمْ أَنَّهُ يُنَفِّذُ الْوَصِيَّةَ وَصِيُّهَا وَلَمْ يَذْكُرُوا مَنْ هُوَ، وَلَا أَنَّهُ قَبِلَ الْإِيصَاءَ أَوْ امْتَنَعَ مِنْهُ، وَهَذَا كُلُّهُ مِمَّا كَانَ يَلْزَمُ ذِكْرُهُ وَثُبُوتُهُ.
وَخَصَّصَ ابْنُ وَلِيدٍ فِي جَوَابِهِ إرْجَاءَ الْحُجَّةِ لِلْغَائِبِ فِي وَصِيَّةِ أُخْتِهِ، وَمِنْ حَقِّهِ إرْجَاؤُهَا لَهُ فِي مَبْلَغِ نَصِيبِهِ مِنْ الدَّارِ، وَفِي بَيْعِهِ عَلَيْهِ إذْ قَدْ يُبَاعُ بِبَخْسٍ مِنْ الثَّمَنِ وَفِي الشَّهَادَةِ بِأَنَّ الدَّرَاهِمَ لَا تَنْقَسِمُ، وَفِي هَذَا الِاسْتِدْرَاكِ فَوَائِدُ يُتَنَبَّهُ بِهَا عَلَى طَرِيقِ الْفُتْيَا وَالْحُكْمِ.
مَسْأَلَةٌ:
فِي الْقِسْمَةِ: قَامَ عِنْدَ الْقَاضِي رَجُلٌ فِي طَلَبِ قِسْمَةِ دَارٍ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَخِيهِ الْغَائِبِ، فَأَلْزَمَهُ إثْبَاتَ مِلْكِيَّتِهِمَا لِلدَّارِ وَأَنَّهَا مُشْتَرَكَةٌ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ، وَأَنَّهَا تَحْتَمِلُ الْقِسْمَةَ وَإِثْبَاتَ مَغِيبِ أَخِيهِ الْمَذْكُورِ، ثُمَّ تُحَازُ وَحِينَئِذٍ يَنْظُرُ فَإِنْ كَانَتْ الْغَيْبَةُ قَرِيبَةً وَالطَّرِيقُ آمِنَةً مَسْلُوكَةً فَيَلْزَمُ الْإِعْذَارُ إلَى أَخِيهِ الْغَائِبِ عَلَى مَا أَفْتَى بِهِ ابْنُ عَتَّابٍ، وَخَالَفَهُ ابْنُ الْقَطَّانِ '' وَابْنُ مَالِكٍ فِي الْإِعْذَارِ وَأَنَّهُ لَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ.
مَسْأَلَةٌ:
فِي الْإِقْرَارِ: قَامَتْ امْرَأَةٌ عَلَى رَجُلٍ غَائِبٍ بِدَيْنٍ لَهَا عَلَيْهِ وَذَكَرَتْ أَنَّ لِلْغَائِبِ دَيْنًا عَلَى رَجُلٍ حَاضِرٍ قَدْ حَلَّ عَلَيْهِ، وَأَحْضَرَتْ الْعَقْدَ الْمَكْتُوبَ عَلَى الْغَرِيمِ الْحَاضِرِ فَحَضَرَ غَرِيمُ الْغَائِبِ مَجْلِسَ الْحُكْمِ، وَأَقَرَّ بِالدَّيْنِ وَبِصِحَّةِ الْعَقْدِ، وَأَنَّ الدَّيْنَ بَاقٍ عَلَيْهِ لِلْغَائِبِ، وَأَثْبَتَتْ عِنْدَ الْحَاكِمِ غَيْبَةَ غَرِيمِهَا، فَأَفْتَى ابْنُ عَتَّابٍ وَابْنُ مَالِكٍ أَنَّ إقْرَارَ غَرِيمِ الْغَائِبِ لَا يُكْتَفَى بِهِ، وَأَنَّ الْقَاضِيَ يُلْزِمُ الْمَرْأَةَ الْقَائِمَةَ بِإِثْبَاتِ الْعَقْدِ، فَإِذَا ثَبَتَ أَمَرَهَا بِالْحَلِفِ فِي مَقْطَعِ الْحَقِّ بِمَا يَجِبُ عَلَيْهَا أَنْ تَحْلِفَ بِهِ وَيَتَقَاضَى يَمِينَهَا مَنْ يُقَدِّمُهُ الْقَاضِي لِذَلِكَ، فَإِذَا حَلَفَتْ أُمِرَ غَرِيمُ الْغَائِبِ بِإِحْضَارِ مَا عَلَيْهِ، وَيَدْفَعُ لِلْمَرْأَةِ حَقَّهَا، وَتُرْجَأُ الْحُجَّةُ لِلْغَائِبِ إذَا لَمْ يُمْكِنْ الْإِعْذَارُ إلَيْهِ.
مَسْأَلَةٌ:
فِي رَجُلٍ قَامَ يَطْلُبُ نَفَقَتَهُ فِي مَالِ ابْنِهِ الْغَائِبِ: قَامَ رَجُلٌ عِنْدَ الْقَاضِي وَأَثْبَتَ أَنَّهُ فَقِيرٌ عَدِيمٌ لَا مَالَ لَهُ، وَأَنَّ ابْنَهُ فُلَانًا غَابَ نَحْوَ كَذَا وَكَذَا سَنَةً، وَأَنَّ خَمْسَةَ أَثْمَانِ الدَّارِ الَّتِي بِحَاضِرِ بَلَدِ كَذَا، وَذَكَرَ صِفَتَهَا وَحُدُودَهَا، وَأَنَّهَا مُشْتَرَكَةٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ فُلَانٍ الَّذِي لَهُ بَاقِيهَا وَحِيزَتْ، وَثَبَتَ عِنْدَ الْقَاضِي حِيَازَتُهَا وَأَقَرَّ عِنْدَهُ الَّذِي لَهُ بَاقِيهَا بِالِاشْتِرَاكِ مَعَ الْغَائِبِ عَلَى التَّجْزِئَةِ الْمَذْكُورَةِ، وَثَبَتَ عِنْدَهُ ذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِ، وَإِقْرَارِهِ، فَسَأَلَ الْأَبُ مِنْ الْقَاضِي بَيْعَ نَصِيبِ ابْنِهِ مِنْهَا وَالْإِنْفَاقَ مِنْهُ عَلَيْهِ وَعَلَى زَوْجَتِهِ، فَشَاوَرَ الْقَاضِي أَحْمَدُ بْنُ بَقِيٍّ فِي ذَلِكَ الْفُقَهَاءَ فَأَفْتَى ابْنُ عَتَّابٍ بِأَنَّهُ لَا سَبِيلَ إلَى بَيْعِ هَذِهِ الدَّارِ بِسَبَبِ الْأَبِ الطَّالِبِ لِلنَّفَقَةِ، إذْ لَا تَجِبُ النَّفَقَةُ فِي شَيْءٍ مِنْ ثَمَنِهَا، وَهَذَا مِمَّا لَا اخْتِلَافَ فِيهِ بَيْنَ أَصْحَابِ مَالِكٍ، وَلَا غَيْرِهِمْ، وَلَا نَفَقَةَ لِلْأَبِ إلَّا بَعْدَ ثُبُوتِ حَيَاةِ الِابْنِ وَمَلَائِهِ، إذْ قَدْ يَكُونُ مَيِّتًا أَوْ مِدْيَانًا. وَلَوْ بَاعَ الْحَاكِمُ نَصِيبَ هَذَا الِابْنِ الْغَائِبِ قَبْلَ صِحَّةِ حَيَاتِهِ وَتَيَقُّنِهَا، وَأَنْفَقَ عَلَى الْأَبِ مِنْ ذَلِكَ لَلَزِمَهُ غُرْمُهُ؛ لِأَنَّهُ مِنْ الْخَطَأِ الَّذِي لَا يُعْذَرُ فِيهِ، وَلَا يُبَاعُ حَظُّ الْغَائِبِ مِنْ الدَّارِ بِوَجْهٍ، وَإِنْ ادَّعَى شَرِيكُهُ فِيهَا إلَى ذَلِكَ، وَيُقْسَمُ وَيُوقَفُ نَصِيبُ الْغَائِبِ، وَإِنْ كَانَ حَصَلَ مِنْهَا كِرَاءٌ فَيُعْطَى لِلْأَبِ يَرْتَفِقُ بِهِ وَيُكْرَى نَصِيبَهُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، وَيُعْطَى لِلْأَبِ عَلَى وَجْهِ السَّلَفِ.

.الْفَصْلُ السَّادِسُ فِي حُكْمِ الْوَكَالَةِ فِي الدَّعْوَى:

مَسْأَلَةٌ:
وَلَيْسَ لِرَجُلٍ وَلَا لِامْرَأَةٍ أَنْ يُوَكِّلَ فِي الْخِصَامِ أَكْثَرَ مِنْ وَكِيلٍ كَانَ لَهُ أَوْ عَلَيْهِ، إذَا كَانَ فِي نَصِّ التَّوْكِيلِ الْإِقْرَارُ وَالْإِنْكَارُ.
مَسْأَلَةٌ:
إذَا أَسْقَطَ مِنْ التَّوْكِيلِ ذِكْرَ الْإِقْرَارِ عَلَيْهِ أَوْ الْإِنْكَارِ عَنْهُ كَانَ تَوْكِيلًا نَاقِصًا، وَلَزِمَ الْمُوَكِّلَ إتْمَامُهُ، عَلَى ذَلِكَ قَالَ ابْنُ سَهْلٍ.
وَرَأَيْت فُقَهَاءَ طُلَيْطِلَة يَذْهَبُونَ إلَى أَنَّ مَنْ وَكَّلَ عَلَى طَلَبِ حُقُوقِهِ وَالْمُخَاصَمَةِ عَنْهُ فِيهَا وَفِيمَا طُولِبَ بِهِ، وَعَلَّقَ الْإِقْرَارَ عَلَيْهِ وَالْإِنْكَارَ عَنْهُ عَلَى مَا عُهِدَ فِي وَثَائِقِ التَّوْكِيلِ، فَأَقَرَّ الْوَكِيلُ أَنَّ مُوَكِّلَهُ وَهَبَ دَارِهِ لِزَيْدٍ أَوْ قَالَ لِفُلَانٍ عَلَى الَّذِي وَكَّلَنِي مِائَةُ دِينَارٍ- أَنَّ ذَلِكَ لَازِمٌ لِمُوَكِّلِهِ، وَأَنْكَرَ ذَلِكَ ابْنُ عَتَّابٍ.
وَقَالَ: إنَّمَا يَلْزَمُهُ إقْرَارُهُ فِيمَا كَانَ مِنْ مَعْنَى الْمُخَاصَمَةِ الَّتِي وَكَّلَ عَلَيْهَا، وَأَمَّا أَنْ يُقِرَّ عَلَيْهِ بِمَا يُخْرِجُهُ مِنْ أَمْلَاكِهِ فَلَا يُقْبَلُ مِنْهُ، قَالَ ابْنُ سَهْلٍ: وَهُوَ الصَّحِيحُ عِنْدِي.
وَقَالَ أَصْبَغُ: يَقْبَلُ الْحَاكِمُ الْوَكَالَةَ وَلَا يَرُدُّهَا، وَإِنْ لَمْ يَجْعَلْ لَهُ فِيهَا الْإِقْرَارَ، وَإِنَّمَا جَعَلَ لَهُ الْمُدَافَعَةَ، وَهَذَا خِلَافُ مَا ذَهَبَ إلَيْهِ ابْنُ الْعَطَّارِ مِنْ أَنَّهُ لَا يُقْبَلُ ذَلِكَ حَتَّى يَجْعَلَ لَهُ مَعَ ذَلِكَ الْإِقْرَارَ.
قَالَ ابْنُ رُشْدٍ: وَقَدْ نَزَلَتْ فَقُضِيَ فِيهَا بِأَنْ لَا تُقْبَلَ الْوَكَالَةُ إلَّا أَنْ يَحْضُرَ مَعَ وَكِيلِهِ لِيُقِرَّ بِمَا يُوقِفُهُ عَلَيْهِ خَصْمُهُ، أَوْ يَكُونَ فِي وَقْتِ الْحُكْمِ قَرِيبًا مِنْ مَجْلِسِ الْقَاضِي.
مَسْأَلَةٌ:
قَالَ ابْنُ سَهْلٍ: أَمَّا تَوْكِيلُ الْوَصِيِّ عَلَى الْمُخَاصَمَةِ عَنْ يَتِيمِهِ، فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَجْعَلَ لِلْوَكِيلِ الْإِقْرَارَ عَلَيْهِ، وَقَدْ شَاهَدْت بَعْضَ الْفُقَهَاءِ يُنْكِرُ عَقْدَ ذَلِكَ فِي تَوْكِيلِ الْوَصِيِّ عَنْ يَتِيمِهِ. وَرَأَيْت بَعْضَ فُقَهَاءِ قُرْطُبَةَ يُخَاطِبُ قُضَاةَ غَيْرِهَا بِثُبُوتِ مِثْلِ هَذِهِ الْوَكَالَةِ خَالِيَةً مِنْ ذِكْرِ الْإِقْرَارِ، وَشَافَهْت أَبَا مَرْوَانَ بْنَ مَالِكٍ فِي ذَلِكَ فَقَالَ لِي: هَذَا الَّذِي رَأَيْت يُعْمَلُ مُنْذُ خَمْسٍ وَعِشْرِينَ سَنَةً، وَهُوَ الَّذِي أُفْتِي بِهِ أَنَّ إقْرَارَ الْوَصِيِّ لَا يَجُوزُ عَلَى يَتِيمِهِ. قُلْت لَهُ: قَدْ ذَكَرَ ابْنُ الْهِنْدِيِّ فِي وَثَائِقِهِ مِثْلَ هَذِهِ الْوَكَالَةِ وَذَكَرَ فِيهَا الْإِقْرَارَ، قَالَ كَذَلِكَ هُوَ، وَهُوَ خِلَافٌ قَدْ تَكَلَّمْت فِي ذَلِكَ مَعَ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَتَّابٍ فَقَالَ لِي: هُوَ خَطَأٌ مِنْ ابْنِ الْهِنْدِيِّ.
مَسْأَلَةٌ:
مَنْ وَكَّلَ ابْتِدَاءً إضْرَارًا لِخَصْمِهِ لَمْ يُمَكَّنْ مِنْ ذَلِكَ.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ لُبَابَةَ: كُلُّ مَنْ ظَهَرَ مِنْهُ عِنْدَ الْقَاضِي لَدَدٌ وَتَشْغِيبٌ فِي خُصُومَةٍ فَلَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَقْبَلَهُ فِي وَكَالَةٍ، إذْ لَا يَحِلُّ إدْخَالُ اللَّدَدِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ.
قَالَ ابْنُ سَهْلٍ: وَاَلَّذِي ذَهَبَ النَّاسُ إلَيْهِ فِي الْقَدِيمِ وَالْجَدِيدِ قَبُولُ الْوُكَلَاءِ إلَّا مَنْ ظَهَرَ مِنْهُ تَشْغِيبٌ وَلَدَدٌ، فَلِذَلِكَ يَجِبُ عَلَى الْقَاضِي إبْعَادُهُ وَأَنْ لَا يَقْبَلَ لَهُ وَكَالَةً عَلَى أَحَدٍ.
مَسْأَلَةٌ:
قَالَ ابْنُ سَهْلٍ: وَسُئِلَ سَحْنُونٌ عَمَّنْ وَكَّلَ رَجُلًا عَلَى مُخَاصَمَةِ رَجُلٍ فَلَمْ يَقُمْ الْوَكِيلُ بِذَلِكَ إلَّا بَعْدَ سَنَتَيْنِ، وَقَدْ أَنْشَبَ الْخُصُومَةَ قَبْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ أَتَى بِالْبَيِّنَةِ، أَوْ لَمْ يُنْشِبْ الْخُصُومَةَ وَلَمْ يُعْرِضْ فِي شَيْءٍ حَتَّى مَرَّتْ السَّنَتَانِ، ثُمَّ قَامَ بَعْدَهُمَا يَطْلُبُ بِتِلْكَ الْوَكَالَةِ الْقَدِيمَةِ أَلَهُ ذَلِكَ أَمْ يُجَدِّدُ الْوَكَالَةَ؟ فَقَالَ سَحْنُونٌ: يَبْعَثُ الْحَاكِمُ إلَى الْوَكِيلِ لِيَسْأَلَهُ أَهُوَ عَلَى وَكَالَتِهِ أَوْ خَلَعَهُ عَنْهَا، وَإِنْ كَانَ غَائِبًا فَالْوَكِيلُ عَلَى وَكَالَتِهِ.
قَالَ ابْنُ سَهْلٍ: رَأَيْت بَعْضَ شُيُوخِنَا يَسْتَكْثِرُ إمْسَاكَهُ عَنْ الْخُصُومَةِ سِتَّةَ أَشْهُرٍ أَوْ نَحْوَهَا، وَيَرَى تَجْدِيدَ الْوَكَالَةِ إنْ أَرَادَ الْخُصُومَةَ.
قَالَ ابْنُ الْمُنَاصِفِ: أَمَّا إذَا خَاصَمَ وَاتَّصَلَ خِصَامُهُ وَطَالَ سِنِينَ فَهُوَ عَلَى وَكَالَتِهِ الْأُولَى.
مَسْأَلَةٌ:
لِلْمُوَكِّلِ عَزْلُ الْوَكِيلِ مَا لَمْ يُنَاشِبْ الْخُصُومَةَ، فَإِنْ كَانَ الْوَكِيلُ قَدْ نَازَعَ خَصْمَهُ وَجَالَسَهُ عِنْدَ الْحَاكِمِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ فَأَكْثَرَ لَمْ يَكُنْ لَهُ عَزْلُهُ إلَّا أَنْ يَظْهَرَ مِنْهُ غِشٌّ أَوْ تَدْخِيلٌ فِي خُصُومَتِهِ وَمَيْلٌ مَعَ الْمُخَاصِمِ لَهُ فَلَهُ عَزْلُهُ، وَكَذَلِكَ لَوْ وَكَّلَهُ بِأَجْرٍ فَظَهَرَ غِشُّهُ كَانَ عَيْبًا، وَلَهُ أَنْ يَفْسَخَ الْوَكَالَةَ اُنْظُرْ التَّبْصِرَةَ لِلَّخْمِيِّ.
مَسْأَلَةٌ:
وَإِذَا تَعَلَّقَ بِالْوَكَالَةِ حَقٌّ لِلْوَكِيلِ، مِثْلُ أَنْ يَكُونَ بِعِوَضٍ فَإِنَّهَا تَكُونُ إجَارَةً، فَلَا يُمَكَّنُ الْمُوَكِّلُ مِنْ عَزْلِ الْوَكِيلِ أَوْ تَتَصَوَّرُ لِلْوَكِيلِ مَنْفَعَةٌ مِنْ غَيْرِ جِهَةِ الْمُعَارَضَةِ، أَوْ يَكُونَ فِي ذَلِكَ حَقٌّ لِغَيْرِهِ، فَلِصَاحِبِ الْحَقِّ أَنْ يَمْنَعَ الْمُوَكِّلَ مِنْ عَزْلِ الْوَكِيلِ مِنْ الْمَازِرِيِّ.
وَقَالَ أَصْبَغُ فِي الْوَاضِحَةِ: إذَا قَاعَدَهُ مُقَاعَدَةً تَثْبُتُ فِيهَا الْحُجَجُ لَمْ يَكُنْ لَهُ عَزْلُهُ، وَمِثْلُهُ فِي أَحْكَامِ ابْنِ زِيَادٍ.
وَوَقَعَ لِأَصْبَغَ فِي الْوَاضِحَةِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ لَهُ أَنْ يَعْزِلَهُ عَنْ الْخِصَامِ مَا لَمْ يُشْرِفْ عَلَى تَمَامِ الْحُكْمِ، فَإِذَا عَلِمْت هَذَا فَاعْلَمْ أَنَّ الْمَكَانَ الَّذِي لَا يَكُونُ لِلْمُوَكِّلِ أَنْ يَعْزِلَهُ عَنْ الْخِصَامِ لَا يَكُونُ لَهُ هُوَ أَنْ يَتَنَصَّلَ عَنْ الْخِصَامِ إذَا قَبِلَ الْوَكَالَةَ.
مَسْأَلَةٌ:
لَا يُمْنَعُ الْخَصْمَانِ مِنْ السَّفَرِ وَلَا مَنْ أَرَادَهُ مِنْهُمَا، وَيَكُونُ لَهُ أَنْ يُوَكِّلَ عِنْدَ ذَلِكَ. قَالَ ابْنُ الْقَطَّانِ: وَيَلْزَمُهُ فِي السَّفَرِ الْيَمِينُ أَنَّهُ مَا اسْتَعْمَلَ السَّفَرَ لِيُوَكِّلَ غَيْرَهُ، فَإِنْ نَكَلَ عَنْ الْيَمِينِ لَمْ يُبَحْ لَهُ التَّوْكِيلُ إلَّا أَنْ يَشَاءَ خَصْمُهُ ذَلِكَ.
وَقَالَ ابْنُ الْفَخَّارِ لَا يَمِينَ عَلَيْهِ.
مَسْأَلَةٌ:
وَيَكُونُ لَهُ أَيْضًا أَنْ يُوَكِّلَ إذَا كَانَ خَصْمُهُ قَدْ أَخْرَجَهُ وَشَاتَمَهُ فَحَلَفَ أَنْ لَا يُخَاصِمَهُ بِنَفْسِهِ. قَالَ ابْنُ الْفَخَّارِ: فَإِنْ حَلَفَ أَنْ لَا يُخَاصِمَهُ دُونَ عُذْرٍ يُوجِبُ الْيَمِينَ، لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يُوَكِّلَ.
مَسْأَلَةٌ:
وَإِذَا ادَّعَى الرَّجُلُ عَلَى خَصْمِهِ عِنْدَ الْحُكْمِ، فَهَلْ لِلْمُدَّعَى عَلَيْهِ أَنْ يُوَكِّلَ قَبْلَ أَنْ يُجِيبَ عَنْ تِلْكَ الدَّعْوَى بِإِقْرَارٍ أَوْ إنْكَارٍ؟ فَقِيلَ: إنَّهُ لَا يُمَكَّنُ مِنْ التَّوْكِيلِ حَتَّى يُجِيبَ، فَإِنْ لَمْ يُجِبْ حَمَلَهُ الْحَاكِمُ عَلَى الْجَوَابِ بِالْأَدَبِ قَالَ ابْنُ الْهِنْدِيِّ: وَقَوْلُ مَنْ قَالَ إنَّ لَهُ أَنْ يُوَكِّلَ قَبْلَ أَنْ يُجِيبَ أَصَحُّ، لِأَنَّهُ قَدْ أُجِيزَ لِلْحَاضِرِ أَنْ يُوَكِّلَ.
قَالَ ابْنُ سَهْلٍ وَالصَّحِيحُ عِنْدِي أَنَّهُ لَا يُمَكَّنُ مِنْ ذَلِكَ لِأَنَّ اللَّدَدَ فِيهِ ظَاهِرٌ.
وَقَالَ ابْنُ الْعَطَّارِ: لَهُ أَنْ يُوَكِّلَ قَبْلَ الْمُجَاوَبَةِ إذَا كَانَ الْوَكِيلُ بِالْحَضْرَةِ فَيُجَاوِبُ عَنْهُ، فَإِنْ لَمْ يُوَكِّلْ فَإِنَّهُ يُقَالُ لَهُ بَعْدَ الْأَدَبِ: قُلْ الْآنَ مَا كُنْت تَأْمُرُ بِهِ وَكِيلَك أَنْ يَقُولَهُ عَنْك، فَإِنْ أَبَى عُلِمَ أَنَّهُ مُلِدٌّ.
مَسْأَلَةٌ:
قَالَ ابْنُ سَهْلٍ وَغَيْرُهُ: وَاَلَّذِي جَرَى بِهِ الْعَمَلُ أَنَّ التَّوْكِيلَ جَائِزٌ لِمَنْ شَاءَ مِنْ طَالِبٍ أَوْ مَطْلُوبٍ، وَكَانَ سَحْنُونٌ لَا يُبِيحُ لِلْمَطْلُوبِ أَنْ يُوَكِّلَ إلَّا لِعُذْرٍ كَمَرَضٍ أَوْ امْرَأَةٍ مَحْجُوبَةٍ أَوْ رَجُلٍ وَاقِفٍ فِي بَابِ الْحَاكِمِ كَالْحَاجِبِ وَنَحْوِهِ، وَيَرَى أَنَّ ذَلِكَ مِنْ بَابِ الضَّرُورَةِ، وَأَمَّا مِنْ سَائِرِ الْجَبَابِرَةِ فَلَا (مِنْ الطُّرَرِ).
مَسْأَلَةٌ:
فِي وَثَائِقِ ابْنِ الْعَطَّارِ: وَلَا يَصْلُحُ لِلرَّجُلِ أَنْ يُوَكِّلَ أَبَاهُ لِيَطْلُبَ لَهُ حَقَّهُ لِأَنَّ ذَلِكَ اسْتِهَانَةٌ لِلْأَبِ.
مَسْأَلَةٌ:
قَالَ ابْنُ زَرْبٍ: إذَا وَقَعَ التَّوْكِيلُ عِنْدَ حَاكِمٍ وَصَرَّحَ الْمُوَكِّلُ فِي التَّوْكِيلِ بِاسْمِ الْحَاكِمِ لَمْ يَكُنْ لَهُ التَّكَلُّمُ عِنْدَ حَاكِمٍ غَيْرِهِ، وَإِنْ كَانَ التَّوْكِيلُ مُجْمَلًا فَلَهُ أَنْ يُخَاصِمَهُ حَيْثُ شَاءَ.
مَسْأَلَةٌ:
وَإِذَا مَاتَ الْمُوَكِّلُ لَمْ يَكُنْ لِلْوَكِيلِ أَنْ يُخَاصِمَ إلَّا أَنْ يُشْرِفَ عَلَى تَمَامِ الْخُصُومَةِ، فَلَهُ أَنْ يُتَمِّمَهَا، وَلَيْسَ لِلْوَرَثَةِ حِينَئِذٍ عَزْلُهُ عَنْهَا مِنْ الِاسْتِغْنَاءِ لِابْنِ عَبْدِ الْغَفُورِ.
مَسْأَلَةٌ:
إذَا أَقَرَّ الْوَكِيلُ بَعْدَ الْوَكَالَةِ أَنَّ الْمُوَكِّلَ قَبَضَ الْمَالَ لَزِمَ الْمُوَكِّلَ ذَلِكَ وَسَقَطَ الْمَالُ عَنْ خَصْمِهِ، لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ إقْرَارِهِ نَفْسِهِ كَمَا يَلْزَمُهُ سَائِرُ إقْرَارِهِ كُلِّهِ، وَذَلِكَ فِيمَا كَانَ بَعْدَ تَوْكِيلِهِ، فَلَمَّا أَنْ قَالَ إنَّ ذَلِكَ كَانَ قَبْلَ تَوْكِيلِهِ لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ، وَلَا تَجُوزُ شَهَادَتُهُ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا تَوَكَّلَ فِي بَاطِلٍ فَانْفَسَخَتْ وَكَالَتُهُ.
مَسْأَلَةٌ:
وَإِذَا وَكَّلَهُ عَلَى الْخِصَامِ فِي قَضِيَّةٍ فَخَاصَمَ عَنْهُ وَانْقَضَتْ تِلْكَ الْقَضِيَّةُ وَأَرَادَ الْوَكِيلُ أَنْ يُخَاصِمَ عَنْهُ فِي غَيْرِهَا، فَإِنْ كَانَ بِقُرْبِ الْخِصَامِ الْأَوَّلِ كَانَ لَهُ ذَلِكَ إذَا كَانَتْ الْوَكَالَةُ مُبْهَمَةً لَمْ يَذْكُرْ فِيهَا أَنَّهُ وَكَّلَهُ عَلَى مُخَاصَمَةِ فُلَانٍ، أَوْ فِي أَمْرِ كَذَا وَكَذَا إذَا اتَّصَلَ بَعْضُ ذَلِكَ بِبَعْضٍ، أَوْ كَانَ بَيْنَهُمَا الْأَيَّامُ وَإِنْ تَطَاوَلَ ذَلِكَ سِنِينَ وَالْمُوَكِّلُ غَائِبٌ لَمْ يَحْتَجْ إلَى تَجْدِيدِ التَّوْكِيلِ إذَا لَمْ يَقْصُرْهُ عَلَى مَطْلَبٍ سَمَّاهُ كَمَا قَدَّمْنَاهُ فَأَمَّا إذَا قَصَرَهُ عَلَى مَطْلَبٍ مُعَيَّنٍ وَكَانَ بَيْنَ الْمَطْلَبَيْنِ الْأَشْهُرُ، فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُخَاصِمَ عَنْهُ إلَّا فِيمَا وَكَّلَهُ فِيهِ، وَيُسْتَحْسَنُ فِي مِثْلِ هَذَا أَنْ يُجَدِّدَ لَهُ التَّوْكِيلَ وَحِينَئِذٍ يَتَكَلَّمُ عَنْهُ.
مَسْأَلَةٌ:
قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي الْكَافِي: جَرَى الْعَمَلُ عِنْدَنَا أَنَّهُ إذَا جَعَلَ الْمُوَكِّلُ إلَى الْوَكِيلِ الْإِقْرَارَ لَزِمَهُ مَا أَقَرَّ بِهِ عِنْدَ الْقَاضِي وَزَعَمَ ابْنُ خُوَيْزِ مَنْدَادٍ أَنَّ تَحْصِيلَ مَذْهَبِ مَالِكٍ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ إقْرَارُهُ، وَهَذَا فِي غَيْرِ الْمُفَوَّضِ إلَيْهِ، قَالَ: وَقَدْ اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ فِيمَنْ قَالَ مَا أَقَرَّ بِهِ عَلَيَّ فَهُوَ لَازِمٌ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ.
مَسْأَلَةٌ:
وَمَنْ عَزَلَ وَكِيلَهُ فَأَرَادَ الْوَكِيلُ أَنْ يَتَوَكَّلَ لِخَصْمِهِ فَأَبَى الْأَوَّلُ؛ لِمَا اطَّلَعَ عَلَيْهِ مِنْ عَوْرَاتِهِ وَوُجُوهِ خُصُومَاتِهِ، فَلَا يُقْبَلُ مِنْهُ قَوْلُهُ وَيَتَوَكَّلُ لَهُ مِنْ الِاسْتِغْنَاءِ.
مَسْأَلَةٌ:
سُئِلَ ابْنُ رُشْدٍ عَنْ الْوَكِيلِ إذَا قُيِّدَتْ عَلَيْهِ مَقَالَةٌ بِإِقْرَارِهِ عَلَى مُوَكِّلِهِ الَّذِي وَكَّلَهُ، فَلَمَّا طُلِبَ ذَلِكَ الْإِقْرَارُ اسْتَظْهَرَ مُوَكِّلُهُ بِعَزْلِهِ عَزَلَهُ إيَّاهَا قَبْلَ الْإِقْرَارِ الْمَذْكُورِ دُونَ أَنْ يَعْلَمَ الْوَكِيلُ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ، هَلْ يَسْقُطُ الْإِقْرَارُ الْمَذْكُورُ أَمْ لَا؟ فَأَجَابَ مَا تَقَيَّدَ عَلَى الْوَكِيلِ لَازِمٌ لِمُوَكِّلِهِ، إلَّا أَنْ يَكُونَ عَزَلَهُ قَبْلَ مُنَاشَبَةِ الْخِصَامِ عَزْلًا أَعْلَنَ بِهِ وَأَشْهَدَ عَلَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ مِنْهُ تَفْرِيطٌ فِي تَأْخِيرِ إعْلَامِهِ، وَأَمَّا بَعْدَ مُنَاشَبَةِ الْخِصَامِ أَوْ قَبْلَهُ سِرًّا فَلَا يَجُوزُ عَزْلُهُ.
مَسْأَلَةٌ:
وَلَيْسَ فِي التَّوْكِيلِ إعْذَارٌ وَلَا آجَالً، وَفِي أَحْكَامِ ابْنِ زِيَادٍ فِيمَنْ طَلَبَ أَنْ يُعْذَرَ إلَيْهِ فِي تَوْكِيلِ خَصْمِهِ، قَالَ لَمْ نَرَ أَحَدًا مِنْ الْقُضَاةِ وَلَا غَيْرِهِمْ مِنْ السَّلَاطِينِ ضَرَبَ لِأَحَدٍ أَجَلًا فِي تَوْكِيلٍ، وَإِنَّمَا السِّيرَةُ عِنْدَ الْقُضَاةِ أَنْ يَثْبُتَ التَّوْكِيلُ عِنْدَهُمْ ثُمَّ يُسْمَعُ مِنْ الطَّالِبِ وَيُنْظَرُ فِيمَا جَاءَ بِهِ، فَأَمَّا إذَا دَعَا إلَى أَنْ يُؤَجِّلَ فِي الْمَدْفَعِ أَجَلَهُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ أَوْ نَحْوَهَا.
وَقَالَ ابْنُ الْهِنْدِيِّ فِي وَثَائِقِهِ: وَالْإِعْذَارُ إلَى الْمُوَكِّلِ مِنْ تَمَامِ الْوَكَالَةِ، فَإِنْ لَمْ يُعْذِرْ إلَيْهِ جَازَ، قَالَ ابْنُ عَتَّابٍ: كَانَ الْإِعْذَارُ مِنْ الشَّأْنِ الْقَدِيمِ، ثُمَّ تُرِكَ قَالَ ابْنُ بَشِيرٍ الْقَاضِي: وَإِنَّمَا تَرَكَ الْإِعْذَارَ مَنْ تَرَكَهُ فِي الْوَكَالَةِ؛ لِأَنَّهُ لابد أَنْ يُعْذِرَ إلَيْهِ عِنْدَ إرَادَتِهِ الْحُكْمَ لَهُ أَوْ عَلَيْهِ فِي آخِرِ الْأَمْرِ، فَاسْتَغْنَى عَنْهُ أَوَّلًا.
قَالَ ابْنُ سَهْلٍ: وَهَذِهِ نُكْتَةٌ حَسَنَةٌ اهـ، وَإِنَّمَا أَوْجَبُوا الْإِعْذَارَ إلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ مَشْهُودٌ عَلَيْهِ بِالتَّوْكِيلِ، وَإِذَا ثَبَتَ الْوَكَالَةُ ثَبَتَ لِلْوَكِيلِ التَّصَرُّفُ فِي مَالِ الْمُوَكِّلِ وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنْ وُجُوهِ التَّصَرُّفِ.
[مَسْأَلَةٌ فِي الْمَطْلُوبِ يُوَافِقُ عَلَى صِحَّةِ الْوَكَالَةِ قَبْلَ ثُبُوتِهَا]
وَإِذَا قَامَ رَجُلٌ عَلَى رَجُلٍ فِي مَهْرِ امْرَأَةٍ أَوْ دَيْنِ رَجُلٍ وَادَّعَى وَكَالَةَ صَاحِبِ ذَلِكَ فَأَقَرَّ الْمَطْلُوبُ بِالدَّيْنِ أَوْ الْمَهْرِ، وَاعْتَرَفَ بِصِحَّةِ الْوَكَالَةِ، فَإِنَّهُ يَلْزَمُ دَفْعُ ذَلِكَ إلَيْهِ، فَإِنْ قَامَ صَاحِبُ الْحَقِّ عَلَى الْمَطْلُوبِ بِطَلَبِهِ بِذَلِكَ قُضِيَ لَهُ بِهِ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يُقْضَى عَلَيْهِ أَوَّلًا بِإِقْرَارِهِ، وَالْمُصِيبَةُ مِنْهُ.

.فَصْلٌ الْوَكَالَةُ جَائِزَةٌ بِعِوَضٍ أَوْ بِغَيْرِ عِوَضٍ:

فَإِنْ كَانَتْ بِعِوَضٍ فَهِيَ إجَازَةٌ تَلْزَمُهُمَا بِالْعَقْدِ، وَلَا يَكُونُ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا التَّخَلِّي وَتَكُونُ بِعِوَضٍ مُسَمًّى وَإِلَى أَجَلٍ مَضْرُوبٍ وَفِي عَمَلٍ مَعْرُوفٍ، وَإِنْ كَانَتْ بِغَيْرِ عِوَضٍ فَهِيَ مَعْرُوفٌ مِنْ الْوَكِيلِ تَلْزَمُهُ إذَا قَبِلَ، وَلِلْمُوَكِّلِ عَزْلُهُ مَتَى شَاءَ إلَّا أَنْ تَكُونَ الْوَكَالَةُ فِي الْخِصَامِ، فَحُكْمُ عَزْلِهِ مَذْكُورٌ قَبْلُ. هَذَا وَيَجُوزُ لِلْوَكِيلِ فِي غَيْرِ الْخِصَامِ أَنْ يَعْزِلَ نَفْسَهُ مَتَى شَاءَ مِنْ غَيْرِ اعْتِبَارِ رِضَا مُوَكِّلِهِ، إلَّا أَنْ يَتَعَلَّقَ بِهِ حَقٌّ لِأَحَدٍ، وَيَكُونُ فِي عَزْلِ نَفْسِهِ إبْطَالٌ لِذَلِكَ الْحَقِّ، فَلَا يَكُونُ لَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ قَدْ تَبَرَّعَ بِمَنَافِعِهِ.
مَسْأَلَةٌ:
وَاخْتُلِفَ فِي الْجُعْلِ عَلَى الْخُصُومَةِ، عَلَى أَنَّهُ إنْ فَلَجَ فَلَهُ كَذَا وَإِلَّا فَلَا شَيْءَ لَهُ عَلَى قَوْلَيْنِ، وَمَنْ أَجَازَهُ شَبَّهَهُ بِمُجَاعَلَةِ الطَّبِيبِ عَلَى الْبُرْءِ.
وَفِي التَّهْذِيبِ: وَكَرِهَ مَالِكٌ الْجُعْلَ عَلَى الْخُصُومَةِ عَلَى أَنَّهُ لَا يَأْخُذُ إلَّا بِإِدْرَاكِ الْحَقِّ، قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ فَإِنْ عَمِلَ عَلَى ذَلِكَ فَلَهُ أَجْرُ مِثْلِهِ، وَرُوِيَ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ جَائِزٌ، وَإِنَّمَا كَرِهَ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهَا عَلَى الشَّرِّ وَالْمُجَادَلَةِ؛ وَلِأَنَّهَا قَدْ تَطُولُ وَلَا يُنْجِزُ مِنْهُمَا غَرَضَ الْجَاعِلِ فَيَذْهَبُ عَمَلُهُ مَجَّانًا، وَالرِّوَايَةُ بِإِجَازَةِ ذَلِكَ لِمَا بِالنَّاسِ مِنْ الضَّرُورَةِ إلَى ذَلِكَ. وَفِي الطُّرَرِ قَالَ الشَّعْبَانِيُّ: لَا خَيْرَ فِي الْوَكَالَةِ عَلَى الْخُصُومَةِ إذَا كَانَتْ بِالْأُجْرَةِ حَتَّى تَنْقَطِعَ؛ لِأَنَّهَا قَدْ تَطُولُ وَتَقْصُرُ.
قَالَ وَلَوْ تَوَكَّلَ عَلَى أَنْ يَحْضُرَ مَعَهُ مَجْلِسَ السُّلْطَانِ فِي كُلِّ يَوْمٍ كَذَا يُنَاظِرُ عَنْهُ كَانَ جَائِزًا، وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ قَدْرَ مُقَامِهِ مِنْ السَّاعَاتِ، قَالَ غَيْرُهُ: لِأَنَّ ذَلِكَ خَفِيفُ الْقَدْرِ مُتَقَارِبُ الْأَمْرِ، قَالَ وَلَوْ حَضَرَ مَعَهُ الْيَوْمَ فَلَمْ يَجْلِسْ مَنْ يُخَاصِمُ إلَيْهِ فَانْتَظَرَهُ إلَى آخِرِ مَجْلِسِهِ وَجَبَ لَهُ حَقُّهُ، وَإِنْ انْصَرَفَ فِي أَوَّلِ مَا حَضَرَ بَطَلَ ذَلِكَ وَلَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ حُضُورُ يَوْمٍ آخَرَ؛ لِأَنَّ الْيَوْمَ الَّذِي كَانَ أَجْرُهُ فِيهِ قَدْ ذَهَبَ.
مَسْأَلَةٌ:
وَلَا تَجُوزُ الْوَكَالَةُ مِنْ الْمُتَّهَمِ بِدَعْوَى الْبَاطِلِ وَلَا الْمُجَادَلَةُ عَنْهُ، قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ فِي أَحْكَامِ الْقُرْآنِ: فِي قَوْله تَعَالَى: {وَلا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا} [النساء: 105] إنَّ النِّيَابَةَ عَنْ الْمُبْطِلِ الْمُتَّهَمِ فِي الْخُصُومَةِ لَا تَجُوزُ، بِدَلِيلِ قَوْله تَعَالَى لِرَسُولِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: {وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا} [النساء: 106].
مَسْأَلَةٌ:
لَيْسَ لِلْوَكِيلِ الْمَخْصُوصِ أَنْ يُوَكِّلَ وَكِيلًا عِوَضًا عَنْهُ لِلنِّيَابَةِ عَنْ مُوَكِّلِهِ، إلَّا أَنْ يَكُونَ الْوَكِيلُ الْمَذْكُورُ لَا يَلِي مِثْلَ مَا وَكَّلَ إلَيْهِ بِنَفْسِهِ، وَعَلِمَ الْمُوَكِّلُ بِذَلِكَ، وَأَمَّا الْوَكِيلُ الْمُفَوَّضُ إلَيْهِ فَلَهُ أَنْ يُوَكِّلَ عَنْ مُوَكِّلِهِ، وَإِنْ لَمْ يَجْعَلْ ذَلِكَ إلَيْهِ.
وَقَالَ ابْنُ رُشْدٍ فِي كِتَابِ الْبَضَائِعِ وَالْوَكَالَاتِ مِثْلَ ذَلِكَ فِي الْمَخْصُوصِ.
مَسْأَلَةٌ:
إذَا وَقَعَتْ الدَّعْوَى عَلَى حَبْسٍ أَوْ مَسْجِدٍ أَوْ مَحَجَّةٍ وَجَبَ عَلَى الْحَاكِمِ أَنْ يُقِيمَ وَكِيلًا يَدْفَعُ عَنْهُ، فَإِنْ وَجَبَ عَلَيْهِ حَقٌّ قَضَى بِهِ وَإِلَّا فَلَا.
مَسْأَلَةٌ:
قَالَ ابْنُ يُونُسَ فِي آخِرِ كِتَابِ الْعُيُوبِ: الْوُكَلَاءُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَضْرُبٍ: وَكِيلٌ مُفَوَّضٌ إلَيْهِ وَوَصِيٌّ، فَعَلَى هَذَيْنِ الْعُهْدَةُ وَالْيَمِينُ، وَوَكِيلٌ غَيْرُ مُفَوَّضٍ إلَيْهِ، فَعَلَيْهِ الْعُهْدَةُ إلَّا إنْ أَخْبَرَ أَنَّهَا لِغَيْرِهِ، فَإِنْ أَخْبَرَ بِذَلِكَ فَلَا عُهْدَةَ عَلَيْهِ وَلَا يَمِينَ، وَنَخَّاسُونَ وَسَمَاسِرَةُ فَهَؤُلَاءِ لَا عُهْدَةَ عَلَيْهِمْ وَلَا يَمِينَ.
قَالَ أَبُو الْحَسَنِ اللَّخْمِيُّ: إذَا اسْتَحَقَّ مَا بَاعَ السِّمْسَارُ أَوْ وَجَدَ بِهِ عَيْبًا فَلَا عُهْدَةَ عَلَيْهِ وَالتِّبَاعَةُ عَلَى الْمَبِيعِ لَهُ إنْ عَرَفَ وَإِنْ لَمْ يَعْرِفْ كَانَتْ مُصِيبَةُ ذَلِكَ مِنْ الْمُشْتَرِي، وَالْوَكِيلُ عَلَى شَيْءٍ بِعَيْنِهِ عَلَيْهِ التِّبَاعَةُ إنْ لَمْ يُبَيِّنْ أَنَّهُ وَكِيلٌ، فَإِنْ بَيَّنَ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ (مِنْ الطُّرَرِ لِابْنِ عَاتٍ).

.الْقِسْمُ الرَّابِعُ فِي حُكْمِ الْجَوَابِ عَنْ الدَّعْوَى:

وَإِذَا وَقَعَتْ الدَّعْوَى الصَّحِيحَةُ بِشُرُوطِهَا الْمُتَقَدِّمَةِ، وَاسْتَفْرَغَ الْقَاضِي كَلَامَ الْمُدَّعِي وَفَهِمَهُ حَتَّى لَمْ يَبْقَ عِنْدَهُ فِيهِ إشْكَالٌ وَلَا احْتِمَالٌ، أَمَرَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِالْجَوَابِ، وَهُوَ أَحَدُ ثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ إمَّا إقْرَارٌ أَوْ إنْكَارٌ أَوْ امْتِنَاعٌ: الْأَوَّلُ الْإِقْرَارُ: فَإِذَا أَقَرَّ فَإِنَّ الْقَاضِيَ يَنْبَغِي أَنْ يَقُولَ لِلطَّالِبِ قَدْ أَقَرَّ لَك فَإِنْ شِئْت قَيِّدْ إقْرَارَهُ بِالشَّهَادَةِ، فَإِذَا قَيَّدَهَا وَرَفَعَ الشُّهُودُ شَهَادَتَهُمْ فِي الْمَجْلِسِ إلَى الْقَاضِي، فَقَالَ ابْنُ الْعَطَّارِ: يَقْضِي بِشَهَادَتِهِمْ دُونَ إعْذَارٍ وَبِهِ الْعَمَلُ.
وَقَالَ ابْنُ الْفَخَّارِ وَغَيْرُهُ: لابد مِنْ الْإِعْذَارِ وَسَيَأْتِي بَيَانُ ذَلِكَ فِي الْإِعْذَارِ، فَإِذَا حَكَمَ لَهُ الْقَاضِي بِهَا وَطَلَبَ الطَّالِبُ إنْصَافَهُ مِنْ الْغَرِيمِ فَعَلَ إنْ كَانَ لَهُ قُوَّةُ التَّنْفِيذِ فِي إقَامَةِ الْحَقِّ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، وَإِلَّا أَشْهَدَ لِلطَّالِبِ بِمَا حَكَمَ لَهُ بِهِ عَلَى الْمَطْلُوبِ. وَصِفَةُ تَقْيِيدِ الْإِقْرَارِ وَالْمَقَالَاتِ: أَقَرَّ بِمَجْلِسِ الْقَاضِي فُلَانُ بْنُ فُلَانٍ لِمُنَازَعَةِ فُلَانٍ بِأَنَّ لَهُ قِبَلَهُ مَا ادَّعَاهُ عَلَيْهِ وَذَلِكَ كَذَا وَجَبَ لَهُ مِنْ وَجْهِ كَذَا حَالَّةً أَوْ مُؤَجَّلَةً، شَهِدَ بِذَلِكَ عَلَيْهِ فُلَانٌ وَفُلَانٌ، وَيَقُولُ فِي صِفَةِ تَقْيِيدِ الْمَقَالِ: قَالَ فُلَانُ بْنُ فُلَانٍ فِي مَجْلِسِ الْقَاضِي لِمُنَازَعَةِ فُلَانٍ حِينَ قَرَّرَهُ عَلَى كَذَا أَنَّهُ قِبَلَهُ مِنْ وَجْهِ كَذَا، أَوْ عَلَى أَنَّ الْمِلْكَ الَّذِي بِيَدِهِ مَالُهُ وَمِلْكُهُ مَا أَعْرِفُ مَا يَقُولُ إنَّمَا هُوَ مِلْكِي تَصَيَّرَ إلَيَّ بِالْإِرْثِ أَوْ بِالِابْتِيَاعِ، أَوْ بِمَا يَذْكُرُهُ.
قَالَ ابْنُ سَهْلٍ: وَاخْتَارَ بَعْضُ شُيُوخِي أَنْ يَكْتُبَ كَاتِبُ الْقَاضِي قَالَ فِي مَجْلِسِ نَظَرِ الْقَاضِي فُلَانِ بْنِ فُلَانٍ قَاضِي الْجَمَاعَةِ بِمَوْضِعِ كَذَا- فُلَانُ بْنُ فُلَانٍ إذْ وَقَفَهُ فُلَانُ بْنُ فُلَانٍ عَلَى كَذَا، وَكَذَا فَأَنْكَرَ مَا ادَّعَاهُ، وَذَلِكَ فِي تَارِيخِ كَذَا، ثُمَّ يَضَعُ الشُّهُودُ شَهَادَتَهُمْ، وَيُعَلِّمُ الْقَاضِي عَلَى أَسْمَائِهِمْ. قَالَ أَبُو الْقَاسِمِ الْجَزِيرِيُّ: وَإِنْ شِئْت قُلْت قَرَّرَ فُلَانٌ مُنَازَعَةَ فُلَانٍ عَلَى الْمَالِ الَّذِي بِيَدِهِ مِنْ أَيْنَ صَارَ إلَيْهِ، وَبِأَيِّ وَجْهٍ مَلَكَهُ، فَأَجَابَهُ فُلَانٌ بِكَذَا، شَهِدَ عَلَيْهِمَا بِذَلِكَ كُلِّهِ مَنْ سَمِعَهُ وَتَحَقَّقَهُ بِالْمَجْلِسِ الْمَذْكُورِ، وَعَرَّفَهُمَا بِحَالِ صِحَّةِ وَجَوَازِ أَمْرٍ، وَلَا يَكَادُ يَنْضَبِطُ هَذَا الْمَعْنَى لِاخْتِلَافِ وُجُوهِهِ وَكَثْرَتِهِ.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ فِي مُفِيدِ الْحُكَّامِ: قَالَ ابْنُ أَبِي زَمَنِينَ: وَشَأْنُ الْقُضَاةِ فِي الْقَدِيمِ الطَّبْعُ عَلَى الْمَقَالَاتِ وَالشَّهَادَاتِ وَأَنْ يُؤَرِّخُوهَا وَيُشْهِدُوا الْعُدُولَ عَلَيْهَا، وَيَرْفَعُوهَا عِنْدَ أَنْفُسِهِمْ أَوْ مَنْ يَثِقُونَ بِهِ.
وَفِي الْوَثَائِقِ الْمَجْمُوعَةِ: وَمِنْ فَوَائِدِ تَقْيِيدِ الْإِقْرَارِ وَالْمَقَالِ أَنَّهُ قَدْ يُمْكِنُ أَنْ يُقِرَّ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِدَعْوَى الْمُدَّعِي، فَيُسْتَغْنَى عَنْ الْإِثْبَاتِ. قَالَ أَبُو الْقَاسِمِ الْجَزِيرِيُّ: وَلَا يَسْمَعُ الْحَاكِمُ مِنْ بَيِّنَةِ الْمُدَّعِي حَتَّى تَثْبُتَ الْمَقَالَةُ عِنْدَهُ. قَالَ ابْنُ سَهْلٍ: وَهَذِهِ الْمَقَالَاتُ الْمُنْعَقِدَةُ عِنْدَ الْقَاضِي هِيَ الَّتِي تُفْتَتَحُ بِهَا الْخُصُومَاتُ وَتُسَمَّى مَحَاضِرَ لِمَا لَزِمَهَا مِنْ هَذَا الِاسْمِ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ الْمُقَدَّمِينَ، وَهُوَ مَأْخُوذٌ مِنْ حُضُورِ الْخَصْمَيْنِ بَيْنَ يَدَيْ الْقَاضِي.
وَاخْتُلِفَ فِي اللَّفْظِ الَّذِي تُفْتَتَحُ بِهِ مِنْ تِلْكَ الْفُصُولِ، فَإِنْ كَانَ الْكَاتِبُ لَهَا هُوَ الْقَاضِي قَالَ حَضَرَنِي فُلَانُ بْنُ فُلَانٍ؛ لِأَنَّ تِلْكَ الصَّحِيفَةَ عِنْدَهُ، فَكَأَنَّهُ مُخَاطِبٌ لِنَفْسِهِ وَمُذَكِّرٌ لَهَا بِمَا كَانَ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَهَذَا إذَا كَانَ الْقَاضِي يَعْرِفُهُمَا، وَإِلَّا كَتَبَ حَضَرَنِي رَجُلٌ ذَكَرَ أَنَّهُ فُلَانُ بْنُ فُلَانٍ الْفُلَانِيُّ، وَرَجُلٌ ذَكَرَ أَنَّهُ فُلَانُ بْنُ فُلَانٍ، وَإِنْ كَانَ يَعْرِفُ أَحَدَهُمَا نَبَّهَ عَلَى الْآخَرِ، وَإِنْ عَرَّفَهُ بِهِ أَحَدٌ قَالَ وَعَرَّفَنِي بِهِ فُلَانٌ ثُمَّ يَكْتُبُ الْقَاضِي اسْمَهُ فِي الْآخِرِ، وَبَعْضُهُمْ يَكْتُبُ، قَالَ الْقَاضِي فُلَانُ بْنُ فُلَانٍ بِبَلَدِ كَذَا حَضَرَنِي فُلَانٌ، وَأَمَّا إنْ كَتَبَ عَنْهُ كَاتِبُهُ فَصِفَتُهُ كَمَا تَقَدَّمَ.
مَسْأَلَةٌ:
فَإِنْ ادَّعَى الْمَطْلُوبُ الْقَضَاءَ بَعْدَ أَنْ أَقَرَّ، وَأَنْكَرَ الطَّالِبُ فَلِلْمَطْلُوبِ تَحْلِيفُهُ، وَإِنْ ادَّعَى بَيِّنَةً حَاضِرَةً أُجِّلَ فِي إحْضَارِهَا بَقِيَّةَ يَوْمِهِ إلَى الْغَدِ وَيُؤَجِّلُهُ فِي الْغَائِبَةِ بِقَدْرِ مَا يَرَاهُ بَعْدَ رَهْنٍ أَوْ حَمِيلٍ، فَإِنْ لَمْ يَأْتِ بِوَاحِدٍ مِنْهُمَا وَطَلَبَ الطَّالِبُ سَجْنَهُ مُكِّنَ مِنْهُ، وَلَوْ أَتَى بِالْبَيِّنَةِ بَعْدَ قَوْلِهِ لَا بَيِّنَةَ لِي وَقَدْ كَانَ اسْتَحْلَفَ خَصْمَهُ لَمْ تُسْمَعْ بَيِّنَتُهُ إنْ كَانَ عَالِمًا بِهَا عَلَى الرِّوَايَةِ الْمَشْهُورَةِ.
مَسْأَلَةٌ:
وَلَوْ كَانَ خِصَامُهُ عَلَى الْوَكِيلِ فَقَالَ مُوَكِّلُكَ أَبْرَأَنِي، فَقَالَ ابْنُ كِنَانَةَ يَحْلِفُ الْوَكِيلُ مَا عَلِمَ بِبَرَاءَتِهِ وَيَأْخُذُ الْحَقَّ، إلَّا أَنْ يَكُونَ مُوَكِّلُهُ قَرِيبًا فَيَكْتُبَ إلَيْهِ، فَيَحْلِفَ.
وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: لَا يَحْلِفُ الْوَكِيلُ وَيَنْتَظِرُ صَاحِبَ الْحَقِّ، وَسَيَأْتِي بَيَانُ ذَلِكَ فِي بَابِ الْقَضَاءِ بِبَيِّنَةِ الْمُوَكِّلِ وَيَمِينِ الْوَكِيلِ.
مَسْأَلَةٌ:
وَإِنْ ادَّعَى الْغَرِيمُ الْقَضَاءَ وَكَانَ قَدْ تَقَدَّمَ مِنْهُ إنْكَارٌ لِلْحَقِّ وَثَبَتَ الْحَقُّ عَلَيْهِ بِالْبَيِّنَةِ فَلَا تُسْمَعُ دَعْوَاهُ، وَلَوْ أَتَى بِالْبَيِّنَةِ؛ لِأَنَّهُ أَكْذَبَهَا، قَالَهُ ابْنُ الْقَاسِمِ، وَبِهِ الْعَمَلُ.
وَقَالَ أَشْهَبُ: تُسْمَعُ مِنْهُ وَلَهُ تَحْلِيفُ الطَّالِبِ، وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ مَالِكٍ، وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي هَذَا أَنَّهُ قَالَ بَيِّنَةٌ عَادِلَةٌ خَيْرٌ مِنْ يَمِينٍ فَاجِرَةٍ.
مَسْأَلَةٌ:
وَإِنْ لَمْ يَتَقَدَّمْ مِنْهُ إنْكَارٌ بَلْ أَقَرَّ وَأَجَابَ إلَى الدَّفْعِ، لَكِنْ سَأَلَ النَّظِرَةَ أَنْظَرَهُ الْقَاضِي بِقَدْرِ مَا يَرَاهُ، وَقِيلَ ذَلِكَ إلَى الطَّالِبِ، وَلَوْ ادَّعَى الْعَدَمَ أَوْ لَيْسَ عِنْدَهُ غَيْرُ الْأُصُولِ مُكِّنَ مِنْ إثْبَاتِ ذَلِكَ وَأَجَّلَهُ فِيهِ بِقَدْرِ مَا يَرَاهُ، فَإِذَا ثَبَتَ ذَلِكَ أَعْذَرَ فِيهِ لِلْقَائِمِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَدْفَعٌ حَلَّفَهُ وَسَرَّحَهُ، وَيَأْخُذُ مِنْهُ حَمِيلًا بِالْمَالِ إذَا أَثْبَتَ أَنَّهُ لَيْسَ عِنْدَهُ الْأُصُولُ وَأَجَّلَهُ فِي بَيْعِهَا نَحْوًا مِنْ شَهْرَيْنِ، ثُمَّ يَأْمُرُهُ بِالْبَيْعِ وَالْإِنْصَافِ، فَإِنْ أَبَى ضَيَّقَ عَلَيْهِ بِالسَّجْنِ وَالضَّرْبِ حَتَّى يَبِيعَ.

.فَصْلٌ ادَّعَى عَقَارًا بِيَدِ غَيْرِهِ زَعَمَ أَنَّهُ صَارَ إلَيْهِ عَمَّنْ وَرِثَهُ عَنْهُ:

فَصْلٌ: فَإِنْ كَانَتْ الدَّعْوَى فِي الْعَقَارِ فَقَالَ ابْنُ رُشْدٍ الَّذِي مَضَى عَلَيْهِ الْعَمَلُ فِيمَا أَدْرَكْنَا وَأَفْتَى بِهِ شُيُوخُنَا فِيمَا عَلِمْنَا، أَنَّ مَنْ ادَّعَى عَقَارًا بِيَدِ غَيْرِهِ زَعَمَ أَنَّهُ صَارَ إلَيْهِ عَمَّنْ وَرِثَهُ عَنْهُ، أَنَّ الْمَطْلُوبَ لَا يُسْأَلُ عَنْ شَيْءٍ حَتَّى يُثْبِتَ الطَّالِبُ مَوْتَ مُورِثِهِ الَّذِي ادَّعَى أَنَّهُ وَرِثَ ذَلِكَ الْعَقَارَ عَنْهُ، فَإِذَا ثَبَتَ ذَلِكَ وُقِفَ الْمَطْلُوبُ حِينَئِذٍ عَلَى الْإِقْرَارِ وَالْإِنْكَارِ خَاصَّةً، وَلَمْ يُسْأَلْ مِنْ أَيْنَ صَارَ إلَيْهِ، فَإِنْ أَنْكَرَ وَقَالَ الْمَالُ مَالِي وَالْمِلْكُ مِلْكِي وَدَعْوَاك فِيهِ بَاطِلَةٌ اُكْتُفِيَ مِنْهُ بِذَلِكَ وَلَمْ يَلْزَمْهُ أَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ، وَكُلِّفَ الطَّالِبُ إثْبَاتَ الْمِلْكِ الَّذِي زَعَمَ أَنَّهُ وَرِثَهُ وَإِثْبَاتَ مَوْتِهِ وَوِرَاثَتِهِ لَهُ، فَإِنْ أَثْبَتَتْ ذَلِكَ عَلَى مَا يَجِبُ مِنْ صِحَّةِ شُرُوطٍ سُئِلَ الْمَطْلُوبُ حِينَئِذٍ مِنْ أَيْنَ صَارَ إلَيْهِ وَكُلِّفَ الْجَوَابَ عَنْ ذَلِكَ، فَإِنْ ادَّعَى أَنَّهُ صَارَ إلَيْهِ مِنْ غَيْرِ مَوْرُوثِ الطَّالِبِ الَّذِي ثَبَتَ لَهُ الْمِلْكُ لَمْ يُلْتَفَتْ إلَيْهِ، وَلَا يَنْفَعُهُ إثْبَاتُهُ إنْ أَثْبَتَهُ، وَإِنْ ادَّعَى أَنَّهُ صَارَ إلَيْهِ مِنْ قِبَلِ مَوْرُوثِ الطَّالِبِ بِوَجْهٍ يَذْكُرُهُ كُلِّفَ إثْبَاتَ ذَلِكَ، فَإِنْ أَثْبَتَهُ وَعَجَزَ الطَّالِبُ عَنْ الدَّفْعِ فِي ذَلِكَ بَطَلَتْ دَعْوَاهُ، وَإِنْ عَجَزَ عَنْ إثْبَاتِ ذَلِكَ قَضَى عَلَيْهِ لِلطَّالِبِ هَذَا مَذْهَبُ ابْنِ الْقَاسِمِ وَرِوَايَتُهُ عَنْ مَالِكٍ فِي الْمُدَوَّنَةِ وَلَا اخْتِلَافَ فِي ذَلِكَ أَحْفَظُهُ.
وَمَا ذَكَرَهُ ابْنُ الْعَطَّارِ بِأَنَّ الْفَتْوَى مَضَتْ بِأَنَّ الْمَطْلُوبَ يَلْزَمُهُ الْجَوَابُ ابْتِدَاءً قَبْلَ إثْبَاتِ الْمُدَّعِي الْمِلْكَ لِمُوَرِّثِهِ، هَلْ صَارَ إلَيْهِ بِسَبَبِهِ أَوْ بِسَبَبِ مُوَرِّثِهِ الَّذِي أَثْبَتَ مَوْتَهُ، وَوِرَاثَتُهُ إيَّاهُ بَعِيدٌ لَا يَصِحُّ- وَاَللَّهُ أَعْلَمُ- وَمَا ذَكَرَهُ عَنْ مَالِكٍ عَمَّا وَقَعَ فِي شَهَادَاتِ الْمُدَوَّنَةِ وَغَيْرِهَا مِنْ أَنَّهُ لَا يُوقَفُ الْمَطْلُوبُ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى يُثْبِتَ الطَّالِبُ دَعْوَاهُ لَيْسَ بِصَحِيحٍ، إذْ لَا اخْتِلَافَ فِي أَنَّهُ لابد أَنْ يُوقَفَ قَبْلَ أَنْ يُثْبِتَ دَعْوَاهُ عَلَى الْإِقْرَارِ وَالْإِنْكَارِ.
مَسْأَلَةٌ:
إذَا ادَّعَى رَجُلٌ عَلَى عَبْدٍ مَا يُوجِبُ قِصَاصًا فَيَلْزَمُهُ الْجَوَابُ فَإِنْ كَانَ مَا يُوجِبُ الْأَرْشَ فَيُطْلَبُ الْجَوَابُ مِنْ السَّيِّدِ، وَإِنْ كَانَ مَا يُوجِبُ الْمَالَ فَيُطْلَبُ الْجَوَابُ مِنْ الْعَبْدِ، فَإِنْ أَقَرَّ وَكَانَ مَأْذُونًا فَهُوَ كَالْحُرِّ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَأْذُونًا وُقِفَ إقْرَارُهُ عَلَى سَيِّدِهِ فَيَرُدُّهُ أَوْ يُلْزِمُهُ إيَّاهُ مِنْ الْمَذْهَبِ.
مَسْأَلَةٌ:
وَمِنْ سِيَرِ الْحُكَّامِ أَنْ يُجْبِرُوا الْخَصْمَ عَلَى الْجَوَابِ فِيمَا وَقَفَهُ خَصْمُهُ عَلَيْهِ فِي جَمِيعِ الْوَثَائِقِ الْقَلِيلَةِ الْمَعَانِي وَالْفُصُولِ حَاشَا وَثَائِقِ الِاسْتِرْعَاءِ، فَإِنَّهُ لَا يُجْبَرُ عَلَى الْجَوَابِ فِي ذَلِكَ، يَعْنِي فِي ذَلِكَ الْمَجْلِسِ، ذَكَرَهُ أَبُو الْوَلِيدِ الْبَاجِيُّ فِي الْأَحْكَامِ لَهُ مِنْ مُفِيدِ الْحُكَّامِ.
الثَّانِي: مِنْ أَقْسَامِ الْجَوَابِ: الْإِنْكَارُ وَيُشْتَرَطُ فِي الْإِنْكَارِ أَنْ يَكُونَ صَرِيحًا فَلَا يُقْبَلُ مِنْهُ أَنْ يَقُولَ مَا أَظُنُّ لَهُ عِنْدِي شَيْئًا.
وَفِي وَثَائِقِ ابْنِ الْعَطَّارِ وَإِذَا وَقَفَ الطَّالِبُ الْمَطْلُوبَ عَلَى حَقٍّ لَهُ قِبَلَهُ لَمْ يَكُنْ لِلْمَطْلُوبِ أَنْ يَقُولَ لِخَصْمِهِ لَا حَقَّ لَك قِبَلِي، وَإِنَّمَا يَلْزَمُهُ أَنْ يُقِرَّ بِأَصْلِ الْمُبَايَعَةِ أَوْ السَّلَفِ أَوْ الْمُعَامَلَةِ أَوْ يُنْكِرَ، وَمَعْنَى ذَلِكَ مَبْنِيٌّ عَلَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْحَاكِمِ أَنْ يَسْأَلَ الطَّالِبَ مِنْ أَيِّ وَجْهٍ يَدَّعِي عَلَيْهِ الْحَقَّ الَّذِي يَذْكُرُهُ، فَإِنْ قَالَ مِنْ سَلَفٍ أَوْ بَيْعٍ أَوْ قَرْضٍ أَوْ ضَمَانٍ، أُلْزِمَ الْمَطْلُوبُ أَنْ يُجِيبَهُ بِإِنْكَارِ ذَلِكَ الْوَجْهِ الَّذِي ذَكَرَهُ أَوْ يُقِرَّ بِهِ وَلَا يَكْفِي مِنْهُ أَنْ يَقُولَ لِلطَّالِبِ: لَا حَقَّ لَك قِبَلِي. وَفِي الْمُذْهَبِ لِابْنِ رَاشِدٍ: وَاخْتُلِفَ إذَا قَالَ لَا حَقَّ لَهُ عِنْدِي، فَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: لَا يَقْنَعُ مِنْهُ بِذَلِكَ.
وَقَالَ مُطَرِّفٌ وَابْنُ الْمَاجِشُونِ. يَقْنَعُ مِنْهُ بِذَلِكَ، وَذَلِكَ مَبْسُوطٌ فِي الْبَابِ التَّاسِعَ عَشَرَ.
مَسْأَلَةٌ:
إذَا صَرَّحَ بِالْإِنْكَارِ فَإِنَّ الْقَاضِيَ يَقُولُ لِلْقَائِمِ أَلَك بَيِّنَةٌ فَإِنْ أَتَى بِهَا وَقَبِلَهَا، أَعْذَرَ فِيهَا لِلْمَطْلُوبِ، فَإِنْ سَلَّمَهَا وَلَمْ يَطْعَنْ فِيهَا، أَوْ ادَّعَى فِيهَا مَدْفَعًا وَعَجَزَ عَنْ إثْبَاتِهِ أَمَرَهُ بِالْإِنْصَافِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ بَيِّنَةٌ أَحْلَفَهُ لَهُ إذَا ثَبَتَتْ الْخُلْطَةُ، حَسْبَمَا يَأْتِي ذِكْرُهُ فِي بَيَانِ أَحْكَامِ الْخُلْطَةِ.
مَسْأَلَةٌ:
لَوْ ادَّعَى رَجُلٌ بِدَعْوَى عَلَى رَجُلٍ، فَسَأَلَهُ الْقَاضِي عَنْ السَّبَبِ فَذَكَرَهُ، فَقَالَ الْمَطْلُوبُ: أَنَا أَحْلِفُ أَنَّهُ لَا شَيْءَ لَهُ عِنْدِي مِنْ هَذَا السَّبَبِ، فَقَالَ أَشْهَبُ: لَا يُجْزِيهِ بِحَالٍ حَتَّى يَقُولَ وَلَا أَعْلَمُ لَهُ شَيْئًا بِوَجْهٍ مِنْ الْوُجُوهِ، وَنَحْوُهُ فِي كِتَابِ ابْنِ سَحْنُونٍ، قَالَ الْبَاجِيُّ وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ يُجْزِئُهُ يَمِينُهُ أَنَّهُ لَا شَيْءَ لَهُ عِنْدَهُ مِنْ جِهَةِ مَطْلَبِهِ؛ لِأَنَّ الطَّالِبَ لَمْ يَطْلُبْهُ بِغَيْرِ ذَلِكَ.
مَسْأَلَةٌ:
لَوْ قَالَ لِي عَلَيْك عَشَرَةٌ فَقَالَ لَا تَلْزَمُنِي الْعَشَرَةُ لَمْ يُكَلَّفْ الْيَمِينَ مُطْلَقًا، بَلْ يَحْلِفُ أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ عَلَيْهِ عَشَرَةٌ وَلَا شَيْءٌ مِنْهَا.
مَسْأَلَةٌ:
إذَا ادَّعَى سَلَفًا أَوْ بَيْعًا لَمْ يُجْزِهِ مِنْ الْجَوَابِ أَنْ يَقُولَ: لَا حَقَّ لَك عِنْدِي حَتَّى يَقُولَ لَمْ تُسَلِّفْنِي مَا تَدَّعِيهِ، أَوْ لَمْ تَبِعْ مِنَى شَيْئًا مِمَّا ذَكَرْت رَوَاهُ ابْنُ سَحْنُونٍ عَنْ أَبِيهِ، قَالَ وَهُوَ مُقْتَضَى قَوْلِ مَالِكٍ، قَالَ: وَكَانَ يَقُولُ رُبَّمَا قَبِلَ مِنْهُ مَالَهُ عَلَى حَقٍّ، وَإِلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ رَجَعَ مَالِكٌ أَخِيرًا، وَفِي بَابِ الْقَضَاءِ بِالنُّكُولِ عَنْ الْيَمِينِ عَلَى طِبْقِ الدَّعْوَى شَيْءٌ مِنْ هَذِهِ الْمَسَائِلِ.

.فَصْلٌ امْتَنَعَ مِنْ الْجَوَابِ وَاسْتَمْهَلَ لِلنَّظَرِ فِي حِسَابٍ وَشِبْهِهِ:

فَصْلٌ: وَإِنْ امْتَنَعَ مِنْ الْجَوَابِ وَاسْتَمْهَلَ لِلنَّظَرِ فِي حِسَابٍ وَشِبْهِهِ أُمْهِلَ الْيَوْمَيْنِ وَالثَّلَاثَةَ.
الثَّالِثُ مِنْ أَقْسَامِ الْجَوَابِ الِامْتِنَاعُ مِنْ الْإِقْرَارِ وَالْإِنْكَارِ وَقَدْ اُخْتُلِفَ إذَا أَبَى أَنْ يُقِرَّ أَوْ يُنْكِرَ، فَرَأَى سَحْنُونٌ أَنَّهُ لَا يُتْرَكُ حَتَّى يُقِرَّ أَوْ يُنْكِرَ، وَيُجْبَرُ عَلَى ذَلِكَ بِالسَّجْنِ أَوَّلًا، فَإِنْ تَمَادَى فَبِالضَّرْبِ، وَقِيلَ إذَا أَبَى عَنْ الْجَوَابِ لَمْ يُجْبَرْ عَلَى ذَلِكَ وَعُدَّ كَالنُّكُولِ فَيُقْضَى لِلطَّالِبِ مِنْهُ مَعَ يَمِينِهِ.
مَسْأَلَةٌ:
وَفِي الْجَوَاهِرِ: فَإِنْ قَالَ لَا أُقِرُّ وَلَا أُنْكِرُ، لَكِنْ يُقِيمُ الْبَيِّنَةَ عَلَى دَعْوَاهُ، أَوْ قَالَ لِلْحَاكِمِ لَا أُحَاكِمُهُ إلَيْك، أَجْبَرَهُ عَلَى أَنْ يُقِرَّ أَوْ يُنْكِرَ، فَإِنْ أَبَى حَبَسَهُ حَتَّى يُقِرَّ أَوْ يُنْكِرَ. رَوَاهُ أَشْهَبُ.
وَفِي الْمُتَيْطِيَّةِ أَنَّهُ يُجْبِرُهُ عَلَى ذَلِكَ بِالْأَدَبِ، قَالَ: وَبِهِ الْعَمَلُ.
وَقَالَ أَصْبَغُ يَقُولُ لَهُ الْقَاضِي إمَّا أَنْ تُحَاكِمَ وَإِمَّا أَحْلَفْت هَذَا الْمُدَّعِيَ وَحَكَمْت لَهُ عَلَيْك، هَذَا إذَا كَانَتْ الدَّعْوَى تُسْتَحَقُّ بِالْيَمِينِ مَعَ النُّكُولِ؛ لِأَنَّ نُكُولَهُ عَنْ الْكَلَامِ نُكُولٌ عَنْ الْيَمِينِ، وَإِنْ كَانَتْ الدَّعْوَى فِيمَا لَا يَثْبُتُ إلَّا بِالْبَيِّنَةِ دَعَا خَصْمَهُ بِهَا وَحَكَمَ عَلَيْهِ إنْ تَمَادَى عَلَى تَرْكِ الْكَلَامِ.
وَقَالَ مُحَمَّدٌ: أَحْكُمُ عَلَيْهِ بِغَيْرِ يَمِينٍ مِنْ الْمُدَّعِي.
قَالَ أَبُو الْحَسَنِ اللَّخْمِيُّ: الْمُدَّعِي بِالْخِيَارِ بَيْنَ ثَلَاثٍ إمَّا أَنْ يَأْخُذَ الْمُدَّعَى بِهِ بِغَيْرِ يَمِينٍ عَلَى أَنَّهُ مَتَى عَادَ إلَى الْإِنْكَارِ كَانَ ذَلِكَ لَهُ، وَإِمَّا أَنْ يَحْلِفَ الْآنَ وَيَحْكُمَ لَهُ بِهِ مِلْكًا بَعْدَ أَنْ يُعْلِمَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ أَنَّهُ إنْ لَمْ يُقِرَّ أَوْ يُنْكِرْ حَكَمَ عَلَيْهِ كَمَا يَحْكُمُ عَلَى النَّاكِلِ وَلَا يَنْقُضُ لَهُ الْحُكْمَ بَعْدَ أَنْ يَأْتِيَ بِبَيِّنَةٍ لَمْ يَكُنْ عَلِمَ بِهَا، وَإِمَّا أَنْ يُسْجَنَ لَهُ حَتَّى يُقِرَّ أَوْ يُنْكِرَ؛ لِأَنَّهُ يَقُولُ هُوَ يَعْرِفُ حَقِّي فَإِذَا سُجِنَ أَجَابَ وَاسْتَغْنَيْت عَنْ الْيَمِينِ.
مَسْأَلَةٌ:
وَإِنْ قَالَ: لَا أُقِرُّ وَلَا أُنْكِرُ؛ لِأَنِّي لَا أَعْرِفُ حَقِيقَةَ مَا يَدَّعِي قِيلَ لَهُ احْلِفْ أَنَّك إنَّمَا تَتَوَقَّفُ عَنْ الْإِقْرَارِ وَالْإِنْكَارِ مِنْ أَجْلِ أَنَّك عَلَى غَيْرِ يَقِينٍ مِنْ الْأَمْرِ، فَإِنْ حَلَفَ قِيلَ لِلطَّالِبِ أَثْبِتْ حَقَّك، وَإِنْ نَكَلَ الْمَطْلُوبُ عَنْ الْيَمِينِ فَاخْتُلِفَ، فَقِيلَ: يُجْبَرُ عَلَى الْإِقْرَارِ أَوْ الْإِنْكَارِ وَقِيلَ: إنَّهُ يَقْضِي لِلطَّالِبِ مَعَ يَمِينِهِ وَقِيلَ يَقْضِي لَهُ بِغَيْرِ يَمِينٍ، وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ مُحَمَّدُ بْنُ الْمَوَّازِ. وَفِي الطُّرَرِ لِابْنِ عَاتٍ قَالَ الْمُشَاوِرُ: لَا يُوقَفُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ عَلَى الْجَوَابِ إلَّا بَعْدَ إثْبَاتِ الْمُدَّعِي مِنْ مَوْتِ مَنْ يَقُومُ عَنْهُ وَعِدَّةُ وَرَثَتِهِ وَتَنَاسُخِ الْوَارِثَاتِ فَإِنْ لَمْ يُثْبِتْ ذَلِكَ لَمْ تَكُنْ لَهُ يَمِينٌ عَلَى الْمَطْلُوبِ؛ لِأَنَّهُ حُجَّةٌ لَهُ فِي أَنْ يَقُولَ: إنَّ أَبَاك أَوْ جَدَّك أَوْ مَنْ تَقُومُ عَنْهُ حَيٌّ وَسَيَقُومُ وَيُقِرُّ أَنَّهُ لَا حَقَّ لَهُ عِنْدِي، أَوْ يَطْلُبُنِي إنْ كَانَ لَهُ عِنْدِي حَقٌّ فَيُلْزِمُنِي بِهِ، قَالَ: وَكَذَلِكَ إنْ قَامَ الْوَرَثَةُ بِدُيُونٍ لَهُ أَوْ وَدَائِعَ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ.
قُلْت: فَإِنْ قَالُوا إنَّك أَنْتَ عَالِمٌ بِمَوْتِهِ وَعِدَّةِ وَرَثَتِهِ قَالَ وَإِنْ أَقَرَّ بِذَلِكَ لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ، لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ إلْزَامِ الْحُقُوقِ، وَتَوْرِيثِ زَوْجَتِهِ وَتَزْوِيجِهَا، وَإِنْفَاذِ وَصَايَاهُ وَغَيْرِ ذَلِكَ وَلَا يَمِينَ عَلَيْهِ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، وَإِنَّمَا هُوَ شَاهِدٌ بِذَلِكَ لَا مُقِرٌّ، وَلَهُ أَنْ يَقُولَ أَيْضًا مَعَ ذَلِكَ: قَدْ يَقْدُمُ صَاحِبُكُمْ فَيَأْخُذُونِي بِحَقِّهِ مَرَّةً أُخْرَى، وَقَدْ قَالَ أَحْمَدُ بْنُ مُيَسَّرٍ مَنْ أَقَرَّ بِقَتْلِ رَجُلٍ لَمْ يُؤْخَذْ بِهِ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ التَّوْرِيثِ وَتَزْوِيجِ زَوْجَتِهِ وَإِنْفَاذِ وَصَايَاهُ وَغَيْرِ ذَلِكَ.
مَسْأَلَةٌ:
إذَا ادَّعَى رَجُلٌ قِبَلَ رَجُلٍ حُقُوقًا وَكَشَفَهُ عَنْ بَعْضِهَا وَسَأَلَهُ الْجَوَابَ عَمَّيْ كَشَفَهُ عَنْهُ، فَقَالَ لَهُ الْمَطْلُوبُ: اجْمَعْ مَطَالِبَك كُلَّهَا حَتَّى أُجِيبَك لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ، وَلَهُ أَنْ يَطْلُبَ مِنْ حُقُوقِهِ مَا شَاءَ وَيَتْرُكَ مَا شَاءَ، وَإِنْ كَانَ إنَّمَا قَالَ لَهُ هَلْ لَك فِي هَذِهِ الْقَرْيَةِ شَيْءٌ غَيْرُ الِابْتِيَاعِ الَّذِي قُمْت بِهِ عَلَيَّ، فَقَالَ لَهُ خَصْمُهُ جَاوِبْنِي عَنْ الِابْتِيَاعِ أَوَّلًا، فَلَيْسَ لَهُ ذَلِكَ حَتَّى يَقُولَ لَهُ لَيْسَ لِي دَعْوًى غَيْرُ الِابْتِيَاعِ، وَحِينَئِذٍ يُلْزِمُ الْمَطْلُوبَ بِالْإِقْرَارِ أَوْ الْإِنْكَارِ. قَالَ الْمُتَيْطِيُّ: وَهَذَا خِلَافُ مَا حَكَاهُ ابْنُ أَبِي زَمَنِينَ فِي التَّفْرِقَةِ بَيْنَ الْمَوَارِيثِ وَغَيْرِهَا؛ لِأَنَّ الْمَوَارِيثَ لَا يُحَاطُ بِهَا فَيَلْزَمُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ الْجَوَابُ عَلَى مَا ادَّعَى عَلَيْهِ مِنْهَا، بِخِلَافِ غَيْرِ الْمَوَارِيثِ لَا يَلْزَمُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ الْجَوَابُ حَتَّى يَجْمَعَ الْمُدَّعِي دَعَاوِيَهُ كُلَّهَا.
مَسْأَلَةٌ:
قَالَ مُحَمَّدٌ مَنْ ادَّعَى بِسِتِّينَ دِينَارًا فَأَقَرَّ خَصْمُهُ بِخَمْسِينَ وَأَبَى فِي الْعَشَرَةِ أَنْ يُقِرَّ أَوْ يُنْكِرَ، فَإِنَّهُ يُجْبَرُ بِالْحَبْسِ حَتَّى يُقِرَّ أَوْ يُنْكِرَ إذَا طَلَبَ ذَلِكَ الْمُدَّعِي، فَإِنْ أَصَرَّ عَلَى الِامْتِنَاعِ وَالتَّمَادِي عَلَيْهِ بِغَيْرِ يَمِينٍ، قَالَ مُحَمَّدٌ: لِأَنَّ كُلَّ مُدَّعًى عَلَيْهِ لَا يَدْفَعُ الدَّعْوَى فَإِنَّهُ يُحْكَمُ عَلَيْهِ بِغَيْرِ يَمِينٍ، قَالَ: وَكَذَلِكَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ يَدُورُ فِي يَدِهِ لَا يُقِرُّ وَلَا يُنْكِرُ، فَإِذَا أُجْبِرَ عَلَى ذَلِكَ فَتَمَادَى حُكِمَ عَلَيْهِ لِلْمُدَّعِي بِلَا يَمِينٍ.
مَسْأَلَةٌ:
لَوْ قَالَ الْمَطْلُوبُ: تَقَدَّمَتْ بَيْنِي وَبَيْنَ الطَّالِبِ مُخَالَطَةٌ، فَمِنْ أَيِّ وَجْهٍ يَدَّعِي هَذَا؟ لَزِمَ الْقَاضِي أَنْ يَسْأَلَ عَنْ ذَلِكَ الطَّالِبَ، فَإِنْ بَيَّنَ وَجْهَ طَلَبِهِ وَقَفَ عَلَى ذَلِكَ الْمَطْلُوبَ وَأُلْزِمَ أَنْ يُقِرَّ أَوْ يُنْكِرَ، وَإِنْ أَبَى الطَّالِبُ أَنْ يُبَيِّنَ سَبَبَ دَعْوَاهُ وَادَّعَى نِسْيَانَهُ قَبِلَ ذَلِكَ مِنْهُ بِغَيْرِ يَمِينٍ وَأَلْزَمَ الْمَطْلُوبَ أَنْ يُقِرَّ أَوْ يُنْكِرَ.
وَقَالَ الْقَاضِي أَبُو الْوَلِيدِ الْبَاجِيُّ: الْقِيَاسُ عِنْدِي أَنْ لَا يُوقَفَ الْمَطْلُوبُ حَتَّى يَحْلِفَ الطَّالِبُ أَنَّهُ لَا يَذْكُرُ مَا يَدَّعِيهِ، إذْ لَعَلَّهُ بِذِكْرِ السَّبَبِ يَجِدُ مَخْرَجًا، وَإِنْ امْتَنَعَ مِنْ ذِكْرِ السَّبَبِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَدَّعِيَ نِسْيَانًا لَمْ يَسْأَلْ الْمَطْلُوبَ عَنْ شَيْءٍ.
مَسْأَلَةٌ:
إذَا طَالَبَتْ الْمَرْأَةُ زَوْجَهَا أَنْ يُقِرَّ بِصَدَاقِهَا فَفِي أَحْكَامِ ابْنِ سَهْلٍ قَالَ أَبُو صَالِحٍ: لابد لِلْمَسْئُولِ أَنْ يُقِرَّ أَوْ يُنْكِرَ وَيَلْزَمُ بِذَلِكَ. وَأَمَّا إبَاحَةُ النِّكَاحِ فَإِنَّ قَوْلَنَا فِي ذَلِكَ إنْ كَانَ الزَّوْجَانِ غَرِيبَيْنِ وَتَقَارَرَا عَلَى ذَلِكَ قَبِلَ قَوْلَهُمَا، وَإِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْبَلَدِ لَمْ يَقْضِ الْقَاضِي بِقَوْلِهِمَا أَنَّهُمَا زَوْجَانِ إلَّا عَنْ ثَبَاتِ أَصْلِ النِّكَاحِ، وَهَذَا يُؤَيِّدُ مَا أَوْرَدْتُهُ عَلَى كَلَامِ ابْنِ شَاسٍ فِي قَبُولِ دَعْوَى الزَّوْجِيَّةِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الْفُرُوعِ الَّتِي تَتَعَلَّقُ بِأَحْكَامِ الدَّعْوَى.
مَسْأَلَةٌ:
وَإِذَا امْتَنَعَ الْمَطْلُوبُ مِنْ الْإِقْرَارِ وَالْإِنْكَارِ وَقَالَ أَنَا آتِيهِ بِوَكِيلٍ يُجَاوِبُهُ عَنِّي، فَفِي ذَلِكَ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ: الْإِلْزَامُ بِأَنْ يُقِرَّ أَوْ يُنْكِرَ، وَيُقَالُ لَهُ: الْآنَ مَا تُرِيدُ أَنْ تَأْمُرَ بِهِ وَكِيلَك، قَالَ أَبُو الْأَصْبَغِ بْنُ سَهْلٍ وَهُوَ الصَّحِيحُ عِنْدِي.
وَقَالَ ابْنُ الْهِنْدِيِّ يُمْكِنُ. وَالثَّالِثُ: التَّفْرِقَةُ، فَإِنْ كَانَتْ الدَّعْوَى قَرِيبَةَ الْمَعْنَى أُمِرَ بِالْجَوَابِ، ثُمَّ وَكَّلَ فَإِنْ أَبَى حُمِلَ عَلَيْهِ الْأَدَبُ، وَإِلَّا فَلَهُ ذَلِكَ وَبِهِ الْعَمَلُ.

.فَصْلٌ ادَّعَى عَلَى رَجُلٍ بِمِلْكٍ فَكَانَ إنْكَارُهُ بِإِقْرَارِهِ بِهِ لِغَيْرِهِ:

فَصْلٌ: لَوْ ادَّعَى عَلَى رَجُلٍ بِمِلْكٍ فَكَانَ إنْكَارُهُ بِإِقْرَارِهِ بِهِ لِغَيْرِهِ، كَقَوْلِهِ: لَيْسَ لِي فِيهِ شَيْءٌ، وَإِنَّمَا هُوَ وَقْفٌ عَلَى الْفُقَرَاءِ، أَوْ عَلَى وَلَدِي، أَوْ هُوَ لِطِفْلٍ سَمَّاهُ، فَيُقَالُ لِلْمُدَّعِي: أَثْبِتْ أَنَّهُ لَك، فَإِنَّ هَذَا لَا يُنَازِعُك فِيهِ إلَّا أَنْ يُثْبِتَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ مَا ذَكَرَهُ مِنْ ذَلِكَ، فَتَقِفَ الْمُخَاصَمَةُ عَلَى حُضُورِ مَنْ ثَبَتَ لَهُ عَلَيْهِ الْوِلَايَةُ، وَلَوْ قَالَ لَيْسَ هُوَ لِي أَوْ هُوَ لِمَنْ لَا أُسَمِّيهِ لَمْ يَمْنَعْ الْمُدَّعِي ذَلِكَ مِنْ تَمَامِ الْمُحَاكَمَةِ، وَلَوْ قَالَ هُوَ لِفُلَانٍ، وَفُلَانٌ حَاضِرٌ فِي الْبَلَدِ فَحَضَرَ وَادَّعَى بِهِ فَلِلْمُدَّعِي أَنْ يُحَلِّفَ الْمُقَرَّ لَهُ، فَإِنْ نَكَلَ حَلَفَ الْمُدَّعِي وَأَخَذَهُ، وَإِنْ حَلَفَ الْمُقَرُّ لَهُ فَلِلْمُدَّعِي أَنْ يُحَلِّفَ الْمُقِرَّ؛ لِأَنَّهُ أَتْلَفَهُ عَلَيْهِ بِإِقْرَارِهِ، فَإِنْ نَكَلَ حَلَفَ الْمُدَّعِي وَأَخَذَ مِنْ الْمُقَرِّ بِهِ. أَمَّا لَوْ أَضَافَهُ إلَى مِلْكِ غَائِبٍ فَإِنْ أَثْبَتَ ذَلِكَ بِبَيِّنَةٍ انْصَرَفَتْ الْخُصُومَةُ عَنْهُ إلَى الْغَائِبِ، وَإِنْ لَمْ يُثْبِتْ ذَلِكَ لَمْ يُصَدَّقْ وَحَلَفَ الْمُقَرُّ لَهُ فَإِنْ نَكَلَ أَخَذَهُ الْمُدَّعِي بِغَيْرِ يَمِينٍ، فَإِنْ جَاءَ الْمُقَرُّ لَهُ فَصَدَّقَ الْمُقِرَّ أَخَذَهُ؛ لِأَنَّ مَنْ هُوَ بِيَدِهِ يُتَّهَمُ أَنْ يَكُونَ أَرَادَ صَرْفَ الْخُصُومَةِ عَنْ نَفْسِهِ.

.الْقِسْمُ الْخَامِسُ فِي بَيَانِ الْعَمَلِ فِي الْإِعْذَارِ:

وَفِيهِ خَمْسَةُ فُصُولٍ:

.الْفَصْلُ الْأَوَّلُ فِي الْإِعْذَارِ وَإِرْجَاءِ الْحُجَّةِ لِلْغَائِبِ وَالتَّأْجِيلِ وَالتَّلَوُّمِ وَالتَّعْجِيزِ وَتَوْقِيفِ الْمُدَّعَى فِيهِ:

وَالْأَصْلُ فِي الْإِعْذَارِ قَوْله تَعَالَى فِي قِصَّةِ الْهُدْهُدِ: {لأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ} [النمل: 21] وقَوْله تَعَالَى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولا} [الإسراء: 15] وقَوْله تَعَالَى: {وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولا} [طه: 134] الْآيَةَ وقَوْله تَعَالَى: {لِئَلا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} [النساء: 165] وَمِثْلُ هَذَا كَثِيرٌ. قَالَ ابْنُ سَهْلٍ: وَالْإِعْذَارُ الْمُبَالَغَةُ فِي الْعُذْرِ، وَمِنْهُ قَدْ أَعْذَرَ مَنْ أَنْذَرَ أَيْ قَدْ بَالَغَ فِي الْإِعْذَارِ مَنْ تَقَدَّمَ إلَيْك فَأَنْذَرَك، وَمِنْهُ إعْذَارُ الْقَاضِي إلَى مَنْ ثَبَتَ عَلَيْهِ حَقٌّ يُؤْخَذُ مِنْهُ فَيُعْذِرُ إلَيْهِ فِيمَنْ شَهِدَ عَلَيْهِ بِذَلِكَ.
مَسْأَلَةٌ:
وَفِي (مُعِينِ الْحُكَّامِ)، وَيَنْبَغِي لِلْقَاضِي أَنْ لَا يَحْكُمَ عَلَى أَحَدٍ حَتَّى يُعْذِرَ إلَيْهِ بِرَجُلٍ أَوْ رَجُلَيْنِ، وَإِذَا أَعْذَرَ بِوَاحِدٍ أَجْزَأَهُ.
مَسْأَلَةٌ:
قَالَ ابْنُ الْحَاجِبِ وَيَحْكُمُ بَعْدَ أَنْ يَسْأَلَهُ أَبَقِيَتْ لَك حُجَّةٌ؟ فَيَقُولُ لَا، فَإِنْ قَالَ نَعَمْ أَنْظَرَهُ مَا لَمْ يَتَبَيَّنْ لَدَدُهُ، وَالْمَحْكُومُ عَلَيْهِ أَعَمُّ مِنْ الْمُدَّعِي وَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ، وَالْمُتَبَادَرُ لِلذِّهْنِ هُوَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ تَقْوَى حُجَّةُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فَيَتَوَجَّهُ الْحُكْمُ عَلَى الْمُدَّعِي بِالْإِبْرَاءِ أَوْ بِغَيْرِهِ مِنْ وُجُوهِ الْحُكْمِ.
وَوَقَعَتْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ فِي الْمُدَوَّنَةِ بِضَمِيرِ التَّثْنِيَةِ، فَإِنَّهُ قَالَ فِيهَا: قَالَ مَالِكٌ: وَجْهُ الْحُكْمِ فِي الْقَضَاءِ إذَا أَدْلَى الْخَصْمَانِ بِحُجَّتِهِمَا وَفَهِمَ الْقَاضِي عَنْهُمَا، وَأَرَادَ أَنْ يَحْكُمَ بَيْنَهُمَا، أَنْ يَقُولَ لَهُمَا أَبَقِيَتْ لَكُمَا حُجَّةٌ فَإِنْ قَالَا لَا. حَكَمَ بَيْنَهُمَا ثُمَّ لَا يَقْبَلُ مِنْهُ حُجَّةً بَعْدَ إنْفَاذِهِ، يَعْنِي إنْفَاذَ الْقَضَاءِ، وَإِنْ قَالَ: نَعَمْ بَقِيَتْ إلَيَّ حُجَّةٌ أَنْظَرَهُ الْقَاضِي، وَلَمْ يَزَلْ عَلَى حُجَّتِهِ عِنْدَ ذَلِكَ الْقَاضِي، وَعِنْدَ غَيْرِهِ مَعَ بَقَاءِ وِلَايَتِهِ وَبَعْدَهَا، وَيُنْظِرُ لَهُ فِي ذَلِكَ الْقَاضِي وَمَنْ وَلِيَ بَعْدَهُ، وَهَذَا مَا لَمْ يَظْهَرْ لَدَدُهُ فَحِينَئِذٍ يُعَجِّزُهُ وَالْكَلَامُ عَلَى التَّعْجِيزِ يَأْتِي بَعْدَ هَذَا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
مَسْأَلَةٌ:
إذَا حَصَلَتْ التَّزْكِيَةُ لِلشُّهُودِ فلابد مِنْ الْإِعْذَارِ فِي الْمُزَكِّي وَالْمُزَكَّى، ثُمَّ هَلْ يُعْذِرُ إلَيْهِ قَبْلَ أَنْ يَسْأَلَهُ ذَلِكَ أَوْ بَعْدَ أَنْ يَسْأَلَهُ؟ فِي الْمَذْهَبِ أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ، قَالَ ابْنُ نَافِعٍ: يَقُولُ لَهُ دُونَكَ فَاجْرَحْ وَإِلَّا حَكَمْت عَلَيْكَ.
وَقَالَ مَالِكٌ فِي رِوَايَةِ أَشْهَبَ لَا يَقُولُ ذَلِكَ وَذَلِكَ وَهْنٌ لِلشَّاهِدِ.
وَقَالَ أَشْهَبُ يَقُولُ لَهُ ذَلِكَ إنْ كَانَ الشَّاهِدُ بِالتَّزْكِيَةِ، وَلَا يَقُولُ لَهُ فِي الْمُبَرَّزِينَ.
وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: يَقُولُهُ لِمَنْ لَا يَدْرِي ذَلِكَ كَالْمَرْأَةِ وَالضَّعِيفِ.
ثُمَّ حَيْثُ قُلْنَا بِالْإِعْذَارِ فَمَا الَّذِي يُسْمَعُ مِنْهُ؟ قَالَ ابْنُ شَاسٍ يُسْمَعُ فِي مُتَوَسِّطِ الْعَدَالَةِ الْقَدْحُ فِيهَا، وَأَمَّا الْمُبَرِّزُ الْمَعْرُوفُ بِالصَّلَاحِ فَيُسْمَعُ فِيهِ الْقَدْحُ بِالْعَدَاوَةِ وَالْقَرَابَةِ وَالْهِجْرَةِ.
وَقَالَ سَحْنُونٌ: يُمَكَّنُ مِنْ التَّجْرِيحِ وَلَمْ يُفَرِّقْ.
وَإِذَا قُلْنَا بِسَمَاعِ الْجَرْحِ فِي الْمُبَرِّزِ فَقَالَ سَحْنُونٌ: لَا يُقْبَلُ ذَلِكَ إلَّا مِنْ الْمُبَرِّزِ فِي الْعَدَالَةِ.
وَقَالَ ابْنُ الْمَاجِشُونِ يُجَرِّحُ الشَّاهِدُ مَنْ هُوَ مِثْلُهُ وَفَوْقَهُ، وَلَا يُجَرِّحُهُ مَنْ هُوَ دُونَهُ، إلَّا بِالْعَدَاوَةِ، وَالْهِجْرَةِ، أَمَّا بِالْقَدْحِ فِي الْعَدَالَةِ فَلَا.
وَقَالَ مُطَرِّفٌ يُجَرِّحُهُ مَنْ هُوَ مِثْلُهُ وَفَوْقَهُ وَدُونَهُ بِالْإِسْفَاهِ وَبِالْعَدَاوَةِ إذَا كَانَ عَدْلًا عَارِفًا بِوُجُودِ الْجَرْحِ، وَاخْتَارَهُ اللَّخْمِيُّ، وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ: لَا يُقْبَلُ التَّجْرِيحُ فِي الْمُبَرِّزِ إلَّا أَنْ يَكُونَ الْمُجَرِّحُونَ مَعْرُوفِينَ بِالْعَدَالَةِ وَأَعْدَلَ مِنْهُ، وَيَذْكُرُونَ مَا جَرَّحُوهُ بِهِ مِمَّا يَثْبُتُ بِالْكَشْفِ.
وَقَالَ ابْنُ الْقَطَّانِ: لَا يُجَرِّحُ الشَّاهِدُ مَنْ دُونَهُ بِالْعَدَاوَةِ وَأَجَازَهُ ابْنُ الْعَطَّارِ.
مَسْأَلَةٌ:
وَيُعْذِرُ فِي تَعْدِيلِ الْعَلَانِيَةِ دُونَ تَعْدِيلِ السِّرِّ، فَلَا يُعْذِرُ الْقَاضِي فِي الْمُعَدِّلِينَ سِرًّا (اُنْظُرْهُ فِي مُعِينِ الْحُكَّامِ).

.فَصْلٌ وَقْتِ الْإِعْذَارِ إلَى الْمَحْكُومِ عَلَيْهِ:

فَصْلٌ: وَفِي (مُفِيدِ الْحُكَّامِ): وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي وَقْتِ الْإِعْذَارِ إلَى الْمَحْكُومِ عَلَيْهِ فَقِيلَ يُعْذِرُ إلَيْهِ وَحِينَئِذٍ يَحْكُمُ عَلَيْهِ وَبِهِ الْعَمَلُ كَمَا تَقَدَّمَ، وَقِيلَ يَحْكُمُ عَلَيْهِ وَبَعْدَ ذَلِكَ يُعْذِرُ إلَيْهِ.
مَسْأَلَةٌ:
وَلَيْسَ فِي التَّوْكِيلِ إعْذَارٌ وَلَا أَجَلٌ، وَقَدْ تَقَدَّمَ مَا ذَكَرَهُ ابْنُ الْهِنْدِيِّ فِي ذَلِكَ فِي حُكْمِ الْوَكَالَةِ.
تَنْبِيهٌ:
وَالْإِعْذَارُ لَا يَكُونُ إلَّا بَعْدَ اسْتِيفَاءِ الشُّرُوطِ وَتَمَامِ النَّظَرِ، وَالْإِعْذَارُ فِي شَيْءٍ نَاقِصٍ لَا يُفِيدُ شَيْئًا قَالَهُ ابْنُ سَهْلٍ فِي مَسْأَلَةِ مَنْ قَامَ عِنْدَ الْقَاضِي وَأَثْبَتَ عِنْدَهُ مَوْتَ زَوْجَتِهِ وَعِدَّةَ وَرَثَتِهَا وَهُمْ زَوْجُهَا الْقَائِمُ عِنْدَ الْقَاضِي وَأُخْتُهَا الْحَاضِرَةُ وَأَخُوهَا الْغَائِبُ بِالْمَشْرِقِ، وَهِيَ مَذْكُورَةٌ فِي الْفُصُولِ الَّتِي يَتَوَقَّفُ سَمَاعُ الدَّعْوَى بِهَا عَلَى إثْبَاتِ أُمُورٍ.
مَسْأَلَةٌ:
إذْ قَالَ الْقَاضِي لِلْمَحْكُومِ عَلَيْهِ كُنْت خَاصَمْت عِنْدِي وَأَعْذَرْت إلَيْكَ فَلَمْ تَأْتِ بِحُجَّةٍ، وَحَكَمْت عَلَيْكَ وَأَنْكَرَ الْمَحْكُومُ عَلَيْهِ الْخِصَامَ عِنْدَ الْقَاضِي، فَالْحُكْمُ فِيهَا مَذْكُورٌ فِي آخِرِ الرُّكْنِ الثَّانِي فِي الْوُجُوهِ الَّتِي يَقُومُ بِهَا الْخَصْمُ وَتَقْدَحُ فِي الْحُكْمِ.

.فَصْلٌ انْعَقَدَ فِي مَجْلِسِ الْقَاضِي مَقَالٌ وَشَهِدَتْ بِهِ شُهُودُ الْمَجْلِسِ:

فَصْلٌ: إذَا انْعَقَدَ فِي مَجْلِسِ الْقَاضِي مَقَالٌ بِإِقْرَارٍ أَوْ إنْكَارٍ وَشَهِدَتْ بِهِ شُهُودُ الْمَجْلِسِ عِنْدَ الْقَاضِي أَنْفَذَ تِلْكَ الْمَقَالَةَ عَلَى قَائِلِهَا وَلَمْ يُعْذِرْ إلَيْهِ فِي شَهَادَةِ شُهُودِهَا لِكَوْنِهَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَعِلْمِهِ بِهَا وَقَطْعِهِ بِحَقِيقَتِهَا، وَهَذَا هُوَ الْإِجْمَاعُ مِنْ الْمُتَقَدِّمِينَ وَالْمُتَأَخِّرِينَ، قَالَهُ أَبُو إبْرَاهِيمَ إِسْحَاقُ بْنِ إبْرَاهِيمَ التُّجِيبِيُّ.
وَقَالَهُ ابْنُ الْعَطَّارِ، وَبِهِ جَرَى الْحُكْمُ وَالْعَمَلُ عِنْدَ الْحُكَّامِ.
وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ الْفَخَّارِ لابد مِنْ الْإِعْذَارِ، وَعَلَّلَ ذَلِكَ بِأَنَّ الْحَاكِمَ لَا يَحْكُمُ بِعِلْمِهِ وَلَا بِمَا يُقَرُّ بِهِ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَقَدْ يَنْكَشِفُ عِنْدَ الْإِعْذَارِ إلَى الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ أَنَّ الشَّاهِدَيْنِ غَيْرَ عَدْلَيْنِ أَوْ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ عَدَاوَةٌ أَوْ غَيْرُ ذَلِكَ مِنْ الْوُجُوهِ، قَالَ الْقَاضِي أَبُو الْأَصْبَغِ بْنُ سَهْلٍ وَهَذَا هُوَ الْقِيَاسُ الْمُطَّرِدُ الصَّحِيحُ، لَكِنَّ الِاسْتِحْسَانَ مَا ذَكَرَهُ أَبُو إبْرَاهِيمَ وَابْنُ الْعَطَّارِ، وَيُعَضِّدُهُ قَوْلُ مُطَرِّفٍ وَابْنِ الْمَاجِشُونِ وَأَصْبَغَ فِي كِتَابِ ابْنِ حَبِيبٍ أَنَّ الْقَاضِيَ يَقْضِي عَلَى مَنْ أَقَرَّ عِنْدَهُ فِي مَجْلِسِ نَظَرِهِ بِمَا سَمِعَ مِنْهُ وَإِنْ لَمْ يُحْضِرْ بَيِّنَةً.
وَقَالَهُ ابْنُ الْمَاجِشُونِ وَبِهِ أَخَذَ سَحْنُونٌ.
وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ وَأَشْهَبُ: لَا يَقْضِي الْقَاضِي بِعِلْمِهِ وَلَا بِمَا أُقِرَّ بِهِ عِنْدَهُ فِي مَجْلِسِ قَضَائِهِ أَوْ فِي غَيْرِهِ لَا فِي حَدٍّ وَلَا فِي غَيْرِهِ.
تَقْسِيمٌ آخَرُ: الْإِعْذَارُ فِي الْمَقَالَاتِ الَّتِي تَجْرِي عِنْدَ الْحُكَّامِ ذَكَرَهُ ابْنُ هِشَامٍ فِي (مُفِيدِ الْحُكَّامِ) قَالَ: وَالْإِعْذَارُ فِي الْمَقَالَاتِ الَّتِي تَجْرِي عِنْدَ الْحُكَّامِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ.
الْأَوَّلُ: أَنْ يُوقِفَ الْخَصْمُ خَصْمَهُ عَلَى مَا يَطْلُبُهُ فَيُجَاوِبَهُ بِجَوَابٍ مَحْضٍ كَامِلٍ، فَيَأْمُرَ الْحَاكِمُ بِعَقْدِهِ وَبِقِرَاءَتِهِ عَلَى الْمُقَرِّ لَهُ، ثُمَّ يُشْهِدَ عَلَى تِلْكَ الْمَقَالَةِ الْعُدُولَ، فَإِذَا شَهِدُوا فِيهَا أَدَّوْا شَهَادَتَهُمْ بِهَا عِنْدَهُ فِي ذَلِكَ الْمَجْلِسِ نَفْسِهِ، فَإِنْ أَنْكَرَ الْمُقَرَّ بِهَا بَعْدَ ذَلِكَ وَطَلَبَ أَنْ يُعْذِرَ إلَيْهِ فِي ذَلِكَ لَمْ يُجِبْهُ الْحَاكِمُ إلَى ذَلِكَ لِمَعْرِفَتِهِ بِصِحَّةِ مَا شَهِدُوا بِهِ عِنْدَهُ قَالَهُ ابْنُ زَرْبٍ، وَمِثْلُهُ لِابْنِ بَطَّالٍ فِي أَحْكَامِهِ.
الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنْ يُجَاوِبَ أَحَدُ الْخَصْمَيْنِ صَاحِبَهُ بِجَوَابٍ كَامِلٍ مَحْضٍ فَتَنْعَقِدَ مَقَالَتُهُ وَيَكْتُبَ الشُّهُودُ عَلَى ذَلِكَ أَسْمَاءَهُمْ، ثُمًّ يَشْهَدُونَ بِذَلِكَ عِنْدَ الْحَاكِمِ بَعْدَ أَيَّامٍ مِنْ تَارِيخِ تِلْكَ الْمَقَالَةِ، فَلِلْمُقِرِّ بِتِلْكَ الْمَقَالَةِ إذَا أَنْكَرَهَا أَنْ يُعْذِرَ إلَيْهِ فِيمَا ثَبَتَ عِنْدَهُ.
الْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنْ يَشْهَدَ شُهُودٌ أَنَّهُمْ سَمِعُوا فُلَانًا يُقِرُّ بِكَذَا وَكَذَا عِنْدَ الْحَاكِمِ دُونَ أَنْ يَعْقِدُوا مَقَالَتَهُ، فَلْيَأْمُرْ الْحَاكِمُ بِعَقْدِ تِلْكَ الْمَقَالَةِ وَيَكْتُبُوا شَهَادَتَهُمْ عَلَى مَا سَمِعُوا وَيَشْهَدُوا بِهَا عِنْدَهُ، فَإِذَا ثَبَتَ أَعْذَرَ فِي ذَلِكَ لِلْمَشْهُودِ عَلَيْهِ- انْتَهَى.
مَسْأَلَةٌ:
قَالَ ابْنُ سَهْلٍ: وَرَأَيْت فِي غَيْرِ كِتَابِ ابْنِ الْعَطَّارِ أَنَّ شُهُودَ الْمَجْلِسِ إذَا كَتَبُوا شَهَادَتَهُمْ عَلَى مَقَالِ مُقِرٍّ أَوْ مُنْكِرٍ فِي مَجْلِسِ الْقَاضِي وَلَمْ يَشْهَدُوا بِهَا عِنْدَ الْقَاضِي فِي ذَلِكَ الْمَجْلِسِ ثُمَّ أَدَّوْا الشَّهَادَةَ بَعْدَ ذَلِكَ عِنْدَهُ إذَا اُحْتِيجَ إلَيْهَا فَإِنَّهُ يُعْذِرُ فِي شَهَادَتِهِمْ إلَى الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ، بِخِلَافِهِمْ إذَا أَدَّوْهَا فِي الْمَجْلِسِ نَفْسِهِ الَّذِي كَانَ فِيهِ الْمَقَالُ، وَكَذَلِكَ لَوْ حَفِظُوهَا وَإِنْ لَمْ يَكْتُبُوهَا ثُمَّ أَدَّوْهَا بَعْدَ ذَلِكَ إذَا طُلِبُوا بِهَا وَكَانُوا عُدُولًا، فَإِنَّهُ لَا يُعْذِرُ فِيهَا إلَى مَنْ شَهِدُوا عَلَيْهِ بِهَا.
مَسْأَلَةٌ:
قَالَ أَبُو إبْرَاهِيمَ: وَلَا يُعْذِرُ الْقَاضِي فِيمَنْ أَعْذَرَ بِهِ إلَى مَشْهُودٍ عَلَيْهِ مِنْ امْرَأَةٍ أَوْ مَرِيضٍ لَا يَخْرُجَانِ.
مَسْأَلَةٌ:
وَلَا يُعْذِرُ فِي الشَّاهِدَيْنِ اللَّذَيْنِ يُوَجِّهُهُمَا لِحُضُورِ حِيَازَةِ الشُّهُودِ لِمَا شَهِدُوا فِيهِ مِنْ دَارٍ أَوْ عَقَارٍ.
وَقَالَ ابْنُ سَهْلٍ: وَسَأَلْت ابْنَ عَتَّابٍ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ: لَا إعْذَارَ، وَأَمَّا الْمُوَجَّهَانِ لِلْحِيَازَةِ فَيُعْذِرُ فِيهِمَا، وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي ذَلِكَ.
مَسْأَلَةٌ:
وَكَذَلِكَ الشَّاهِدَانِ الْمُوَجَّهَانِ لِحُضُورِ الْيَمِينِ لَا يَحْتَاجُ إلَى تَسْمِيَتِهِمَا؛ لِأَنَّهُ لَا إعْذَارَ فِيهِمَا فِي الْمَشْهُورِ مِنْ الْقَوْلِ؛ لِأَنَّ الْحَاكِمَ أَقَامَهُمَا مَقَامَ نَفْسِهِ، وَقِيلَ لابد مِنْ الْإِعْذَارِ فِيهِمَا.
مَسْأَلَةٌ:
وَكَذَلِكَ الشُّهُودُ الَّذِينَ يَحْضُرُونَ تَطْلِيقَ الْمَرْأَةِ نَفْسَهَا وَأَخْذَهَا بِشُرُوطِهَا فِي الطَّلَاقِ فِي مَسَائِلِ الشُّرُوطِ فِي النِّكَاحِ لَا يَحْتَاجُ إلَى تَسْمِيَتِهِمْ؛ لِأَنَّهُ لَا إعْذَارَ فِيهِمْ.
تَتْمِيمٌ: لِبَيَانِ الْوُجُوهِ الَّتِي يَسْقُطُ فِيهَا الْإِعْذَارُ وَكُلُّ مَنْ قَامَتْ عَلَيْهِ بَيِّنَةٌ بِحَقٍّ عَنْ مُعَامَلَةٍ أَوْ نَحْوِهَا، أَوْ دَعْوَى بِفَسَادٍ أَوْ غَصْبٍ أَوْ تَعَدٍّ فلابد مِنْ الْإِعْذَارِ إلَيْهِ قَبْلَ الْحُكْمِ عَلَيْهِ، إلَّا أَنْ يَكُونَ مِنْ أَهْلِ الْفَسَادِ الظَّاهِرِ أَوْ الزَّنَادِقَةِ الْمَشْهُورِينَ بِمَا يُنْسَبُ إلَيْهِمْ فَلَا يَعْذِرُ إلَيْهِمْ فِيمَا شُهِدَ بِهِ عَلَيْهِمْ. وَقَدْ وَقَعَ فِي آخِرِ الْجُزْءِ الثَّانِي مِنْ أَحْكَامِ ابْنِ سَهْلٍ فِي مَسْأَلَةِ أَبِي الْخَيْرِ الزِّنْدِيقِ لَمَّا شُهِدَ عَلَيْهِ بِمَا يَتَعَاطَاهُ مِنْ الْقَوْلِ الْمُصَرِّحِ بِالْكُفْرِ وَالِانْسِلَاخِ مِنْ الْإِيمَانِ، وَقَامَتْ الْبَيِّنَةُ عَلَيْهِ بِذَلِكَ وَكَانُوا ثَمَانِيَةَ عَشَرَ شَاهِدًا، وَكَانَ الْقَاضِي يَوْمَئِذٍ مُنْذِرَ بْنَ سَعِيدٍ قَاضِيَ الْجَمَاعَةِ فَأَشَارَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ بِأَنْ يَعْذِرَ إلَيْهِ فِيمَا شُهِدَ بِهِ عَلَيْهِ، وَأَشَارَ قَاضِي الْجَمَاعَةِ وَإِسْحَاقُ بْنُ إبْرَاهِيمَ التُّجِيبِيُّ وَصَاحِبُ الصَّلَاةِ أَحْمَدُ بْنُ مُطَرِّفٍ بِأَنَّهُ يُقْتَلُ بِغَيْرِ إعْذَارٍ؛ لِأَنَّهُ مُلْحِدٌ كَافِرٌ، وَقَدْ وَجَبَ قَتْلُهُ بِدُونِ مَا ثَبَتَ عَلَيْهِ، فَقُتِلَ بِغَيْرِ إعْذَارٍ، فَقِيلَ لِأَبِي إبْرَاهِيمَ فِي ذَلِكَ وَسَأَلُوهُ أَنْ يَشْرَحَ لَهُمْ أَصْلَ الْفُتْيَا فِي قَتْلِهِ بِغَيْرِ إعْذَارٍ، فَذَكَرَ أَنَّ مِنْ أَصْلِهِ الَّذِي اعْتَمَدَ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ عَلَى قَاعِدَةِ مَذْهَبِ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي قَطْعِ الْإِعْذَارِ عَمَّنْ اسْتَفَاضَتْ عَلَيْهِ الشَّهَادَاتُ فِي الظُّلْمِ.
وَعَلَى مَذْهَبِهِ فِي السَّلَّابَةِ وَالْمُغِيرِينَ وَأَشْبَاهِهِمْ إذَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ الْمَسْلُوبُونَ وَالْمُنْتَهَبُونَ بِأَنْ تُقْبَلَ شَهَادَتُهُمْ عَلَيْهِمْ إذَا كَانُوا مِنْ أَهْلِ الْقَبُولِ وَفِي قَبُولِهَا عَلَيْهِمْ سَفْكُ دِمَائِهِمْ.
وَفِي الرَّجُلِ يَتَعَلَّقُ بِالرَّجُلِ وَجُرْحُهُ يُدْمِي فَيُصَدَّقُ عَلَيْهِ، وَفِي الَّتِي تَتَعَلَّقُ بِالرَّجُلِ فِي الْمَكَانِ الْخَالِي وَقَدْ فَضَحَتْ نَفْسَهَا بِإِصَابَتِهِ لَهَا فَتُصَدَّقُ بِفَضِيحَةِ نَفْسِهَا.
وَفِي الَّذِي وَجَدَهُ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ عِنْدَ أَحَدِ الْحُكَّامِ وَهُوَ يَضْرِبُ بِدَعْوَى صَبِيٍّ قَدْ تَعَلَّقَ بِهِ وَهُوَ يُدْمِي فَضَرَبَهُ الْحَاكِمُ فِيمَا ادَّعَاهُ عَلَيْهِ مِنْ إصَابَتِهِ لَهُ فَلَمْ يَزَلْ يَضْرِبُ وَمَالِكٌ جَالِسٌ عِنْدَهُ حَتَّى ضَرَبَ ثَلَثَمِائَةِ سَوْطٍ وَهُوَ سَاكِتٌ لَا يُنْكِرُ ذَلِكَ مَعَ مَا تَقَدُّمٍ لَهُ مِنْ الضَّرْبِ قَبْلَ وُصُولِ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ وَقَدْ بَلَغَنِي أَنَّهُ انْتَهَى بِهِ الضَّرْبُ إلَى سِتِّمِائَةِ سَوْطٍ، وَفِي أَهْلِ حِصْنٍ مِنْ الْعَدُوِّ يَأْتُونَ مُسْلِمِينَ رِجَالًا وَنِسَاءً حَوَامِلَ وَغَيْرَ حَوَامِلَ فَيُصَدَّقُونَ فِي أَنْسَابِهِمْ وَيَتَوَارَثُونَ إذَا كَانُوا جَمَاعَةً لَهُمْ عَدَدٌ، قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: وَالْعِشْرُونَ عِنْدِي جَمَاعَةٌ فَأَيْنَ الْإِعْذَارُ فِي هَؤُلَاءِ كُلِّهِمْ، وَإِذَا كَانَ مَالِكٌ يَرَى فِي أَهْلِ الظُّلْمِ لِلنَّاسِ وَالسَّلَّابِينَ وَالْمُحَارِبِينَ وَنَحْوِهِمْ أَنْ يُقْطَعَ عَنْهُمْ الْإِعْذَارُ فَالظَّالِمُ لِلَّهِ تَعَالَى وَلِكِتَابِهِ وَلِرَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحَقُّ بِأَنْ يُقْطَعَ عَنْهُ الْإِعْذَارُ فِيمَا ثَبَتَ عَلَيْهِ، وَإِنِّي مُتَقَرِّبٌ إلَى اللَّهِ تَعَالَى بِإِسْقَاطِ التَّوْسِعَةِ عَلَيْهِ فِي طَلَبِ الْمَخَارِجِ لَهُ بِالْإِعْذَارِ.
وَقَدْ ثَبَتَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمُوَطَّأِ أَنَّهُ قَالَ: «إنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَإِنَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ إلَيَّ فَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَنْ يَكُونَ أَلْحَنَ بِحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ فَأَقْضِيَ لَهُ عَلَى نَحْوِ مَا أَسْمَعُ مِنْهُ» وَهَذَا الْحَدِيثُ هُوَ أُمُّ الْقَضَايَا وَلَا إعْذَارَ فِيهِ، وَكَذَلِكَ كِتَابُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ إلَى أَبِي عُبَيْدَةَ بْنِ الْجَرَّاحِ وَإِلَى أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، وَهُمَا أَيْضًا مَلَاذُ الْحُكَّامِ فِي الْأَحْكَامِ، وَلَا إعْذَارَ فِيهِمَا وَلَا إقَالَةَ مِنْ حُجَّةٍ وَلَا مِنْ كَلِمَةٍ، غَيْرَ أَنَّ الْإِعْذَارَ فِيمَا يَتَحَاكَمُ النَّاسُ فِيهِ مِنْ غَيْرِ أَسْبَابِ الدِّيَانَاتِ اسْتِحْسَانٌ مِنْ أَئِمَّتِنَا، وَأَنَا عَلَى اتِّبَاعِهِمْ فِيهِ وَالْأَخْذِ بِهِ عَلَى بَصِيرَةٍ مُسْتَحْكِمَةٍ فِيمَا أَوْجَبُوا الْإِعْذَارَ فِيهِ مِنْ الْحُقُوقِ، وَأَلْتَزِمُ التَّسْلِيمَ لِمَا اسْتَحْسَنُوهُ، إذْ هُمْ الْقُدْوَةُ وَالْهُدَاةُ.
فَأَمَّا فِي إقَامَةِ الْحُدُودِ فِي الْإِلْحَادِ وَالزَّنْدَقَةِ وَتَكْذِيبِ الْقُرْآنِ وَالرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فَلَمْ أَسْمَعْ بِهِ، وَلَمْ أَرَهُ لِأَحَدٍ مِمَّنْ وَصَلَ إلَيْنَا عِلْمُهُ وَمِمَّا لَا إعْذَارَ فِيهِ شَهَادَاتُ مَنْ يَحْضُرُ مَجْلِسَ الْحَاكِمِ وَيَشْهَدُ عِنْدَهُ بِمَا وَقَعَ فِيهِ مِنْ الْإِقْرَارِ وَالْإِنْكَارِ، وَمِنْهَا شَهَادَاتُ مَنْ يُعْذِرُ لَهُمْ الْحَاكِمُ إلَى مَنْ تَحْجُبُهُ الْأَحْوَالُ الْمَانِعَةُ مِنْ مُشَاهَدَتِهِمْ لِلشُّهُودِ فِي مَجْلِسِ الْحُكْمِ، فَهَؤُلَاءِ لَا إعْذَارَ فِيهِمْ.
وَمِنْهَا شَهَادَاتُ مَنْ يُوَجِّهُهُمْ الْحَاكِمُ إلَى امْتِحَانِ مَا لَا غِنَى بِهِمْ عَنْ امْتِحَانِهِ مِمَّنْ يَثِقُونَ بِهِ كَالْعَبْدِ فِيهِ الْعَيْبُ، فَيَبْعَثُ بِهِ الْحَاكِمُ إلَى مَنْ يَثِقُ بِهِ مِنْ أَهْلِ الْبَصَرِ وَالنَّظَرِ يَشْهَدُونَ عِنْدَهُ بِهِ فَلَيْسَ فِيهِمْ إعْذَارٌ؛ لِأَنَّهُمْ لَمْ يُسْأَلُوا الشَّهَادَةَ، وَإِنَّمَا الْقَاضِي اسْتَخْبَرَهُمْ فَأَخْبَرُوهُ، وَالْإِعْذَارُ إنَّمَا هُوَ عَلَى الظُّنُونِ وَالتُّهْمَةِ لِلشُّهُودِ، وَكَذَلِكَ الْإِعْذَارُ فِي الْمُوَجَّهِينَ إلَى حِيَازَةِ مَا شُهِدَ بِهِ عِنْدَهُمْ مِمَّا لابد أَنْ يُحَازُوا إلَى تَنْفِيذِ مَا لَا يُمْكِنُهُمْ إنْفَاذُهُ فِي مَجَالِسِهِمْ لِأَسْبَابٍ يَطُولُ ذِكْرُهَا فَلَا إعْذَارَ فِي شَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الشَّهَادَاتِ، وَرُبَّمَا اُكْتُفِيَ فِي كَثِيرٍ مِنْهَا بِشَاهِدٍ وَاحِدٍ، فَهَلْ هَذِهِ كُلُّهَا إلَّا شَهَادَاتٌ، وَهَلْ بَيْنَهَا وَبَيْنَ غَيْرِهَا فَرْقٌ فِي شَيْءٍ.
وَمِنْهَا اسْتِفَاضَةُ الشَّهَادَاتِ الْمَشْهُودِ بِهَا عِنْدَ الْحُكَّامِ فِي الْأَسْبَابِ الْقَدِيمَةِ وَالْحَدِيثَةِ، وَفِي الْمَوْتِ الْقَدِيمِ وَالْحَدِيثِ، وَفِي النِّكَاحَاتِ الْقَدِيمَةِ وَالْحَدِيثَةِ، وَفِي الْوَلَاءِ الْقَدِيمِ، وَفِي الْأَحْبَاسِ الْقَدِيمَةِ وَفِي الضَّرَرِ يَكُونُ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ، وَفِي أَشْيَاءَ غَيْرِ هَذَا يَطُولُ ذِكْرُهَا، وَلِهَذِهِ الشَّهَادَاتِ بَابٌ مُسْتَوْعَبٌ يَأْتِي إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
تَنْبِيهٌ:
قَوْلُهُ وَالضَّرَرِ مَعْنَاهُ أَنَّهُ يَسْقُطُ الْإِعْذَارُ فِي الشَّهَادَةِ بِالضَّرَرِ وَكَذَلِكَ يَسْقُطُ الْإِعْذَارُ فِي حُكْمِ الْحَكَمَيْنِ، قَالَ ابْنُ رُشْدٍ: لِأَنَّهُمَا يَحْكُمَانِ فِي ذَلِكَ بِمَا خَلَصَ إلَيْهِمَا بَعْدَ النَّظَرِ وَالْكَشْفِ وَلَيْسَ حُكْمُهُمَا بِالشَّهَادَةِ الْقَاطِعَةِ، قَالَ أَبُو إبْرَاهِيمَ فَإِلَى هَذِهِ الْأُمُورِ نَزَعْت فِي تَرْكِ الْإِعْذَارِ إلَى هَذَا الْمُلْحِدِ، قَالَ ابْنُ سَهْلٍ: لَقَدْ أَحْسَنَ أَبُو إبْرَاهِيمَ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي هَذَا التَّبْيِينِ وَالنُّصْحِ لِلْمُسْلِمِينَ، وَإِنْ كَانَ فِي فُصُولٍ مِنْ كَلَامِهِ اعْتِرَاضٌ عَلَى الْأُصُولِ وَفِي بَعْضِهَا اخْتِلَافٌ.
وَالْحَقُّ الْبَيِّنُ: أَنَّ مَنْ تَظَاهَرَتْ الشَّهَادَاتُ عَلَيْهِ فِي إلْحَادٍ أَوْ غَيْرِهِ هَذَا التَّظَاهُرَ وَكَثُرَتْ الْبَيِّنَةُ الْعَادِلَةُ عَلَيْهِ هَذِهِ الْكَثْرَةَ فَالْإِعْذَارُ إلَيْهِ مَعْدُومُ الْفَائِدَةِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَسْتَطِيعُ تَجْرِيحَ جَمِيعِهِمْ، وَلَا يُمْكِنُهُ الْإِتْيَانُ بِمَا يُسْقِطُ بِهِ شَهَادَتَهُمْ وَمَنْ قَالَ بِالْإِعْذَارِ قَالَ أَصْلُهُ الْمُتَّفَقُ عَلَيْهِ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ وَالْحُكَّامِ فِي لُزُومِ الْإِعْذَارِ فِي الْأَمْوَالِ، وَمَنْ اجْتَهَدَ أَصَابَ وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ لِلصَّوَابِ.

.الْفَصْلُ الثَّانِي فِي ذِكْرِ وُجُوهِ التَّأْجِيلِ وَالتَّلَوُّمِ:

وَقَدْ تَقَدَّمَ مَعْنَى الْإِعْذَارِ وَأَنَّهُ قَدْ يَكُونُ إلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، وَقَدْ يَكُونُ إلَى الْمُدَّعِي، فَإِذَا أَعْذَرَ الْقَاضِي إلَى مَنْ تَوَجَّهَ الْإِعْذَارُ إلَيْهِ مِنْ طَالِبٍ أَوْ مَطْلُوبٍ وَسَأَلَهُ أَبَقِيَتْ لَكَ حُجَّةٌ؟ فَإِنْ قَالَ: نَعَمْ وَسَأَلَهُ التَّأْجِيلَ ضَرَبَ لَهُ أَجَلًا بِحَسَبِ تِلْكَ الْوَاقِعَةِ بِمَا يُؤَدِّيهِ إلَيْهِ اجْتِهَادُهُ فِي بُلُوغِ الْمُؤَجَّلِ مَقْصُودَهُ مَعَ انْتِفَاءِ ضَرَرِ خَصْمِهِ، فَإِنْ كَانَ التَّأْجِيلُ فِي حَقِّ الْمَطْلُوبِ وَأَتَى بِمَدْفَعٍ فِيمَا شُهِدَ عَلَيْهِ أَوْ اُدُّعِيَ عَلَيْهِ فَسَأَلَ الطَّالِبُ التَّأْجِيلَ أَيْضًا، وَزَعَمَ أَنَّ لَهُ مَدْفَعًا فِيمَا أَتَى بِهِ الْمَطْلُوبُ ضَرَبَ لَهُ أَجَلًا أَيْضًا وَتَلَوَّمَ عَلَيْهِ حَتَّى أَلْحَقَ وَيَتَبَيَّنَ عَجْزُ أَحَدِهِمَا فَيُنْفِذَ الْحُكْمَ حِينَئِذٍ، وَيَحْكُمَ بِالتَّعْجِيزِ عَلَى مَنْ تَوَجَّهَ عَلَيْهِ.
وَسَيَأْتِي بَيَانُ حُكْمِ التَّعْجِيزِ وَضَرْبُ الْأَجَلِ مَصْرُوفٌ إلَى اجْتِهَادِ الْحُكَّامِ بِحَسَبِ حُسْنِ النَّظَرِ فِي أَمْرِ الْخَصْمَيْنِ وَلَيْسَ فِيهِ حَدٌّ مَحْدُودٌ لَا يُتَجَاوَزُ، إنَّمَا هُوَ الِاجْتِهَادُ، وَنَذْكُرُ طَرَفًا مِمَّا جَرَى بِهِ الْعَمَلُ بَيْنَ الْحُكَّامِ، وَالْآجَالُ مُخْتَلِفَةٌ، فَإِنْ كَانَ الْأَجَلُ فِيمَا يَطُولُ النَّظَرُ فِيهِ وَالْإِثْبَاتُ كَدَعْوَى الرِّبَاعِ وَالْأُصُولِ وَالْوِرَاثَاتِ أُجِّلَ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا، ثُمَّ ثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ ثُمَّ أَرْبَعَةَ أَيَّامٍ، ثُمَّ يَتَلَوَّمُ عَلَيْهِ بِثَلَاثَةِ أَيَّامٍ تَتِمَّةَ ثَلَاثِينَ يَوْمًا قَالَهُ ابْنُ الْعَطَّارِ وَغَيْرُهُ، وَيُوقِفُهُ الْحَاكِمُ عِنْدَ تَمَامِ كُلِّ أَجَلٍ مِنْ هَذِهِ الْآجَالِ ثُمَّ يُوسِعُ لَهُ بِالْأَجَلِ الثَّانِي إلَى تَمَامِ الشَّهْرِ.
قَالَ الْمُتَيْطِيُّ: وَكَانَ الْحُكَّامُ يَجْمَعُونَهَا فِي حُكْمٍ وَيُفَرِّقُونَهَا فِي آخَرَ بِحَسَبِ مَا يُؤَدِّيهِمْ إلَيْهِ اجْتِهَادُهُمْ، وَذَكَرَ ابْنُ الْهِنْدِيِّ وَجْهًا آخَرَ وَهُوَ ثَمَانِيَةُ أَيَّامٍ ثُمَّ يُوقِفُهُ، ثُمَّ سِتَّةٌ ثُمَّ يُوقِفُهُ أَيْضًا، ثُمَّ أَرْبَعَةٌ أَيْضًا كَذَلِكَ، ثُمَّ يَتَلَوَّمُ عَلَيْهِ ثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ، وَإِنْ ضَرَبَ الْأَجَلَ الْأَوَّلَ عِشْرِينَ يَوْمًا تَلَوَّمَ عَلَيْهِ عَشَرَةَ أَيَّامٍ. قَالَ أَبُو سَهْلٍ: وَكَانَ أَبُو الْمُطَرِّفِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ بَشِيرٍ قَاضِي الْجَمَاعَةِ بِقُرْطُبَةَ يَضْرِبُ الْآجَالَ عَشَرَةَ أَيَّامٍ ثُمَّ عَشَرَةَ أَيَّامٍ ثُمَّ عَشَرَةَ أَيَّامٍ، وَكَانَ آخِرَ الْقُضَاةِ عِلْمًا وَدِرَايَةً وَتَفَنُّنًا فِي الْأَقْضِيَةِ.
قَالَ الْمُتَيْطِيُّ: وَلَهُ أَنْ يَضْرِبَ لَهُ أَجَلًا قَاطِعًا مِنْ ثَلَاثِينَ يَوْمًا فَيُدْخِلَ فِيهِ الْأَجَلَ وَالتَّلَوُّمَ، وَيُخْبِرُ الْحَاكِمُ الْخَصْمَ أَنَّهُ جَمَعَ لَهُ فِي ذَلِكَ الْآجَالَ وَالتَّلَوُّمَ حَتَّى يَعْرِفَ مَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ.
وَفِي وَثَائِقِ ابْنِ الْقَاسِمِ الْجَزِيرِيِّ إذَا كَانَ التَّأْجِيلُ فِي الْأُصُولِ فَالشَّهْرَانِ وَالثَّلَاثَةُ لاسيما إذَا ادَّعَى مَغِيبَ الْبَيِّنَةِ وَأَنَّهُمْ تَفَرَّقُوا، وَكَذَا قَالَ بَعْضُ الشُّيُوخِ، هَذَا مَعَ حُضُورِ بَيِّنَتِهِ فِي الْبَلَدِ، وَأَمَّا إنْ كَانَتْ غَائِبَةً عَنْ الْبَلَدِ فَأَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ عَلَى مَا يَرَاهُ الْحَاكِمُ.
وَقَالَ مُحَمَّدٌ فِيمَنْ قَامَتْ عَلَيْهِ بَيِّنَةٌ فِي دَارٍ فِي يَدَيْهِ فَلَمَّا سُئِلَ عَنْ حُجَّةٍ قَوِيَّةٍ، فَإِنَّهُ يُؤَجَّلُ الشَّهْرَيْنِ وَالثَّلَاثَةَ، وَرَوَى أَشْهَبُ مِثْلَ ذَلِكَ، وَزَادَ فَإِنْ طَلَبَ بَعْدَ ذَلِكَ أَجَلًا آخَرَ وَقَالَ تَفَرَّقَ شُهُودِي وَغَابُوا، فَإِنْ ظَهَرَ الصِّدْقُ مِنْ قَوْلِهِ وَلَمْ يَتَبَيَّنْ لَدَدُهُ ضُرِبَ لَهُ أَجَلٌ آخَرُ وَإِلَّا لَمْ يُضْرَبْ لَهُ أَجَلٌ، وَرَوَاهُ عَنْ مَالِكٍ اُنْظُرْهُ فِي مُخْتَصَرِ الْوَاضِحَةِ.
وَإِنْ كَانَ التَّأْجِيلُ فِي إثْبَاتِ الدُّيُونِ فَثَلَاثَةُ أَيَّامٍ وَنَحْوُهَا قَالَهُ ابْنُ الْقَاسِمِ الْجَزِيرِيُّ، وَإِنْ كَانَ الْأَجَلُ فِي الْإِعْذَارِ فِي الْبَيِّنَاتِ وَحَلِّ الْعُقُودُ فَثَلَاثُونَ يَوْمًا، وَلِلْقَاضِي جَمْعُهَا وَبِتَفْرِيقِهَا جَرَى الْعَمَلُ، قَالَهُ الْجَزِيرِيُّ، وَإِنْ كَانَ الْأَجَلُ فِي إثْبَاتِ شَيْءٍ مِمَّا يُدَّعَى فِيهِ مَا عَدَا الْأُصُولَ أَجَّلَ الْمُثْبِتُ دَعْوَاهُ ثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ، ثُمَّ سِتَّةَ أَيَّامٍ، ثُمَّ أَرْبَعَةً، ثُمَّ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ تَلَوُّمًا لِتَمَامِ أَحَدٍ وَعِشْرِينَ يَوْمًا.
وَإِنْ كَانَ الْأَجَلُ فِي الَّذِي يَدَّعِي الشَّيْءَ عَلَى الرَّجُلِ وَيُقِيمُ شَاهِدًا أَوْ لَطْخًا وَيَدَّعِي شَاهِدًا آخَرَ فَإِنَّمَا يَضْرِبُ لَهُ أَجَلًا الْجُمُعَةَ وَنَحْوَهَا حَكَاهُ سَحْنُونٌ فِي الْمُدَوَّنَةِ، ذَكَرَهُ ابْنُ حَبِيبٍ فِي مُخْتَصَرِ الْوَاضِحَةِ.
وَإِنْ كَانَ الْأَجَلُ فِي دَعْوَى الْحُرِّيَّةِ فَفِي مُخْتَصَرِ الْوَاضِحَةِ قَالَ فَضْلُ بْنُ سَلَمَةَ رَوَى ابْنُ الْقَاسِمِ أَنَّ الْعَبْدَ إذَا أَقَامَ شَاهِدًا وَاحِدًا عَلَى الْحُرِّيَّةِ وَادَّعَى شَاهِدًا آخَرَ أَنَّهُ يُؤَجَّلُ الشَّهْرَيْنِ وَالثَّلَاثَةَ، لاسيما إذَا ادَّعَى مَغِيبَ الشَّاهِدِ الْآخَرِ، وَإِنْ كَانَ الْأَجَلُ لِمَنْ ادَّعَى دَابَّةً أَوْ أَمَةً يَخَاف أَنْ يَغِيبَ عَلَيْهَا الْمُدَّعِي فَإِنَّهَا تُوقَفُ الْيَوْمَ وَالْيَوْمَيْنِ، فَإِنْ أَتَى بِشَيْءٍ يُوجِبُ التَّوْقِيفَ وَإِلَّا أُطْلِقَتْ عَلَيْهَا يَدُ صَاحِبِهَا الْمُدَّعَى عَلَيْهِ قَالَهُ ابْنُ زَرْبٍ، فَإِنْ أَقَامَ عَلَى الْعَبْدِ أَوْ الدَّابَّةِ شَاهِدًا، وَطَلَبَ الْمُدَّعِي أَنْ يُدْفَعَ إلَيْهِ الْمُدَّعَى فِيهِ لِيَذْهَبَ بِهِ إلَى مَوْضِعِ بَيِّنَتِهِ، فَذَلِكَ لَهُ بَعْدَ أَنْ يَضَعَ قِيمَتَهُ، وَمَنَعَ مِنْ ذَلِكَ سَحْنُونٌ، فَإِنْ لَمْ يُرِدْ أَنْ يَضَعَ قِيمَتَهُ. وَقَالَ: يُوقَفُ حَتَّى آتِيَ بِبَيِّنَتِي، فَإِنْ كَانَ مِمَّا يَقْرُبُ وُقِفَ لَهُ مَا بَيْنَ الْخَمْسَةِ الْأَيَّامِ إلَى الْجُمُعَةِ قَالَهُ سَحْنُونٌ، وَقِيلَ الشَّهْرُ وَنَحْوُهُ، وَسَيَأْتِي ذِكْرُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي تَوْقِيفِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِأَبْسَطَ مِنْ هَذَا.
وَإِنْ كَانَ الْأَجَلُ فِي تَوْقِيفِ الْمُدَّعَى فِيهِ التَّأْجِيلُ فِي كُلِّ شَيْءٍ بِحَسَبِهِ، وَهِيَ مَذْكُورَةٌ فِي مَحَلِّهَا وَإِنْ كَانَ الْأَجَلُ قَدْ ضُرِبَ لِلْمِدْيَانِ فِي بَيْعِ الْأُصُولِ فَيُؤَجَّلُ نَحْوَ الشَّهْرَيْنِ قَالَهُ ابْنُ زَرْبٍ وَغَيْرُهُ، وَالْمَسْأَلَةُ مَبْسُوطَةٌ فِي الْقِسْمِ الثَّالِثِ.
وَإِنْ كَانَ الْأَجَلُ فِي الْإِعْسَارِ بِالصَّدَاقِ فَعَلَى مَذْهَبِ مَالِكٍ يُؤَجَّلُ الشَّهْرَ وَالشَّهْرَيْنِ وَهُوَ خِلَافُ قَوْلِ ابْنِ الْقَاسِمِ.
وَفِي الْمُتَيْطِيَّةِ قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ وَلَيْسَ النَّاسُ فِي التَّلَوُّمِ سَوَاءً مِنْهُمْ مَنْ يُرْجَى لَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يُرْجَى لَهُ، قَالَ فِي الْمُدَوَّنَةِ: وَلَا أَحُدُّ فِي ذَلِكَ حَدًّا، قَالَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ وَظَاهِرُ قَوْلِ ابْنِ الْقَاسِمِ هَذَا أَنَّ مَنْ لَا يُرْجَى لَهُ شَيْءٌ لَا يُتَلَوَّمُ لَهُ، وَأَنَّهُ يُطْلَقُ عَلَيْهِ، لِوَقْتِهِ، قَالَ فَضْلُ بْنُ سَلَمَةَ وَهَذَا مَذْهَبُ ابْنِ الْقَاسِمِ، وَهَذَا قَبْلَ الْوَطْءِ.
قَالَ ابْنُ الْحَاجِبِ وَلِلْمَرْأَةِ مَنْعُ نَفْسِهَا مِنْ الدُّخُولِ وَمِنْ الْوَطْءِ بَعْدَهُ وَمِنْ السَّفَرِ مَعَهُ حَتَّى تَقْبِضَ مَا وَجَبَ مِنْ صَدَاقِهَا، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ تُلُوِّمَ لَهُ بِأَجَلٍ بَعْدَ أَجَلٍ ثُمَّ يُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا بِطَلْقَةٍ، فَإِنْ وَطِئَهَا لَمْ يَبْقَ لَهَا إلَّا الْمُطَالَبَةُ يُرِيدُ أَنَّهُ صَارَ دَيْنًا مِنْ جُمْلَةِ دُيُونِهَا، وَلَا تَطْلُقُ الْمَرْأَةُ عَلَى الزَّوْجِ بِمَطْلِهِ دَيْنَهَا أَوْ بِإِعْسَارِهِ بِهِ.
وَقَالَ مَالِكٌ: فِي كِتَابِ مُحَمَّدٍ يُؤَخَّرُ السَّنَتَيْنِ وَلَا يُعَجَّلُ عَلَيْهِ.
وَقَالَ فِي مُخْتَصَرِ ابْنِ عَبْدِ الْحَكَمِ: يُضْرَبُ لَهُ أَجَلُ سَنَةٍ وَسَنَتَيْنِ ثُمَّ يُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا، وَإِنْ كَانَ يُجْرِي النَّفَقَةَ وَهَذَا فِي حَقِّ مَنْ يُرْجَى لَهُ الْيَسَارُ كَالتَّاجِرِ يَنْتَظِرُ إنْفَاقَ السِّلَعِ وَالْأَسْوَاقَ أَوْ يَنْتَظِرُ مَالًا مِنْ بَلَدِهِ وَنَحْوَ ذَلِكَ، قَالَ ابْنُ حَبِيبٍ: إنْ اُتُّهِمَ أَنَّهُ أَخْفَى مَالَهُ لَمْ يُوسَعْ لَهُ فِي الْأَجَلِ، وَفِي الْمَسْأَلَةِ أَقْوَالٌ وَتَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي مَحَلِّهِ.
مَسْأَلَةٌ:
إذَا طَالَبَ أَبُو الِابْنَةِ صِهْرَهُ بِالنَّقْدِ مِنْ الصَّدَاقِ وَبِالْبِنَاءِ بِأَهْلِهِ، فَزَعَمَ أَنَّهُ مُعْسِرٌ لَا يَسْتَطِيعُ أَدَاءَهُ وَسَأَلَ التَّأْجِيلَ فِيهِ وَالْإِنْظَارَ بِهِ، فَإِنَّ الْقَاضِيَ يُكَلِّفُ الزَّوْجَ إثْبَاتَ عَدَمِهِ، وَبَعْدَ أَنْ يُثْبِتَ عِنْدَهُ الزَّوْجِيَّةَ الْمَذْكُورَةَ فَإِذَا ثَبَتَ عَدَمُهُ حَلَّفَهُ عَلَى تَحْقِيقِ مَا شُهِدَ لَهُ بِهِ مِنْ الْعَدَمِ ثُمَّ يُؤَجِّلُهُ بَعْدَ ذَلِكَ، وَالْأَجَلُ الْمَضْرُوبُ لَهُ فِي إثْبَاتِ الْعَدَمِ أَحَدٌ وَعِشْرُونَ يَوْمًا، قَالَ بَعْضُ الْمُوَثِّقِينَ: وَإِنَّمَا حَدَّدْنَا التَّأْجِيلَ فِي هَذَا بِأَحَدٍ وَعِشْرِينَ يَوْمًا لِاتِّفَاقِ الْقُضَاةِ بِقُرْطُبَةَ وَغَيْرِهَا وَاسْتِحْسَانِهِمْ فِي كَثِيرٍ مِنْ الْأَحْكَامِ لَهَا، وَلَيْسَ ذَلِكَ بِلَازِمٍ، وَهُوَ مَوْكُولٌ إلَى اجْتِهَادِ الْحَاكِمِ، وَإِذَا سَأَلَ الْغَرِيمُ الْحَاكِمَ أَنْ يُؤَخِّرَهُ بِالدَّيْنِ الْيَوْمَ وَنَحْوَهُ وَيُعْطِيَ حَمِيلًا بِالْمَالِ أَخَّرَهُ، قَالَ ابْنُ رُشْدٍ وَالْقُضَاةُ الْيَوْمَ يُؤَخِّرُونَهُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، وَذَلِكَ رَاجِعٌ إلَى اجْتِهَادِ الْحَاكِمِ بِحَسَبِ مَا يَظْهَرُ مِنْ حَالِ الْغَرِيمِ مِنْ لَدَدٍ وَغَيْرِهِ، وَوَقَعَ فِي فُتْيَا بَعْضِ الشُّيُوخِ فِيمَنْ سَأَلَ التَّأْخِيرَ حَتَّى يَجْمَعَ الْمَالَ أَنَّهُ قَالَ لَيْسَ عَلَى الْقَاضِي تَأْخِيرٌ، وَإِنَّمَا عَلَيْهِ الْحُكْمُ وَالْأَعْدَاءُ، فَإِنْ أَبَى الطَّالِبُ أَنْ يُؤَخَّرَ فَالْحَبْسُ، وَأَنْكَرَ ذَلِكَ ابْنُ سَهْلٍ وَقَالَ هَذَا خِلَافُ نُصُوصِ مَالِكٍ وَأَصْحَابِهِ، وَالْمَسْأَلَةُ مَبْسُوطَةٌ بِمَا فِيهَا مِنْ الْخِلَافِ فِي أَحْكَامِ حَبْسِ الْغَرِيمِ فِي الْقِسْمِ الثَّالِثِ مِنْ الْكِتَابِ.
وَالْأَجَلُ الْمَضْرُوبُ فِي إقَامَةِ الْبَيِّنَةِ الْقَرِيبَةِ مَا بَيْنَ خَمْسَةِ أَيَّامٍ إلَى الْجُمُعَةِ، وَيُؤَجَّلُ الْمَطْلُوبُ إذَا قَالَ أَمْهِلْنِي لِأَنْظُرَ فِي حِسَابِي وَأُحَقِّقَ مَا أُجِيبُ بِهِ مِنْ إقْرَارٍ أَوْ إنْكَارٍ الْيَوْمَيْنِ وَالثَّلَاثَةَ بِحَمِيلٍ بِوَجْهِهِ.
وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ يُمْهِلُهُ الْحَاكِمُ بِقَدْرِ مَا يَرَاهُ مِنْ غَيْرِ تَحْدِيدٍ لِزَمَانِ الْمُهْلَةِ، فَقَدْ يَطُولُ الْأَمْرُ فِي ذَلِكَ وَقَدْ يَقْصُرُ وَيُؤَجَّلُ الْمُسْتَمْهِلُ فِي الْإِقْدَامِ عَلَى الْيَمِينِ الْيَوْمَ وَالْيَوْمَيْنِ، وَالْأَجَلُ فِي الدَّارِ الَّتِي يُرِيدُ الْقَاضِي اعْتِقَالَهَا وَإِيقَافَهَا فَيَسْأَلُهُ مَنْ هِيَ بِيَدِهِ أَنْ يُمْهِلَهُ حَتَّى يُخْرِجَ مِنْهَا مَتَاعَهُ فَإِنَّهُ يُمْهَلُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ وَالْأَجَلُ لِمَنْ طَلَبَ الْإِمْهَالَ لِيَنْظُرَ هَلْ يَأْخُذُ الْحِصَّةَ الْمُسْتَشْفَعَ فِيهَا ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ وَقِيلَ لَا يُؤَجَّلُ، وَكَذَا تَأْجِيلُهُ لِتَحْصِيلِ الثَّمَنِ، وَأَجَلُ مَنْ يَتَلَوَّمُ عَلَيْهِ الْحَاكِمُ لِأَجْلِ الْإِنْفَاقِ فَأَبَى أَنْ يُنْفِقَ أَوْ يُطَلِّقَ، رُوِيَ شَهْرٌ بِشَرْطِ أَنْ لَا يَضُرَّ بِالْمَرْأَةِ، وَرُوِيَ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ.
وَقَالَ ابْنُ الْمَاجِشُونِ: شَهْرَانِ بِالشَّرْطِ الْمُتَقَدِّمِ، وَفِيهَا مِنْ الْخِلَافِ غَيْرُ هَذَا.
وَالصَّحِيحُ أَنَّ الْأَجَلَ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الرَّجَاءِ لَهُ، وَأَمَّا الْأَجَلُ فِي حَقِّ الزَّنَادِقَةِ إذَا ادَّعَوْا مَدْفَعًا فِيمَا شُهِدَ بِهِ عَلَيْهِمْ فَمَذْهَبُ الْمُحَقِّقِينَ مِنْ الشُّيُوخِ أَنَّ الْمَشْهُودَ عَلَيْهِ إنْ كَانَ مِمَّنْ اسْتَفَاضَتْ عَنْهُ الْأُمُورُ الْمُوجِبَةُ لِلْقِيَامِ عَلَيْهِ وَكَثُرَتْ الشَّهَادَاتُ عَلَيْهِ، فَإِنَّهُ لَا يُعْذَرُ إلَيْهِ وَلَا يُضْرَبُ لَهُ أَجَلٌ فِي دَفْعِ مَنْ شَهِدَ عَلَيْهِ وَإِنْ كَانَ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ فَإِنَّهُ يُؤَجَّلُ شَهْرًا لِدَفْعِ الْبَيِّنَاتِ، فَإِنْ طَلَبَ أَجَلًا آخَرَ وَظَهَرَ مِنْهُ الصِّدْقُ وَطُمِعَ لَهُ بِمَا يَدْفَعُ عَنْهُ مَا شُهِدَ بِهِ عَلَيْهِ، أُجِّلَ أَجَلًا دُونَ الْأَوَّلِ أَوْ مِثْلَهُ عَلَى حَسَبِ اجْتِهَادِ الْحَاكِمِ، وَمَا يَظْهَرُ لَهُ مِنْ حَالِهِ وَإِنْ لَمْ يَظْهَرْ صِدْقُ قَوْلِهِ وَظَهَرَ أَنَّ طَلَبَهُ الْآجَالَ لِلَدَدٍ أَوْ مُمَاطَلَةٍ لَمْ يُوسَعْ عَلَيْهِ، وَانْظُرْ (أَحْكَامَ ابْنِ سَهْلٍ) فِي أَوَّلِ كِتَابِهِ فِي ذِكْرِ الْآجَالِ، وَفِي آخِرِهِ مَسْأَلَةُ أَبِي الْخَيْرِ الزِّنْدِيقِ.
تَنْبِيهٌ:
وَمَا ذَكَرَهُ الْقَاضِي عِيَاضٌ فِي الْمَدَارِكِ مِنْ تَأْجِيلِ هَارُونَ بْنِ حَبِيبٍ فِيمَا شُهِدَ بِهِ عَلَيْهِ وَنُظَرَائِهِ لَمْ يَكُنْ تَأْجِيلُهُمْ الشَّهْرَيْنِ وَأَكْثَرَ لِمَا وَقَعَ فِي الشُّهُودِ وَإِنَّمَا كَانَ عُقُوبَةً وَلِكَمَالِ النَّظَرِ فِي تَحْقِيقِ مَا يَجِبُ عَلَيْهِمْ فِيمَا صَدَرَ مِنْهُمْ فَاعْلَمْ ذَلِكَ.
وَالْأَجَلُ فِي حَقِّ الْمَفْقُودِ فِي الْمُعْتَرَكِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ رُوِيَ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهَا تَعْتَدُّ بَعْدَ التَّلَوُّمِ بِالِاجْتِهَادِ، وَرُوِيَ بَعْدَ سَنَةٍ، وَرُوِيَ سَنَةٌ فِيهَا الْعِدَّةُ.

.فَصْلٌ بَعْضُ الْآجَالِ لَا يَدْخُلُهَا اجْتِهَادُ الْحَاكِمِ:

فَصْلٌ: وَبَعْضُ الْآجَالِ لَا يَدْخُلُهَا اجْتِهَادُ الْحَاكِمِ كَأَجَلِ الْمُعْتَرِضِ وَهُوَ مُدَّةُ سَنَةٍ مِنْ يَوْمِ رَفْعِهِ إنْ كَانَ حُرًّا، وَإِنْ كَانَ عَبْدًا فَفِيهِ رِوَايَتَانِ، قِيلَ مِثْلُهُ وَقِيلَ نِصْفُ سَنَةٍ، وَأَجَلُ الْمَجْنُونِ جُنُونًا حَادِثًا يُعْزَلُ عَنْ زَوْجَتِهِ سَنَةً، فَإِنْ صَحَّ وَإِلَّا فُرِّقَ بَيْنَهُمَا، وَأَجَلُ الْمَفْقُودِ خَبَرُهُ إذَا رَفَعَتْ زَوْجَتُهُ أَمْرَهَا إلَى الْحَاكِمِ فَيُؤَجَّلُ الْحُرُّ أَرْبَعَ سِنِينَ وَالْعَبْدُ سَنَتَيْنِ مُنْذُ يَعْجِزُ عَنْ خَبَرِهِ بَعْدَ الْبَحْثِ، وَأَجَلُ الْمَوْلَى تَمَامُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ مِنْ يَوْمِ الْحَلِفِ عَلَى مَا هُوَ مَذْكُورٌ فِي مَحَلِّهِ بِشُرُوطِهِ الْمَذْكُورَةِ، وَيَلْحَقُ بِالْمَوْلَى مَنْ امْتَنَعَ مِنْ الْوَطْءِ لِغَيْرِ عُذْرٍ وَلَا عِلَّةٍ عَلَى مَا هُوَ مَذْكُورٌ فِي ذَلِكَ، وَالْأَجَلُ الَّذِي يُوقَفُ فِيهِ مِيرَاثُ الْحَمْلِ عَلَى الْخِلَافِ فِي مُدَّةِ الْحَمْلِ، وَالْأَجَلُ الَّذِي يُوقَفُ فِيهِ قَسْمُ الْمَالِ لِلتَّعْمِيرِ، وَالْأَجَلُ الَّذِي يُوقَفُ فِيهِ عَقْلُ سِنِّ الصَّبِيِّ الَّذِي لَمْ يَثْغَرْ عَلَى مَا هُوَ مَذْكُورٌ فِي مَحَلِّهِ، وَالْأَجَلُ فِي تَأْخِيرِ قِصَاصِ مَا سِوَى النَّفْسِ حَتَّى يَبْرَأَ وَالْأَجَلُ فِي تَأْخِيرِ الْعَقْلِ فِي الْخَطَأِ حَتَّى يَبْرَأَ، وَالْأَجَلُ فِي تَأْخِيرِ الْقِصَاصِ فِي الْحَرِّ وَالْبَرْدِ الْمُفْرِطَيْنِ وَمَا أَشْبَهُ ذَلِكَ مِنْ تَأْخِيرِ الْقِصَاصِ لِمَرَضِ الْجَانِي، وَتَأْخِيرِ الْمُوَالَاةِ فِي قَطْعِ الْأَطْرَافِ، وَتَأْخِيرِ الْحَامِلِ فِي اسْتِيفَاءِ النَّفْسِ، وَتَأْخِيرِ الْمُرْضِعِ إلَى أَنْ يُوجَدَ مَنْ يُرْضِعُ عَلَى مَا هُوَ مَذْكُورٌ فِي ذَلِكَ، وَأَجَلُ الْمُرْتَدِّ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ عَلَى الْخِلَافِ فِيهِ فَهَذِهِ الْآجَالُ مُتَّبَعَةٌ عَلَى مَا قَرَّرَهُ أَهْلُ الْمَذْهَبِ، وَفِيمَا ذَكَرْتُهُ إشَارَةٌ إلَى مَا لَمْ أَذْكُرْهُ وَتَنْبِيهٌ عَلَيْهِ.
مَسْأَلَةٌ:
وَإِذَا أَدْخَلَ الْقَاضِي أَحَدَ الْخَصْمَيْنِ تَحْتَ أَجَلٍ، أَوْ أَدْخَلَهُمَا مَعًا عَلَى مَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ ثُمَّ عُزِلَ أَوْ مَاتَ قَبْلَ انْصِرَامِ الْآجَالِ، وَلَمْ يَسْتَأْنِفْ الَّذِي وَلِيَ بَعْدَهُ ضَرْبَ أَجَلٍ آخَرَ، وَلْيُنَفَّذْ الْحُكْمُ مِنْ الْيَوْمِ الَّذِي انْتَهَى إلَيْهِ الْعَزْلُ أَوْ الْمَوْتُ، وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ فِي الْخَصْمَيْنِ إذَا مَاتَ أَحَدُهُمَا قَبْلَ انْقِضَاءِ الْأَجَلِ الَّذِي ضُرِبَ لَهُ، فَإِنَّهُ يُكْمَلُ فِي حَقِّ الْآخَرِ أَوْ فِي حَقِّ وَرَثَتِهِ مِنْ (مُفِيدِ الْحُكَّامِ).

.فَصْلٌ لَا يَعُدُّ الْيَوْمَ الَّذِي يَكْتُبُ فِيهِ الْأَجَلَ وَلَا يَحْتَسِبُ بِهِ:

فَصْلٌ: قَالَ ابْنُ مَالِكٍ الْقُرْطُبِيُّ: وَلَا يَعُدُّ الْيَوْمَ الَّذِي يَكْتُبُ فِيهِ الْأَجَلَ وَلَا يَحْتَسِبُ بِهِ، كَمَا لَا يَحْتَسِبُ بِالْيَوْمِ الَّذِي يَكْتُبُ فِيهِ الْعُهْدَةَ، وَفِي الْعُهْدَةِ خِلَافٌ. اُنْظُرْهُ فِي بَابِ الِاسْتِرْعَاءِ.
تَنْبِيهٌ:
وَإِذَا تَمَّ الْأَجَلُ الْأَوَّلُ لَمْ يَكْتُبْ الْأَجَلَ الثَّانِيَ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي بَعْدَهُ، وَلَا يَحْتَسِبُ بِهِ، وَكَذَلِكَ يَفْعَلُ فِي الْآجَالِ كُلِّهَا.
تَنْبِيهٌ:
وَيَقُولُ فِي التَّارِيخِ فِي الْآجَالِ كُلِّهَا، لِكَذَا وَكَذَا خَلَوْنَ، وَلَا يَقُولُ خَلَتْ؛ لِأَنَّهُ لَمْ تَخْلُ اللَّيْلَةُ الَّتِي تُؤَرَّخُ بِهَا إلَّا بِانْقِضَاءِ الْيَوْمِ الَّذِي أَنْتَ فِيهِ، وَإِنَّمَا هُوَ فِعْلٌ مُسْتَقْبَلٌ (مِنْ الْمُتَيْطِيَّةِ).
مَسْأَلَةٌ:
وَالْقَاضِي مُصَدَّقٌ فِي التَّأْجِيلِ لَا يَحْتَاجُ أَنْ يُشْهِدَ عَلَيْهِ شُهُودًا يُرِيدُ فِي جَمِيعِ وُجُوهِ التَّأْجِيلِ، قَالَهُ فِي الطُّرَرِ لِابْنِ عَاتٍ فِي الْجُزْءِ الثَّالِثِ.

.فَصْلٌ وَالطَّرِيقَةُ فِي كِتَابَةِ الْأَجَلِ:

إنْ كَتَبَ الْحَاكِمُ ذَلِكَ بِيَدِهِ فَإِنَّهُ يَكْتُبُ: أَجَّلْنَا أَوْ أَجَّلْت فُلَانَ ابْنَ فُلَانٍ فِي الْمَدْفَعِ الَّذِي ادَّعَاهُ فِي الشَّاهِدَيْنِ اللَّذَيْنِ شَهِدَا عَلَيْهِ بِمَا ذُكِرَ فِي الْعَقْدِ الَّذِي فِي أَعْلَى هَذَا الْكِتَابِ، بَعْدَ أَنْ أَعْلَمْنَاهُ أَوْ أَعْلَمْتُهُ بِهِمَا وَبِقَبُولِي لَهُمَا، وَبِثُبُوتِ ذَلِكَ عِنْدِي بِشَهَادَتِهِمَا ثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ، أَوَّلُهَا يَوْمُ كَذَا لِكَذَا وَكَذَا خَلَوْنَ مِنْ شَهْرِ كَذَا، مِنْ سَنَةِ كَذَا، فَإِذَا انْقَضَتْ كَتَبَ، وَأَجَلًا ثَانِيًا مِنْ سِتَّةِ أَيَّامٍ أَوَّلُهَا كَذَا كَمَا تَقَدَّمَ، فَإِذَا انْقَضَتْ كَتَبَ وَأَجَلًا ثَالِثًا مِنْ أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ أَوَّلُهَا كَذَا مِنْ شَهْرِ كَذَا، فَإِذَا انْقَضَتْ كَتَبَ وَتَلَوَّمْنَا عَلَيْهِ بَعْدَ انْصِرَامِ الْآجَالِ الْمَضْرُوبَةِ لَهُ الَّتِي فَوْقَ هَذَا ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ أَوَّلُهَا كَذَا كَمَا تَقَدَّمَ، وَرُبَّمَا كَتَبَ فِي الْأَجَلِ الثَّالِثِ وَأَجَلًا ثَالِثًا دَخَلَ فِيهِ التَّلَوُّمُ مِنْ سَبْعَةِ أَيَّامٍ أَوَّلُهَا كَذَا.
وَإِنْ كَتَبَ عَنْ الْقَاضِي كَاتِبُهُ كَتَبَ أَجَّلَ الْقَاضِي فُلَانُ بْنُ فُلَانٍ قَاضِي حَاضِرَةِ كَذَا فُلَانَ بْنَ فُلَانٍ فِيمَا ذَهَبَ إلَيْهِ مِنْ أَجَلِ مَا ثَبَتَ عِنْدَهُ عَلَيْهِ لِفُلَانِ بْنِ فُلَانٍ فِي الْعَقْدِ الْوَاقِعِ فِي بَطْنِ هَذَا الْكِتَابِ، بَعْدَ مَعْرِفَتِهِ بِمَا فِيهِ وَبِمَنْ ثَبَتَ أَجَلًا قَاطِعًا جَامِعًا لِلتَّلَوُّمِ وَغَيْرِهِ مِنْ أَحَدٍ وَعِشْرِينَ يَوْمًا أَوْ ثَلَاثِينَ يَوْمًا أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ، أَوَّلُهَا كَذَا لِكَذَا وَكَذَا خَلَوْنَ مِنْ شَهْرِ كَذَا مِنْ سَنَةِ كَذَا كَمَا تَقَدَّمَ فِي أَوَّلِ كُلِّ أَجَلٍ، فَإِذَا تَمَّ الْعَقْدُ بِخَطِّ الْكِتَابِ كَتَبَ الْقَاضِي بِخَطٍّ هَذَا صَحِيحٌ أَوْ هَذَا الْأَجَلُ صَحِيحٌ أَوْ الْآجَالُ صَحِيحَةٌ.

.الْفَصْلُ الثَّالِثُ فِي التَّعْجِيزِ:

وَإِذَا انْقَضَتْ الْآجَالُ وَالتَّلَوُّمُ وَاسْتُوْفِيَتْ الشُّرُوطُ وَلَمْ يَأْتِ الشَّخْصُ الْمُؤَجَّلُ بِشَيْءٍ يُوجِبُ لَهُ نَظَرًا، عَجَّزَهُ الْقَاضِي وَأَنْفَذَ الْقَضَاءَ عَلَيْهِ، وَسَجَّلَ وَقَطَعَ بِذَلِكَ تَبِعَتَهُ عَنْ خَصْمِهِ فِي ذَلِكَ الْمَطْلُوبِ، ثُمَّ لَا يَسْمَعُ مِنْهُ بَعْدَ ذَلِكَ حُجَّةً إنْ وَقَعَ عَلَيْهَا، وَلَا يَقْبَلُ مِنْهُ بَيِّنَةً إنْ أَتَى بِهَا كَانَ هَذَا الْمُعَجَّزُ طَالِبًا أَوْ مَطْلُوبًا.
تَنْبِيهٌ:
فَإِنْ كَانَ الْحَاكِمُ قَدْ قَضَى عَلَى الْقَائِمِ بِإِسْقَاطِ دَعْوَاهُ حِينَ لَمْ يَجِدْ بَيِّنَةً مِنْ غَيْرِ صُدُورِ تَعْجِيزٍ ثُمَّ وَجَدَ بَيِّنَةً فَلَهُ الْقِيَامُ بِهَا وَيَجِبُ الْقَضَاءُ لَهُ.
مَسْأَلَةٌ:
وَإِذَا حَكَمَ الْقَاضِي عَلَى الْغَرِيمِ لِعَجْزِهِ ثُمَّ أَتَى بِبَيِّنَةٍ بَعْدَ ذَلِكَ وَزَعَمَ أَنَّهُ لَمْ يَعْلَمْ بِهَا حُلِّفَ وَقُضِيَ لَهُ بِهَا، وَقِيلَ لَا يُقْضَى لَهُ بِهَا وَبِهِ الْعَمَلُ.
وَفِي (مُعِينِ الْحُكَّامِ): وَإِذَا أَتَى الْمُعَجَّزُ بِبَيِّنَةٍ فَهَلْ تُقْبَلُ مِنْهُ أَوْ لَا؟ فِي ذَلِكَ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا لَا تُقْبَلُ مِنْهُ كَانَ الْمُعَجَّزُ طَالِبًا أَوْ مَطْلُوبًا وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ الْقَاسِمِ فِي رَسْمِ النِّكَاحِ مِنْ سَمَاعِ أَصْبَغَ فِي تَعْجِيزِ الطَّالِبِ، قَالَ بَعْضُ الْمُوَثَّقِينَ: وَإِذَا قَالَهُ فِي الطَّالِبِ فَأَحْرَى أَنْ يَقُولَهُ فِي الْمَطْلُوبِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: إنَّهَا تُقْبَلُ مِنْهُ كَانَ الْمُعَجَّزُ طَالِبًا أَوْ مَطْلُوبًا إذَا كَانَ لِذَلِكَ وَجْهٌ وَهُوَ ظَاهِرُ مَا فِي الْمُدَوَّنَةِ، إذْ لَمْ يُفَرِّقْ فِيهَا بَيْنَ تَعْجِيزِ الطَّالِبِ أَوْ الْمَطْلُوبِ.
وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: أَنَّ ذَلِكَ يُقْبَلُ مِنْ الطَّالِبِ دُونَ الْمَطْلُوبِ، وَهُوَ ظَاهِرُ قَوْلِ ابْنِ الْقَاسِمِ فِي سَمَاعِ أَصْبَغَ مِنْ كِتَابِ الصَّدَقَاتِ وَالْهِبَاتِ.
تَنْبِيهٌ:
قَالَ فِي مُعِينِ الْحُكَّامِ قَالُوا: هَذَا الِاخْتِلَافُ إنَّمَا هُوَ فِيمَا إذَا عَجَّزَهُ الْقَاضِي بِإِقْرَارِهِ عَلَى نَفْسِهِ بِالْعَجْزِ، أَمَّا إذَا عَجَّزَهُ بَعْدَ التَّلَوُّمِ وَالْإِعْذَارِ وَهُوَ يَدَّعِي أَنَّ لَهُ حُجَّةً فَلَا يَقْبَلُ مِنْهُ مَا أَتَى بِهِ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْ الْحُجَجِ.
مَسْأَلَةٌ:
وَاخْتُلِفَ هَلْ الِاخْتِلَافُ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ فِي التَّعْجِيزِ يَخْتَصُّ بِالْقَاضِي الَّذِي وَقَعَ الْعَجْزُ عِنْدَهُ، أَوْ يَكُونُ ذَلِكَ لَهُ وَلِمَنْ بَعْدَهُ مِنْ الْحُكَّامِ عَلَى قَوْلَيْنِ.
مَسْأَلَةٌ:
إذَا أَجَابَ الْقَائِمُ بَعْدَ انْصِرَامِ الْآجَالِ بِأَنَّ لَهُ بَيِّنَةً يَرْتَجِيهَا نُظِرَ، فَإِنْ كَانَتْ قَرِيبَةً أَجَّلَهُ بَعْدَ ذَلِكَ وَإِنْ كَانَتْ بَعِيدَةً وَتَبَيَّنَ لَدَدُهُ قَضَى عَلَيْهِ وَأَرْجَأَ الْحُجَّةَ لَهُ وَلَهُ الْقِيَامُ بِهَا مَتَى جَاءَتْ عِنْدَ هَذَا الْقَاضِي أَوْ عِنْدَ غَيْرِهِ، وَلِمَنْ وَلِيَ بَعْدَهُ نَقْضُ ذَلِكَ الْحُكْمِ بِسَبَبِ ذَلِكَ، إذَا أَتَى بِمَا يَنْفَعُهُ.

.فَصْلٌ الْأَشْيَاء الَّتِي لَا يَجُوزُ لِلْقَاضِي أَنْ يُعَجِّزَ فِيهَا:

فَصْلٌ: وَلَا يَجُوزُ لِلْقَاضِي أَنْ يُعَجِّزَ فِي ثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ الْعِتْقِ وَالنَّسَبِ قَالَهُ ابْنُ الْقَاسِمِ وَأَشْهَبُ وَمُطَرِّفٌ وَابْنُ وَهْبٍ، وَاخْتَارَهُ ابْنُ حَبِيبٍ، وَسَيَأْتِي مَا أُلْحِقَ بِهَا، وَحُكِيَ عَنْ ابْنِ الْمَاجِشُونِ أَنَّهُ يَقُولُ فِي الثَّلَاثَةِ الْأَشْيَاءِ الْمَذْكُورَةِ كَذَلِكَ، وَأَمَّا غَيْرُ ذَلِكَ مِنْ الدَّعَاوَى فَيَخْتَلِفُ أَمَّا كُلُّ مَا كَلَّفَ الْمُدَّعِي إثْبَاتَ دَعْوَاهُ وَتَعْدِيلَ شُهُودِهِ، سَوَاءٌ كَانَ الْمُدَّعَى فِيهِ مَالًا أَوْ دَارًا أَوْ عَبْدًا أَوْ مَا أَشْبَهَ ذَلِكَ، وَلَمْ يُكَلِّفْ الَّذِي هُوَ فِي يَدَيْهِ بَيِّنَةً أَوْ عَمَلًا مِنْ الْأَعْمَالِ يُدْخِلُ عَلَى الْحَاكِمِ شُبْهَةً فِي أَمْرِهِمَا فَعَجَزَ الْمُدَّعِي عَنْ إثْبَاتِ دَعْوَاهُ أَوْ تَعْدِيلِ شُهُودِهِ، فَإِنَّ السُّلْطَانَ يَدْفَعُهُ عَنْ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فَقَطْ وَلَا يَجُوزُ لِلْحَاكِمِ أَنْ يَكْتُبَ لِلْمُدَّعَى عَلَيْهِ كِتَابًا بِقَطْعِ دَعْوَى الْمُدَّعِي، وَلَا يُسَجِّلُ عَلَيْهِ وَلَا يُحْدِثُ لَهُ فِي ذَلِكَ حُكْمًا وَلَا إشْهَادًا وَيَتْرُكُهُ وَتَحْقِيقَ مَطْلَبِهِ، فَمَتَى جَاءَ الطَّالِبُ بِمَا هُوَ أَحَقُّ مِمَّا جَاءَ بِهِ أَوَّلًا نَظَرَ لَهُ فِي ذَلِكَ الْحَاكِمُ وَمَنْ كَانَ بَعْدَهُ.
وَأَمَّا لَوْ كَانَ الطَّالِبُ قَدْ أَتَى بِشَيْءٍ أَوْجَبَ عَلَى الْمَطْلُوبِ عَمَلًا، مِثْلَ أَنْ يُثْبِتَ أَنَّ تِلْكَ الدَّارَ كَانَتْ لِأَبِيهِ أَوْ لِجَدِّهِ، وَهِيَ الْيَوْمَ فِي يَدِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فَيُكَلَّفُ الَّذِي هِيَ فِي يَدَيْهِ الْبَيِّنَةَ كَيْفَ صَارَتْ إلَيْهِ، فَإِنْ زَعَمَ أَنَّ ذَلِكَ حَقٌّ مِنْ حَقِّهِ بِحِيَازَتِهِ الزَّمَنَ الطَّوِيلَ وَهَذَا حَاضِرٌ وَأَتَى عَلَى ذَلِكَ بِبَيِّنَةٍ فَتَبْقَى بِيَدِ الْمَطْلُوبِ، وَيُقَالُ لِلْمُدَّعِي لِمَ تَرَكْتَهُ يَحُوزُهَا عَلَيْك هَذَا الزَّمَانَ، فَإِنْ قَالَ بِكِرَاءٍ أَوْ إسْكَانٍ كُلِّفَ الْبَيِّنَةَ فَإِنْ عَجَزَ عَنْهَا أَوْ أَقَامَ بَيِّنَةً لَمْ تُعَدَّلْ وَضُرِبَتْ الْآجَالُ لَهُ فَلَمْ يَأْتِ بِشَيْءٍ، عَجَّزَهُ السُّلْطَانُ عَنْ أَخْذِ ذَلِكَ، وَكَانَ حَقًّا عَلَى الْقَاضِي هَا هُنَا أَنْ يَكْتُبَ لِلْمُدَّعَى عَلَيْهِ كِتَابًا، وَيُسَجِّلَ لَهُ بِحُكْمِهِ، وَيَقْطَعَ حُجَّةَ الْمُدَّعِي عَنْهُ، ثُمَّ إنْ أَتَى بِبَيِّنَةٍ أَحَقَّ مِنْ الْأُولَى أَوْ أَعْدَلَ لَمْ يَنْظُرْ لَهُ فِي ذَلِكَ لَا ذَلِكَ الْحَاكِمُ، وَلَا مَنْ بَعْدَهُ، قَالَ ابْنُ حَبِيبٍ: وَقَوْلُهُ هَذَا دَقِيقٌ حَسَنٌ وَمَنْ أَخَذَ بِهِ لَمْ يُخْطِئْ، وَقَدْ أَعْلَمْت بِهِ أَصْبَغَ فَاسْتَحْسَنَهُ، وَرُوِيَ الْقَوْلُ الْآخَرُ عَنْ ابْنِ الْقَاسِمِ وَأَشْهَبَ وَابْنِ وَهْبٍ أَنَّهُ يُعَجِّزُ فِي الْأَمْوَالِ وَالْحُقُوقِ وَلَا يَنْظُرُ بَعْدَ ذَلِكَ التَّعْجِيزِ فِي بَيِّنَتِهِ، لَا هَذَا الْحَاكِمُ وَلَا مَنْ بَعْدَهُ إلَّا فِي الْعَتَاقِ وَالنَّسَبِ وَالطَّلَاقِ كَمَا تَقَدَّمَ.
تَنْبِيهٌ:
قَالَ ابْنُ سَهْلٍ: وَمِمَّا يُشْبِهُ الْعَتَاقَ وَالنَّسَبَ وَالطَّلَاقَ الْحَبْسُ وَطَرِيقُ الْعَامَّةِ، وَشِبْهُهُ مِنْ مَنَافِعِهِمْ لَيْسَ عَجْزَ طَالِبِهِ يُوجِبُ مَنْعَهُ أَوْ مَنْعَ غَيْرِهِ مِنْ النَّظَرِ لَهُ إنْ أَتَى بِوَجْهٍ، وَقَدْ شَاهَدْت الْحُكْمَ وَالْفَتْوَى بِذَلِكَ فِي الْحَبْسِ.
وَفِي الطُّرَرِ لِابْنِ عَاتٍ وَالدَّمُ مِثْلُ الطَّلَاقِ وَالنَّسَبِ وَالْعَتَاقِ اُنْظُرْهُ فِي آخِرِ الْكِتَابِ.
مَسْأَلَةٌ:
إذَا قَامَ أَحَدُ الشُّرَكَاءِ فَخَاصَمَ فِي شَيْءٍ فَقَضَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَامَ أَحَدُ شُرَكَائِهِ يُرِيدُ الْمُخَاصَمَةَ فِيهِ أَيْضًا، فَإِنْ قَامَ بِمَا قَامَ بِهِ الْمَقْضِيُّ عَلَيْهِ حَكَمَ عَلَيْهِ وَأَلْحَقَهُ بِهِ وَلَمْ تُسْمَعْ حُجَّتُهُ وَلَا بَيِّنَتُهُ، وَإِنْ جَاءَ بِغَيْرِ ذَلِكَ نَظَرَ لَهُ فِيهِ وَلَمْ يُعَجِّزْهُ، وَكَذَا مَنْ يَدَّعِي حَقًّا لِلْعَامَّةِ، وَذَلِكَ مَبْسُوطٌ فِي تَقْسِيمِ الْمُدَّعَى لَهُمْ فِي النَّوْعِ السَّادِسِ.
تَنْبِيهٌ:
وَمَذْهَبُ سَحْنُونٍ فِي الطَّالِبِ كَمَذْهَبِ ابْنِ الْمَاجِشُونِ فِي تَرْكِ تَعْجِيزِهِ، وَأَنَّهُ مَتَى أَحَقَّ حَقَّهُ قَضَى لَهُ بِهِ، وَيَقُولُ فِي الْمَطْلُوبِ مِنِّي حُكِمَ عَلَيْهِ بَعْدَ الْإِعْذَارِ وَاسْتِقْصَاءِ الْحُجَجِ وَالتَّسْجِيلِ أَنَّهُ لَا تُسْمَعُ بَيِّنَتُهُ بَعْدَ ذَلِكَ وَلَا يَقْبَلُ مِنْهُ حُجَّةً يَأْتِي بِهَا.

.فَصْلٌ الْقَاضِي إذَا أَرَادَ أَنْ يُسَجِّلَ عَلَى الَّذِي عَجَّزَهُ:

فَصْلٌ: يَنْبَغِي لِلْقَاضِي إذَا أَرَادَ أَنْ يُسَجِّلَ عَلَى الَّذِي عَجَّزَهُ أَنْ يُعْلِمَهُ أَنَّ الْيَمِينَ لَهُ عَلَى الْمُسَجِّلِ لَهُ، إنْ كَانَتْ الْقَضِيَّةُ فِي مَالٍ، وَظَهَرَتْ الْخُلْطَةُ، وَإِنْ كَانَتْ فِي طَلَاقٍ أَوْ عِتْقٍ أَوْ نِكَاحٍ أَوْ نَسَبٍ أَوْ مَا ضَارَعَهُ فَلَا يَمِينَ عَلَيْهِ، وَانْظُرْ فِي الرُّكْنِ الْخَامِسِ فِي الْمَقْضِيِّ عَلَيْهِ أَحْكَامَ الْغَائِبِ وَتَعْجِيزَهُ وَتَرْكَ تَسْمِيَةِ الشُّهُودِ فِي التَّسْجِيلِ.

.فَصْلٌ لَمْ تَجْرِ عَادَةُ الْمُوَثِّقِينَ بِإِفْرَادِ عَقْدٍ لِلتَّعْجِيزِ:

فَصْلٌ: وَلَمْ تَجْرِ عَادَةُ الْمُوَثِّقِينَ بِإِفْرَادِ عَقْدٍ لِلتَّعْجِيزِ وَإِنَّمَا يَضُمُّونَهُ عُقُودَ التَّسْجِيلَاتِ، فَإِنْ أُفْرِدَ بِالذِّكْرِ قُيِّدَتْ فِيهِ: أَشْهَدَ الْقَاضِي فُلَانٌ عَلَى نَفْسِهِ أَنَّ فُلَانًا قَامَ عِنْدَهُ وَادَّعَى عَلَى فُلَانٍ كَذَا وَأَنَّهُ مَالُهُ وَمِلْكُهُ لَمْ يَخْرُجْ عَنْ يَدِهِ إلَى حِينِ قِيَامِهِ، وَحَضَرَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فَسَأَلَهُ الْقَاضِي عَنْ ذَلِكَ فَأَنْكَرَ ذَلِكَ وَثَبَتَ عِنْدَهُ إنْكَارُهُ بِمَنْ قَبِلَ مِنْ الشُّهُودِ، فَكَلَّفَ الْقَائِمَ الْإِثْبَاتَ وَأَجَّلَهُ فِي ذَلِكَ أَجَلًا بَعْدَ أَجَلٍ عَلَى مَا جَرَتْ بِهِ عَادَةُ الْحُكَّامِ فِي الْآجَالِ، ثُمَّ تَلَوَّمَ عَلَيْهِ أَجَلَ التَّلَوُّمِ الْمَعْلُومِ وَلَمْ يَأْتِ فِي خِلَالِ ذَلِكَ بِشَيْءٍ يُوجِبُ لَهُ حُكْمًا، فَسَأَلَهُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ تَعْجِيزَهُ وَقَطْعَ دَعْوَاهُ عَنْهُ، فَأَجَابَهُ الْقَاضِي إلَى ذَلِكَ، وَسَأَلَ الْحَاكِمُ الْمُدَّعِيَ أَبَقِيَتْ لَكَ حُجَّةٌ تُحَقِّقُ دَعْوَاكَ فَقَالَ: لَا، فَاسْتَبَانَ لَهُ عَجْزُهُ فَعَجَّزَهُ، وَقَطَعَ عَنْ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ طَلَبَتَهُ وَتَعْنِيتَهُ وَسَجَّلَ بِذَلِكَ، وَأَشْهَدَ بِهِ عَلَى نَفْسِهِ فِي تَارِيخِ كَذَا.

.الْفَصْلُ الرَّابِعُ فِي تَوْقِيفِ الْمُدَّعَى فِيهِ وَهُوَ ثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ:

النَّوْعُ الْأَوَّلُ الْعَقَارُ وَيَنْقَسِمُ إلَى قِسْمَيْنِ دُورٍ وَأَرَاضٍ. وَاعْلَمْ أَنَّ الِاعْتِقَالَ وَالتَّوْقِيفَ لَا يَكُونُ بِمُجَرَّدِ دَعْوَى الْخَصْمِ فِي الشَّيْءِ الْمُدَّعَى فِيهِ، وَلَا يُعْقَلُ عَلَى أَحَدٍ شَيْءٌ بِمُجَرَّدِ دَعْوَى الْغَيْرِ فِيهِ، حَتَّى يَنْضَمَّ إلَى ذَلِكَ سَبَبٌ يُقَوِّي الدَّعْوَى أَوْ لَطْخٌ وَالسَّبَبُ كَشَهَادَةِ الْعَدْلِ أَوْ الْمَرْجُوِّ تَزْكِيَتُهُ وَاللَّطْخُ لِلشُّهُودِ غَيْرِ الْعُدُولِ، فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَالِاعْتِقَالُ فِي الرِّبَاعِ عَلَى وَجْهَيْنِ.
الْأَوَّلُ: عِنْدَ قِيَامِ الشُّبْهَةِ الظَّاهِرَةِ أَوْ ظُهُورِ اللَّطْخِ فَيُرِيدُ الْمُدَّعِي تَوْقِيفَهُ لِيُثْبِتَهُ، فَالتَّوْقِيفُ هُنَا بِأَنْ يَمْتَنِعَ الَّذِي هُوَ فِي يَدِهِ أَنْ يَتَصَرَّفَ فِيهِ تَصَرُّفًا يُفِيتُهُ كَالْبَيْعِ وَالْهِبَةِ، أَوْ يُخْرِجُهُ بِهِ عَنْ حَالِهِ كَالْبِنَاءِ وَالْهَدْمِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ أَنْ تُرْفَعَ يَدُهُ عَنْهُ.
الثَّانِي: بَعْدَ أَنْ يُثْبِتَ الْمُدَّعِي دَعْوَاهُ فِي ذَلِكَ بِشَهَادَةٍ قَاطِعَةٍ وَيُحَازُ الرَّبْعُ عَلَى مَا يَجِبُ وَيَدَّعِي الْمُسْتَحِقُّ مِنْهُ مَدْفَعًا فِيمَا قَامَتْ بِهِ الْبَيِّنَةُ لِلْمُدَّعِي فَيُضْرَبُ لِلْمُسْتَحِقِّ مِنْهُ الْآجَالُ، فَيُوقَفُ الْمُدَّعَى فِيهِ حِينَئِذٍ بِأَنْ تُرْفَعَ يَدُ الْأَوَّلِ عَنْهُ، فَإِنْ كَانَتْ دَارًا اُعْتُقِلَتْ بِالْقُفْلِ أَوْ أَرْضًا مُنِعَ مِنْ حَرْثِهَا أَوْ حَانُوتًا لَهُ خَرَاجٌ وُقِفَ الْخَرَاجُ، فَإِنْ كَانَتْ الدَّعْوَى فِي حِصَّةٍ فَتُعْقَلُ جَمِيعُ الدَّارِ وَالْأَرْضِ وَجَمِيعُ الْخَرَاجِ، وَقِيلَ يُعْقَلُ مِنْ الْخَرَاجِ بِقَدْرِ مَا يَنُوبُ الْحِصَّةَ الْمُدَّعَى فِيهَا، وَيُدْفَعُ بَاقِيهِ لِلْمُدَّعَى عَلَيْهِ وَيُؤْمَرُ بِإِخْلَاءِ الدَّارِ مِنْ نَفْسِهِ وَمَتَاعِهِ، وَيُؤَجَّلُ فِي إخْلَاءِ ذَلِكَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ وَنَحْوَهَا.
وَفِي الْمُقَرَّبِ: وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ عِنْدِي أَوْلَى بِالصَّوَابِ هَذَا حُكْمُ الْمُدَّعَى فِيهِ إذَا كَانَ فِي غَيْرِ الْحَاضِرَةِ بَعَثَ الْحَاكِمُ أَمِينًا يَعْقِلُ ذَلِكَ، فَإِنْ سَأَلَ الْمَعْقُولُ عَلَيْهِ أَنْ يَتْرُكَ فِي الدَّارِ مَا ثَقُلَ عَلَيْهِ إخْرَاجُهُ أَجَابَهُ الْحَاكِمُ إلَى ذَلِكَ، وَبِهَذَا جَرَى عَمَلُ سَحْنُونٍ.
مَسْأَلَةٌ:
وَاخْتُلِفَ فِي الْعَقْلَةِ بِشَاهِدٍ وَاحِدٍ، فَفِي أَحْكَامِ ابْنِ زِيَادٍ أَنَّ الْعَقْلَ يَجِبُ بِشَاهِدٍ وَاحِدٍ عَدْلٍ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ سَحْنُونٌ فِي كِتَابِ ابْنِهِ وَفِي أَحْكَامِ ابْنِ بَطَّالٍ عَنْ لُبَابَةَ أَنَّهُ لَا يُعْقَلُ إلَّا بِشَاهِدَيْنِ قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ الْقَاسِمِ.
وَقَالَ ابْنُ الْعَطَّارِ فِي وَثَائِقِهِ: لَا تَجِبُ الْعَقْلَةُ بِشَاهِدٍ وَاحِدٍ، لَكِنَّهُ يُمْنَعُ الْمَطْلُوبُ بِذَلِكَ أَنْ يُحْدِثَ فِي الْعَقَارِ بُنْيَانًا أَوْ بَيْعًا غَيْرَهُ، وَيَتَقَدَّمُ إلَيْهِ فِي ذَلِكَ بِالْقَوْلِ، وَلَا يَخْرُجُ عَنْ يَدِهِ.
مَسْأَلَةٌ:
وَإِذَا ضُرِبَ الْأَجَلُ لِلْمُدَّعِي فَإِنْ أَتَى بِشَيْءٍ نُظِرَ لَهُ فِيهِ وَإِنْ لَمْ يَأْتِ بِشَيْءٍ حَلَفَ الْمَطْلُوبُ أَنَّهُ مَا يَعْلَمُ مَا ادَّعَى الطَّالِبُ حَقًّا، وَتُرِكَ الِاعْتِقَالُ عَنْ الشَّيْءِ الْمُدَّعَى فِيهِ، وَهَذَا عِنْدَ الْحَاكِمِ الَّذِي لَا يَقْضِي بِالْيَمِينِ مَعَ الشَّاهِدِ وَأَمَّا مَنْ يَقْضِي بِالْيَمِينِ مَعَ الشَّاهِدِ، فَإِنَّهُ يُكَلِّفُ الطَّالِبَ شَاهِدًا ثَانِيًا، فَإِنْ أَعْيَاهُ أَحْلَفَهُ مَعَ شَاهِدِهِ وَقَضَى لَهُ بِيَمِينِهِ.
مَسْأَلَةٌ:
فِي شَهَادَاتِ الْمُدَوَّنَةِ فِي رَجُلٍ حَفَرَ فِي أَرْضٍ بِيَدِهِ عَيْنًا، فَادَّعَى فِيهَا رَجُلٌ دَعْوًى، وَاخْتَصَمَا إلَى صَاحِبِ الْمِيَاهِ، فَأَوْقَفَهُمْ حَتَّى يَرْتَفِعُوا إلَى الْمَدِينَةِ، فَشَكَا حَافِرُ الْعَيْنِ إلَى مَالِكٍ فَقَالَ مَالِكٌ قَدْ أَحْسَنَ حِينَ أَوْقَفَهَا، وَأُرَاهُ قَدْ أَصَابَ، فَقَالَ صَاحِبُ الْأَرْضِ أَتْرُكُ عُمَّالِي يَعْمَلُونَ، فَإِذَا اسْتَحَقَّ الْأَرْضَ فَلْيُهْدَمْ، فَقَالَ مَالِكٌ: لَا أَدْرِي ذَلِكَ، وَرَأَى أَنْ تُوقَفَ فَإِنْ اسْتَحَقَّ حَقَّهُ وَإِلَّا بُنِيَتْ، قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: وَهَذَا إذَا كَانَ لِلدَّعْوَى وَجْهٌ وَإِلَّا فَلَا.
مَسْأَلَةٌ:
وَفِي كِتَابِ ابْنِ الْأَصْبَغِ، وَإِنْ كَانَ الْمُدَّعَى فِيهِ أَصْلُ بَقْلٍ أَوْ زَيْتُونٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا لَهُ ثَمَرَةٌ، وَكَانَتْ الثَّمَرَةُ يَوْمَ الدَّعْوَى قَدْ طَابَتْ فَهِيَ لِلْمُسْتَحِقِّ مَا لَمْ تُفَارِقْ الْأَصْلَ، وَعَلَيْهِ أَنْ يَدْفَعَ لِلْمُسْتَحَقِّ مِنْهُ قِيمَةَ مَا أَسْقَى وَعَالَجَ، وَإِنْ كَانَتْ أَرْضًا فِيهَا زَرْعٌ قَدْ خَرَجَ إبَّانَ زِرَاعَتِهِ فَهُوَ لِزَارِعِهِ وَلَا كِرَاءَ عَلَيْهِ لِلشُّبْهَةِ.
مَسْأَلَةٌ:
وَفِي الْمُدَوَّنَةِ فِي رَجُلٍ ادَّعَى دَارًا فِي يَدِ رَجُلٍ فَأَنْشَبَ الْخُصُومَةَ وَأَقَامَ بَيِّنَةً غَيْرَ قَاطِعَةٍ، فَأَرَادَ الَّذِي فِي يَدِهِ الدَّارُ أَنْ يَبِيعَ أَوْ يَهَبَ، قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: أَرَى ذَلِكَ لَهُ يَصْنَعُ بِهَا مَا شَاءَ مَا لَمْ يُقْضَ بِهَا لِلْمُدَّعِي؛ لِأَنَّ بَيْعَهُ لَيْسَ مِمَّا يُبْطِلُ حُجَّةَ هَذَا وَلَا بَيِّنَتَهُ، قَالَ سَحْنُونٌ: قَالَ غَيْرُهُ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَبِيعَ؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ غَرَرٌ وَخَطَرٌ يُرِيدُ أَنَّهُ قَدْ يَبِيعُهُ مِنْ ظَالِمٍ ثُمَّ لَا يَقْدِرُ عَلَى مُخَاصَمَتِهِ، وَقَوْلُ الْغَيْرِ هُوَ الْأَوْلَى وَالْأَظْهَرُ.
النَّوْعُ الثَّانِي تَوْقِيفُ الْحَيَوَانِ وَفِي مُخْتَصَرِ الْوَاضِحَةِ فِي الْعَبْدِ وَالْجَارِيَةِ يَدَّعِيَانِ الْحُرِّيَّةَ إذَا أَقَامَا شَاهِدًا وَاحِدًا عَدْلًا فَإِنَّهُمَا يُوقَفَانِ عَنْ صَاحِبِهِمَا وَيُخْرَجَانِ مِنْ يَدِهِ إذَا كَانَ مَا يَدَّعِيَانِ مِنْ الشَّاهِدِ الثَّانِي قَرِيبًا، وَكَذَلِكَ قَالَ مَالِكٌ وَابْنُ الْقَاسِمِ وَأَصْحَابُ مَالِكٍ.
وَفِي التَّنْبِيهِ لِابْنِ الْأَصْبَغِ وَمَنْ اعْتَرَفَ عَبْدًا أَوْ دَابَّةً أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ مِنْ الْحَيَوَانِ بِيَدِ رَجُلٍ وَأَرَادَ تَوْقِيفَهُ لِيُلَطِّخَهُ أَوْ لِيَأْتِيَ عَلَى ذَلِكَ بِبَيِّنَةٍ، نُظِرَ، فَإِنْ كَانَ فِي ذَلِكَ بُعْدٌ فَلَيْسَ ذَلِكَ لَهُ وَإِنْ كَانَ مَا ادَّعَى مِنْ الْبَيِّنَةِ بِمَوْضِعِهِ ذَلِكَ، وَكَّلَ الْقَاضِي بِالْعَبْدِ وَوَقَّفَهُ فِيمَا قَرُبَ مِنْ يَوْمٍ وَنَحْوِهِ، فَإِنْ لَمْ يَأْتِ بِمَنْ يَشْهَدُ لَهُ فَلَا شَيْءَ لَهُ، ثُمَّ لَا يَكُونُ لَهُ يَمِينٌ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فِي إنْكَارِ دَعْوَاهُ؛ لِأَنَّهُ يَقُولُ لَا عِلْمَ عِنْدِي مِمَّا تَقُولُ، فَإِنْ ظَنَّ بِهِ عِلْمَ ذَلِكَ حَلَفَ، وَأَمَّا إنْ أَتَى الْقَائِمُ بِشَهَادَةِ شَاهِدٍ عَدْلٍ أَنَّهُ عَبْدُهُ حَلَفَ مَعَهُ وَاسْتَحَقَّ، فَإِنْ نَكَلَ لَمْ تُرَدَّ الْيَمِينُ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ يَقُولُ لَا عِلْمَ عِنْدِي فَإِنْ ظَنَّ بِهِ عِلْمَ ذَلِكَ حَلَفَ كَمَا تَقَدَّمَ وَإِنْ أَتَى بِلَطْخٍ كَالْقَوْمِ غَيْرِ الْعُدُولِ يَشْهَدُونَ لَهُ بِمِلْكِهِ أَوْ عُدُولٍ يَشْهَدُونَ أَنَّهُمْ سَمِعُوا أَنَّهُ سُرِقَ لَهُ مِثْلُ مَا يَدَّعِي، وَلَمْ تَكُنْ شَهَادَتُهُ قَاطِعَةً أَوْ كَالشَّاهِدِ الْعَدْلِ عَلَى الْبَتِّ، وَلَمْ يُرِدْ أَنْ يَحْلِفَ مَعَهُ وَأَرَادَ الْمُدَّعِي أَنْ يَدْفَعَ إلَيْهِ الْعَبْدَ لِيَذْهَبَ بِهِ إلَى مَوْضِعِ بَيِّنَتِهِ، فَذَلِكَ لَهُ بَعْدَ أَنْ يَدْفَعَ قِيمَتَهُ وَمَنَعَ مِنْ ذَلِكَ سَحْنُونٌ، وَعَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ فَنَفَقَةُ الْعَبْدِ فِي ذَهَابِهِ عَلَيْهِ وَلَا يَكُونُ لِلْمُدَّعِي رَفْعُ الْعَبْدِ مَا لَمْ يُلَطِّخْهُ بِشَيْءٍ، فَإِنْ لَمْ يُرِدْ أَنْ يَضَعَ قِيمَتَهُ وَقَالَ يُوَقَّفُ حَتَّى آتِيَ بِبَيِّنَتِي، فَإِنْ كَانَ مِمَّا يَقْرُبُ وُقِّفَ لَهُ مَا بَيْنَ الْخَمْسَةِ الْأَيَّامِ إلَى الْجُمُعَةِ قَالَهُ سَحْنُونٌ، وَقِيلَ الشَّهْرُ وَنَحْوُهُ، فَإِنْ انْقَضَى الْأَجَلُ تَلَوَّمَ لَهُ فَإِنْ لَمْ يَأْتِ أُسْلِمَ إلَى مَنْ كَانَ فِي يَدَيْهِ بَعْدَ يَمِينِهِ، إنْ كَانَ مِمَّنْ يُظَنُّ بِهِ عِلْمُ ذَلِكَ كَمَا تَقَدَّمَ، فَإِنْ أَتَى بَعْدَ ذَلِكَ بِشَيْءٍ يُوجِبُ لَهُ الْحَقَّ حُكِمَ لَهُ بِهِ، وَإِنْ كَانَ مِمَّا يَبْعُدُ وَفِيهِ مَضَرَّةٌ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ لَمْ يَجِبْ تَوْقِيفُهُ وَأُحْلِفَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ وَخُلِّيَ سَبِيلُهُ مِنْ غَيْرِ كَفِيلٍ يَلْزَمُهُ.
مَسْأَلَةٌ:
وَاخْتُلِفَ فِي نَفَقَةِ مَا وُقِفَ مِنْ الْحَيَوَانِ وَفِي غَلَّتِهِ وَمِمَّنْ تَكُونُ مُصِيبَتُهُ إنْ هَلَكَ فِي مُدَّةِ الْوَقْفِ، فَفِي الْمُدَوَّنَةِ نَفَقَتُهُ عَلَى مَنْ يُقْضَى لَهُ بِهِ وَغَلَّتُهُ لِمَنْ هُوَ فِي يَدَيْهِ؛ لِأَنَّهُ إنْ هَلَكَ كَانَ فِي ضَمَانِهِ. وَقَالَ فِي الْعُتْبِيَّةِ: إنْ هَلَكَ فِي الْوَقْفِ ثُمَّ ثَبَتَ لِلْمُسْتَحِقِّ كَانَتْ مُصِيبَتُهُ مِنْهُ، فَعَلَى هَذَا تَكُونُ الْغَلَّةُ لَهُ وَالنَّفَقَةُ عَلَيْهِ.
وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: مِثْلُ مَا قَالَ مَالِكٌ فِي الْعُتْبِيَّةِ، وَزَادَ إلَّا أَنْ تَكُونَ جَارِيَةً وَالْمُشْتَرِي مُقِرٌّ بِالْوَطْءِ وَأَنَّهُ لَمْ يَسْتَبْرِئْهَا فَتَكُونُ الْمُصِيبَةُ مِنْ الْمُشْتَرِي وَلَا يَرْجِعُ بِالثَّمَنِ.
وَقَالَ سَحْنُونٌ: الْمُصِيبَةُ مِنْ الْمُشْتَرِي حَتَّى يُحْكَمَ بِهِ لِلْمُسْتَحِقِّ فَتَكُونَ الْغَلَّةُ عَلَى ذَلِكَ لَهُ. وَرَأَى اللَّخْمِيُّ الْمُصِيبَةَ مِنْ الْمُشْتَرِي وَالْغَلَّةَ لَهُ.
وَقَالَ ابْنُ سَهْلٍ: كَانَ بَعْضُ مَنْ أَدْرَكْت. يَقُولُ فِي غَلَّةِ الْمُسْتَحِقِّ لِمَنْ تَكُونُ ثَلَاثَةَ أَقْوَالٍ. أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا لِلْمُدَّعِي إذَا شَهِدَ لَهُ شَاهِدٌ عَدْلٌ. وَالثَّانِي: فِي الْمُدَوَّنَةِ وَقَدْ تَقَدَّمَ. وَالثَّالِثُ: فِي الْمُوَطَّأِ قَالَ وَمَا اغْتَلَّتْ الْأَرْضُ مِنْ غَلَّةٍ فَهِيَ لِلْمُشْتَرِي الْأَوَّلِ يَوْمَ ثَبَتَ حَقُّ الْآخَرِ؛ لِأَنَّهُ كَانَ قَدْ ضَمِنَهَا.
النَّوْعُ الثَّالِثُ تَوْقِيفُ مَا يُسْرِعُ إلَيْهِ الْفَسَادُ كَاللَّحْمِ وَرُطَبِ الْفَوَاكِهِ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ فَإِنْ شَهِدَ لِلْمُدَّعِي شَاهِدٌ وَاحِدٌ وَأَبَى أَنْ يَحْلِفَ، وَقَالَ عِنْدِي شَاهِدٌ آخَرُ، أَوْ أَتَى بِلَطْخٍ وَادَّعَى بَيِّنَةً قَاطِعَةً، فَإِنَّهُ يُؤَجَّلُ أَجَلًا لَا يَفْسُدُ فِي مِثْلِهِ ذَلِكَ الشَّيْءُ، فَإِنْ أَحْضَرَ مَا يَسْتَحِقُّ بِهِ وَإِلَّا خُلِّيَ بَيْنَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ وَمَتَاعِهِ، فَإِنْ أَقَامَ الْمُدَّعِي شَاهِدَيْنِ لَا يَعْرِفُهُمَا الْقَاضِي وَاحْتَاجَ إلَى تَزْكِيَتِهِمَا وَخِيفَ فَسَادُ الْمُدَّعَى فِيهِ أَمَرَ الْقَاضِي أَمِينًا فَبَاعَهُ وَوَضَعَ ثَمَنَهُ عَلَى يَدَيْ عَدْلٍ يَأْخُذُهُ مَنْ اسْتَحَقَّهُ، فَإِنْ كَانَ الْمُدَّعِي إنَّمَا ادَّعَى ابْتِيَاعَهُ مِنْ مَالِكِهِ بِثَمَنٍ سَمَّاهُ وَأَرَادَ إثْبَاتَ ذَلِكَ يُتْبَعُ الْمُدَّعَى فِيهِ إنْ خَشِيَ فَسَادَهُ عَلَى مَا تَقَدَّمَ، وَعَلَيْهِ إذَا أَثْبَتَ دَعْوَاهُ أَدَاءَ الثَّمَنِ الْمَشْهُودِ بِهِ وَيَقْبِضُ هُوَ ثَمَنَ السِّلْعَةِ الْمَبِيعَةِ بِهِ بِالْحُكْمِ كَانَ أَقَلَّ مِنْ الثَّمَنِ الَّذِي اشْتَرَاهُ بِهِ أَوْ أَكْثَرَ، وَلَوْ تَلِفَ كَانَتْ مُصِيبَتُهُ مِمَّنْ يَقْضِي لَهُ بِهِ كَانَ الْهَلَاكُ قَبْلَ الْحُكْمِ أَوْ بَعْدَهُ.

.فَصْلٌ يُعْقَلُ بِالشَّاهِدِ الْوَاحِدِ الْعَدْلِ مَا يُغَابُ عَلَيْهِ مِنْ الْعُرُوضِ وَغَيْرِهَا:

فَصْلٌ: وَفِي أَحْكَامِ ابْنِ سَهْلٍ أَنَّهُ يُعْقَلُ بِالشَّاهِدِ الْوَاحِدِ الْعَدْلِ مَا يُغَابُ عَلَيْهِ مِنْ الْعُرُوضِ وَغَيْرِهَا، وَأَمَّا الْأُصُولُ فَكَمَا تَقَدَّمَ عَنْ ابْنِ الْعَطَّارِ، قَالَ: وَرَأَى بَعْضُهُمْ أَنَّ الْغَلَّةَ لَا تَكُونُ إلَّا بَعْدَ شَهَادَةِ عَدْلَيْنِ وَحِيَازَتِهِمَا لِلْعَقَارِ، فَزَادَ فِي هَذَا الْقَوْلِ الْحِيَازَةَ، قَالَ: وَهَذَا الَّذِي يَجْرِي عَلَيْهِ الْقَضَاءُ بِبَلَدِنَا، وَالْحُجَّةُ فِي ذَلِكَ بَيِّنَةٌ، وَهِيَ أَنَّ الْغَلَّةَ إنَّمَا تَكُونُ بِالضَّمَانِ فَهِيَ لِلْمَطْلُوبِ حَتَّى يَقْضِيَ عَلَيْهِ وَضَمَانُهَا مِنْهُ قَبْلَ ذَلِكَ، وَلَا تَكُونُ لِلطَّالِبِ إلَّا إذَا كَانَ الضَّمَانُ مِنْهُ، وَلَا يَكُونُ الضَّمَانُ مِنْهُ إلَّا بِشَهَادَةِ شَاهِدَيْ عَدْلٍ وَحِيَازَتِهِمَا.
مَسْأَلَةٌ:
وَمِمَّا يَلْحَقُ بِالنَّوْعِ الثَّانِي أَنَّ مَنْ ادَّعَى مَاشِيَةً قِبَلَ رَجُلٍ، فَإِنْ كَانَ قِبَلَ غَاصِبٍ وُقِفَتْ لَهُ هِيَ وَغَلَّتُهَا حَتَّى يَأْتِيَ بِبَيِّنَةٍ وَيَسْتَبْرِئَ أَمْرَهُ، وَإِنْ لَمْ يَدَّعِهَا قِبَلَ غَاصِبٍ وَادَّعَاهَا بِوَجْهِ شُبْهَةٍ خَرَجَتْ بِهَا مِنْ يَدِهِ، فَإِنْ جَاءَ بِشُبْهَةِ بَيِّنَةٍ وَأَمْرٍ ظَاهِرٍ وُقِفَتْ لَهُ مَعَ غَلَّتِهَا وَإِلَّا لَمْ أَرَ ذَلِكَ، وَأَمَّا رِعْيَتُهَا فِي مُدَّةِ وَقْفِهَا فَعَلَى الَّذِي تَصِيرُ لَهُ بِمَنْزِلَةِ الْكِسْوَةِ وَالنَّفَقَةِ وَالْعُلُوفَةِ فِي الدَّوَابِّ وَالرَّقِيقِ إذَا وُقِّفَتْ بِالدَّعْوَى الظَّاهِرَةِ الْبَيِّنَةِ، أَوْ بِدَعْوَاهَا قِبَلَ غَاصِبٍ، فَإِنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ مَا دَامَتْ مَوْقُوفَةً عَلَى مَنْ تَصِيرُ إلَيْهِ، فَإِنْ قَدَرَ الْحَاكِمُ عَلَى ذَلِكَ بِسَلَفٍ أَوْ إنْفَاقٍ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ وَمَا أَشْبَهَهُ فَذَلِكَ لَهُ، وَإِلَّا كَانَ أَوْلَاهُمَا بِأَنْ يَأْخُذَ مَنْ الَّذِي مِلْكُهُ قَائِمٌ فِيهَا. وَلَمْ يَزَلْ، فَإِذَا ثَبَتَ الِاسْتِحْقَاقُ أَعْدَاهُ بِهِ عَلَى صَاحِبِهِ. قَالَ فَضْلُ بْنُ سَلَمَةَ فِي مُخْتَصَرِ الْوَاضِحَةِ مَذْهَبُ ابْنِ الْقَاسِمِ أَنَّ النَّفَقَةَ بَيْنَهُمَا فِيمَا بَيْنَ ذَلِكَ، ثُمَّ يَرْجِعُ بِذَلِكَ عَلَى مَنْ اسْتَحَقَّ، قَالَ فَضْلٌ وَقَدْ رُوِيَ أَنَّهُ لَا يَرْجِعُ بِشَيْءٍ وَرَوَاهُ ابْنُ نَافِعٍ عَنْ مَالِكٍ.

.الْفَصْلُ الْخَامِسُ فِي تَوْقِيفِ مَالِ الْغَائِبِ وَمَالِ الْيَتِيمِ:

وَمِنْ كِتَابِ ابْنِ حَبِيبٍ قَالَ أَصْبَغُ: وَإِذَا رُفِعَ لِلْقَاضِي أَنَّ رَجُلًا غَرِيبًا مَاتَ بِبَلَدِ الْقَاضِي وَتَرَكَ مَالًا وَذُكِرَ أَنَّ وَرَثَتَهُ بِبَلَدِ كَذَا، فَإِنَّهُ يَنْظُرُ الْقَاضِي، فَإِنْ كَانَ الْبَلَدُ الَّذِي ذَكَرَ الْهَالِكُ أَنَّ وَرَثَتَهُ بِهِ بَعِيدًا جِدًّا بَعَثَ بِذَلِكَ الْمَالِ مَعَ ثِقَةٍ إلَى قَاضِي ذَلِكَ الْبَلَدِ، وَكَتَبَ إلَيْهِ بِقِصَّتِهِ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ الْبَلَدُ بَعِيدًا جِدًّا حَبَسَ الْمَالَ عِنْدَهُ، وَكَتَبَ إلَى الْقَاضِي أَنَّ رَجُلًا يُقَالُ لَهُ فُلَانُ بْنُ فُلَانٍ الْفُلَانِيُّ نَعْتُهُ كَذَا مَاتَ بِبَلَدِي وَتَرَكَ كَذَا وَكَذَا، وَذَكَرَ أَنَّ وَرَثَتَهُ بِبَلَدِكَ، فَإِذَا وَرَدَ إلَيْهِ الْكِتَابُ بَعَثَ إلَيْهِمْ إنْ عَرَفَهُمْ أَوْ يَسْأَلُ عَنْهُمْ إنْ جَهِلَهُمْ، فَإِذَا أَتَوْهُ أَعْلَمَهُمْ ذَلِكَ وَسَأَلَهُمْ الْبَيِّنَةَ عَلَى أَنَّهُمْ وَرَثَتُهُ، فَإِذَا ثَبَتَ ذَلِكَ عِنْدَهُ كَتَبَ لَهُمْ بِذَلِكَ إلَى الْقَاضِي الَّذِي عِنْدَهُ الْمَالُ، وَبَعَثُوا مَنْ يَقْبِضُ لَهُمْ مَالَهُمْ، وَإِنْ جَهِلَ الْقَاضِي فَبَعَثَ بِالْمَالِ إلَيْهِ فَضَاعَ لَمْ يَضْمَنْهُ الْبَاعِثُ بِخِلَافِ الْوَصِيِّ يَبْعَثُ بِالْمَالِ إلَى أَهْلِهِ فَيَضِيعُ. قَالَ أَصْبَغُ: وَإِذَا بَعَثَ قَاضٍ إلَى قَاضٍ بِمَالٍ فَعَلَى الرَّسُولِ أَنْ يُشْهِدَ بِإِيصَالِهِ وَإِلَّا يَضْمَنْ إنْ جَحَدَ الْقَاضِي الْمَبْعُوثُ إلَيْهِ قَبْضَهُ أَوْ مَاتَ أَوْ عُزِلَ فَلَمْ يُعْرَفْ لِلْمَالِ مَوْضِعٌ إلَّا أَنْ يُوجَدَ فِي دِيوَانِ الْمَيِّتِ ذِكْرُهُ: أَنَّا قَدْ قَبَضْنَا مِنْ فُلَانٍ كَذَا وَكَذَا دِينَارًا قَدِمَ بِهَا عَلَيْنَا مِنْ عِنْدِ قَاضِي بَلَدِ كَذَا، وَهِيَ لِوَرَثَةِ فُلَانٍ، أَفَيَبْرَأُ الرَّسُولُ بِهَذَا، وَإِذَا لَمْ يُوجَدْ الْمَالُ وَلَا عُرِفَ مَوْضِعُهُ فَلَا يَضْمَنُهُ الْقَاضِي مَيِّتًا كَانَ أَوْ حَيًّا، إذَا قَالَ فِي حَالِ حَيَاتِهِ قَدْ ضَاعَ أَوْ جَهِلْنَا مَوْضِعَهُ.
وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ مِنْ رِوَايَةِ عِيسَى وَإِذَا دَفَعَ الْقَاضِي مَالًا إلَى رَجُلٍ وَأَمَرَهُ أَنْ يَدْفَعَهُ إلَى فُلَانٍ فَقَالَ الْمَبْعُوثُ مَعَهُ الْمَالُ قَدْ دَفَعْتُهُ إلَى الَّذِي أَمَرْتَنِي بِدَفْعِهِ إلَيْهِ وَأَنْكَرَ الْمَبْعُوثُ إلَيْهِ، فَإِنْ قَامَتْ لَهُ الْبَيِّنَةُ عَلَى دَفْعِهِ إلَيْهِ وَإِلَّا ضَمِنَ.
مَسْأَلَةٌ:
وَمِنْ كِتَابِ ابْنِ حَبِيبٍ قَالَ أَصْبَغُ: إذَا وُجِدَ فِي دِيوَانِ الْقَاضِي بَعْدَ مَوْتِهِ أَوْ عَزْلِهِ أَنَّ عِنْدَ فُلَانِ بْنِ فُلَانٍ مِنْ الْأَمْوَالِ الَّتِي عِنْدَنَا أَوْ قَالَ مِنْ مَالِ فُلَانٍ الْيَتِيمِ كَذَا وَكَذَا دِينَارًا وَأَنْكَرَ الْأَمِينُ، فَإِنَّهُ يُحَلَّفُ وَيَبْرَأُ وَيَضْمَنُ الْقَاضِي ذَلِكَ الْمَالَ حَيًّا كَانَ أَوْ مَيِّتًا؛ لِأَنَّهُ فَرَّطَ حِينَ لَمْ يُشْهِدْ عَلَيْهِ.

.فَصْلٌ مَا يُرْفَعُ إلَى الْقُضَاةِ مِنْ أَمْوَالِ الْيَتَامَى:

فَصْلٌ: وَفِي سَمَاعِ عِيسَى سُئِلَ ابْنُ الْقَاسِمِ عَمَّا يُرْفَعُ إلَى الْقُضَاةِ مِنْ أَمْوَالِ الْيَتَامَى هَلْ يَسْتَوْدِعُونَهَا لَهُمْ أَوْ يُضَمِّنُونَهَا، فَقَالَ: الضَّمَانُ الَّذِي يَفْعَلُهُ بَعْضُ النَّاسِ وَأَهْلُ الْعِرَاقِ يُضَمِّنُونَهَا أَقْوَامًا يَكُونُ لَهُمْ رِبْحُهَا وَعَلَيْهِمْ ضَمَانُهَا حَرَامٌ لَا يَحِلُّ، وَالسُّنَّةُ فِيهَا أَنْ يَسْتَوْدِعَهَا مَنْ يُوثَقُ بِهِ إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُمْ أَوْصِيَاءٌ، فَإِنْ كَانَ لَهُمْ وَصِيٌّ لَمْ تُحَرَّكْ مِنْ يَدِهِ إنْ كَانَ ثِقَةً، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ ثِقَةٍ أَخَذَهَا الْقَاضِي وَاسْتَوْدَعَهَا مَنْ يَثِقُ بِهِ، وَإِنْ رَأَى الْقَاضِي أَوْ الْوَصِيُّ دَفْعَهَا إلَى مَنْ يَتَّجِرُ بِهَا أَوْ يُقَارِضُ لَهُمْ أَهْلَ الثِّقَةِ عَلَى النَّظَرِ لَهُمْ فَذَلِكَ حَسَنٌ، وَلَوْ اتَّجَرَ فِيهَا الْوَصِيُّ لِنَفْسِهِ أَوْ مَنْ أَوْدَعَهُ إيَّاهَا الْقَاضِي فَلَا بَأْسَ إنْ كَانَ مَلِيًّا، وَلَيْسَ بِحَرَامٍ، وَالتَّنَزُّهُ عَنْهُ أَفْضَلُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ هَذَا الْفَصْلُ فِي آدَابِ الْقَاضِي.
وَهُنَاكَ زِيَادَةٌ وَبَيَانٌ أَكْثَرُ مِنْ هَذَا وَإِنَّمَا أَعَدْتُهُ لِمَا جَرَى بِهِ عَمَلُ قُضَاةِ الْقَيْرَوَانِ، فَفِي رِسَالَةِ الْقَضَاءِ وَالْأَحْكَامِ فِيمَا يَتَرَدَّدُ بَيْنَ الْمُتَخَاصِمَيْنِ عِنْدَ الْقُضَاةِ وَالْحُكَّامِ أَنَّ بَعْضَ قُضَاةِ الْقَيْرَوَانِ لَمَّا تَحَقَّقَ عِنْدَهُمْ أَنَّ الْأُمَنَاءَ يَتَّجِرُونَ بِأَمْوَالِ الْأَيْتَامِ لِأَنْفُسِهِمْ، كَانُوا يَدْفَعُونَ الْأَمْوَالَ إلَى الْأُمَنَاءِ فَإِذَا مَضَوْا بِهَا إلَى مَوْضِعِهِمْ عَادُوا إلَى الْقَاضِي، فَأَقَرُّوا عِنْدَهُ أَنَّهُمْ أَدْخَلُوا فِيهَا أَيْدِيَهُمْ وَصَرَفُوهَا فِي مَصَالِحِهِمْ حَتَّى صَارَتْ بِذَلِكَ فِي ذِمَّتِهِمْ، فَكَتَبَهَا الْقَاضِي حِينَئِذٍ عَلَيْهِمْ فِي دِيوَانِهِ أَنَّهَا صَارَتْ فِي ذِمَّتِهِمْ بِتَحْرِيكِهِمْ إيَّاهَا، وَيَذْكُرُ فِي دِيوَانِهِ الْقِصَّةَ كَمَا جَرَتْ، وَيُشْهِدُ عَلَى الْأُمَنَاءِ وَذَلِكَ مِنْ الْقُضَاةِ هُرُوبٌ مِنْ قَوْلِ ابْنِ الْقَاسِمِ إنَّ دَفْعَهَا إلَى الْأُمَنَاءِ عَلَى أَنْ يَضْمَنُوهَا حَرَامٌ، فَتَوَصَّلُوا بِهَذَا الطَّرِيقِ إلَى تَضْمِينِهِمْ إيَّاهَا.

.الْقِسْمُ السَّادِسُ فِي ذِكْرِ الْيَمِينِ وَصِفَتِهَا وَزَمَانِهَا وَمَكَانِهَا:

وَالتَّغْلِيظِ فِيهَا وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهَا مِنْ الْأَحْكَامِ قَالَ ابْنُ رَاشِدٍ فِي كِتَابِ الْمُذْهَبِ: الْيَمِينُ تَكُونُ تَارَةً لِرَفْعِ الدَّعْوَى كَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِمَالٍ فَيُنْكِرُهُ، وَتَارَةً لِتَصْحِيحِهَا كَالْيَمِينِ مَعَ الشَّاهِدِ، وَتَارَةً لِإِيقَافِهَا كَالْحَلِفِ عَلَى نَفْيِ حَقٍّ ثَبَتَ لِصَغِيرٍ بِشَاهِدٍ، وَتَارَةً لِتَتْمِيمِ الْحُكْمِ كَيَمِينِ الِاسْتِبْرَاءِ. أَمَّا صِفَتُهَا فَهِيَ فِي الْحُقُوقِ كُلِّهَا بِاَللَّهِ الَّذِي لَا إلَهَ إلَّا هُوَ، لَا يُزَادُ عَلَى ذَلِكَ، وَرَوَى ابْنُ كِنَانَةَ أَنَّهُ يُزَادُ فِي رُبُعِ دِينَارٍ وَفِي اللِّعَانِ وَالْقَسَامَةِ عَلَى الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ.
وَفِي مُخْتَصَرِ الْوَاضِحَةِ إنَّمَا يَحْلِفُ الْحَالِفُ بِاَللَّهِ الَّذِي لَا إلَهَ إلَّا هُوَ لَا يَأْمُرُ بِأَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فِي الْحُقُوقِ وَالدِّمَاءِ وَاللِّعَانِ، وَكُلَّمَا كَانَ فِيهِ الْيَمِينُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ وَالنَّصَارَى وَالْيَهُودِ وَالْمَجُوس، غَيْرَ أَنَّ كُلَّ هَؤُلَاءِ غَيْرَ الْمُسْلِمِينَ إنَّمَا يُحَلَّفُونَ حَيْثُ يُعَظِّمُونَ مِنْ كَنَائِسِهِمْ، وَمَوَاضِعِ عِبَادَاتِهِمْ، وَيُرْسِلُ الْقَاضِي فِي ذَلِكَ رَسُولًا يُحَلِّفُهُمْ بِاَللَّهِ.
قَالَ ابْنُ حَبِيبٍ: وَأَخْبَرَنِي ابْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ وَأَصْبَغُ عَنْ ابْنِ الْقَاسِمِ وَابْنِ وَهْبٍ وَأَشْهَبَ عَنْ مَالِكٍ مِثْلَ ذَلِكَ كُلِّهِ، قَالَ الْقَاضِي أَبُو الْوَلِيدِ وَهَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ مِنْ مَذْهَبِ مَالِكٍ، وَبِهِ قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ، وَرَوَاهُ عَنْ مَالِكٍ فِي الْمُدَوَّنَةِ. قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: وَلَا يُزَادُ عَلَى أَهْلِ الْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ.
فَرْعٌ:
وَوَقَعَ لِمَالِكٍ فِي الْمَوَّازِيَّةِ أَنَّهُ يَقُولُ فِي الْقَسَامَةِ: بِاَللَّهِ الَّذِي أَحْيَا وَأَمَاتَ.
وَفِي اللِّعَانِ أَشْهَدُ بِعِلْمِ اللَّهِ يَعْنِي أَنَّ ذَلِكَ جَائِزٌ لَا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ غَيْرُهُ.
فَرْعٌ:
وَرَوَى الْوَاقِدِيُّ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ يُزَادُ عَلَى الْيَهُودِيِّ الَّذِي أَنْزَلَ التَّوْرَاةَ عَلَى مُوسَى، وَعَلَى النَّصْرَانِيِّ الَّذِي أَنْزَلَ الْإِنْجِيلَ عَلَى عِيسَى.
تَنْبِيهٌ:
وَمِنْ الْكُفَّارِ مَنْ لَا يَحْلِفُ بِمَا يَحْلِفُ بِهِ الْمُسْلِمُ؛ لِأَنَّهُ يُنْكِرُ مَا يَقُولُهُ أَهْلُ التَّوْحِيدِ، وَيَحْتَجُّونَ أَنْ لَيْسَ عَلَيْهِمْ الْخُرُوجُ عَنْ دِينِهِمْ لِيَمِينٍ وَجَبَتْ عَلَيْهِمْ، قَالَ: فَيُحْتَاطُ حَتَّى يَقُولَ مَا لَا يَخْرُجُ بِهِ عَنْ الشَّهَادَةِ بِالْحَقِّ، وَلَا يَحْلِفُ بِكُفْرِهِ.
وَقَالَ مُحَمَّدٌ فِي مَجُوسِيَّةٍ أَسْلَمَ زَوْجُهَا فَلَاعَنَتْ فَقَالَتْ أَقُولُ: وَالنَّارِ، فَقَالَ لَا تَحْلِفُ إلَّا بِاَللَّهِ.
فَرْعٌ:
لَوْ اقْتَصَرَ عَلَى قَوْلِهِ وَاَللَّهِ أَوْ قَالَ: وَاَللَّهِ الَّذِي لَا إلَهَ إلَّا هُوَ فَقَالَ، أَشْهَبُ بِعَدَمِ الْإِجْزَاءِ فِيهِمَا.
وَقَالَ اللَّخْمِيُّ: مُقْتَضَى النَّظَرِ أَنَّهَا يَمِينٌ مُجْزِئَةٌ مُنْعَقِدَةٌ وَتَجِبُ بِهَا الْكَفَّارَةُ.
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ رَدَّ يَمِينًا عَلَى رَجُلٍ ادَّعَى عَلَيْهِ دَعْوًى كَاذِبَةً، فَلَمَّا قَامَ الرَّجُلُ يَحْلِفُ قَالَ لَهُ اقْتَصِرْ عَلَى قَوْلِكَ وَاَللَّهِ، فَفَعَلَ الرَّجُلُ فَمَا اسْتَتَمَّ يَمِينَهُ حَتَّى سَقَطَ مَيِّتًا فَقِيلَ لَهُ فِي ذَلِكَ فَقَالَ خَشِيت أَنْ يَحْمَدَ اللَّهَ تَعَالَى فَيَحْلُمَ عَنْهُ.
فَرْعٌ:
وَفِي الْبَيَانِ وَالتَّحْصِيلِ قَالَ: وَفِي مُخْتَصَرِ ابْنِ شَعْبَانَ أَنَّ مَنْ حَلَفَ عِنْدَ الْمِنْبَرِ فَلْيَقُلْ رَبِّ هَذَا الْمِنْبَرِ.

.فَصْلٌ: وَهَلْ يَحْلِفُ قَائِمًا أَوْ لَا؟

قَالَ ابْنُ حَبِيبٍ: يَحْلِفُ قَائِمًا مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ وَرَوَى ابْنُ حَبِيبٍ عَنْ ابْنِ الْمَاجِشُونِ: أَنَّ ذَلِكَ يَخْتَصُّ بِالْحَلِفِ فِي الْمَسَاجِدِ، وَأَمَّا فِي غَيْرِهَا فَيَكُونُونَ قُعُودًا، وَفِي الْبَيَانِ وَالتَّحْصِيلِ رُوِيَ عَنْ مَالِكٍ فِي الْعُتْبِيَّةِ أَنَّهُ يَحْلِفُ قَائِمًا.
وَقَالَ فِي الْمُدَوَّنَةِ: إنَّ الْحَالِفَ لَا يَسْتَقْبِلُ بِهِ الْقِبْلَةَ، قَالَ ابْنُ رُشْدٍ: قَوْلُ مَالِكٍ وَيَحْلِفُونَ قِيَامًا يَحْتَمِلُ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى التَّفْسِيرِ لِمَا فِي الْمُدَوَّنَةِ يَعْنِي أَنَّهُ يَحْلِفُ قَائِمًا وَلَا يَسْتَقْبِلُ بِهِ الْقِبْلَةَ، وَحَكَى ابْنُ عَبْدُوسٍ عَنْ أَشْهَبَ أَنَّ الْقِيَامَ فِي الْأَيْمَانِ هُوَ فِي اللِّعَانِ وَالْقَسَامَةِ دُونَ سَائِرِ الْحُقُوقِ.
وَفِي الْمَبْسُوطِ لِمَالِكٍ أَنَّهُ يَحْلِفُ قَائِمًا دُبُرَ الصَّلَاةِ، وَقَدْ قِيلَ لَيْسَ عَلَيْهِ أَنْ يَحْلِفَ قَائِمًا وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ كِنَانَةَ انْتَهَى مِنْ الْبَيَانِ وَمِنْ ابْنِ شَاسٍ.
وَقَالَ ابْنُ رَاشِدٍ قَالَ مَالِكٌ فِي كِتَابِ ابْنِ سَحْنُونٍ يَحْلِفُ جَالِسًا يَعْنِي عِنْدَ الْمِنْبَرِ.
وَفِي الْمَوَّازِيَّةِ قَائِمًا كَمَا تَقَدَّمَ فِي الْعُتْبِيَّةِ.
تَنْبِيهٌ:
وَمَنْ قَالَ بِالْحَلِفِ قَائِمًا مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ فَسَوَاءٌ عِنْدَهُ فِي ذَلِكَ الرَّجُلُ وَالْمَرْأَةُ.
مَسْأَلَةٌ:
وَإِنْ كَانَ الْحَقُّ الْمَحْلُوفُ عَلَيْهِ أَقَلَّ مِنْ رُبُعِ دِينَارٍ لَمْ يَحْلِفْ قَائِمًا وَلَا مُسْتَقْبِلًا، بَلْ يَحْلِفُ بِمَكَانِهِ جَالِسًا فِي أَيِّ مَوْضِعٍ حُكِمَ عَلَيْهِ.
مَسْأَلَةٌ:
وَفِي وَثَائِقِ ابْنِ الْهِنْدِيِّ وَالْمُتَيْطِيَّةِ قَالَ ابْنُ وَضَّاحٍ قُلْت لِسَحْنُونٍ إنَّ ابْنَ عَاصِمٍ يُحَلِّفُ النَّاسَ بِالطَّلَاقِ يُغَلِّظُ عَلَيْهِمْ بِذَلِكَ، فَقَالَ وَمِنْ أَيْنَ أَخَذَهَا، فَقُلْت لَهُ مِنْ الْأَثَرِ (يُحْدِثُ النَّاسُ أَقْضِيَةً بِقَدْرِ مَا أَحْدَثُوا مِنْ الْفُجُورِ) فَقَالَ: مِثْلُ ابْنِ عَاصِمٍ يَتَأَوَّلُ هَذَا، وَابْنُ عَاصِمٍ مِنْ رُوَاةِ ابْنِ الْقَاسِمِ، وَرَوَى عَنْ أَشْهَبَ أَيْضًا وَكَانَ مُحْتَسِبًا بِالْأَنْدَلُسِ. وَأَمَّا زَمَانُهَا: فَفِي الْجَوَاهِرِ لِابْنِ شَاسٍ اُخْتُلِفَ فِي التَّغْلِيظِ بِالزَّمَانِ، فَفِي كِتَابِ ابْنِ سَحْنُونٍ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ كِنَانَةَ يَتَحَرَّى بِالْأَيْمَانِ فِي الْمَالِ الْعَظِيمِ وَفِي الدِّمَاءِ وَاللِّعَانِ السَّاعَاتِ الَّتِي يَحْضُرُ النَّاسُ فِيهَا بِالْمَسَاجِدِ وَيَجْتَمِعُونَ لِلصَّلَاةِ، وَمَا سِوَى ذَلِكَ مِنْ مَالٍ وَحَقٍّ فَفِي كُلِّ حِينٍ.
وَقَالَ مُطَرِّفٌ وَابْنُ الْمَاجِشُونِ بِذَلِكَ فِي الدِّمَاءِ وَاللِّعَانِ فَقَطْ.
وَقَالَهُ ابْنُ الْقَاسِمِ وَأَصْبَغُ انْتَهَى.
وَعَنْ مَالِكٍ فِي غَيْرِ الْمُدَوَّنَةِ أَنَّ اللِّعَانَ يَكُونُ بِإِثْرِ صَلَاةٍ أَحَبُّ إلَيَّ، قَالَ: وَقَدْ كَانَ عِنْدَنَا بَعْدَ الْعَصْرِ وَلَيْسَ بِسُنَّةٍ.
وَقَالَ ابْنُ شَعْبَانَ بَعْدَ الْعَصْرِ وَالصُّبْحِ، وَقِيلَ بَعْدَ الظُّهْرِ أَوْ الْعَصْرِ.
وَقَالَ سَحْنُونٌ بَعْدَ الْعَصْرِ سُنَّةٌ.
وَفِي الْمُدَوَّنَةِ أَنَّهُ يَكُونُ عِنْدَ الْإِمَامِ.
وَقَالَ اللَّخْمِيُّ لَيْسَ يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ الْقَاضِيَ أَوْ الْفَقِيهَ الْجَلِيلَ، يُرِيدُ عَنْ أَمْرِ الْإِمَامِ أَوْ الْقَاضِي، وَاسْتَحَبَّ غَيْرُ وَاحِدٍ مَذْهَبَ سَحْنُونٍ.
فَرْعٌ:
قَالَ ابْنُ وَضَّاحٍ لِسَحْنُونٍ: إنَّ ابْنَ عَجْلَانَ قَالَ لِي يُحَلَّفُ الْيَهُودِيُّ يَوْمَ السَّبْتِ وَالنَّصْرَانِيُّ يَوْمَ الْأَحَدِ.
وَقَالَ إنِّي رَأَيْتُهُمْ يَرْهَبُونَ ذَلِكَ لِقَوْلِ مَالِكٍ يُحَلَّفُونَ حَيْثُ يُعَظِّمُونَ فَأَعْجَبَهُ، وَقَالَ الْمَازِرِيُّ: اخْتَلَفَ أَشْيَاخُ الْقَيْرَوَانِ فِي الطَّالِبِ يُسْأَلُ أَنْ يُحَلَّفَ لَهُ غَرِيمُهُ الْيَهُودِيُّ يَوْمَ السَّبْتِ هَلْ يُحْكَمُ عَلَى الْيَهُودِيِّ بِذَلِكَ فَقَالَ بَعْضُهُمْ هَذَا مِنْ حَقِّ الْمُسْلِمِ فَيُحْكَمُ لَهُ بِذَلِكَ.
وَقَالَ بَعْضُهُمْ لَا يُقْضَى لَهُ بِذَلِكَ، وَأَلَّفَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي ذَلِكَ.
تَنْبِيهٌ:
وَفِي (الْمُتَيْطِيَّةِ) الْأَيْمَانُ إنَّمَا تَجِبُ بِالنَّهَارِ إلَّا عَلَى أَهْلِ السِّتْرِ وَالْحِجَابِ مِنْ النِّسَاءِ؛ لِأَنَّ الْأَيْمَانَ بِالنَّهَارِ أَشْنَعُ فَرُبَّمَا تَوَقَّعَ الْحَالِفُ الشُّنْعَةَ فَيَرْجِعُ إلَى الْحَقِّ، وَكَذَلِكَ يَجِبُ أَنْ يُذْكَرَ فِي الْعُقُودِ الَّتِي تُكْتَبُ فِي الْأَيْمَانِ أَنَّهُ ثَبَتَ عِنْدَ الْقَاضِي أَنَّ فُلَانَةَ مِنْ أَهْلِ الْحِجَابِ، وَمِمَّنْ يَجِبُ أَنْ تُحَلَّفَ لَيْلًا، وَأَنَّ الْقَائِمَ بِالْيَمِينِ عَلَيْهَا مِمَّنْ يَعْرِفُ ذَلِكَ.
وَأَمَّا مَكَانُهَا: فَفِي مُخْتَصَرِ الْوَاضِحَةِ قَالَ ابْنُ حَبِيبٍ قَالَ لِي مُطَرِّفٌ سَمِعْنَا مَالِكًا يَقُولُ وَجَمِيعُ مَشَايِخِنَا بِالْمَدِينَةِ فِي اسْتِحْلَافِ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ فِيمَا اُدُّعِيَ عَلَيْهِمْ أَوْ قَطَعُوهُ بِأَيْمَانِهِمْ كُلِّ أَمْرٍ لَهُ بَالٌ أَوْ بَلَغَ رُبُعَ دِينَارٍ فَصَاعِدًا، فَإِنْ كَانَ بِالْمَدِينَةِ فَعِنْدَ مِنْبَرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
تَنْبِيهٌ:
وَذَلِكَ إذَا أَبَى الطَّالِبُ أَنْ يَحْلِفَ إلَّا فِي الْمَسْجِدِ قَالَهُ مُؤَلِّفُ مَسَائِلِ الْقَضَاءِ، وَإِنْ كَانَ فِي غَيْرِ الْمَدِينَةِ مِنْ الْبُلْدَانِ فَفِي مَسْجِدِهِمْ الْأَعْظَمِ حَيْثُ يُعَظِّمُونَ مِنْهُ عِنْدَ مِنْبَرِهِمْ أَوْ تِلْقَاءَ قِبْلَتِهِمْ. وَفِي الْبَيَانِ وَالتَّحْصِيلِ: يُحَلَّفُ عِنْدَ الْمِنْبَرِ فِيمَا لَهُ بَالٌ وَفِيمَا يَبْلُغُ رُبُعَ دِينَارٍ فَصَاعِدًا عِنْدَ الْمِنْبَرِ، قَالَ ابْنُ رُشْدٍ: وَمَالِكٌ لَا يَرَى الِاسْتِحْلَافَ عِنْدَ الْمِنْبَرِ، وَلَا فِي مِنْبَرِ الْمَدِينَةِ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ حَلَفَ عَلَى مِنْبَرِي كَاذِبًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنْ النَّارِ» وَمَا جَاءَ مِنْ ذِكْرِ الْمِنْبَرِ وَالْحَلِفِ عِنْدَهُ فِي غَيْرِ الْمَدِينَةِ فَإِنَّمَا ذَلِكَ لِحُرْمَةِ مَوْضِعِهِ مِنْ الْمَسْجِدِ لَا لِحُرْمَتِهِ فِي نَفْسِهِ، إذْ لَوْ نُقِلَ عَنْ مَوْضِعِهِ إلَى مَوْضِعٍ سِوَاهُ مِنْ الْمَسْجِدِ أَوْ غَيْرِهِ لَمْ تُنْقَلْ الْيَمِينُ مِنْ مَوْضِعِهَا إلَى حَيْثُ الْمِنْبَرُ، بِخِلَافِ مِنْبَرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَيْثُ كَانَ فِي الْمَسْجِدِ، وَلَيْسَ هُوَ عِنْدَ مِحْرَابِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ؛ لِأَنَّهُ زِيدَ فِي قِبْلَتِهِ فَبَقِيَ الْمِنْبَرُ فِي مَوْضِعِهِ انْتَهَى. وَمَعْنَاهُ أَنَّ الْمِنْبَرَ فِي مَكَانِهِ فِي زَمَنِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَيْسَ عِنْدَ مِحْرَابِ الْمَسْجِدِ يَعْنِي الْمِحْرَابَ الَّذِي فِي الْقِبْلَةِ، وَنِسْبَةُ ذَلِكَ الْمِحْرَابِ إلَيْهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَنِسْبَةِ جَمِيعِ الْمَسْجِدِ إلَيْهِ، فَيُقَالُ مَسْجِدُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلِذَلِكَ قَالُوا: إنَّ الصَّلَاةَ تُضَاعَفُ فِيمَا زِيدَ فِيهِ كَمَا تُضَاعَفُ فِي الْمَسْجِدِ الْقَدِيمِ، وَلَمَّا زَادَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي الْمَسْجِدِ مِنْ نَاحِيَةِ الْقِبْلَةِ نَقَلَ مَحَلَّ الْإِمَامِ إلَى تِلْكَ الزِّيَادَةِ، وَكَانَ فِيهَا مِحْرَابٌ، وَاسْتُشْهِدَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي ذَلِكَ الْمِحْرَابِ، ثُمَّ زَادَ بَعْدَهُ عُثْمَانُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مِنْ نَاحِيَةِ الْقِبْلَةِ أَيْضًا وَانْتَقَلَ مَحَلُّ الْإِمَامَةِ إلَى الْمِحْرَابِ الَّذِي فِي الْقِبْلَةِ الْآنَ وَهُوَ مِحْرَابُ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَكَانَ فِي أَيَّامِ مَالِكٍ يُصَلِّي الْإِمَامُ فِي مِحْرَابِ عُثْمَانَ فَلَمَّا قَلَّ النَّاسُ رَجَعُوا إلَى مِحْرَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذِي بَيْنَ الْقَبْرِ الشَّرِيفِ وَالْمِنْبَرِ.
فَرْعٌ:
قَالَ ابْنُ رُشْدٍ وَأَمَّا فِي مَكَّةَ الْمُشَرَّفَةَ فَبَيْنَ الرُّكْنِ وَالْمَقَامِ، قَالَ ابْنُ رَاشِدٍ قَالَ مَالِكٌ يُحَلَّفُ بِمَكَّةَ عِنْدَ الرُّكْنِ وَلَمْ يَذْكُرْ بَيْنَ الرُّكْنِ وَالْمَقَامِ، وَفِي مُخْتَصَرِ الْوَاضِحَةِ وَسَأَلْت سَحْنُونًا عَنْ الْحَلِفِ فِي مَكَّةَ بَيْنَ الرُّكْنِ وَالْمَقَامِ هَلْ هُوَ مِثْلُ الْحَلِفِ بِالْمَدِينَةِ عِنْدَ الْمِنْبَرِ فَقَالَ: لَا.
فَرْعٌ:
وَأَمَّا فِي غَيْرِ الْمَدِينَةِ مِنْ جَوَامِعِ الْأَمْصَارِ فَقَدْ تَقَدَّمَ مَا ذَكَرَهُ ابْنُ حَبِيبٍ فِي الْوَاضِحَةِ.
وَقَالَ ابْنُ رُشْدٍ أَمَّا الْيَمِينُ فِي غَيْرِ الْمَدِينَةِ مِنْ جَوَامِعِ الْأَمْصَارِ فَعِنْدَ الْمِحْرَابِ.
وَفِي (الطُّرَرِ) لِأَبِي إبْرَاهِيمَ الْأَعْرَجِ عِنْدَ قَوْلِهِ- فِي التَّهْذِيبِ: لَا يَعْرِفُ مَالِكٌ الْيَمِينَ عِنْدَ الْمِنْبَرِ فِيهِ إلَى أَنَّ الْجَامِعَ كُلَّهُ سَوَاءٌ، وَهِيَ رِوَايَةٌ فِي الْمُذْهَبِ.
فَرْعٌ:
وَفِي الْأَحْكَامِ لِابْنِ سَهْلٍ: وَلَا يُحَلَّفُ فِي مَسَاجِدِ الْقَبَائِلِ فِي قَلِيلٍ وَلَا كَثِيرٍ.
فَرْعٌ:
وَيُحَلَّفُ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى فِي كَنَائِسِهِمْ حَيْثُ يُعَظِّمُونَ مِنْهَا، قِيلَ لَهُ فَيُحَلَّفُ الْمَجُوسِيُّ فِي بَيْتِ نَارِهِ قَالَ يُحَلَّفُ حَيْثُ يُعَظِّمُ مِنْ بَيْتِ نَارِهِ أَوْ غَيْرِهِ.
فَرْعٌ:
وَفِي (الْمُتَيْطِيَّةِ) وَاخْتُلِفَ فِي إخْرَاجِ الْمَرْأَةِ مِنْ بَيْتِهَا عِنْدَ وُجُوبِ الْيَمِينِ عَلَيْهَا فَقَالَ فِي الْمُدَوَّنَةِ: تَخْرُجُ الْمَرْأَةُ فِيمَا لَهُ بَالٌ فَتُحَلَّفُ فِي الْمَسْجِدِ، فَإِنْ كَانَتْ مِمَّنْ لَا تَخْرُجُ نَهَارًا فَلْتَخْرُجْ لَيْلًا وَتُحَلَّفُ فِي بَيْتِهَا، إنْ لَمْ تَكُنْ مِمَّنْ تَخْرُجُ.
تَنْبِيهٌ:
قَالَ ابْنُ رَاشِدٍ وَحَكَى أَبُو عَمْرِو بْنُ عَاتٍ فِي (الطُّرَرِ) أَنَّ كُلَّ امْرَأَةٍ تَخْرُجُ بِالنَّهَارِ إلَى الْحَمَّامِ وَغَيْرِهِ فَإِنَّهَا تُحَلَّفُ بِالنَّهَارِ وَإِنْ خَرَجَتْ مُسْتَتِرَةً، قَالَ وَعِنْدِي فِي خُرُوجِ الْمَرْأَةِ بِالنَّهَارِ إلَى الْجَامِعِ كَشْفٌ لَهَا وَلِحَالِهَا، وَإِنْ كَانَتْ تَخْرُجُ بِالنَّهَارِ؛ لِأَنَّهَا إذَا خَرَجَتْ لِلْحَلِفِ عُرِفَ أَنَّهَا فُلَانَةُ، بِخِلَافِ مَا إذَا خَرَجَتْ لِغَيْرِ ذَلِكَ، وَقَدْ أَخْبَرَنِي بَعْضُ الْفُقَهَاءِ أَنَّهَا وَقَعَتْ بِتُونُسَ وَأَنَّهُ وَجَدَ فِيهَا نَصًّا بِذَلِكَ.
مَسْأَلَةٌ:
قَالَ ابْنُ سَهْلٍ: وَفِي شَهَادَاتِ الْمُدَوَّنَةِ وَأَقْضِيَةِ الْمُخْتَلِطَةِ قُلْت: أَرَأَيْت النِّسَاءَ الْعَوَاتِقَ وَغَيْرَهُنَّ مِنْ الْإِمَاءِ وَأُمَّهَاتِ الْأَوْلَادِ الْمُدَبَّرَاتِ وَالْمُكَاتَبَاتِ أَيُحَلَّفْنَ فِي الْمَسْجِدِ، قَالَ إنَّمَا سَأَلْت مَالِكًا عَنْ النِّسَاءِ أَيْنَ يُحَلَّفْنَ، فَقَالَ: فِي كُلِّ شَيْءٍ لَهُ بَالٌ فَإِنَّهُنَّ يُحَلَّفْنَ فِيهِ فِي الْمَسْجِدِ الْجَامِعِ. قَالَ ابْنُ لُبَابَةَ فِي مُنْتَخَبِهِ: الْعَوَاتِقُ لَا يَمِينَ عَلَى مَنْ لَمْ تُطْلَقْ مِنْهُنَّ مِنْ الْوِلَايَةِ، إلَّا فِي شَيْءٍ يَكُونُ لَهُنَّ بِشَاهِدٍ وَاحِدٍ، فَإِنَّهُنَّ يُحَلَّفْنَ فِيهِ فِي الْمَسْجِدِ الْجَامِعِ، كَمَا يُحَلَّفُ السَّفِيهُ فِيهِ، وَفِي مِثْلِ ادِّعَائِهِنَّ عَلَى الْأَزْوَاجِ الْوَطْءَ بَعْدَ الْبِنَاءِ.
فَرْعٌ:
وَأَجَازَ سَحْنُونٌ كِتَابَ ابْنِهِ، أَنَّ الْمَرْأَةَ إذَا اُدُّعِيَ عَلَيْهَا فِي دُورٍ وَأَرْضٍ وَلَيْسَتْ مِمَّنْ يَخْرُجُ أَنْ تُحَلَّفَ فِي أَقْرَبِ مَسْجِدٍ إلَيْهَا.
فَرْعٌ:
قَالَ ابْنُ كِنَانَةَ فِي الْمَرْأَةِ الَّتِي لَا تَخْرُجُ إذَا اُدُّعِيَ عَلَيْهَا: تُحَلَّفُ فِي بَيْتِهَا، وَأَمَّا إنْ أَرَادَتْ أَنْ تَسْتَحِقَّ حَقًّا فلابد مِنْ خُرُوجِهَا إلَى مَوَاضِعِ الْأَيْمَانِ.
وَقَالَ عِيسَى عَنْ ابْنِ الْقَاسِمِ ذَلِكَ سَوَاءٌ، وَتُحَلَّفُ فِيمَا لَهَا وَعَلَيْهَا فِي الْمَسْجِدِ، إلَّا أَنْ يَكُونَ الشَّيْءَ التَّافِهَ فَتُحَلَّفَ فِي بَيْتِهَا.
فَرْعٌ:
وَفِي (الْمُتَيْطِيَّةِ): وَاخْتُلِفَ فِي الْقَدْرِ الَّذِي تَخْرُجُ فِيهِ إلَى الْجَامِعِ، فَقِيلَ كَالرَّجُلِ وَهُوَ فِي الْوَاضِحَةِ.
وَقَالَ ابْنُ الْمَوَّازِ لَيْسَ النِّسَاءُ كَالرِّجَالِ وَلَا يُحَلَّفْنَ فِي الْمَسْجِدِ إلَّا فِي الشَّيْءِ الْكَثِيرِ الَّذِي لَهُ بَالٌ قَالَ ابْنُ مُحْرِزٍ: وَهَذَا أَشْبَهُ بِظَاهِرِ الْكِتَابِ؛ لِأَنَّ مَا يَلْحَقُ النِّسَاءَ مِنْ الْخُرُوجِ وَالْمَشَقَّةِ وَالظُّهُورِ لِلنَّاسِ أَشَدُّ مِمَّا يَلْحَقُ الرِّجَالَ. وَفِي كِتَابِ مُحَمَّدٍ: إنَّهَا تُحَلَّفُ فِي الْجَامِعِ فِي دِينَارٍ فَأَكْثَرَ، وَتُحَلَّفُ فِي بَيْتِهَا فِي أَقَلَّ مِنْ دِينَارٍ.
فَرْعٌ:
وَالْمُكَاتَبَةُ وَأُمُّ الْوَلَدِ كَالْحُرَّةِ فِي أَحْكَامِ الْيَمِينِ وَالْخُرُوجِ إلَى الْمَسْجِدِ، وَكَذَلِكَ الْعَبْدُ وَمَنْ فِيهِ بَقِيَّةُ رِقٍّ كَالْحُرِّ فِي الْيَمِينِ.
فَرْعٌ:
وَمَنْ بَاعَ ثَوْبًا فَرُدَّ عَلَيْهِ بِعَيْبٍ، فَادَّعَى الْبَائِعُ أَنَّهُ بَيَّنَهُ لِلْمُبْتَاعِ، فَأَنْكَرَ الْمُبْتَاعُ وَأَرَادَ يَمِينَ الْبَائِعِ عِنْدَ الْمِنْبَرِ فَإِنْ كَانَ نُقْصَانُ الْعَيْبِ أَكْثَرَ مِنْ رُبُعِ دِينَارٍ لَمْ يُحَلَّفْ إلَّا فِي الْجَامِعِ.

.فَصْلٌ الْحَلِفِ عِنْدَ الْمِنْبَرِ فِي رُبُعِ دِينَارٍ مِنْ الذَّهَبِ الْقَرَمُونِيَّةِ:

فَصْلٌ: قَالَ ابْنُ سَهْلٍ سَأَلْت ابْنَ عَتَّابٍ وَابْنَ مَالِكٍ عَنْ الْحَلِفِ عِنْدَ الْمِنْبَرِ فِي رُبُعِ دِينَارٍ مِنْ الذَّهَبِ الْقَرَمُونِيَّةِ وَكَانَ فِيهَا مِنْ الذَّهَبِ نَحْوُ الْمُسَبَّعِ، فَقَالَا لِي: لَا يُحَلَّفُ فِيهِ عِنْدَ الْمِنْبَرِ.
وَقَالَ لِي ابْنُ الْقَطَّانِ مِثْلَ ذَلِكَ، وَخَالَفَ بَعْضُ مَنْ كَانَ يُفْتِي مَعَنَا، وَكَانَ يَرَى الْيَمِينَ عِنْدَ الْمِنْبَرِ فِيمَا لَهُ بَالٌ وَإِنْ لَمْ يَبْلُغْ رُبُعَ دِينَارٍ طَيِّبٍ، وَفِي (مُفِيدِ الْحُكَّامِ) قَالَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ يُحَلَّفُ عِنْدَهُ فِي الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ.

.فَصْلٌ التَّغْلِيظُ بِالتَّحْلِيفِ عَلَى الْمُصْحَفِ:

فَصْلٌ: وَأَمَّا التَّغْلِيظُ بِالتَّحْلِيفِ عَلَى الْمُصْحَفِ فَقَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ هُوَ بِدْعَةٌ لَمْ يَرِدْ عَنْ أَحَدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ، وَقَدْ أَجَازَهُ الشَّافِعِيَّةُ اُنْظُرْ الْأَحْكَامَ فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ، وَكَانَ ابْنُ لُبَابَةَ يُفْتِي فِي الْمَرِيضَةِ تَجِبُ عَلَيْهَا الْيَمِينُ فِي مَقْطَعِ الْحَقِّ أَنَّهَا تُحَلَّفُ فِي بَيْتِهَا عَلَى الْمُصْحَفِ.

.فَصْلٌ حُضُور الْمَحْلُوفِ لَهُ أَوْ وَكِيلِهِ لِتَقَاضِي الْيَمِينِ:

فَصْلٌ: لابد مِنْ حُضُورِ الْمَحْلُوفِ لَهُ أَوْ وَكِيلِهِ لِتَقَاضِي الْيَمِينِ، فَإِنْ تَغَيَّبَ وَكَّلَ الْقَاضِي مَنْ يَقْتَضِيهَا إذَا ثَبَتَ عِنْدَهُ تَغَيُّبُهُ، وَلَا يُحَلِّفُ الْقَاضِي الْمُدَّعَى عَلَيْهِ إلَّا بِسُؤَالِ خَصْمِهِ أَوْ قَرِينَةِ حَالٍ تَدُلُّ عَلَى طَلَبِهِ لِذَلِكَ مِنْ الْقَاضِي قَالَهُ الْمَازِرِيُّ، اُنْظُرْ ابْنَ عَبْدِ السَّلَامِ.
مَسْأَلَةٌ:
وَفِي كِتَابِ ابْنِ حَبِيبٍ قَالَ ابْنُ الْمَاجِشُونِ: وَإِذَا أَمَرَ الْقَاضِي رَجُلًا أَنْ يُحَلِّفَ رَجُلًا فَقَالَ قَدْ حَلَّفْتُهُ وَالطَّالِبُ يُنْكِرُ ذَلِكَ فَقَوْلُ الْمَأْمُورِ نَافِذٌ.

.فَصْلٌ تُحَلَّفُ الْمَرْأَةُ إذَا أَرَادَتْ تَطْلِيقَ نَفْسِهَا مِنْهُ لِعَدَمِ النَّفَقَةِ:

فَصْلٌ: إذَا تَقَرَّرَ أَنَّ الْيَمِينَ عِنْدَ الْمِنْبَرِ وَفِي مَقَاطِعِ الْحُقُوقِ فِي رُبُعِ دِينَارٍ وَفِيمَا لَهُ بَالٌ، فَاعْلَمْ أَنَّ الْحُكْمَ فِي ذَلِكَ عُلِمَ فِي الْحُقُوقِ الْمَالِيَّةِ وَغَيْرِهَا، وَنَذْكُرُ مِنْ مَسَائِلِ الْمَذْهَبِ مَا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ.
مَسْأَلَةٌ:
فَمِنْ ذَلِكَ مَا ذَكَرَهُ ابْنُ سَهْلٍ فِي رَجُلٍ أَشْهَدَ لِامْرَأَتِهِ أَنَّهُ غَابَ عَنْهَا فِي سَفَرِهِ أَكْثَرَ مِنْ كَذَا وَكَذَا فَأَمْرُهَا بِيَدِهَا، بَعْدَ أَنْ تَحْلِفَ بِاَللَّهِ لَقَدْ غَابَ عَنْهَا أَكْثَرَ مِمَّا شَرَطَهُ لَهَا، ثُمَّ تَقْضِي فِي نَفْسِهَا مَا أَحَبَّتْ، فَغَابَ عَنْهَا زَوْجُهَا أَكْثَرَ مِمَّا شَرَطَهُ فَرَفَعَتْ أَمْرَهَا إلَى بَعْضِ الْحُكَّامِ، وَأَحَبَّتْ أَنْ تَأْخُذَ بِشَرْطِهَا وَأَقَامَتْ الْبَيِّنَةَ عَلَى مَا شَرَطَهُ زَوْجُهَا وَعَلَى انْقِضَاءِ الْمُدَّةِ، فَحَلَّفَهَا الْحَاكِمُ فِي بَيْتِهَا.
وَكَانَ الْحَاكِمُ الْوَزِيرَ أَبَا بَكْرِ بْنَ حَرِيشٍ وَكَتَبَ إلَى الْفُقَهَاءِ يَسْتَشِيرُهُمْ فِي ذَلِكَ فَكَتَبَ إلَيْهِ أَبُو عُمَرَ بْنُ الْقَطَّانِ: أَمَّا يَمِينُهَا فِي بَيْتِهَا فَغَيْرُ مُجْزِئَةٍ، وَالْيَمِينُ وَاجِبَةٌ فِي مَقْطَعِ الْحَقِّ. قَالَ ابْنُ سَهْلٍ: وَكَذَلِكَ تُحَلَّفُ الْمَرْأَةُ إذَا أَرَادَتْ تَطْلِيقَ نَفْسِهَا مِنْهُ لِعَدَمِ النَّفَقَةِ أَنَّهُ مَا تَرَكَ لَهَا شَيْئًا وَلَا أَرْسَلَ إلَيْهَا بِشَيْءٍ، وَقَدْ شَهِدَ لَهَا بِذَلِكَ الشُّهُودُ، وَكَذَلِكَ يُحَلَّفُ مُسْتَحِقُّ الْحَيَوَانِ وَشِبْهُهُ فِي مَقْطَعِ الْحَقِّ مَا بَاعَ وَلَا وَهَبَ وَلَا خَرَجَ عَنْ مِلْكِهِ، بَعْدَ أَنْ تَشْهَدَ لَهُ الْبَيِّنَةُ.
وَكَذَلِكَ نَصَّ عَلَيْهِ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ أَبِي زَمَنِينَ فِي يَمِينِهَا فِي سِجِلِّ الْقَضَاءِ لَهَا بِالْأَخْذِ يُشْرَطُ فِي الْمَغِيبِ بِأَنَّ الْفُقَهَاءَ أَشَارُوا أَنْ تُحَلَّفَ الْمَرْأَةُ فِي مَقْطَعِ الْحَقِّ احْتِيَاطًا لِلْغَائِبِ، فَتُحَلَّفُ بِاَللَّهِ الَّذِي لَا إلَهَ إلَّا هُوَ لَقَدْ غَابَ عَنْهَا زَوْجُهَا فُلَانٌ الْغَيْبَةَ الَّتِي شُهِدَ لَهَا بِهَا، وَمَا قَدِمَ عَلَيْهَا، قَالَ ابْنُ سَهْلٍ فَهَذَا نَصٌّ فِي ذَلِكَ مِمَّنْ هُوَ حُجَّتُهُ، وَجَوَابٌ فِي الْمَسْأَلَةِ الْمَذْكُورَةِ بِأَنَّ يَمِينَهَا فِي بَيْتِهَا لَا تُجْزِئُ إذْ لَيْسَ ذَلِكَ فِي شَرْطِهَا، وَلَا فِي كِتَابِ الِاسْتِرْعَاءِ الَّذِي قَامَتْ بِهِ أَنَّ زَوْجَهَا لَوْ جَعَلَ لَهَا أَنْ تُحَلَّفَ فِي بَيْتِهَا كَانَ ذَلِكَ لَهَا، وَإِذَا لَمْ يَجْعَلْهُ لَهَا فَالِاحْتِيَاطُ لِلْغَائِبِ أَنْ تُحَلَّفَ فِي مَقْطَعِ الْحَقِّ.
مَسْأَلَةٌ:
وَفِي (الْمُتَيْطِيَّةِ) إذَا قَامَتْ الْمَرْأَةُ عَلَى زَوْجِهَا وَهُوَ غَائِبٌ بِعَدَمِ النَّفَقَةِ وَأَثْبَتَتْ مَا يَجِبُ عَلَيْهَا إثْبَاتُهُ، فَإِنَّهُ يُؤَجِّلُهَا ثُمَّ يَأْمُرُهَا بِالْحَلِفِ فِي الْمَسْجِدِ الْجَامِعِ بِمَوْضِعِ الْحَلِفِ أَنَّ زَوْجَهَا فُلَانًا لَمْ يُخَلِّفْ عِنْدَهَا نَفَقَةً تُنْفِقُهَا، وَلَا مَا يُعَدَّى فِيهِ بِنَفَقَتِهَا، وَلَا أَرْسَلَ شَيْئًا وَصَلَ إلَيْهَا، وَلَا وَضَعَتْ شَيْئًا عَنْهُ مِنْ ذَلِكَ فَإِذَا ثَبَتَ عِنْدَ الْحَاكِمِ بِشَهَادَةِ مَنْ وُجِّهَ لِحُضُورِ يَمِينِهَا أَنَّهَا حَلَفَتْ الْيَمِينَ الْمَنْصُوصَةَ كَمَا يَجِبُ وَفِي الْمَوْضِعِ الَّذِي يَجِبُ فِيهِ نَظَرَ فِي ذَلِكَ.
مَسْأَلَةٌ:
وَفِي الْمُتَيْطِيَّةِ إذَا طَلَّقَ زَوْجَتَهُ بِشَيْءٍ مِنْ الْكِنَايَاتِ الْمُقْتَضِيَةِ لِلْبَتَاتِ وَذَلِكَ قَبْلَ الْبِنَاءِ بِهَا وَنَوَى وَاحِدَةً وَشَهِدَتْ الْبَيِّنَةُ بِلَفْظِهِ وَبِادِّعَائِهِ النِّيَّةَ فِيهِ، ثُمَّ أَرَادَ مُرَاجَعَتَهَا فلابد مِنْ يَمِينِهِ عِنْدَ مُرَاجَعَتِهَا عَلَى مَا نَوَاهُ، وَيُحَلَّفُ فِي الْمَسْجِدِ الْجَامِعِ بِاَللَّهِ الَّذِي لَا إلَهَ إلَّا هُوَ مَا أَرَادَ بِقَوْلِهِ لِزَوْجَتِهِ فُلَانَةَ حَبْلُك عَلَى غَارِبِكَ إلَّا طَلْقَةً وَاحِدَةً.
مَسْأَلَةٌ:
وَإِذَا ادَّعَتْ الْمَرْأَةُ أَنَّ زَوْجَهَا طَلَبَهَا وَأَقَامَتْ عَلَيْهِ شَاهِدًا وَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يَحْلِفَ لَهَا عَلَى تَكْذِيبِ الشَّاهِدِ، وَيَحْلِفَ عَلَى ذَلِكَ فِي الْمَسْجِدِ الْجَامِعِ مِنْ (الْمُتَيْطِيَّةِ).
مَسْأَلَةٌ:
وَمِنْ ذَلِكَ إذَا رَدَّ الْمُبْتَاعُ الْأَمَةَ بِعَيْبٍ فَقَالَ لَهُ الْبَائِعُ: احْلِفْ أَنَّكَ مَا وَطِئَتْهَا، فَفِي الْمَسْأَلَةِ خِلَافٌ، قِيلَ لَا يُحَلَّفُ، وَقِيلَ يُحَلَّفُ، وَقِيلَ لَا يُحَلَّفُ إلَّا أَنْ يَكُون مُتَّهَمًا، وَمَنْ قَالَ بِالتَّحْلِيفِ فَيُحَلِّفُهُ فِي مَقْطَعِ الْحَقِّ عَلَى ذَلِكَ.
فَرْعٌ:
وَمِنْ ذَلِكَ أَيْمَانُ اللِّعَانِ وَأَيْمَانُ الْقَسَامَةِ لَا تَكُونُ إلَّا فِي الْمَسْجِدِ.
تَنْبِيهٌ:
وَفِي مُخْتَصَرِ فَتَاوَى ابْنِ رُشْدٍ لِلْقَاضِي ابْنِ عَبْدِ الرَّفِيعِ. إذَا كَانَ قِيمَةُ الْعَيْبِ أَقَلَّ مِنْ رُبُعِ دِينَارٍ وَقَالَ الْبَائِعُ بِبَيِّنَتِهِ لِلْمُشْتَرِي فَأَنْكَرَ الْمُشْتَرِي فَإِنْ كَانَتْ السِّلْعَةُ قَائِمَةً يَجِبُ رَدُّهَا حَلَفَ الْمُشْتَرِي فِي الْجَامِعِ مَا عَلِمَ وَرَدَّهَا؛ لِأَنَّ الْيَمِينَ مُتَعَلِّقَةٌ بِمَا هُوَ أَكْثَرُ مِنْ رُبُعِ دِينَارٍ، وَهُوَ رَدُّ السِّلْعَةِ وَإِنْ كَانَتْ فَائِتَةً وَلَمْ يَجِبْ لِلْمُشْتَرِي إلَّا قِيمَةُ الْعَيْبِ لَمْ يُحَلَّفْ الْمُشْتَرِي فِي الْجَامِعِ، وَهَذَا مِثْلُ الْمُتَبَايِعَيْنِ يَخْتَلِفَانِ فِي الثَّمَنِ، فِي أَقَلَّ مِنْ رُبُعِ دِينَارٍ، فَيَتَحَالَفَانِ فِي الْجَامِعِ وَيَتَفَاسَخَانِ، وَكَذَا إذَا اخْتَلَفَا فِي الصَّرْفِ فِيمَا يُوجَبُ نَقْضُهُ وَإِنْ كَانَ دِرْهَمًا وَاحِدًا.

.فَصْلٌ لَا يُجْلَبُ الْحَالِفُ فِي الْأَيْمَانِ إلَى غَيْرِ مَوْضِعِهِ إلَّا فِي الْقَسَامَةِ:

فَصْلٌ: وَلَا يُجْلَبُ الْحَالِفُ فِي الْأَيْمَانِ إلَى غَيْرِ مَوْضِعِهِ إلَّا فِي الْقَسَامَةِ، فَإِنَّ مَالِكًا قَالَ يُجْلَبُ إلَى مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ وَبَيْتِ الْمَقْدِسِ مَنْ كَانَ فِي أَعْمَالِهَا، قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ حَيْثُمَا كَانُوا مِنْ أَعْمَالِهَا، وَأَمَّا أَهْلُ الْآفَاقِ فَيُسْتَحْلَفُونَ فِي مَوْضِعِهِمْ إلَّا أَنْ يَكُونُوا قَرِيبًا مِنْ الْمِصْرِ نَحْوَ عَشَرَةِ أَمْيَالٍ وَنَحْوَ ذَلِكَ، قَالَ مَالِكٌ فَأَرَى أَنْ يُجْلَبُوا إلَى الْمِصْرِ فَيُحَلَّفُونَ فِي الْمَسْجِدِ. مِنْ (مُخْتَصَرِ الْوَاضِحَةِ).

.فَصْلٌ فِي حُكْمِ النُّكُولِ عَنْ الْيَمِينِ:

وَنَعْنِي بِهِ نُكُولَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ أَوْ الْمُدَّعِي إذَا تَوَجَّهَتْ عَلَيْهِ الْيَمِينُ فَنَكَلَ عَنْهَا، وَلَا يَثْبُتُ الْحَقُّ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِمُجَرَّدِ نُكُولِهِ كَمَذْهَبِ الْإِمَامِ أَبِي حَنِيفَةَ، بَلْ لابد مَعَ نُكُولِهِ مِنْ يَمِينِ الْمُدَّعِي، وَيَتِمُّ نُكُولُهُ بِقَوْلِهِ لَا أَحْلِفُ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: أَنَا نَاكِلٌ عَنْ الْيَمِينِ، أَوْ بِقَوْلِهِ لِلْمُدَّعِي: احْلِفْ أَنْتَ، وَأَمَّا تَمَادِيهِ عَلَى الِامْتِنَاعِ مِنْ الْيَمِينِ فَإِنْ كَانَ مَعَ نُطْقِهِ بِمِثْلِ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ فَلَا إشْكَالَ، وَإِنْ كَانَ بِدُونِ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ فَهُوَ يُشْبِهُ الِامْتِنَاعَ مِنْ الْجَوَابِ وَقَدْ تَقَدَّمَ حُكْمُ ذَلِكَ فِي الْقِسْمِ الثَّالِثِ مِنْ أَقْسَامِ الْجَوَابِ عَنْ الدَّعْوَى.
وَيَنْبَغِي لِلْحَاكِمِ بَيَانُ حُكْمِ النُّكُولِ بِأَنْ يَقُولَ لِمُدَّعًى عَلَيْهِ إنْ نَكَلْت عَنْ الْيَمِينِ اسْتَحَقَّ مَا ادَّعَاهُ عَلَيْكَ وَهَذَا- وَاَللَّهُ أَعْلَمُ- عَلَى طَرِيقِ الِاسْتِحْبَابِ فِيمَنْ يَخْشَى مِنْهُ الْجَهْلَ بِحُكْمِ النُّكُولِ، وَإِذَا تَمَّ نُكُولُهُ بِالنُّطْقِ أَوْ الِامْتِنَاعِ مِنْ الْيَمِينِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ ثُمَّ قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ أَنَا أَحْلِفُ لَمْ يُقْبَلْ مِنْهُ وَلَمْ يَلْزَمْ ذَلِكَ خَصْمَهُ إلَّا أَنْ يَشَاءَ، وَهَذَا مِثْلُ مَنْ قَامَ لَهُ شَاهِدٌ بِحَقٍّ وَأَبَى أَنْ يَحْلِفَ مَعَهُ وَرَدَّ الْيَمِينَ عَلَى الْمَطْلُوبِ ثُمَّ بَدَا لَهُ وَأَرَادَ أَنْ يَحْلِفَ فَلَيْسَ لَهُ ذَلِكَ.
فَرْعٌ:
وَمَنْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ يَمِينٌ فَامْتَنَعَ مِنْهَا حَتَّى يُبْرِزَ الْمَطْلُوبُ الْمَالَ الَّذِي يَحْلِفُ عَلَيْهِ، وَحِينَئِذٍ يَحْلِفُ، فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يَجِبُ عَلَى الْمَطْلُوبِ إلَّا بَعْدَ يَمِينِ الطَّالِبِ إذْ لَا يَسْتَحِقُّ الْمَالَ إلَّا بِالْيَمِينِ، فَإِنْ قَالَ: أَخْشَى أَنْ أَحْلِفَ ثُمَّ يَدَّعِي الَّذِي أَحْلَفَنِي الْعَدَمَ كَانَ مِنْ حَقِّهِ أَنْ يَشْهَدَ لَهُ صَاحِبُهُ أَنَّهُ مُوسِرٌ وَلَيْسَ بِعَدِيمٍ، فَإِذَا شَهِدَ لَهُ بِذَلِكَ حَلَفَ وَاسْتَحَقَّ، فَإِنْ ادَّعَى الْمَطْلُوبُ الْعَدَمَ حُبِسَ حَتَّى يُؤَدِّيَ، فَإِنْ شَهِدَتْ لَهُ بَيِّنَةٌ بِالْعَدَمِ لَمْ يُسْمَعْ مِنْهَا؛ لِأَنَّهُ قَدْ أَكْذَبَهَا، فَثَمَرَةُ الشَّهَادَةِ عَلَى نَفْسِهِ تَطْوِيلُ سَجْنِهِ حَتَّى يُؤَدِّيَ.
فَرْعٌ:
وَأَمَّا لَوْ ادَّعَى الْمَطْلُوبُ قَضَاءَ الدَّيْنِ فَأَنْكَرَ الطَّالِبُ ذَلِكَ وَتَوَجَّهَتْ الْيَمِينُ عَلَى رَبِّ الدَّيْنِ فَنَكَلَ عَنْهَا وَقَلَبَهَا عَلَى الْمَطْلُوبِ فَنَكَلَ عَنْهَا أَيْضًا، فَإِنَّ الْمَطْلُوبَ يَلْزَمُهُ غُرْمُ الدَّيْنِ؛ لِأَنَّ الْحَقَّ لَمْ يَثْبُتْ عَلَيْهِ إلَّا الْآنَ. قَالَ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ: وَلَا يَبْعُدُ عِنْدِي أَنْ يُؤْخَذَ عَلَيْهِ كَفِيلٌ بِالْمَالِ؛ لِأَنَّ الْمَطْلُوبَ الْآنَ شَاكٌّ فِي بَرَاءَةِ ذِمَّتِهِ، وَقَدْ اخْتَلَفَ الْمَذْهَبُ إذَا شَكَّ الْمَطْلُوبُ هَلْ يُقْضَى عَلَيْهِ دُونَ يَمِينٍ تَلْزَمُ الطَّالِبَ أَوْ لابد مِنْ الْيَمِينِ، وَعَلَى التَّقْدِيرَيْنِ فَالْحَقُّ قَدْ تَوَجَّهَ عَلَى الْمَطْلُوبِ إذْ هُوَ فِي مَعْنَى التَّوَجُّهِ وَإِذَا انْتَهَى الْحَقُّ إلَى هَذَا الظُّهُورِ كَانَتْ الْكَفَالَةُ بِالْمَالِ هَذِهِ هِيَ الْقَاعِدَةُ.
وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ: إذَا سَأَلَ الْمَطْلُوبُ أَنْ يُمْهَلَ لِحِسَابٍ وَشِبْهِهِ أَمْهَلَهُ الْحَاكِمُ بِقَدْرِ مَا يَرَى مِنْ غَيْرِ تَحْدِيدٍ لِزَمَانِ الْمُهْلَةِ. قَالَ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ: وَهُوَ الظَّاهِرُ؛ لِأَنَّ أَسْبَابَ الشَّكِّ مُخْتَلِفَةٌ، فَقَدْ يَطُولُ زَمَانُ الْمُعَامَلَةِ بَيْنَهُمَا وَيَكْثُرُ الْمَالُ وَالتَّقَاضِي، وَقَدْ يَقِلُّ ذَلِكَ فَلِذَلِكَ كَانَ إمْهَالُهُ بِقَدْرِ مَا يَرَاهُ الْحَاكِمُ وَيَظْهَرُ لَهُ مِنْ أَمْرِهِمَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
مَسْأَلَةٌ:
وَلَوْ قَالَ الْمَطْلُوبُ حِينَ قَامَتْ عَلَيْهِ الْبَيِّنَةُ أَمْهِلُونِي فَلِي بَيِّنَةٌ دَافِعَةٌ أُمْهِلَ مَا لَمْ يَبْعُدْ فَيُقْضَى عَلَيْهِ وَيُبْقَى عَلَى حُجَّتِهِ إذَا أَحْضَرَهَا، وَلَوْ قَالَ أَبْرَأَنِي فَحَلَّفُوهُ فَلْيَحْلِفْ قَبْلَ أَنْ يَسْتَوْفِيَ.
مَسْأَلَةٌ:
وَإِنْ تَوَجَّهَتْ الْيَمِينُ عَلَى الْمُدَّعِي فَلَمْ يَحْلِفْ وَقَالَ لِي بَيِّنَةٌ قَرِيبَةٌ فَاطْلُبُوا مِنْ الْغَرِيمِ كَفِيلًا أُخِذَ مِنْهُ كَفِيلٌ بِنَفْسِهِ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ خَمْسَةِ أَيَّامٍ إلَى الْجُمُعَةِ.

.فَصْلٌ فِي مَسَائِلَ مُتَفَرِّقَةٍ تَتَعَلَّقُ بِحُكْمِ الْيَمِينِ:

مَسْأَلَةٌ:
فِي الْيَمِينِ تَجِبُ لِلْوَرَثَةِ وَيَتَقَاضَاهَا أَحَدُهُمْ، فِي (الْمُتَيْطِيَّةِ) إذَا وَجَبَتْ الْيَمِينُ لِوَرَثَتِهِ يُمَلِّكُونِ أُمُورَ أَنْفُسِهِمْ عَلَى رَجُلٍ فَحَلَفَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِأَمْرِ الْحَاكِمِ وَتَقَاضَى الْيَمِينَ أَحَدُهُمْ فَيَمِينُهُ تُجْزِئُ عَنْ الْجَمِيعِ، إذَا كَانَتْ بِأَمْرِ الْحَاكِمِ، وَذَلِكَ حُكْمٌ مَاضٍ وَإِنْ كَانَتْ بِغَيْرِ أَمْرِ الْحَاكِمِ، فَكُلُّ مَنْ قَامَ مِنْهُمْ عَلَيْهِ كَلَّفَهُ يَمِينًا ثَانِيَةً، وَمِثْلُهُ لِأَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ.
وَقَالَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ الْمُوَثَّقِينَ، وَبِهِ الْحُكْمُ، وَلِأَبِي مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي زَيْدٍ فِي أَسْئِلَتِهِ خِلَافُهُ، وَأَنَّ لِمَنْ غَابَ مِنْهُمْ أَنْ يُحَلِّفَهُ وَإِنْ كَانَتْ الْيَمِينُ بِأَمْرِ الْحَاكِمِ.
مَسْأَلَةٌ:
وَإِذَا حَلَفَ الْخَصْمُ دُونَ حُضُورِ خَصْمِهِ لَمْ يُجْزِئْهُ الْيَمِينُ، وَكَذَلِكَ إذَا بَدَرَ بِالْيَمِينِ بِحُضُورِ خَصْمِهِ قَبْلَ أَنْ يَسْأَلَهُ ذَلِكَ فَإِنْ لَمْ يَرْضَ بِهَا لَمْ تُجْزِهِ: اُنْظُرْ (الْمُنْتَقَى) لِلْبَاجِيِّ (وَأَحْكَامَ ابْنِ سَهْلٍ).
مَسْأَلَةٌ:
وَمَنْ وَجَبَتْ لَهُ يَمِينٌ عَلَى غَيْرِهِ فَحَلَفَ لَهُ وَلَمْ يُشْهِدْ عَلَى يَمِينِهِ أَحَدًا ثُمَّ طَلَبَهُ بِالْيَمِينِ ثَانِيَةً وَأَنْكَرَ أَنْ يَكُونَ أَحْلَفَهُ، فَإِنَّ الطَّالِبَ يَحْلِفُ أَنَّهُ مَا أَحْلَفَهُ، فَإِذَا حَلَفَ وَجَبَتْ لَهُ الْيَمِينُ مِنْ (الْمُتَيْطِيَّةِ).
مَسْأَلَةٌ:
إذَا وَجَبَتْ الْيَمِينُ عَلَى امْرَأَةٍ وَقَالَ الْمُحَلِّفُ لَهَا: أَنَا طَالِبٌ مِنْهَا أَنْ تُحْضِرَ مَنْ يَعْرِفُ عَيْنَهَا فَإِنِّي أَتَوَقَّعُ أَنْ يَحْلِفَ لِي غَيْرُهَا، وَلَا تُوفِيَنِي حَقِّي، وَذَكَرَتْ الْمَرْأَةُ أَنَّهَا لَا تَجِدُ مَنْ يَعْرِفُ عَيْنَهَا فَمِنْ حَقِّ الْمُحَلِّفِ لَهَا أَنْ يُكَلِّفَهَا إحْضَارَ مَنْ يَعْرِفُ عَيْنَهَا؛ لِأَنَّ الْيَمِينَ عَلَيْهَا وَجَبَتْ فَمِنْ حَقِّ الْمُحَلِّفِ لَهَا أَنْ تُوفِيَهُ حَقَّهُ بِإِحْضَارِ مَنْ يَعْرِفُ عَيْنَهَا، قَالَ أَحْمَدُ بْنُ سَعِيدٍ الْهِنْدِيُّ: وَقَدْ نَزَلَتْ وَقِيلَ فِيهَا غَيْرُ هَذَا، وَأَنَّ عَلَى مَنْ يَسْتَحْلِفُهَا إحْضَارَ مَنْ يَعْرِفُ عَيْنَهَا، وَحَسْبُ الْمَرْأَةِ أَنْ تَقُولَ: أَنَا هِيَ حَتَّى يُثْبِتَ مَنْ يَسْتَحْلِفُهَا أَنَّهَا لَيْسَتْ تِلْكَ الْمَرْأَةَ، قَالَ: وَالْأَوَّلُ عِنْدِي أَصْوَبُ؛ لِأَنَّ مِنْ حَقِّ مَنْ يُحَلِّفُهَا أَنْ تُعَرِّفَهُ بِنَفْسِهَا. قَالَ الْمُتَيْطِيُّ: وَهَذَا الِاخْتِلَافُ إذَا لَمْ يَكُنْ الْمُدَّعِي يَعْرِفُهَا بِالْعَيْنِ وَالِاسْمِ، وَأَمَّا إنْ كَانَ يَعْرِفُهَا وَحَلَفَتْ بِمَحْضَرِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ وَحُضُورِهِ لِيَمِينِهَا وَاقْتِدَائِهِ لَهَا وَاعْتِرَافِهِ أَنَّهَا هِيَ الْمَطْلُوبَةُ بِالْحَقِّ فَلَا وَجْهَ لِلْخِلَافِ، وَأَيُّ شَيْءٍ يَبْقَى بَعْدَ هَذَا.
مَسْأَلَةٌ:
قَالَ ابْنُ أَبِي زَمَنِينَ فِي (الْمُقَرَّبِ): وَمَنْ وَجَبَتْ لَهُ عَلَى رَجُلٍ يَمِينٌ لِبَعْضِ مَا جَرَى بَيْنَهُمَا مِنْ الْمُعَامَلَاتِ فِي الْأَخْذِ وَالْإِعْطَاءِ، فَقَالَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ لِلْمُدَّعِي: اجْمَعْ مَطَالِبَكَ إنْ كُنْت تَزْعُمُ أَنَّ لَكَ عِنْدِي مَطْلَبًا غَيْرَ هَذَا الَّذِي تُرِيدُ إحْلَافِي عَلَيْهِ لِأَحْلِفَ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ يَمِينًا وَاحِدَةً، فَهُوَ مِنْ حَقِّ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، بِخِلَافِ مَنْ وَجَبَتْ لَهُ يَمِينٌ عَلَى صَاحِبِهِ بِسَبَبِ مِيرَاثٍ، فَقَالَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ لِلْمُدَّعِي: اجْمَعْ مَطَالِبَك قِبَلِي فِي هَذَا الْمِيرَاثِ لِأَحْلِفَ عَلَى ذَلِكَ كُلِّهِ يَمِينًا وَاحِدَةً لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْمِيرَاثَ لَا يُحَاطُ بِالْحُقُوقِ فِيهِ، قَالَ: وَعَلَى هَذَا جَرَتْ الْفُتْيَا، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي فَصْلِ الْجَوَابِ عَنْ الدَّعْوَى حُكْمُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَفِيهَا مِنْ الْخِلَافِ غَيْرُ هَذَا.
مَسْأَلَةٌ:
وَإِذَا ادَّعَى رَجُلٌ عَلَى رَجُلٍ بِحُقُوقٍ نَصَّهَا وَزَعَمَ أَنَّهُ لَا بَيِّنَةَ لَهُ فِي بَعْضِهَا وَأَنَّ لَهُ بَيِّنَةً عَلَى بَعْضِهَا، وَذَهَبَ إلَى اسْتِحْلَافِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فِيمَا لَا بَيِّنَةَ لَهُ فِيهِ، وَأَنَّهُ يُبْقِي عَلَى إقَامَةِ الْبَيِّنَةِ فِيمَا لَهُ فِيهِ بَيِّنَةٌ، فَإِنَّهُ إنْ الْتَزَمَ إنْ لَمْ تَقُمْ لَهُ بَيِّنَةٌ عَلَى مَا زَعَمَ أَنَّ لَهُ فِيهِ بَيِّنَةً، أَنْ لَا يَكُونَ لَهُ يَمِينٌ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، كَانَ لَهُ أَنْ يَسْتَحْلِفَهُ فِيمَا لَا بَيِّنَةَ لَهُ فِيهِ، فَإِنْ أَقَامَ بَيِّنَةً عَلَى الْبَاقِي مِنْ دَعْوَاهُ وَإِلَّا فَلَا يَمِينَ عَلَيْهِ، وَإِنْ لَمْ يَلْتَزِمْ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَسْتَعْجِلَ يَمِينَهُ فِيمَا لَا بَيِّنَةَ لَهُ عَلَيْهِ، وَيُؤَخِّرُ ذَلِكَ حَتَّى تَقُومَ لَهُ الْبَيِّنَةُ الَّتِي زَعَمَهَا عَلَى الْبَعْضِ، فَإِنْ أَقَامَهَا وَإِلَّا جَمَعَ دَعَاوِيَهُ وَحَلَفَ لَهُ عَلَى الْجَمِيعِ. مِنْ (الْوَثَائِقِ الْمَجْمُوعَةِ) فِي بَابِ الْحَمَالَةِ.
مَسْأَلَةٌ:
وَمِنْ الْعُتْبِيَّةِ مِنْ رِوَايَةِ عِيسَى وَأَصْبَغَ عَنْ ابْنِ الْقَاسِمِ: فِي الْمُدَّعِي يَقُولُ لِلْمُدَّعَى عَلَيْهِ: احْلِفْ وَابْرَأْ فَيَقُولُ لَهُ الْآخَرُ: بَلْ احْلِفْ أَنْتَ. وَخُذْ مَا ادَّعَيْت، فَإِذَا هَمَّ بِالْيَمِينِ بَدَا لِلْمُدَّعَى عَلَيْهِ، وَقَالَ لَمْ أَظُنَّكَ تَجْتَرِئُ عَلَى الْيَمِينِ، قَالَ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ وَلْيَحْلِفْ الْمُدَّعِي وَيَأْخُذْ حَقَّهُ كَانَ ذَلِكَ عِنْدَ سُلْطَانٍ أَوْ عِنْدَ غَيْرِ سُلْطَانٍ، وَقَدْ لَزِمَهُ ذَلِكَ.
مَسْأَلَةٌ:
إذَا وَجَبَتْ لِرَجُلٍ عَلَى امْرَأَةٍ يَمِينٌ وَهِيَ مِنْ أَهْلِ الْحِجَابِ وَوَجَبَتْ يَمِينٌ عَلَى الرَّجُلِ لَهَا فَذَهَبَتْ الْمَرْأَةُ إلَى أَنْ تَحْلِفَ لَيْلًا وَأَنْ تُحَلِّفَ الرَّجُلَ نَهَارًا فَقَالَ الرَّجُلُ أَخَافُ أَنْ أَحْلِفَ لَهَا نَهَارًا فَإِذَا كَانَ اللَّيْلُ نَكَلَتْ عَنْ الْيَمِينِ وَرُدَّتْ الْيَمِينَ عَلَيَّ، فَأَحْلِفُ مَرَّتَيْنِ مَرَّةً بِالنَّهَارِ وَمَرَّةً بِاللَّيْلِ، فَإِذَا أُلْزِمَتْ الْمَرْأَةُ أَنَّهَا لَا تَرُدُّ الْيَمِينَ حَلَفَ الرَّجُلُ لَهَا نَهَارًا وَحَلَفَتْ الْمَرْأَةُ لَيْلًا، وَهَذَا نَصٌّ فِي أَنَّ الْتِزَامَهَا لِعَدَمِ الرَّدِّ يَلْزَمُهَا.
مَسْأَلَةٌ:
إذَا وَجَبَتْ يَمِينٌ عَلَى رَجُلٍ فَأَرَادَ الطَّالِبُ تَأْخِيرَهَا وَأَرَادَ الْمَطْلُوبُ تَعْجِيلَهَا أَوْ بِالْعَكْسِ، فَتَعْجِيلُهَا أَوْجَبُ لِمَنْ طَلَبَ ذَلِكَ مِنْهَا، وَلَا تُؤَخَّرُ، نَقَلَهُ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ فِي بَعْضِ تَعَالِيقِهِ عَنْ ابْنِ الْجَرَّاحِ.

.فَصْلٌ فِي حُكْمِ الْيَمِينِ الْمَرْدُودَةِ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهَا:

وَفِي الْمُتَيْطِيَّةِ وَأَحْكَامِ ابْنِ سَهْلٍ مَنْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ يَمِينٌ فَرَدَّهَا عَلَى مَنْ طَلَبَهُ بِهَا بِمَحْضَرِهِ فَسَكَتَ الَّذِي رُدَّتْ عَلَيْهِ حِينَئِذٍ، وَمَضَى زَمَانٌ، ثُمَّ ذَهَبَ إلَى أَنْ يَحْلِفَ فَقَالَ الرَّادُّ: لَا أُمَكِّنُكَ الْآنَ مِنْ الْيَمِينِ، وَأَنَا أَحْلِفُ عَلَى إنْكَارِي دَعْوَاكَ، وَإِنَّمَا مَلَّكْتُكَ حِينَئِذٍ فَإِذَا لَمْ تَحْلِفْ وَطَالَ الزَّمَانُ فَالْيَمِينُ إنَّمَا بَقِيَتْ عَلَيَّ لَا عَلَيْكَ، وَالْحُكْمُ فِي ذَلِكَ أَنَّهُ إذَا رَدَّ الْيَمِينَ فَلَا رُجُوعَ لَهُ فِيهَا طَالَ الزَّمَانُ فِي ذَلِكَ أَوْ قَصُرَ، وَيَحْلِفُ الَّذِي رُدَّتْ عَلَيْهِ وَيَسْتَحِقُّ بِيَمِينِهِ مَا يَحْلِفُ عَلَيْهِ، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ وَعَامَّةِ أَصْحَابِهِ لَا أَعْلَمُ بَيْنَهُمْ فِيهِ اخْتِلَافًا.
مَسْأَلَةٌ:
وَفِي (الْمُغْرِبِ) لِابْنِ أَبِي زَمَنِينَ: وَمَنْ ادَّعَى عَلَى رَجُلٍ أَنَّ لَهُ عَلَيْهِ حَقًّا بِأَمْرٍ ذَكَرَهُ مِنْ مِيرَاثٍ أَوْ مُعَامَلَةٍ وَدَعَا إلَى إحْلَافِهِ، لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ إلَّا أَنْ يَنُصَّ عَلَى مَا ادَّعَى بِهِ عَلَيْهِ وَيَصِفُهُ كَيْمَا إنْ رُدَّتْ عَلَيْهِ الْيَمِينُ حَلَفَ عَلَى مَا وُصِفَ، قَالَ وَعَلَى هَذَا تَجْرِي الْفُتْيَا.
مَسْأَلَةٌ:
وَفِي الْمُتَيْطِيَّةِ وَمَنْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ يَمِينٌ فَرَدَّهَا عَلَى مَنْ وَجَبَتْ لَهُ عِنْدَ سُلْطَانٍ أَوْ غَيْرِهِ وَرَضِيَ بِأَنْ يَحْلِفَ صَاحِبُهُ وَيَغْرَمَ، فَلَمَّا جَاءَ مَقْطَعُ الْحَقِّ نَزَعَ عَنْ الرِّضَا وَنَدِمَ عَلَى ذَلِكَ، فَقَدْ لَزِمَهُ الرِّضَا، كَانَ عِنْدَ سُلْطَانٍ أَوْ غَيْرِهِ، قَالَ الشَّيْخُ أَبُو عِمْرَانَ فِي (مَسَائِلِهِ) وَهَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَهِيَ مَسْأَلَةُ الْمُدَوَّنَةِ فِيمَنْ قَامَ لَهُ شَاهِدٌ بِحَقٍّ فَرَدَّ الْيَمِينَ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ الرُّجُوعُ فِي ذَلِكَ.
مَسْأَلَةٌ:
قَالَ الْمُتَيْطِيُّ عَنْ أَبِي عِمْرَانَ: وَأَمَّا الْمُدَّعَى عَلَيْهِ يَلْتَزِمُ الْيَمِينَ ثُمَّ يُرِيدُ الرُّجُوعَ عَنْهَا إلَى إحْلَافِ الْمُدَّعِي فَذَلِكَ لَهُ، قَالَ وَقَدْ خَالَفَنِي فِي ذَلِكَ أَبُو الْقَاسِمِ بْنُ الْكَاتِبِ وَرَأَى أَنَّ ذَلِكَ يَلْزَمُهُ وَلَيْسَ لَهُ رَدُّ الْيَمِينِ وَالصَّوَابُ مَا قَدَّمْنَاهُ.
مَسْأَلَةٌ:
وَفِي وَثَائِقِ ابْنِ الْهِنْدِيِّ إذَا أَقَرَّ وَرَثَةٌ أَنَّ الْمِلْكَ الَّذِي بِأَيْدِيهِمْ حَبْسٌ عَلَيْهِمْ وَاتَّفَقُوا عَلَى وُجُوهِ مَصَارِفِهِ وَأَنْكَرَ بَعْضُهُمْ ذَلِكَ لَزِمَهُمْ الْإِقْرَارُ فِي حِصَصِهِمْ، وَعَلَى الْمُنْكِرِ الْيَمِينُ أَنَّهُ مَا يَعْرِفُ أَنَّ الْمُحْبِسَ حَبَسَهُ عَلَيْهِمْ وَلَيْسَ لَهُ رَدُّ الْيَمِينِ؛ لِأَنَّ الْحَبْسَ لَيْسَ كَالْمُطْلَقِ، وَلَا يَمْلِكُ مِلْكَ الْبَيْعِ مِنْ جِهَةِ مَصِيرِهِ إلَى الْأَعْقَابِ، وَالْمَرْجِعُ الَّذِي جَعَلَهُ الْمُحْبِسُ فَلَيْسَتْ يَمِينُ الْمُدَّعِي لِلْحَبْسِ إذَا رُدَّتْ عَلَيْهِ عَنْ نَفْسِهِ وَمَالِهِ بَلْ يَمِينُهُ مُنْقَسِمَةٌ عَلَى الْأَعْقَابِ، وَالْمَرْجِعِ وَلَيْسَ يَحْلِفُ أَحَدٌ عَنْ أَحَدٍ، وَلَوْ أَنَّهُ نَكَلَ إذَا رُدَّتْ الْيَمِينُ عَلَيْهِ لَمْ يَبْطُلْ الْحَبْسُ بِنُكُولِهِ، فَهَذِهِ وُجُوهٌ تَمْنَعُ مِنْ رَدِّ الْيَمِينِ فِي الْحَبْسِ.

.فَصْلٌ فِي جَمِيعِ الدَّعَاوَى فِي يَمِينٍ وَاحِدَةٍ وَمَا لابد فِيهِ مِنْ يَمِينَيْنِ:

مَسْأَلَةٌ:
فِي الْمَرْأَةِ تُثْبِتُ كَالِئَهَا عَلَى زَوْجِهَا الْمُتَوَفَّى عَنْهَا فَلَمَّا وَجَبَتْ عَلَيْهَا يَمِينُ الِاسْتِبْرَاءِ طَلَبَتْ أَنْ تَكُونَ يَمِينُهَا فِي الْكَالِئِ وَفِي جَمِيعِ دَعَاوَى الْوَرَثَةِ أَنَّ عِنْدَهُمْ بَيِّنَةً عَلَى دَعَاوِيهِمْ، فَإِنَّ الْقَاضِيَ يَنْظُرُ فِي ذَلِكَ، فَإِنْ كَانَ لَا يَرْجُو إثْبَاتَ بَيِّنَتِهِمْ حَلَفَهَا عَلَى الْكَالِئِ وَحْدَهُ وَكَلَّفَهُمْ الْبَيِّنَةَ عَلَى مَا زَعَمُوا قَالَ بَعْضُهُمْ: فَإِنْ عَجَزُوا عَنْهَا حَلَفَتْ يَمِينًا أُخْرَى عَلَى مَا بَقِيَ مِنْ الدَّعْوَى.
وَقَالَ بَعْضُهُمْ يَسْأَلُهُمْ الْقَاضِي عَنْ بَيِّنَتِهِمْ فَإِنْ ذَكَرُوا مَنْ يُرْجَى قَبُولُهُ نَظَرَ فِي قَوْلِهِمْ، وَإِنْ ذَكَرُوا مَنْ لَا يُرْجَى لَمْ يَلْتَفِتْ إلَى قَوْلِهِمْ وَحَلَّفَهَا عَلَى الْجَمِيعِ؛ لِأَنَّهُمْ يُرِيدُونَ الْإِضْرَارَ بِهَا.
وَقَالَ ابْنُ سَهْلٍ: جَمْعُ الدَّعَاوَى فِي يَمِينٍ وَاحِدَةٍ فِيهِ خِلَافٌ، وَاَلَّذِي جَرَى بِهِ الْعَمَلُ جَمْعُ الدَّعَاوَى فِي يَمِينٍ وَاحِدَةٍ إلَّا فِي يَمِينِ الرَّدِّ فَلَا تُجْمَعُ مَعَ غَيْرِهَا عَلَى مَا ذَهَبَ إلَيْهِ الشَّيْخُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَتَّابٍ. قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: فِي (مُفِيدِ الْحُكَّامِ) مِثَالُ ذَلِكَ أَنْ تَكُونَ الْيَمِينُ قَدْ وَجَبَتْ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ وَيَجِبُ لَهُ أَيْضًا الْيَمِينُ عَلَى الْمُدَّعِي فَيَرُدُّهَا عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، فَإِنَّ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ لَا يَجْمَعُ ذَلِكَ فِي يَمِينٍ وَاحِدَةٍ، ولابد مِنْ يَمِينَيْنِ مُفْتَرِقَتَيْنِ، وَحَكَى ذَلِكَ عَنْ شَيْخِهِ أَبِي الْمُطَرِّفِ، وَعَنْ الشُّيُوخِ قَالَ ابْنُ عَتَّابٍ: هِيَ لِمَالِكٍ فِي الْمُوَطَّأِ وَكِتَابِ مُحَمَّدٍ، وَبِهِ أَفْتَى الشُّيُوخُ عِنْدَنَا وَوَقَعَتْ فِي أَحْكَامِ ابْنِ زِيَادٍ وَفِي رَسْمِ الرُّهُونِ فِي الْعُتْبِيَّةِ نَحْوُ هَذَا فِي تَفْرِيقِ الْأَيْمَانِ فَانْظُرْهُ.
قَالَ ابْنُ سَهْلٍ وَسُئِلَ مَالِكٌ عَمَّنْ كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ امْرَأَتِهِ مُنَازَعَةٌ فِي بَيْتٍ وَكَانَتْ هِيَ بِنْتَ عَمِّهِ فَحَلَفَ بِطَلَاقِهَا أَلْبَتَّةَ مَا لَهَا فِيهِ حَقٌّ فَجَاءَتْ بِالْبَيِّنَةِ أَنَّهُ لِجَدِّهَا وَجَاءَ الرَّجُلُ بِالْبَيِّنَةِ أَنَّ أَبَاهُ كَانَ يَحُوزُهُ دُونَ إخْوَتِهِ وَيَسْكُنَهُ، وَجَاءَ بِشَاهِدٍ وَاحِدٍ، فَشَهِدَ أَنَّ أَبَاهُ كَانَ قَدْ اسْتَخْلَصَهُ مِنْ إخْوَتِهِ. قَالَ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: أَرَى أَنْ يَحْلِفَ بِاَللَّهِ الَّذِي لَا إلَهَ إلَّا هُوَ أَنَّ حَقَّهُ لَحَقٌّ وَمَا لَهَا فِيهِ حَقٌّ، وَأَنَّ الَّذِي حَلَفَ عَلَيْهِ مِنْ الطَّلَاقِ لَحَقٌّ وَيُخَلَّى بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا، وَهَذِهِ مِنْ قَوْلِ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ فِي جَمْعِ أَشْيَاءَ فِي يَمِينٍ وَاحِدَةٍ.
قَالَ ابْنُ الْفَخَّارِ: وَجْهُ الصَّوَابِ أَنَّ الدَّعَاوَى وَإِنْ كَثُرَتْ فَتَجْمَعُهَا يَمِينٌ وَاحِدَةٌ عِنْدَنَا وَإِنْ كَانَ النَّاسُ قَدْ تَنَازَعُوا إذَا كَثُرَتْ الدَّعَاوَى، هَلْ يَجْمَعُهَا يَمِينٌ وَاحِدَةٌ أَمْ لَا؟ وَنَقَلَ ابْنُ سَهْلٍ عَنْ أَصْبَغَ تَفْرِيقَ الْأَيْمَانِ، وَكَذَلِكَ نَقَلَهُ عَنْ مُطَرِّفٍ فِيمَنْ ادَّعَى دَابَّةً أَوْ عَبْدًا أَوْ ثَوْبًا بِيَدِ رَجُلٍ لِابْنِهِ الْغَائِبِ أَوْ أَبِيهِ أَوْ جَارِهِ عَلَى وَجْهِ الْحِسْبَةِ وَالْحَبْسِ عَلَيْهِمْ وَكُلُّهُمْ غَائِبٌ، فَإِنَّ الْقَائِمَ فِي ذَلِكَ يُمَكَّنُ مِنْ إيقَاعِ الْبَيِّنَةِ؛ لِأَنَّهَا أَشْيَاءُ تَحُولُ وَتَفُوتُ، فَإِذَا أَتَى الْغَائِبُ وَقَدْ كَانَتْ قَامَتْ لَهُ بَيِّنَةٌ عَادِلَةٌ حَلَفَ بِاَللَّهِ مَا بَاعَ وَلَا وَهَبَ وَلَا خَرَجَ عَنْ مِلْكِهِ بِوَجْهِ حَقٍّ، وَإِنْ كَانَ إنَّمَا قَامَ لَهُ شَاهِدٌ وَاحِدٌ حَلَفَ مَعَ شَاهِدِهِ أَنَّ حَقَّهُ لَحَقٌّ، وَحَلَفَ أَيْضًا أَنَّهُ مَا بَاعَ وَلَا وَهَبَ وَلَا خَرَجَ عَنْ يَدِهِ بِوَجْهِ حَقٍّ، فَجَعَلَ عَلَيْهِ يَمِينَيْنِ، وَذَكَرُوا مِنْ الْمَسَائِلِ الَّتِي تُفَرَّقُ فِيهَا الْأَيْمَانُ عِدَّةَ مَسَائِلَ.
مَسْأَلَةٌ:
وَإِذَا شَهِدَ رَجُلٌ عَلَى آخَرَ أَنَّهُ حَلَفَ بِطَلَاقِ زَوْجَتِهِ أَنْ لَا يَدْخُلَ الدَّارَ وَدَخَلَهَا وَشَهِدَ عَلَيْهِ آخَرُ أَنَّهُ حَلَفَ أَنْ لَا يَرْكَبَ الدَّابَّةَ وَرَكِبَهَا فَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي أَصْلِ الشَّهَادَةِ، فَعَلَيْهِ يَمِينَانِ يَحْلِفُ أَنْ مَا رَكِبَ الدَّابَّةَ فَيَدْفَعُ عَنْهُ شَهَادَةَ الشَّاهِدِ الْوَاحِدِ وَيَحْلِفُ أَنَّهُ مَا دَخَلَ الدَّارَ فَيَدْفَعُ عَنْهُ شَهَادَةَ الشَّاهِدِ عَلَى دُخُولِهَا، مِنْ (مُخْتَصَرِ الْوَقَارِ الْكَبِيرِ)، وَإِذَا قُلْنَا بِتَفْرِيقِ الْأَيْمَانِ فَقَدْ يَحْلِفُ ثَلَاثَةَ أَيْمَانٍ وَأَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ. فَمِنْ ذَلِكَ مَا ذَكَرَهُ أَبُو إبْرَاهِيمَ الْأَعْرَجُ فِي طُرَرِ التَّهْذِيبِ فِي كِتَابِ الْعُيُوبِ قَالَ: إذَا قَامَ رَجُلٌ بِعَيْبٍ فِي سِلْعَةٍ وَاَلَّذِي بَاعَهَا غَائِبٌ وَرَفَعَ ذَلِكَ إلَى الْحَاكِمِ، فَإِنَّهُ يُكَلِّفُهُ إثْبَاتَ سَبْعَةِ أَشْيَاءَ: الِابْتِيَاعِ، وَنَقْدِ الثَّمَنِ، وَقَدْرِهِ، وَأَمَدِ التَّبَايُعِ، وَإِثْبَاتِ الْعَيْبِ الَّذِي يُوجِبُ الرَّدَّ وَهُوَ كُلُّ مَا يُنْقِصُ الثَّمَنَ، وَأَنَّهُ أَقْدَمُ مِنْ أَمَدِ التَّبَايُعِ، وَإِثْبَاتِ الْغَيْبَةِ بِحَيْثُ لَا يُعْلَمُ أَبَعِيدَةٌ أَمْ قَرِيبَةٌ، ثُمَّ يُكَلِّفُهُ ثَلَاثَةَ أَيْمَانٍ: أَنَّهُ بَيْعٌ صَحِيحٌ، وَأَنَّهُ لَمْ يَتَبَرَّأْ مِنْهُ وَمَا أَعْلَمُهُ، وَلَا بَيِّنَةَ لَهُ، وَأَنَّهُ لَمَّا اطَّلَعَ بَعْدَ الْبَيْعِ عَلَيْهِ مَا رَضِيَ لَهُ، وَعَلَى الْقَوْلِ الْآخَرِ فَلَهُ جَمْعُ ذَلِكَ فِي يَمِينٍ وَاحِدَةٍ.
مَسْأَلَةٌ:
وَمِنْ الْمَوَاضِعِ الَّتِي ذَكَرُوا أَنَّهُ يَلْزَمُ فِيهَا بِيَمِينَيْنِ مَا ذَكَرَهُ الشَّارْمَسَاحِيُّ فِي (شَرْحِ الْجَلَّابِ) قَالَ إذَا أَحْضَرَ الْمُدَّعِي خَطَّ الْمُقِرِّ، وَشَهْد لَهُ شَاهِدٌ بِأَنَّ هَذَا خَطُّ الْمُقِرِّ فَفِيهَا رِوَايَتَانِ: إحْدَاهُمَا أَنَّهُ يَحْلِفُ مَعَ شَاهِدِهِ وَيَسْتَحِقُّ، قَالَ وَعَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ فَيَحْلِفُ بِيَمِينَيْنِ إحْدَاهُمَا مَعَ شَاهِدِهِ وَأُخْرَى يَكْمُلُ بِهَا سَبَبٌ، فلابد مِنْ يَمِينَيْنِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ عَلَى جِهَتَيْنِ مُخْتَلِفَتَيْنِ.

.فَصْلٌ فِي الدَّعَاوَى الَّتِي لَا تُوجِبُ الْيَمِينَ وَحُكْمِ الْخُلْطَةِ:

قَالَ الْمُتَيْطِيُّ: اُخْتُلِفَ فِي الدَّعْوَى إذَا لَمْ تَتَحَقَّقْ فَظَاهِرُ مَسْأَلَةِ النِّكَاحِ الثَّانِي مِنْ الْمُدَوَّنَةِ أَنَّ الْيَمِينَ لَا تَجِبُ إلَّا بِتَحْقِيقِ الدَّعْوَى؛ لِأَنَّهُ قَالَ إذَا وَقَعَ الِاخْتِلَافُ فِي الصَّدَاقِ بَعْدَ الْمَوْتِ فَإِنْ كَانَ قَبْلَ الْبِنَاءِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمَرْأَةِ أَوْ وَرَثَتِهَا، وَإِنْ كَانَ بَعْدَ الْبِنَاءِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الزَّوْجِ أَوْ وَرَثَتِهِ، غَيْرَ أَنَّ الْيَمِينَ لَا تَجِبُ عَلَى وَرَثَتِهِ إلَّا أَنْ تَدَّعِيَ الْمَرْأَةُ أَوْ وَرَثَتُهَا عَلَيْهِمْ الْعِلْمَ بِأَنَّهُ لَمْ يَدْفَعْ شَيْئًا فَتَجِبُ الْيَمِينُ فِي ذَلِكَ عَلَيْهِمْ. وَلَا يَمِينَ عَلَى غَائِبٍ وَلَا عَلَى مَنْ يُعْلَمُ أَنَّهُ لَا عِلْمَ عِنْدَهُ فَلَمْ يُوجِبْ عَلَى وَرَثَةِ الزَّوْجِ الْيَمِينَ حَتَّى يَدَّعِيَ عَلَيْهِمْ وَرَثَةُ الزَّوْجَةِ الْعِلْمَ، وَكَذَلِكَ مَذْهَبُهُ فِي كِتَابِ التَّدْلِيسِ فِي الدَّابَّةِ إذَا رُدَّتْ بِعَيْبٍ، فَطَلَبَ الْبَائِعُ يَمِينَ الْمُشْتَرِي أَنَّهُ لَمْ يَسْتَخْدِمْهَا بَعْدَ مَعْرِفَتِهِ بِالْعَيْبِ، فَقَالَ: لَا يَمِينَ عَلَيْهِ إلَّا بِتَحْقِيقِ الدَّعْوَى، أَوْ يَدَّعِي أَنَّهُ أَخْبَرَهُ بِذَلِكَ مُخْبِرٌ، قَالَ ابْنُ أَبِي زَيْدٍ يُرِيدُ مُخْبِرُ صِدْقٍ، فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى إسْقَاطِ الْيَمِينِ.
وَأَمَّا مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا تَجِبُ بِغَيْرِ تَحْقِيقِ الدَّعْوَى فَمَا وَقَعَ فِي كِتَابِ الْوَكَالَةِ فِي مَسْأَلَةِ الْوَكِيلِ، إذَا قَبَضَ الدَّرَاهِمَ وَلَمْ يَعْرِفْهَا وَكَذَلِكَ مَسْأَلَةٌ فِي كِتَابِ الشُّفْعَةِ فِي الْمَوْهُوبِ لَهُ الشِّقْصُ أَوْ الْمُتَصَدَّقِ بِهِ عَلَيْهِ فَقَالَ: أَخَافُ أَنَّكَ ابْتَعْتَهُ مِنْهُ أَوْ عَاوَضْتَهُ سِرًّا أَوْ أَرَدْتُمَا قَطْعَ الشُّفْعَةِ بِمَا أَظْهَرْتُمَا فَاحْلِفْ لِي. فَقَالَ: إنْ كَانَ مِمَّنْ يُتَّهَمُ حَلَّفَهُ وَإِلَّا لَمْ يُحَلِّفْهُ فَأَوْجَبَ الْيَمِينَ هُنَا مَعَ عَدَمِ تَحْقِيقِ الدَّعْوَى.
مَسْأَلَةٌ:
قَالَ الرُّعَيْنِيُّ فِي كِتَابِ (الدَّعْوَى وَالْإِنْكَارِ) وَلَا تَجِبُ عَلَى أَحَدٍ يَمِينٌ بِدَعْوَى حَدٍّ مِنْ الْحُدُودِ فِي قَذْفٍ وَلَا فِرْيَةٍ وَلَا مُشَاتَمَةٍ وَلَا تَعْرِيضٍ يَجِبُ بِهِ حَدٌّ وَلَا تَعْزِيرٌ، وَلَا بِدَعْوَى قِصَاصٍ فِي قَتْلٍ وَلَا جُرْحٍ عَمْدًا وَلَا بِدَعْوَى الدِّيَةِ بِقَتْلِ الْخَطَأِ، وَلَا جِرَاحِ الْخَطَأِ، وَلَا بِدَعْوَى حَوَالَةٍ وَلَا حَمَالَةٍ وَلَا كَفَالَةٍ، وَلَا بِدَعْوَى نِكَاحٍ، وَلَا بِدَعْوَى عَتَاقَةٍ، وَلَا بِتَدْبِيرٍ، وَلَا بِدَعْوَى أَمَةٍ لِلْوِلَادَةِ، وَالسَّيِّدُ مُنْكِرٌ لِوَطْئِهَا، وَلَا بِدَعْوَى وِرَاثَةٍ وَلَا بِدَعْوَى نَسَبٍ وَلَا وَلَاءٍ وَلَا قَرَابَةٍ، كَانَتْ الدَّعْوَى مِنْ قِبَلِ الْمُدَّعِي أَوْ مِنْ قِبَلِ أَبِيهِ أَوْ جَدِّهِ أَوْ أَحَدٍ مِنْ ذَوِي قَرَابَتِهِ، وَلَا تَجِبُ بِدَعْوَى طَلَاقٍ وَلَا بِتَخْيِيرٍ وَلَا تَمْلِيكٍ وَلَا خُلْعٍ وَلَا مُبَارَاةٍ، وَلَا بِدَعْوَى غَصْبٍ عَلَى مِنْ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ ذَلِكَ، وَلَا بِدَعْوَى سَرِقَةٍ عَلَى مَنْ لَمْ يَشْتَهِرْ بِهَا وَلَا عُرِفَ أَنَّهُ ذَهَبَ لِلْمُدَّعِي شَيْءٌ إلَّا بِقَوْلِهِ، وَلَا بِدَعْوَى امْرَأَةٍ عَلَى رَجُلٍ صَالِحٍ أَنَّهُ غَصَبَهَا نَفْسَهَا، وَلَوْ جَاءَتْ تُدْمِي، وَلَا يَمِينَ بِدَعْوَى شَيْءٍ مِمَّا ذَكَرْنَاهُ.
تَنْبِيهٌ:
نَظَرُ قَوْلِ الرُّعَيْنِيِّ وَلَا بِدَعْوَى كَفَالَةٍ فَفِي الْمُدَوَّنَةِ عَنْ ابْنِ الْقَاسِمِ إذَا ادَّعَى رَجُلٌ عَلَى رَجُلٍ كَفَالَةً، فَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: لابد مِنْ الْخُلْطَةِ، قَالَ ابْنُ رَاشِدٍ يُرِيدُ خُلْطَةَ صُحْبَةٍ وَمُؤَاخَاةٍ لَا خُلْطَةَ مُبَايَعَةٍ، قَالَ، ابْنُ مُحْرِزٍ ظَاهِرُ الْمُدَوَّنَةِ أَنَّ الْخُلْطَةَ تُعْتَبَرُ بِصُحْبَةِ مُدَّعِي الدَّيْنِ، وَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ الْحَمَالَةَ، وَالصَّوَابُ عِنْدِي أَنَّهُ يُرَاعَى ذَلِكَ مِنْ الْغَرِيمِ وَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ الْحَمَالَةَ، وَوَجْهُ ابْنِ يُونُسَ ظَاهِرُ الْمُدَوَّنَةِ بِأَنَّ الَّذِي لَهُ الدَّيْنُ يَقُولُ: إنَّمَا وَثِقْت بِمُبَايَعَةِ مَنْ لَا أَعْرِفُ لِكَفَالَتِكَ إيَّاهُ، فَلِذَلِكَ تَوَجَّهَتْ لَهُ عَلَيْهِ الْيَمِينُ.
وَقَالَ أَبُو عَمْرِو بْنِ الْحَاجِبِ كُلُّ دَعْوًى لَا تَثْبُتُ إلَّا بِشَاهِدَيْنِ فَلَا يَمِينَ بِمُجَرَّدِهَا وَلَا تُرَدُّ كَالْقَتْلِ الْعَمْدِ وَالطَّلَاقِ وَالْعِتْقِ وَالنَّسَبِ وَالْوَلَاءِ وَالرَّجْعَةِ وَيَلْحَقُ بِذَلِكَ الْإِسْلَامُ وَالرِّدَّةُ وَالْكِتَابَةُ وَالتَّدْبِيرُ وَالْبُلُوغُ وَالْجَرْحُ وَالتَّعْدِيلُ وَالشُّرْبُ وَالْحِرَابَةُ وَالشَّرِكَةُ وَالْإِحْلَالُ وَالْإِحْصَانُ، وَكَذَلِكَ الْوَكَالَةُ وَالْوَصِيَّةُ عِنْدَ أَشْهَبَ، فَهَذِهِ الْمَوَاضِعُ مَعَ مَا ذَكَرَهُ الرُّعَيْنِيُّ لَا يَمِينَ بِمُجَرَّدِهَا.
وَيَلْحَقُ بِذَلِكَ مَسَائِلُ: مِنْهَا: مَنْ ادَّعَى عَلَى رَجُلٍ أَنَّهُ بَاعَ سِلْعَةً فَأَنْكَرَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فَلَيْسَ لِلْمُدَّعِي أَنْ يُحَلِّفَهُ.
وَمِنْهَا: لَوْ ادَّعَى عَلَى رَجُلٍ أَنَّهُ اشْتَرَى مِنْهُ سِلْعَةً فَلَا يَمِينَ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ الشِّرَاءَ.
وَمِنْهَا لَوْ ادَّعَى عَلَيْهِ أَنَّهُ أَشْرَكَهُ فِيهَا أَوْ وَلَّاهُ إيَّاهَا فَكَمَا تَقَدَّمَ، أَمَّا دَعْوَى الْإِقَالَةِ فَتَجِبُ فِيهَا الْيَمِينُ، قَالَ ابْنُ سَهْلٍ: وَكَانَ ابْنُ عَتَّابٍ يَقُولُ: لَا تَجِبُ الْيَمِينُ بِدَعْوَى الْإِقَالَةِ إلَّا أَنْ يَأْتِيَ بِشُبْهَةٍ تَقْوَى بِهَا دَعْوَاهُ، وَبِهِ كَانَ يُفْتَى.
وَمِنْهَا أَنَّ مَنْ قَامَتْ عَلَيْهِ بَيِّنَةٌ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُحَلِّفَ الْمُدَّعِيَ مَا لَمْ يَتَقَدَّمْ الدَّعْوَى الصَّحِيحَةَ بَيْعٌ أَوْ إبْرَاءٌ قَالَهُ ابْنُ شَاسٍ.
وَمِنْهَا أَنَّ مَنْ بَاعَ سِلْعَةً لِرَجُلٍ أَوْ اشْتَرَى لِرَجُلٍ سِلْعَةً وَزَعَمَ أَنَّهُ وَكِيلٌ فِي الصُّورَتَيْنِ وَأَنْكَرَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ الْوَكَالَةَ فَلَا يَمِينَ عَلَيْهِ.
وَمِنْهَا أَنَّ مَنْ اشْتَرَى عَبْدًا أَوْ دَابَّةً وَقَالَ لِلْبَائِعِ احْلِفْ لِي أَنَّهُ مَا لَهُ عَيْبٌ تَعْلَمُهُ وَلَا كَتَمْتَهُ، فَلَيْسَ ذَلِكَ لَهُ.
وَمِنْهَا: إذَا ظَهَرَ بِالْعَبْدِ أَوْ الدَّابَّةِ عَيْبٌ قَدِيمٌ فَوَجَبَ بِهِ الرَّدُّ فَقَالَ لِلْمُشْتَرِي احْلِفْ أَنَّكَ مَا رَضِيتَهُ بَعْدَ عِلْمِكَ، بِهِ، فَلَا يَمِينَ عَلَيْهِ بِقَوْلِ الْبَائِعِ إلَّا أَنْ يَقُولَ أَخْبَرَنِي مُخْبِرُ صِدْقٍ أَنَّكَ رَضِيتَهُ بَعْدَ الْعِلْمِ فَيُنْكِرُ، فَتَجِبُ عَلَيْهِ الْيَمِينُ.
وَمِنْهَا الرَّجُلُ يَشْتَرِي الْعَبْدَ فَيَأْبَقُ فَيَقُولُ لِلْبَائِعِ: احْلِفْ أَنَّهُ مَا أَبَقَ عِنْدَكَ فَلَا يَمِينَ عَلَيْهِ، إلَّا أَنْ يَقُولَ أَخْبَرَنِي مُخْبِرُ صِدْقٍ أَنَّهُ أَبَقَ عِنْدَك فَحِينَئِذٍ يَحْلِفُ، وَغَيْرُ ابْنِ الْقَاسِمِ يَرَى عَلَيْهِ الْيَمِينَ إذَا أَبَقَ؛ لِأَنَّهُ عَيْبٌ قَدْ ظَهَرَ.
وَمِنْهَا: إذَا اشْتَرَى عَبْدٌ أَوْ يَتِيمٌ سِلْعَةً أَوْ بَاعَهَا فَأَرَادَ السَّيِّدُ أَوْ الْوَصِيُّ فَسْخَ ذَلِكَ فَأَرَادَ الْمُشْتَرِي مِنْهُمَا أَوْ الْبَائِعُ أَنْ يَحْلِفَ السَّيِّدُ وَالْوَصِيُّ أَنَّهُمَا مَا أَذِنَا لَهُمَا فِي ذَلِكَ، فَلَيْسَ لَهُ ذَلِكَ مِنْ كِتَابِ (الرُّعَيْنِيِّ).
وَمِنْهَا لَوْ ادَّعَى رَجُلٌ عَلَى رَجُلٍ حَقًّا مِنْ شَرِكَةٍ فَأَنْكَرَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ الشَّرِكَةَ فَلَا يَمِينَ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، إلَّا أَنْ يُقِرَّ بِالشَّرِكَةِ، أَوْ تَقُومَ بِذَلِكَ الْبَيِّنَةُ فَيَحْلِفَ عَلَى إبْطَالِ دَعْوَى الْمُدَّعِي.
وَمِنْهَا إذَا ادَّعَى رَجُلٌ عَلَى صَانِعٍ أَنَّهُ دَفَعَ إلَيْهِ شَيْئًا لِيَصْنَعَهُ أَيَّ الصِّنَاعَاتِ كَانَتْ، صَبَّاغًا أَوْ خَيَّاطًا أَوْ غَيْرَهُمَا مِنْ جَمِيعِ الصِّنَاعَاتِ، وَأَنْكَرَ الْآخَرُ أَنْ يَكُونَ قَبَضَ مِنْهُ شَيْئًا فَعَلَى الْمُدَّعِي الْبَيِّنَةُ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ بَيِّنَةٌ وَسَأَلَ الْحَاكِمَ أَنْ يَحْلِفَ لَهُ الصَّانِعُ عَلَى دَعْوَاهُ فَلَيْسَ لَهُ ذَلِكَ، إلَّا أَنْ تَقُومَ بَيِّنَةٌ يَشْهَدُونَ أَنَّ الْمُدَّعِيَ يُعَامَلُ عَلَيْهِ فِي مِثْلِ تِلْكَ الصِّنَاعَةِ الَّتِي ادَّعَى، فَحِينَئِذٍ تَجِبُ الْيَمِينُ، فَإِنْ حَلَفَ بَرِئَ وَإِنْ نَكَلَ حَلَفَ الْمُدَّعِي وَغَرِمَ الصَّانِعُ، وَإِنْ نَكَلَ الْمُدَّعِي عَنْ الْيَمِينِ فَلَا شَيْءَ لَهُ وَلَا تُرَدُّ الْيَمِينُ عَلَى الصَّانِعِ.
تَنْبِيهٌ:
ظَاهِرُ هَذَا خِلَافُ مَا سَيَأْتِي فِي كَلَامِ الرُّعَيْنِيِّ أَنَّ الصُّنَّاعَ تَجِبُ عَلَيْهِمْ الْيَمِينُ دُونَ ثُبُوتِ خُلْطَةٍ، وَكَذَا فِي كَلَامِ الْمُتَيْطِيِّ فِي تَوَجُّهِ الْيَمِينِ عَلَى الصُّنَّاعِ فِيمَا اُدُّعِيَ بِهِ عَلَيْهِمْ وَإِنْ لَمْ تَثْبُتْ الْخُلْطَةُ فَتَأَمَّلْهُ.
وَمِنْهَا إذَا ادَّعَى رَجُلٌ أَنَّهُ أَكْرَاهُ دَارِهِ أَوْ حَانُوتَهُ أَوْ حَمَّامَهُ أَوْ رَحَاهُ وَدَابَّتَهُ فَأَنْكَرَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ ذَلِكَ، فَعَلَى الْمُدَّعِي الْبَيِّنَةُ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ بَيِّنَةٌ فَلَا يَمِينَ عَلَى رَبِّ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ، إلَّا أَنْ يَكُونَ رَبُّ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ قَدْ أَوْقَفَهَا لِذَلِكَ، أَوْ يَكُونَ هَذَا الْمُدَّعِي مِمَّنْ عُلِمَ أَنَّهُ قَدْ عَامَلَهُ بِذَلِكَ، أَوْ كَانَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ مِمَّنْ يُعْرَفُ بِالْكِرَاءِ لِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ وَتَقُومُ عَلَى ذَلِكَ بَيِّنَةٌ أَوْ إقْرَارٌ، فَإِذَا ثَبَتَ ذَلِكَ وَجَبَتْ الْيَمِينُ عَلَى الْمُنْكِرِ مِنْهُمَا رَبِّ الدَّارِ، أَوْ الْمُسْتَأْجِرِ، أَوْ صَاحِبِ الدَّابَّةِ.
وَمِنْهَا: لَوْ ادَّعَى عَلَى رَجُلٍ أَنَّهُ عَاجَلَهُ عَلَى الْقِرَاضِ فَأَنْكَرَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ كَانَ الْعَامِلَ أَوْ رَبَّ الْمَالِ، فَلَيْسَ عَلَى الْمُدَّعِي لِذَلِكَ بَيِّنَةٌ وَلَا عَلَى الْمُنْكِرِ يَمِينٌ؛ لِأَنَّهُمَا لَمْ يَتَصَادَقَا عَلَى ذَلِكَ.
وَمِنْهَا: إذَا ادَّعَى عَلَى رَجُلٍ أَنَّهُ سَاقَاهُ عَلَى حَوَائِطِهِ وَأَنْكَرَ ذَلِكَ الْآخَرُ، فَعَلَى الْمُدَّعِي الْبَيِّنَةُ لَا يَمِينَ عَلَى الْمُنْكِرِ، إلَّا أَنْ تَقُومَ بَيِّنَةٌ أَنَّهُمَا تَسَاوَمَا عَلَى ذَلِكَ قَبْلَ هَذَا، أَوْ يُقِرَّانِ بِذَلِكَ، فَحِينَئِذٍ تَجِبُ الْيَمِينُ عَلَى الْمُنْكِرِ مِنْهُمَا، فَإِنْ حَلَفَ بَرِئَ، وَإِنْ نَكَلَ حَلَفَ الْآخَرُ، وَتَثْبُتُ الْمُسَاقَاةُ وَإِنْ نَكَلَا جَمِيعًا فُسِخَتْ، وَهَذَا بَابٌ وَاسِعٌ وَسَيَأْتِي كَثِيرٌ مِنْهُ فِي بَابِ الْقَضَاءِ بِقَوْلِ الْمُدَّعِي وَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ.

.فَصْلٌ فِي الْخُلْطَةِ وَمَا يُوجِبُهَا وَمَا تَجِبُ فِيهِ الْيَمِينُ بِغَيْرِ خُلْطَةٍ:

وَفِي كِتَابِ (الدَّعْوَى وَالْإِنْكَارِ) لِلرُّعَيْنِيِّ: وَإِذَا أَنْكَرَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ دَعْوَى الْمُدَّعِي وَلَمْ يَكُنْ لِلْمُدَّعِي بَيِّنَةٌ عَلَى أَصْلِ حَقِّهِ، وَلَا أَقَرَّ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِخُلْطَةِ الْمُدَّعِي، فَاَلَّذِي يُوجِبُ الْيَمِينَ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ أَنْ يَشْهَدَ عَدْلَانِ حُرَّانِ لَا مَدْفَعَ لِلْمُدَّعَى عَلَيْهِ فِيهِمَا، فَيَقُولَانِ: عَرَفْنَا هَذَيْنِ الشَّخْصَيْنِ يَتَبَايَعَانِ مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا، وَلَمْ نَعْلَمْ بَيْنَهُمَا مُفَاصَلَةً مُنْذُ عَرَفْنَاهُمَا شَرِيكَيْنِ، وَلَا نَعْلَمُ عَلَامَ افْتَرَقَا، أَوْ أَنَّهُمَا كَانَا مُتَقَارِضَيْنِ أَوْ مُتَسَاقِيَيْنِ، أَوْ أَنَّ أَحَدَهُمَا أَجِيرٌ لِصَاحِبِهِ أَوْ آجَرَ مِنْهُ عَبْدَهُ أَوْ دَارِهِ أَوْ دَابَّتَهُ، أَوْ كَانَ أَحَدُهُمَا صَانِعًا أَوْ صَبَّاغًا أَوْ خَيَّاطًا أَوْ صَائِغًا أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ مِنْ جَمِيعِ الصِّنَاعَاتِ وَالْأَكْرِيَةِ وَالْإِجَارَاتِ، فَإِذَا شَهِدَ الشَّاهِدَانِ بِهَذَا أَوْجَبْت الْيَمِينَ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، فَإِنْ حَلَفَ بَرِئَ وَإِنْ نَكَلَ رُدَّتْ الْيَمِينُ عَلَى الْمُدَّعِي، وَإِنْ لَمْ يَطْلُبْ ذَلِكَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ نَبَّهَهُ الْحَاكِمُ عَلَى ذَلِكَ، فَإِنْ حَلَفَ الْمُدَّعِي أَخَذَ، وَإِنْ نَكَلَ بَطَلَتْ دَعْوَاهُ.
تَنْبِيهٌ:
وَفَائِدَةُ قَوْلِهِمْ أَنَّهُ بَايَعَهُ مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا، أَنَّهُ لَوْ بَايَعَهُ مَرَّةً بِالنَّقْدِ، وَقَبَضَ الثَّمَنَ وَتَفَاصَلَا فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يَكُونُ خُلْطَةً؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَبْقَ بَيْنَهُمَا بَقِيَّةٌ تُوجِبُ الْيَمِينَ، ثُمَّ حَيْثُ اعْتَبَرْنَا الْخُلْطَةَ فَإِنَّمَا نَعْتَبِرُهَا فِيمَا كَانَ مِنْ الدَّعَاوَى الْمُشْبِهَةِ عُرْفًا، فَأَمَّا مَا يُشْبِهُ مِنْ الدَّعَاوَى فَسَيَأْتِي ذِكْرُهُ قَرِيبًا. وَيُعْقَدُ فِي إثْبَاتِ الْخُلْطَةِ: شَهِدَ مَنْ يُسَمَّى أَسْفَلَ هَذَا الْعَقْدِ مِنْ الشُّهَدَاءِ أَنَّهُمْ يَعْرِفُونَ فُلَانًا وَفُلَانًا مَعْرِفَةً صَحِيحَةً تَامَّةً بِعَيْنِهِمَا وَأَسَامِيهِمَا، وَيَعْرِفُونَ فُلَانًا مُخَالِطًا لِفُلَانِ بْنِ فُلَانٍ وَمُدَاخِلًا لَهُ مِنْ كَذَا وَكَذَا عَامًا، وَلَا يَعْلَمُونَ ذَلِكَ انْقَطَعَ بَيْنَهُمَا فِي عِلْمِهِمْ إلَى حِينِ إيقَاعِ شَهَادَتِهِمْ فِي تَارِيخِ كَذَا، وَيُذْكَرُ فِيهِ تَعْرِيفُ الشَّاهِدَيْنِ بِهِمَا إنْ لَمْ يَكُنْ الْقَاضِي يَعْرِفُهُمَا، وَفَائِدَةُ التَّحْدِيدِ بِالتَّارِيخِ أَنْ تَكُونَ الدَّعْوَى دَاخِلَةً فِي مُدَّةِ التَّحْدِيدِ، فَلَوْ كَانَتْ قَبْلَهَا لَمْ تَجِبْ الْيَمِينُ إلَّا بِثُبُوتِ الْخُلْطَةِ.
مَسْأَلَةٌ:
قَالَ ابْنُ الْهِنْدِيِّ فِي وَثَائِقِهِ: وَقَدْ رَأَيْت بَعْضَ مَنْ كَانَ يُقْتَدَى بِهِ وَهُوَ الْفَقِيهُ أَبُو الْعَبَّاسِ أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ اللُّؤْلُؤِيُّ يَتَوَسَّطُ فِي إثْبَاتِ الْخُلْطَةِ، فَيَرَى أَنَّهُ إذَا ادَّعَى الْإِشْكَالَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ دَعَاوَى تُوجِبُ الْأَيْمَانَ فَإِنَّهَا تَجِبُ، وَإِذَا ادَّعَى عَلَى الرَّجُلِ الْعَدْلِ الْمُبَرِّزِ مَنْ لَيْسَ مِنْ شَكْلِهِ وَلَا نَمَطِهِ لَمْ تَجِبْ لَهُ الْيَمِينُ عَلَيْهِ إلَّا بِثُبُوتِ الْخُلْطَةِ.
مَسْأَلَةٌ:
وَفِي (الْمُتَيْطِيَّةِ) وَفَسَّرَ أَصْبَغُ الْخُلْطَةَ فَلَمْ يَرَ الَّذِينَ يُصَلُّونَ فِي مَسْجِدٍ وَاحِدٍ وَلَا الْجُلَسَاءَ فِي الْأَسْوَاقِ وَالْجِيرَانَ خُلَطَاءَ، وَلَمْ يَرَهَا إلَّا بِتَكْرَارِ الْمُبَايَعَةِ، وَأَنْ يَبِيعَ مِنْهُ بِالنَّسِيئَةِ، وَقَدْ تُقَامُ فَائِدَةُ اشْتِرَاطِ تَكْرَارِ الْمُبَايَعَةِ، وَهِيَ الْفَائِدَةُ أَيْضًا فِي اشْتِرَاطِ النَّسِيئَةِ.
تَنْبِيهٌ:
وَوَقَعَ فِي كَلَامِ ابْنِ رُشْدٍ التَّفْرِقَةُ بَيْنَ خُلْطَةِ الْمُبَايَعَةِ وَبَيْنَ خُلْطَةِ الْمُصَاحَبَةِ وَالْمُؤَاخَاةِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ التَّنْبِيهُ عَلَى ذَلِكَ عَقِيبَ كَلَامِ الرُّعَيْنِيِّ فِي الدَّعَاوَى الَّتِي لَا تُوجِبُ الْيَمِينَ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ.
مَسْأَلَةٌ:
وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ عَلَى الْخُلْطَةِ إلَّا شَاهِدٌ وَاحِدٌ فَالْمَشْهُورُ أَنَّهُ لَا يَحْلِفُ مَعَ شَاهِدِهِ عَلَى إثْبَاتِ الْخُلْطَةِ.
وَقَالَ ابْنُ كِنَانَةَ: تَثْبُتُ الْخُلْطَةُ بِشَهَادَةِ رَجُلٍ وَاحِدٍ وَامْرَأَةٍ وَاحِدَةٍ بِغَيْرِ يَمِينٍ، قَالَ ابْنُ رَاشِدٍ وَقَوْلُ ابْنِ كِنَانَةَ أَحْسَنُ، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ ابْنِ الْقَاسِمِ؛ لِأَنَّ الْمُرَادَ إثْبَاتُ لَطْخِ الدَّعْوَى، وَذَلِكَ يَحْصُلُ بِالْمَرْأَةِ.
وَقَالَ مُحَمَّدٌ لَا تَثْبُتُ بِشَاهِدٍ دُونَ يَمِينٍ، قَالَ ابْنُ سَهْلٍ: وَفِي كِتَابِ ابْنِ الْمَوَّازِ: مَنْ أَقَامَ بِالْخُلْطَةِ شَاهِدًا وَاحِدًا حَلَفَ مَعَهُ وَتَثْبُتُ الْخُلْطَةُ، ثُمَّ يَحْلِفُ الْمَطْلُوبُ حِينَئِذٍ.
وَقَالَهُ ابْنُ نَافِعٍ وَابْنُ كِنَانَةَ أَيْضًا.
فَرْعٌ:
وَاخْتُلِفَ إذَا شَهِدَ عَلَيْهِ شَاهِدَانِ فَدَفَعَهُمَا بِدَعْوَى الْعَدَاوَةِ هَلْ تَجِبُ لَهُ عَلَيْهِ يَمِينٌ بِغَيْرِ خُلْطَةٍ أَوْ لَا؟ قَوْلَانِ الْمَشْهُورُ لَا تَجِبُ.
فَرْعٌ:
وَفِي أَحْكَامِ ابْنِ بَطَّالٍ أَنَّ الْمُدَّعِيَ إذَا أَحْضَرَ خَطَّ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ وَثَبَتَ أَنَّهُ خَطُّهُ فَهُوَ كَثُبُوتِ إقْرَارِهِ تَجِبُ بِهِ الْخُلْطَةُ.
مَسْأَلَةٌ:
قَالَ ابْنُ الْفَخَّارِ فِي الْكِتَابِ الَّذِي رَدَّ فِيهِ عَلَى ابْنِ الْعَطَّارِ: وَيَجِبُ ثُبُوتُ الْخُلْطَةِ فِي الْمُبَايَعَةِ بَيْنَ الْأَبِ وَوَلَدِهِ.
مَسْأَلَةٌ:
وَهَذَا التَّفْرِيعُ الْمُتَقَدِّمُ كُلُّهُ عَلَى الْمَشْهُورِ، وَهُوَ اعْتِبَارُ الْخُلْطَةِ وَاشْتِرَاطُهَا.
وَقَالَ ابْنُ نَافِعٍ إنَّهَا لَا تُشْتَرَطُ.
وَفِي (الْمُتَيْطِيَّةِ) عَنْ ابْنِ عَبْدِ الْحَكَمِ مِثْلُهُ، وَأَنَّ الْيَمِينَ تَجِبُ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ دُونَ خُلْطَةٍ وَبِهِ أَخَذَ ابْنُ لُبَابَةَ وَغَيْرُهُ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي وَالْيَمِينُ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ».
مَسْأَلَةٌ:
وَفِي (الْمُتَيْطِيَّةِ) وَلَا تَكُونُ الْخُلْطَةُ فِي دَعْوَى بَيْعِ الْعَقَارِ بِالْمُبَايَعَةِ الْوَاحِدَةِ، وَلَا تَجِبُ الْيَمِينُ فِي بَيْعِ الْعَقَارِ إلَّا بِشُبْهَةٍ وَهُوَ الشَّاهِدُ الْعَدْلُ فِي قَوْلِ ابْنِ الْقَاسِمِ.
تَنْبِيهٌ:
وَثُبُوتُ الْخُلْطَةِ يُوجِبُ الْيَمِينَ عَلَى الْمَطْلُوبِ فِي دَعْوَى السَّلَفِ أَوْ الْوَدِيعَةِ أَوْ الْمُقَارَضَةِ أَوْ الشَّرِكَةِ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ، إنْ كَانَتْ هَذِهِ الدَّعْوَى بَعْدَ الْمُدَّةِ الَّتِي يُحَدِّدُهَا الشُّهُودُ، وَلِذَلِكَ يُحْتَاجُ إلَى تَحْدِيدِهَا، وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ مِنْ جُمْلَةِ الْمَسَائِلِ الَّتِي لابد مِنْ تَحْدِيدِ الْأَمَدِ فِيهَا، وَكَذَلِكَ شَهَادَةُ السَّمَاعِ فِي الْحَبْسِ وَشَهَادَةُ الضَّرَرِ لِلِاخْتِلَافِ فِي مُدَّةِ الْحِيَازَةِ فِي ذَلِكَ، وَإِنْ قَالَ إنَّ ذَلِكَ كَانَ فِي مُدَّةِ الْأَمَدِ الَّذِي تُحَدِّدُهُ الشُّهُودُ لِلْخُلْطَةِ لَمْ تَجِبْ الْيَمِينُ فِيهِ إلَّا ثُبُوتَ الْخُلْطَةِ فِي مُدَّةِ الدَّعْوَى، وَلَا تَجِبُ بِمِثْلِ هَذِهِ الْخُلْطَةِ يَمِينٌ فِي دَعْوَى مُبَايَعَةٍ فِي عَقَارٍ أَوْ مَتَاعٍ أَوْ عَبِيدٍ أَوْ حَيَوَانٍ أَوْ عُرُوضٍ.
مَسْأَلَةٌ:
قَالَ ابْنُ سَهْلٍ قَالَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ: إنَّمَا تُرَاعَى الْخُلْطَةُ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالذِّمَمِ مِنْ الْحُقُوقِ، وَأَمَّا الْأَشْيَاءُ الْمُعَيَّنَةُ الَّتِي يَقَعُ التَّدَاعِي فِيهَا بَيْنَهُمَا، فَالْيَمِينُ لَاحِقَةٌ مِنْ غَيْرِ خُلْطَةٍ، وَقِيلَ لَا تَجِبُ الْيَمِينُ إلَّا بِالْخُلْطَةِ فِي الْأَشْيَاءِ الْمُعَيَّنَةِ وَغَيْرِهَا. قَالَ عَبْدُ الْحَقِّ وَهَذَا أَبْيَنُ عِنْدِي؛ لِأَنَّ الْخُلْطَةَ إنَّمَا رَآهَا الْعُلَمَاءُ لِلْمَضَرَّةِ الدَّاخِلَةِ لَوْ سُمِعَ مِنْ كُلِّ مُدَّعٍ.

.فَصْلٌ تَجِبُ الْيَمِينُ بِمُجَرَّدِ الدَّعْوَى دُونَ خُلْطَةٍ فِي مَوَاضِعَ:

تَجِبُ الْيَمِينُ بِمُجَرَّدِ الدَّعْوَى دُونَ خُلْطَةٍ فِي مَوَاضِعَ مِنْهَا: أَهْلُ التُّهَمِ وَالْعَدَاءِ وَالظُّلْمِ. وَمِنْهَا الصُّنَّاعُ فِيمَا اُدُّعِيَ عَلَيْهِمْ مِنْ أَعْمَالِهِمْ أَنَّهُمْ اسْتَصْنَعُوهُمْ، وَكَذَلِكَ هِيَ عَلَى أَهْلِ الْأَسْوَاقِ وَأَرْبَابِ الْحَوَانِيتِ، فِيمَا اُدُّعِيَ عَلَيْهِمْ أَنَّهُمْ بَاعُوهُ مِمَّا يُدِيرُونَهُ وَيَتَّجِرُونَ فِيهِ دُونَ خُلْطَةٍ أَيْضًا، وَإِنْ اُدُّعِيَ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ فِي غَيْرِ مَا يُدِيرُهُ وَلَا يَتَّجِرُ بِهِ، فَلَا يَمِينَ عَلَيْهِ فِيهِ إلَّا بِشُبْهَةٍ.
وَمِنْهَا: التُّجَّارُ لِمَنْ تَاجَرَهُمْ.
وَمِنْهَا: الرَّجُلُ يَحْضُرُ الْمُزَايَدَةَ فَيَقُولُ الْبَائِعُ: بِعْتُك بِكَذَا، وَيَقُولُ الْمُبْتَاعُ بَلْ بِكَذَا. وَمِنْهَا: الرُّفَقَاءُ فِي السَّفَرِ يَدَّعِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ. وَمِنْهَا الرَّجُلُ يُتَضَيَّفُ عِنْدَ الرَّجُلِ فَيَدَّعِي عَلَيْهِ، وَمِنْهَا الرَّجُلُ يُوصِي عِنْدَ الْمَوْتِ أَنَّ لَهُ عَلَى فُلَانٍ كَذَا، وَيُوصِي أَنْ يُتَقَاضَى مِنْهُ، قَالَهُ ابْنُ رَاشِدٍ.
وَمِنْهَا: الْغَرِيبُ يَنْزِلُ الْمَدِينَةَ فَيَدَّعِي أَنَّهُ اسْتَوْدَعَ رَجُلًا مَالًا. وَمِنْهَا إذَا ادَّعَى وَرَثَةُ مُتَوَفًّى عَلَى رَجُلٍ، بِأَنَّ لِمُورَثِهِمْ مَالًا عَلَيْهِ مِنْ وَجْهٍ نَصُّوهُ، فَأَنْكَرَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ الْيَمِينَ لِلْوَرَثَةِ دُونَ ثُبُوتِ الْخُلْطَةِ؛ لِأَنَّ مَنْ ادَّعَى بِسَبَبِ مُتَوَفًّى فَهُوَ بِخِلَافِ الْحَيِّ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ. وَمِنْهَا: لَوْ بَاعَ رَجُلٌ سِلْعَةَ رَجُلٍ، وَادَّعَى أَنَّهُ أَمَرَهُ بِبَيْعِهَا وَأَنْكَرَهُ صَاحِبُهَا وَهِيَ قَائِمَةٌ بِعَيْنِهَا، فَإِنَّهُ يَحْلِفُ وَيَأْخُذُهَا.
وَمِنْهَا: الْقَاتِلُ يَدَّعِي أَنَّ وَلِيَّ الْمَقْتُولِ عَفَا عَنْهُ فَفِي أَحْكَامِ ابْنِ سَهْلٍ عَنْ مَالِكٍ: أَنَّهُ يَحْلِفُ وَأَنْكَرَهُ أَشْهَبُ. وَمِنْهَا: أَنَّ كُلَّ مَنْ كَانَ مُتَّهَمًا بِمَا اُدُّعِيَ عَلَيْهِ مِنْ الْمُعَامَلَاتِ فَإِنَّ الْيَمِينَ تَتَعَلَّقُ بِهِ. وَمِنْهَا: لَوْ لَقِيَ رَجُلًا فَادَّعَى عَلَيْهِ بَقِيَّةَ كِرَاءٍ، حَلَفَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ أَنَّهُ مَا اكْتَرَى مِنْهُ شَيْئًا. وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ هُوَ صَاحِبَ الدَّابَّةِ، حَلَفَ إنْ كَانَ مُنْكِرًا ذَكَرَ الْمُتَيْطِيُّ مِنْهَا سَبْعَةً وَبَعْضُهَا مِنْ أَحْكَامِ ابْنِ سَهْلٍ، وَبَعْضُهَا مِنْ الدَّعْوَى وَالْإِنْكَارِ لِلرُّعَيْنِيِّ.

.الْقِسْمُ السَّابِعُ فِي ذِكْرِ الْبَيِّنَاتِ:

وَفِيهِ مُقَدِّمَةٌ تَشْتَمِلُ عَلَى عَشَرَةِ فُصُولٍ:
الْفَصْلُ الْأَوَّلُ: فِي التَّعْرِيفِ بِحَقِيقَةِ الْبَيِّنَةِ.
الْفَصْلُ الثَّانِي: فِي أَقْسَامِ مُسْتَنَدِ عِلْمِ الشَّاهِدِ.
الْفَصْلُ الثَّالِثُ: فِي حَدِّ الشَّهَادَةِ وَحُكْمِهَا وَمَا تَجِبُ فِيهِ.
الْفَصْلُ الرَّابِعُ: فِي مَرَاتِبِ الشُّهُودِ.
الْفَصْلُ الْخَامِسُ: فِي صِفَاتِ الْحُقُوقِ وَمَرَاتِبِ الشَّهَادَاتِ.
الْفَصْلُ السَّادِسُ: فِي صِفَاتِ الشَّاهِدِ وَذِكْرِ مَوَانِعِ الْمَقْبُولِ.
الْفَصْلُ السَّابِعُ: فِيمَا يَنْبَغِي لِلشُّهُودِ التَّنَبُّهُ لَهُ فِي التَّحَمُّلِ وَالْأَدَاءِ.
الْفَصْلُ الثَّامِنُ: فِيمَا يَنْبَغِي لِلْقَاضِي أَنْ يَتَنَبَّهَ لَهُ فِي أَدَاءِ الشَّهَادَاتِ.
الْفَصْلُ التَّاسِعُ: فِيمَا يُحْدِثُهُ الشَّاهِدُ بَعْدَ شَهَادَتِهِ فَتَبْطُلُ.
الْفَصْلُ الْعَاشِرُ: فِي صِفَةِ أَدَاءِ الشَّهَادَةِ وَاللَّفْظِ الَّذِي يَصِحُّ بِهِ أَدَاؤُهَا.

.الْفَصْلُ الْأَوَّلُ فِي التَّعْرِيفِ بِحَقِيقَتِهَا وَمَوْضِعِهَا شَرْعًا:

اعْلَمْ أَنَّ الْبَيِّنَةَ اسْمٌ لِكُلِّ مَا يُبَيِّنُ الْحَقَّ وَيُظْهِرُهُ، وَسَمَّى النَّبِيُّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ الشُّهُودَ بَيِّنَةً لِوُقُوعِ الْبَيَانِ بِقَوْلِهِمْ وَارْتِفَاعِ الْإِشْكَالِ بِشَهَادَتِهِمْ، كَوُقُوعِ الْبَيَانِ بِقَوْلِ الرَّسُولِ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَهُ أَحْمَدُ بْنُ مُوسَى بْنِ نَصْرٍ النَّحْوِيُّ، فِي كِتَابِ الْحِسْبَةِ.
وَقَالَ ابْنُ قَيِّمِ الْجَوْزِيَّةِ وَلَمْ تَأْتِ الْبَيِّنَةُ فِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ مُرَادًا بِهَا الشُّهُودُ. وَإِنَّمَا أَتَتْ مُرَادًا بِهَا الْحُجَّةُ وَالدَّلِيلُ وَالْبُرْهَانُ مُفْرَدَةً وَمَجْمُوعَةً.
وَنَقَلَ ابْنُ الْفَرَسِ فِي أَحْكَامِ الْقُرْآنِ عَنْ الْقَاضِي إسْمَاعِيلَ: أَنَّ الْعَمَلَ بِالْحُكْمِ بِالْقَرَائِنِ فِي مِثْلِ اخْتِلَافِ الزَّوْجَيْنِ غَيْرُ مُخَالِفٍ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي، وَالْيَمِينُ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ»؛ لِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يُرِدْ بِهَذَا الْحَدِيثِ، إلَّا الْمَوْضِعَ الَّذِي تُمْكِنُ فِيهِ الْبَيِّنَةُ وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ. فَمَتَى وُجِدَتْ الْقَرَائِنُ الَّتِي تَقُومُ مَقَامَ الْبَيِّنَةِ عُمِلَ بِهَا. وَقَدْ وَرَدَ فِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ: قِصَّةُ يُوسُفَ فِي قَدِّ الْقَمِيصِ، وَإِقَامَةِ ذَلِكَ مَقَامَ الشُّهُودِ. قَالَ ابْنُ الْفَرَسِ: هَذِهِ الْآيَةُ يَحْتَجُّ بِهَا الْعُلَمَاءُ مَنْ يَرَى الْحُكْمَ بِالْأَمَارَاتِ وَالْعَلَامَاتِ فِيمَا لَا تَحْضُرُهُ الْبَيِّنَاتُ.
وَقَالَ تَعَالَى: {وَجَاءُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ} [يوسف: 18] قَالَ عَبْدُ الْمُنْعِمِ بْنُ الْفَرَسِ: رُوِيَ أَنَّ إخْوَةَ يُوسُفَ لَمَّا أَتَوْا بِقَمِيصِهِ إلَى أَبِيهِمْ، تَأَمَّلَهُ فَلَمْ يَرَ فِيهِ خَرْقًا وَلَا أَثَرَ نَابٍ، فَاسْتَدَلَّ بِذَلِكَ عَلَى كَذِبِهِمْ.
وَقَالَ لَهُمْ: مَتَى كَانَ الذِّئْبُ حَلِيمًا يَأْكُلُ يُوسُفَ وَلَا يَخْرِقُ قَمِيصَهُ؟ قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: قَالَ عُلَمَاؤُنَا لَمَّا أَرَادُوا أَنْ يَجْعَلُوا الدَّمَ عَلَامَةَ صِدْقِهِمْ، قَرَنَ اللَّهُ بِهَذِهِ الْعَلَامَةِ عَلَامَةً تُكَذِّبُهَا: وَهِيَ سَلَامَةُ الْقَمِيصِ، وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ يَعْقُوبَ اسْتَدَلَّ عَلَى كَذِبِهِمْ بِصِحَّةِ الْقَمِيصِ، فَاسْتَدَلَّ الْفُقَهَاءُ بِهَذِهِ الْآيَةِ فِي إعْمَالِ الْأَمَارَاتِ فِي كَثِيرٍ مِنْ مَسَائِلِ الْفِقْهِ، وَأَقَامُوهَا مَقَامَ الْبَيِّنَةِ، فَإِنْ قِيلَ: هَذِهِ أُمُورٌ وَرَدَتْ فِي غَيْرِ شَرْعِنَا فَلَا تَلْزَمُنَا، فَالْجَوَابُ عَلَى ذَلِكَ مَذْكُورٌ فِي بَابِ الْحُكْمِ بِالْقَرَائِنِ.
قَالَ تَعَالَى: {تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ} [البقرة: 273] قَالَ ابْنُ الْفَرَسِ، قَالَ أَبُو الْحَسَنِ كَبَاهْ لَمَّا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ} [البقرة: 273] دَلَّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالسِّيمَا، حَالٌ يَظْهَرُ عَلَى الشَّخْصِ، حَتَّى إذَا رَأَيْنَا مَيِّتًا فِي دَارِ الْإِسْلَامِ وَعَلَيْهِ زُنَّارٌ وَهُوَ غَيْرُ مَخْتُونٍ، فَإِنَّهُ لَا يُدْفَنُ فِي مَقَابِرِ الْمُسْلِمِينَ وَلَا يُصَلَّى عَلَيْهِ وَيُقَدَّمُ ذَلِكَ عَلَى حُكْمِ الدَّارِ فِي قَوْلِ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ، وَيَقُومُ ذَلِكَ مَقَامَ الْبَيِّنَةِ وَمِثْلُهُ قَوْله تَعَالَى: {وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ} [محمد: 30] وَوَرَدَ فِي الصَّحِيحِ: «قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي غَزْوَةِ حُنَيْنٍ مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا لَهُ عَلَيْهِ بَيِّنَةٌ فَلَهُ سَلَبُهُ. فَقَالَ أَبُو قَتَادَةَ: فَقُمْتُ فَقُلْتُ: مَنْ يَشْهَدُ لِي، ثُمَّ جَلَسْت ثُمَّ قَالَ ذَلِكَ الثَّالِثَةَ، فَقُمْت فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَالَكَ يَا أَبَا قَتَادَةَ؟ فَاقْتَصَصْت عَلَيْهِ الْقِصَّةَ، فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ الْقَوْمِ: صَدَقَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَسَلَبُ ذَلِكَ الْقَتِيلِ عِنْدِي، فَأَرْضِهِ مِنْهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: لَاهَا اللَّهِ إذْ لَا يَعْمِدُ إلَى أَسَدٍ مِنْ أُسْدِ اللَّهِ، يُقَاتِلُ عَنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ فَيُعْطِيك سَلَبَهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: صَدَقَ فَأَعْطِهِ إيَّاهُ فَأَعْطَانِيهِ، فَبِعْتُ الدِّرْعَ فَاشْتَرَيْت بِهِ مَخْرَفًا فِي بَنِي سَلِمَةَ فَإِنَّهُ لَأَوَّلُ مَالٍ تَأَثَّلْتُهُ فِي الْإِسْلَامِ».
قَالَ الْقَاضِي أَبُو الْوَلِيدِ الْبَاجِيُّ: احْتَجَّ أَصْحَابُنَا بِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَفَعَ السَّلَبَ إلَى أَبِي قَتَادَةَ، بِقَوْلٍ وَاحِدٍ دُونَ يَمِينٍ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ يُقْبَلُ فِيهِ الْوَاحِدُ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَيَكُونُ طَرِيقُهُ الْخَبَرُ لَا الشَّهَادَةُ.
قَالَ الْبَاجِيُّ وَعِنْدِي أَنَّهُ يَجُوزُ فِي ذَلِكَ قَبُولُ الْوَاحِدِ، وَإِلَّا فَظَاهِرُ الْبَيِّنَةِ فِي قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (لَهُ عَلَيْهِ بَيِّنَةٌ يَقْتَضِي الشَّهَادَةَ) وَلَا تَكُونُ إلَّا بِشَاهِدٍ وَيَمِينٍ، وَلَكِنْ لَمَّا ظَهَرَ صِدْقُ أَبِي قَتَادَةَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِشَهَادَةِ الرَّجُلِ. وَذَكَرَ الْقِصَّةَ اكْتَفَى بِذَلِكَ، وَمِنْ ذَلِكَ: «مَا وَقَعَ فِي غَزْوَةِ بَدْرٍ لِابْنَيْ عَفْرَاءَ، لَمَّا تَدَاعَيَا قَتْلَ أَبِي جَهْلٍ، فَقَالَ لَهُمَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: هَلْ مَسَحْتُمَا سَيْفَيْكُمَا؟ فَقَالَا: لَا، فَقَالَ: أَرِيَانِي سَيْفَيْكُمَا فَلَمَّا نَظَرَ إلَيْهِمَا قَالَ: هَذَا قَتَلَهُ، وَقَضَى لَهُ بِسَلَبِهِ»، فَاعْتَمَدَ عَلَى الْأَثَرِ فِي السَّيْفِ.
وَكَذَلِكَ فِي قِصَّةِ قَتْلِ ابْنِ أَبِي الْحُقَيْقِ: «لَمّا دَخَلَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بَيْتِهِ لَيْلًا فَضَرَبُوهُ بِسُيُوفِهِمْ، وَغَرَزَ أَحَدُهُمْ السَّيْفَ فِي بَطْنِهِ حَتَّى خَرَجَ مِنْ ظَهْرِهِ، فَلَمَّا نَظَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى سُيُوفِهِمْ، وَجَدَ فِي ذَلِكَ السَّيْفِ أَثَرَ الطَّعَامِ فَقَالَ: هَذَا قَتَلَهُ، وَحَكَمَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمُوجِبِ اللَّوْثِ، وَنَزَّلَهُ مَنْزِلَةَ الشَّاهِدِ، وَجَعَلَ لِوُلَاةِ الدَّمِ أَنْ يَحْلِفُوا مَعَهُ».
وَكَذَلِكَ جَعَلَ مَعْرِفَةَ الْعِفَاصِ وَالْوِكَاءِ قَائِمًا مَقَامَ الْبَيِّنَةِ، وَكَذَلِكَ: «حَكَمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْقَافَةِ» وَجَعَلَهَا دَلِيلًا عَلَى ثُبُوتِ النَّسَبِ. وَمِنْ ذَلِكَ حَكَمَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِرَجْمِ الْمَرْأَةِ إذَا ظَهَرَ بِهَا حَمَلٌ، وَلَيْسَ لَهَا زَوْجٌ، وَجَعَلَ ذَلِكَ يَقُومُ مَقَامَ الْبَيِّنَةِ فِي أَنَّهَا زَانِيَةٌ، وَكَذَلِكَ إذَا قَاءَ الْخَمْرَ وَغَيْرُ ذَلِكَ مِمَّا يَطُولُ تَعْدَادُهُ، وَقَدْ اسْتَوْعَبْنَاهُ فِي بَابِ الْحُكْمِ بِالْقَرَائِنِ، فَمَتَى ظَهَرَ الْحَقُّ وَأَسْفَرَتْ طَرِيقُ الْعَدْلِ، فَثَمَّ شَرْعُ اللَّهِ وَدِينُهُ، وَلَمَّا كَانَتْ الْبَيِّنَاتُ مُرَتَّبَةً بِحَسَبِ الْحُقُوقِ الْمَشْهُودِ فِيهَا، وَالْمُحْتَاجِ إلَى إقَامَتِهَا، وَمَا هِيَ عَلَيْهِ مِنْ التَّوْسِعَةِ وَالتَّضْيِيقِ وَالتَّثْقِيلِ وَالتَّخْفِيفِ، وَإِمْكَانِ التَّوْثِيقِ وَتَعَذُّرِهِ، وَاخْتِلَافِ مَرَاتِبِهَا فِي الْقُوَّةِ وَالضَّعْفِ، احْتَجْنَا إلَى ذِكْرِهَا وَعَدِّ أَنْوَاعِهَا وَتَمْثِيلِ مَسَائِلِهَا.
وَقَدْ ذَكَرَ الْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْهَا فِي الْمَعُونَةِ خَمْسَةَ عَشَرَ وَجْهًا، وَكَذَلِكَ الْقَاضِي أَبُو الْوَلِيدِ بْنُ رُشْدٍ فِي الْمُقَدِّمَاتِ، وَزَادَ عَلَيْهَا الْقَرَافِيُّ فِي الْقَوَاعِدِ وَعَدَّهَا سَبْعَةَ عَشَرَ نَوْعًا، وَهِيَ أَضْعَافُ ذَلِكَ بِحَسَبِ الِاعْتِبَارِ الَّذِي أَسَّسُوهُ، وَالطَّرِيقُ الَّذِي سَلَكُوهُ، فَانْظُرْهَا فِي الْقَوَاعِدِ فِي الْفَرْقِ الثَّامِنِ وَالثَّلَاثِينَ وَالْمِائَتَيْنِ، وَذَكَرَهُ الْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ فِي بَابِ الشَّهَادَاتِ، وَلَهُمْ- رَحْمَةُ اللَّه عَلَيْهِمْ- فَضِيلَةُ السَّبْقِ وَفَتْحِ بَابِ التَّوَسُّعِ فِي الْفَهْمِ، وَيَنْدَرِجُ فِي سِلْكِ الْبَيِّنَاتِ، وَمَا يَقُومُ مَقَامَهَا ذِكْرُ مَا تُفَصَّلُ بِهِ الْأَحْكَامُ مِنْ الصُّلْحِ وَالْإِقْرَارِ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ وَاَللَّهُ الْمُسْتَعَانُ.

.الْفَصْلُ الثَّانِي فِي أَقْسَامِ مُسْتَنَدِ عِلْمِ الشَّاهِدِ:

فِي أَقْسَامِ مُسْتَنَدِ عِلْمِ الشَّاهِدِ وَلَا يَصِحُّ لِلشَّاهِدِ شَهَادَتُهُ بِشَيْءٍ حَتَّى يَحْصُلَ لَهُ بِهِ الْعِلْمُ، إذْ لَا تَصِحُّ الشَّهَادَةُ إلَّا بِمَا عُلِمَ، وَقُطِعَ بِمَعْرِفَتِهِ لَا بِمَا شَكَّ فِيهِ، وَلَا بِمَا يَغْلِبُ عَلَى الظَّنِّ مَعْرِفَتُهُ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَمَا شَهِدْنَا إِلا بِمَا عَلِمْنَا} [يوسف: 81]، وَقَدْ يَلْحَقُ الظَّنُّ الْغَالِبُ بِالْيَقِينِ لِلضَّرُورَةِ فِي مَوَاضِعَ يَأْتِي ذِكْرُهَا. كَالشَّهَادَةِ فِي التَّفْلِيسِ وَحَصْرِ الْوَرَثَةِ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي فَصْلِ الشَّهَادَةِ عَلَى النَّفْيِ شَيْءٌ مِنْ هَذَا وَالْعِلْمُ يُدْرَكُ بِأَحَدِ أَرْبَعَةِ أَشْيَاءَ:
الْأَوَّلُ: الْعَقْلُ بِانْفِرَادِهِ، فَإِنَّهُ يُدْرِكُ بَعْضَ الْعُلُومِ الضَّرُورِيَّاتِ، مِثْلُ: أَنَّ الِاثْنَيْنِ أَكْثَرُ مِنْ الْوَاحِدِ، فَيَعْلَمُ بِهِ حَالَ نَفْسِهِ مِنْ صِحَّتِهِ وَسَقَمِهِ وَإِيمَانِهِ وَكُفْرِهِ، وَتَصِحُّ بِذَلِكَ شَهَادَتُهُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ.
الثَّانِي: الْعَقْلُ مَعَ الْحَوَاسِّ الْخَمْسِ، حَاسَّةِ السَّمْعِ وَحَاسَّةِ الْبَصَرِ، وَحَاسَّةِ الشَّمِّ وَحَاسَّةِ الذَّوْقِ، وَحَاسَّةِ اللَّمْسِ- فَيُدْرِكُ بِالْعَقْلِ مَعَ حَاسَّةِ السَّمْعِ الْكَلَامَ وَجَمِيعَ الْأَصْوَاتِ، وَلِذَلِكَ نُجِيزُ بِشَهَادَةِ الْأَعْمَى عَلَى الْأَقْوَالِ، إذَا كَانَ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ قَدْ لَازَمَهُ كَثِيرًا حَتَّى يَتَحَقَّقَ الْأَعْمَى كَلَامَهُ وَيَقْطَعَ عَلَيْهِ وَكَذَلِكَ نُجِيزُ شَهَادَةَ الِاسْتِغْفَالِ، وَسَيَأْتِي ذِكْرُهَا. وَيُدْرِكُ بِالْعَقْلِ مَعَ حَاسِّهِ الْبَصَرِ جَمِيعَ الْأَجْسَامِ وَالْأَعْرَاضِ وَالْمُبْصَرَاتِ، وَلِذَلِكَ نُجِيزُ شَهَادَةَ الْأَصَمِّ عَلَى الْأَفْعَالِ، وَنُجِيزُ الشَّهَادَةَ عَلَى الْخَطِّ، وَيُدْرِكُ بِالْعَقْلِ مَعَ حَاسَّةِ الشَّمِّ جَمِيعَ الرَّوَائِحِ الْمَشْمُومَاتِ، فَيُدْرِكُ بِهَا حَالَ الْمُسْكِرِ، فَيُرَاقُ الْخَمْرُ، وَيُحَدُّ شَارِبُهَا بِالشَّهَادَةِ عَلَى الرَّائِحَةِ وَسَيَأْتِي بَيَانُ ذَلِكَ. وَيُدْرِكُ بِالْعَقْلِ مَعَ حَاسَّةِ الذَّوْقِ جَمِيعَ الطُّعُومِ الْمَذُوقَاتِ، وَلِذَلِكَ تَجُوزُ الشَّهَادَةُ بِهِ فِي اخْتِلَافِ الْمُتَبَايِعَيْنِ فِي صِفَةِ الْمَبِيعِ، كَالزَّيْتِ الْحُلْوِ وَعَكْسِهِ، وَالْعَسَلِ الشَّتْوِيِّ وَالزَّبِيبِ وَالسَّمْنِ الْمُتَغَيِّرِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يَكْثُرُ ذِكْرُهُ.
وَيُدْرِكُ بِالْعَقْلِ مَعَ حَاسَّةِ اللَّمْسِ جَمِيعَ الْمَلْمُوسَاتِ عَلَى اخْتِلَافِ أَنْوَاعِهَا، وَنُجِيزُ شَهَادَةَ أَهْلِ الْمَعْرِفَةِ فِي اخْتِلَافِ الْمُتَبَايِعَيْنِ فِي صِفَةِ الْمَبِيعِ فِي اللِّينِ وَالْخُشُونَةِ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ.
الثَّالِثُ: حُصُولُ الْعِلْمِ بِالْأَخْبَارِ الْمُتَوَاتِرَةِ، فَإِنَّهُ يَحْصُلُ بِهِ الْعِلْمُ بِالْبُلْدَانِ النَّائِيَةِ وَالْقُرُونِ الْمَاضِيَةِ، وَظُهُورِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَدُعَائِهِ إلَى الْإِسْلَامِ، وَقَوَاعِدِ الشَّرْعِ وَمَعَالِمِ الدِّينِ، وَكَذَلِكَ تَجُوزُ الشَّهَادَةُ بِمَا عُلِمَ مِنْ جِهَةِ الْأَخْبَارِ الصَّحِيحَةِ فِي بَابِ الْوَلَاءِ وَالنَّسَبِ وَالْمَوْتِ وَوِلَايَةِ الْقَاضِي وَعَزْلِهِ وَضَرَرِ الزَّوْجَيْنِ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ، وَقَدْ اسْتَوْعَبْت ذَلِكَ فِي بَابِ الْقَضَاءِ بِشَهَادَةِ السَّمَاعِ، قَالَ ابْنُ رُشْدٍ فِي الْمُقَدِّمَاتِ: فَالْعِلْمُ الْمُدْرَكُ مِنْ هَذِهِ الْوُجُوهِ الثَّلَاثَةِ عِلْمُ ضَرُورَةٍ، يَلْزَمُ النَّفْسَ لُزُومًا لَا يُمْكِنُهُ الِانْفِصَالُ مِنْهُ، وَلَا الشَّكُّ فِيهِ.
الرَّابِعُ: الْعِلْمُ الْمُدْرَكُ بِالنَّظَرِ وَالِاسْتِدْلَالِ، فَالشَّهَادَةُ بِمَا عُلِمَ مِنْ جِهَةِ النَّظَرِ وَالِاسْتِدْلَالِ جَائِزَةٌ، كَمَا تَجُوزُ بِمَا عُلِمَ مِنْ جِهَةِ الضَّرُورَةِ، وَذَلِكَ مِثْلُ مَا رُوِيَ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ شَهِدَ أَنَّ رَجُلًا قَاءَ خَمْرًا فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: أَتَشْهَدُ أَنَّهُ شَرِبَهَا؟ فَقَالَ: أَشْهَدُ أَنَّهُ قَاءَهَا، فَقَالَ عُمَرُ: مَا هَذَا التَّعَمُّقُ؟ فَلَا وَرَبِّكَ مَا قَاءَهَا حَتَّى شَرِبَهَا.
وَمِنْ ذَلِكَ شَهَادَةُ الْحُكَمَاءِ فِي قِدَمِ الْعُيُوبِ وَحُدُوثِهَا، وَشَهَادَةُ أَهْلِ الْمَعْرِفَةِ فِي قِدَمِ الضَّرَرِ وَحُدُوثِهِ، وَالشَّهَادَةُ فِي مَعَاقِدِ الْقُمُطِ فِي الْحِيطَانِ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ. وَمِنْ هَذَا الْمَعْنَى: شَهَادَةُ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لِلنَّبِيِّينَ عَلَى أُمَمِهِمْ بِالْبَلَاغِ، وَشَهَادَةُ الْمُؤْمِنِ بِأَنَّ اللَّهَ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَنَّهُ حَيٌّ عَالَمٌ قَادِرٌ، إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الصِّفَاتِ الَّتِي هُوَ عَلَيْهَا، لِعِلْمِهِ بِذَلِكَ مِنْ النَّظَرِ وَالِاسْتِدْلَالِ، وَهَذَا بَابٌ وَاسِعٌ.

.الْفَصْلُ الثَّالِثُ فِي حَدِّ الشَّهَادَةِ وَحُكْمِهَا وَحِكْمَتِهَا وَمَا تَجِبُ فِيهِ:

أَمَّا حَدُّ الشَّهَادَةِ: فَهُوَ إخْبَارٌ يَتَعَلَّقُ بِمُعَيَّنٍ، وَبِقَيْدِ التَّعْيِينِ تُفَارِقُ الرِّوَايَةَ. وَأَمَّا حُكْمُهَا: فَلَهُ حَالَتَانِ: حَالَةُ تَحَمُّلٍ، وَحَالَةُ أَدَاءً، فَأَمَّا التَّحَمُّلُ: وَهُوَ أَنْ يُدْعَى لِيَشْهَدَ وَيُسْتَحْفَظَ الشَّهَادَةَ، فَإِنَّ ذَلِكَ فَرْضُ كِفَايَةٍ يَحْمِلُهُ بَعْضُ النَّاسِ عَنْ بَعْضٍ، حَيْثُ يُفْتَقَرُ إلَى ذَلِكَ، وَيُخْشَى تَلَفُ الْحَقِّ بِعَدَمِ الشَّهَادَةِ، فَإِنْ كَانَ الرَّجُلُ فِي مَوْضِعٍ لَيْسَ فِيهِ مَنْ يَحْتَمِلُ ذَلِكَ عَنْهُ، تَعَيَّنَ الْفَرْضُ عَلَيْهِ فِي خَاصَّتِهِ. قَالَ ابْنُ رُشْدٍ: وَمِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ مَنْ ذَهَبَ إلَى أَنَّهُ وَاجِبٌ عَلَى كُلِّ مَنْ دُعِيَ إلَى شَهَادَةٍ، أَنْ يُجِيبَ سَوَاءٌ دُعِيَ إلَى أَنْ يُسْتَحْفَظَ الشَّهَادَةَ، أَوْ يُؤَدِّيَ مَا حَفِظَ، لِقَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: {وَلا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا} [البقرة: 282] وَلَيْسَ ذَلِكَ بِصَحِيحٍ؛ لِأَنَّ الشَّاهِدَ لَا يَصِحُّ أَنْ يُسَمَّى شَاهِدًا إلَّا بَعْدَ أَنْ يَكُونَ عِنْدَهُ عِلْمٌ بِالشَّهَادَةِ، وَأَمَّا قَبْلَ أَنْ يَعْلَمَ بِهَا فَلَيْسَ بِشَاهِدٍ، وَلَا يَدْخُلُ تَحْتَ قَوْله تَعَالَى: {وَلا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ} [البقرة: 282] إلَّا مَنْ هُوَ شَاهِدٌ.
تَنْبِيهٌ:
فِي التَّحَمُّلِ مِنْ أَحْكَامِ ابْنِ بَطَّالٍ، قَالَ أَشْهَبُ فِي سَمَاعِهِ: إذَا دُعِيَ رَجُلٌ إلَى أَنْ يَشْهَدَ عَلَى مَنْ لَا يَعْرِفُهُ، فَلَا يَفْعَلُ إلَّا أَنْ يَشْهَدَ مَعَهُ مَنْ يَعْرِفُهُ. وَسُئِلَ مَالِكٌ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ: أَحَبُّ إلَيَّ أَنْ لَا يَفْعَلَ، وَأَنَّ النَّاسَ يَشْهَدُونَ وَيَكُونُ فِيهِمْ مَنْ يَعْرِفُهُ وَفِي ذَلِكَ سَعَةٌ.
مَسْأَلَةٌ:
إذَا عَرَفَ الشَّاهِدُ عَيْنَ الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ، وَلَمْ يَعْرِفْ عَيْنَ الْمَشْهُودِ لَهُ. وَوَجَدَ اسْمَهُ فِي الْوَثِيقَةِ بِخَطِّ يَدِهِ، فَلَا يَشْهَدُ فِيهَا إلَّا أَنْ يَتَبَيَّنَ وَأَمَّا إنْ لَمْ يَعْرِفْهُمَا جَمِيعًا فَلَا يَشْهَدْ، وَكَذَلِكَ إذَا عَرَفَ الْمَشْهُودَ لَهُ وَلَمْ يَعْرِفْ الْمَشْهُودَ، لَمْ يَشْهَدْ، أَلْبَتَّةَ مِنْ نَوَازِلِ سَحْنُونٍ ذَكَرَهُ ابْنُ هِشَامٍ.
وَأَمَّا الْأَدَاءُ وَهُوَ أَنْ يُدْعَى لِيَشْهَدَ بِمَا عَلِمَهُ وَاسْتُحْفِظَ إيَّاهُ فَإِنَّ ذَلِكَ وَاجِبٌ عَلَيْهِ لِلْآيَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ. وَلِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ} [البقرة: 283] وقَوْله تَعَالَى: {وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ} [الطلاق: 2].

.فَصْلٌ: مَنْ كَانَتْ عِنْدَهُ شَهَادَةٌ فَلَا يَحِلُّ أَنْ يَكْتُمَهَا:

فَإِذَا تَقَرَّرَ أَنَّ هَذَا حُكْمُ الْأَدَاءِ. فَمَنْ كَانَتْ عِنْدَهُ شَهَادَةٌ فَلَا يَحِلُّ أَنْ يَكْتُمَهَا، وَيَلْزَمُهُ إذَا دُعِيَ إلَيْهَا أَنْ يَقُومَ بِهَا، وَأَمَّا إذَا لَمْ يُدْعَ إلَى الْقِيَامِ بِهَا فَهَذَا يَنْقَسِمُ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى. وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ حَقًّا لِآدَمِيٍّ. أَمَّا إنْ كَانَ حَقًّا لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فَإِنَّهُ يَنْقَسِمُ إلَى قِسْمَيْنِ: قِسْمٌ لَا يُسْتَدَامُ فِيهِ التَّحْرِيمُ، وَقِسْمٌ يُسْتَدَامُ فِيهِ التَّحْرِيمُ. فَأَمَّا مَا لَا يُسْتَدَامُ فِيهِ التَّحْرِيمُ، كَالزِّنَا وَشُرْبِ الْخَمْرِ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ، فَلَا يَضُرُّ الشَّاهِدَ تَرْكُ إخْبَارِهِ بِالشَّهَادَةِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ سَتْرٌ سَتَرَهُ عَلَيْهِ، وَالْأَصْلُ فِي ذَلِكَ قَوْلُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لِهُذَالٍ فِي قَضِيَّةِ مَاعِزٍ هَلَّا سَتَرْتَهُ بِرِدَائِكَ» وَأَشَارَ ابْنُ رُشْدٍ إلَى أَنَّ هَذَا فِي حَقِّ مَنْ يَنْدُرُ مِنْهُ ذَلِكَ.
أَمَّا مَنْ كَثُرَ ذَلِكَ مِنْهُ، وَعُلِمَ أَنَّهُ مُشْتَهَرٌ وَلَا يَنْفَكُّ عَنْهُ، فَيَنْبَغِي أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْهِ، وَأَنْ يُعْلِمَ الْإِمَامَ بِذَلِكَ، فَقَدْ قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ فِي الْمَجْمُوعَةِ يَكْتُمُونَهُ الشَّهَادَةَ، وَلَا يَشْهَدُوا فِي ذَلِكَ إلَّا فِي تَجْرِيحٍ إنْ شَهِدَ عَلَى أَحَدٍ. وَأَمَّا مَا يُسْتَدَامُ فِيهِ التَّحْرِيمُ كَالْعِتْقِ وَالطَّلَاقِ، وَالْخُلْعِ وَالرَّضَاعِ، وَالْعَفْوِ عَنْ الْقِصَاصِ، وَتَمَلُّكِ الْأَحْبَاسِ، وَالْمَسَاجِدِ وَالْقَنَاطِرِ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ، فَيَلْزَمُهُ أَنْ يُخْبِرَ بِشَهَادَتِهِ، وَيَقُومَ بِهَا عَلَيْهِ عِنْدَ الْحَاكِمِ، فَإِنْ لَمْ يُخْبِرْ بِشَهَادَتِهِ سَقَطَتْ شَهَادَتُهُ؛ لِأَنَّ سُكُوتَهُ عَنْ ذَلِكَ جُرْحَةٌ، إلَّا أَنْ يَثْبُتَ أَنَّ لَهُ عُذْرًا فِي عَدَمِ الْقِيَامِ. قَالَ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ: ظَاهِرُ كَلَامِ ابْنِ رُشْدٍ، أَنَّهُ اُخْتُلِفَ فِي تَجْرِيحِ الشَّاهِدِ بِذَلِكَ، فَإِنَّهُ اُخْتُلِفَ فِي بُطْلَانِ شَهَادَتِهِ بِالسُّكُوتِ، فَإِنْ كَانَ هُوَ الْمُنْكَرَ عَلَيْهِ وَهُوَ الْقَائِمُ بِالشَّهَادَةِ فَاخْتُلِفَ، هَلْ تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ أَمْ لَا؟ ذَهَبَ ابْنُ الْقَاسِمِ إلَى أَنَّهُ لَا تَجُوزُ شَهَادَتُهُ إذَا كَانَ هُوَ الْقَائِمَ بِهَا، وَذَهَبَ مُطَرِّفٌ وَابْنُ الْمَاجِشُونِ وَأَصْبَغُ إلَى أَنَّ شَهَادَتَهُ جَائِزَةٌ، وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ لَوْ كَانُوا جَمَاعَةً هُمْ الْقَائِمُونَ عَلَيْهِ وَهُمْ الشُّهُودُ.
تَنْبِيهٌ:
وَيُسْتَثْنَى مِنْ ذَلِكَ مَسْأَلَةٌ ذَكَرَهَا ابْنُ الْمَوَّازِ قَالَ: إذَا أَخَذَ صَاحِبُ الشُّرْطَةِ سَكْرَانًا فَسَجَنَهُ وَشَهِدَ عَلَيْهِ هُوَ وَآخَرُ مَعَهُ، فَلَا تَجُوزُ شَهَادَتُهُ؛ لِأَنَّهُ صَارَ خَصْمًا بِسَجْنِهِ وَلَوْ رَفَعَهُ قَبْلَ أَنْ يَسْجُنَهُ جَازَتْ شَهَادَتُهُ عَلَيْهِ، إنْ كَانَ عَدْلًا مَعَ آخَرَ مِنْ ابْنِ يُونُسَ. أَمَّا إنْ قَامَ غَيْرُهُ بِالشَّهَادَةِ سَقَطَ عَنْهُ الْفَرْضُ، وَكَانَ قِيَامُهُ بِذَلِكَ اسْتِحْبَابًا؛ لِأَنَّ فِيهَا عَوْنًا عَلَى إقَامَةِ الْحَقِّ، وَإِنْ لَمْ يَقُمْ بِالشَّهَادَةِ سِوَاهُ لِكَوْنِ غَيْرِهِ أَبَى أَوْ مَنَعَهُ مَانِعٌ، تَعَيَّنَ عَلَيْهِ الْقِيَامُ فِيهَا.
وَأَمَّا الضَّرْبُ الْآخَرُ: وَهُوَ أَنْ يَكُونَ حَقًّا لِآدَمِيٍّ، فَيَلْزَمُهُ أَنْ يُخْبِرَ بِشَهَادَتِهِ صَاحِبَ الْحَقِّ، فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ فَرَوَى عِيسَى عَنْ ابْنِ الْقَاسِمِ: أَنَّ شَهَادَتَهُ تَبْطُلُ، وَذَهَبَ سَحْنُونٌ إلَى أَنَّهَا لَا تَبْطُلُ.
وَقَدْ وَقَعَ فِي الْمَبْسُوطَةِ لِأَشْهَبَ مَا ظَاهِرُهُ أَنَّ شَهَادَتَهُ لَا تَبْطُلُ بِالسُّكُوتِ، وَتَرْكِ الْإِخْبَارِ فِي حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى وَلَا فِي حُقُوقِ الْعِبَادِ، قَالَ ابْنُ رُشْدٍ وَهُوَ بَعِيدٌ.
وَفِي مُفِيدِ الْحُكَّامِ تَفْصِيلٌ آخَرُ، فَقَالَ: قَالَ ابْنُ رُشْدٍ فِي كِتَابِ الشَّرْحِ لَهُ: الشَّهَادَاتُ تَنْقَسِمُ عَلَى خَمْسَةِ أَقْسَامٍ: قِسْمٌ لَا تَصِحُّ الشَّهَادَةُ بِهِ إلَّا بَعْدَ أَنْ يُدْعَى إلَى أَدَاءِ الشَّهَادَةِ، وَهِيَ الشَّهَادَةُ الْخَاصَّةُ بِالْمَالِ. وَقِسْمٌ يَلْزَمُهُ الْقِيَامُ بِهِ وَإِنْ لَمْ يُدْعَ إلَيْهِ، وَهِيَ الشَّهَادَةُ بِمَا يُسْتَدَامُ فِيهِ التَّحْرِيمُ مِثْلُ: الطَّلَاقِ وَالْعِتْقِ، وَشَبَهِ ذَلِكَ. إلَّا عَلَى ظَاهِرِ قَوْلِ أَشْهَبَ. وَقِسْمٌ مُخْتَلَفٌ فِيهِ عَلَى قَوْلَيْنِ، أَعْنِي فِي وُجُوبِ الْقِيَامِ بِهَا، وَهِيَ الشَّهَادَةُ بِالْمَالِ لِلْغَائِبِ.
وَقِسْمٌ مِنْهَا لَا يَلْزَمُهُ الْقِيَامُ بِهَا إذَا لَمْ يُدْعَ إلَيْهَا، وَهِيَ الشَّهَادَةُ عَلَى مَا مَضَى مِنْ الْحُدُودِ الَّتِي لَا يَتَعَلَّقُ بِهَا حَقُّ الْمَخْلُوقِ. كَالزِّنَا وَشُرْبِ الْخَمْرِ، فَهَذَا لَا يَلْزَمُ الْقِيَامُ بِهِ، وَيُسْتَحَبُّ فِيهِ السَّتْرُ إلَّا فِي الْمُشْتَهِرِ. وَقِسْمٍ مِنْهَا لَا يَجُوزُ لِلشَّاهِدِ الْقِيَامُ بِهَا، وَإِنْ دُعِيَ إلَيْهَا وَهِيَ: الشَّهَادَةُ مَنْ بَاطِنُهَا خِلَافُ ظَاهِرِهَا.
مَسْأَلَةٌ:
وَإِذَا قُلْنَا تَبْطُلُ شَهَادَتُهُ، فَهَلْ يَكُونُ جُرْحَةً أَمْ لَا؟ قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ فِي رِوَايَةِ عِيسَى: فِي الشَّاهِدِ يَرَى مِلْكَ رَجُلٍ يُبَاعُ، أَوْ يُحَوَّلُ عَنْ حَالِهِ ذَلِكَ جُرْحَةٌ فِي الشَّاهِدِ حِينَ رَأَى ذَلِكَ وَلَمْ يُعْلِمْ بِشَهَادَتِهِ.
قَالَ الْبَاجِيُّ: وَعِنْدِي أَنَّ ذَلِكَ إنَّمَا يَكُونُ جُرْحَةً، إذَا عَلِمَ الشَّاهِدُ أَنَّهُ إنْ كَتَمَ وَلَمْ يُعْلِمْ بِشَهَادَتِهِ بَطَلَ الْحَقُّ، وَأَدْخَلَ بِذَلِكَ مَضَرَّةً أَوْ مَعَرَّةً، أَمَّا غَيْرُ هَذَا فَلَا يَلْزَمُهُ الْقِيَامُ بِهَا؛ لِأَنَّهُ لَا يَدْرِي لَعَلَّ صَاحِبَ الْحَقِّ قَدْ تَرَكَهُ قَالَ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ: يَنْبَغِي لِهَذَا الشَّاهِدِ أَنْ يُعْلِمَ مَنْ لَهُ الْحَقُّ بِأَنَّ لَهُ عِنْدَهُ شَهَادَةً بِكَذَا، وَإِلَّا فَقَدْ يَكُونُ رَبُّ الْحَقِّ حَاضِرًا، وَيَمْنَعُهُ مِنْ الْقِيَامِ أَنْ لَيْسَ لِحَقِّهِ شَاهِدٌ.
وَيَنْبَغِي لِهَذَا الشَّاهِدِ أَنْ يُنْكِرَ عَلَى الْمُتَصَرِّفِ فِي مَالِ غَيْرِهِ، وَفِي بَابِ الْقَضَاءِ بِالشَّهَادَاتِ الْمَكْتُومَةِ كَثِيرٌ مِنْ هَذِهِ الْمَسَائِلِ.
فَصْلٌ: قَالَ سَحْنُونٌ: وَكُلُّ مَنْ يَعْلَمُ أَنَّ الْإِمَامَ لَا يَقْبَلُ شَهَادَتَهُ، لِجَرْحَةٍ فِيهِ أَوْ لِعَدَاوَةٍ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ أَوْ لِغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا تُرَدُّ بِهِ شَهَادَتُهُ، فَلَا يَلْزَمُهُ أَنْ يَشْهَدَ، فَإِنْ شَهِدَ فَلْيُخْبِرْ الْحَاكِمَ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلْمَشْهُودِ عَلَيْهِ، أَوْ قَرِيبٌ لِلْمَشْهُودِ لَهُ.
وَإِذَا شَهِدَ مُجَرَّحٌ فَلَا يُخْبِرُ الْقَاضِيَ بِجُرْحَتِهِ، لِئَلَّا يُبْطِلَ الْحَقَّ، وَقِيلَ بَلْ يُخْبِرُ الْقَاضِيَ بِجُرْحَتِهِ، كَمَا لَوْ كَانَ عَبْدًا أَوْ نَصْرَانِيًّا فَعَلَيْهِ أَنْ يُخْبِرَهُ بِذَلِكَ مِنْ ابْنِ يُونُسَ.

.فَصْلٌ أَدَاء الشَّهَادَةِ الَّتِي اُسْتُحْفِظَهَا:

فَصْلٌ: وَإِذَا قُلْنَا بِوُجُوبِ أَدَاءِ الشَّهَادَةِ الَّتِي اُسْتُحْفِظَهَا، فَإِنْ كَانَ وَاحِدًا وَذَلِكَ فِيمَا يُقْبَلُ فِيهِ الشَّاهِدُ وَالْيَمِينُ تَعَيَّنَ عَلَيْهِ الْأَدَاءُ، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ اثْنَيْنِ وَإِنْ كَانُوا أَزْيَدَ، فَالْأَدَاءُ عَلَيْهِمْ فَرْضُ كِفَايَةٍ، إلَّا أَنْ لَا يَكْفِيَ الْقَاضِي بِالِاثْنَيْنِ اللَّذَيْنِ أَدَّيَا أَوَّلًا لِمَانِعٍ مِنْ قَبُولِ شَهَادَتِهِمَا أَوْ شَهَادَةِ أَحَدِهِمَا، فَيَتَعَيَّنُ عَلَى الثَّالِثِ، وَمَنْ لَا يَتِمُّ الْحُكْمُ إلَّا بِشَهَادَتِهِ يَلْزَمُهُ أَنْ يُؤَدِّيَ شَهَادَتَهُ وَلَا يَحِلُّ لِأَحَدِ الشَّاهِدَيْنِ أَنْ يَمْتَنِعَ مِنْ الْأَدَاءِ، وَيُحِيلَ الْمَشْهُودَ لَهُ عَلَى يَمِينِهِ مَعَ الشَّاهِدِ الْآخَرِ؛ لِأَنَّ فِي الْحَلِفِ كُلْفَةً، وَكَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ مَنْ يَكْرَهُ الْيَمِينَ وَلَوْ تَحَقَّقَ صِدْقَ حَلِفِهِ، فَإِنْ فَعَلَ الشَّاهِدُ ذَلِكَ فَهُوَ آثِمٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ} [البقرة: 283] الْآيَةَ قَالَهُ ابْنُ رَاشِدٍ.
مَسْأَلَةٌ:
قَالُوا: وَيَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ الْأَدَاءُ، إذَا كَانَ عَلَى نَحْوِ الْبَرِيدَيْنِ لِقِلَّةِ الْمَشَقَّةِ، فَإِنْ كَانَتْ الْمَسَافَةُ أَكْثَرَ مِنْ بَرِيدَيْنِ، لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ الْإِتْيَانُ، وَتَحْدِيدُ الْبَرِيدَيْنِ لَا يَقُومُ عَلَيْهِ دَلِيلٌ، وَالْأَصْلُ فِي ذَلِكَ وُجُودُ الْمَشَقَّةِ وَانْتِفَاؤُهَا، فَإِذَا كَانَتْ الْمَسَافَةُ لَا يَجِبُ مِنْهَا الْأَدَاءُ، فَإِنَّ الْقَاضِيَ يَكْتُبُ إلَى رَجُلٍ مِنْ ثِقَتِهِ، فَيُوقِعُ هَذَا الشَّاهِدُ شَهَادَتَهُ عِنْدَهُ، وَيَكْتُبُ إلَى الْقَاضِي بِمَا أَدَّى عِنْدَهُ فَيَنْظُرُ فِيهِ.
مَسْأَلَةٌ:
فَإِذَا قُلْنَا إنَّهُ يَلْزَمُ الشَّاهِدَ الْأَدَاءُ مِنْ نَحْوِ الْبَرِيدَيْنِ، فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ الْمَشْهُودِ لَهُ شَيْئًا بِسَبَبِ أَدَاءِ الشَّهَادَةِ؛ لِأَنَّ فِي ذَلِكَ طَلَبَ عِوَضٍ عَلَى وَاجِبٍ، كَطَلَبِهِ أَخْذَ الْعِوَضِ عَلَى صَلَاةِ نَفْسِهِ، إلَّا فِي الرُّكُوبِ لِعُسْرِ الْمَشْيِ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ يُشْبِهُ مَنْ سَقَطَ عَنْهُ أَدَاءُ الشَّهَادَةِ، وَأَيْضًا فَمَنْعُهُ الرُّكُوبَ لَيْسَتْ لِلشَّاهِدِ، بَلْ هِيَ مَقْصُورَةٌ عَلَى الْمَشْهُودِ لَهُ، فَإِنْ رَكِبَ دَابَّةَ الْمَشْهُودِ لَهُ وَلَهُ دَابَّةٌ، أَوْ أَكَلَ طَعَامَهُ، فَفِي بُطْلَانِ شَهَادَتِهِ قَوْلَانِ، وَلَوْ كَانَ الشَّاهِدُ لَا يَقْدِرُ عَلَى النَّفَقَةِ جَازَ لَهُ قَبُولُهَا. قَالَ سَحْنُونٌ: وَلَوْ أَخْبَرَ الْقَاضِي بِذَلِكَ لَكَانَ حَسَنًا، وَقِيلَ تَبْطُلُ إنْ لَمْ يَكُنْ مُبَرِّزًا، وَأَمَّا إنْ كَانَتْ الْمَسَافَةُ بَعِيدَةً مِثْلَ مَا تُقْصَرُ فِيهِ الصَّلَاةُ فَأَكْثَرَ، وَلَمْ يَكُنْ لِلْقَاضِي أَمِينٌ يَشْهَدُ هَذَا الشَّاهِدُ، عِنْدَهُ فَلَا يَضُرُّ الشَّاهِدَ أَكْلُ طَعَامِ الْمَشْهُودِ لَهُ، وَإِنْ كَانَ لَهُ بَالٌ وَكَذَلِكَ رُكُوبُ دَابَّتِهِ، وَكَذَلِكَ إنْ احْتَجَبَ السُّلْطَانُ عَنْ فَصْلِ الْحُكْمِ، لَمْ يَضُرَّ الشَّاهِدَ أَنْ يُنْفِقَ عَلَيْهِ الْمَشْهُودُ لَهُ مَا أَقَامَ مُنْتَظِرًا لَهُ، إذَا لَمْ يَجِدْ مَنْ يَشْهَدُ عَلَى شَهَادَتِهِ ثُمَّ يَنْصَرِفُ، وَأَمَّا حِكْمَتُهَا، فَقَالَ ابْنُ رَاشِدٍ: حِكْمَةُ مَشْرُوعِيَّتِهَا صِيَانَةُ الْحُقُوقِ.

.فَصْلٌ الْإِشْهَادِ فِي الْحُقُوقِ:

فَصْلٌ: وَأَمَّا مَا تَجِبُ فِيهِ فَالْكَلَامُ فِيهِ فِي فَصْلَيْنِ:
الْأَوَّلُ فِي حُكْمِ الْإِشْهَادِ فِي الْحُقُوقِ: كَالْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ وَالسَّلَمِ وَالْقَرْضِ، وَمَا فِي مَعْنَى ذَلِكَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ} [البقرة: 282] وَيَجْرِي مَجْرَى الْمُبَايَعَةِ الْحُقُوقُ عَلَى اخْتِلَافِ أَنْوَاعِهَا، وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي هَذَا الْأَمْرِ فَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: هُوَ عَلَى الْوُجُوبِ وَقَالَ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ: هُوَ عَلَى النَّدْبِ، وَإِنَّمَا قَالَ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ ذَلِكَ إنْ كَانَ مَذْهَبُهُ أَنَّ الْأَمْرَ مَحْمُولٌ عَلَى الْوُجُوبِ، إذَا تَعَرَّى مِنْ الْقَرَائِنِ لِأَدِلَّةٍ قَامَتْ عَلَى ذَلِكَ مِنْهَا قَوْله تَعَالَى: {وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ} [البقرة: 283]، فَلَمَّا جَازَ أَنْ يُتْرَكَ الرَّهْنَ الَّذِي هُوَ بَدَلُ الشَّهَادَةِ، جَازَ تَرْكُ الْإِشْهَادِ إذْ لَا يُفَرِّقُ الْمُخَالِفُ بَيْنَ تَرْكِ الْإِشْهَادِ وَالرَّهْنِ الَّذِي هُوَ بَدَلُهُ، بَلْ يَقُومُ بِوُجُوبِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، اُنْظُرْ بَاقِيَ الْأَدِلَّةِ فِي الْمُقَدِّمَاتِ.

.فَصْلٌ: حُكْمُ الدَّيْنِ حُكْمُ الْبَيْعِ:

وَحُكْمُ الدَّيْنِ حُكْمُ الْبَيْعِ، كَمَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّهُ مَنْدُوبٌ إلَى الْإِشْهَادِ فِيهِ، فَإِذَا قُلْنَا إنَّهُ غَيْرُ وَاجِبٍ فِيهِمَا، فَإِنَّهُ حَقٌّ لِكُلِّ مَنْ دُعِيَ إلَيْهِ مِنْ الْمُتَبَايِعَيْنِ أَوْ الْمُتَدَايِنَيْنِ، عَلَى صَاحِبِهِ يُقْضَى لَهُ بِهِ عَلَيْهِ إنْ أَبَاهُ؛ لِأَنَّ مِنْ حَقِّهِ أَنْ لَا يَأْتَمِنَهُ، وَلِذَلِكَ وَجَبَ عَلَى مَنْ بَاعَ سِلْعَةً لِغَيْرِهِ، الْإِشْهَادُ عَلَى الْبَيْعِ فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ ضَمِنَ؛ لِأَنَّ رَبَّ السِّلْعَةِ لَمْ يَرْضَ بِائْتِمَانِهِ، وَكَذَلِكَ كُلُّ مَا فِيهِ حَقٌّ لِغَائِبٍ الْإِشْهَادُ فِيهِ وَاجِبٌ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي الزَّانِيَيْنِ: {وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [النور: 2]، فَأَمَرَ بِالْإِشْهَادِ لِمَا يَتَعَلَّقُ بِذَلِكَ مِنْ حَقِّ غَيْرِهِ، وَمِنْ ذَلِكَ اللِّعَانُ لَا يَكُونُ إلَّا بِمَحْضَرِ جَمَاعَةٍ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ، لِانْقِطَاعِ نَسَبِ الْوَلَدِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْأَحْكَامِ.

.فَصْلٌ الْإِشْهَادِ فِي النِّكَاحِ وَالطَّلَاقِ وَالرَّجْعَةِ:

الثَّانِي: حُكْمُ الْإِشْهَادِ فِي النِّكَاحِ وَالطَّلَاقِ وَالرَّجْعَةِ، وَالْإِشْهَادُ عَلَى عَقْدِ النِّكَاحِ، لَيْسَ بِوَاجِبٍ عَلَى مَذْهَبِ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ، وَإِنَّمَا يَجِبُ الْإِشْهَادُ عِنْدَ الدُّخُولِ لِنَفْيِ التُّهْمَةِ وَالْمَظِنَّةِ عَنْ نَفْسِهِ، وَمَعْنَى قَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا نِكَاحَ إلَّا بِوَلِيٍّ وَصَدَاقٍ وَشَاهِدَيْ عَدْلٍ»، أَيْ لَا يَكُونُ وَطْءُ النِّكَاحِ إلَّا بِاجْتِمَاعِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ؛ لِأَنَّ النِّكَاحَ حَقِيقَةً إنَّمَا يَقَعُ عَلَى الْوَطْءِ، وَإِنَّمَا سُمِّيَ الْعَقْدُ نِكَاحًا لِأَنَّ النِّكَاحَ الَّذِي هُوَ الْوَطْءُ يَكُونُ بِهِ، فَسُمِّيَ بِاسْمِ مَا قَرُبَ مِنْهُ، وَلَا يَصِحُّ أَنْ يُحْمَلَ الْحَدِيثُ عَلَى الْعَقْدِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ ذَكَرَ فِيهِ الصَّدَاقَ، وَذَلِكَ مِمَّا لَا يَفْتَقِرُ إلَيْهِ الْعَقْدُ بِإِجْمَاعٍ؛ لِأَنَّ الْقُرْآنَ قَدْ جَوَّزَ نِكَاحَ التَّفْوِيضِ.

.فَصْلٌ الْإِشْهَادُ فِي الرَّجْعَةِ:

فَصْلٌ: وَأَمَّا الْإِشْهَادُ فِي الرَّجْعَةِ، فَقَالَ ابْنُ الْقَصَّارِ هُوَ مُسْتَحَبٌّ، وَحَكَى الْقَاضِي إسْمَاعِيلُ عَنْ مَالِكٍ: أَنَّهُ وَاجِبٌ لِرَفْعِ الدَّعَاوَى وَتَحْصِينِ الْفُرُوجِ وَالْأَنْسَابِ، وَحَكَى الْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ: الْوُجُوبَ عَنْ بَعْضِ شُيُوخِهِ الْقَرَوِيِّينَ.
وَقَالَ فِي الْمَعُونَةِ: إنَّهُ مُسْتَحَبٌّ، وَحَكَى الْقَاضِي أَبُو بَكْرِ بْنُ الْعَلَاءِ: الْوُجُوبَ عَنْ مَالِكٍ، وَالْمَشْهُورُ أَنَّهُ غَيْرُ وَاجِبٍ، وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي قَوْله تَعَالَى: {فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق: 2] فَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: هُوَ أَمْرٌ بِالْإِشْهَادِ عَلَى الطَّلَاقِ، وَقِيلَ عَلَى الرَّجْعَةِ، وَقِيلَ الْمَعْنَى، وَأَشْهِدُوا عِنْدَ الرَّجْعَةِ وَالْفُرْقَةِ جَمِيعًا؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق: 2] عَقِبَ ذِكْرِ الطَّلَاقِ وَالْإِمْسَاكِ بِالرَّجْعَةِ وَالْمُفَارَقَةِ بِانْقِضَاءِ الْعِدَّةِ، فَوَجَبَ أَنْ يَرْجِعَ ذَلِكَ إلَى الْجَمِيعِ رُجُوعًا وَاحِدًا إمَّا وُجُوبًا وَإِمَّا نَدْبًا، قَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ بُكَيْرٍ الْمَالِكِيُّ فِي تَأْلِيفِهِ فِي أَحْكَامِ الْقُرْآنِ: الْمَعْنَى فِي الْإِشْهَادِ، أَنَّهُ يُشْهِدُ ذَوَيْ عَدْلٍ إذَا انْقَضَتْ عِدَّتُهَا أَنَّهُ قَدْ طَلَّقَ، وَأَنَّ عِدَّتَهَا قَدْ انْقَضَتْ، خَوْفًا مِنْ أَنْ يَمُوتَ فَتَدَّعِي أَنَّهَا زَوْجَةٌ لَمْ تَطْلُقْ، أَوْ تَمُوتَ هِيَ فَيَدَّعِيَ الزَّوْجُ مِثْلَ ذَلِكَ، فَأَمَرَ بِالْإِشْهَادِ لِيَنْحَسِمَ مَا يُخْشَى مِنْ ذَلِكَ.
وَأَمَّا إذَا أَمْسَكَهَا بِالرَّجْعَةِ فَيُشْهِدُ عَلَى رَجْعَتِهَا، لِيُعْلَمَ أَنَّهَا زَوْجَةٌ، وَأَنَّهَا لَيْسَتْ فِي عِدَّةٍ لِمَا يُخْشَى مِمَّا ذَكَرْنَاهُ مِنْ الْمَوْتِ، قَالَ ابْنُ بُكَيْرٍ: وَيَجِبُ عِنْدِي لِمَنْ أَبَانَ زَوْجَتَهُ أَنْ لَا يَنْتَظِرَ انْقِضَاءَ الْعِدَّةِ، وَلْيُشْهِدْ شَاهِدَيْنِ حِينَ الطَّلَاقِ أَنَّهَا قَدْ بَانَتْ مِنْهُ، خَشْيَةَ الْمَعْنَى الَّذِي ذَكَرْنَاهُ؛ لِأَنَّ الْبَائِنَ فِي مَعْنَى الَّتِي انْقَضَتْ عِدَّتُهَا، قَالَ ابْنُ رُشْدٍ: وَيَلْزَمُ عَلَى قِيَاسِ قَوْلِهِ أَنْ يَلْزَمَ الْإِشْهَادُ فِي الطَّلَاقِ الرَّجْعِيِّ حِينَ الطَّلَاقِ مَخَافَةَ الْمَوْتِ، وَيُشْهِدُ أَيْضًا إذَا انْقَضَتْ الْعِدَّةُ عَلَى انْقِضَائِهَا مَخَافَةَ أَنْ يَمُوتَ الزَّوْجُ فَتَدَّعِيَ الْمِيرَاثَ، أَوْ تَزْعُمَ أَنَّ عِدَّتَهَا لَمْ تَنْقَضِ، قَالَ ابْنُ رُشْدٍ: وَإِذَا قُلْنَا إنَّ الْإِشْهَادَ وَاجِبٌ، فَمَعْنَى ذَلِكَ أَنَّهُ يَكُونُ بِتَرْكِهِ آثِمًا لِتَضْيِيعِ الْفُرُوجِ، وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ مِنْ الْحُقُوقِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ شَرْطًا فِي صِحَّةِ الطَّلَاقِ وَالرَّجْعَةِ.

.الْفَصْلُ الرَّابِعُ فِي مَرَاتِبِ الشُّهُودِ فِي الشَّهَادَةِ:

فِي مَرَاتِبِ الشُّهُودِ فِي الشَّهَادَةِ وَهِيَ إحْدَى عَشْرَةَ رُتْبَةً: الْأُولَى: الشَّاهِدُ الْمُبَرِّزِ فِي الْعَدَالَةِ الْعَالَمُ بِمَا تَصِحُّ بِهِ الشَّهَادَةُ، فَتَجُوزُ شَهَادَتُهُ فِي كُلِّ شَيْءٍ وَتَجْرِيحُهُ وَلَا يُسْأَلُ عَنْ كَيْفِيَّةِ عِلْمِهِ بِمَا شَهِدَ بِهِ مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ إذَا أَبْهَمَهُ، وَلَا يُقْبَلُ فِيهِ التَّجْرِيحُ إلَّا بِالْعَدَاوَةِ، وَقَدْ قِيلَ: إنَّ التَّجْرِيحَ لَا يُقْبَلُ فِيهِ أَصْلًا لَا بِالْعَدَاوَةِ وَلَا بِغَيْرِهَا.
الثَّانِيَةُ: الشَّاهِدُ الْمُبَرِّزُ فِي الْعَدَالَةِ غَيْرُ الْعَالَمِ بِمَا تَصِحُّ بِهِ الشَّهَادَةُ، فَحُكْمُهُ كَالْأَوَّلِ إلَّا أَنَّهُ يُسْأَلُ عَنْ كَيْفِيَّةِ عِلْمِهِ بِمَا شَهِدَ بِهِ إذَا أَبْهَمَ ذَلِكَ.
الثَّالِثَةُ: الشَّاهِدُ الْمَعْرُوفُ بِالْعَدَالَةِ بِمَا تَصِحُّ بِهِ الشَّهَادَةُ، فَتَجُوزُ شَهَادَتُهُ إلَّا فِي سِتَّةِ مَوَاضِعَ عَلَى اخْتِلَافٍ فِي بَعْضِهَا، وَهِيَ: التَّزْكِيَةُ وَشَهَادَتُهُ لِأَخِيهِ وَلِمَوْلَاهُ وَلِصَدِيقِهِ الْمُلَاطِفِ وَلِشَرِيكِهِ فِي غَيْرِ التِّجَارَةِ، وَإِذَا زَادَ فِي شَهَادَتِهِ أَوْ نَقَصَ مِنْهَا، وَيُقْبَلُ فِيهِ التَّجْرِيحُ بِالْعَدَاوَةِ وَغَيْرِهَا، وَلَا يُسْأَلُ عَنْ كَيْفِيَّةِ عِلْمِهِ بِمَا شَهِدَ بِهِ إذَا أَبْهَمَ ذَلِكَ.
الرَّابِعَةُ: الشَّاهِدُ الْمَعْرُوفُ بِالْعَدَالَةِ غَيْرُ الْعَالَمِ بِمَا تَصِحُّ بِهِ الشَّهَادَةُ، حُكْمُهُ كَذَلِكَ إلَّا أَنَّهُ يُسْأَلُ عَنْ كَيْفِيَّةِ عِلْمِهِ بِمَا شَهِدَ بِهِ إذَا أَبْهَمَ ذَلِكَ.
الْخَامِسَةُ: الشَّاهِدُ الْمَعْرُوفُ بِالْعَدَالَةِ، إذَا قَذَفَ قَبْلَ أَنْ يُحَدَّ اُخْتُلِفَ فِي إجَازَةِ شَهَادَتِهِ فَلَمْ يُجِزْهَا ابْنُ الْمَاجِشُونِ، وَأَصْبَغُ وَأَجَازَهَا ابْنُ الْقَاسِمِ وَهُوَ الْمَشْهُورُ فِي الْمَذْهَبِ؛ لِأَنَّ بِالْحَدِّ تَسْقُطُ الشَّهَادَةُ.
السَّادِسَةُ: الشَّاهِدُ الَّذِي يُتَوَسَّمُ فِيهِ الْعَدَالَةُ، تَجُوزُ شَهَادَتُهُ دُونَ تَزْكِيَتِهِ فِيمَا يَقَعُ بَيْنَ الْمُسَافِرِينَ فِي السَّفَرِ مِنْ الْمُعَامَلَاتِ عَلَى مَذْهَبِ ابْنِ حَبِيبٍ وَلَا تَجُوزُ فِيمَا سِوَى ذَلِكَ دُونَ تَزْكِيَةٍ، فَهَذَا هُوَ الْمَجْهُولُ الْحَالِ وَقَالَ الْمَازِرِيُّ: الشَّاهِدُ الَّذِي لَمْ تَثْبُتْ لَهُ عَدَالَةٌ وَلَا جُرْحَةٌ يَشْهَدُ فِيمَا سِوَى الْحُدُودِ مَذْهَبُ مَالِكٍ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْقَاضِي الْبَحْثُ عَنْ حَالِهِ، وَلَا يَحْمِلُهُ عَلَى فِسْقٍ وَلَا عَدَالَةٍ حَتَّى يَنْكَشِفَ لَهُ إحْدَى الْحَالَتَيْنِ.
وَقَالَ ابْنُ رُشْدٍ: أَجَازَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ شَهَادَةَ الْمَجْهُولِ الْحَالِ فِي الْيَسِيرِ جِدًّا مِنْ الْمَالِ، وَهُوَ اسْتِحْسَانٌ وَالْقِيَاسُ مَنْعُهُ وَاتَّفَقُوا فِي الْحُدُودِ، وَالْقِصَاصِ أَنَّهُ لَا يُقْبَلُ فِيهَا إلَّا الْعَدْلُ.
السَّابِعَةُ: الشَّاهِدُ الَّذِي لَا يُتَوَسَّمُ فِيهِ الْعَدَالَةُ وَلَا الْجُرْحَةُ، فَلَا تَجُوزُ شَهَادَتُهُ فِي مَوْضِعٍ مِنْ الْمَوَاضِعِ دُونَ تَزْكِيَةٍ، إلَّا أَنَّ شَهَادَتَهُ تَكُونُ شُبْهَةً فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ عِنْدَ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ، فَتُوجِبُ الْيَمِينَ وَتُوجِبُ الْحَمِيلَ وَتَوْقِيفَ الشَّيْءِ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ.
الثَّامِنَةُ: الشَّاهِدُ الَّذِي يُتَوَسَّمُ فِيهِ الْجُرْحَةُ، فَلَا تَجُوزُ شَهَادَتُهُ دُونَ التَّزْكِيَةِ، وَلَا تَكُونُ شَهَادَتُهُ شُبْهَةً تُوجِبُ حُكْمًا.
التَّاسِعَةُ: الشَّاهِدُ الَّذِي ثَبَتَ عَلَيْهِ جُرْحَةٌ قَدِيمَةٌ أَوْ يَعْلَمُهَا الْحَاكِمُ فِيهِ، فَلَا تَجُوزُ شَهَادَتُهُ دُونَ تَزْكِيَةٍ، وَلَا يُقْبَلُ فِيهِ التَّزْكِيَةُ عَلَى الْإِطْلَاقِ، وَإِنَّمَا تُقْبَلُ مِمَّنْ عُلِمَ بِجُرْحَتِهِ إذَا شَهِدَ عَلَى تَوْبَتِهِ مِنْهَا، وَنُزُوعِهِ عَنْهَا، وَالْمَحْدُودُ فِي الْقَذْفِ بِمَنْزِلَتِهِ عَلَى مَذْهَبِ مَالِكٍ؛ لِأَنَّ تَزْكِيَتَهُ لَا تَجُوزُ عَلَى الْإِطْلَاقِ، وَإِنَّمَا تَجُوزُ بِمَعْرِفَةٍ تَزِيدُهُ فِي الْخَبَرِ.
الْعَاشِرَةُ: الشَّاهِدُ الْمُقِيمُ عَلَى الْجُرْحَةِ الْمَشْهُودِ بِهَا، فَلَا تَجُوزُ شَهَادَتُهُ وَلَا يُقْبَلُ التَّزْكِيَةُ فِيهِ وَإِنْ زُكِّيَ، وَإِنَّمَا تَصِحُّ تَزْكِيَتُهُ فِيمَا يُسْتَقْبَلُ إذَا تَابَ.
الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ: شَاهِدُ الزُّورِ، فَلَا تَصِحُّ شَهَادَتُهُ وَإِنْ تَابَ وَحَسُنَتْ حَالُهُ، وَرَوَى أَبُو زَيْدٍ عَنْ الْقَاسِمِ: أَنَّ شَهَادَتَهُ تَجُوزُ إذَا تَابَ وَعُرِفَتْ تَوْبَتُهُ بِتَزَيُّدِ حَالِهِ فِي الصَّلَاحِ، قَالَ وَلَا أَعْلَمُهُ إلَّا فِي قَوْلِ مَالِكٍ، فَقِيلَ: إنَّ ذَلِكَ اخْتِلَافٌ مِنْ الْقَوْلِ، وَقِيلَ: مَعْنَى رِوَايَةِ أَبِي زَيْدٍ، إذَا جَاءَ تَائِبًا مُقِرًّا عَلَى نَفْسِهِ بِشَهَادَةِ الزُّورِ قَبْلَ أَنْ يَظْهَرَ عَلَيْهِ، وَهُوَ الْأَظْهَرُ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ.

.الْفَصْلُ الْخَامِسُ فِي صِفَاتِ الْحُقُوقِ وَمَرَاتِبِ الشَّهَادَاتِ:

وَالْحُقُوقُ الْمَشْهُودُ فِيهَا عَلَى خَمْسَةِ أَقْسَامٍ: الْأَوَّلُ: أَحْكَامٌ تَثْبُتُ فِي الْبَدَنِ لَيْسَتْ بِمَالٍ، وَيَطَّلِعُ عَلَيْهَا الرِّجَالُ غَالِبًا كَالنِّكَاحِ وَالطَّلَاقِ، وَشِبْهِ ذَلِكَ، مِمَّا هُوَ مَذْكُورٌ فِي الْبَابِ الثَّانِي مِنْ الْقِسْمِ الثَّانِي مِنْ الْكِتَابِ، فَهَذَا الْقِسْمُ لَا يُسْتَحَقُّ فِيهِ شَيْءٌ إلَّا بِشَهَادَةِ رَجُلَيْنِ، وَلَا مَدْخَلَ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ لِلنِّسَاءِ وَلَا لِلشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ إلَّا الْقَسَامَةَ، وَجِرَاحَ الْعَمْدِ وَفِي بَعْضِهَا خِلَافٌ.
الثَّانِي: أَحْكَامٌ تَثْبُتُ فِي الْبَدَنِ لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهَا الرِّجَالُ غَالِبًا، كَالْوِلَادَةِ وَمَا أَشْبَهَهَا مِمَّا هُوَ مَذْكُورٌ فِي الْبَابِ الْخَامِسَ عَشَرَ مِنْ الْقِسْمِ الثَّانِي مِنْ الْكِتَابِ، فَكُلُّ ذَلِكَ يُجْزِئُ فِيهِ شَهَادَةُ امْرَأَتَيْنِ، وَفِي بَعْضِهِ خِلَافٌ سَيَأْتِي إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
الثَّالِثُ: أَحْكَامٌ تَثْبُتُ فِي الْبَدَنِ، وَتَتَعَلَّقُ بِالْمَالِ، كَالشَّهَادَةِ عَلَى الْوِكَالَةُ بِطَلَبِ الْمَالِ وَإِسْنَادِ الْوَصِيَّةِ الَّتِي لَيْسَ فِيهَا غَيْرُ الْمَالِ، وَنَقْلُ شَهَادَةِ مَنْ شَهِدَ بِمَالٍ، وَالشَّهَادَةُ عَلَى أَسْبَابِ التَّوَارُثِ كَالنِّكَاحِ بَعْدَ مَوْتِ أَحَدِ الزَّوْجَيْنِ لِيَرِثَ الْآخَرُ مَالًا، وَكَذَا فِي الْوَلَاءِ وَالنَّسَبِ إذَا لَمْ يُرِدْ بِهِ إلَّا الْمَالَ وَثُبُوتَ الْإِرْثِ لَا ثُبُوتَ النَّسَبِ، فَفِي دُخُولِ النِّسَاءِ فِي ذَلِكَ خِلَافٌ، أَجَازَ ابْنُ الْقَاسِمِ فِي ذَلِكَ شَهَادَةَ رَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ حَمْلًا عَلَى شَهَادَةِ الْأَمْوَالِ، وَمَنَعَ أَشْهَبُ ذَلِكَ وَقَالَ: لابد مِنْ رَجُلَيْنِ اعْتِبَارًا بِأَعْيَانِهَا لَا بِمَالٍ تَئُولُ إلَيْهِ.
الرَّابِعُ: حُقُوقُ الْأَمْوَالِ كَالْقَرْضِ الْوَدِيعَةِ، وَشِبْهِ ذَلِكَ مِمَّا هُوَ مَذْكُورٌ فِي الْبَابِ الثَّالِثِ مِنْ الْقِسْمِ الثَّانِي مِنْ الْكِتَابِ، فَكُلُّ ذَلِكَ يُسْتَحَقُّ بِشَهَادَةِ رَجُلَيْنِ أَوْ بِرَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ، أَوْ بِشَاهِدٍ وَيَمِينٍ، أَوْ بِامْرَأَتَيْنِ وَيَمِينٍ.
الْخَامِسُ: مَا تَئُولُ الشَّهَادَةُ فِيهِ إلَى أَحْكَامٍ تَتَعَلَّقُ بِالْأَبْدَانِ، كَالشَّهَادَةِ لِمُكَاتَبٍ أَنَّهُ دَفَعَ نُجُومَ كِتَابَتِهِ فَاسْتَحَقَّ بِذَلِكَ الْعِتْقَ، أَوْ أَنَّ فُلَانًا بَاعَ عَبْدًا مِنْ أَبِي الْعَبْدِ الْمَبِيعِ، أَوْ ابْنِهِ مِمَّنْ يَعْتِقُ عَلَيْهِ، أَوْ أَنَّهُ بَاعَ أَمَةً مِنْ زَوْجِهَا فَاقْتَضَى الْفَسْخَ، فَهَذَا أَيْضًا لَهُ حُكْمُ الشَّهَادَةِ فِي الْأَمْوَالِ؛ لِأَنَّهَا شَهَادَاتٌ تَئُولُ إلَى الْمَالِ، وَإِنْ كَانَتْ تَسْتَلْزِمُ تَحْرِيرَ الْمُكَاتَبِ، وَعِتْقَ الْعَبْدِ عَلَى أَبِيهِ أَوْ ابْنِهِ، وَفَسْخَ نِكَاحِ الزَّوْجَيْنِ، وَلَيْسَ مِنْ ذَلِكَ الْقَطْعُ فِي السَّرِقَةِ إذَا شَهِدَ عَلَيْهِ رَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ، فَإِنَّهُ يَضْمَنُ الْمَالَ وَلَا يُقْطَعُ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا: أَنَّ وُجُوبَ التَّضْمِينِ لَا يَسْتَدْعِي الْقَطْعَ، وَثُبُوتَ أَدَاءِ نُجُومِ الْكِتَابَةِ يَسْتَدْعِي الْحُرِّيَّةَ، وَكَذَا مِلْكُ الْأَبِ ابْنَهُ وَمِلْكُ أَحَدِ الزَّوْجَيْنِ صَاحِبَهُ، يَقْتَضِي ثُبُوتَ الشِّرَاءِ، وَعِتْقَ الِابْنِ وَفَسْخَ النِّكَاحِ فَهَذَا ذِكْرُ الْحُقُوقِ عَلَى وَجْهِ الْإِجْمَالِ، وَسَيَأْتِي أَحْكَامُ هَذِهِ الشَّهَادَاتِ فِي أَبْوَابِهَا مُفَصَّلًا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

.فَصْلٌ أَقْسَامُ الشَّهَادَاتِ فِي الْحُقُوقِ:

فَصْلٌ: وَأَمَّا أَحْكَامُ الشَّهَادَاتِ فِي الْحُقُوقِ فَتَنْقَسِمُ عَلَى خَمْسِ مَرَاتِبَ.
الْأُولَى: شَهَادَةٌ تُوجِبُ الشَّيْءَ الْمَشْهُودَ بِهِ دُونَ يَمِينٍ.
الثَّانِيَةُ: شَهَادَةٌ تُوجِبُ الشَّيْءَ الْمَشْهُودَ بِهِ مَعَ الْيَمِينِ.
الثَّالِثَةُ: شَهَادَةٌ لَا تُوجِبُ الشَّيْءَ الْمَشْهُودَ بِهِ، إلَّا أَنَّهَا مَعَ ذَلِكَ تَسْتَدْعِي الْحُكْمَ فِيهِ.
الرَّابِعَةُ: شَهَادَةٌ لَا تُوجِبُ الشَّيْءَ الْمَشْهُودَ فِيهِ أَيْضًا، وَتُوجِبُ مَعَ ذَلِكَ حَقًّا عَلَى الشَّاهِدِ.
الْخَامِسَةُ: شَهَادَةُ لَغْوٍ، لَا تُوجِبُ شَيْئًا أَصْلًا.

.فَصْلٌ: أَمَّا الشَّهَادَةُ الَّتِي تُوجِبُ الشَّيْءَ الْمَشْهُودَ بِهِ دُونَ يَمِينٍ:

فَإِنَّهَا تَنْقَسِمُ عَلَى سِتَّةِ أَقْسَامٍ:
الْأَوَّلُ: أَرْبَعَةُ شُهُودٍ ذُكُورٍ فِي إثْبَاتِ الزِّنَا وَسَيَأْتِي ذَلِكَ.
الثَّانِي: شَاهِدَانِ رَجُلَانِ، وَذَلِكَ فِي سَائِرِ الْأَحْكَامِ سِوَى الزِّنَا وَمَا ذَكَر مَعَهُ وَسَيَأْتِي.
الثَّالِثُ: شَاهِدٌ وَامْرَأَتَانِ وَسَيَأْتِي.
الرَّابِعُ: امْرَأَتَانِ بِانْفِرَادِهِمَا وَسَيَأْتِي.
الْخَامِسُ: شَاهِدٌ وَاحِدٌ فِيمَا يَبْتَدِئُ الْقَاضِي فِيهِ بِالسُّؤَالِ، وَفِيمَا كَانَ عِلْمًا يُؤَدِّيهِ الشَّاهِدُ: كَالتُّرْجُمَانِ وَالْقَائِفِ وَالطَّبِيبِ وَمُقَوِّمِ الْعَيْبِ فِي الرَّقِيقِ وَمُكْشِفِ الْقَاضِي فِي التَّعْدِيلِ وَالتَّجْرِيحِ وَسَيَأْتِي ذَلِكَ.
السَّادِسُ: شَهَادَةُ الصِّبْيَانِ فِيمَا يَقَعُ بَيْنَهُمْ مِنْ الْجِرَاحِ وَالْقَتْلِ وَسَيَأْتِي.

.فَصْلٌ: وَأَمَّا الشَّهَادَةُ الَّتِي تُوجِبُ الشَّيْءَ الْمَشْهُودَ بِهِ مَعَ يَمِينِ الْمُدَّعِي:

فَإِنَّهَا تَنْقَسِمُ خَمْسَةَ أَقْسَامٍ: الْأَوَّلُ: شَاهِدٌ أَوْ امْرَأَتَانِ وَيَمِينٌ، وَذَلِكَ فِي حُقُوقِ الْأَمْوَالِ وَمَا الْمَقْصُودُ مِنْهُ الْمَالُ، وَسَيَأْتِي ذَلِكَ فِي الْبَابِ الثَّالِثِ، وَيَلْحَقُ بِهَذَا إذَا شَهِدَ شَاهِدٌ عَلَى الْقَتْلِ، أَقْسَمَ لَهُ مَعَ شَهَادَتِهِ أَيْمَانَ الْقَسَامَةِ، وَسَيَأْتِي حُكْمُهَا وَبِمَا تَجِبُ.
الثَّانِي: مَا يَقُومُ مَقَامَ الشَّهَادَةِ فِي قُوَّةِ الدَّعْوَى فِي الْحُقُوقِ، وَذَلِكَ كَالرَّهْنِ إذَا اُخْتُلِفَ فِي مِقْدَارِ الْحَقِّ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُرْتَهِنِ فِيمَا يَدَّعِيهِ، مَا لَمْ تُجَاوِزْ قِيمَةُ الرَّهْنِ وَيَمِينُهُ عَلَى ذَلِكَ فِي قِيَامِ الرَّهْنِ بِيَدِهِ مُوجِبَةٌ لِلْحُكْمِ لَهُ بِحَقِّهِ مِنْ التَّنْبِيهِ، وَسَيَأْتِي ذَلِكَ فِي بَابِهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَمِنْ ذَلِكَ إرْخَاءُ السُّتُورِ فِي النِّكَاحِ إذَا أَنْكَرَ الْمَسِيسَ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمَرْأَةِ فِي دَعْوَى الْمَسِيسِ مَعَ يَمِينِهَا، وَقِيلَ بِغَيْرِ يَمِينٍ وَيَجِبُ لَهَا الْحُكْمُ بِذَلِكَ، وَسَيَأْتِي فِي بَابِ الْحُكْمِ بِالْقَرَائِنِ، وَمِنْ ذَلِكَ الْيَدُ عَلَى الشَّيْءِ الْمُدَّعَى فِيهِ، إذَا عَجَزَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَنْ إقَامَةِ الْبَيِّنَةِ، أَوْ أَقَامَاهَا فَتَكَافَأَتَا وَسَقَطَتَا، فَيَحْلِفُ صَاحِبُ الْيَدِ وَيَسْتَحِقُّ، وَمِنْ ذَلِكَ مَعْرِفَةُ الْعِفَاصِ وَالْوِكَاءِ فِي اللُّقَطَةِ أَوْ مَا قَامَ مَقَامَ ذَلِكَ مِنْ صِفَتِهَا فَيَحْلِفُ عَلَى صِحَّةِ دَعْوَاهُ وَيَسْتَحِقُّهَا، وَفِي الْيَمِينِ خِلَافٌ، وَمِنْ ذَلِكَ نُكُولُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ إذَا لَمْ تَكُنْ بَيِّنَةٌ، فَإِذَا نَكَلَ رُدَّتْ الْيَمِينُ عَلَى الْمُدَّعِي فَيَحْلِفُ وَيَسْتَحِقُّ حَقَّهُ، فَبِاجْتِمَاعِ نُكُولِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ وَيَمِينِ الْمُدَّعِي وَجَبَ الْحَقُّ، وَسَيَأْتِي ذَلِكَ فِي بَابِهِ.
الثَّالِثُ: شَاهِدٌ غَيْرُ عَدْلٍ عَلَى الْقَتْلِ عَمْدًا، فَتَجِبُ الْقَسَامَةُ مَعَهُ عَلَى رِوَايَةِ أَشْهَبَ عَنْ مَالِكٍ، وَالْأَصَحُّ مِنْهُ، وَكَذَلِكَ رُوِيَ عَنْ أَشْهَبَ: أَنَّ الْقَسَامَةَ تَجِبُ بِشَهَادَةِ امْرَأَةٍ وَاحِدَةٍ عَدْلٍ وَهَذَا مَبْسُوطٌ فِي بَابِ الْقَضَاءِ بِأَيْمَانِ الْقَسَامَةِ.
الرَّابِعُ: الشَّهَادَةُ بِغَالِبِ الظَّنِّ فِيمَا لَا سَبِيلَ فِيهِ إلَى الْقَطْعِ، وَذَلِكَ كَالشَّهَادَةِ عَلَى الْعَدْلِ وَسَيَأْتِي ذَلِكَ مَبْسُوطًا فِي بَابِهِ.
الْخَامِسُ: الشَّهَادَةُ عَلَى السَّمَاعِ فِي الْوَلَاءِ وَالنَّسَبِ عَلَى مَذْهَبِ ابْنِ الْقَاسِمِ، لَا يُحْكَمُ لِلْمَشْهُودِ لَهُ بِهِ إلَّا بَعْدَ يَمِينِهِ؛ لِأَنَّهَا عِنْدَهُ لَيْسَتْ بِشَهَادَةٍ قَاطِعَةٍ، وَسَيَأْتِي ذَلِكَ فِي بَابِهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

.فَصْلٌ وَأَمَّا الشَّهَادَةُ الَّتِي تُوجِبُ حُكْمًا وَلَا تُوجِبُ الشَّيْءَ الْمَشْهُودَ بِهِ:

فَإِنَّهَا تَنْقَسِمُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: الْقِسْمُ الْأَوَّلُ: شَاهِدٌ عَدْلٌ أَوْ امْرَأَتَانِ عَلَى الطَّلَاقِ وَالْعِتْقِ، فَإِنَّهَا تُوجِبُ الْيَمِينَ عَلَى الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ إذَا أَنْكَرَ، وَكَذَلِكَ الْقَذْفُ إذَا شَهِدَ بِهِ شَاهِدٌ فَقَطْ أَوْ امْرَأَتَانِ فَإِنَّ ذَلِكَ يُوجِبُ الْيَمِينَ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، وَكَذَلِكَ إذَا شَهِدَ شَاهِدٌ بِقَتْلٍ عَمْدٍ، فَنَكَلَ الْأَوْلِيَاءُ عَنْ الْقَسَامَةِ رُدَّتْ الْيَمِينُ عَلَى الْقَاتِلِ، وَكَذَلِكَ إذَا شَهِدَ شَاهِدٌ بِجَرْحٍ عَمْدًا وَمَا أَشْبَهَهُ مِنْ الْقِصَاصِ، وَكَذَلِكَ شَاهِدٌ عَدْلٌ عَلَى النِّكَاحِ، وَكَذَلِكَ إذَا شَهِدَ بِالنِّكَاحِ رَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ، فَهَذِهِ الْوُجُوهُ كُلُّهَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا أَحْكَامٌ، وَلَا تُوجِبُ الشَّيْءَ الْمَشْهُودَ بِهِ، وَهِيَ مَذْكُورَةٌ فِي بَابِ الْقَضَاءِ بِالشَّاهِدَيْنِ.
الْقِسْمُ الثَّانِي: شَاهِدٌ عَدْلٌ أَوْ شَاهِدٌ وَامْرَأَتَانِ أَنَّهُ سَرَقَ لَهُ مِثْلَ مَا يَدَّعِي مِنْ غَيْرِ تَعْيِينِ الشَّيْءِ الْمُدَّعَى فِيهِ، وَهُوَ مَذْكُورٌ أَيْضًا فِي بَابِ الْقَضَاءِ بِالشَّاهِدَيْنِ.
الْقِسْمُ الثَّالِثُ: غَيْرُ الْعُدُولِ يَشْهَدُونَ فِي اسْتِحْقَاقِ الشَّيْءِ الْمُعَيَّنِ، فَذَلِكَ يُوجِبُ تَوْقِيفَهُ عِنْدَ أَصْبَغَ حَتَّى يَعْرِفَ مَا عِنْدَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ، وَذَلِكَ فِي بَابِ الْقَضَاءِ بِشَهَادَةِ غَيْرِ الْعُدُولِ.

.فَصْلٌ الشَّهَادَةُ الَّتِي لَا تُوجِبُ الْمَشْهُودَ بِهِ وَتُوجِبُ عَلَى الشَّاهِدِ حُكْمًا:

فَصْلٌ: وَأَمَّا الشَّهَادَةُ الَّتِي لَا تُوجِبُ الْمَشْهُودَ بِهِ، وَتُوجِبُ عَلَى الشَّاهِدِ حُكْمًا، فَإِنَّهَا تَنْقَسِمُ إلَى قِسْمَيْنِ: الْأَوَّلُ: كَالشَّهَادَةِ فِي الْحُدُودِ وَالْأَعْرَاضِ إذَا لَمْ تَكْمُلْ عَلَى وَجْهِهَا، وَذَلِكَ كَالثَّلَاثَةِ فَدُونِ يَشْهَدُونَ عَلَى مُعَايَنَةِ الزِّنَا، فَعَلَيْهِمْ حَدُّ الْفِرْيَةِ، وَسَيَأْتِي مَا فِي الْقَضَاءِ بِأَرْبَعَةِ شُهُودٍ.
الثَّانِي: رُجُوعُ الشُّهُودِ عَنْ الشَّهَادَةِ بَعْدَ أَدَائِهَا وَقَبْلَ الْحُكْمِ بِهَا، وَاعْتَرَفُوا بِشَهَادَةِ الزُّورِ وَأَنَّهُمْ تَابُوا، فَإِنَّ شَهَادَتَهُمْ لَا تُوجِبُ شَيْئًا، وَفِي تَأْدِيبِهِمْ خِلَافٌ، وَأَمَّا لَوْ رَجَعُوا بَعْدَ الْحُكْمِ بِهَا إمَّا فِي مَالٍ أَوْ فِي نَفْسٍ أَوْ حَدٍّ مِنْ قَطْعٍ أَوْ قَذْفٍ أَوْ شَتْمٍ، فَإِنْ أَخْبَرُوا عَنْ غَلَطٍ غَرِمُوا الْمَالَ وَدِيَةَ الْمُتْلَفِ، وَإِنْ أَخْبَرُوا عَنْ تَعَمُّدِ كَذِبٍ غَرِمُوا الْمَالَ. وَاخْتُلِفَ فِي إلْزَامِ الْقِصَاصِ فِي الْمُتْلَفِ بِالْقَطْعِ وَالْقَتْلِ وَنَحْوِهِمَا، أَوْ الدِّيَةِ وَلِذَلِكَ مَحَلٌّ مَذْكُورٌ فِيهِ فِي كُتُبِ الْفِقْهِ، وَأَمَّا الرُّجُوعُ عَنْ الشَّهَادَةِ بِالْقَذْفِ وَالشَّتْمِ بَعْدَ الْحُكْمِ فَلَيْسَ فِيهِ غَيْرُ الْأَدَبِ.

.فَصْلٌ الشَّهَادَةُ الَّتِي لَا تُوجِبُ شَيْئًا أَصْلًا:

فَصْلٌ: وَأَمَّا الشَّهَادَةُ الَّتِي لَا تُوجِبُ شَيْئًا أَصْلًا، فَكَشَهَادَةِ الْعَبْدِ وَالْكَافِرِ وَالْفَاسِقِ وَالنِّسَاءِ فِيمَا لَا يُقْبَلْنَ فِيهِ، وَلَا تُؤَثِّرُ شَهَادَتُهُنَّ فِيهِ شَيْئًا، كَمَا سَيَأْتِي فِي بَابِهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَمِثْلُ شَهَادَةِ الصِّبْيَانِ فِي غَيْرِ مَا يَقَعُ بَيْنَهُمْ مِنْ الْقَتْلِ عَلَى مَا هُوَ مَشْرُوحٌ فِي بَابِهِ، وَسَيَأْتِي إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

.الْفَصْلُ السَّادِسُ فِي صِفَاتِ الشَّاهِدِ وَذِكْرِ مَوَانِعِ الْقَبُولِ:

وَمَا يُشْتَرَطُ فِيهِ التَّبْرِيزُ فِي الْعَدَالَةِ وَفِيهِ فَصْلَانِ:

.(القسم) الْأَوَّلُ: فِي فَضْلِ الشَّاهِدِ وَصِفَتِهِ:

وَقَدْ نَطَقَ الْقُرْآنُ الْعَظِيمُ بِفَضْلِ الشَّهَادَةِ، وَرَفَعَهَا وَنَسَبَهَا تَعَالَى إلَى نَفْسِهِ، وَشَرَّفَ بِهَا مَلَائِكَتَهُ وَرُسُلَهُ وَأَفَاضِلَ خَلْقِهِ فَقَالَ تَعَالَى: {لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ} [النساء: 166].
وَقَالَ تَعَالَى: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيدًا} [النساء: 41]؟ فَجَعَلَ كُلَّ نَبِيٍّ شَهِيدًا عَلَى أُمَّتِهِ لِكَوْنِهِ أَفْضَلَ خَلْقِهِ فِي عَصْرِهِ.
وَقَالَ تَعَالَى: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [آل عمران: 18] وَيَكْفِي بِالشَّهَادَةِ شَرَفًا، أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَفَضَ الْفَاسِقَ عَنْ قَبُولِ شَهَادَتِهِ، وَرَفَعَ الْعَدْلَ بِقَبُولِهَا مِنْهُ فَقَالَ تَعَالَى: {إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا} [الحجرات: 6].
وَقَالَ تَعَالَى: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق: 2]، وَأَخْبَرَ سُبْحَانَهُ أَنَّ الْعَدْلَ هُوَ الْمَرْضِيُّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} [البقرة: 282] وَعَرَّفَنَا سُبْحَانَهُ أَنَّ بِهِمْ قِوَامَ الْعَالَمِ فِي الدُّنْيَا، فَقَالَ تَعَالَى: {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الأَرْضُ} [البقرة: 251]، قَالَ بَعْضُهُمْ: الْإِشَارَةُ إلَى مَا يَدْفَعُ اللَّهُ عَنْ النَّاسِ بِالشُّهُودِ فِي حِفْظِ الْأَمْوَالِ وَالنُّفُوسِ وَالدِّمَاءِ وَالْأَعْرَاضِ، فَهُمْ حُجَّةُ الْإِمَامِ وَبِقَوْلِهِمْ تَنْفِيذُ الْأَحْكَامِ.
وَفِي الْحَدِيثِ: أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَالَ: «أَكْرِمُوا مَنَازِلَ الشُّهُودِ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَسْتَخْرِجُ بِهِمْ الْحُقُوقَ، وَيَرْفَعُ بِهِمْ الظُّلْمَ». وَاشْتَقَّ اللَّهُ تَعَالَى لَهُمْ اسْمًا مِنْ أَسْمَائِهِ الْحُسْنَى، وَهُوَ الشَّهِيدُ تَفَضُّلًا وَكَرْمًا.
قَالَ ابْنُ رُشْدٍ: وَلِلشَّاهِدِ فِي شَهَادَتِهِ حَالَانِ: حَالُ تَحَمُّلِ الشَّهَادَةِ وَحَالُ أَدَائِهَا. فَأَمَّا حَالُ تَحَمُّلِهَا فَلَيْسَ مِنْ شَرْطِ الشَّاهِدِ فِيهَا، إلَّا كَوْنُهُ عَلَى صِفَةٍ وَاحِدَةٍ وَهِيَ الضَّبْطُ وَالتَّمْيِيزُ صَغِيرًا كَانَ أَوْ كَبِيرًا، حُرًّا كَانَ أَوْ عَبْدًا مُسْلِمًا كَانَ أَوْ كَافِرًا عَدْلًا كَانَ أَوْ فَاسِقًا. وَأَمَّا حَالُ أَدَائِهَا، فَمِنْ شَرْطِ جَوَازِ شَهَادَتِهِ أَنْ يَجْتَمِعَ فِيهِ خَمْسَةُ أَوْصَافٍ، مَتَى عَرِيَ عَنْ وَاحِدٍ مِنْهَا لَمْ تَجُزْ شَهَادَتُهُ، وَهِيَ: الْبُلُوغُ وَالْعَقْلُ وَالْحُرِّيَّةُ وَالْإِسْلَامُ وَالْعَدَالَةُ، زَادَ ابْنُ رَاشِدٍ وَالْمُرُوءَةُ، وَاخْتُلِفَ فِي الرُّشْدِ وَزَادَ ابْنُ رُشْدٍ، وَأَنْ يَكُونَ مِنْ أَهْلِ التَّيَقُّظِ وَالسَّلَامَةِ مِنْ التَّغَفُّلِ.
فَرْعٌ:
فَلَوْ بَلَغَ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً وَلَمْ يَحْتَلِمْ، وَكَانَ عَدْلًا فَقَالَ ابْنُ وَهْبٍ: تَجُوزُ شَهَادَتُهُ.
وَفِي رِوَايَةِ أَبِي زَيْدٍ عَنْ ابْنِ الْقَاسِمِ: لَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ ابْنِ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً إلَّا أَنْ يَحْتَلِمَ، أَوْ يَبْلُغَ ثَمَانِيَ عَشْرَةَ سَنَةً مِنْ مُفِيدِ الْحُكَّامِ.
تَنْبِيهٌ:
وَفِي كِتَابِ آدَابِ الشَّهَادَةِ لِأَبِي الْفَضْلِ الْعَبَّاسِ بْنِ إسْمَاعِيلَ ابْنِ مَعْمَرِ بْنِ حَبِيبٍ الْجَوْهَرِيِّ قَالَ: وَإِذَا أَسْلَمَ الذِّمِّيُّ فَشَهِدَ شَهَادَةً وَقَدْ كَانَ عَدْلًا فِي أَهْلِ الذِّمَّةِ قَبْلَ أَنْ يُسْلِمَ، قُبِلَتْ شَهَادَتُهُ وَلَمْ يَحْتَجْ إلَى تَجْدِيدِ تَعْدِيلٍ بِخِلَافِ الصَّبِيِّ إذَا بَلَغَ فَلَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ حَتَّى يُعَدَّلَ بَعْدَ بُلُوغِهِ.
وَقَالَ الْمَازِرِيُّ: قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ مُحْتَجًّا لِمَذْهَبِهِ فِي كَوْنِهِ يَكْتَفِي بِظَاهِرِ الْإِسْلَامِ فِي الْعَدَالَةِ إذَا أَسْلَمَ الْكَافِرُ، وَشَهِدَ بِفَوْرِ إسْلَامِهِ قُبِلَتْ شَهَادَتُهُ تَعْوِيلًا عَلَى مُجَرَّدِ الْإِسْلَامِ، قُلْنَا لَمْ يُعَوَّلْ فِي هَذَا إذَا قِيلَ بِقَبُولِ شَهَادَتِهِ عَلَى مُجَرَّدِ الْإِسْلَامِ، لَكِنْ عَلَى الْعِلْمِ بِأَنَّهُ لَمْ يَعْصِ وَلَمْ يَفْسُقْ بَلْ جَبَّ إسْلَامُهُ عَنْهُ الْآثَامَ، فَصَارَ عِنْدَ الْإِسْلَامِ كَمَنْ قُطِعَ بِطَهَارَتِهِ وَلَمْ يَرَ ابْنُ الْقَصَّارِ قَبُولَ شَهَادَتِهِ، بَلْ ذَهَبَ إلَى التَّوَقُّفِ عَنْ قَبُولِهَا، حَتَّى يُعْلَمَ مَا يَبْدُو مِنْهُ، بَعْدَ إسْلَامِهِ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ مُصِرًّا بِقَلْبِهِ عَلَى مَعْصِيَةٍ، أَوْ اعْتِقَادٍ فَاسِدٍ، فَلِهَذَا قَيَّدَ فِي كِتَابِ آدَابِ الشَّهَادَةِ بِكَوْنِهِ كَانَ عَدْلًا قَبْلَ إسْلَامِهِ، فَأَمَّا الْبُلُوغُ؛ فَلِأَنَّ التَّكْلِيفَ شَرْطٌ فِي الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ، فَلِذَلِكَ اشْتَرَطَ الْبُلُوغَ وَاسْتَثْنَى مِنْ ذَلِكَ شَهَادَةَ الصِّبْيَانِ عَلَى شُرُوطٍ يَأْتِي ذِكْرُهَا، وَكَذَلِكَ الْعَقْلُ شَرْطٌ فِي التَّكْلِيفِ، وَاشْتُرِطَتْ الْحُرِّيَّةُ لِظَوَاهِرِ آيَاتٍ مِنْ الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ، يَطُولُ ذِكْرُ الِاسْتِدْلَالِ مِنْهَا، وَفِي الْمُقَدِّمَاتِ مِنْهَا مَا فِيهِ كِفَايَةٌ، وَأَمَّا اشْتِرَاطُ الْإِسْلَامِ فَلِقَوْلِهِ تَعَالَى: {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} [البقرة: 282]، وَالْكَافِرُ غَيْرُ مَرْضِيٍّ.
وَأَمَّا الْعَدَالَةُ فَقَالَ ابْنُ رَاشِدٍ: اُخْتُلِفَ فِي حَدِّ الْعَدَالَةِ وَالرِّضَا، الَّذِي تَجُوزُ بِهِ شَهَادَةُ الشَّاهِدِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا، وَأَحْسَنُ مَا قِيلَ فِي ذَلِكَ عِنْدِي: أَنَّهُ الشَّاهِدُ الَّذِي يَجْتَنِبُ الْكَبَائِرَ وَيَتَوَقَّى الصَّغَائِرَ، عَلَى أَنْ لَا صَغِيرَةَ عَلَى الْإِطْلَاقِ؛ لِأَنَّ كُلَّ مَا عُصِيَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ فَهُوَ كَبِيرَةٌ، وَإِنَّمَا يُقَالُ لَهَا صَغَائِرُ بِإِضَافَتِهَا إلَى الْكَبَائِرِ، قَالَ ابْنُ رَاشِدٍ: وَالْعَدَالَةُ هَيْئَةٌ رَاسِخَةٌ فِي النَّفْسِ، تَحُثُّ عَلَى مُلَازَمَةِ التَّقْوَى بِاجْتِنَابِ الْكَبَائِرِ وَتَوَقِّي الصَّغَائِرِ، وَالتَّحَاشِي عَنْ الرَّذَائِلِ الْمُبَاحَةِ.
وَقَالَ ابْنُ شَاسٍ: الْمُرَادُ بِهَا الِاعْتِدَالُ وَالِاسْتِوَاءُ فِي الْأَحْوَالِ الدِّينِيَّةِ، وَذَلِكَ أَنْ يَكُونَ ظَاهِرَ الْأَمَانَةِ، عَفِيفًا عَنْ الْمَحَارِمِ، مُتَوَقِّيًا لِلْمَآثِمِ بَعِيدًا مِنْ الرِّيَبِ، مَأْمُونًا فِي الرِّضَا وَالْغَضَبِ، قَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا لَيْسَتْ الْعَدَالَةُ أَنْ يُمْحِضَ الرَّجُلُ الطَّاعَةَ حَتَّى لَا تَشُوبَهَا مَعْصِيَةٌ، وَذَلِكَ مُتَعَذِّرٌ إلَّا فِي الْأَوْلِيَاءِ وَالصِّدِّيقِينَ، وَلَكِنْ مَنْ كَانَتْ أَكْثَرُ حَالِهِ الطَّاعَةَ وَهِيَ الْغَالِبُ مِنْ أَحْوَالِهِ، وَهُوَ مُجْتَنِبٌ لِلْكَبَائِرِ مُحَافِظٌ عَلَى تَرْكِ الصَّغَائِرِ. فَهُوَ الْعَدْلُ.
وَأَمَّا الْمُرُوءَةُ، فَقَالَ ابْنُ رَاشِدٍ: لَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ مَنْ لَمْ يُحَافِظْ عَلَى مُرُوءَتِهِ، قَالَ ابْنُ مُحْرِزٍ: لَيْسَ الْمُرَادُ بِالْمُرُوءَةِ نَظَافَةَ الثَّوْبِ وَلَا فَرَاهَةَ الْمَرْكُوبِ وَجَوْدَةَ الْآلَةِ وَحُسْنَ الشَّارَةِ، وَإِنَّمَا الْمُرَادُ بِهَا: التَّصَوُّنُ وَالسَّمْتُ الْحَسَنُ، وَحِفْظُ اللِّسَانِ، وَتَجَنُّبُ مُخَالَطَةِ الْأَرَاذِلِ، وَتَرْكُ الْإِكْثَارِ مِنْ الْمُدَاعَبَةِ وَالْفُحْشِ وَكَثْرَةِ الْمُجُونِ، وَتَجَنُّبُ السُّخْفِ، وَالِارْتِفَاعُ عَنْ كُلِّ خُلُقٍ رَدِيءٍ، يُرَى أَنَّ كُلَّ مَنْ تَخَلَّقَ بِهِ لَا يُحَافَظُ عَلَى دِينِهِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي نَفْسِهِ جُرْحَةً.
وَأَمَّا الرُّشْدُ: فَاخْتُلِفَ هَلْ مِنْ شَرْطِ الشَّاهِدِ أَنْ يَكُونَ رَشِيدًا مَالِكًا لِأَمْرِ نَفْسِهِ؟ فَرَوَى أَشْهَبُ عَنْ مَالِكٍ أَنَّ شَهَادَةَ الْمُوَلَّى عَلَيْهِ جَائِزَةٌ إنْ كَانَ عَدْلًا، وَهِيَ رِوَايَةُ ابْنِ عَبْدِ الْحَكَمِ أَيْضًا عَنْهُ.
وَقَالَ أَشْهَبُ: لَا تَجُوزُ شَهَادَتُهُ وَإِنْ كَانَ مِثْلُهُ لَوْ طَلَبَ مَالَهُ أُعْطِيهِ، وَاخْتَارَ ذَلِكَ مُحَمَّدُ بْنُ الْمَوَّازِ قَالَ: وَلَا تَجُوزُ شَهَادَةُ الْبِكْرِ فِي الْمَالِ حَتَّى تَعْنُسَ وَإِنْ كَانَتْ مِنْ أَهْلِ الْعَدْلِ.
وَأَمَّا الْيَقِظَةُ فَقَالَ ابْنُ رُشْدٍ: وَمِنْ شَرْطِ جَوَازِ الشَّهَادَةِ أَنْ يَكُونَ الشَّاهِدُ مِنْ أَهْلِ الْيَقِظَةِ وَالتَّحَرُّزِ؛ لِأَنَّهُ إنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْغَفْلَةِ لَمْ يُؤْمَنْ عَلَيْهِ التَّخْبِيلُ وَالتَّحَيُّلُ فَيَشْهَدُ بِالْبَاطِلِ.
الثَّانِي: فِي مَوَانِعِ الْقَبُولِ: وَهِيَ عَلَى قِسْمَيْنِ: مَانِعٌ مُطْلَقًا وَمَانِعٌ عَلَى جِهَةٍ يَعْنِي أَنَّهُ يَمْنَعُ مِنْ قَبُولِ الشَّهَادَةِ مَعَ بَقَاءِ الْعَدَالَةِ.
الْقِسْمُ الْأَوَّلُ: يَكْثُرُ تَعْدَادُهُ وَيَتَعَذَّرُ حَصْرُهُ وَلَكِنْ نَذْكُرُ مِنْهُ مَا يَتَيَسَّرُ فَمِنْهُ كُلُّ وَصْفٍ أَوْ فِعْلٍ مُضَادٍّ لِلْعَدَالَةِ أَوْ لِلْمُرُوءَةِ، أَوَّلُهَا: كَتَعَاطِي فِعْلِ الْفَاحِشَةِ وَمَا أَشْبَهَهَا مِنْ الْكَبَائِرِ، وَالْإِصْرَارُ عَلَى الصَّغِيرَةِ يُصَيِّرُهَا كَبِيرَةً.
وَمِنْهُ أَنْ يَقْتَطِعَ شَيْئًا مِنْ مَحَجَّةِ الْمُسْلِمِينَ، قَالَ الْبَاجِيُّ فِي وَثَائِقِهِ: ذَلِكَ جُرْحَةٌ إنْ كَانَ اقْتِطَاعُهُ عَنْ مَعْرِفَةٍ وَقَصْدٍ، وَإِنْ كَانَ لَا يَضِيقُ وَلَا يَضُرُّ بِالْمَارِّينَ، وَظَاهِرُ قَوْلِ غَيْرِهِ أَنَّهُ لَا يَقْدَحُ إلَّا أَنْ يَضُرَّ وَيَفْعَلَهُ عَنْ مَعْرِفَةٍ، انْتَهَى. وَظَاهِرُ كَلَامِ ابْنِ سَهْلٍ وَنَقْلِهِ عَنْ أَصْبَغَ أَنَّ ذَلِكَ لَا يَمْنَعُ إذَا كَانَتْ الطَّرِيقُ وَاسِعَةً جِدًّا.
وَمِنْهُ: أَنْ يَدَّعِيَ عِلْمَ الْقَضَاءِ بِالنُّجُومِ، قَالَ أَبُو عُمَرَ: إنْ ادَّعَاهُ وَاشْتُهِرَ بِهِ وَأَكَلَ الْمَالَ بِهِ سَقَطَتْ شَهَادَتُهُ، انْتَهَى مِنْ ابْنِ رَاشِدٍ، وَفِي فَتَاوَى ابْنِ رُشْدٍ: الْكَلَامُ عَلَى هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مُسْتَوْفًى، وَمِنْ جُمْلَتِهِ أَنَّ الْمُنَجِّمَ إذَا كَانَ مُؤْمِنًا بِاَللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، مُقِرًّا بِأَنَّ النُّجُومَ وَاخْتِلَافَهَا فِي الطُّلُوعِ وَالْغُرُوبِ لَا تَأْثِيرَ لَهَا فِي شَيْءٍ مِمَّا يَحْدُثُ فِي الْعَالَمِ، وَأَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ هُوَ الْفَاعِلُ لِذَلِكَ كُلِّهِ، إلَّا أَنَّهُ جَعَلَهَا أَدِلَّةً عَلَى مَا يَفْعَلُهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ، فَحُكْمُ هَذَا أَنْ يُزْجَرَ عَنْ اعْتِقَادِهِ وَيُؤَدَّبَ عَلَيْهِ أَبَدًا. حَتَّى يَكُفَّ عَنْهُ وَيَرْجِعَ عَنْ اعْتِقَادِهِ وَيَتُوبَ عَنْهُ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ بِدْعَةٌ يُجْرَحُ بِهَا، فَتَسْقُطُ إمَامَتُهُ وَشَهَادَتُهُ عَلَى مَا قَالَهُ سَحْنُونٌ فِي نَوَازِلِهِ مِنْ كِتَابِ الشَّهَادَاتِ، وَلَا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يُصَدِّقَهُ فِي شَيْءٍ مِمَّا يَقُولُ، وَلَا يَصِحُّ أَنْ يَجْتَمِعَ فِي قَلْبِ مُؤْمِنٍ تَصْدِيقُهُ مَعَ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ الْغَيْبَ إِلا اللَّهُ} [النمل: 65] وقَوْله تَعَالَى: {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا} [الجن: 26] {إِلا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ} [الجن: 27] وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْآيَاتِ وَالْأَحَادِيثِ.
وَمِنْهُ: سَمَاعُ الْقِيَانِ عِنْدَ ابْنِ الْقَاسِمِ وَأَشْهَبَ.
وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ: مَنْ سَمِعَ صَوْتَ الْعِيدَانِ وَحَضَرَهَا لَمْ تَجُزْ شَهَادَتُهُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهَا نَبِيذٌ، إلَّا أَنْ يَحْضُرَهَا فِي عُرْسٍ أَوْ صَنِيعٍ فَلَا أَبْلُغُ بِهِ رَدَّ الشَّهَادَةِ إنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهَا نَبِيذٌ، وَلَيْسَ الصَّنِيعُ كَغَيْرِهِ وَإِنْ كَانَ مَكْرُوهًا عَلَى كُلِّ حَالٍ، قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ: وَمَنْ سَمِعَ رَجُلًا يُغَنِّي لَمْ أَرُدُّ بِذَلِكَ شَهَادَتَهُ إلَّا أَنْ يَكُونَ مُدْمِنًا، وَكَذَلِكَ شَهَادَةُ الْمُغَنِّي وَالْمُغَنِّيَةِ إذَا عُرِفُوا بِذَلِكَ، وَكَذَلِكَ شَهَادَةُ مَنْ يَغْشَى الْمُغَنِّينَ أَوْ يَغْشَوْنَهُ أَوْ أَكْثَرَ سَمَاعَ الْقِيَانِ. فَائِدَةٌ: فِي حُكْمِ السَّمَاعِ مِنْ الرِّحْلَةِ لِلْإِمَامِ الْخَطِيبِ الْعَلَّامَةِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ رَشِيدٍ، قَالَ: حَكَى الْحَافِظُ أَبُو الْفَضْلِ مُحَمَّدُ بْنُ طَاهِرٍ الْمَقْدِسِيُّ الْمُحَدِّثُ الصُّوفِيُّ قَالَ: وَأَخْبَرَنِي أَبُو مُحَمَّدٍ التَّمِيمِيُّ بِبَغْدَادَ، قَالَ: سَأَلْت الشَّرِيفَ أَبَا عَلِيٍّ مُحَمَّدَ بْنَ أَحْمَدَ بْنِ أَبِي مُوسَى الْهَاشِمِيَّ عَنْ السَّمَاعِ فَقَالَ: مَا أَدْرِي مَا أَقُولُ فِيهِ، غَيْرَ أَنِّي حَضَرْت بِدَارِ شَيْخِنَا أَبِي الْحَسَنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ الْحَارِثِ التَّمِيمِيِّ شَيْخِ الْحَنَابِلَةِ سَنَةَ سَبْعِينَ وَثَلَثِمِائَةٍ فِي دَعْوَةٍ عَمِلَهَا لِأَصْحَابِهِ حَضَرَهَا الشَّيْخُ أَبُو بَكْرٍ الْأَبْهَرِيُّ شَيْخُ الْمَالِكِيَّةِ، وَأَبُو الْقَاسِمِ الدَّارَكِيُّ شَيْخُ الشَّافِعِيَّةِ، وَالْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ الْبَاقِلَّانِيُّ شَيْخُ الطَّوَائِفِ وَإِمَامُ وَقْتِهِ، وَأَبُو الْحَسَنِ طَاهِرُ بْنُ الْحُسَيْنِ شَيْخُ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ، وَأَبُو الْحَسَنِ بْنُ سَمْعُونٍ شَيْخُ الْوُعَّاظِ وَالزُّهَّادِ، وَأَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ مُجَاهِدٍ شَيْخُ الْمُتَكَلِّمِينَ، فَقَالَ أَبُو عَلِيٍّ: لَوْ سَقَطَ السَّقْفُ عَلَى هَؤُلَاءِ لَمْ يَبْقَ بِالْعِرَاقِ أَحَدٌ يُفْتِي فِي نَازِلَةٍ يُشْبِهُ وَاحِدًا مِنْهُمْ، وَحَضَرَ مَعَهُمْ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ غُلَامُ بَابَا وَكَانَ يَقْرَأُ الْقُرْآنَ بِصَوْتٍ حَسَنٍ، وَرُبَّمَا قَالَ شَيْئًا فَقِيلَ لَهُ: قُلْ لَنَا شَيْئًا فَقَالَ وَهُمْ يَسْمَعُونَ:
خَطَّتْ أَنَامِلُهَا فِي بَطْنِ قِرْطَاسِ ** رِسَالَةً بِعَبِيرٍ لَا بِأَنْفَاسِ

أَنْ زُرْ فَدَيْتُكَ لِي مِنْ غَيْرِ مُحْتَشَمٍ ** فَإِنَّ حُبَّكَ لِي قَدْ ضَاعَ فِي النَّاسِ

فَكَانَ قَوْلِي لِمَنْ أَدَّى رِسَالَتَهَا ** قِفِي لِأَمْشِيَ عَلَى الْعَيْنَيْنِ وَالرَّاسِ

قَالَ أَبُو عَلِيٍّ: فَبَعْدَ مَا رَأَيْت هَذَا لَا يُمْكِنُنِي أَنْ أُفْتِي فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ لَا بِحَظْرٍ وَلَا إبَاحَةٍ. وَمِنْهُ النَّائِحَةُ إذَا عُرِفَتْ بِذَلِكَ.
وَمِنْهُ شَهَادَةُ الشَّاعِرِ الَّذِي يَمْدَحُ مَنْ أَعْطَاهُ وَيَهْجُو مَنْ مَنَعَهُ، فَإِنْ كَانَ لَا يَهْجُو مَنْ مَنَعَهُ وَلَا يُؤْذِي أَحَدًا بِلِسَانِهِ وَيَأْخُذُ مِمَّنْ أَعْطَاهُ، فَأَرَى أَنْ تُقْبَلَ شَهَادَتُهُ إنْ كَانَ عَدْلًا، وَحَكَى ابْنُ رَاشِدٍ عَنْ زَرْبٍ: إنْ كَانَ الشَّاعِرُ يَكْذِبُ فِي شِعْرِهِ لَمْ تَجُزْ شَهَادَتُهُ، قَالَ: وَأَمَّا: وَصْفُ الشَّاعِرِ النِّسَاءَ، أَوْ الْخَمْرَ، بِمَا يَجُوزُ لَهُ فَلَا يَقْدَحُ وَقَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ فِي عَارِضَةِ الْأَحْوَذِيِّ فِي شَرْحِ التِّرْمِذِيِّ: لَا بَأْسَ بِإِنْشَادِ الشِّعْرِ فِي الْمَسْجِدِ إذَا كَانَ فِي مَدْحِ الدِّينِ، وَإِنْ كَانَتْ فِيهِ الْخَمْرُ مَمْدُوحَةً بِصِفَاتِهَا الْخَبِيثَةِ مِنْ طِيبِ رَائِحَةٍ وَحُسْنِ لَوْنٍ، وَاسْتَدَلَّ بِمَا فِي قَصِيدَةِ كَعْبِ بْنِ زُهَيْرٍ الَّتِي أَوَّلُهَا بَانَتْ سُعَادُ وَمِنْهُ عَصْرُ الْخَمْرِ وَبَيْعُهَا وَكِرَاءُ دَارِهِ مِمَّنْ يَبِيعُهَا.
وَمِنْهُ: بَيْعُ النَّرْدِ وَالْمَزَامِيرِ وَالطَّنَابِيرِ وَآلَاتِ اللَّهْوِ قَالَهُ سَحْنُونٌ، وَمِنْهُ: أَنْ يُحَلِّفَ أَبَاهُ، قَالَ ابْنُ زَرْبٍ: أَوْ جَدَّهُ أَوْ يُحَدَّ لَهُ قَالَهُ ابْنُ الْقَاسِمِ.
وَقَالَ فِي الْمَوَّازِيَّةِ: ذَلِكَ جُرْحَةٌ مَا لَمْ يُعْذَرْ بِجَهْلٍ.
وَمِنْهُ: قَطْعُ السِّكَّةِ قَالَهُ ابْنُ الْقَاسِمِ، وَرَوَى عَنْهُ ابْنُ الْمَوَّازِ إلَّا أَنْ يُعْذَرَ بِجَهْلٍ.
وَقَالَ عَنْهُ الْعُتْبِيُّ: لَا يَجُوزُ وَإِنْ كَانَ جَاهِلًا.
وَقَالَ سَحْنُونٌ: لَيْسَ قَطْعُ الدَّنَانِيرِ وَالدَّرَاهِمِ بِجُرْحَةٍ قَالَ بَعْضُ الشُّيُوخِ: وَهَذَا الِاخْتِلَافُ عِنْدِي إنَّمَا هُوَ إذَا قَطَعَهَا وَهِيَ وَازِنَةٌ فَرَدَّهَا نَاقِصَةً، وَالْبَلَدُ لَا تَجُوزُ فِيهِ إلَّا وَازِنَةً وَهِيَ تَجْرِي فِيهِ عَدَدًا بِغَيْرِ وَزْنٍ فَانْتَفَعَ بِمَا قَطَعَ مِنْهَا وَيُنْفِقُهَا بِغَيْرِ وَزْنٍ، فَتَجْرِي مَجْرَى الْوَازِنَةِ فَلَا خِلَافَ فِي أَنَّ ذَلِكَ جُرْحَةٌ، وَلَوْ قَطَعَهَا وَكَانَ التَّبَايُعُ بِهَا بِالْمِيزَانِ فَلَا خِلَافَ أَنَّ التَّبَايُعَ بِهَا لَيْسَ بِجُرْحَةٍ وَإِنْ كَانَ عَالَمًا فَمَكْرُوهٌ وَذَلِكَ.
مَسْأَلَةٌ:
وَلَا بَأْسَ أَنْ يَقْطَعَ الرَّجُلُ الدَّنَانِيرَ وَالدَّرَاهِمَ حُلِيًّا لِبَنَاتِهِ وَنِسَائِهِ، قَالَهُ ابْنُ الْقَاسِمِ وَابْنُ وَهْبٍ، وَانْظُرْ فِي الْبَيَانِ وَالتَّحْصِيلِ فِي سَمَاعِ ابْنِ الْقَاسِمِ فِي كِتَابِ الصَّرْفِ فِي رَسْمِ شَكَّ فِي طَوَافِهِ وَرَسْمِ تَأْخِيرِ الْعِشَاءَيْنِ مَا لَا يَجُوزُ مِنْ ذَلِكَ وَمَا يُكْرَهُ مِنْهُ. وَيَجُوزُ مِنْهُ، وَمَا يُتَّفَقُ عَلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ وَيُخْتَلَفُ فِيهِ.
وَمِنْهُ اعْتِقَادُ الْبِدْعَةِ، كَالْمُعْتَزِلَةِ وَالْإِبَاضِيَّةِ وَالْقَدَرِيَّةِ، قَالَ سَحْنُونٌ: لَا تَجُوزُ شَهَادَةُ أَهْلِ الْبِدَعِ عَلَى كُلِّ حَالٍ، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى شَهَادَتِهِمْ فِي الْقَضَاءِ بِشَهَادَةِ غَيْرِ الْعُدُولِ لِلضَّرُورَةِ، وَمِنْهُ الْكِهَانَةُ.
وَمِنْهُ أَنْ يَتْرُكَ الْجُمُعَةَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ مُتَوَالِيَاتٍ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ، وَقِيلَ إذَا تَرَكَهَا مَرَّةً وَاحِدَةً مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ سَقَطَتْ شَهَادَتُهُ، قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ إلَّا أَنْ يَكُونَ مِنْ الْمُبَرَّزِينَ فِي الصَّلَاحِ وَمِمَّنْ لَا يُتَّهَمُ فَهُوَ أَعْلَمُ بِنَفْسِهِ، قَالَ ذَلِكَ فِيمَنْ تَرَكَهَا ثَلَاثَ مَرَّاتٍ.
وَقَالَ الْمَازِرِيُّ: اخْتَلَفَ الْمَذْهَبُ فِي التَّجْرِيحِ بِتَرْكِ صَلَاةِ الْجُمُعَةِ فَقِيلَ: لَا يُجْرَحُ بِتَرْكِهَا؛ لِأَنَّ الْأَعْذَارَ الْقَاطِعَةَ عَنْ الْجُمُعَةِ قَدْ تَخْفَى عَنْ النَّاسِ وَمِنْهَا: مَا يُكْرَهُ إظْهَارُهُ، فَيُوكَلُ ذَلِكَ إلَى أَمَانَةِ الْمُتَخَلِّفِ عَنْهَا، وَلَا تَسْقُطُ الْعَدَالَةُ الثَّابِتَةُ بِأَمْرٍ مُحْتَمَلٍ هَلْ وَقَعَ عَلَى وَجْهٍ مُبَاحٍ أَوْ مَحْظُورٍ؟ وَقِيلَ: بَلْ يُجْرَحُ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ تَرْكَهَا مَعْصِيَةٌ وَالْأَعْذَارُ نَادِرَةٌ وَنَحْنُ نَسْتَصْحِبُ الظَّاهِرَ مِنْ الْأُمُورِ. وَاخْتُلِفَ عَلَى هَذِهِ الطَّرِيقَةِ هَلْ يَقَعُ التَّجْرِيحُ بِالتَّخَلُّفِ عَنْهَا مَرَّةً وَاحِدَةً، أَوْ لَا يَقَعُ إلَّا بِالتَّخَلُّفِ عَنْهَا ثَلَاثَ مَرَّاتٍ؟. وَمِنْهُ: مَنْ لَا يُقِيمُ صُلْبَهُ فِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ، فَلَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ إذَا تَعَمَّدَ ذَلِكَ فِي فَرِيضَةٍ أَوْ نَافِلَةٍ قَالَهُ ابْنُ كِنَانَةَ.
وَمِنْهُ مَنْ لَا يُحْكِمُ فَرَائِضَ الْوُضُوءِ وَالصَّلَاةِ. وَمِنْهُ: قَالَ سَحْنُونٌ: وَلَا تَجُوزُ شَهَادَةُ مَنْ سَافَرَ فَاحْتَاجَ إلَى التَّيَمُّمِ فَلَمْ يُحْسِنْهُ. وَمِنْهُ: مَنْ لَزِمَتْهُ زَكَاةٌ فَلَمْ يَعْلَمْ نِصَابَهَا.
وَمِنْهُ مَنْ اتَّصَلَ وَفْرُهُ وَقُوَّتُهُ فَبَلَغَ عُمْرُهُ إلَى سِتِّينَ سَنَةً فَلَمْ يَحُجَّ فَلَا شَهَادَةَ لَهُ، قِيلَ لَهُ: وَإِنْ كَانَ بِالْأَنْدَلُسِ، قَالَ: وَإِنْ كَانَ مِنْ ابْنِ يُونُسَ. وَمِنْهُ: مَنْ حَبَسَ دَيْنًا فَلَمْ يَقْضِهِ وَهُوَ غَنِيٌّ.
وَمِنْهُ: مَنْ اشْتَرَى جَارِيَةً فَوَطِئَهَا قَبْلَ الِاسْتِبْرَاءِ، رُدَّتْ شَهَادَتُهُ وَعَلَيْهِ الْأَدَبُ إنْ كَانَ غَيْرَ جَاهِلٍ، وَكَذَلِكَ لَوْ وَطِئَ صَغِيرَةً مِثْلُهَا لَا يُوطَأُ وَإِنْ كَانَتْ مِمَّنْ لَا تَحِيضُ.
وَمِنْهُ: الْفِرَارُ مِنْ الزَّحْفِ وَإِنْ فَرَّ الْإِمَامُ، قَالَ ابْنُ زَرْبٍ: حَتَّى تُعْرَفَ تَوْبَتُهُ وَيَزْدَادَ خَيْرًا، وَالْفِرَارُ مِنْ الزَّحْفِ أَنْ يَفِرَّ مِنْ الْمِثْلَيْنِ.
وَمِنْهُ: تَرْكُ الصَّلَاةِ أَوْ الصِّيَامِ حَتَّى خَرَجَ الْوَقْتُ الْمَشْرُوعُ. وَمِنْهُ: جَهْلُ أَحْكَامِ قَصْرِ الصَّلَاةِ إذَا كَانَ مِنْ أَهْلِ السَّفَرِ.
وَمِنْهُ: شَهَادَةُ الْفَقِيهِ فِيمَا اُسْتُفْتِيَ فِيهِ إذَا جَاءَهُ الْمُسْتَفْتِي فِي أَمْرٍ يَنْوِي فِيهِ، فَرُوِيَ عَنْ ابْنِ الْقَاسِمِ أَنَّهُ يَشْهَدُ بِمَا سَمِعَ وَهِيَ رِوَايَةُ يَحْيَى.
وَفِي رِوَايَةِ عِيسَى عَنْهُ: لَا يَشْهَدُ بِمَا سَمِعَ وَبِهِ الْعَمَلُ، وَمِثْلُهُ ذَكَرَ ابْنُ أَبِي زَمَنِينَ فِي مُنْتَخَبِهِ مِنْ مُفِيدِ الْحُكَّامِ. وَمِنْهُ الْمُدَاوَمَةُ عَلَى تَرْكِ الْمَنْدُوبِ الْمُؤَكَّدِ: كَالْوِتْرِ وَرَكْعَتَيْ الْفَجْرِ وَتَحِيَّةِ الْمَسْجِدِ.
وَمِنْهُ: أَنْ يُحَدَّ فِي قَذْفٍ، فَإِنْ تَابَ قُبِلَتْ مُطْلَقًا عِنْدَ ابْنِ الْقَاسِمِ، وَعَنْ مَالِكٍ إلَّا مَا حُدَّ فِيهِ، وَبِهِ قَالَ مُطَرِّفٌ وَابْنُ الْمَاجِشُونِ. وَهَذَا الْخِلَافُ يَدْخُلُ فِي شَهَادَةِ وَلَدِ الزِّنَا، وَفِي شَهَادَةِ الْبِكْرِ الزَّانِي فِي الزِّنَا. وَشَهَادَةِ السَّارِقِ إذَا قُطِعَ فِيهَا.
وَفِي شَهَادَةِ قَاتِلِ الْعَمْدِ إذَا عُفِيَ عَنْهُ فِي الْقَتْلِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي الْمَشْهُورُ، قَالَ مُطَرِّفٌ وَابْنُ الْمَاجِشُونِ: تُرَدُّ شَهَادَةُ الزَّانِي فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالزِّنَا، وَكَذَلِكَ الْمَنْبُوذُ كَاللِّعَانِ وَالْقَذْفِ.
وَقَالَ الْمَازِرِيُّ: لَمْ يَخْتَلِفْ الْمَذْهَبُ فِي رَدِّ شَهَادَةِ وَلَدِ الزِّنَا فِي الزِّنَا، وَقَبُولِهَا فِي غَيْرِهِ مِنْ الْمَذْهَبِ.
وَمِنْهُ: تَكَرُّرُ التِّجَارَةِ إلَى أَرْضِ الْحَرْبِ فِي قَوْلِ سَحْنُونٍ. وَمِنْهُ: قَبُولُ جَوَازِ الْعُمَّالِ الْمَضْرُوبِ عَلَى أَيْدِيهِمْ، وَكَذَلِكَ إدْمَانُ الْأَكْلِ عِنْدَهُمْ بِخِلَافِ قَبُولِ جَوَائِزِ الْخُلَفَاءِ مَنْ يُرْضَى مِنْهُمْ وَمَنْ لَا يُرْضَى، وَقَدْ قَبِلَهَا جَمَاعَةٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ أَهْلِ الْفَضْلِ. وَمِنْهُ: مُعَامَلَةُ أَهْلِ الْغُصُوبِ وَالسَّلَفِ مِنْهُمْ: وَمِنْهُ اعْتِيَادُ الْحَلِفِ بِالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ.
وَمِنْهُ: الْعَصَبِيَّةُ وَهُوَ أَنْ يُبْغِضَ الرَّجُلُ الرَّجُلَ؛ لِأَنَّهُ مِنْ بَنِي فُلَانٍ أَوْ مِنْ قَبِيلَةِ كَذَا. وَمِنْهُ: النَّمِيمَةُ. وَمِنْهُ الطَّعْنُ عَلَى النَّاسِ. وَمِنْهُ الْخِيَانَةُ وَالرِّشْوَةُ. وَمِنْهُ تَلْقِينُ الْخَصْمِ الْخُصُومَةَ فَقِيهًا كَانَ أَوْ غَيْرَهُ. وَمِنْهُ: صَنْعَةُ النَّيْرُوزِ وَالْمِهْرَجَانِ.
وَمِنْهُ: إتْيَانُ مَجْلِسِ الْقَاضِي ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ مُتَوَالِيَاتٍ لِغَيْرِ حَاجَةٍ؛ لِأَنَّ فِي ذَلِكَ إظْهَارَ مَنْزِلَتِهِ عِنْدَ الْقَاضِي وَيَجْعَلُ ذَلِكَ مَأْكَلَةً لِلنَّاسِ، وَيَنْبَغِي لِلْقَاضِي أَنْ يَمْنَعَهُ مِنْ ذَلِكَ وَقَدْ تَقَدَّمَ. وَمِنْهُ: أَنْ يَأْخُذَ حِجَارَةً مِنْ الْمَسْجِدِ وَيَقُولَ: تَسَلَّفْتهَا وَرَدَدْتُ مِثْلَهَا. وَمِنْهُ: أَنْ يَسْكُنَ فِي دَارٍ يَعْلَمُ أَنَّ أَصْلَهَا مَغْصُوبٌ. وَمِنْهُ: أَنْ يَكُونَ لَهُ ابْنٌ شِرِّيبٌ سَمَّاعٌ لِلْغِنَاءِ مِنْ الْخَدَمِ وَغَيْرِهِنَّ يَسْكُنُ مَعَهُ فِي دَارٍ وَاحِدَةٍ. وَمِنْهُ: الِالْتِفَاتُ فِي الصَّلَاةِ يَمِينًا وَشِمَالًا. وَمِنْهُ: سُكُوتُهُ عَنْ شَيْءٍ مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى مِثْلُ: عِتْقِ عَبْدٍ أَوْ أَمَةٍ يَرَاهُمَا يُمْلَكَانِ، وَطَلَاقِ امْرَأَةٍ يَرَى زَوْجَهَا مُقِيمًا مَعَهَا وَلَا يَقُومُ بِذَلِكَ وَلَيْسَ لَهُ عُذْرٌ، وَكَذَلِكَ فِي حَقِّ الْآدَمِيِّ وَقَدْ تَقَدَّمَ ذَلِكَ.
وَمِنْهُ: الْإِدْمَانُ عَلَى اللَّعِبِ بِالْحَمَامِ، وَمِنْهُ: الْإِدْمَانُ عَلَى اللَّعِبِ بِالشِّطْرَنْجِ، وَذَلِكَ مَانِعٌ مِنْ قَبُولِ الشَّهَادَةِ وَإِنْ كَانَ إنَّمَا هُوَ الْمَرَّةُ بَعْدَ الْمَرَّةِ فَشَهَادَتُهُ جَائِزَةٌ إذَا كَانَ عَدْلًا، وَكَرِهَ مَالِكٌ اللَّعِبَ بِهَا وَإِنْ قَلَّ وَقَالَ هُوَ أَشَدُّ مِنْ النَّرْدِ.
وَقَالَ فِي كِتَابِ ابْنِ الْمَوَّازِ: وَاللَّاعِبُ بِالْحَمَامِ وَالنَّرْدِ وَالشِّطْرَنْجِ إنْ كَانَ يُقَامِرُ عَلَيْهَا، أَوْ كَانَ مُدْمِنًا لَمْ يُقَامِرْ فَلَا تَجُوزُ شَهَادَتُهُ، وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ: إنْ كَانَ كَثِيرَ اللَّعِبِ بِالشِّطْرَنْجِ حَتَّى يَشْغَلَهُ عَنْ الصَّلَاةِ فِي الْجَمَاعَةِ، طُرِحَتْ شَهَادَتُهُ وَإِلَّا جَازَتْ. وَأَمَّا النَّرْدُ فَلَا أَعْلَمُ مَنْ يَلْعَبُ بِهِ فِي وَقْتِنَا هَذَا إلَّا أَهْلُ السَّفَهِ وَمَنْ تَرَكَ الْمُرُوءَةَ مِنْ الدِّينِ فَلَا تَجُوزُ شَهَادَتُهُ، قَالَ الْأَبْهَرِيُّ: تَجُوزُ شَهَادَةُ مَنْ لَا يُدْمِنُ اللَّعِبَ بِالشِّطْرَنْجِ إذْ لَا يَخْلُو الْإِنْسَانُ مِنْ لَهْوٍ وَفَرَحٍ يَسِيرٍ، وَقَدْ رَوَيْنَا عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ التَّابِعِينَ أَنَّهُمْ كَانُوا يَلْعَبُونَ بِالشِّطْرَنْجِ، قَالَ مُحَمَّدٌ وَغَيْرُهُ: لَا تَجُوزُ شَهَادَتُهُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُدْمِنًا عَلَى اللَّعِبِ. قَالَ فِي الْمَذْهَبِ، وَحَكَى الدَّاوُدِيُّ عَنْ مَالِكٍ: أَنَّ لَعِبَهَا مَرَّةً فِي الْعُمْرِ تَسْقُطُ بِهِ الشَّهَادَةُ.
وَمِنْهُ: الْفِطْرُ فِي رَمَضَانَ مُتَعَمِّدًا. وَمِنْهُ: رُكُوبُ الْبَحْرِ عِنْدَ ارْتِجَاجِهِ وَفِي غَيْرِ إبَّانِهِ. وَمِنْهُ: دُخُولُ الْحَمَّامِ بِغَيْرِ مِئْزَرٍ وَعَدَمُ تَطَهُّرِهِ فِي الْحَمَّامِ بَعْدَ غُسْلِهِ بِمَاءٍ لَا يَشُكُّ فِي طَهُورِيَّتِهِ. وَمِنْهُ: إفْسَادُ الزَّرْعِ وَرَعْيُهُ عَلَى وَجْهِ الْعَمْدِ؛ لِأَنَّهُ مِنْ الْإِفْسَادِ فِي الْأَرْضِ. وَمِنْهُ: تَعْلِيمُ جَارِيَتِهِ الْغِنَاءَ وَإِنْ لَمْ يَسْمَعْهُ. وَمِنْهُ: وَطْءُ الْمَرْأَةِ فِي حَيْضِهَا. وَمِنْهُ الطَّحِينُ فِي الرَّحَا الْمَغْصُوبَةِ إذَا عَلِمَ ذَلِكَ. وَمِنْهُ: الِانْتِسَابُ إلَى غَيْرِ أَبِيهِ وَالِانْتِمَاءُ إلَى غَيْرِ مَوَالِيه. وَمِنْهُ: هَجْرُ أَخِيهِ الْمُسْلِمِ حَتَّى وَإِنْ سَلَّمَ عَلَيْهِ إذَا كَانَ غَيْرَ مُوَادٍّ لَهُ إلَّا أَنْ يَكُونَ الْهَجْرُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ بِالْعَدَاوَةِ وَالْخُصُومَةِ إذَا كَانَتَا فِي أُمُورِ الدُّنْيَا، وَمِنْهُ: أَنْ يَتَحَرَّفَ بِالْحِرَفِ الدَّنِيئَةِ اخْتِيَارًا وَيَكُونُ مِمَّنْ لَا يَلِيقُ بِهِ ذَلِكَ، كَدِبَاغَةٍ وَحِجَامَةٍ وَحِيَاكَةٍ وَكُنَاسَةٍ، فَأَمَّا أَرْبَابُهَا وَفَاعِلُهَا مُضْطَرًّا فَلَا يَقْدَحُ فِيهِ، وَمِنْهُ: الْأَكْلُ فِي السُّوقِ.
وَمِنْهُ: شَهَادَةُ الْقِرَاءَةِ بِأَلْحَانٍ عَلَى اخْتِلَافٍ.
وَفِي ابْنِ يُونُسَ وَأَكْرَهُ الْقِرَاءَةَ بِالْأَلْحَانِ حَتَّى يُشْبِهَ الْغِنَاءَ، وَلَا أَرُدُّ شَهَادَةَ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ، قَالَ أَبُو مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي زَيْدٍ، قَالَ ابْنُ الْقُرَظِيِّ: وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي رَدِّ شَهَادَتِهِ.
وَقَالَ ابْنُ الْفَرَسِ: وَاسْتَحْسَنَ بَعْضُهُمْ أَنْ لَا تَجُوزَ شَهَادَتُهُ كَأَنَّهُ رَآهُمْ غَيْرَ مَرْضِيِّينَ، وَاَللَّهُ تَعَالَى قَالَ: {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} [البقرة: 282].
وَمِنْهُ: شَهَادَةُ الْبَخِيلِ، قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِيهَا، وَإِنْ كَانَ يُؤَدِّي زَكَاتَهُ وَكَأَنَّ مَنْ لَمْ يُجِزْهَا رَآهُ بِتِلْكَ الْحَالَةِ غَيْرَ مَرْضِيٍّ.
وَقَالَ الْمَازِرِيُّ: الْبُخْلُ مَنْعُ الْحُقُوقِ الْوَاجِبَةِ.
وَأَمَّا مَنْعُ مَا لَا يَجِبُ فَالْقَدَحُ بِهِ فِي الشَّهَادَةِ يَفْتَقِرُ إلَى تَفْصِيلٍ يَعْرِفُهُ مَنْ يَعْرِفُ الِاسْتِدْلَالَ بِحَرَكَاتِ النَّاسِ وَطِبَاعِهِمْ وَسَيْرِهِمْ فِي دِينِهِمْ وَصِدْقِهِمْ. وَمِنْهُ: شَهَادَةُ الْأَخْرَسِ، قَالَ ابْنُ الْفَرَسِ وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِيهَا، وَمِنْهُ: شَهَادَةُ آكِلِ الطِّينِ، وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي قَبُولِهَا قَالَهُ ابْنُ الْفَرَسِ، وَوَجْهُ الْمَنْعِ أَنَّهُ إذَا غَلَبَتْهُ شَهْوَتُهُ عَلَى أَكْلِ مَا يَضُرُّ بَدَنَهُ، فَلَا يُؤْمَنُ أَنْ تَغْلِبَهُ عَلَى أَنْ يَقْبَلَ الرِّشْوَةَ أَوْ يَشْهَدَ لِلْحَمِيَّةِ وَالْعَصَبِيَّةِ. وَمِنْهُ: شَهَادَةُ نَاتِفِ لِحْيَتِهِ وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِيهَا. وَمِنْهُ: شَهَادَةُ الْبَائِلِ قَائِمًا وَفِيهَا خِلَافٌ. وَمِنْهُ: شَهَادَةُ الْأَغْلَفِ ابْنُ حَبِيبٍ قَالَ ابْنُ الْمَاجِشُونِ: إنْ تَرَكَ ذَلِكَ مِنْ عُذْرٍ فَشَهَادَتُهُ جَائِزَةٌ وَإِنْ كَانَ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ فَلَا شَهَادَةَ لَهُ؛ لِأَنَّهُ تَرَكَ فِطْرَةً مِنْ سُنَّةِ الْإِسْلَامِ، وَلَا عُذْرَ لَهُ بِإِسْلَامِهِ وَهُوَ كَبِيرٌ قَالَهُ ابْنُ يُونُسَ، وَمِنْهُ: شَهَادَةُ غَيْرِ الْحَسَنِ الزِّيِّ وَغَيْرِ الْحَسَنِ الِاسْمِ أَوْ الْكُنْيَةِ. وَمِنْهُ: شَهَادَةُ الصَّيْرَفِيِّ وَفِيهَا خِلَافٌ. وَمِنْهُ: شَهَادَةُ مُكَارِي الْحَمِيرِ وَفِيهَا أَيْضًا خِلَافٌ، ذَكَرَ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ ابْنُ الْفَرَسِ فِي أَحْكَامِ الْقُرْآنِ مِنْ قَوْلِنَا. وَمِنْهُ: شَهَادَةُ الْبَخِيلِ إلَى مَا نَقَلَهُ ابْنُ يُونُسَ فِي شَهَادَةِ الْأَغْلَفِ، فَانْظُرْ هَلْ مُرَادُهُ بِالْخِلَافِ فِي الْمَذْهَبِ أَوْ خَارِجَهُ، لَكِنْ جَرَتْ عَادَتُهُ إذَا كَانَ الْخِلَافُ خَارِجَ الْمَذْهَبِ التَّنْبِيهُ عَلَيْهِ. وَمِنْهُ: حَلْقُ الشَّارِبِ وَيُؤَدَّبُ فَاعِلُهُ مِنْ ابْنِ رَاشِدٍ.
وَمِنْهُ: مَنْ سَأَلَ الْأَمِيرَ أَنْ يَقْصُرَ عَقْدَ الْوَثَائِقِ عَلَيْهِ وَأَنْ لَا يَكْتُبَهَا إلَّا هُوَ، فَأَجَابَهُ الْأَمِيرُ إلَى ذَلِكَ فَهُوَ جُرْحَةٌ، وَتَسْقُطُ شَهَادَتُهُ وَلَا تَجُوزُ إمَامَتُهُ إنْ كَانَ إمَامًا مِنْ أَحْكَامِ ابْنِ سَهْلٍ.
وَمِنْهُ: كَوْنُ الْإِنْسَانِ إذَا جَلَسَ فِي مَحْفِلٍ مَدَّ رِجْلَيْهِ بَيْنَهُمْ، قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ قَالَ الْمَازِرِيُّ: وَهَذَا إنَّمَا يُتَصَوَّرُ فِي صُوَرٍ بِالنِّسْبَةِ إلَى فَاعِلِ ذَلِكَ فِي الْجَمَاعَةِ الْحَاضِرِينَ وَمَقَادِيرِهِمْ وَمِقْدَارِهِ وَالْمَعْنَى الَّذِي اجْتَمَعُوا لِأَجْلِهِ وَعَدَمِ الْعُذْرِ فِي ذَلِكَ.

.الْقِسْمُ الثَّانِي مِنْ مَوَانِعِ قَبُولِ الشَّهَادَةِ مَا يَمْنَعُ عَلَى جِهَةٍ:

وَهُوَ رَدُّ الشَّهَادَةِ مَعَ بَقَاءِ الْعَدَالَةِ وَلَهُ سَبْعَةُ أَسْبَابٍ: السَّبَبُ الْأَوَّلُ: التَّغَفُّلُ وَقَدْ ذَكَرْنَا التَّغْفِيلَ فِي صِفَاتِ الشَّاهِدِ، وَأَنَّهُ اُشْتُرِطَ فِي الْمُشَاهَدِ أَنْ يَكُونَ مُحْتَرِزًا يُؤْمَنُ عَلَيْهِ التَّحَيُّلُ.
وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ قَدْ يَكُونُ الْخَيِّرُ الْفَاضِلُ ضَعِيفًا لَا يُؤْمَنُ عَلَيْهِ الْغَفْلَةُ وَأَنْ يُلَبَّسَ عَلَيْهِ، فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَجُزْ لِلْإِمَامِ قَبُولُ شَهَادَتِهِ. السَّبَبُ الثَّانِي: أَنْ يَجُرَّ لِنَفْسِهِ مَنْفَعَةً أَوْ يَدْفَعَ عَنْهَا مَضَرَّةً، مِثَالُ الْجَرِّ أَنْ يَشْهَدَ عَلَى مُورَثِهِ الْمُحْصَنِ بِالزِّنَا أَوْ قَتْلِ الْعَمْدِ مَا لَمْ يَكُنْ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ فَقِيرًا، أَوْ كَمَنْ شَهِدَ أَنَّ أَبَاهُ أَعْتَقَ عَبْدًا يُتَّهَمُ بِوَلَائِهِ، وَكَوَصِيٍّ شَهِدَ بِدَيْنٍ لِلْمَيِّتِ، وَكَمُنْفَقٍ عَلَيْهِ شَهِدَ لِلْمُنْفِقِ وَفِي عَكْسِهِ قَوْلَانِ، وَمِثْلُ أَنْ يَشْهَدَ أَنَّ رَجُلًا جَرَحَ مُورِثَهُ أَوْ يَشْهَدَ بِدَيْنٍ لَهُ أَوْ لِغَيْرِهِ، وَمَنْ يُتَّهَمُ عَلَيْهِ وَلَوْ شَهِدَ بِوَصِيَّةٍ فِيهَا شَيْءٌ لَهُ وَلِغَيْرِهِ فَسَيَأْتِي حُكْمُ ذَلِكَ فِي بَابٍ مُفْرَدٍ، وَمِثَالُ الدَّفْعِ أَنْ يَشْهَدَ بَعْضُ الْعَاقِلَةِ بِفِسْقِ شُهُودِ الْقَتْلِ خَطَأً، وَكَشَهَادَةِ الْمِدْيَانِ الْمُعْسِرِ لِرَبِّ الدَّيْنِ وَعَكْسُهُ؛ لِأَنَّهُ جَرَى لِنَفْسِهِ.
السَّبَبُ الثَّالِثُ: كَيَدِ الشَّفَقَةِ بِالنَّسَبِ أَوْ السَّبَبِ كَالْأُبُوَّةِ وَالْأُمُومَةِ وَإِنْ عَلَتْ، فَيَدْخُلُ فِي ذَلِكَ شَهَادَةُ الْجَدِّ لِوَلَدِ وَلَدِهِ وَكَالْبُنُوَّةِ وَإِنْ سَفْلَتَ وَكَالزَّوْجِيَّةِ.
مَسْأَلَةٌ:
وَلَوْ شَهِدَ الْأَبُ مَعَ ابْنِهِ عِنْدَ الْحَاكِمِ جَازَتْ عَلَى الْقَوْلِ الْمَعْمُولِ بِهِ.
وَقَالَ بَعْضُ الْمُوَثَّقِينَ شَهَادَتُهُمَا بِمَنْزِلَةٍ وَاحِدَةٍ.
وَفِي مُعِينِ الْحُكَّامِ وَالْقَوْلُ بِأَنَّهُمَا بِمَنْزِلَةِ شَاهِدَيْنِ أَعْدَلُ.
مَسْأَلَةٌ:
وَتَجُوزُ شَهَادَةُ وَلَدِ الْقَاضِي عَلَى حُكْمِ أَبِيهِ، وَمَنَعَ ابْنُ سَحْنُونٍ فِي الْعُتْبِيَّةِ مِنْ إجَازَةِ الْقَاضِي شَهَادَةَ ابْنِهِ وَابْنِ ابْنِهِ عَلَى رَجُلٍ إلَّا أَنْ يَكُونَ الِابْنُ أَوْ ابْنُ الِابْنِ مُبَرِّزَيْنِ فِي الْعَدَالَةِ بَيِّنَيْ الْفَضْلِ لَا يُشَكُّ فِيهِمَا فَحِينَئِذٍ رَأَى أَنْ تَجُوزَ شَهَادَتُهُ عِنْدَهُ، قَالَ بَعْضُ الشُّيُوخِ: شَهَادَةُ الْأَبِ عِنْدَ ابْنِهِ أَوْ الِابْنِ عِنْدَ أَبِيهِ، وَشَهَادَةُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى شَهَادَةِ صَاحِبِهِ، وَشَهَادَةُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى حُكْمِ صَاحِبِهِ، هَذِهِ أَرْبَعُ مَسَائِلَ الِاخْتِلَافُ فِيهَا كُلِّهَا سَوَاءٌ، قِيلَ إنَّ ذَلِكَ جَائِزٌ وَهُوَ قَوْلُ سَحْنُونٍ، وَقِيلَ: إنَّ ذَلِكَ لَا يَجُوزُ وَهُوَ قَوْلُ أَصْبَغَ.
مَسْأَلَةٌ:
فَأَمَّا شَهَادَةُ الْأَخَوَيْنِ فِي حَقٍّ فَشَهَادَتُهُمَا جَائِرَةٌ وَلَيْسَا كَالْأَبِ وَابْنِهِ.
تَنْبِيهٌ:
وَقَدْ تَلْحَقُهُمَا التُّهْمَةُ فَلَا تَجُوزُ شَهَادَتُهُمَا، كَمَا لَوْ شَهِدَ أَخَوَانِ أَنَّ هَذَا ابْنُ أَخِيهِمَا الْمَيِّتِ، وَالْمَشْهُودُ لَهُ ذُو شَرَفٍ، فَإِنَّ النَّسَبَ لَا يَثْبُتُ بِشَهَادَتِهِمَا، وَيَثْبُتُ الْمَشْهُودُ لَهُ بِالْمَالِ إنْ ادَّعَاهُ، وَهَذَا مِنْ مَسَائِلِ الْإِقْرَارِ بِالْوَارِثِ.
مَسْأَلَةٌ:
وَلَا تَجُوزُ شَهَادَةُ الْأَخِ لِأَخِيهِ إذَا كَانَ فِي عِيَالِهِ لِجَرِّهِ إلَيْهِ، وَجَرِّهِ إلَيْهِ جَرٌّ لِنَفْسِهِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي عِيَالِهِ وَكَانَ مُبَرِّزًا فِي حَالِهِ، جَازَتْ شَهَادَتُهُ لَهُ، فِي الْأَمْوَالِ وَالتَّعْدِيلِ.
وَقَالَ أَشْهَبُ: لَا يُعَدِّلُهُ؛ لِأَنَّ شَرَفَ أَخِيهِ شَرَفٌ لَهُ، قَالَ ابْنُ حَبِيبٍ: وَأَمَّا إنْ كَانَ الْمَشْهُودُ لَهُ فِي عِيَالِ الشَّاهِدِ فَتَجُوزُ شَهَادَتُهُ هَا هُنَا، قَالَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ: يَنْبَغِي أَنْ لَا تَجُوزَ شَهَادَتُهُ لَهُ بِمَالٍ؛ لِأَنَّهُ يَدْفَعُ بِذَلِكَ نَفَقَتَهُ وَإِنْ كَانَتْ لَا تَلْزَمُهُ؛ لِأَنَّ تَرْكَ النَّفَقَةِ عَلَى أَخِيهِ وَالصِّلَةَ لَهُ مَعَرَّةٌ فَيُتَّهَمُ بِهَذَا، وَأَمَّا إنْ كَانَ الْمَشْهُودُ لَهُ أَجْنَبِيًّا وَهُوَ فِي عِيَالِ الشَّاهِدِ فَشَهَادَتُهُ لَهُ جَائِزَةٌ، قَالَ ابْنُ يُونُسَ: وَهَذَا اسْتِحْسَانٌ وَلَا فَرْقَ بَيْنَ الْقَرِيبِ وَالْأَجْنَبِيِّ فِي رِوَايَةِ ابْنِ حَبِيبٍ، وَلَا تَجُوزُ شَهَادَةُ الْأَخِ لِأَخِيهِ بِمَا فِيهِ مَنْزِلَةٌ أَوْ بِمَا يَدْفَعُ عَنْهُ بِهِ عَارًا.
مَسْأَلَةٌ:
قَالَ فِي مُعِينِ الْحُكَّامِ وَلَا تَجُوزُ شَهَادَةُ الْأَخِ لِأَخِيهِ فِي الْفِرْيَةِ وَالنِّكَاحِ إلَى مَنْ يَتَشَرَّفُ بِالنِّكَاحِ إلَيْهِ، وَتَجُوزُ شَهَادَتُهُ لَهُ فِي الدَّيْنِ إذَا كَانَ الشَّاهِدُ مُبَرِّزًا فِي الْعَدَالَةِ وَلَمْ يَكُنْ فِي عِيَالِ الْمَشْهُودِ لَهُ، وَفِي أَحْكَامِ الْقُرْآنِ لِابْنِ الْفَرَسِ.
وَقَالَ غَيْرُ ابْنِ الْقَاسِمِ: لَا تَجُوزُ شَهَادَةُ الْأَخِ لِأَخِيهِ مُطْلَقًا وَإِنَّمَا تَجُوزُ عَلَى شَرْطٍ. وَاخْتُلِفَ فِي الشَّرْطِ مَا هُوَ، فَفِي كِتَابِ ابْنِ الْمَوَّازِ لَا تَجُوزُ شَهَادَتُهُ إلَّا أَنْ يَكُونَ مُبَرِّزًا، وَقِيلَ تَجُوزُ إذَا لَمْ تَنَلْهُ صِلَتُهُ.
وَقَالَ أَشْهَبُ تَجُوزُ فِي الْيَسِيرِ دُونَ الْكَثِيرِ، إلَّا أَنْ يَكُونَ مُبَرِّزًا فَتَجُوزُ فِي الْكَثِيرِ.
وَفِي الْمَذْهَبِ وَفِي شَهَادَتِهِ لَهُ بِمَالٍ أَرْبَعَةٌ، ثَالِثُهَا إنْ كَانَ مُبَرِّزًا جَازَتْ، وَرَابِعُهَا تَجُوزُ فِي الْيَسِيرِ دُونَ الْكَثِيرِ.
مَسْأَلَةٌ:
وَاخْتُلِفَ أَيْضًا فِي الْمَذْهَبِ فِي شَهَادَةِ الرَّجُلِ لِابْنِ امْرَأَتِهِ وَلِأَبِيهَا، وَلِامْرَأَةِ أَبِيهِ، وَالْمَرْأَةِ لِابْنِ زَوْجِهَا، وَفِي شَهَادَةِ الرَّجُلِ لِزَوْجَةِ ابْنِهِ، وَلِزَوْجِ ابْنَتِهِ فَلَمْ يُجِزْ ذَلِكَ ابْنُ الْقَاسِمِ، وَأَجَازَهُ سَحْنُونٌ.
مَسْأَلَةٌ:
قَالَ ابْنُ رَاشِدٍ: وَشَهَادَةُ الرَّجُلِ لِابْنِ أَخِيهِ وَلِعَمِّهِ وَلِابْنِ عَمِّهِ جَائِزَةٌ بِالْمَالِ، وَلَمْ يُجِزْهَا ابْنُ كِنَانَةَ إلَّا فِي الْيَسِيرِ.
تَنْبِيهٌ:
كُلُّ مَوْضِعٍ تُمْنَعُ فِيهِ شَهَادَةُ الْأَخِ لِأَخِيهِ فَلَا يَجُوزُ تَعْدِيلُهُ لِمَنْ شَهِدَ لَهُ بِذَلِكَ، وَلَا تَجْرِيحُهُ لِمَنْ جَرَّحَ مِنْ شَهِدَ لَهُ، وَلَا يُجَرِّحُ مَنْ شَهِدَ عَلَيْهِ بِمَا يُؤَدِّي إلَى عُقُوبَتِهِ.
مَسْأَلَةٌ:
وَاخْتُلِفَ فِي شَهَادَةِ الْأَبِ لِأَحَدِ وَلَدَيْهِ عَلَى الْآخَرِ، وَفِي شَهَادَةِ الْوَلَدِ لِأَحَدِ أَبَوَيْهِ عَلَى الْآخَرِ، قَالَ ابْنُ مُحْرِزٍ وَالصَّوَابُ: الْإِجَازَةُ مَا لَمْ يَكُنْ مَيْلٌ لِلْمَشْهُودِ لَهُ أَوْ تُهْمَةٌ.
مَسْأَلَةٌ:
وَتَجُوزُ شَهَادَةُ الِابْنِ وَالْأَبِ وَالزَّوْجَيْنِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِلْآخَرِ، عَلَى أَنَّهُ وَكَّلَ فُلَانًا لَا أَنَّ فُلَانًا وَكَّلَهُ.
السَّبَبُ الرَّابِعُ الْعَدَاوَةُ: وَلَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ الْعَدُوِّ عَلَى عَدُوِّهِ وَتُقْبَلُ لَهُ، وَشَرْطُهَا أَنْ تَكُونَ الْعَدَاوَةُ فِي أَمْرٍ دُنْيَوِيٍّ مِنْ مَالٍ أَوْ جَاهٍ أَوْ مَنْصِبٍ أَوْ خِصَامٍ أَوْ مَا فِي مَعْنَى ذَلِكَ، بِخِلَافِ الدِّينِيَّةِ إلَّا أَنْ يُؤَدِّيَ إلَى إفْرَاطِ الْأَذَى مِنْ الْفَاسِقِ الْمُعَادِي لِفِسْقِهِ لِمَنْ غَصَبَ عَلَيْهِ وَهَجْرِهِ لِلَّهِ تَعَالَى؛ لِأَنَّ ذَلِكَ رُبَّمَا أَوْرَثَ الشَّحْنَاءَ.
مَسْأَلَةٌ:
وَاخْتُلِفَ فِيمَنْ كَانَتْ عِنْدَهُ شَهَادَةٌ وَكَانَ يَذْكُرُهَا ثُمَّ عَادَاهُ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ فَاحْتِيجَ إلَى الْقِيَامِ بِهَا، قَالَ اللَّخْمِيُّ: وَقَبُولُهَا هُنَا أَخَفُّ إذَا كَانَتْ قَدْ قُيِّدَتْ، قَالَ وَاخْتُلِفَ فِي شَهَادَتِهِ عَلَى ابْنِ عَدُوِّهِ بِمَالٍ أَوْ بِمَا لَا يَلْحَقُ الْأَبَ فِيهِ مَعَرَّةٌ، فَأَجَازَهَا مُحَمَّدٌ وَإِنْ كَانَ الْأَبُ حَيًّا وَالِابْنُ فِي وِلَايَتِهِ.
وَقَالَ ابْنُ الْمَاجِشُونِ تَجُوزُ إذَا لَمْ يَكُنْ فِي وِلَايَتِهِ.
وَقَالَ أَيْضًا: لَا تَجُوزُ إذَا كَانَ الْأَبُ حَيًّا، يُرِيدُ وَإِنْ كَانَ الِابْنُ رَشِيدًا؛ لِأَنَّ فِيهِ إدْخَالُ الْغَمِّ عَلَى أَبِيهِ، وَحُكْمُ الْأُمِّ وَالْجَدِّ حُكْمُ الْأَبِ اُنْظُرْ ابْنَ يُونُسَ. فَإِنْ شَهِدَ عَلَيْهِ بِمَالٍ بَعْدَ مَوْتِ أَبِيهِ جَازَتْ وَإِنْ شَهِدَ عَلَى الْأَبِ لَمْ تَجُزْ وَإِنْ كَانَ الْمَالُ قَدْ صَارَ لِلْوَلَدِ وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ لَا تَجُوزُ إذَا كَانَ عَدُوًّا لِأَبِيهِ وَشَهِدَ بَعْدَ مَوْتِهِ.
مَسْأَلَةٌ:
وَاخْتُلِفَ أَيْضًا إذَا شَهِدَ عَلَى صَبِيٍّ فِي وِلَايَةِ عَدُوِّهِ، فَأَجَازَهَا ابْنُ الْقَاسِمِ، وَمَنَعَهَا مُطَرِّفٌ وَابْنُ الْمَاجِشُونِ.
مَسْأَلَةٌ:
وَإِذَا كَانَ رَجُلَانِ مُتَهَاجِرَيْنِ لَمْ تَجُزْ شَهَادَةُ أَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ، فَإِنْ اصْطَلَحَا فَقَالَ مُحَمَّدٌ تَجُوزُ.
وَقَالَ مُطَرِّفٌ وَابْنُ الْمَاجِشُونِ: إنْ كَانَا يُحْدِثَانِ الصُّلْحَ لَمْ تَجُزْ وَإِنْ طَالَ وَصَحَّ صُلْحُهُمَا جَازَتْ وَقَالَ ابْنُ كِنَانَةَ: إذَا كَانَتْ الْهِجْرَةُ خَفِيفَةً عَنْ أَمْرٍ خَفِيفٍ جَازَتْ وَهَذَا يَحْسُنُ فِي الْمُبَرِّزِ.
وَقَالَ ابْنُ الْمَاجِشُونِ: إنْ سَلَّمَ عَلَيْهِ وَلَمْ يُكَلِّمْهُ لَمْ تَجُزْ شَهَادَتُهُ.
وَفِي ابْنِ يُونُسَ قَالَ مُطَرِّفٌ وَابْنُ الْمَاجِشُونِ: وَلَوْ شَهِدَ شَاهِدَانِ عَلَى صَبِيٍّ بِجُرْحٍ وَهُمَا عَدُوَّانِ لِوَصِيِّهِ لَمْ تَجُزْ شَهَادَتُهُمَا؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يَصِيرُ فِي مَالِهِ فَكَأَنَّهُمَا عَلَى الْوَصِيِّ شَهِدَا، وَكَذَلِكَ لَوْ شَهِدَا عَلَى مَيِّتٍ بِمَالٍ وَهُمَا عَدُوَّانِ لِوَصِيِّهِ لَمْ تَجُزْ شَهَادَتُهُمَا؛ لِأَنَّهُمَا يُخْرِجَانِ مَا بِيَدِهِ.
السَّبَبُ الْخَامِسُ: الْحِرْصُ عَلَى زَوَالِ التَّغْيِيرِ وَذَلِكَ يَكُونُ بِوَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: إظْهَارُ الْبَرَاءَةِ مِثْلُ أَنْ يَشْهَدَ فَتُرَدُّ شَهَادَتُهُ لِفِسْقِهِ، ثُمَّ يَشْهَدُ بِتِلْكَ الشَّهَادَةِ بَعْدَ أَنْ صَارَ عَدْلًا فَتُرَدُّ لِاتِّهَامِهِ عَلَى دَفْعِ عَارِ التَّكْذِيبِ، وَكَذَلِكَ إذْ رُدَّتْ لِكُفْرِهِ أَوْ صِبَاهُ أَوْ رِقِّهِ.
الثَّانِي: قَصْدُ التَّسَلِّي وَالتَّأَسِّي، كَشَهَادَةِ الْمَقْذُوفِ فِي الْقَذْفِ، وَشَهَادَةُ وَلَدِ الزِّنَا فِي الزِّنَا اتِّفَاقًا، وَكَشَهَادَةِ مَنْ حُدَّ فِي مِثْلِ مَا حُدَّ فِيهِ عَلَى الْمَشْهُورِ، وَقِيلَ تُقْبَلُ.
السَّبَبُ السَّادِسُ: الْحِرْصُ عَلَى تَحَمُّلِ الشَّهَادَةِ أَوْ أَدَائِهَا أَوْ قَبُولِهَا أَمَّا التَّحَمُّلُ فَهِيَ شَهَادَةُ الْمُخْتَفِي، وَقَدْ ذَكَرْتهَا فِي بَابِ شَهَادَةِ الِاسْتِغْفَالِ، وَأَمَّا الْحِرْصُ عَلَى الْأَدَاءِ فَمِثْلُ أَنْ يَبْدَأَ بِالشَّهَادَةِ قَبْلَ طَلَبِ صَاحِبِهَا وَهُوَ حَاضِرٌ وَالْحَقُّ مَالِيٌّ، فَإِذَا أَدَّاهَا سَقَطَتْ، وَيَنْبَغِي أَنْ يَعْلَمَ صَاحِبُهَا بِهَا إنْ عَلِمَ أَنَّهُ غَيْرُ عَالَمٍ بِهَا، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَعْضُ هَذَا وَلَوْ كَانَ غَائِبًا، فَفِي وُجُوبِ الْقِيَامِ بِهَا قَوْلَانِ، وَأَمَّا لَوْ كَانَتْ فِي حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى فَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى ذَلِكَ، وَالْفَرْقُ بَيْنَ مَا يُسْتَدَامُ فِيهِ التَّحْرِيمُ وَبَيْنَ مَا لَا يُسْتَدَامُ.
وَأَمَّا الْحِرْصُ عَلَى الْقَبُولِ فَهُوَ أَنْ يَحْلِفَ عَلَى صِحَّةِ شَهَادَتِهِ إذَا أَدَّاهَا وَذَلِكَ قَادِحٌ فِيهَا؛ لِأَنَّ الْيَمِينَ دَلِيلٌ عَلَى التَّعَصُّبِ وَشِدَّةِ الْحِرْصِ عَلَى نُفُوذِهَا، قَالَ بَعْضُهُمْ: إلَّا أَنْ يَكُونَ الشَّاهِدُ مِنْ جُمْلَةِ الْعَوَامّ فَإِنَّهُمْ يَتَسَامَحُونَ فِي ذَلِكَ، فَيَنْبَغِي أَنْ يُعْذَرُوا مَا لَمْ تَقُمْ قَرِينَةٌ تَدُلُّ عَلَى التَّعَصُّبِ وَكَذَلِكَ لَوْ خَاصَمَ الشَّاهِدُ الْمَشْهُودَ عَلَيْهِ، فَإِنَّ ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى التَّعَصُّبِ وَذَلِكَ مُوجِبٌ لِافْتِقَارِهِ إلَى مَنْ يَشْهَدُ لَهُ بِصِحَّةِ مَا خَاصَمَ فِيهِ، هَذَا إذَا كَانَ فِي حَقِّ آدَمِيٍّ فَإِنْ كَانَ فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى فَقَدْ تَقَدَّمَ الْحُكْمُ فِيمَا إذَا كَانَ الشَّاهِدُ هُوَ الْقَائِمَ عَلَى الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ.
السَّبَبُ السَّابِعُ: الِاسْتِبْعَادُ لِصِحَّةِ وُقُوعِ مَا شَهِدَ بِهِ الشَّاهِدُ، وَالْأَصْلُ فِي ذَلِكَ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ الْبَدَوِيِّ عَلَى الْقَرَوِيِّ» قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ تَأَوَّلَهُ مَالِكٌ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الشَّهَادَةُ فِي الْحُقُوقِ وَالْأَمْوَالِ، وَلَمْ يُرِدْ الشَّهَادَةَ فِي الدِّمَاءِ وَمَا فِي مَعْنَاهَا مِمَّا تُطْلَبُ بِهِ الْخَلَوَاتُ. فَلِذَلِكَ قُلْنَا لَا تَجُوزُ شَهَادَةُ الْبَدْوِيِّ عَلَى الْحَضَرِيِّ وَلَا شَهَادَتُهُ لَهُ فِي الْحُقُوقِ الَّتِي يُمْكِنُ الْإِشْهَادُ عَلَيْهَا فِي الْحَضَرِ دُونَ الْجِرَاحِ وَالْقَتْلِ.
وَقَالَ اللَّخْمِيُّ: تَجُوزُ فِي الْقَذْفِ وَالْجِرَاحِ وَالْقَتْلِ وَفِي الْمَالِ وَالنِّكَاحِ، إذَا قَالَ: مَرَرْت بِهِمَا، أَوْ كُنْت جَالِسًا فَسَمِعْتُهُ يُقِرُّ لَهُ بِكَذَا، أَوْ بَاعَ مِنْهُ كَذَا، أَوْ تَنَازَعَا فِي النِّكَاحِ فَأَقَرَّ بِالْعَقْدِ، وَلَا تَجُوزُ فِي الْوَثَائِقِ وَالصَّدَقَاتِ وَلَا فِيمَا يُقْصَدُ فِيهِ الِاهْتِمَامُ بِالشَّهَادَةِ، إلَّا أَنْ يَعْلَمَ مُخَالَطَتَهُ لَهُمَا أَوْ يَجْمَعَهُمْ سَفَرٌ.
وَكَذَلِكَ شَهَادَةٌ بَيْنَ حَضَرِيٍّ وَبَدْوِيٍّ لَا تَجُوزُ إلَّا عَلَى مَا فَسَّرْنَاهُ، إلَّا أَنْ يَكُونَ الْبَدْوِيُّ مِنْ قَرْيَةِ الشَّاهِدِ فَيَشْهَدُ بِمُدَايِنَةٍ كَانَتْ فِي قَرْيَتِهِ أَوْ فِي الْحَاضِرَةِ إذَا كَانَ مَعْرُوفًا بِالْعَدَالَةِ وَمِمَّنْ يُعَوَّلُ فِي الْمُدَايَنَةِ عَلَى مِثْلِهِ.
مَسْأَلَةٌ:
وَفِي الْمُدَوَّنَةِ لَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ السُّؤَالِ إلَّا فِي التَّافِهِ الْيَسِيرِ لِحُصُولِ الرِّيبَةِ، وَاسْتِبْعَادِ إشْهَادِ الْفُقَرَاءِ دُونَ مَنْ عُرِفَ بِالشَّهَادَةِ، فَإِنَّ النَّاسَ غَالِبًا إنَّمَا يَقْصِدُونَ بِوَثَائِقِهِمْ الْمُعْتَبَرَةِ أَعْيَانَ الشُّهُودِ، وَعَلَى هَذَا فَتُقْبَلُ شَهَادَتُهُمْ فِيمَا لَمْ يَقْصِدُوا إلَى الْإِشْهَادِ فِيهِ، كَمَا لَوْ قَالَ السَّائِلُ مَرَرْت بِفُلَانٍ وَفُلَانٍ وَهُمَا يَتَنَازَعَانِ، فَأَقَرَّ فُلَانٌ لِفُلَانٍ بِكَذَا، فَإِنْ كَانُوا فُقَرَاءَ غَيْرَ سُؤَّالٍ، أَوْ سُؤَّالًا لِلْإِمَامِ وَالْأَعْيَانِ مِنْ النَّاسِ عِنْدَ نَائِبَةٍ تَنُوبُهُمْ قُبِلَتْ مُطْلَقًا عَلَى الْأَصَحِّ، وَمُرَادُهُ أَنَّهُمْ لَا يَقْبَلُونَ الصَّدَقَةَ أَيْضًا وَمُقَابِلُ الْأَصَحِّ رَدُّ شَهَادَتِهِمْ بِشَرْطِ أَنْ لَا يَكُونُوا ظَاهِرِي الْعَدَالَةِ، وَأَنْ يَكُونَ الْمَالُ الْمَشْهُودُ بِهِ كَثِيرًا كَخَمْسِمِائَةِ دِينَارٍ، وَهُوَ قَوْلٌ بَعِيدٌ؛ لِأَنَّ الْفَقْرَ لَيْسَ بِعَيْبٍ، لاسيما إذَا لَمْ يَسْأَلْ وَلَمْ يَقْبَلْ الصَّدَقَةَ.
وَقَالَ بَعْضُ الشُّيُوخِ إذَا كَانَ الْفَقِيرُ لَا يَسْأَلُ وَلَكِنَّهُ إذَا أُعْطِيَ الصَّدَقَةَ قَبِلَهَا فَإِنَّ حُكْمَهُ حُكْمُ مَنْ يَسْأَلُ.

.فَصْلٌ: عَشْرُ مَسَائِلَ يُشْتَرَطُ فِيهَا التَّبْرِيزُ فِي الْعَدَالَةِ عِنْدَ ابْنِ الْقَاسِمِ:

الْأُولَى: شَهَادَةُ الْأَجِيرِ لِمُسْتَأْجِرِهِ إذَا لَمْ يَكُنْ فِي عِيَالِهِ.
الثَّانِيَةُ: شَهَادَةُ الْأَخِ لِأَخِيهِ بِمَالٍ.
الثَّالِثَةُ: شَهَادَةُ الْمَوْلَى لِمَنْ أَعْتَقَهُ.
الرَّابِعَةُ: شَهَادَةُ الصَّدِيقِ الْمُلَاطِفِ لِصَدِيقِهِ.
الْخَامِسَةُ: شَهَادَةُ الشَّرِيكِ الْمُفَاوِضِ لِشَرِيكِهِ فِي غَيْرِ مَالِ الْمُفَاوَضَةِ.
السَّادِسَةُ: شَهَادَةُ الْمُنْفَقِ عَلَيْهِ لِلْمُنْفِقِ.
السَّابِعَةُ: إذَا زَادَ فِي شَهَادَتِهِ أَوْ نَقَصَ مِنْهَا بَعْدَ أَنْ شَهِدَ بِهَا.
الثَّامِنَةُ: إذَا سَأَلَ عَنْ شَهَادَةٍ فِي مَرَضِهِ فَقَالَ لَا أَعْرِفُهَا ثُمَّ شَهِدَ بِهَا بَعْدَ ذَلِكَ وَذَكَرَ الْوَجْهَ الَّذِي امْتَنَعَ بِهِ مِنْ الشَّهَادَةِ فِي مَرَضِهِ.
التَّاسِعَةُ: شَهَادَةُ الصُّنَّاعِ لِمَنْ يُكْثِرُ اسْتِعْمَالَهُمْ لِلتُّهْمَةِ فِي جَرِّ أَعْمَالِهِمْ إلَيْهِمْ وَتَوْقِيفِهَا عَلَيْهِمْ.
الْعَاشِرَةُ: الشَّهَادَةُ لِلصَّانِعِ إذَا كَانَ مِثْلُهُ يَرْغَبُ فِي عَمَلِهِ، وَلَا عِوَضَ مِنْهُ، مِنْ (الْمُتَيْطِيَّةِ) وَمِنْ (مُعِينِ الْحُكَّامِ) وَمِنْ ابْنِ رَاشِدٍ.

.الْفَصْلُ السَّابِعُ فِيمَا يَنْبَغِي لِلشُّهُودِ أَنْ يَتَنَبَّهُوا لَهُ فِي تَحَمُّلِ الشَّهَادَةِ وَأَدَائِهَا:

مِمَّا يَقَعُ فِيهِ الْغَلَطُ وَالتَّسَاهُلُ الْمَذْمُومُ قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُنَاصِفِ فِي (تَنْبِيهِ الْحُكَّامِ عَلَى مَأْخَذِ الْأَحْكَامِ): وَيَنْبَغِي التَّنَبُّهُ وَالتَّحَفُّظُ مِنْ الْغَفْلَةِ فِي الشَّهَادَةِ، وَالْمُسَامَحَةِ الَّتِي جَرَتْ بِهَا الْعَادَةُ، وَقَدْ شَهِدْنَا فِي أَحْوَالِ بَعْضِ الشُّهُودِ مِنْ قِلَّةِ الضَّبْطِ وَغَمْصِ الْحَقِّ مَا أَوْرَدَهُمْ ذَلِكَ مَوَارِدَ مُنْكَرَةً، وَيَظُنُّونَ أَنَّهُمْ عَلَى سَوَاءِ السَّبِيلِ اقْتِدَاءً مِنْ بَعْضِهِمْ بِمُسَامَحَةِ بَعْضٍ عَلَى غَيْرِ عِلْمٍ بِاهْتِدَاءٍ وَلَا أَصْلِ اقْتِدَاءٍ، وَاعْتِيدَ ذَلِكَ حَتَّى وَقَعَ الْإِنْكَارُ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ عَلَيْهِمْ، وَسَنُشِيرُ مِنْ ذَلِكَ إلَى مَوَاضِعَ. فَمِنْ ذَلِكَ الِاسْتِرْسَالُ فِي تَقْيِيدِ الشَّهَادَةِ عَلَى مَعْرِفَةِ الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ، وَذَلِكَ إنَّمَا يَصِحُّ بَعْدَ حُصُولِ مَعْرِفَةِ الْعَيْنِ وَالِاسْمِ مَعًا، وَلَا يُكْتَفَى فِي ذَلِكَ بِمَعْرِفَةِ الْعَيْنِ، يَعْنِي أَنْ يَعْرِفَ الْمَشْهُودَ عَلَيْهِ بِعَيْنِهِ وَلَا يَعْرِفَ اسْمَهُ وَلَا نَسَبَهُ فَقَطْ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يَخْتَلُّ مِنْ وُجُوهٍ إذْ مِنْ الْجَائِزِ أَنْ يَخْدَعَهُ فَيَتَسَمَّى لَهُ بِاسْمِ غَيْرِهِ لِيُوجِبَ عَلَيْهِ حَقًّا وَهُوَ لَا يَشْعُرُ بِذَلِكَ، وَقَدْ تَطُولُ الْمُدَّةُ فَيَنْسَى عَيْنَ الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ، أَوْ يَحْكُمُ عَلَيْهِ بِتِلْكَ الشَّهَادَةِ فِي غَيْبَتِهِ، وَيَكُونُ قَدْ تَسَمَّى الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ بِاسْمِ ذَلِكَ الْغَائِبِ، فَتَقُومُ الْبَيِّنَةُ عَلَى الْغَائِبِ وَيَحْكُمُ، وَهُوَ لَا يَشْعُرُ، وَلَيْسَ هُوَ الْمَشْهُودَ عَلَى مَعْرِفَتِهِ بِالْعَيْنِ، وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنْ الْوُجُوهِ مِمَّا فَسَادُهُ ظَاهِرٌ وَضَرَرُهُ مُتَفَاقِمٌ، فَلَيْسَتْ هَذِهِ هِيَ الْمَعْرِفَةَ الْمَقْصُودَةَ فِي هَذَا الْبَابِ. بَلْ يَحِقُّ عَلَيْهِ مَعَ ذَلِكَ مَعْرِفَةُ الِاسْمِ الَّذِي يَتَمَيَّزُ بِهِ مِثْلُ أَنْ يَعْرِفَ أَنَّهُ فُلَانُ بْنُ فُلَانٍ أَوْ مَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِمَّا يَزُولُ مَعَهُ الِاشْتِرَاكُ أَوْ يَخِفُّ وَلَا يَكْفِي مَعْرِفَةُ اسْمِهِ خَاصَّةً دُونَ مَعْرِفَةِ اسْمِ أَبِيهِ أَوْ مَا يَقُومُ مَقَامَهُ فِي التَّعْرِيفِ وَالِاخْتِصَاصِ، وَقَدْ اسْتَحَبَّ بَعْضُهُمْ أَنْ يَزِيدَ اسْمَ الْجَدِّ؛ لِأَنَّهُ أَضْبَطُ وَأَبْعَدُ لِمَا يُتَوَقَّى مِنْ اشْتِرَاكِ الْأَسْمَاءِ فِي الْمُسَمَّى وَأَبِيهِ. قَالَ ابْنُ الْمُنَاصِفِ وَكَذَلِكَ أَيْضًا لَوْ عَرَفَ الِاسْمَ دُونَ الْعَيْنِ كَمَا لَوْ كَانَ يَسْمَعُ بِرَجُلٍ مَشْهُورٍ لَمْ يَقِفْ عَلَى عَيْنِهِ فَقِيلَ لَهُ هَذَا فُلَانٌ، وَلَمْ يَتَقَرَّرْ عِنْدَهُ تَقَرُّرًا يُوجِبُ الْعِلْمَ بِصِحَّتِهِ فَلَا يُقْدِمُ عَلَى تَقْيِيدِ الشَّهَادَةِ فِي الْمَعْرِفَةِ بِمُجَرَّدِ شُهْرَةِ الِاسْمِ عِنْدَهُ، فَكُلُّ ذَلِكَ غَلَطٌ وَتَدْلِيسٌ، وَالْوَهْمُ فِيهِ مُمْكِنٌ فلابد مِنْ مَعْرِفَةِ الْأَمْرِ جَمِيعًا فِي الِاسْمِ وَالْعَيْنِ. قَالَ ابْنُ الْحَاجِبِ: وَمَنْ لَا يُعْرَفُ نَسَبُهُ فَلَا يُشْهَدُ إلَّا عَلَى عَيْنِهِ، قَالَ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ هَذَا هُوَ الصَّحِيحُ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَضَعَ الرَّجُلُ اسْمَ غَيْرِهِ عَلَى اسْمِهِ أَوْ بِالْعَكْسِ.
وَقَالَ بَعْضُ الْأَنْدَلُسِيِّينَ: يَكْتُبُ اسْمَهُ وَقَرْيَتَهُ وَمَسْكَنَهُ وَيَجْتَزِئُ بِذَلِكَ.
وَقَالَ غَيْرُهُ الْأَحْسَنُ أَنْ يَكْتُبَ نَعْتَهُ وَصِفَتَهُ وَيُشْهِدَ الشُّهُودَ عَلَى الصِّفَةِ حَيًّا أَوْ مَاتَ أَوْ غَابَ، قَالَ وَاَلَّذِي قَالَهُ الْمُؤَلِّفُ هُوَ التَّحْقِيقُ.
وَنَحْوُ ذَلِكَ: أَنْ يَتَرَدَّدَ عَلَيْهِ رَجُلٌ يَتَسَمَّى بِفُلَانِ بْنِ فُلَانٍ أَوْ يُخَالِطَهُ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ فَلَا يَعْجَلُ بِالشَّهَادَةِ بِالْمَعْرِفَةِ، حَتَّى يَحْصُلَ مِنْ التَّرَدُّدِ وَاشْتِهَارِ عَيْنِهِ وَاسْمِهِ بِمَحْضَرِ غَيْرِهِ مِنْ النَّاسِ وَتَوَاطُئِهِمْ عَلَيْهِ مَا يَقَعُ لَدَيْهِ الْمَعْرِفَةُ الَّتِي لَا يَشُكُّ فِيهَا، وَهَذَا بَابٌ كَبِيرٌ غَلَطَ فِيهِ الْجُمْهُورُ.
وَمِنْ ذَلِكَ أَنْ يَأْتِيَهُ الرَّجُلَانِ لَا يَعْرِفُ إلَّا أَحَدَهُمَا فَيُشْهِدُهُ أَنِّي قَبَضْت مِنْ هَذَا وَيُشِيرُ إلَيْهِ وَلَا يَذْكُرُ اسْمَهُ حَقًّا لِي عَلَيْهِ وَهُوَ كَذَا وَكَذَا أَوْ أَبْرَأْتُهُ أَوْ لَهُ عَلَيَّ كَذَا وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِمَّا يَتَعَلَّقُ فِيهِ الْحَقُّ لِلْمَجْهُولِ عِنْدَهُ، ثُمَّ يَنْصَرِفُ الْمُقِرُّ وَيُرِيدُ الْمَشْهُودُ لَهُ تَقْيِيدَ الشَّهَادَةِ فَيَنْبَغِي لِلشَّاهِدِ التَّوَقُّفُ، إلَّا أَنْ يَكُونَ يَعْرِفُ الْمَشْهُودَ لَهُ أَيْضًا، وَقَدْ كَانَ سَأَلَ عَنْ اسْمِهِ وَمَا يَتَمَيَّزُ بِهِ بِمَحْضَرِ الْمُقِرِّ لَهُ فَوَافَقَ عَلَى ذَلِكَ، وَأَمَّا إنْ اعْتَمَدَ عَلَى قَوْلِ الْمَشْهُودِ لَهُ فِي غَيْبَةِ الْمُقِرِّ أَنَّ اسْمَهُ فُلَانٌ فَلَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّهُ رُبَّمَا سَمَّى لَهُ غَيْرَ نَفْسِهِ مِمَّنْ عَلَيْهِ لِلْمُشْهِدِ الْغَائِبِ حَقٌّ كَثِيرٌ لِيُضَيِّعَهُ، أَوْ خِصَامٌ شَدِيدٌ لِيَقْطَعَهُ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِمَّا يَتَأَذَّى بِهِ الْغَائِبُ.
وَلَا يَنْبَغِي لِلشَّاهِدِ أَنْ يَتَوَهَّمَ أَنَّ أَحَدًا لَا يَفْعَلُ مِثْلَ هَذَا، فَقَدْ يَفْعَلُ ذَلِكَ لِوُجُوهٍ وَإِقْدَامُ الشَّاهِدِ عَلَى ذَلِكَ أَمْرٌ قَادِحٌ وَغَلَطٌ وَاضِحٌ.
وَمِنْ ذَلِكَ: أَنْ يَأْتِيَ الرَّجُلُ قَوْمًا بِوَثِيقَةٍ كَتَبَهَا عَلَى نَفْسِهِ لِرَجُلٍ غَائِبٍ، فَيُشْهِدُهُمْ فِيهَا لَا أَرَى أَنْ يَشْهَدَ فِيهَا لِأَنِّي أَخَافُ أَنْ يَكْتُبَ عَلَى نَفْسِهِ لِلْغَائِبِ فَيَسْتَوْجِبَ مُخَالَطَتَهُ، فَيُحَلِّفَهُ إذَا ادَّعَى عَلَيْهِ قَالَهُ ابْنُ الْقَاسِمِ فِي سَمَاعِ يَحْيَى.
وَمِنْ ذَلِكَ: أَنْ يُشْهِدَهُ عَلَى مَنْ لَا يَعْرِفُ فَيُرِيدُ أَنْ يَكْتَفِيَ بِتَعْرِيفِ غَيْرِهِ مِنْ النَّاسِ، وَقَدْ يَكُونُ الْمَعْرُوفُ عِنْدَهُ غَيْرَ مَعْرُوفٍ أَوْ لَا يَجُوزُ قَبُولُ قَوْلِهِ فِي شَيْءٍ، وَهَذَا مِنْ أَعْظَمِ الْجُرْأَةِ فِي الْإِقْدَامِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، وَاَلَّذِي يَنْبَغِي لِمَنْ صَحَّ دِينُهُ وَرَاقَبَ اللَّهَ تَعَالَى أَنْ يَصْرِفَ كُلَّ مَنْ لَا يَعْرِفُهُ فِي الشَّهَادَةِ إلَى غَيْرِهِ مِمَّنْ يَعْرِفُهُ مَهْمَا أَمْكَنَ ذَلِكَ، فَإِنْ اضْطَرَّهُ إلَى الشَّهَادَةِ عَلَيْهِ أَمِيرٌ أَوْ كَانَ لِذَلِكَ وَجْهٌ، فَلْيَكُنْ الْمُعَرِّفُ رَجُلَيْنِ فَصَاعِدًا مِمَّنْ يَرْضَى دِينَهُمَا وَيَسْتَجِيزُ شَهَادَتَهُمَا وَيُسَمِّيهِمَا، فَيَكُونُ كَالشَّهَادَةِ عَلَى الشَّهَادَةِ، أَوْ يَتَقَرَّرُ عِنْدَهُ مِنْ تَرَادُفِ التَّعْرِيفِ وَقَرِينَةِ الْحَالِ مَا يَأْمَنُ التَّدْلِيسَ مَعَهُ، كَمَا لَوْ اسْتَظْهَرَ بِسُؤَالِ مَنْ لَا يَفْهَمُ غَرَضَهُ فِي ذَلِكَ وَلَا حَضَرَ أَوَّلَ الْأَمْرِ، بِحَيْثُ يُؤْمَنُ تَوَاطُؤُهُ مَعَهُمْ فِي ذَلِكَ التَّعْرِيفِ.
فَإِذَا تَقَرَّرَ لَهُ أَنَّ الْكَشْفَ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ وَشِبْهِهِ فَلَا بَأْسَ أَنْ يَكْتَفِيَ بِهِ فِي حُكْمِ التَّعْرِيفِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِمْ عُدُولٌ؛ لِأَنَّهُ عِلْمٌ اسْتَقَرَّ عِنْدَهُ بِالضَّرُورَةِ، ولابد لَهُ مَعَ ذَلِكَ فِي تَقْيِيدِ الشَّهَادَةِ مِنْ التَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّهُ عَرَفَ بِهِ عَلَى وَجْهِ كَذَا وَكَذَا، فَيَذْكُرُ الْمُعَرِّفِينَ إنْ كَانُوا عُدُولًا، وَالْوَجْهُ الَّذِي تَقَرَّرَ ذَلِكَ بِهِ عِنْدَهُ. وَإِذَا كَانَ التَّعْرِيفُ عَلَى غَيْرِ هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ فَهُوَ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّهَا شَهَادَةٌ عَلَى قَوْلِ مَنْ لَا يُقْبَلُ، وَذَلِكَ ضَلَالٌ مُبِينٌ وَتَدْلِيسٌ عَلَى حُكَّامِ الْمُسْلِمِينَ.
وَمِنْ ذَلِكَ: إذَا ادَّعَى رَجُلٌ عَلَى آخَرَ بِدَعْوَى فَلَمْ يُنْكِرْ الْخَصْمُ دَعْوَاهُ وَلَا أَقَرَّ بِهَا، بَلْ قَالَ عَقِيبَ دَعْوَاهُ عَلَيْهِ: وَأَنَا لِي أَيْضًا عَلَيْكَ مَالٌ أَوْ شَيْءٌ سَمَّاهُ، فَقَالَ الْمُدَّعِي لِمَنْ سَمِعَ كَلَامَهُ اشْهَدُوا لِي عَلَيْهِ بِإِقْرَارِهِ فَلَا يَشْهَدُوا عَلَيْهِ بِشَيْءٍ، وَقَدْ سُئِلَ الْمَازِرِيُّ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ هَذَا لَيْسَ بِصَرِيحٍ فِي الْتِزَامِ مَا ادَّعَى بِهِ عَلَيْهِ، وَقَدْ يَكُونُ مَقْصِدُهُ مُقَابَلَةَ الْفَاسِدِ بِالْفَاسِدِ، وَذَلِكَ مِنْ وُجُوهِ الْجِدَالِ ذَكَرَهُ الشَّيْخُ أَبُو الْقَاسِمِ بْنُ مَشْكَانَ الْقَيْرَوَانِيُّ عَنْ شَيْخِهِ الْمَازِرِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى.
وَمِنْ ذَلِكَ: مَا أَهْمَلُوهُ مِنْ سُؤَالِ الْمُعْتَدَّةِ إذَا أَرَادَتْ النِّكَاحَ وَمُبَاحَثَتِهَا عَنْ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ بِمَا تَفْهَمُ بِهِ أَحْكَامَهَا مِنْ التَّفْصِيلِ وَتَعْيِينِ الْأَقْرَاءِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ شَرْطِ الْحَيْضَةِ فِي عِدَّةِ الْوَفَاةِ فَيَنْبَغِي الِاجْتِهَادُ فِي ذَلِكَ، وَلَا يُكْتَفَى بِقَوْلِهَا قَدْ انْقَضَتْ عِدَّتِي عَلَى الْإِجْمَالِ، فَإِنَّ النِّسَاءَ الْيَوْمَ جَهِلْنَ ذَلِكَ جَهْلًا كَثِيرًا، بَلْ جَهِلَهُ كَثِيرٌ مِمَّنْ يُظَنُّ بِهِ عِلْمٌ، وَيَرَى لِنَفْسِهِ حَظًّا وَتَقَدُّمًا، قَالَ وَلَقَدْ عَايَنْت بَعْضَ الْجَهَلَةِ مِنْ الْمُوَثَّقِينَ يَسْتَغْنِي عَنْ سُؤَالِ الْمَرْأَةِ جُمْلَةً، إذَا هُوَ وَجَدَ لِتَارِيخِ الطَّلَاقِ شَهْرَيْنِ فَصَاعِدًا، وَاِتَّخَذَ الْيَوْمَ هَذَا الْمِقْدَارَ مِنْ الْمُدَّةِ كَثِيرٌ مِنْ النِّسَاءِ وَالرِّجَالِ أَصْلًا فِي إكْمَالِ عِدَّةِ الطَّلَاقِ، وَمَا أَدْرِي كَيْفَ كَانَ أَصْلُ هَذَا الْغَلَطِ الْقَبِيحِ.
وَمِنْ ذَلِكَ مَا اسْتَخَفُّوهُ مِنْ تَقْيِيدِ الْعُيُوبِ الَّتِي يَشْتَرِطُهَا الدَّلَّالُونَ فِي الْمَبِيعِ مِنْ الدَّوَابِّ وَالرَّقِيقِ وَالرِّبَاعِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا يَسْتَرْسِلُونَ فِي تَصْدِيقِهِ، وَرُبَّمَا عَدُّوا أَشْيَاءَ مَحْفُوظَةً عِنْدَهُمْ، وَقَدْ يَكُونُ بَعْضُهَا فِي الْمَبِيعِ وَأَكْثَرُهَا بَاطِلٌ مُتَحَقِّقُ الْكَذِبِ، وَيَفْعَلُونَ ذَلِكَ لِوُجُوهٍ مِنْ مُخَادَعَةِ الْبَائِعِ وَالْمُشْتَرِي، فَقَدْ يَغْتَرُّ الْبَائِعُ فِي إمْضَاءِ الْبَيْعِ إذَا سَمِعَ كَثْرَةَ ذَلِكَ فِي سِلْعَتِهِ إيهَامًا مِنْهُمْ لَهُ وَإِظْهَارًا لِلتَّصْحِيحِ، وَيَغْتَرُّ الْمُشْتَرِي أَيْضًا فِي الْتِزَامِ تِلْكَ الْعُيُوبِ اعْتِمَادًا عَلَى أَنَّهَا أَوْ جُلَّهَا بَاطِلٌ وَتَشْدِيدٌ فِي الْبَيْعِ لِمَا عَهِدَ النَّاسُ مِنْ زِيَادَاتِهِمْ الْكَاذِبَةِ وَجَرَتْ بِهِ عَادَتُهُمْ الْفَاسِدَةُ، فَيَرْضَى بِمَا يَشْتَرِطُونَهُ مِنْ ذَلِكَ، وَقَدْ يَدُسُّونَ فِي أَثْنَاءِ هَذِهِ الْعُيُوبِ الْكَاذِبَةِ لَهُ عَيْبًا أَوْ عَيْبَيْنِ هِيَ ثَابِتَةٌ فِي الْمَبِيعِ عَظِيمَةُ الضَّرَرِ يَجْهَلُهَا الْمُشْتَرِي بِجَهْلِ غَيْرِهَا، إذْ لَا عِلْمَ عِنْدَهُ بِحَقِيقَةِ ذَلِكَ، فَهُوَ لَوْ عَلِمَ بِثُبُوتِهَا قَطْعًا مَا رَضِيَ وَلَا أَقْدَمَ عَلَى الشِّرَاءِ بِوَجْهٍ، فَهَذَا مِمَّا غَفَلَ الْمُوَثَّقُونَ الْيَوْمَ عَنْهُ وَالْحُكَّامُ أَيْضًا، مَعَ كَثْرَةِ وُقُوعِهِ جِدًّا، لاسيما مِنْ الدَّلَّالِينَ عَلَى الدَّوَابِّ، وَفِي ذَلِكَ مِنْ الْفَسَادِ وُجُوهٌ. مِنْهَا: إقْرَارُهُمْ عَلَى التَّكَاذُبِ وَإِمْضَاؤُهُمْ لَهُ وَمِنْهَا: التَّدْلِيسُ عَلَى الْمُشْتَرِي بِالْعَيْبِ الثَّابِتِ مِنْ جُمْلَةِ الْعُيُوبِ الَّتِي يَحْمِلُهَا عَلَى الْمُبَالَغَةِ وَالْكَذِبِ.
وَمِنْهَا: إيقَاعُ الشَّهَادَةِ عَلَى مَا عَلِمَ الشَّاهِدُ غَيْرَهُ مِنْ بَاطِنِ الْأَمْرِ؛ لِأَنَّهُ يَتَحَقَّقُ كَمَا يَتَحَقَّقُ الْمُشْتَرِي أَنَّ بَعْضَهَا أَوْ جُلَّهَا مِنْ زِيَادَةِ النَّخَّاسِينَ وَكَذِبِهِمْ، فَيَنْبَغِي أَوْ لَا يُقْبَلُ مِنْهُمْ فِي ذَلِكَ إلَّا مَا يَصِحُّ وَيُمْكِنُ وَأَشْبَاهُ هَذَا كَثِيرٌ. وَإِنَّمَا نَبَّهْنَا مِنْهُ عَلَى الْآكَدِ إذْ لَا يُمْكِنُ حَصْرُ مَا يَقَعُ مِنْ الْغَلَطِ وَالسَّهْوِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَجْرِي عَلَى أَصْلٍ قَالَ وَأَكْثَرُ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ مِمَّا ذَكَرْنَاهُ أَوْ لَمْ نَذْكُرْهُ لَا يُسْتَطَاعُ الِانْفِصَالُ عَنْهَا فِي الْبَلَدِ الَّتِي اُعْتِيدَتْ فِيهِ إلَّا بِاعْتِنَاءِ الْقَاضِي بِهَا، وَالتَّقَدُّمِ فِيهَا وَمُوَالَاةِ الْبَحْثِ عَنْهَا، وَالتَّعْنِيفِ لِمَنْ يُوَاقِعُهَا؛ لِأَنَّ مَا يَعْتَادُهُ الْجُمْهُورُ لَا يَصْرِفُهُمْ عَنْهُ تَوَقِّي الْوَاحِدِ وَالِاثْنَيْنِ لَهُ، وَلَا تَعْلِيمُ الْمُعَلِّمِينَ وَوَعْظُ الْمُجْتَهِدِينَ، مَا لَمْ يَكُنْ فِيهَا إرْهَابٌ مِنْ السُّلْطَانِ فَيَنْبَغِي لِلْقَاضِي وَيَحِقُّ عَلَيْهِ الِاعْتِنَاءُ بِمِثْلِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ وَالتَّنْقِيبُ عَنْ أَمْثَالِهَا وَرَدُّ مَسَائِلِ الشَّرْعِ إلَى أُصُولِهَا.

.فَصْلٌ لَا يَنْبَغِي لِلشَّاهِدِ أَنْ يَشْهَدَ فِي كِتَابٍ مَخْتُومٍ:

لِأَنَّهُ لَا يَدْرِي مَا فِيهِ، وَلَعَلَّهُ لَا يَكُونُ فِيهِ شَيْءٌ أَصْلًا، أَوْ لَعَلَّ فِيهِ مَا لَا يَحِلُّ سَمَاعُهُ مِنْ الْمَحْظُورَاتِ، فَإِنْ وَثِقَ بِصَاحِبِهِ وَأَمِنَ مِمَّا ذَكَرْنَاهُ وَدَعَتْهُ الثِّقَةُ بِهِ إلَى الشَّهَادَةِ فَفِي جَوَازِ الْإِقْدَامِ عَلَى ذَلِكَ خِلَافٌ.
قَالَ الْمَازِرِيُّ فِي شَرْحِ التَّلْقِينِ وَإِنْ دَفَعَ رَجُلٌ إلَى الشُّهُودِ صَحِيفَةً مَطْوِيَّةً، وَقَالَ لَهُمْ دَافِعُهَا: اشْهَدُوا عَلَيَّ بِمَا فِيهَا وَلَمْ يَعْرِفْ الشُّهُودُ مَا تَضَمَّنَتْهُ، فَإِنَّ الْقَاضِيَ عَبْدَ الْوَهَّابِ ذَكَرَ فِي الْمَعُونَةِ أَنَّ فِي هَذَا رِوَايَتَيْنِ عَنْ مَالِكٍ، بِجَوَازِ الشَّهَادَةِ وَقَبُولِهَا، وَبِالْمَنْعِ مِنْ ذَلِكَ، وَرَجَّحَ الْقَاضِي إسْمَاعِيلُ الْجَوَازَ، وَاحْتَجَّ لَهُ وَوَافَقَهُ الْمَازِرِيُّ وَفِي مُخْتَصَرِ أَبِي بَكْرٍ الْوَقَارِ: لَا يَجُوزُ لِلشُّهُودِ أَنْ يَشْهَدُوا بِمَا فِيهَا إلَّا أَنْ يَكُونَ كُلٌّ مِنْهُمْ خَتَمَ عَلَيْهَا خَتْمًا يَعْرِفُهُ، فَإِنْ كَانَتْ عِنْدَ أَحَدِهِمْ وَلَمْ يَخْتِمْ عَلَيْهَا إلَّا هُوَ لَمْ يَجُزْ لَهُمْ أَنْ يَشْهَدُوا بِمَا فِيهَا، لَا يَشْهَدُ فِيهَا إلَّا هُوَ لِاحْتِمَالِ الزِّيَادَةِ فِيهَا وَالنَّقْصِ مِنْهَا.
فَصْلٌ: وَمِنْ كِتَابِ آدَابِ الشَّهَادَةِ لِأَبِي الْفَضْلِ الْعَبَّاسِ بْنِ إسْمَاعِيلَ بْنِ حَبِيبٍ الْجَوْهَرِيِّ قَالَ: يَنْبَغِي لِلشَّاهِدِ إذَا جِيءَ إلَيْهِ بِكِتَابٍ لِيَشْهَدَ فِيهِ أَنْ يَقْرَأَ جَمِيعَ مَا فِيهِ لِيَعْرِفَ الْخَطَأَ إنْ كَانَ فِيهِ مِنْ الصَّوَابِ، وَالصَّحِيحَ مِنْ السَّقِيمِ، فَيَعْرِفَ مَا يَشْهَدُ عَلَيْهِ، وَلْتَكُنْ قِرَاءَتُهُ إيَّاهُ عَلَى الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ.
وَكَذَلِكَ يَنْبَغِي لَهُ تَجَنُّبُ الشَّهَادَةِ عَلَى النِّسَاءِ اللَّاتِي لَيْسَ لَهُ بِهِنَّ خُلْطَةٌ، فَلَنْ تَنْضَبِطَ مَعْرِفَةُ الْمَعْرُوفَةِ مِنْهُنَّ، فَكَيْفَ بِالْمَجْهُولَةِ، وَاَلَّتِي لَا يَرَاهَا الشَّاهِدُ فِي عُمْرِهِ إلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً، وَهِيَ مُتَخَفِّيَةٌ مُسْتَتِرَةٌ، أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ مُتَكَلِّمَةٌ، وَلِذَلِكَ قَالَ مَالِكٌ وَتَكْشِفُ مَنْ لَا تُعْرَفُ لِيَشْهَدَ عَلَى رُؤْيَتِهَا، وَيَتَثَبَّتَ فِي شَخْصِهَا. قَالَ ابْنُ الْحَاجِبِ: وَلَوْ عَرَفَهَا رَجُلَانِ يُرِيدُ عَدْلَيْنِ، فَفِي جَوَازِ أَدَائِهِ عَلَيْهَا قَوْلَانِ. قَالَ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ: وَالْأَقْرَبُ أَنَّهُ نَقَلَ شَهَادَتَهُ عَنْهُمَا فَيُقْبَلُ عِنْدَ تَعَذُّرِ أَدَائِهِمَا وَيُسَمِّيهُمَا لِيُعْذِرَ إلَى الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ فِيهِمَا. قَالَ ابْنُ الْحَاجِبِ: أَمَّا إذَا حَصَلَ الْعِلْمُ بِامْرَأَةٍ فَلَا إشْكَالَ لِحُصُولِ الْعِلْمِ بِهَا؛ لِأَنَّ خَبَرَ الْوَاحِدِ قَدْ تَقْتَرِنُ بِهِ قَرِينَةٌ فَيُفِيدُ الْعِلْمَ.
وَقَالَ أَصْبَغُ فِي السَّامِعَيْنِ مِنْ الْمُنْكَحَةِ وَإِنْ لَمْ يَعْرِفَاهَا، هَذَا أَمْرٌ لَا يَجِدُ النَّاسُ مِنْهُ بُدًّا وَمِنْ النَّاسِ مَنْ لَا يَرَى مُولِيَتَهُ حَتَّى تَبْلُغَ النِّكَاحَ فَلَا حَرَجَ عَلَى السَّامِعَيْنِ فِي ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ مَوْضِعُ ضَرُورَةٍ، وَأَمَّا فِي الْحُقُوقِ مِنْ الْبُيُوعِ وَالْوَكَالَةِ وَالْهِبَاتِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، فَإِنْ كَانَ الشُّهُودُ لَا يَعْرِفُونَهَا فَلَيْسَ الْحُكْمُ كَذَلِكَ، وَلَا أَرَى أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْهَا فِي مِثْلِ هَذَا إلَّا مَنْ عَرَفَهَا بِعَيْنِهَا اُنْظُرْ (مُفِيدَ الْحُكَّامِ).
وَكَذَلِكَ يَنْبَغِي أَنْ يَتَجَنَّبَ الشَّهَادَةَ لِمَنْ يُتَّهَمُ بِسَبَبِهِ مِنْ قَرِيبٍ أَوْ صَدِيقٍ وَشِبْهِ ذَلِكَ. وَكَذَلِكَ يَنْبَغِي أَنْ يَتَجَنَّبَ الشَّهَادَةَ عَلَى شَهَادَةِ ذِي جُرْحَةٍ أَوْ مُتَّهَمٍ فِي الشَّهَادَةِ فِيمَا نُقِلَ عَنْهُ، وَمَنْ لَا يُقْبَلُ مِثْلُهُ فِي ذَلِكَ الْحَقِّ خَوْفًا مِنْ غَلَطِ الْحَاكِمِ فِيهِ إذَا نَقَلَ إلَيْهِ الشَّهَادَةَ؛ لِأَنَّ نَقْلَكَ عَنْهُ يُوهِمُ عَدَالَتَهُ، وَلَا بَأْسَ أَنْ تَشْهَدَ عَلَى شَهَادَةِ مَنْ لَا تَعْلَمُهُ بِجَرْحٍ وَلَا تَعْدِيلٍ مِنْ (تَنْبِيهِ الْحُكَّامِ).
وَكَذَلِكَ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَتَحَفَّظَ مِنْ التَّزْوِيرِ عَلَيْهِ فِي الْخَطِّ، فَقَدْ هَلَكَ بِذَلِكَ خَلْقٌ عَظِيمٌ، وَكَذَلِكَ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَتَأَمَّلَ الْأَسْمَاءَ الَّتِي تَنْقَلِبُ بِإِصْلَاحٍ يَسِيرٍ فَيَتَحَفَّظَ مِنْ تَغْيِيرِهَا نَحْوَ مُظَفَّرٍ فَإِنَّهُ يَنْقَلِبُ مُظَهَّرٍ، وَنَحْوِ بَكْرٍ فَإِنَّهُ يَنْقَلِبُ بُكَيْرٍ، وَنَحْوِ صَقْرٍ فَإِنَّهُ يَجِيءُ ظَفْرٍ، فَيَكُونُ فِي أَصْلِ الْكِتَابِ صَقْرُ بْنُ ظَفْرٍ مَثَلًا فَيَصْلُحُ ظَفْرُ بْنُ مَظْهَرٍ، وَنَحْوِ حَبِيبٍ فَإِنَّهُ يَجِيءُ مِنْهُ مُحَمَّدٌ، وَنَحْوِ عَائِشَةَ فَإِنَّهُ يَنْصَلِحُ عَاتِكَةَ، وَيَجِيءُ مِنْهَا أَيْضًا فَاطِمَةُ، وَيَجِيءُ مِنْ زَادَانِ شَادَانُ، وَيَجِيءُ مِنْ يَاقُوتَ يَعْقُوبُ، وَيَجِيءُ مِنْ جَمِيلٍ كُمَيْلٌ، وَيَجِيءُ مِنْهُ أَيْضًا خَلِيلٌ، وَيَجِيءُ مِنْ يَسَارٍ يُشَارُ، وَيَجِيءُ مِنْهُ أَيْضًا بَكَّارٌ، وَيَجِيءُ مِنْهُ أَيْضًا نَصَّارٌ، وَيَجِيءُ مِنْ عَبْدِ الْمَجِيدِ عَبْدُ الْحَمِيدِ. وَهَذَا بَابٌ وَاسِعٌ يَكْفِي التَّنْبِيهُ عَلَيْهِ بِهَذَا. وَقَدْ يَكُونُ آخِرُ السَّطْرِ بَيَاضًا فَيُمْكِنُ أَنْ يُزَادَ فِيهِ شَيْءٌ كَمَا لَوْ كَانَ آخِرُهُ بَكْرٌ فَيُزَادُ بَكْرَانِ، أَوْ يَكُونُ عُمَرُ فَيُجْعَلُ عِمْرَانُ. وَكَذَلِكَ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَحْذَرَ مِنْ أَنْ يَتِمَّ عَلَيْهِ زِيَادَةُ حَرْفٍ فِي الْكِتَابِ فَقَدْ تُغَيِّرُ الْأَلْفُ الْمَعْنَى إذَا زِيدَتْ. مِثَالُهُ: أَنْ يُقِرَّ رَجُلٌ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ لِرَجُلٍ فَيَكْتُبُ فِي الْوَثِيقَةِ أَقَرَّ أَنَّ لَهُ عِنْدَهُ أَلْفَ دِرْهَمٍ، فَإِنْ لَمْ يَذْكُرْ نِصْفَ الْمَبْلَغِ أَمْكَنَ بَعْدُ زِيَادَةُ أَلِفٍ فَصَارَتْ أَلْفَا دِرْهَمٍ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ فِي الْوَثِيقَةِ أَنَّهُ أَقَرَّ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ لِزَيْدٍ وَعَمْرٍو فَإِذَا زِيدَتْ أَلْفٌ بَيْنَ زَيْدٍ وَعَمْرٍو صَارَتْ لِزَيْدٍ أَوْ عَمْرٍو، فَبَطَلَ الدَّيْنُ مِنْ أَصْلِهِ؛ لِأَنَّ الْأَلْفَ لَمْ يُجْزَمْ بِهَا لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا وَقَدْ يَكُونُ فِي الْكِتَابِ دِينَارٌ وَاحِدٌ فَيُجْعَلُ دِينَارًا وَنِصْفًا؛ لِأَنَّ الْوَاحِدَ يَصْلُحُ وَنِصْفٌ، وَكَذَلِكَ يَنْبَغِي لِلشَّاهِدِ أَنْ يَتَفَقَّدَ حَوَاشِيَ الْكِتَابِ، فَقَدْ يَبْقَى مِنْهَا مَا يُمْكِنُ أَنْ يُزَادَ فِيهِ مَا يُغَيِّرُ حُكْمَ الْكِتَابِ كُلِّهِ أَوْ بَعْضِهِ.

.فَصْلٌ شَهِدْت الْبَيِّنَةُ فِي الْكِتَابِ فِيهِ ثَقْبٌ:

فَصْلٌ: إذَا شَهِدْت فِي الْكِتَابِ فِيهِ ثَقْبٌ، فَإِنْ كَانَ مِمَّا هُوَ فِي أَصْلِ الْوَرَقَةِ فَنَبِّهْ عَلَى ذَلِكَ فَتَقُولُ: وَفِي سَطْرِ كَذَا مِنْ هَذَا الْكِتَابِ ثَقْبٌ قَبْلَهُ كَذَا وَبَعْدَهُ كَذَا، وَكَذَلِكَ تَفْعَلُ إذَا كَانَ ذَلِكَ فِي عِدَّةِ مَوَاضِعَ، وَلَا تُكْتَبُ إنْ فِي الْكِتَابِ قَرْضَ فَأْرٍ فَإِنَّكَ لَا تَدْرِي أَقَرَضَهُ الْفَأْرُ أَوْ غَيْرُهُ، وَإِنْ شَهِدْت فِي كِتَابٍ سَلِيمٍ مِنْ الْآثَارِ ثُمَّ وَجَدْت فِيهِ أَثَرًا حِينَ الْأَدَاءِ، فَإِنْ كَانَتْ مَقَاصِدُ الْكِتَابِ قَدْ سَلِمَتْ أَقَمْت الشَّهَادَةَ، وَقُلْت: خَلَا مَوَاضِعَ الْآثَارِ وَهِيَ كَذَا وَكَذَا مَوْضِعًا، وَتَصِفُهَا وَتَقُولُ: إنَّهَا كَانَتْ سَلِيمَةً يَوْمَ وَضْعِ الشَّهَادَةِ، وَإِنْ كَانَ الْقَرْضُ فِي مَوْضِعٍ يُحِيلُ مَعْنًى مِنْ مَقَاصِدِ الْكِتَابِ فَلَا تَشْهَدْ أَصْلًا.

.فَصْلٌ لِلشَّاهِدِ أَنْ يَتَأَمَّلَ تَارِيخَ الْمَسْطُورِ وَيَنْظُرَ فِي الْعَدَدِ:

فَصْلٌ: وَإِذَا كُنْت أَوَّلَ مَنْ يَشْهَدُ فِي كِتَابٍ فَانْظُرْ آخِرَ حَرْفٍ مِنْ آخِرِ الْكِتَابِ، فَاكْتُبْ فِيمَا يَلِيهِ بِغَيْرِ فُرْجَةٍ تَتْرُكُهَا بَيْنَ شَهَادَتِكَ وَبَيْنَ آخِرِ حَرْفٍ مِنْ الْكِتَابِ، لِئَلَّا يُغَيَّرَ فِي الْكِتَاب شَيْءٌ، وَيُعْتَذَرَ عَنْهُ فِي تِلْكَ الْفُرْجَةِ، فَإِنْ كَانَتْ ضَيِّقَةً لَا تَسَعُ الشَّهَادَةَ فَسُدَّهَا بِحَسْبِنَا اللَّهُ أَوْ بِالْحَمْدِ لِلَّهِ وَانْوِ ذِكْرَ اللَّهِ تَعَالَى، وَلَا تَضَعُهَا فِي آخِرِ السَّطْرِ مِنْ الْكِتَابِ بِلَا نِيَّةٍ فَقَدْ نَصَّ الْقَرَافِيُّ عَلَى النَّهْيِ عَنْ ذَلِكَ.

.فَصْلٌ: إذَا كَانَ آخِرُ السَّطْرِ مِنْ الْكِتَابِ قَدْ اسْتَوْفَى آخِرَ السَّطْرِ وَلَمْ تَبْقَ فُرْجَةٌ وَكُنْت أَوَّلَ مَنْ يَشْهَدُ:

إذَا كَانَ آخِرُ السَّطْرِ مِنْ الْكِتَابِ قَدْ اسْتَوْفَى آخِرَ السَّطْرِ وَلَمْ تَبْقَ فُرْجَةٌ وَكُنْت أَوَّلَ مَنْ يَشْهَدُ فَاكْتُبْ فِي أَوَّلِ سَطْرٍ يَلِيهِ يَمْنَةَ الْكِتَابِ، وَلَا تَكْتُبْ يَسْرَتَهُ فَتَبْقَى فُرْجَةٌ هِيَ بَعْضُ سَطْرٍ، فَيَكْتُبُ اعْتِذَارًا عَنْ إلْحَاقٍ أَوْ كَشْطٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ.
فَصْلٌ: إذَا شَهِدَ قَبْلَكَ شُهُودٌ ثُمَّ جِيءَ إلَيْك بِالْكِتَابِ فَتَأَمَّلْ شَهَادَةَ أَوَّلِهِمْ، فَإِنْ كَانَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ آخِرِ حَرْفٍ مِنْ الْكِتَابِ فُرْجَةٌ يُمْكِنُ أَنْ يُكْتَبَ فِيهَا شَيْءٌ، فَصَحَّ أَنْتَ فِي تِلْكَ الْفُرْجَةِ هَكَذَا: (صَحَّ صَحَّ) حَتَّى تَشْغَلَ تِلْكَ الْفُرْجَةَ.

.فَصْلٌ: إِذَا كَانَتْ شَهَادَتُكَ فِي مَسْطُورٍ وَهُوَ مِنْ الْوَرَقِ الدِّمَشْقِيِّ:

وَإِذَا كَانَتْ شَهَادَتُكَ فِي مَسْطُورٍ وَهُوَ مِنْ الْوَرَقِ الدِّمَشْقِيِّ فَتَأَمَّلْهُ قَبْلَ أَنْ تُؤَدِّيَ شَهَادَتَكَ فَإِنَّهُ يَنْبَشِرُ بَشْرًا خَفِيًّا، كَذَلِكَ مَا يُكْتَبُ فِي بَعْضِ الْقَرَاطِيسِ فَإِنَّهُ يُمْحَى بِسُرْعَةٍ وَيُجْعَلُ فِيهِ غَيْرُ مَا مُحِيَ، ولاسيما إنْ كَانَ الْحِبْرُ مِدَادًا، وَاحْتَرِزْ مِنْ الْحِبْرِ الَّذِي يُنْتَقَضُ.

.فَصْلٌ: تَعْتِيقَ الْكُتُبِ:

وَتَأَمَّلْ تَعْتِيقَ الْكُتُبِ فَإِنَّ لَهُمْ فِي ذَلِكَ حِيلَةً يَجْعَلُونَ بِهَا الْكِتَابَ الطَّرِيَّ كَأَنَّهُ عَتِيقٌ.

.فَصْلٌ: [تَارِيخ الْمَسْطُورِ والْعَدَدِ]

وَيَنْبَغِي لِلشَّاهِدِ أَنْ يَتَأَمَّلَ تَارِيخَ الْمَسْطُورِ وَيَنْظُرَ فِي الْعَدَدِ، فَإِنَّ سِتِّينَ تَصِيرُ بِسُرْعَةٍ ثَمَانِينَ، وَتَصِيرُ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَثَلَاثِينَ سَنَةَ سِتٍّ وَثَلَاثِينَ، فَيَبْطُلُ التَّارِيخُ، وَتُمَيِّزُ الْفَرْقَ بَيْنَ سَبْعَةٍ وَتِسْعَةٍ، وَخَمْسَةَ عَشَرَ تُجْعَلُ خَمْسَةً وَعِشْرِينَ، وَالسَّبْعِينَ تَصِيرُ تِسْعِينَ، وَكَذَلِكَ تَأَمَّلْ عَدَدَ الدَّنَانِيرِ وَالدَّرَاهِمِ بِحَسَبِ مَا ذَكَرْتُهُ، وَلَقَدْ أَجَادَ مَنْ يَجْعَلُ فِي الْمَسَاطِيرِ كَذَا وَكَذَا دَنَانِيرَ نِصْفُهَا كَذَا وَكَذَا، وَبَعْضُهُمْ يَزِيدُ وَرُبُعُهَا كَذَا وَكَذَا.

.فَصْلٌ: أَسْمَاء مِنْ الْكُتُبِ وَأَنْسَابِهِمْ مِنْ الْبَائِعِ وَالْمُشْتَرِي وَالضَّامِنِ:

وَتَأَمَّلْ أَسْمَاءً مِنْ الْكُتُبِ وَأَنْسَابِهِمْ مِنْ الْبَائِعِ وَالْمُشْتَرِي وَالضَّامِنِ إذَا كُنْت مَا تَعْرِفُهُمْ مَعْرِفَةً تَامَّةً، وَلَا تَقْرَأُ عَلَيْهِمْ الْكِتَابَ، وَسَلْهُمْ عَنْ أَسْمَائِهِمْ وَأَنْسَابِهِمْ، فَقَدْ يَكُونُ مُزَوَّرًا فَمَا يَعْرِفُ الشَّاهِدُ اسْمَ نَفْسِهِ أَوْ يَجْهَلُ نَسَبَهُ وَيَنْسَى مَا كُتِبَ فِي الْكِتَابِ، فَيَضْطَرِبُ عِنْدَ ذَلِكَ، فَإِنْ كَانَ شِرَاءً سَأَلْت الْبَائِعَ عَمَّا بَاعَهُ هَلْ هُوَ كَامِلٌ أَوْ حِصَّةٌ، وَالْمِلْكِ فِي أَيِّ مَوْضِعٍ، وَتَسْأَلُهُ عَنْ الثَّمَنِ.

.فَصْلٌ إذَا كَتَبَ الشَّاهِدُ فِي شَهَادَتِهِ أَشْهَدُ عَلَى إقْرَارِ الْمُقِرِّينَ بِمَا فِي هَذَا الْكِتَابِ:

فَذَلِكَ غَفْلَةٌ مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يُقِرُّ بِمَا فِيهِ غَيْرُ الْمُسَمَّيْنَ فِيهِ، فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَقُولَ أَشْهَدُ عَلَى إقْرَارِهِمَا بِمَا نُسِبَ إلَيْهِمَا؛ لِأَنَّ تِلْكَ شَهَادَةٌ نَاقِصَةٌ، وَقَوْلُهُ عَلَى إقْرَارِهِمَا إشَارَةٌ إلَى اثْنَيْنِ مَنْكُورَيْنِ، وَإِنَّمَا يَتَأَوَّلُ فِي حَقِّهِ أَنَّهُمَا الْمُسَمَّيَانِ فِي هَذَا الْكِتَابِ، وَأَنَّهُمَا مَعْرُوفَانِ عِنْدَهُ، وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ لَا يَعْرِفُهُمَا فَيَجِبُ أَنْ يَقُولَ أَشْهَدُ عَلَى الْمُسَمَّيَيْنِ أَوْ الْمَذْكُورَيْنِ، لِتَكُونَ شَهَادَةً مُفَسَّرَةً، فَإِنْ أَتَى بِمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ فَلِلْحَاكِمِ أَنْ يَسْتَفْسِرَهُ عَنْ الْمَشْهُودِ عَلَيْهِمَا، فَرُبَّمَا كَانَا غَيْرَ مَعْرُوفَيْنِ عِنْدَ الشَّاهِدِ.

.فَصْلٌ: مَنْ كَتَبَ عَلَى رَجُلٍ كِتَابًا بِحَقٍّ لَهُ وَأَشْهَدَ عَلَيْهِ شُهُودًا، ثُمَّ ادَّعَى أَنَّ كِتَابَ الْحَقِّ قَدْ ضَاعَ:

قَالَ ابْنُ حَبِيبٍ سَمِعْت ابْنَ الْمَاجِشُونِ يَقُولُ: مَنْ كَتَبَ عَلَى رَجُلٍ كِتَابًا بِحَقٍّ لَهُ وَأَشْهَدَ عَلَيْهِ شُهُودًا، ثُمَّ ادَّعَى أَنَّ كِتَابَ الْحَقِّ قَدْ ضَاعَ وَسَأَلَ الشُّهُودَ أَنْ يَشْهَدُوا لَهُ بِمَا حَفِظُوا مِنْ ذَلِكَ، فَلَا يَشْهَدُوا عَلَى حَرْفٍ مِنْهُ، وَإِنْ كَانُوا لِجَمِيعِ مَا فِيهِ حَافِظِينَ؛ لِأَنَّهُ يُخَافُ أَنْ يَكُونَ قَدْ اقْتَضَى حَقَّهُ وَدَفَعَهُ لِلْمِدْيَانِ فَمَحَاهُ، وَقَدْ اكْتَفَى الْيَوْمَ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ بِمَحْوِ كُتُبِ الْحَقِّ مِنْ الْبَرَاءَةِ مِنْهَا وَالْإِشْهَادِ عَلَيْهَا، فَإِنْ جَهِلُوا وَقَامُوا بِشَهَادَتِهِمْ لَمْ يَسَعْ الْحَاكِمَ إلَّا قَبُولُهَا، وَيُقَالُ لِلْمَشْهُودِ عَلَيْهِ: أَقِمْ بَيِّنَةً بِبَرَاءَتِكَ، وَبِمَا تَدْفَعُ بِهِ الشَّهَادَةَ.
وَقَالَ مُطَرِّفٌ: لَهُمْ أَنْ يَشْهَدُوا، وَإِنَّمَا الْكُتُبُ تَذْكِرَةٌ.
وَقَالَهُ مَالِكٌ، وَقَالَهُ أَصْبَغُ. قَالَ ابْنُ حَبِيبٍ: وَهَذَا أَحَبُّ إلَيَّ إنْ كَانَ الْمُدَّعِي مَأْمُونًا، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مَأْمُونٍ فَقَوْلُ ابْنِ الْمَاجِشُونِ أَحَبُّ إلَيَّ.

.فَصْلٌ: وَإِذَا طُلِبَ مِنْكَ ذِكْرُ مُعَايَنَةِ قَبْضِ الثَّمَنِ فِي أَدَاءِ الشَّهَادَةِ:

وَإِذَا طُلِبَ مِنْكَ ذِكْرُ مُعَايَنَةِ قَبْضِ الثَّمَنِ فِي أَدَاءِ الشَّهَادَةِ فَأَلْزِمْهُمْ بِإِحْضَارِ الثَّمَنِ وَوَزْنِهِ وَنَقْدِهِ وَتَسْلِيمِهِ، حَتَّى يَكُونَ مُوَافِقًا لِمَا ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ، فَإِذَا صَحَّ لَكَ ذَلِكَ قُلْت لِلْبَائِعِ وَقَدْ قُرِئَ عَلَيْكَ هَذَا الْكِتَابُ وَوَافَقْت عَلَى مَا فِيهِ وَأَشْهَدَ عَلَيْكَ بِجَمِيعِ مَا فِيهِ، وَهَذَا إذَا كَانَ مُتَيَقِّظًا يَفْهَمُ مَا كُتِبَ عَلَيْهِ وَإِلَّا فَلَا تَشْهَدْ عَلَيْهِ حَتَّى تُفْهِمَهُ مَقَاصِدَ الْكِتَابِ، ثُمَّ تَقُولَ لِلْمُشْتَرِي مِثْلَ ذَلِكَ، وَتَشْهَدَ عَلَى إقْرَارِهِ بِأَنَّهُ تَسَلَّمَ مَا اشْتَرَى، وَإِنْ اُسْتُثْنِيَ شَيْءٌ مِنْ الْمَبِيعِ أَوْ اُشْتُرِطَ عَلَيْهِ عَيْبٌ نَبَّهْتَهُ عَلَى ذَلِكَ.

.فَصْلٌ: إِذَا أُثْبِتَتْ بِكِتَابِ إجَارَةٍ:

وَإِذَا أُثْبِتَتْ بِكِتَابِ إجَارَةٍ فَتَسْأَلُهُ هَلْ هُوَ وَقْفٌ أَوْ طَلْقٌ فَقَدْ يُكْتَبُ فِي مُدَّةِ إجَارَةِ الْوَقْفِ أَكْثَرُ مِمَّا يَجُوزُ.

.فَصْلٌ دُعِيَتْ إلَى الشَّهَادَةِ فِي النِّكَاحِ وَكَانَتْ الشَّهَادَةُ عَلَى التَّعْرِيفِ:

فَصْلٌ: وَإِذَا دُعِيَتْ إلَى الشَّهَادَةِ فِي النِّكَاحِ وَكَانَتْ الشَّهَادَةُ عَلَى التَّعْرِيفِ وَحَصَلَتْ لَك رِيبَةٌ تُرِيدُ زَوَالَهَا، فَاسْأَلْ الْوَلِيَّ عَنْ اسْمِهِ وَنَسَبِهِ وَمَا هُوَ مِنْ الزَّوْجَةِ وَمَا اسْمُهَا وَنَسَبُهَا، وَتَنْظُرُ النَّسَبَ بَيْنَهُمَا فِي الْكِتَابِ، وَلَا تَضَعَ شَهَادَتَكَ بِأَنَّهُ وَلِيٌّ حَتَّى يَصِحَّ ذَلِكَ عِنْدَكَ.

.فَصْلٌ تَجَنَّبْ أَنْ تَشْهَدَ بِمَوْتِ غَائِبٍ بِتَعْرِيفِ مَنْ عَرَّفَكَ:

فَقَدْ يَكُونُ بَلَغَهُ ذَلِكَ بَلَاغًا غَيْرَ مَوْثُوقٍ بِهِ، فَتَشْهَدُ بِمَوْتِهِ ثُمَّ يَقْدَمُ فَتَكُونُ فَضِيحَةٌ وَتَجَنَّبْ أَنْ تُعَرِّفَ بِصِحَّةِ مَا عَرَّفَكَ بِهِ الْعَوَامُّ وَمَنْ لَا يَضْبِطُ مَا يَقُولُ.

.فَصْلٌ: إذَا سُئِلَتْ عَمَّا لَا تَذْكُرُهُ:

إذَا سُئِلَتْ عَمَّا لَا تَذْكُرُهُ فَقُلْ مَا أَذْكُرُهُ، وَلَا تَقُلْ مَا كَانَ ذَلِكَ، فَإِنَّكَ قَدْ تَذْكُرُ فَتَقُولُ قَدْ ذَكَرْته، وَلَوْ قُلْت مَا كَانَ ذَلِكَ ثُمَّ ذَكَرْتَهُ ذَلِكَ، فَإِنَّكَ قَدْ تَذْكُرُ فَتَقُولُ قَدْ ذَكَرْته، وَلَوْ قُلْت مَا كَانَ ذَلِكَ ثُمَّ ذَكَرْته وَشَهِدْت بِهِ كُنْت قَدْ خَالَفْت مَا قُلْته أَوَّلًا، وَإِنْ أَمْسَكَتْ عَنْ الشَّهَادَةِ كُنْت مَأْثُومًا، فَاضْبِطْ هَذَا الْمَعْنَى فَإِنَّهُ فِي أَشْيَاءَ كَثِيرَةٍ.
فَصْلٌ: تَجَنَّبْ الشَّهَادَةَ عَلَى شَهَادَةِ مَنْ لَمْ تَصِحَّ عَدَالَتُهُ، فَرُبَّمَا جُعِلَتْ شَهَادَتُكَ عَلَى شَهَادَتِهِ تَعْدِيلًا مِنْكَ لَهُ.

.فَصْلٌ فِي أَحْكَامِ كَاتِبِ الْوَثَائِق:

وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ فِيهِ مِنْ الْأَوْصَافِ مَا نَذْكُرُهُ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ حَسَنَ الْكِتَابَةِ، قَلِيلَ اللَّحْنِ، عَالِمًا بِالْأُمُورِ الشَّرْعِيَّةِ، عَارِفًا بِمَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ مِنْ الْحِسَابِ وَالْقِسَمِ الشَّرْعِيَّةِ، مُتَحَلِّيًا بِالْأَمَانَةِ، سَالِكًا طُرُقَ الدِّيَانَةِ وَالْعَدَالَةِ، دَاخِلًا فِي سِلْكِ الْفُضَلَاءِ، مَاشِيًا عَلَى نَهْجِ الْعُلَمَاءِ الْأَجِلَّاءِ، فَهِيَ صِنَاعَةٌ جَلِيلَةٌ شَرِيفَةٌ وَبِضَاعَةٌ عَالِيَةٌ مُنِيفَةٌ، تَحْتَوِي عَلَى ضَبْطِ أُمُورِ النَّاسِ عَلَى الْقَوَانِينِ الشَّرْعِيَّةِ، وَحِفْظِ دِمَاءِ الْمُسْلِمِينَ وَأَمْوَالِهِمْ وَالِاطِّلَاعِ عَلَى أَسْرَارِهِمْ وَأَحْوَالِهِمْ وَمُجَالَسَةِ الْمَمْلُوكِ وَالِاطِّلَاعِ عَلَى أُمُورِهِمْ وَعِيَالِهِمْ، وَبِغَيْرِ هَذِهِ الصِّنَاعَةِ لَا يَنَالُ أَحَدٌ ذَلِكَ وَلَا يَسْلُكُ هَذِهِ الْمَسَالِكَ.
وَفِي التَّنْبِيهِ لِابْنِ الْمُنَاصِفِ وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُنَصَّبَ لِكِتَابَةِ الْوَثَائِقِ إلَّا الْعُلَمَاءُ الْعُدُولُ، كَمَا قَالَ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ لَا يَكْتُبُ الْكُتُبَ بَيْنَ النَّاسِ إلَّا عَارِفٌ بِهَا عَدْلٌ فِي نَفْسِهِ مَأْمُونٌ عَلَى مَا يَكْتُبُهُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ} [البقرة: 282].
وَأَمَّا مَنْ لَا يُحْسِنُ وُجُوهَ الْكِتَابَةِ وَلَا يَقِفُ عَلَى فِقْهِ الْوَثِيقَةِ فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُمَكَّنَ مِنْ الِانْتِصَابِ لِذَلِكَ، لِئَلَّا يُفْسِدَ عَلَى النَّاسِ كَثِيرًا مِنْ مُعَامَلَاتِهِمْ، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ عَالِمًا بِوُجُوهِ الْكِتَابَةِ إلَّا أَنَّهُ مُتَّهَمٌ فِي دِينِهِ فَلَا يَنْبَغِي تَمْكِينُهُ مِنْ ذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ لَا يَضَعُ اسْمَهُ بِشَهَادَةٍ فِيمَا يَكْتُبُ، لِأَنَّ مِثْلَ هَذَا يُعَلِّمُ النَّاسَ وُجُوهَ الشَّرِّ وَالْفَسَادِ، وَيُلْهِمُهُمْ تَحْرِيفَ الْمَسَائِلِ لِتَوْجِيهِ الْإِشْهَادِ، فَكَثِيرًا مَا يَأْتِي النَّاسُ الْيَوْمَ يَسْتَفْتُونَ فِي نَوَازِلَ مِنْ الْمُعَامَلَاتِ الرِّبَوِيَّةِ وَالْمُشَارَكَةِ الْفَاسِدَةِ وَالْأَنْكِحَةِ الْمَفْسُوخَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا لَا يَجُوزُ، فَإِذَا صَرَفَهُمْ عَنْ ذَلِكَ أَهْلُ الدِّيَانَةِ أَتَوْا إلَى مِثْلِ هَؤُلَاءِ، فَحَرَّفُوا أَلْفَاظَهَا، وَتَحَيَّلُوا لَهَا بِالْعِبَارَةِ الَّتِي ظَاهِرُهَا الْجَوَازُ، وَهِيَ مُشْتَمِلَةٌ عَلَى صَرِيحِ الْفَسَادِ، وَأَضَلُّوا. وَتَمَالَأَ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ عَلَى التَّهَاوُنِ بِحُدُودِ الْإِسْلَامِ وَالتَّلَاعُبِ فِي طَرِيقِ الْحَرَامِ، {وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ} [الشعراء: 227].

.فَصْلٌ رَأَى السُّلْطَانُ قَصْرَ الْوَثَائِقِ عَلَى إنْسَانٍ بِعَيْنِهِ:

قَالَ ابْنُ الْمُنَاصِفِ وَإِذَا رَأَى السُّلْطَانُ مِنْ النَّظَرِ لِلْمُسْلِمِينَ قَصْرَ الْوَثَائِقِ عَلَى إنْسَانٍ بِعَيْنِهِ أَوْ اثْنَيْنِ، لِكَوْنِ ذَلِكَ الرَّجُلُ يُوثَقُ بِهِ فِي دِينِهِ وَمَعْرِفَتِهِ وَنَظَرِهِ فِي الْوَثَائِقِ، وَلِنُفُوذِهِ فِي مُشْكِلِ النَّوَازِلِ، وَلِقُصُورِ غَيْرِهِ عَنْ إدْرَاكِ تِلْكَ الْحَقَائِقِ فَذَلِكَ سَائِغٌ حَسَنٌ، بِشَرْطِ كَوْنِهِ نَظَرًا لِلْمُسْلِمِينَ لَا قَصْدًا لِلْمَنْفَعَةِ لِذَلِكَ الرَّجُلِ وَتَكْثِيرِهَا لَهُ بِمَا يَنَالُ مِنْ الْأُجْرَةِ عَلَيْهَا، وَلَا يَحِلُّ لِلْمُوَثِّقِ نَفْسِهِ أَنْ يَسْأَلَ مِنْ السُّلْطَانِ قَصْرَ الْوَثَائِقِ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ أَهْلًا لِمَعْرِفَتِهَا إذَا قَصَدَ الِاسْتِكْثَارَ مِنْ الْفَائِدَةِ لِنَفْسِهِ، فَإِنْ فَعَلَ ذَلِكَ وَرَغِبَ فِيهِ فَهِيَ جُرْحَةٌ فِي حَقِّهِ وَقَدْحٌ فِي عَدَالَتِهِ.
وَفِي أَحْكَامِ ابْنِ سَهْلٍ: لَا كَثَّرَ اللَّهُ أَمْثَالَ هَذَا الْفَقِيهِ إذْ طَلَبَ مَا لَا يَجُوزُ لَهُ وَلَا يَحِلُّ لَهُ، وَمَنْ طَلَبُ ذَلِكَ فَإِمَامَتُهُ غَيْرُ جَائِزَةٍ وَشَهَادَتُهُ سَاقِطَةٌ أَمَّا إنْ فَعَلَ ذَلِكَ احْتِسَابًا، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ.

.فَصْلٌ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالْمُوَثِّقِ:

وَفِي (الْعَالِي الرُّتْبَةِ فِي أَحْكَامِ الْحِسْبَةِ) لِأَحْمَدَ بْنِ مُوسَى بْنِ النَّحْوِيِّ الدِّمَشْقِيِّ الشَّافِعِيِّ، فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالْمُوَثِّقِ مِمَّا لَا يُخَالِفُ قَوَاعِدَ مَذْهَبِ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ قَالَ: وَإِذَا كَتَبَ الْمُوَثِّقُ كِتَابًا بَدَأَ بَعْدَ الْبَسْمَلَةِ بِذِكْرِ لَقَبِ الْمُقِرِّ وَاسْمِهِ وَاسْمِ أَبِيهِ وَجِدِّهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ ذِكْرَ الْجَدِّ اسْتَحْسَنَهُ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْ الْمَالِكِيَّةِ. ثُمَّ يَذْكُرُ قَبِيلَتَهُ وَصِنَاعَتَهُ وَمَسْكَنَهُ، وَيُحَلِّيهِ إنْ لَمْ يَكُنْ مَعْرُوفًا، وَهَذَا أَحَدُ الْأَقْوَالِ الَّتِي ذَكَرَهَا ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ عَنْ الْمَذْهَبِ.
قَالَ: وَإِنْ كَانَ مَعْرُوفًا كَتَبَ: وَشُهُودُ هَذَا الْكِتَابِ بِهِ عَارِفُونَ وَلَهُ مُحَقِّقُونَ، وَكَذَلِكَ يَفْعَلُ فِي اسْمِ الْمُقَرِّ لَهُ، ثُمَّ يُؤَرِّخُ مَكْتُوبَهُ بِالْيَوْمِ وَالشَّهْرِ وَالسَّنَةِ، وَعِنْدَنَا أَنَّهُ يَلْزَمُ التَّارِيخُ بِالسَّاعَاتِ فِي خَمْسَةِ أَشْيَاءَ ذَكَرْتهَا فِي الْقَضَاءِ بِشَهَادَةِ الِاسْتِرْعَاءِ، قَالَ فَإِذَا فَرَغَ الْكَاتِبُ مِنْ ذِكْرِ كِتَابَتِهِ اسْتَوْعَبَهُ وَقَرَأَهُ وَتَمَيَّزَ أَلْفَاظَهُ.
وَيَنْبَغِي أَنْ يُمَيِّزَ فِي خَطِّهِ بَيْنَ السَّبْعَةِ وَالتِّسْعَةِ، وَإِنْ كَانَ فِيهِ مِائَةُ دِرْهَمٍ كَتَبَ بَعْدَهَا وَاحِدَةً، وَيَنْبَغِي أَنْ يَذْكُرَ نِصْفَهَا فَإِنْ كَانَتْ أَلْفًا كَتَبَ وَاحِدَةً وَذَكَرَ نِصْفَهَا رَفْعًا لِلَّبْسِ، وَإِنْ كَانَتْ خَمْسَةَ آلَافٍ زَادَ فِيهَا لَامًا فَصَيَّرَهَا آلَافًا لِئَلَّا تُصَلَّحَ الْخَمْسَةُ فَتَصِيرُ خَمْسِينَ أَلْفًا، وَيَحْتَرِزُ بِذِكْرِ التَّصْنِيفِ مِمَّا تُمْكِنُ الزِّيَادَةُ فِيهِ كَالْخَمْسَةَ عَشَرَ تَصِيرُ خَمْسَةً وَعِشْرِينَ، وَالسَّبْعِينَ تِسْعِينَ، فَإِنْ لَمْ يَذْكُرْ الْكَاتِبُ النِّصْفَ مِنْ الْمَبْلَغِ، فَيَنْبَغِي لِلشُّهُودِ أَنْ يَذْكُرُوا الْمَبْلَغَ فِي شَهَادَتِهِمْ لِئَلَّا يَدْخُلَ عَلَيْهِمْ الشَّكُّ لَوْ طَرَأَ فِي الْكِتَابِ تَغْيِيرٌ وَتَبْدِيلٌ، وَإِنْ وَقَعَ فِي الْكِتَابِ إصْلَاحٌ أَوْ إلْحَاقٌ نَبَّهَ عَلَيْهِ وَعَلَى مَحَلِّهِ فِي الْكِتَابِ، وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يُكْمِلَ أَسْطُرَ الْمَكْتُوبِ جَمِيعِهَا لِئَلَّا يُلْحَقَ فِي آخِرِ السَّطْرِ مَا يُفْسِدُ بَعْضَ أَحْكَامِ الْمَكْتُوبِ أَوْ يُفْسِدُهُ كُلُّهُ.
فَلَوْ كَانَ آخِرُ سَطْرٍ مَثَلًا وَجَعَلَ النَّظَرَ فِي الْوَقْفِ الْمَذْكُورِ، وَفِي أَوَّلِ السَّطْرِ الَّذِي يَلِيهِ لِزَيْدٍ، وَكَانَ فِي آخِرِ السَّطْرِ فُرْجَةٌ أَمْكَنَ أَنْ يَلْحَقَ فِيهَا لِنَفْسِهِ ثُمَّ لِزَيْدٍ، فَيَبْطُلُ الْوَقْفُ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ، فَإِنْ اُتُّفِقَ أَنَّهُ بَقِيَ فِي آخِرِ السَّطْرِ فُرْجَةٌ لَا تَسَعُ الْكَلِمَةَ الَّتِي يُرِيدُ كِتَابَتَهَا لِطُولِهَا وَكَثْرَةِ حُرُوفِهَا، فَإِنَّهُ يَسُدُّ تِلْكَ الْفُرْجَةَ بِتَكْرَارِ تِلْكَ الْكَلِمَةِ الَّتِي وَقَفَ عَلَيْهَا أَوْ كَتَبَ فِيهَا صَحَّ، أَوْ صَادًا مَمْدُودَةً، أَوْ دَائِرَةً مَفْتُوحَةً وَنَحْوَ ذَلِكَ مِمَّا يُشْغِلُ بِهِ تِلْكَ الْفُرْجَةَ، وَلَا يُمْكِنُ إصْلَاحُهَا بِمَا يُخَالِفُ الْمَكْتُوبَ. وَإِنْ تَرَكَ فُرْجَةً فِي السَّطْرِ الْأَخِيرِ كَتَبَ فِيهَا حَسْبِي اللَّهُ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ، مُسْتَحْضِرًا لِذِكْرِ اللَّهِ نَاوِيًا لَهُ، أَوْ يَأْمُرُ أَوَّلَ شَاهِدٍ يَضَعُ خَطَّهُ فِي الْمَكْتُوبِ، أَنْ يَكْتُبَ فِي تِلْكَ الْفُرْجَةِ، وَإِنْ كَتَبَ فِي وَرَقَةٍ ذَاتِ أَوْصَالٍ كَتَبَ عَلَامَتَهُ عَلَى كُلِّ وَصْلٍ، وَكَتَبَ عَدَدَ الْأَوْصَالِ فِي آخِرِ الْمَكْتُوبِ، وَبَعْضُهُمْ يَكْتُبُ عَدَدَ أَسْطُرِ الْمَكْتُوبِ، وَإِنْ كَانَ لِلْمَكْتُوبِ نُسَخٌ ذَكَرَهَا وَذَكَرَ عِدَّتَهَا وَأَنَّهَا مُتَّفِقَةٌ، وَهَذَا نَبَّهَ عَلَيْهِ ابْنُ سَهْلٍ وَابْنُ الْهِنْدِيِّ وَغَيْرُهُمَا.

.فَصْلٌ حَضَرَ عِنْدَ الْمُوَثِّقِ رَجُلٌ وَامْرَأَةٌ وَادَّعَيَا أَنَّهُمَا زَوْجَانِ:

وَإِذَا حَضَرَ عِنْدَ الْمُوَثِّقِ رَجُلٌ وَامْرَأَةٌ وَادَّعَيَا أَنَّهُمَا زَوْجَانِ بِعَقْدٍ صَحِيحٍ، وَأَنَّ الْمَكْتُوبَ الَّذِي بَيْنَهُمَا عُدِمَ وَيَقْصِدَانِ تَجْدِيدَ كِتَابِ الصَّدَاقِ، فَإِنْ كَانَا غَرِيبِينَ طَارِئَيْنِ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُمَا، وَإِنْ رَأَى رِيبَةً تَرَكَهُمَا، وَإِنْ كَانَ قُدُومُهُمَا مَعَ رِفْقَةٍ يَعْلَمُونَ أَنَّهُمَا زَوْجَانِ فَلْيَكْشِفْ أَمَرَهُمَا مِنْ الرِّفْقَةِ، وَيَنْبَغِي أَنْ يَسْأَلَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الزَّوْجَيْنِ بِانْفِرَادٍ وَيَمْتَحِنَهُمَا فِي الْمَسْأَلَةِ بِمَا يُزِيلُ عَنْهُ الرِّيبَةُ، فَإِنْ زَالَتْ الرِّيبَةُ وَإِلَّا دَفَعَهُمَا عَنْهُ، وَإِنْ كَانَا بَلَدَيْنِ فَلَا يَكْتُبُ لَهُمَا حَتَّى يَصِحَّ عِنْدَهُ أَنَّهُمَا زَوْجَانِ.

.فَصْلٌ حَضَرَ رَجُلٌ وَزَوْجَتُهُ وَطَلَبَ أَنْ يَكْتُبَ أَنَّهَا أَبْرَأَتْهُ مِنْ الصَّدَاقِ:

وَإِنْ حَضَرَ رَجُلٌ وَزَوْجَتُهُ وَطَلَبَ الزَّوْجُ أَنْ يَكْتُبَ لَهُ عَلَى زَوْجَتِهِ أَنَّهَا أَبْرَأَتْهُ مِنْ الصَّدَاقِ، أَوْ مِنْ النَّفَقَةِ وَالْكِسْوَةِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ، فَلَا يَكْتُبْ لَهُمَا حَتَّى يَصِحَّ عِنْدَهُ أَنَّهَا غَيْرُ مَحْجُورٍ عَلَيْهَا بِأَبٍ أَوْ وَصِيٍّ أَوْ حَاكِمٍ، وَإِنْ كَانَا غَرِيبَيْنِ لَمْ يَكْتُبْ لَهُمَا.

.فَصْلٌ حَضَرَتْ امْرَأَةٌ وَأَرَادَتْ أَنْ يَكْتُبَ لَهَا هِبَةَ شَيْءٍ مِنْ مَالِهَا:

وَإِذَا حَضَرَتْ امْرَأَةٌ وَأَرَادَتْ أَنْ يَكْتُبَ لَهَا هِبَةَ شَيْءٍ مِنْ مَالِهَا، فَإِنْ كَانَ أَزْيَدَ مِنْ الثُّلُثِ وَلَهَا زَوْجٌ لَمْ يَكْتُبْ لَهَا ذَلِكَ لِحَقِّ الزَّوْجِ فِي ذَلِكَ، وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ حَالَهَا سَأَلَ عَنْ حَالِهَا وَهَلْ لَهَا زَوْجٌ أَمْ لَا.

.فَصْلٌ عَقْدُ الِاسْتِحْلَالِ:

وَإِذَا كَتَبَ عَقْدَ اسْتِحْلَالٍ فَإِنْ كَانَ عَاقِدُ النِّكَاحِ مَالِكِيَّ الْمَذْهَبِ فَلَا يَكْتُبْ ذَلِكَ إلَّا بِإِذْنِهِ، وَلَهُ أَنْ يَكْتُبَهُ إنْ كَانَ الْعَاقِدُ حَنَفِيًّا أَوْ شَافِعِيًّا.

.فَصْلٌ حَضَرَ رَجُلٌ مَعَ امْرَأَةٍ وَذَكَرَ أَنَّهَا زَوْجَتُهُ وَأَنَّهُ يَقْصِدُ طَلَاقَهَا:

وَإِذَا حَضَرَ رَجُلٌ بِمُفْرَدِهِ أَوْ مَعَ امْرَأَةٍ وَذَكَرَ أَنَّهَا زَوْجَتُهُ، وَأَنَّهُ يَقْصِدُ طَلَاقَهَا وَلَيْسَ مَعَهَا كِتَابُ نِكَاحٍ يَدُلُّ عَلَى الزَّوْجِيَّةِ، وَأَرَادَ كِتَابَةَ الطَّلَاقِ فِي وَرَقَةٍ مُجَرَّدَةٍ فَلْيَتَحَرَّزْ، فَإِنَّ بَعْضَ النَّاسِ يَجْعَلُ ذَلِكَ صُورَةً وَلَيْسَتْ زَوْجَةً لَهُ، بَلْ يُرِيدُ بِكِتَابَةِ الطَّلَاقِ حَتَّى يُحْضِرَ عِنْدَ شُهُودٍ وَيُرَاجِعَهَا، وَتَكُونَ وَرَقَةُ الطَّلَاقِ تَدْرَأُ عَنْهُ التُّهْمَةَ، فَيَنْبَغِي التَّحَرُّزُ فِي ذَلِكَ.

.فَصْلٌ مَا يَنْبَغِي لِلْمُوَثِّقِ الِاحْتِرَازُ مِنْهُ:

وَقَدْ تَقَدَّمَ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالشَّاهِدِ أَنَّهُ لَا يَشْهَدُ عَلَى مَنْ لَا يَعْرِفُ إلَّا بَعْدَ مَعْرِفَةِ اسْمِهِ وَعَيْنِهِ وَنَسَبِهِ، فَكَذَلِكَ يَنْبَغِي لِلْمُوَثِّقِ الِاحْتِرَازُ مِنْهُ، فَقَدْ يَحْضُرُ إلَى الْمُوَثِّقِ رَجُلٌ يَدَّعِي أَنَّ اسْمَهُ كَذَا، وَيَسْأَلُهُ أَنْ يَكْتُبَ عَلَيْهِ مَسْطُورًا بِأَلْفِ دِرْهَمٍ لِفُلَانٍ، فَلَعَلَّ ذَلِكَ قَدْ تَسَمَّى بِاسْمِ غَيْرِهِ، ثُمَّ بَعْدَ مُضِيِّ زَمَانٍ يُخْرِجُ الْمَكْتُوبَ وَيَدَّعِي بِهِ عَلَى صَاحِبِ الِاسْمِ، وَلَعَلَّ الْمُكَاتَبَ قَدْ نَسِيَهُ أَوْ مَاتَ وَمَاتَتْ الشُّهُودُ، وَثَبَتَ ذَلِكَ بِالْخَطِّ، فَيُحْكَمُ عَلَى ذَلِكَ الْمُدَّعِي بِاسْمِهِ وَهُوَ بَرِيءٌ، فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَكْتُبَ إلَّا لِمَنْ عَرَفَ اسْمَهُ وَعَيْنَهُ مَعْرِفَةً تَامَّةً. وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ فِي كُلِّ كِتَابٍ مِنْ مُبَايَعَةٍ أَوْ وَقْفٍ أَوْ تَمْلِيكٍ أَوْ عِتْقٍ أَوْ صَدَاقٍ أَوْ طَلَاقٍ، لَا يُكْتَفَى بِمُجَرَّدِ قَوْلِ الشَّخْصِ أَنَا فُلَانٌ وَلَا بِالْحِلْيَةِ عَلَى الْمَشْهُورِ كَمَا تَقَدَّمَ، فَإِنَّ الْحِلْيَةَ تَتَغَيَّرُ وَالنَّاسُ يَتَشَابَهُونَ، فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْكَاتِبُ ذَكِيًّا فَطِنًا عَارِفًا، لِئَلَّا يَدْخُلَ الضَّرَرُ عَلَى النَّاسِ بِجَهْلِهِ بِالصِّنَاعَةِ.

.فَصْلٌ: يَنْبَغِي أَنْ لَا يَكْتُبَ لِأَحَدٍ مُبَايَعَةً إلَّا بَعْدَ أَنْ يُحْضِرَ كُتُبَهَا:

وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ لَا يَكْتُبَ لِأَحَدٍ مُبَايَعَةً إلَّا بَعْدَ أَنْ يُحْضِرَ كُتُبَهَا، فَإِنْ شَهِدَتْ بِصِحَّةِ مَا يَطْلُبُ كِتَابَتَهُ بِانْتِقَالِهَا إلَيْهِ بِشِرَاءٍ أَوْ مِيرَاثٍ أَوْ صَدَقَةٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ كَتَبَ، وَكَذَلِكَ كُتُبُ الْإِجَارَةِ، وَمَتَى لَمْ يُحْضِرْ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ فَلَا يَكْتُبْ لَهُ، إلَّا أَنْ يَكُونَ رَجُلًا مَعْرُوفًا مَشْهُورًا بِالصِّدْقِ وَالْأَمَانَةِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعْرُوفًا، وَادَّعَى أَنَّ الْمَبِيعَ مِلْكُهُ، وَإِنَّ كُتُبَهُ ضَاعَتْ فَلْيَحْتَرِزْ فَإِنَّ ذَلِكَ مَوْضِعُ تُهْمَةٍ، فَقَدْ يَبِيعُ الْإِنْسَانُ مِلْكَ غَيْرِهِ وَيَشْهَدُ عَلَيْهِ بِذَلِكَ وَيَتَسَمَّى بِاسْمِ صَاحِبِ الْمِلْكِ وَيُؤَخِّرُ الْمُشْتَرِيَ بِالْقِيَامِ بِالشِّرَاءِ، حَتَّى يَطُولَ الزَّمَانُ قَلِيلًا، أَوْ يَمُوتَ صَاحِبُ الْمِلْكِ، فَيَدَّعِي عَلَى وَرَثَتِهِ، وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنْ وُجُوهِ الضَّرَرِ.
فَيَنْبَغِي إذَا ادَّعَى ضَيَاعَ الْكُتُبِ أَنْ يُحْضِرَ جَمَاعَةً يَشْهَدُونَ لَهُ بِالْمِلْكِ وَلَوْ عَمِلَ بِذَلِكَ مَحْضَرًا وَشَهِدَ بِهِ عِنْدَ الْحَاكِمِ، وَأَثْبَتَ عَلَى الْحَاكِمِ كَانَ أَجْوَدَ، وَلَوْ فُتِحَ هَذَا الْبَابُ بِيعَتْ أَمْلَاكُ النَّاسِ بِغَيْرِ مُسْتَنَدٍ.

.فَصْلٌ كَاتِبُ الْوَثَائِقِ إذَا كَتَبَ الْمُبَايَعَةَ:

وَإِذَا كَتَبَ الْمُبَايَعَةَ فَلْيُحَدِّدْ الْمَكَانَ، وَلْيَذْكُرْ الْجُدْرَانَ الْمُخْتَصَّةَ بِهِ وَالْمُشْتَرَكَةَ، وَطُرُقَهُ وَمَدْخَلَهُ وَيَذْكُرْ مَحَلَّهُ مِنْ الْبَلَدِ، وَيَنْبَغِي لِلْكَاتِبِ إذَا سَافَرَ إلَى جِهَةٍ لَا يَعْرِفُ اصْطِلَاحَ أَهْلِهَا أَنْ لَا يَتَصَدَّى لِلْكِتَابَةِ بَيْنَ أَهْلِهَا إلَّا بَعْدَ أَنْ يَعْرِفَ سُنَّتَهُمْ وَمَذْهَبَهُمْ وَنَقُودَهُمْ وَمِكْيَالَهُمْ، وَأَسْمَاءَ الْأَصْقَاعِ وَالطُّرُقِ وَالشَّوَارِعِ، فَبِمَعْرِفَةِ ذَلِكَ يَتِمُّ لَهُ الْأَمْرُ، وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يُقَدِّمَ اسْمَ الْمُشْتَرِي عَلَى الْبَائِعِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ} [التوبة: 111].

.فَصْلٌ فِي أُجْرَةِ الْكَاتِبِ:

وَفِي التَّنْبِيهِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي جَوَازِ أَخْذِ الْأُجْرَةِ عَلَى كَتْبِ الْوَثَائِقِ، فَأَجَازَ ذَلِكَ قَوْمٌ وَمَنَعَهُ آخَرُونَ، وَيَدُلُّ عَلَى الْجَوَازِ قَوْله تَعَالَى: {وَلا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ} [البقرة: 282]؛ وَلِأَنَّ مَنْ اُسْتُبِيحَ عَمَلُهُ وَكَذَا خَاطِرُهُ، كُلَّمَا احْتَاجَ إلَى ذَلِكَ إنْسَانٌ فَإِنَّ ذَلِكَ يَضُرُّ بِهِ وَيَسْتَغْرِقُ مُدَّةَ حَيَاتِهِ مِنْ غَيْرِ عِوَضٍ عَنْ ذَلِكَ، وَهَذَا غَايَةُ الضَّرَرِ، وَإِذَا ثَبَتَ جَوَازُ الْأَخْذِ عَلَى الْكِتَابَةِ فَالْأَوْلَى لِمَنْ قَدَرَ وَاسْتَغْنَى التَّنَزُّهُ عَنْ ذَلِكَ، وَاحْتِسَابُ عَمَلِهِ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى وَإِذَا لَمْ يَكُنْ بُدٌّ مِنْ أَخْذِ الْأُجْرَةِ، فَنَقُولُ: وَجْهُ الْإِجَارَةِ أَنْ تُسَمَّى الْأُجْرَةُ وَيُعَيَّنُ الْعَمَلُ، فَإِنْ وَافَقَ الْكَاتِبُ الْمَكْتُوبَ لَهُ عَلَى ذَلِكَ، وَجَاءَ الْكِتَابُ عَلَى مَا اتَّفَقَ مَعَهُ عَلَيْهِ فَهِيَ إجَارَةٌ صَحِيحَةٌ.
وَتَجُوزُ بِمَا اتَّفَقَا عَلَيْهِ مِنْ قَلِيلٍ أَوْ كَثِيرٍ، مَا لَمْ يَكُنْ الْمَكْتُوبُ لَهُ مُضْطَرًّا إلَى الْكَاتِبِ، إمَّا لِكَوْنِ ذَلِكَ مَقْصُورًا عَلَيْهِ؛ وَإِمَّا لِأَنَّهُ لَا يُوجَدُ فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ غَيْرُهُ مِمَّنْ يَقُومُ بِذَلِكَ، فَالْأَوْلَى حِينَئِذٍ الْمُسَامَحَةُ، وَلَا يَرْفَعُ عَلَى النَّاسِ فَوْقَ مَا يَسْتَحِقُّ لِمَا عَلِمَ مِنْ ضَرُورَتِهِمْ إلَيْهِ، فَإِنْ فَعَلَ فَهِيَ جُرْحَةٌ فِي حَقِّهِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ تَعَيَّنَ عَلَيْهِ الْقِيَامُ بِذَلِكَ مِنْ غَيْرِ إضْرَارٍ، أَمَّا إنْ لَمْ يُوَافِقْ الْكَاتِبُ الْمَكْتُوبَ لَهُ عَلَى شَيْءٍ فَهَاهُنَا نَظَرٌ، وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ غَالِبُ كِتَابَاتِ النَّاسِ الْيَوْمَ، لِأَنَّ الْمُوَثِّقِينَ يَتَعَفَّفُونَ عَنْ ذِكْرِ ذَلِكَ مِنْ بَابِ الْحَيَاءِ وَالْمُرُوءَةِ، وَلِئَلَّا يَتَنَزَّلُوا مَنْزِلَةَ أَهْلِ الْحِرَفِ وَالصَّنَائِعِ فِي الْمُكَايَسَةِ وَالْمُشَاحَّةِ، وَهَذَا غَرَضٌ حَسَنٌ وَمَذْهَبٌ جَمِيلٌ، إنْ كَانَ فَاعِلُ ذَلِكَ يَقْنَعُ بِمَا أُعْطِيَ عَلَى عَمَلِهِ بَعْدَ إكْمَالِهِ، وَلَمْ يَصْدُرْ مِنْهُ مِنْ الْمُشَاحَّةِ حِينَئِذٍ مَا هُوَ أَقْبَحُ حَالًا مِمَّا لَوْ ابْتَدَأَ الْمُشَارَطَةَ، وَهَذَا النَّوْعُ لَا يُسَمَّى إجَارَةً حَقِيقِيَّةً؛ لِأَنَّ مَا يُعَاوَضُ بِهِ مَجْهُولٌ عِنْدَ الْكَاتِبِ؛ لِأَنَّ عَطَاءَ النَّاسِ مُخْتَلِفٌ بِحَسَبِ أَقْدَارِهِمْ وَمَبْلَغِ مُرُوآتِهِمْ.
وَلَيْسَ ذَلِكَ مِنْ الْكَاتِبِ عَلَى سَبِيلِ الْهِبَةِ الْمُطْلَقَةِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُرِدْ إلَّا الْمُعَاوَضَةَ عَلَى عَمَلِهِ، وَأَنْ يُثَابَ عَلَى ذَلِكَ فَعَمَلُهُ مَحْمُولٌ عَلَى طَلَبِ الثَّوَابِ مِنْ الْمَكْتُوبِ لَهُ بِحَسَبِ مَا أَدَّتْهُ مُرُوءَتُهُ إلَيْهِ عَلَى طَرِيقِ الْمُكَارَمَةِ لَا عَلَى طَرِيقِ الْمُكَايَسَةِ وَالْمُشَاحَّةِ، وَذَلِكَ أَصْلُ هِبَةِ الثَّوَابِ فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَإِنْ أَعْطَاهُ الْمَكْتُوبُ لَهُ أُجْرَةَ الْمِثْلِ أَوْ أَكْثَرَ لَزِمَهُ قَبُولُ ذَلِكَ. وَإِنْ أَعْطَاهُ أَقَلَّ فَالْكَاتِبُ مُخَيَّرٌ بَيْنَ الْقَبُولِ أَوْ اسْتِرْجَاعِ مَا عَمِلَهُ، كَمَا يَكُونُ ذَلِكَ فِي هِبَةِ الثَّوَابِ، إلَّا أَنْ يَكُونَ قَدْ تَعَلَّقَ بِذَلِكَ حَقٌّ لِلْمَكْتُوبِ لَهُ لَا يُمْكِنُ مَعَهُ اسْتِرْجَاعُ الْكِتَابِ؛ لِكَوْنِهِ تَضَمَّنَ شَهَادَةَ الشُّهُودِ أَوْ ثَبَتَ فِيهِ حَقٌّ فَيَكُونُ ذَلِكَ فَوْتًا، وَيُجْبَرُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى أُجْرَةِ الْمِثْلِ كَمَا يُفْعَلُ فِي هِبَةِ الثَّوَابِ.
قَالَ ابْنُ الْمُنَاصِفِ: وَعَلَى مِثْلِ هَذَا يَجْرِي الْأَمْرُ عِنْدِي فِي كُلِّ مَنْ تَبَرَّعَ مِنْ الْأُجَرَاءِ وَالصُّنَّاعِ بِعَمَلِهِ مِنْ غَيْرِ مُوَافَقَةٍ عَلَيْهِ بِأُجْرَةٍ مَعْلُومَةٍ، فَيُحْمَلُ مَحْمَلَ هِبَةِ الثَّوَابِ، وَإِلَّا بَطَلَ وَفَسَدَ. انْتَهَى. وَمَا قَالَهُ ابْنُ الْمُنَاصِفِ مِنْ اسْتِرْجَاعِ الْكِتَابِ لَيْسَ عَلَى إطْلَاقِهِ، فَإِنَّهُ إذَا كَانَ الْكَاتِبُ وَاحِدًا قَدْ قَصُرَتْ الْكِتَابَةُ عَلَيْهِ فَالْمَكْتُوبُ لَهُ لَا يَجِدُ مِنْ الْكَاتِبِ عِوَضًا، فَيَنْبَغِي أَنْ يَجْرِيَ الْأَمْرُ بَيْنَهُمَا عَلَى مَا حَكَاهُ فِي فَوْتِ الْكِتَابِ بِثُبُوتِ حَقٍّ فِيهِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

.فَصْلٌ فِي النُّعُوت:

وَإِذَا احْتَاجَ الْكَاتِبُ إلَى ذِكْرِ نُعُوتِ الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ أَوْ لَهُ، فَيَنْبَغِي أَنْ يَذْكُرَ مِنْ صِفَاتِهِ أَشْهَرَهَا كَالصَّمَمِ وَالْعَمَى وَالْعَرَجِ، وَالْبَيَاضِ أَعْنِي الْبَرَصَ، وَآثَارَ الْجُدَرِيِّ وَالنَّمَشِ، فَتَقُولُ فِي وَجْهِهِ آثَارُ جُدَرِيٍّ أَوْ نَمَشٍ، وَإِنْ كَانَ فِيهِ خَالٌّ ذَكَرَهُ وَذَكَرَ مَوْضِعَهُ، وَيَذْكُرُ قَطْعَ الْأَنَامِلِ أَوْ عُضْوًا مِمَّا هُوَ مَشْهُورٌ ظَاهِرٌ فِي الْوَجْهِ أَوْ الْجَسَدِ، وَيَذْكُرُ مَعَ ذَلِكَ اسْمَهُ وَنَسَبَهُ وَصِنَاعَتَهُ وَقَبِيلَتَهُ وَتَحَلِّيهِ حِلْيَةً جَيِّدَةً لَا تُخِلُّ بِالْمَقْصُودِ مِنْهَا، فَإِذَا كَانَ الْمَنْعُوتُ غَلِيظَ الشَّفَتَيْنِ فَهُوَ أَفْوَهُ وَالْمَرْأَةُ فَوْهَاءُ، وَإِنْ كَانَ الْفَمُ غَائِرًا فَهُوَ أَفْقَمُ وَالْمَرْأَةُ فَقْمَاءُ، وَإِنْ كَانَ الْأَنْفُ طَوِيلًا مَعَ نُتُوءٍ فِي وَسَطِهِ فَهُوَ أَقْنَى وَالْمَرْأَةُ قَنْوَاءُ، وَإِنْ كَانَ طَرْفُهُ عَرِيضًا فَهُوَ أَفْطَسُ وَالْمَرْأَةُ فَطْسَاءُ.
وَإِنْ كَانَ قَائِمًا مُنْتَصِبًا مُعْتَدِلًا فَهُوَ أَشَمُّ وَالْمَرْأَةُ شَمَّاءُ، وَإِنْ كَانَ قَصِيرًا بَيْنَ الشَّمَمِ وَالْفَطْسِ فَهُوَ أَخْنَسُ وَالْمَرْأَةُ خَنْسَاءُ، وَيُقَالُ فِي قَصِيرَةِ الْأَنْفِ خَلْفَاءُ، وَإِذَا كَانَ الْخَدُّ مُسْتَطِيلًا فَهُوَ أَسِيلٌ وَالْمَرْأَةُ أَسِيلَةُ الْخَدِّ، وَإِذَا كَانَ الْعُنُقُ طَوِيلًا فَهُوَ أَغْيَدُ وَالْمَرْأَةُ غَيْدَاءُ، وَإِذَا كَانَ الْعُنُقُ قَصِيرًا فَهُوَ أَوْقَصُ وَالْمَرْأَةُ وَقْصَاءُ، وَإِذَا كَانَ فِي الْعَيْنَيْنِ غَوْرٌ فَهُوَ غَائِرُ الْعَيْنَيْنِ وَالْمَرْأَةُ غَائِرَةُ الْعَيْنَيْنِ، وَإِذَا بَرَزَتَا فَهُوَ جَاحِظُ الْعَيْنَيْنِ وَهِيَ جَاحِظَةُ الْعَيْنَيْنِ، وَإِذَا كَانَ مَوْضِعُ الْكُحْلِ أَسْوَدَ قُلْت: كَحْلَاءُ وَالرَّجُلُ أَكْحَلُ الْعَيْنَيْنِ، وَإِذَا كَانَتْ خُضْرَةُ عَيْنَيْهِ غَيْرَ مُسْتَحْكِمَةٍ فَهُوَ أَشْهَلُ وَالْمَرْأَةُ شَهْلَاءُ، وَإِنْ كَانَتْ مُسْتَحْكِمَةً فَهِيَ زَرْقَاءُ، وَإِذَا كَانَتْ أَشْفَارُ الْعَيْنِ كَأَنَّهَا مُنْضَمَّةٌ فَهِيَ دَعْجَاءُ، وَإِذَا كَانَتْ فِي الْمُقْلَةِ إشَارَةً إلَى الِانْتِقَالِ فَهِيَ حَوْرَاءُ، وَإِنْ دَخَلَ بَعْضُ الْمُقْلَةِ فِي الْمَاقِ مِمَّا يَلِي الْأَنْفَ فَالْعَيْنُ حَوْلَاءُ، وَإِذَا كَانَ بَيَاضُ الْعَيْنِ أَكْثَرَ مِنْ السَّوَادِ فَهِيَ بَرْحَاءُ وَتُسَمَّى حَوْرَاءُ أَيْضًا. وَالنَّجْلَاءُ الْعَيْنِ الْوَاسِعَةُ، وَالدَّعْجَاءُ الَّتِي سَوَادُ عَيْنِهَا أَكْثَرُ مِنْ بَيَاضِهَا.
وَالْوَطْفَاءُ الْمُغْمِضَةُ الْعَيْنَيْنِ، وَالسَّحْرَاءُ الْمُحْمَرَّةُ سَوَادِ الْحَدَقَتَيْنِ، وَالدَّوْسَاءُ الضَّيِّقَةُ الْعَيْنَيْنِ، وَالْأَقْلَحُ وَالْقَلْحَاءُ مَنْ كَانَ فِي أَسْنَانِهِ صُفْرَةٌ، وَتَقُولُ وَاسِعُ الْجَبْهَةِ أَوْ أَصْلَبُ الْجَبْهَةِ إذَا كَانَتْ مُنْبَسِطَةً بِهَا غُضُونٌ، وَتَقُولُ فِي شَعْرِ الرَّأْسِ أَغَمُّ إذَا نَبَتَ عَلَى الْجَبْهَةِ، وَأَنْزَعُ إذَا كَانَتْ لَهُ نَزْعَتَانِ فِي جَانِبَيْ رَأْسِهِ مِنْ مُقَدَّمِهِ، وَأَصْلَعُ إذَا انْحَسَرَ شَعْرُ مُقَدَّمِ رَأْسِهِ، وَأَقْرَعُ إذَا لَمْ يَكُنْ فِي رَأْسِهِ شَعْرٌ وَالْمَرْأَةُ قَرْعَاءُ. وَتَقُولُ فِي الْحَاجِبَيْنِ مَقْرُونٌ إذَا الْتَقَيَا، وَأَبْلَجُ إذَا انْفَصَلَا.
وَتَقُولُ فِي الْأَسْنَانِ أَفَصْمُ لِلْمَكْسُورَةِ نِصْفُهَا عَرْضًا، وَأَثْرَمُ إذَا سَقَطَتْ السِّنُّ كُلُّهَا، وَإِنْ كَانَ بَيْنَ الْأَسْنَانِ فُرْجَةٌ قُلْت مُفَلَّجُ الْأَسْنَانِ، وَإِنْ كَانَ فِيهَا رِقَّةٌ وَتَحَدُّدٌ قُلْت أَشْنَبُ الْأَسْنَانِ، وَالْأُنْثَى شَنْبَاءُ، وَإِلَيْهِ أَشَارَ ذُو الرِّمَّةِ بِقَوْلِهِ:
وَفِي أَنْيَابِهَا شَنَبٌ

وَإِنْ كَانَتْ الْأَسْنَانُ بَارِزَةً قُلْت بَارِزُ الْأَسْنَانِ، وَإِنْ كَانَتْ أَسْنَانُهُ الْعُلْيَا قَدْ دَخَلَتْ وَالسُّفْلَى قَدْ بَرَزَتْ قُلْت أَفْقَمُ الْأَسْنَانِ، وَالْأُنْثَى فَقْمَاءُ الْأَسْنَانِ، وَإِذَا كَانَ الشَّعْرُ غَيْرَ مُتَجَعِّدٍ وَلَا مُتَكَسِّرٍ فَهُوَ سَبْطُ الشَّعْرِ، وَالْأُنْثَى سَبْطَةُ الشَّعْرِ، وَإِذَا كَانَتْ فِيهِ جُعُودَةٌ قُلْت أَجَعْدُ الشَّعْرِ وَالْأُنْثَى جَعْدَةُ الشَّعْرِ، وَلَا يُقَالُ أَجْعَدُ وَلَا جَعْدَاءُ، وَإِذَا كَانَ يَشُوبُهُ شَيْءٌ مِنْ حُمْرَةٍ سَمَّى الشَّعْرَ أَصْهَبَ، وَإِذَا كَانَ فِيهِ حُمْرَةٌ إلَى صُفْرَةٍ قُلْت فِي الرَّجُلِ أَشْقَرُ وَالْأُنْثَى شَقْرَاءُ الشَّعْرِ، وَإِنْ كَانَ فِي الْوَجْنَتَيْنِ نُتُوءٌ قُلْت فِي الرَّجُلِ نَاتِئُ الْوَجْنَتَيْنِ وَفِي الْمَرْأَةِ وَجْنَاءُ، وَإِنْ كَانَ فِي الْأُذُنِ صِغَرٌ قِيلَ صَمْعَاءُ، وَإِنْ كَانَتْ مَقْطُوعَةً قِيلَ مُصَلَّمِ الْأُذُنَيْنِ وَالْأُنْثَى مُصَلَّمَةُ الْأُذُنَيْنِ، وَإِنْ كَانَ الصَّدْرُ قَدْ نَتَأَ وَبَرَزَ فَهُوَ أَزْوَرُ وَالْمَرْأَةُ زَوْرَاءُ، وَإِنْ كَانَ فِي الصَّدْرِ غَوْرٌ وَفِي الصُّلْبِ انْحِنَاءٌ قُلْت فِي الذَّكَرِ أَحْنَى وَفِي الْأُنْثَى بِهَا حَنَاءٌ أَوْ حَنْوٌ.

.فَصْلٌ الْبُدَاءَةُ بِذِكْرِ السِّنِّ لِلْمَشْهُودِ عَلَيْهِ:

فَصْلٌ: وَالْبُدَاءَةُ بِذِكْرِ السِّنِّ أَوْلَى، فَإِنْ كَانَ فِي الْمَنْعُوتِ شَيْبٌ قُلْت فِي الذَّكَرِ أَشْمَطُ وَفِي الْأُنْثَى شَمْطَاءُ وَيُقَالُ فِيهِ أَيْضًا كَهْلٌ وَيُقَالُ شَيْخٌ لِمَنْ غَلَبَهُ الْبَيَاضُ، وَإِنْ كَانَ الْمَنْعُوتُ صَغِيرًا قُلْت فِيهِ رَضِيعٌ أَوْ فَطِيمٌ أَوْ صَبِيٌّ، وَالْأُنْثَى صَبِيَّةٌ، وَإِذَا كَانَتْ الْجَارِيَةُ يَتْبَعُهَا صَغِيرٌ أَوْ صَغِيرَةٌ قُلْت مُتَّبِعًا بِصَبِيٍّ صَغِيرٍ أَوْ بِصَبِيَّةٍ صَغِيرَةٍ لَا يَأْخُذُهُمَا نَعْتٌ لِصِغَرِهِمَا.
وَإِنْ كَانَ الصَّبِيُّ قَدْرَ أَرْبَعَةِ أَشْبَارٍ قُلْت رُبَاعِيُّ الْقَدْرِ، وَإِنْ كَانَ قَدْرَ خَمْسَةِ أَشْبَارٍ قُلْت خُمَاسِيُّ الْقَدْرِ، وَإِنْ كَانَ قَدْرَ سِتَّةِ أَشْبَارٍ قُلْت سُدَاسِيُّ الْقَدْرِ، وَإِنْ كَانَ قَدْ قَارَبَ الْبُلُوغَ قُلْت مُرَاهِقٌ فِي سِنِّهِ، وَإِنْ كَانَ مُلْتَحِيًا قُلْت مُلْتَحٍ، وَإِنْ كَانَتْ لِحْيَتُهُ عَرِيضَةً طَوِيلَةً قُلْت مُسْبِلٌ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ طَوِيلَةً قُلْت كَثُّ اللِّحْيَةِ، وَإِنْ كَانَ فِي عَارِضِيهِ خِفَّةٌ قُلْت خَفِيفُ الْعَارِضَيْنِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي عَارِضِيهِ شَيْءٌ قُلْت كَوْسَجٍ، وَإِنْ لَمْ يَطْلُعْ فِي وَجْهِهِ لِحْيَةٌ أَصْلًا قُلْت فِيهِ أَطْلَسُ.

.فَصْلٌ فِي اللَّوْن:

فَصْلٌ: وَأَمَّا اللَّوْنُ: فَقَالَ فِي الْعَالِي الرُّتْبَةِ فِي أَحْكَامِ الْحِسْبَةِ أَسْمَرُ أَوْ أَبْيَضُ أَوْ أَحْمَرُ أَوْ أَسْوَدُ.
وَفِي الْوَثَائِقِ الْمَجْمُوعَةِ: وَإِنْ كَانَ أَبْيَضَ قُلْت فِيهِ أَحْمَرُ، وَلَا تَقُلْ أَبْيَضُ؛ لِأَنَّ الْبَيَاضَ هُوَ الْبَرَصُ، وَاسْتُدِلَّ عَلَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ فِي الْحَدِيثِ عَنْ أُوَيْسٍ الْقَرَنِيِّ أَنَّهُ كَانَ بِهِ بَيَاضٌ أَيْ بَرَصٌ فَدَعَا اللَّهُ فَأَذْهَبَهُ عَنْهُ إلَّا قَدْرَ الدِّرْهَمِ، قَالَ وَالْعَامَّةُ تَجْعَلُ الْأَحْمَرَ دُونَ الْأَسْوَدِ وَفَوْقَ الْأَصْفَرِ وَهُوَ وَهْمٌ، يَدُلُّ ذَلِكَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِعَائِشَةَ «يَا حُمَيْرَاءُ» وَقَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «بُعِثْت إلَى الْأَحْمَرِ وَالْأَسْوَدِ»، وَأَطَالَ فِي الِاسْتِدْلَالِ عَلَى ذَلِكَ وَفِيمَا قَالَهُ فِي الْبَيَاضِ نَظَرٌ؛ لِقَوْلِ الْعَبَّاسِ يَمْدَحُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
وَأَبْيَضُ يُسْتَسْقَى الْغَمَامُ بِوَجْهِهِ ** ثِمَالُ الْيَتَامَى عِصْمَةٌ لِلْأَرَامِلِ

وَقَالَ زُهَيْرٌ:
وَأَبْيَضُ فَيَّاضٌ

وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ فِي الْأَحْمَرِ أَبْيَضُ وَفِي الْأَبْيَضِ أَحْمَرُ، وَيُقَالُ فِي بَيَاضِ الْأَبْيَضِ مِنْ غَيْرِ بَنِي آدَمَ أَبْيَضُ نَاصِعٌ، وَفِي تَأْكِيدِ الْأَحْمَرِ أَحْمَرُ قَانٍ، وَفِي تَأْكِيدِ الْأَسْوَدِ مِنْ بَنِي آدَمَ وَمِنْ غَيْرِ بَنِي آدَمَ أَسْوَدُ حَالِكٌ وَحَلَنْكٌ بِاللَّامِ وَالنُّونِ، وَتُؤَكِّدُ صُفْرَةَ الْأَصْفَرِ بِأَنْ تَقُولَ أَصْفَرُ فَاقِعٌ.
تَنْبِيهٌ:
وَفِي الْوَثَائِقِ الْمَجْمُوعَةِ قَالَ بَعْضُهُمْ: إنَّ الصَّفْرَاءَ السَّوْدَاءَ، وَأُنْكِرَ ذَلِكَ عَلَى قَائِلِهِ، وَعُدَّتْ مِنْهُ وَهْلَةً؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ عَزَّ وَجَلَّ: {صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا} [البقرة: 69] يَدُلُّ عَلَى وَهْمِ مَنْ قَالَ ذَلِكَ، إذْ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ أَسْوَدُ فَاقِعٌ، وَإِنَّمَا يَجُوزُ ذَلِكَ فِي الْإِبِلِ، فَيَجُوزُ أَنْ يُقَالَ فِي الْأَصْفَرِ: إنَّهُ الْأَسْوَدُ مِنْ جِهَةِ أَنَّ سَوَادَهَا مَشُوبٌ بِشَيْءٍ مِنْ صُفْرَةٍ.
وَتَقُول امْرَأَةٌ خَدْلَاءُ فِي الْمَائِلَةِ الشِّقِّ، وَلَطْعَاءُ فِي مُبْيَضَّةِ الشَّفَتَيْنِ وَهُوَ مِنْ نُعُوتِ السُّودَانِ، وَلَعْسَاءُ حَمْرَاءُ الشَّفَتَيْنِ، وَالرَّجُلُ الْعَسُّ، وَاللَّمَى رِقَّتُهُمَا تَقُولُ رَجُلٌ أَلْمَى وَامْرَأَةٌ لَمْيَاءُ، وَالْمَتْكَاءُ الَّتِي لَا تَحْبِسُ بَوْلَهَا، وَالصَّهْبَاءُ الَّتِي لَا تَحِيضُ وَالْمُفْضَاةُ الَّتِي صَارَ مَسْلَكَاهَا شَيْئًا وَاحِدًا أَعْنِي مَسْلَكَ الْبَوْلِ وَمَسْلَكَ الذَّكَرِ، وَالزَّعْرَاءُ الَّتِي لَا شَعْرَ لَهَا فِي سَوْأَتِهَا.
وَالْقَرْنَاءُ الْعَظِيمَةُ السُّرَّةِ الَّتِي تَمْنَعُ بِهَا الْوَاطِئَ مِنْ إصَابَتِهَا قَالَهُ فِي الْوَثَائِقِ الْمَجْمُوعَةِ، وَنَقَلَهُ مِنْ وَثَائِقِ ابْنِ الْهِنْدِيِّ. وَالْقَرْنُ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ أَنْ يَكُونَ فِي الْمَحَلِّ عَظْمٌ شَبِيهٌ بِقَرْنِ الشَّاةِ، وَعِنْدَ أَهْلِ اللُّغَةِ هُوَ الْعَفَلَةُ الصَّغِيرَةُ قَالَهُ الْأَصْمَعِيُّ، وَاخْتَصِمْ إلَى شُرَيْحٍ فِي جَارِيَةٍ بِهَا قَرْنٌ فَقَالَ أَقْعِدُوهَا فَإِنْ أَصَابَ الْأَرْضَ فَهُوَ عَيْبٌ، وَإِنْ لَمْ يُصِبْ الْأَرْضَ فَلَيْسَ بِعَيْبٍ، مِنْ ابْنِ عَبْدِ السَّلَامِ: وَالرَّتْقَاءُ الَّتِي لَهَا لَحْمَةٌ تَمْنَعُ الْوَطْءَ مِنْهَا، قَالَ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ: هِيَ الَّتِي لَا يُسْتَطَاعُ جِمَاعُهَا لِارْتِقَاءِ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ مِنْهَا وَهُوَ مِنْ الرَّتْقِ الَّذِي هُوَ ضِدُّ الْفَتْقِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا} [الأنبياء: 30] قِيلَ وَهُوَ فِي الْمَرْأَةِ عَلَى نَوْعَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ مَحَلُّ الْجِمَاعِ مُسْتَدًّا بِلَحْمٍ وَهَذَا يُمْكِنُ عِلَاجُهُ. وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ مُسْتَدًّا بِعَظْمٍ وَلَا يُمْكِنُ عِلَاجُهُ.
وَالْعَفْلَاءُ هِيَ الَّتِي أَصَابَهَا الْعَفَلُ وَالْعَفَلَةُ بِتَحْرِيكِ الْفَاءِ فِيهِمَا وَهِيَ شَيْءٌ يَخْرُجُ مِنْ قُبُلِ النِّسَاءِ وَمِنْ حَيَا النَّاقَةِ شَبِيهٌ بِالْأُدْرَةِ الَّتِي لِلرِّجَالِ، وَيُقَالُ امْرَأَةٌ عَفْلَاءُ ذَكَرَهُ أَهْلُ اللُّغَةِ وَتَبِعَهُمْ الْفُقَهَاءُ، وَالْبَخَرُ نَتْنُ الْفَمِ. وَالْأَصَكُّ هُوَ الضَّيِّقُ الْعُرْقُوبَيْنِ وَالْفَحَجُ اتِّسَاعُ الْعُرْقُوبَيْنِ حَتَّى يَكَادَ أَنْ يَخْرُجَ ذَلِكَ عَنْ الْقَدْرِ الْمُعْتَادِ، وَالطَّوِيلُ الْقَامَةِ يُقَالُ فِيهِ شَاطُّ الْقَامَةِ وَشَاطَّةُ الْقَامَةِ، وَإِنْ شِئْت قُلْت عَشَنَّقٌ، وَإِنْ كَانَ ضِدَّ ذَلِكَ فَهُوَ قَصِيرُ الْقَامَةِ، وَإِنْ كَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قُلْت حَسَنُ الْقَدِّ، وَإِنْ كَانَ دُونَ ذَلِكَ قُلْت مَرْبُوعُ الْقَامَةِ وَرِبْعَةُ الْقَامَةِ، وَإِنْ شِئْت قُلْت فِي الْمَرْأَةِ مَرْبُوعَةُ الْقَامَةِ وَرَبْعُ الْقَامَةِ.
وَالْأَكْوَعُ مِنْ اعْوَجَّتْ يَدَاهُ مِنْ قِبَلِ الْكُوعَيْنِ إلَى خَارِجِ الْيَدَيْنِ، فَتَقُولُ فِيهِ أَكْوَعُ الْيَدَيْنِ وَالْأُنْثَى كَوْعَاءُ الْيَدَيْنِ، وَالْكُوعَانِ هُمَا أَصْلُ الْيَدَيْنِ فِي أَوَّلِ الزَّنْدَيْنِ، وَالزَّنْدَانِ عَظْمَاتُ الذِّرَاعَيْنِ، وَإِنْ كَانَ فِي أَصَابِعِ يَدَيْهِ تَقَبُّضٌ قُلْت مُقَفَّعُ الْيَدَيْنِ وَالْأُنْثَى مُقَفَّعَةُ الْيَدَيْنِ، وَإِنْ كَانَ فِي عُقْدَتَيْ إبْهَامِي قَدَمَيْهِ نُتُوءٌ فِي جَانِبِ الْقَدَمَيْنِ مِنْ دَاخِلِ الْقَدَمَيْنِ مَعَ مَيْلٍ فِي الْإِبْهَامَيْنِ إلَى الْأَصَابِعِ الَّتِي بَيْنَهُمَا قُلْت فِي الرَّجُلِ أَفْدَعُ وَفِي الْأُنْثَى فَدْعَاءُ، وَإِذَا كَانَ إبْهَامَا قَدَمَيْهِ قَدْ أَقْبَلَتْ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا عَلَى صَاحِبَتِهَا قُلْت أَحْنَفُ الرِّجْلَيْنِ وَالْأُنْثَى حَنْفَاءُ، وَإِذَا كَانَ وَسَطُ أَسْفَلِ قَدَمَيْهِ لَا يَلْصَقُ بِالْأَرْضِ أَوْ كَانَ فِي وَسَطِ حَاشِيَةِ قَدَمَيْهِ مِنْ دَاخِلِهِمَا تَقْبِيبٌ قُلْت أَخْمَصُ الْقَدَمَيْنِ وَالْأُنْثَى خَمْصَاءُ الْقَدَمَيْنِ، وَإِنْ كَانَ أَسْفَلُ الْقَدَمَيْنِ مُعْتَدِلًا لَاصِقًا بِالْأَرْضِ قُلْت أَزَجُّ الْقَدَمَيْنِ وَالْأُنْثَى زَجَّاءُ الْقَدَمَيْنِ.

.الْفَصْلُ الثَّامِنِ فِيمَا يَنْبَغِي لِلْقَاضِي أَنْ يَتَنَبَّهَ لَهُ فِي أَدَاءِ الشَّهَادَاتِ:

وَفِيمَا يَحْتَرِزُ بِهِ مِنْ الْإِشْهَادِ بِهِ عَلَى نَفْسِهِ فِي التَّسْجِيلَاتِ وَغَيْرِهَا وَأَدَاءِ الشَّهَادَةِ عَلَى نَوْعَيْنِ: الْأَوَّلِ عِبَارَةٌ بِاللِّسَانِ يُصَرِّحُ بِهَا الشَّاهِدُ عِنْدَ الْحَاكِمِ، فَيَتَلَقَّى الْحَاكِمُ مِنْهُ الشَّهَادَةَ بِحَسَبِ لَفْظِهِ.
الثَّانِي: رَفْعُ شَهَادَاتٍ قَدْ ارْتَسَمَتْ فِي كِتَابٍ وَالشَّاهِدُ مَيِّتٌ أَوْ غَائِبٌ، وَفِي كِلَا النَّوْعَيْنِ أُمُورٌ يَنْبَغِي التَّنْبِيهُ لَهَا. وَأَمَّا النَّوْعُ الْأَوَّلُ: فَنَذْكُرُ مِنْهُ مَسَائِلَ مُتَنَوِّعَةً مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ. وَأَمَّا النَّوْعُ الثَّانِي: فَأَحْكَامُهُ مَذْكُورَةٌ فِي الْبَابِ الرَّابِعِ وَالثَّلَاثِينَ فِي الْقَضَاءِ بِالشَّهَادَةِ عَلَى الْخَطِّ.

.فَصْلٌ الْقَاضِي إذَا شَهِدَ الشَّاهِدُ عِنْدَهُ وَلَمْ يَكُنْ الْقَاضِي يَعْرِفُهُ:

فَصْلٌ: وَيَنْبَغِي لِلْقَاضِي إذَا شَهِدَ الشَّاهِدُ عِنْدَهُ وَلَمْ يَكُنْ الْقَاضِي يَعْرِفُهُ أَنْ يَكْتُبَ اسْمَهُ وَنَسَبَهُ وَمَسْكَنَهُ، وَالْمَسْجِدَ الَّذِي يُصَلِّي فِيهِ، وَيَكْتُبَ حِلْيَتَهُ وَصِفَتَهُ قَالَهُ ابْنُ حَبِيبٍ، قَالَ ابْنُ الْمَوَّازِ عَنْ سَحْنُونٍ، وَإِنْ عُرِفَ بِالْكُنْيَةِ كَتَبَ كُنْيَتَهُ، وَكُلَّ مَا يُعْرَفُ بِهِ مِنْ صَنْعَةٍ وَغَيْرِهَا، وَهَلْ يَسْكُنَ مِلْكِ نَفْسِهِ أَوْ مِلْكِ غَيْرِهِ، قَالُوا لِئَلَّا يُسَمَّى غَيْرُ الْعَدْلِ بِغَيْرِ اسْمِهِ، وَيُنْسَبَ إلَى غَيْرِ نَسَبِهِ لِيُزَكِّيَ عَلَيْهِ، قَالُوا وَيَكْتُبُ الشَّهْرَ الَّذِي شَهِدَ فِيهِ وَالسَّنَةَ، وَيَجْعَلُ صَحِيفَةَ الشَّهَادَةِ فِي دِيوَانِهِ لِئَلَّا تَسْقُطَ لِلْمَشْهُودِ لَهُ شَهَادَتُهُ فَيَزِيدُ فِيهَا الشَّاهِدُ أَوْ يَنْقُصُ.

.فَصْلٌ فِي الشَّهَادَةِ فِي الْمُعَامَلَاتِ:

وَفِي مَعِينِ الْحُكَّامِ قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ حَارِثٍ إذَا لَمْ يُبَيِّنْ الشُّهُودُ وَجْهَ الْحَقِّ الَّذِي شَهِدُوا فِيهِ وَلَا فَسَّرُوهُ فَلَيْسَ ذَلِكَ بِشَيْءٍ حَتَّى يُبَيِّنُوا أَصْلَ الشَّهَادَةِ وَكَيْفَ كَانَتْ وَيَقُولُونَ أَسْلَفَهُ بِمَحْضَرِنَا أَوْ أَقَرَّ عِنْدَنَا الْمَطْلُوبُ أَنَّهُ أَسْلَفَهُ، وَإِنْ كَانَ الدَّيْنُ مِنْ بَيْعٍ فَسَّرُوا ذَلِكَ، وَقَالُوا بَاعَ مِنْهُ كَذَا وَكَذَا بِمَحْضَرِنَا، أَوْ بِإِقْرَارِهِ عِنْدَنَا؛ لِأَنَّ الشَّهَادَةَ مُصَدِّقَةٌ لِلدَّعْوَى.
مَسْأَلَةٌ:
فِي أَحْكَامِ ابْنِ سَهْلٍ قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ فِي كِتَابِهِ: إذَا شَهِدَ شَاهِدَانِ أَنَّ لِفُلَانٍ عَلَى فُلَانٍ مِائَةَ دِينَارٍ وَلَمْ يَقُولَا، وَأَقَرَّ بِذَلِكَ عِنْدَنَا وَلَا نَحْوَ ذَلِكَ، وَإِنَّمَا أَطْلَقَا الشَّهَادَةَ هَكَذَا، لَمْ أَرَ شَهَادَتَهُمَا تُحِقُّ شَيْئًا؛ لِأَنَّهُمَا كَأَنَّهُمَا كَحَاكِيَيْنِ حَتَّى يَقُولَا أَسْلَفَهُ أَوْ أَقَرَّ عِنْدَنَا بِذَلِكَ، أَوْ مِمَّا يُبَيِّنَانِ بِهِ مَا شَهِدَا فِيهِ، وَقَدْ نَجِدُ مِنْ النَّاسِ مَنْ يُحَلِّلُ بَيْعَ النَّبِيذِ الْمُسْكِرِ وَيُوجِبُ لَهُ ثَمَنًا وَغَيْرَ ذَلِكَ.
تَنْبِيهٌ:
وَفِي مُفِيدِ الْحُكَّامِ: قَالَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ: ظَاهِرُ هَذَا أَنَّهُ إذَا أَقَرَّ عِنْدَهُمَا بِالدَّيْنِ مُجْمَلًا، وَلَمْ يَذْكُرْ الْمُقِرُّ وَجْهَهُ وَشَهِدَا أَنَّهُ يُؤْخَذُ بِذَلِكَ. وَظَاهِرُ مَا قَالَهُ ابْنُ الْحَارِثِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ خِلَافُ هَذَا، حَتَّى يَشْهَدُوا بِإِقْرَارِهِ بِالسَّلَفِ أَوْ الْمُعَامَلَةِ.
مَسْأَلَةٌ:
وَلَوْ قَالَا نَشْهَدُ أَنَّ لَهُ عِنْدَهُ مِائَةَ دِينَارٍ مِنْ ثَمَنِ سِلْعَةٍ اشْتَرَاهَا مِنْهُ، فَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ: لَا يَقْبَلُ ذَلِكَ مِنْهُمَا، وَلَا يَلْزَمُهُ الثَّمَنُ حَتَّى يَقُولَا وَقَبَضَ السِّلْعَةَ.
مَسْأَلَةٌ:
قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ: وَإِذَا شَهِدَ شَاهِدَانِ أَنَّهُ خَاطَ لِفُلَانٍ ثَوْبًا بِدِرْهَمٍ لَمْ يَجِبْ لِلْخَيَّاطِ شَيْءٌ حَتَّى يَقُولَا: إنَّهُ رَدَّ الثَّوْبَ مِخْيَطًا، وَجَمِيعُ الصُّنَّاعِ بِهَذِهِ الْمَنْزِلَةِ.
مَسْأَلَةٌ:
إذَا أَثْبَتَ الَّذِي لَهُ الدَّيْنُ أَنَّ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ مَلِيءٌ، وَلَمْ يُعَيِّنْ الشُّهُودُ مَالَهُ، فَشَهَادَتُهُمْ لَيْسَتْ بِشَيْءٍ فِي قَوْلِ بَعْضِهِمْ.
وَقَالَ بَعْضُهُمْ الشَّهَادَةُ عَامِلَةٌ وَيُسْجَنُ حَتَّى يُؤَدِّيَ.
وَقَالَهُ الْقَاضِي ابْنُ زَرْبٍ، قَالَ بَعْضُ الْمُوَثَّقِينَ: وَبِهِ الْقَضَاءُ.
وَفِي رِوَايَةِ أَبِي زَيْدٍ إذَا شَهِدَ قَوْمٌ لِلْغَرِيمِ بِالْعَدَمِ وَشَهِدَ آخَرُونَ أَنَّ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ مَلِيءٌ وَلَمْ يُعَيِّنُوا شَيْئًا، أَنَّ الشَّهَادَتَيْنِ تَهَاتَرَا وَلَا يَقْضِي بِوَاحِدَةٍ مِنْهُمَا.
مَسْأَلَةٌ:
إذَا شَهِدَ الشُّهُودُ أَنَّ هَذَا الْعَبْدَ مَأْذُونٌ لَهُ فِي التِّجَارَةِ لَمْ تَتِمَّ الشَّهَادَةُ بِذَلِكَ وَلَا تَتِمَّ الشَّهَادَةُ حَتَّى يُبَيِّنُوا أَنَّ سَيِّدَهُ أَذِنَ لَهُ فِي ذَلِكَ أَوْ يَقُولُوا أَنَّهُمْ حَضَرُوا لِلتِّجَارَةِ فِي مَوْضِعِ كَذَا بِمَحْضَرِ مَالِكِهِ وَعِلْمِهِ وَلَمْ يُنْكِرْ، فَهَذَا وَشَبَهُهُ أَصْلٌ فِي عِلْمِ الشَّهَادَةِ.
مَسْأَلَةٌ:
وَمِنْ مُخْتَصَرِ الْوَاضِحَةِ قَالَ فَضْلُ بْنُ سَلَمَةَ، حَكَى ابْنُ عَبْدُوسٍ عَنْ سَحْنُونٍ فِي الرَّجُلِ يَشْهَدُ عَلَى الرَّجُلِ بِحَقٍّ لِرَجُلٍ، وَأَنَّهُ حَمِيلٌ بِهِ، فَقَالَ: إنْ كَانَ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ مَلِيًّا جَازَتْ شَهَادَتُهُ، وَإِنْ كَانَ عَدِيمًا فَشَهَادَتُهُ سَاقِطَةً، وَيَغْرَمُ مَا أَقَرَّ بِهِ مِنْ الْحَمَالَةِ.
مَسْأَلَةٌ:
وَسُئِلَ عَبْدُ الْمَلِكِ عَنْ رَجُلٍ اشْتَرَى عَبْدًا ثُمَّ ادَّعَى أَنَّهُ وَجَدَ بِهِ عَيْبًا.
وَقَالَ: بِعْتنِي هَذَا وَبِهِ عَيْبٌ وَلَمْ تُعْلِمْنِي.
وَقَالَ الْبَائِعُ: مَا بِعْتُك إلَّا صَحِيحًا وَالْعَيْبُ الَّذِي ادَّعَى بِهِ مِثْلُهُ يَحْدُثُ، فَأَتَى الْمُشْتَرِي بِشَاهِدٍ فَشَهِدَ أَنَّهُ قَدْ كَانَ اشْتَرَى هَذَا الْعَبْدَ مِنْ هَذَا الْبَائِعِ فَوَجَدَ بِهِ هَذَا الْعَيْبَ فَرَدَّهُ عَلَيْهِ، هَلْ تَكُونُ هَذِهِ شَهَادَةً وَلَا يُتَّهَمُ فِيهَا الشَّاهِدُ حِينَ قَالَ ابْتَعْته مِنْهُ وَرَدَدْته عَلَيْهِ بِهَذَا الْعَيْبِ؟ قَالَ لَا أَرَى لَهُ شَهَادَةً، وَأَرَاهُ ظَنِينًا، وَلَا أَرَى أَنْ تُقْبَلَ شَهَادَتُهُ؛ لِأَنَّهُ كَانَ يُرِيدُ أَنْ يُحَقِّقَ مَا كَانَ قَامَ بِهِ عَلَيْهِ، وَيَزْعُمُ أَنَّهُ قَامَ بِحَقٍّ وَادَّعَى حَقًّا وَذَلِكَ لَا يُعْلَمُ إلَّا بِقَوْلِهِ، فَلَا أَرَى لَهُ شَهَادَةً.
مَسْأَلَةٌ:
إذَا شَهِدَ شَاهِدَانِ أَنَّ رَجُلًا بَاعَ لِرَجُلٍ سِلْعَةً بِمِائَةِ دِينَارٍ لَمْ يَقْضِ بِذَلِكَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي شَهَادَتِهِمَا مَا يُوجِبُ أَنَّهُ قَبَضَ السِّلْعَةَ.
وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ فِي (الدِّمْيَاطِيَّةِ): إذَا كَانَ الْبَيْعُ بِالنَّقْدِ فَعَلَى الْبَائِعِ إقَامَةُ الْبَيِّنَةِ أَنَّهُ دَفَعَ السِّلْعَةَ، إلَّا أَنْ يَتَطَاوَلَ ذَلِكَ وَيَأْتِيَ مِنْ الزَّمَانِ مَا يُعْرَفُ بِهِ كَذِبُ الْمُشْتَرِي، فَيَحْلِفُ الْبَائِعُ وَيَبْرَأُ، وَأَمَّا مَا يَتَأَخَّرُ الْقَبْضُ فِيهِ وَيَشْتَغِلُ النَّاسُ بِحَوَائِجِهِمْ الْأَيَّامَ وَالْجُمُعَةَ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ فَعَلَى الْبَائِعِ الْبَيِّنَةُ أَنَّهُ دَفَعَهُ إلَّا أَنْ يَتَطَاوَلَ ذَلِكَ حَتَّى يَأْتِيَ مِنْ الْأَمَدِ مَا يُعْرَفُ بِهِ كَذِبُ الْمُشْتَرِي فَلَا يُصَدَّقْ.
مَسْأَلَةٌ:
قَالَ ابْنُ عَتَّابٍ: الشَّهَادَةُ بِالِابْتِيَاعِ لَا تُوجِبُ الْمِلْكَ، وَلَكِنْ تُوجِبُ الْيَدَ.
وَقَالَهُ ابْنُ الْقَطَّانِ وَابْنُ مَالِكٍ، وَلَوْ قَالَ شُهُودُ الِابْتِيَاعِ: إنَّهُ قَبَضَهُ، وَأَسْلَفَهُ مِمَّنْ كَانَ حِينَ الْعَقْدِ بِيَدِهِ لَكَانَ ذَلِكَ يَدًا، وَكَذَلِكَ فِي الْمُدَوَّنَةِ فِي كِتَابِ السَّرِقَةِ مِنْهَا فِيمَنْ ابْتَاعَ سِلْعَةً مِنْ رَجُلٍ فَفَلِسَ الْمُبْتَاعُ، قِيلَ لِابْنِ الْقَاسِمِ: أَيَسَعُ الشُّهُودَ أَنْ يَشْهَدُوا أَنَّهَا مَتَاعُ الْبَائِعِ قَالَ يَشْهَدُونَ أَنَّ هَذِهِ السِّلْعَةَ بِعَيْنِهَا اشْتَرَاهَا هَذَا الْمُفْلِسُ مِنْ هَذَا الرَّجُلِ، وَلَا يَشْهَدُوا إلَّا بِمَا عَايَنُوا وَعَلِمُوا زَادَ ابْنُ أَبِي زَيْدٍ فِيهَا، وَأَنَّهَا كَانَتْ بِيَدِ بَائِعِهَا.

.فَصْلٌ فِي الشَّهَادَةِ فِي الِاسْتِحْقَاقِ وَمَا شَاكَلَهُ:

مَسْأَلَةٌ:
وَإِذَا شَهِدَ الشَّاهِدَانِ لِرَجُلٍ بِسِلْعَةٍ أَنَّهَا لَهُ فَمِنْ تَمَامِ شَهَادَتِهِمَا أَنْ يَقُولَانِ بَعْدَ الشَّهَادَةِ لَهُ بِهَا: وَلَا نَعْلَمُ أَنَّهُ بَاعَ وَلَا وَهَبَ وَلَا تَصَدَّقَ حَتَّى سَمِعْنَاهُ يَذْكُرُ إبَاقَ الْعَبْدِ مَثَلًا، إنْ كَانَ الْمَشْهُودُ فِيهِ عَبْدًا، أَوْ سَرِقَةً إنْ كَانَتْ دَابَّةً أَوْ غَيْرَهَا مِنْ السِّلَعِ، وَيَحْلِفُ الْمُسْتَحِقُّ أَنَّهُ مَا بَاعَ وَلَا وَهَبَ وَلَا خَرَجَ عَنْ يَدِهِ بِوَجْهٍ وَيَأْخُذُهُ، قَالَ ابْنُ سَهْلِ: زَادَ فِي كِتَابِ الْعَارِيَّةِ مِنْ (الْمُدَوَّنَةِ) وَقَالَ فَإِنْ لَمْ يَشْهَدُوا أَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَهُ بَاعَ وَلَا وَهَبَ حَلَفَ أَنَّهُ مَا بَاعَ وَلَا وَهَبَ وَقَضَى لَهُ بِهِ، قَالَ فَانْظُرْ كَيْفَ أَمْضَى هُنَا شَهَادَتَهُمْ وَلَمْ يَقُولُوا لَا نَعْلَمُهُ بَاعَ وَلَا وَهَبَ، قَالَ يُعَادُونَ فَيُسْتَفْسَرُونَ إنْ كَانُوا حُضُورًا، وَفِي شَهَادَاتِ الْمُقَرَّبِ لِابْنِ أَبِي زَمَنِينَ: أَنَّ هَذِهِ الشَّهَادَةَ إذَا سَقَطَ مِنْهَا ذَلِكَ لَمْ تُقْبَلْ إلَّا إذَا لَمْ يُوجَدْ سَبِيلٌ إلَى سُؤَالِهِمْ، وَإِنْ حَضَرُوا فَسُئِلُوا فَأَبَوْا أَنْ يَقُولُوا ذَلِكَ فَشَهَادَتُهُمْ بَاطِلَةٌ.
تَنْبِيهٌ:
وَكَوْنِ شَهَادَتِهِمْ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ عَلَى الْعِلْمِ هُوَ مَذْهَبِ الْمُدَوَّنَةِ.
وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِ مَالِكٍ إنَّ شَهَادَتَهُمْ لَا تَكُونُ إلَّا عَلَى الْبَتِّ يَعْنِي أَنَّهُ شَيْؤُهُ لَمْ يَبِعْهُ وَلَمْ يَفُتْهُ، وَلَا يَشْهَدُونَ عَلَى الْعِلْمِ.
مَسْأَلَةٌ:
وَمَنْ ادَّعَى عَلَى رَجُلٍ دَابَّةً أَوْ عَبْدًا فَأَنْكَرَ الْآخَرُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ عِنْدَهُ فَأَتَى الطَّالِبُ بِالْبَيِّنَةِ أَنَّ الْمَطْلُوبَ أَقَرَّ أَنَّ بِيَدِهِ دَابَّةً أَوْ عَبْدًا بِصِفَةِ كَذَا وَكَذَا لِلصِّفَةِ الَّتِي ادَّعَى الطَّالِبُ، فَقَالَ سَحْنُونٌ: إنْ شَهِدُوا أَنَّ دَابَّةَ فُلَانٍ أَوْ عَبْدَ فُلَانٍ عِنْدَ فُلَانٍ فَقَدْ تَمَّتْ الشَّهَادَةُ، وَإِنْ قَالُوا إنَّ فِي يَدَيْهِ الصِّفَةَ الَّتِي يَدَّعِي فَلَيْسَ هَذَا بِشَيْءٍ.
تَنْبِيهٌ:
لَمْ يَذْكُرْ أَنَّ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ يَحْلِفُ عَلَى نَفْيِ مَا اُدُّعِيَ بِهِ عَلَيْهِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْيَمِينَ تَلْزَمُهُ.
مَسْأَلَةٌ:
وَمَنْ أَقَامَ بَيِّنَةً فِي عَبْدٍ قَدْ مَاتَ فِي يَدِ رَجُلٍ أَنَّهُ عَبْدُهُ فَلَيْسَ لَهُ عَلَى الَّذِي مَاتَ فِي يَدِهِ ضَمَانٌ، حَتَّى تَقُولَ الْبَيِّنَةُ: إنَّهُ غَصَبَهُ إيَّاهُ.
مَسْأَلَةٌ:
وَفِي الْمُدَوَّنَةِ وَمَنْ أَقَامَ شَاهِدًا وَاحِدًا أَنَّ هَذَا الرَّجُلَ عَبْدُهُ حَلَفَ مَعَ شَاهِدِهِ، وَكَانَ بِذَلِكَ عَبْدُهُ، قَالَهُ فِي الشَّهَادَاتِ وَفِي مُنْتَخَبِ الْأَحْكَامِ لِابْنِ أَبِي زَمَنِينَ، قَالَ سَحْنُونٌ: إنْ كَانَ مَعْرُوفًا بِالْحُرِّيَّةِ لَمْ يَجُزْ ذَلِكَ فِيهِ.
فَصْلٌ فِي الشَّهَادَاتِ فِي الْوِرَاثَةِ مَسْأَلَةٌ:
قَالَ ابْنُ الْعَطَّارِ: لَا تَجُوزُ شَهَادَةُ الشُّهُودِ فِي الْمِلْكِ الَّذِي تَوَفَّى عَنْهُ مَالِكُهُ حَتَّى يَقُولُوا: إنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ الْمَشْهُودَ لَهُ بِهِ فَوَّتَ شَيْئًا مِنْهُ إلَى آخِرِ إيقَاعِهِمْ لِشَهَادَتِهِمْ، وَإِنْ شِئْت قُلْت فِي الْعَقْدِ بَعْدَ التَّحْدِيدِ: وَحَازُوهَا بِالْوُقُوفِ عَلَيْهَا وَلَمْ تَخْرُجْ عَنْ مِلْكِ الْمُتَوَفَّى، وَلَا فَوَّتَهَا بِوَجْهٍ مِنْ وُجُوهِ التَّفْوِيتِ فِي عِلْمِهِمْ إلَى أَنْ تُوُفِّيَ وَوَرِثَهُ وَرَثَتُهُ، وَإِنْ لَمْ يَقُلْ الشُّهُودُ هَذَا لَمْ يَتِمَّ انْتِقَالُ الْمِلْكِ لِلْوَرَثَةِ، وَلَا تَصِحُّ الشَّهَادَةُ لَهُمْ بِوِرَاثَةِ الْمِلْكِ إلَّا بِذَلِكَ، وَلَوْ شَهِدُوا عَلَى الْبَتِّ كَانَتْ غَمُوسًا زُورًا لَا تَجُوزُ عِنْدَ مَالِكٍ.
وَقَالَ ابْنُ الْمَاجِشُونِ الشَّهَادَةُ عَلَى الْعِلْمِ فِي هَذَا سَاقِطٌ لَا تَجُوزُ حَتَّى تَقْطَعَ الشُّهُودُ فِي الشَّهَادَةِ، قَالَ وَالْبَتُّ يَرْجِعُ إلَى الْعِلْمِ وَبِالْأَوَّلِ الْقَضَاءُ.
فَرْعٌ:
وَإِنْ قَالَ شُهُودُ الْوَرَثَةِ أَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ وَاحِدًا مِنْهُمْ فَوَّتَ شَيْئًا مِمَّا نَقَلَتْهُ الْوَرَثَةُ الْمَذْكُورَةُ إلَيْهِ بِوَجْهٍ مِنْ الْوُجُوهِ إلَى حِينَ شَهَادَتِهِمْ فَإِنَّهُ أَتَمُّ، وَإِنْ سَقَطَ هَذَا مِنْ الْعَقْدِ تَمَّتْ الشَّهَادَةُ دُونَهُ.
فَرْعٌ:
وَإِذَا مَاتَ مِنْ وَرَثَةِ الْمَيِّتِ الْأَوَّلِ وَاحِدٌ وَلَمْ يَقُلْ الشُّهُودُ بِالْعِلْمِ يَفُوتُ مَا نَقَلَتْهُ الْوَارِثَةُ إلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ فِي عِلْمِ الشُّهُودِ، إلَى أَنْ تُوُفِّيَ وَوَرِثَهُ وَرَثَتُهُ لَمْ تَعْمَلْ الشَّهَادَةُ لِوَرَثَةِ الْمَيِّتِ الثَّانِي شَيْئًا عَلَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ الْقَوْلِ فِي الْوَرَثَةِ الْأَوَّلِينَ.
فَرْعٌ:
وَمِثْلُ هَذَا شَهَادَتُهُمْ فِي عِدَّةِ الْوَرَثَةِ لابد أَنْ يَزِيدَ وَلَا نَعْلَمُ لَهُ وَارِثًا غَيْرَهُمْ وَلَا يَشْهَدُونَ فِي هَذَا إلَّا عَلَى الْبَتِّ، قَالَهُ بَعْضُ أَصْحَابِ مَالِكٍ، وَفِي الْمُدَوَّنَةِ أَنَّهُمْ يَشْهَدُونَ عَلَى الْعِلْمِ.
فَرْعٌ:
وَلَوْ مَاتَ رَجُلٌ بِإِفْرِيقِيَةِ وَوَارِثُهُ بِمِصْرَ فَقَالَ الشُّهُودُ لَا نَعْلَمُ لِفُلَانٍ بِأَرْضِ مِصْرَ وَارِثًا إلَّا فُلَانًا فَلَا تَجُوزُ شَهَادَتُهُمْ حَتَّى يَقُولُوا لَا نَعْلَمُ لَهُ وَارِثًا غَيْرَهُ فِي شَيْءٍ مِنْ الْأَرْضِ.
وَقَالَ أَشْهَبُ عَنْ مَالِكٍ: قَوْلُ أَلْبَتَّةَ لَيْسَ لَهُ وَارِثٌ غَيْرَهُ لَا يُقْبَلُ حَتَّى يَقُولُوا لَا نَعْلَمُ لَهُ وَارِثًا غَيْرَهُ، قَالَ ابْنُ حَبِيبٍ قَالَ مُطَّرِفٌ، وَابْنُ الْمَاجِشُونِ: أَدْرَكْنَا الْحُكَّامَ بِبَلَدِنَا وَمَا عِلْمَنَا فِيهِ اخْتِلَافًا، أَنَّ وَجْهَ الشَّهَادَةِ عَلَى عِدَّةِ الْوَرَثَةِ أَنْ يَقُولُوا لَا نَعْلَمُ لَهُ وَارِثًا إلَّا فُلَانًا وَلَا يَقُولُونَ عَلَى الْبَتِّ، ثُمَّ حَدَثَتْ الشَّهَادَةُ عَلَى الْبَتِّ بَعْدَ ذَلِكَ.
مَسْأَلَةٌ:
فَإِنْ قَالَ الشُّهُودُ: هَذَا وَارِثٌ مَعَ وَرَثَةٍ آخَرِينَ سَمَّوْهُمْ أَعْطَى هَذَا نَصِيبَهُ وَتَرَكَ الْبَاقِي بِيَدِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، حَتَّى يَأْتِيَ مُسْتَحِقُّهُ؛ لِأَنَّ الْغَائِبَ قَدْ يَقِرُّ لِلْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِمَا فِي يَدِهِ، فَإِنْ قَالُوا لَا نَعْرِفُ عَدَدَ الْوَرَثَةِ لَمْ يَقْضِ لِهَذَا الْوَارِثِ بِشَيْءٍ لِعَدَمِ تَعْيِينِهِمْ، وَلَا يَنْظُرْ إلَى تَسْمِيَةِ الْمُدَّعِي لِلْوَرَثَةِ وَيَبْقَى فِيهِ بِيَدِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ حَتَّى يَثْبُتَ عَدَدُ الْوَرَثَةِ بِبَيِّنَةٍ.
مَسْأَلَةٌ:
وَلَوْ شَهِدُوا لِرَجُلٍ أَنَّ هَذِهِ الدَّارَ الَّتِي بِيَدِ فُلَانٍ دَارُ جَدِّهِ لَمْ يَقْضِ لَهُ حَتَّى يَقُولُوا: إنَّ أَبَاهُ وَرِثَهَا مِنْ جَدِّهِ، وَلَا نَعْلَمُ لَهُ وَارِثًا غَيْرَهُ، وَإِنَّ هَذَا وَرِثَ أَبَاهُ لَا نَعْلَمُ لَهُ وَارِثًا غَيْرَهُ، أَوْ مَعَهُ مِنْ الْوَرَثَةِ كَذَا وَكَذَا.
تَنْبِيهٌ:
وَلَا يَلْزَمُ الشُّهُودَ أَنْ يَعْرِفُوا عَيْنَ الْبَنَاتِ بَلْ يَكْفِي ذِكْرُ عَدَدِهِنَّ؛ لِأَنَّ الْبَنَاتَ مَحْمُولَاتٌ عَلَى الْحِجَابِ.
تَنْبِيهٌ:
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ فِي (مُفِيدِ الْحُكَّامِ): وَعَلَى هَذَا يَجِبُ إذَا شَهِدَ الشُّهُودُ أَنَّ فُلَانًا مَاتَ، وَأَحَاطَ بِمِيرَاثِهِ زَوْجَتُهُ فُلَانَةُ وَبَنُوهُ فُلَانٌ وَفُلَانَةُ وَفُلَانَةُ، وَقَالُوا إنَّمَا نَعْرِفُ عَيْنَ الزَّوْجَةِ وَالِابْنِ وَلَا نَعْرِفُ أَعْيَانَ الْبِنْتَيْنِ، أَنَّ الشَّهَادَةَ جَائِزَةٌ، وَإِنْ قَالُوا: نَعْرِفُ أَعْيَانَ الِابْنِ وَالْبِنْتَيْنِ وَلَا نَعْرِفُ عَيْنَ الزَّوْجَةِ لَمْ تَجُزْ الشَّهَادَةُ؛ لِأَنَّ الْبَنَاتَ مَحْمُولَاتٌ عَلَى الْحِجَابِ، وَلِذَلِكَ يُعْذَرُ الشُّهُودُ فِي تِلْكَ الشَّهَادَةِ، وَالزَّوْجَاتُ لَسْنَ بِمَحْمُولَاتٍ عَلَى الْحِجَابِ فَلِذَلِكَ لَا تَجُوزُ شَهَادَةُ مَنْ يَجْهَلُ عَيْنَ الزَّوْجَةِ.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: اُنْظُرْ إذَا مَاتَ الزَّوْجُ وَقَامَتْ الْمَرْأَةُ تَطْلُبُ مِيرَاثَهَا مِنْهُ، وَأَنْكَرَهَا وَرَثَتُهُ وَلَمْ تَقِفْ الْبَيِّنَةُ عَلَى تَعْيِينِهَا، أَوْ أَنْكَرَ الزَّوْجُ النِّكَاحَ وَلَمْ يُعَيَّنْ الشُّهُودُ الْمَرْأَةَ، فَظَاهِرُ قَوْلِ مَالِكٍ أَنَّ ذَلِكَ سَوَاءٌ، وَأَنَّهُ لَا يُفْتَقَرُ فِي ذَلِكَ إلَى تَعْيِينِ النِّسَاءِ، وَأَنَّ الْمَوَارِيثَ وَاجِبَةٌ بِكُلِّ حَالٍ، حَكَاهُ ابْنُ وَزَّانٍ مِنْ رِوَايَةِ عِيسَى عَنْ ابْنِ الْقَاسِمِ، وَقَدْ نَزَلْنَا بِقُرْطُبَةَ فَحَكَمَ فِيهَا بِهَذَا. انْتَهَى. فَتَلَخَّصَ مِنْ هَذَا أَنَّ الزَّوْجَةَ حُكْمُهَا حُكْمُ الْبَنَاتِ لَا يَلْزَمُ الشُّهُودَ أَنْ يَعْرِفُوا عَيْنَهَا فِي اسْتِحْقَاقِ الْمِيرَاثِ.
فَرْعٌ:
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَفِي نِكَاحِ الْعُتْبِيَّةِ مِنْ رِوَايَةِ ابْن وَزَّانٍ عَنْ ابْنِ الْقَاسِمِ: وَقَدْ نَزَلْت بِقُرْطُبَةَ فَحَكَمَ فِي الرَّجُلِ يُزَوِّجُ ابْنَتَهُ الْبِكْرَ وَلَا وَلَدَ لَهُ غَيْرُهَا فَيَمُوتُ الْأَبُ فَتَزْعُمُ الْبِنْتُ أَنَّهَا لَيْسَتْ بِنْتَهُ، وَأَنَّهَا كَانَتْ يَتِيمَةً عِنْدَهُ وَلَا بَيِّنَةَ لِلزَّوْجِ أَنَّهَا هِيَ بِعَيْنِهَا إلَّا بِالسَّمَاعِ مِنْ الْأَبِ، أَنَّ لَهُ بِنْتًا بِكْرًا وَقَدْ فَشَا ذَلِكَ فِي النَّاسِ وَلَا يُثْبِتُهَا الشُّهُودُ بِعَيْنِهَا، أَنَّ النِّكَاحَ لَهَا لَازِمٌ وَمِيرَاثُهَا وَاجِبٌ، وَخَالَفَ فِي ذَلِكَ سَحْنُونٌ وَقَالَ الْقَوْلُ قَوْلُهَا.
فَرْعٌ:
وَمِنْ مُنْتَقَى الْأَحْكَامِ قَالَ أَصَبْغُ فِي السَّامِعِينَ مِنْ الْمُنْكَحَةِ، وَإِنْ لَمْ يَعْرِفَاهَا هَذَا أَمْرٌ لَا يَجِدُ النَّاسُ مِنْهُ بُدًّا، وَمَنْ لَا يَرَى وَلِيَّتَهُ حَتَّى تَبْلُغَ النِّكَاحَ، فَلَا حَرَجَ عَلَى السَّامِعِينَ فِي ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ مَوْضِعُ ضَرُورَةٍ، وَأَمَّا فِي الْحُقُوقِ مِنْ الْبُيُوعِ وَالْوِكَالَاتِ وَالْهِبَاتِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَالشُّهُودُ لَا يَعْرِفُونَهَا فَلَيْسَ ذَلِكَ، وَلَا أَرَى أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْهَا فِي مِثْلِ هَذَا إلَّا مَنْ يَعْرِفُهَا بِعَيْنِهَا وَاسْمِهَا، وَيُؤْخَذُ مِنْ قَوْلِ أَصَبْغَ أَنَّهُ لَا يَحْتَاجُ فِي ثُبُوتِ عِدَّةِ الْوَرَثَةِ إلَى تَعْيِينِ الْوَرَثَةِ إذَا كَانُوا نِسَاءً يَعْنِي مَعْرِفَتَهُمْ بِالْعَيْنِ اُنْظُرْ (مُفِيدَ الْحُكَّامِ).
مَسْأَلَةٌ:
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَقَعَ فِي كِتَابِ الْأَيْمَانِ بِالطَّلَاقِ فِي رَسْمِ حَمْلِ صَبِيٍّ قَالَ فِي رَجُلٍ مَاتَ عَنْ امْرَأَتِهِ يُرِيدُ وَهِيَ عِنْدَهُ فَجَاءَ شُهُودٌ عُدُولٌ كَانُوا غَائِبِينَ فَشَهِدُوا أَنَّهُ قَدْ طَلَّقَهَا مُنْذُ سِنِينَ أَنَّهَا تَرِثُهُ، وَلَوْ مَاتَتْ هِيَ لَمْ يَرِثْهَا؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ حَيًّا لَمْ يُرْجَمْ؛ لِأَنَّا لَا نَدْرِي مَا كَانَ يَدْرَأُ بِهِ عَنْ نَفْسِهِ.
مَسْأَلَةٌ:
وَفِي (مُفِيدِ الْحُكَّامِ) إذَا ثَبَتَ الْمَوْتُ وَالْوَرَثَةُ لِرَجُلٍ وَشَهِدَ لَهُ شُهُودٌ عُدُولٌ أَنَّهُ وَارِثُ هَذَا الْمَيِّتِ لَا يَعْلَمُونَ لَهُ وَارِثًا غَيْرَهُ فَإِنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ الْمِيرَاثَ إلَّا بَعْدَ يَمِينِهِ بِاَللَّهِ الَّذِي لَا إلَهَ إلَّا هُوَ مَا أَعْلَمُ لَهُ وَارِثًا غَيْرِي، فَيَحْلِفُ عَلَى الْعِلْمِ، وَإِنَّمَا وَجَبَتْ عَلَيْهِ الْيَمِينُ؛ لِأَنَّ الشُّهُودَ إنَّمَا شَهِدُوا لَهُ عَلَى الْعِلْمِ هَكَذَا فِي سَمَاعِ أَشْهَبَ قَالَ ابْنُ رُشْدٍ وَلَيْسَ الْعَمَلُ عَلَى أَنْ يَحْلِفَ.
مَسْأَلَةٌ:
وَسُئِلَ أَبُو إبْرَاهِيمَ إِسْحَاقُ بْنُ التُّجِيبِيُّ عَنْ الدَّيْنِ يَكُونُ لِلْمَيِّتِ عَلَى رَجُلٍ فَيَقُومُ لِلْوَرَثَةِ بَيِّنَةٌ بِثَبَاتِهِ أَنْ يَكُونَ عَلَى الشُّهُودِ أَنْ يَقُولُوا فِي شَهَادَتِهِمْ، وَأَنَّهُ مَاتَ وَتَرَكَ هَذَا الدَّيْنَ مِيرَاثًا لِوَرَثَتِهِ مِثْلَ الْعَقَارِ، أَوْ تُجْزِيهِمْ شَهَادَتُهُمْ بِإِثْبَاتِ الدَّيْنِ. فَقَالَ: أَمَّا الشُّهَدَاءُ فِي دَيْنِ الْمَيِّتِ فَإِنْ أَنْكَرَهُ الْغَرِيمُ فَعَلَيْهِمْ أَنْ يَزِيدُوا فِي شَهَادَتِهِمْ عَلَيْهِ أَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ الْمُتَوَفَّى قَبَضَ مِنْهُ شَيْئًا إلَى حِينَ شَهَادَتِهِمْ، وَكَذَلِكَ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ بِالدَّيْنِ، إذَا كَانَ هُوَ الْمَيِّتُ فَيَلْزَمُهُمْ مِثْلُ ذَلِكَ مِنْ (مَجْمُوعِ الْفَتَاوَى).

.فَصْلٌ فِي مَسَائِلَ فِي الْأَقْضِيَةِ وَالشَّهَادَاتِ:

مَسْأَلَةٌ:
وَإِذَا رُفِعَ إلَى الْقَاضِي عَقْدٌ كُتِبَ عَلَى رَجُلٍ غَائِبٍ وَشَهِدَ فِيهِ الشُّهُودُ الَّذِينَ أَشْهَدَهُمْ الْغَائِبُ فَلَا يَسْمَعْ الْحَاكِمُ شَهَادَةَ الشُّهُودِ حَتَّى يَنُصُّوا عَلَى مَعَانِي الشَّهَادَةِ مِنْ حِفْظِهِمْ، وَلَا يَكْتَفِي فِي إثْبَاتِ الْعَقْدِ بِقَوْلِ الشَّاهِدِ هَذَا خَطِّي وَهَذِهِ شَهَادَتِي أَشْهَدُ بِهَا عِنْدَك؛ لِأَنَّ الْمُوَثِّقِينَ جَرَتْ لَهُمْ عَوَائِدُ فِي كِتَابَةِ الْعُقُودِ فَرُبَّمَا كَانَ فِي أَلْفَاظِهِمْ مَا لَوْ سَمِعَهُ الْغَائِبُ لَمْ يُوَافِقْ عَلَى ذِكْرِهِ فِي الْعَقْدِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذَلِكَ فِي التَّنْبِيهَاتِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالتَّسْجِيلِ.
مَسْأَلَةٌ:
وَإِذَا شَهِدَ عِنْدَ الْقَاضِي شُهُودٌ عُدُولٌ بِمَا يَعْلَمُ هُوَ خِلَافَهُ فَلَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَسْمَعَ مِنْهُمْ، وَلَا يَقْضِيَ بِشَهَادَتِهِمْ، وَيَدْفَعَ الْخَصْمَيْنِ عَنْ نَفْسِهِ، وَيَكُونَ شَاهِدًا عِنْدَ مَنْ يَتَحَاكَمَانِ إلَيْهِ ذَكَرَهُ ابْنُ الْعَطَّارِ، قَالَ ابْنُ الْفَخَّارِ: وَهَذَا لَا يَسْتَقِيمُ عَلَى مَذْهَبِ أَصْحَابِ مَالِكٍ إلَّا ابْنَ كِنَانَةَ وَحْدَهُ وَقَالَ ابْنُ الْمَوَّازِ فِي كِتَابِهِ: إذَا شَهِدَ الْعُدُولُ عِنْدَ الْقَاضِي بِشَيْءٍ، يَعْلَمُ الْقَاضِي أَنَّ الَّذِي شَهِدُوا بِهِ بَاطِلٌ، فَلَا يَجُوزُ لَهُ رَدُّ شَهَادَتِهِمْ وَيُنَفِّذُ شَهَادَتَهُمْ بَعْدَ الِانْتِظَارِ الْيَسِيرِ، وَاسْتُحْسِنَ لَوْ خَلَا بِهِمْ فَأَعْلَمَهُمْ بِعِلْمِهِ وَشَهَادَتِهِمْ، فَلَعَلَّهُ، يَنْكَشِفُ لَهُمْ بِقَوْلِهِ مَا وَرَاءَ ذَلِكَ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَلْيَحْكُمْ بِشَهَادَتِهِمْ، وَأَرَى أَنْ يُعْلِمَ الَّذِي حَكَمَ عَلَيْهِ أَنَّ لَهُ عِنْدَهُ شَهَادَةً. وَلَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يُبْطِلَ الشَّهَادَةَ وَلَا يَرُدَّهَا وَلَا أَنْ يُمْضِيَ مِنْهَا مَا لَيْسَ بِبَاطِلٍ، وَيَرُدَّ مَا هُوَ بَاطِلٌ.
وَقَالَ ابْنُ الْمَاجِشُونِ: وَلَا يَنْبَغِي لِلْقَاضِي أَنْ يُمْضِيَ بَاطِلًا يَعْلَمُهُ وَلَا يُبْطِلَ الشَّهَادَةَ وَلَكِنْ يَرْفَعُهَا إلَى غَيْرِهِ وَيَشْهَدُ الْقَاضِي بِمَا يَعْلَمُهُ فِي ذَلِكَ.
فَرْعٌ:
وَكَذَلِكَ لَوْ شَهِدَ عِنْدَهُ مَنْ لَيْسَ بِعَدْلٍ وَالْقَاضِي يَعْلَمُ أَنَّهُ شَهِدَ بِحَقٍّ فَلَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يُجِيزَ الشَّهَادَةَ وَلَا يَحْكُمُ بِهَا.
مَسْأَلَةٌ:
وَمِمَّا يَنْبَغِي تَنْبِيهُ الشَّاهِدِ فِيهِ إذَا شَهِدَ بِمَا لَا يَعْتَقِدُ جَوَازَهُ فَفِي مُخْتَصَرِ الْوَاضِحَةِ فِيمَنْ عِنْدَهُ شَهَادَةٌ عَلَى شَيْءٍ لَا يَعْتَقِدُ جَوَازَهُ، قَالَ ابْنُ عَبْدُوسٍ سَأَلْت سَحْنُونًا عَنْ الرَّجُلِ تَكُونُ عِنْدَهُ الشَّهَادَةُ وَهِيَ مِمَّا لَا تَجُوزُ عِنْدَهُ وَالْقَاضِي مِمَّا يَرَى إجَازَتَهَا، أَتَرَى عَلَى الشَّاهِدِ أَنْ يُؤَدِّيَهَا إلَى الْقَاضِي؟. فَقَالَ كَيْفَ هَذِهِ الشَّهَادَةُ؟. قُلْت: مِثْلَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَى صَدَاقٍ مُعَجَّلٍ فِي نِكَاحٍ وَمَعَهُ مُؤَجَّلٌ لَمْ يُضْرَبْ لَهُ أَجَلٌ. فَقَالَ: مَا أَرَى أَنْ يَشْهَدَ فَإِنْ جَهِلَ الشَّاهِدُ وَشَهِدَ فَيَنْبَغِي أَنْ يُنَبِّهَهُ عَلَى أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَشْهَدَ فِي ذَلِكَ.
مَسْأَلَةٌ:
إذَا شَهِدَ عِنْدَ الْقَاضِي عَدْلَانِ ثُمَّ أَشْهَدَهُمَا عَلَى حُكْمِهِ بِشَهَادَتِهِمَا، فَرَوَى يَحْيَى عَنْ ابْنِ الْقَاسِمِ أَنَّ لِغَيْرِهِ إمْضَاءَ شَهَادَتِهِمَا فِي ذَلِكَ الْحُكْمِ وَقِيلَ لَا يُمْضِيهِ؛ لِأَنَّهُمَا شَهِدَا عَلَى تَنْفِيذِ شَهَادَتِهِمَا، وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ لِضَعْفِ التُّهْمَةِ.
مَسْأَلَةٌ:
وَسُئِلَ مَالِكٌ عَنْ فَرِيقَيْنِ اخْتَصَمُوا فَقُضِيَ عَلَى أَحَدِ الْفَرِيقَيْنِ فَخَرَجَ الْمَقْضِيُّ عَلَيْهِمْ يُحَدِّثُونَ النَّاسَ عَلَانِيَةً أَنَّهُ قُضِيَ عَلَيْهِمْ ثُمَّ اُحْتِيجَ إلَى قَضَاءِ ذَلِكَ الْقَاضِي فَلَمْ يُوجَدْ عَنْهُ أَحَدٌ عَلِمَ بِذَلِكَ إلَّا الَّذِينَ سَمِعُوا مِنْ الْمَقْضِيِّ عَلَيْهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَقُولُونَ عِنْدَهُمْ قَدْ قُضِيَ عَلَيْنَا، فَسُئِلُوا لِلشَّهَادَةِ بِذَلِكَ عَلَى وَجْهٍ يَقُولُونَ سَمِعْنَاهُمْ يَذْكُرُونَ ذَلِكَ وَلَا نَدْرِي أَكَانَ ذَلِكَ أَمْ لَا؟ قَالَ مَالِكٌ: وَلَرُبَّمَا قَالَ الْمَرْءُ قَدْ قُضِيَ عَلَيَّ وَمَا قُضِيَ عَلَيْهِ، وَإِنِّي لَأَرَى هَذِهِ الشَّهَادَةَ ضَعِيفَةً.
مَسْأَلَةٌ:
قَالَ ابْنُ حَبِيبٍ قَالَ لِي مُطَّرِفٌ فِي الرَّجُلَيْنِ يَشْهَدَانِ عِنْدَ الْقَاضِي أَنَّهُمَا كَانَا شَهِدَا عِنْدَ قَاضٍ قَبْلَهُ عَلَى رَجُلٍ بِحَقٍّ، وَأَشْهَدَهُمَا أَنَّهُ قَدْ قَضَى بِشَهَادَتِهِمَا فَإِنْ كَانَا مِنْ أَهْلِ الْعَدْلِ فَشَهَادَتُهُمَا جَائِزَةٌ، وَيَبْتَدِئُ هَذَا الْقَاضِي الْحُكْمَ بِهِمَا كَأَنَّهُمَا ابْتَدَآ وَضْعَهَا عِنْدَهُ وَلَيْسَ عَلَى وَجْهِ أَنَّهُ قَدْ حَكَمَ بِهَا فَيَكُونُ حُكْمًا قَدْ فُرِغَ مِنْهُ، وَلَا أَرَى مَا ذَكَرَا فِي شَهَادَتِهِمَا مِنْ قَضِيَّةِ الْقَاضِي الْأَوَّلِ تُفْسِدُ شَهَادَتَهُمَا.
وَقَالَهُ ابْنُ الْقَاسِمِ.
وَقَالَ ابْنُ الْمَاجِشُونِ لَا تَجُوزُ شَهَادَتُهُمَا فِي ذَلِكَ عَلَى كُلِّ حَالٍ لَا عَلَى أَصْلِ الشَّهَادَةِ وَلَا عَلَى الْحُكْمِ بِهَا؛ لِأَنَّهَا إذَا سَقَطَتْ فِي الْحُكْمِ بِهَا اُتُّهِمَا فِيهَا كُلِّهَا.
وَقَالَهُ ابْنُ نَافِعٍ وَأَصْبَغُ وَبِهِ نَقُولُ قَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ: وَلَوْ كَانَا لَمْ يَجْمَعَا الْأَمْرَيْنِ وَشَهِدَا عَلَى حُكْمِ الْحَاكِمِ فَقَطْ أَوْ عَلَى أَصْلِ الشَّهَادَةِ وَسَكَتَا عَنْ حُكْمِ الْحَاكِمِ جَازَتْ.
مَسْأَلَةٌ:
وَكَذَلِكَ الشُّهَدَاءُ يَشْهَدُونَ عِنْدَ قَاضٍ عَلَى حَقٍّ مِنْ الْحُقُوقِ ثُمَّ يَكْتُبُ بِذَلِكَ إلَى قَاضٍ غَيْرِهِ فَلَمْ يَجِدْ شُهُودًا يَشْهَدُونَ عَلَى كِتَابِهِ إلَيْهِ إلَّا أُولَئِكَ الشُّهُودَ الَّذِينَ شَهِدُوا عَلَى أَصْلِ الْحُكْمِ، فَذَلِكَ الْكِتَابُ لَا يَثْبُتُ بِشَهَادَتِهِمْ وَلَا تَجُوزُ فِيهِ شَهَادَتُهُمْ بَعْدُ لَا عَلَى أَصْلِ الشَّهَادَةِ وَلَا عَلَى ثُبُوتِ الْكِتَابِ إلَّا أَنْ يُعِيدُوا الشَّهَادَةَ عِنْدَ هَذَا الْحَاكِمِ عَلَى أَحَدِ الْأَمْرَيْنِ، إمَّا عَلَى أَصْلِ الْحَقِّ فَقَطْ، وَإِمَّا عَلَى ثُبُوتِ الْكِتَابِ، وَهَكَذَا سَمِعْت أَصَبْغَ يَقُولُ فِي هَذَا بِعَيْنِهِ.
مَسْأَلَةٌ:
قَالَ سَحْنُونٌ: أَجْمَعَ أَصْحَابُنَا عَلَى أَنَّ مَنْ شَهِدَ بِشَهَادَةٍ عِنْدَ الْقَاضِي فَرَدَّهَا لِتُهْمَةٍ أَوْ لِجُرْحَةٍ ثُمَّ شَهِدَ بِهَا بَعْدَ ذَلِكَ عِنْدَ الْقَاضِي بَعْدَ أَنْ زَالَتْ التُّهْمَةُ وَزَالَتْ الْجُرْحَةُ، مِثْلَ أَنْ يَكُونَ شَهِدَ لِزَوْجَتِهِ ثُمَّ طَلَّقَهَا أَوْ زُكِّيَ وَحَسُنَتْ حَالُهُ فَإِنَّ تِلْكَ الشَّهَادَةَ لَا تُقْبَلُ مِنْهُ؛ لِأَنَّ حَاكِمًا رَدَّهَا، وَكَذَلِكَ كُلُّ شَهَادَةٍ رَدَّهَا حَاكِمٌ لَا تُقْبَلُ بَعْدَ ذَلِكَ.
مَسْأَلَةٌ:
وَفِي الْوَاضِحَةِ أَيْضًا قَالَ ابْنُ حَبِيبٍ قَالَ ابْنُ الْمَاجِشُونِ وَأَصْبَغُ وَالْمَرْأَةُ يَقَعُ لَهَا مُورَثٌ فِي بَلَدٍ فَتُرِيدُ أَنْ تُوَكِّلَ عَلَى ذَلِكَ وَكِيلًا غَائِبًا عَنْ الْبَلَدِ يَقُومُ لَهَا فِي ذَلِكَ الْمُورَثِ، فَيَشْهَدُ لَهَا شُهُودٌ عِنْدَ الْقَاضِي الَّذِي مَعَهَا فِي الْبَلَدِ أَنَّهَا وَكَّلَتْ ذَلِكَ الْغَائِبَ، وَلَمْ تَحْضُرْ الْمَرْأَةُ وَلَا وَكِيلُهَا عَلَى الْقِيَامِ بِتَوْكِيلِ الْغَائِبِ، فَلَا نَرَى لِلْقَاضِي أَنْ يَكْتُبَ لَهَا بِذَلِكَ إلَى قَاضِي الْبَلَدِ الَّذِي فِيهِ الْمُورَثِ؛ لِأَنَّ شَهَادَتَهُمْ لَا تَجُوزُ هَكَذَا؛ لِأَنَّهُمْ صَارُوا شُهُودًا وَمُوَكَّلِينَ فِيمَا شَهِدُوا فِيهِ وَبِالْقِيَامِ بِهِ، كَأَنَّهُمْ شَهِدُوا؛ لِأَنْفُسِهِمْ فِي بَعْضِ شَهَادَتِهِمْ، فَلَا يَجُوزُ ذَلِكَ حَتَّى تَقُومَ الْمَرْأَةُ بِذَلِكَ عِنْدَ الْقَاضِي، وَيَشْهَدُ الشُّهُودُ عَلَى تَوْكِيلِهَا الْغَائِبَ وَتُقِيمُ أَحَدًا يَقُومُ لَهَا بِذَلِكَ عِنْدَ الْقَاضِي، وَلَا بَأْسَ أَنْ يَشْهَدَ لَهَا أُولَئِكَ الشُّهُودُ أَنَّهَا وَكَّلَتْ هَذَا بِالْقِيَامِ لَهَا بِتَوْكِيلِ الْغَائِبِ، فَإِنْ كَانَ الشُّهُودُ إنَّمَا يُؤَدُّونَ شَهَادَتَهُمْ عِنْدَ الْقَاضِي فَقَطْ وَلَا يُقَاضُونَهُ بِتَنْفِيذِ ذَلِكَ وَلَا يَسْأَلُونَهُ الْكِتَابَ لَهَا بِهِ، ثُمَّ يَكُونُ الْقَاضِي يَصْنَعُ فِي ذَلِكَ مَا رَأَى وَيُرْسِلُ إلَيْهَا أَنْ تُوَكِّلَ مَنْ يَقُومُ لَك عِنْدِي بِمَا شَهِدَ لَك بِهِ الشُّهُودُ وَمَا أَشْبَهَ هَذَا فَيَجُوزُ ذَلِكَ.
وَقَالَهُ ابْنُ الْقَاسِمِ وَبِهِ نَقُولُ، وَقَدْ سَمِعْت مُطَّرِفًا يَسْتَخِفُّ جَوَازَ شَهَادَتِهِمْ فِي ذَلِكَ عَلَى كُلِّ حَالٍ.
مَسْأَلَةٌ:
إذَا اشْتَمَلَتْ الشَّهَادَةُ عَلَى مَا فِيهِ تُهْمَةٌ وَمَا لَا تُهْمَةَ فِيهِ رُدَّتْ كُلُّهَا عَلَى الْمَشْهُورِ، قَالَ أَصَبْغُ فِيمَنْ أَعْتَقَ عَبْدَيْنِ ثُمَّ شَهِدَ الْعَبْدَانِ أَنَّ الْمُعْتِقَ غَصَبَهُمَا مِنْ فُلَانٍ وَغَصَبَ مَعَهُمَا مِائَةَ دِينَارٍ: فَإِنَّ شَهَادَتَهُمَا جَائِزَةٌ فِي الْمِائَةِ خَاصَّةً؛ لِأَنَّهُمَا يُتَّهَمَانِ عَلَى إرْقَاقِ أَنْفُسِهِمَا وَمِثْلُ ذَلِكَ شَهَادَةُ الْمَسْلُوبِينَ عَلَى الْمُحَارَبِينَ، قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: تُقْبَلُ فِي قَطْعِ الطَّرِيقِ دُونَ مَا ادَّعَوْهُ لِأَنْفُسِهِمْ مِنْ الْمَالِ إلَّا أَنْ يَقِلَّ جِدًّا فِيمَا لَا تُهْمَةَ فِيهِ.
وَفِي مُفِيدِ الْحُكَّامِ تَجُوزُ شَهَادَةُ الْمَسْلُوبِ لِغَيْرِهِ، وَقِيلَ تَجُوزُ لَهُ وَلِغَيْرِهِ فِيمَا قَلَّ، وَقِيلَ تَجُوزُ فِي الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ قَالَهُ مُطَّرِفٌ وَابْنُ حَبِيبٍ.
مَسْأَلَةٌ:
وَفِي مُفِيدِ الْحُكَّامِ قَالَ ابْنُ حَبِيبٍ: مَنْ أَنْكَرَ شَهَادَتَهُ ثُمَّ شَهِدَ فَلَا يَضُرُّهُ مِثْلَ أَنْ يَلْقَاهُ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ، فَيَسْأَلَهُ فَيَقُولَ لَهُ الشَّاهِدُ مَا أَشْهَدُ عَلَيْك بِشَيْءٍ وَلَا عِنْدِي عَلَيْك شَهَادَةٌ فَإِنَّهُ يَشْهَدُ وَلَا يَضُرُّهُ قَوْلُهُ، وَإِنْ كَانَتْ عَلَيْهِ بَيِّنَةٌ.
مَسْأَلَةٌ:
وَكَذَلِكَ لَوْ شَهِدَ عَلَيْهِ فَلَقِيَهُ فَقَالَ لَهُ مَا شَهِدْت بِهِ عَلَيْك فَأَنَا فِيهِ مُبْطِلٌ فَلَا يَضُرُّهُ هَذَا الْقَوْلُ، وَإِنْ كَانَتْ عَلَيْهِ بَيِّنَةٌ إلَّا أَنْ يَرْجِعَ عَنْ شَهَادَتِهِ رُجُوعًا بَيِّنًا يَقِفُ عَلَيْهِ وَلَا يُنْكِرُهُ وَلَوْ قَالَ مِثْلَ هَذَا عِنْدَ الْحَاكِمِ أَوْ عِنْدَ مَا طُلِبَ مِنْهُ أَنْ يَنْقُلَ شَهَادَتَهُ وَهُوَ مَرِيضٌ فَذَلِكَ إبْطَالٌ لَهَا.
وَقَالَ أَشْهَبُ وَمُطَرِّفٌ مِثْلَ ذَلِكَ وَبِهِ قَالَ ابْنُ الْمَاجِشُونِ وَأَصْبَغُ. وَأَمَّا إنْ قَالَ عِنْدَ الْحَاكِمِ مَا أَذْكُرُ أَمْرَ كَذَا أَوْ مَا عِنْدِي شَهَادَةٌ ثُمَّ رَجَعَ بَعْدَ ذَلِكَ وَتَذَكَّرَ، فَإِنْ كَانَ مُبْرِزًا قُبِلَ مِنْهُ الْحُكْمُ، وَأَمَّا بَعْدَهُ فَلَا إلَّا مَا زَعَمَ أَنَّهُ نَسِيَهُ كَمَنْ شَهِدَ بِثَلَاثِينَ دِينَارًا ثُمَّ ذَكَرَ بَعْدَ ذَلِكَ أَنَّهَا أَرْبَعُونَ فَيُقْبَلُ ذَلِكَ مِنْهُ.
مَسْأَلَةٌ:
وَفِي مُفِيدِ الْحُكَّامِ مِنْ مُنْتَقَى الْأَحْكَامِ. قَالَ ابْنُ حَبِيبٍ عَنْ ابْنِ الْقَاسِمِ: وَمَنْ سَمِعْته يَقُولُ: أَشْهَدُ لِفُلَانٍ عَلَى فُلَانٍ مِائَةُ دِينَارٍ وَلَمْ يُشْهِدْك فَاشْهَدْ بِمَا سَمِعْت إنْ كُنْت سَمِعْته يُؤَدِّيهَا عِنْدَ الْحَاكِمِ لِيَحْكُمَ بِهَا، وَإِلَّا فَلَا حَتَّى يُشْهِدَك إذْ لَعَلَّهُ لَوْ عَلِمَ أَنَّك تَنْقُلُهَا عَنْهُ لَزَادَ أَوْ نَقَصَ مَا يُنْقِصُهَا، وَإِنَّمَا تَشْهَدُ بِمَا سَمِعْت مِنْ قَذْفٍ وَعِتْقٍ وَطَلَاقٍ بِخِلَافِ الْحُقُوقِ؛ لِأَنَّهُ كَلَامٌ مُسْتَقْصًى، أَعْنِي الطَّلَاقَ وَالْعِتْقَ وَالْقَذْفَ.
مَسْأَلَةٌ:
قَالَ مُطَرِّفٌ: لَا تَشْهَدْ بِقَوْلِ الْقَاضِي ثَبَتَ عِنْدِي لِفُلَانٍ كَذَا حَتَّى يُشْهِدَك، وَإِلَّا فَلَيْسَتْ بِشَهَادَةٍ، قَالَ أَصَبْغُ وَلَا بِمَا سَمِعْت الشَّاهِدَ يُؤَدِّي عِنْدَهُ حَتَّى يُشْهِدَك عَلَى ذَلِكَ نَصًّا، أَوْ يُشْهِدَك الْقَاضِي عَلَى قَبُولِ شَهَادَتِهِ تَابَعَ مُطَرِّفٌ ابْنَ الْقَاسِمِ فِي هَذَا.
مَسْأَلَةٌ:
لَا يَلْزَمُ الْقَاضِيَ إذَا شَهِدَ عِنْدَهُ عُدُولٌ بِبَيْعٍ أَوْ شِرَاءٍ أَنْ يَسْأَلَهُمْ عَنْ صِفَةِ الْبَيْعِ حَتَّى يَعْرِفَ هَلْ هُوَ صَحِيحٌ أَوْ فَاسِدٌ؟ بَلْ يَكْتَفِي مِنْ شَهَادَتِهِمَا أَنَّ هَذَا بَاعَ مِنْ هَذَا دَارِهِ بَيْعًا صَحِيحًا، وَإِنْ كَانَ الْبَيْعُ يَتَنَوَّعُ إلَى صِحَّةٍ وَفَسَادٍ.
مَسْأَلَةٌ:
إذَا شَهِدَ الشَّاهِدُ فَكَذَّبَهُ الْمَشْهُودُ لَهُ فِي بَعْضِ مَا شَهِدَ لَهُ بِهِ، فَقَالَ ابْنُ كِنَانَةَ فِي ذَلِكَ: الَّذِي نَعْرِفُ مِنْ فُتْيَا مَنْ أَدْرَكْنَا مِنْ الشُّيُوخِ أَنَّ الْمَشْهُودَ لَهُ يَلْزَمُهُ مَا شَهِدَ بِهِ شَاهِدُهُ لَهُ، وَعَلَيْهِ إذَا كَانَ لَا يَصِلُ إلَى حَقِّهِ إلَّا بِشَهَادَتِهِ، وَيُقَالُ لِلْمَشْهُودِ لَهُ إنْ قُلْت صَدَقَ الشَّاهِدُ فَيَلْزَمُك مَا شَهِدَ بِهِ، وَإِنْ قُلْت كَذَبَ فِي الْبَعْضِ فَقَدْ جَرَحْته بِالْكَذِبِ فَلَا تُعْطَى بِشَهَادَتِهِ شَيْئًا.
تَنْبِيهٌ:
وَفِي الْوَثَائِقِ الْمَجْمُوعَةِ فِي رَسْمِ تَقْيِيدِ عَدَاوَةٍ لِيَكُونَ عِدَّةً. قَالَ وَرُوِيَ فِي الرَّجُلِ يَكُونُ عَدُوًّا لِلرَّجُلِ فَيَشْهَدُ لَهُ وَعَلَيْهِ بِشَهَادَةٍ، فَإِنْ كَانَتْ شَهَادَتُهُ لَهُ وَعَلَيْهِ فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ سَقَطَتَا؛ لِأَنَّهُ يُتَّهَمُ أَنْ يَكُونَ أَرَادَ تَجْوِيزَ شَهَادَتِهِ عَلَيْهِ بِشَهَادَتِهِ لَهُ، وَإِنْ كَانَتَا فِي وَقْتَيْنِ مُفْتَرِقَتَيْنِ جَازَتْ لَهُ وَلَمْ تَجُزْ عَلَيْهِ.
مَسْأَلَةٌ:
وَإِذَا شَهِدَ شُهُودٌ عَلَى شَهَادَةِ قَوْمٍ لَا يَعْرِفُونَهُمْ فَشَهَادَتُهُمْ مَرْدُودَةٌ، وَإِنْ كَانَ الْمَشْهُودُ عَلَى شَهَادَتِهِمْ عُدُولًا.
مَسْأَلَةٌ:
إذَا اشْتَمَلَتْ الشَّهَادَةُ عَلَى مَا تُجِيزُهُ السُّنَّةُ وَعَلَى مَا لَا تُجِيزُهُ فَالْمَشْهُورُ إجَازَةُ مَا أَجَازَتْهُ وَرَدُّ مَا لَمْ تُجِزْهُ، وَقِيلَ تُرَدُّ كُلُّهَا كَشَهَادَةِ النِّسَاءِ فِي الْوَصِيَّةِ إذَا كَانَ عِتْقٌ، وَأَبْضَاعُ النِّسَاءِ، وَكَذَلِكَ الشَّاهِدُ الْوَاحِدُ فِي وَصِيَّةٍ فِيهَا عِتْقٌ وَوَصِيَّةٍ لِمُعَيَّنٍ فَيَحْلِفُ مَعَ شَاهِدِهِ وَيَسْتَحِقُّ وَيُرَدُّ الْعِتْقُ عَلَى الْمَشْهُورِ وَقِيلَ تُرَدُّ كُلُّهَا.

.فَصْلٌ فِي الشَّهَادَةِ فِي الْغَيْبَةِ:

وَفِي أَحْكَامِ ابْنِ سَهْلٍ إذَا شَهِدَ الشُّهُودُ فِي الْغَيْبَةِ أَنَّهُ غَابَ مُنْذُ حِينٍ فَفِي أَحْكَامِ ابْنِ زِيَادٍ مِنْ كَلَامِ الْمُفْتِينَ نَظَرْنَا- وَفَّقَك اللَّهُ تَعَالَى- فِي شُهُودِ مَنْ شَهِدَ فِي غَيْبَةِ فُلَانٍ أَنَّهُ غَابَ مُنْذُ حِينٍ لَا يَدْرُونَ أَيْنَ هُوَ؟ فَهَذَا يَكُونُ كَالْمَفْقُودِ، قَالَهُ ابْنُ لُبَابَةَ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ يَحْيَى وَأَيُّوبُ بْنُ سُلَيْمَانَ وَابْنُ وَلِيدٍ وَغَيْرُهُمْ.
قَالَ ابْنُ سَهْلٍ هَذَا كَلَامٌ غَيْرُ مُسْتَبِينٍ؛ لِأَنَّ الْحِينَ قَدْ يَكُونُ سَاعَةً أَوْ شَهْرًا أَوْ سِنِينَ، فَحَصْرُهُ بِأَمَدٍ أَبْيَنُ وَأَقُومُ لِلشَّهَادَةِ وَوَقَعَ فِي مَسَائِلِ الْأَيْمَانِ أَنَّ الْحِينَ سَنَةٌ، وَوَقَعَ فِي مَسَائِلِ الطَّلَاقِ السَّنَتَيْنِ وَالثَّلَاثَ.
وَقَالَ بَعْضُهُمْ هُوَ سِتَّةُ أَشْهُرٍ، وَاسْتَدَلَّ عَلَى وُجُوهِ بَعْضِ الْأَقْوَالِ بِأَدِلَّةٍ مِنْ الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ فَانْظُرْهُ ثُمَّ قَالَ كَيْفَ تَصِحُّ الشَّهَادَةُ دُونَ بَيَانِ الْأَمَدِ وَذِكْرِ الْعَدَدِ لِمَا فِي هَذَا مِنْ النِّزَاعِ، فَهَذَا مِمَّا لَا تُسْمَعُ فِيهِ شَهَادَةٌ.

.فَصْلٌ فِي الشَّهَادَةِ فِي الْحُرِّيَّةِ:

مَسْأَلَةٌ:
وَفِي الطُّرَرِ لِابْنِ عَاتٍ لَوْ شَهِدَ الشُّهُودُ فِي الْحُرِّيَّةِ عَلَى الْعِلْمِ لَمْ تَجُزْ الشَّهَادَةُ، وَلَمْ تُوجِبْ حُكْمًا، وَلَا تَكُونُ الشَّهَادَةُ فِي ذَلِكَ إلَّا عَلَى الْبَتِّ، قَالَ ابْنُ عَاتٍ فِي آخِرِ مَسَائِلِ الْعِتْقِ وَانْظُرْ لَوْ شَهِدَ أَنَّهَا تَتَصَرَّفُ تَصَرُّفَ الْحَرَائِرِ، وَلَمْ يَشْهَدْ أَنَّهَا حُرَّةٌ، فَفِي الْأَوَّلِ مِنْ أَحْكَامِ ابْنِ سَهْلٍ أَنَّ بَيْنَ الشُّيُوخِ فِيهَا اخْتِلَافًا فَقَالَ ابْنُ عَتَّابٍ: الشَّهَادَةُ بِذَلِكَ عَامِلَةٌ وَالْحُرِّيَّةُ مَاضِيَةٌ.
وَقَالَ ابْنُ الْقَطَّانِ: الشَّهَادَةُ نَاقِصَةٌ غَيْرُ تَامَّةٍ.
وَقَالَ مَالِكٌ مِثْلَ قَوْلِ ابْنِ الْقَطَّانِ قَالَ وَالْآبِقُ يَتَصَرَّفُ تَصَرُّفَ الْأَحْرَارِ.

.فَصْلٌ فِي الشَّهَادَةِ فِي الْوَلَاءِ:

وَفِي الْمُقْنِعُ لِابْنِ بَطَّالٍ، وَإِذَا شَهِدَتْ الْبَيِّنَةُ أَنَّ هَذَا مَوْلَى جَدِّ هَذَا وَلَمْ يُحَدِّدُوا الْمَوَارِيثَ فَلَا يَحْتَاجُ هَا هُنَا إلَى أَنَّ الْجَدَّ مَاتَ وَوَرِثَهُ ابْنُهُ، وَأَنَّ الْأَبَ مَاتَ وَوَرِثَهُ هَذَا، وَلَكِنْ لابد أَنْ يَشْهَدُوا أَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ لِلْجَدِّ وَلَدًا ذَكَرًا غَيْرَ أَبِيهِ، وَإِنْ أَقَامَ بَيِّنَةً أَنَّهُ أَقْعَدَ النَّاسَ بِجَدِّهِ الْيَوْمَ وَقَدْ مَاتَ لَهُ مَوْلَى وَتَرَكَ مَالًا فَلَا تَنْفَعُهُ الشَّهَادَةُ حَتَّى يَقُولُوا أَنَّهُ أَقْعَدَ النَّاسَ مِنْ يَوْمِ مَاتَ الْمَوْلَى، وَكَثِيرٌ مِنْ هَذَا الْمَعْنَى فِي الْمُقْنِعِ.

.فَصْلٌ فِي الشَّهَادَةِ فِي الْغَصْبِ:

وَإِذَا شَهِدَتْ بَيِّنَةٌ عَلَى الْغَصْبِ لَمْ تَعْمَلْ شَهَادَتُهُمْ شَيْئًا إلَّا أَنْ يُعَيِّنُوا الْمِلْكَ الْمَغْصُوبَ أَوْ نَاحِيَةً مِنْ الْأَرْضِ يَكُونُ ذَلِكَ فِيهَا، مِنْ وَثَائِقِ ابْنِ الْقَاسِمِ الْجَزِيرِيِّ فِي عُقُودِ الِاسْتِحْقَاقِ.

.فَصْلٌ فِي الشَّهَادَاتِ فِي الْقَذْفِ وَالزِّنَا وَاللِّوَاطِ:

مَسْأَلَةٌ:
وَإِذَا شَهِدَتْ الْبَيِّنَةُ أَنَّ فُلَانًا افْتَرَى عَلَى فُلَانٍ أَوْ شَتَمَهُ أَوْ آذَاهُ أَوْ سَفَّهَهُ، فَلَا يَجُوزُ ذَلِكَ حَتَّى يَكْشِفُوا عَنْ حَقِيقَةِ ذَلِكَ إذْ قَدْ يَظُنُّونَ صِحَّةَ مَا قَالُوهُ وَهُوَ عَلَى خِلَافِ مَا ظَنُّوا وَقَالَهُ أَصَبْغُ، قَالَ أَصَبْغُ: إلَّا أَنْ تَفُوتَ الْبَيِّنَةُ وَلَا يَقْدِرُ عَلَى إعَادَتِهِمْ فَلْيُعَاقَبْ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ عَلَى أَحَقِّ مَا يَلْزَمُ فِي ذَلِكَ.
مَسْأَلَةٌ:
وَكَذَلِكَ الشَّهَادَةُ عَلَى الزِّنَا وَاللِّوَاطِ فَيَسْأَلُهُمْ الْحَاكِمُ وَيَسْتَفْسِرُهُمْ كَمَا يَسْأَلُهُمْ فِي السَّرِقَةِ إلَّا أَنْ يَكُونَ الشَّاهِدُ مُبْرِزًا عَالِمًا بِوُجُوهِ الشَّهَادَةِ، وَلَا يَسْأَلُهُمْ عَمَّا أَكَلُوا فِي ذَلِكَ الْمَجْلِسِ وَلَا عَنْ لِبَاسِهِمْ وَنَحْوِ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ التَّعْنِيتِ.
مَسْأَلَةٌ:
وَمِنْ الْمَجْمُوعَةِ قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ وَأَشْهَبُ وَعَبْدُ الْمَلِكِ: وَإِذَا سَأَلَ الْحَاكِمُ الشُّهُودَ عَنْ صِفَةِ الزِّنَا فَأَبَوْا وَلَمْ يَزِيدُوا عَلَى أَنْ يَشْهَدُوا عَلَيْهِ بِالزِّنَا فَلْتَرُدَّ شَهَادَتُهُمْ وَلْيُحَدُّوا، قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: لَا يُحَدُّ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ إلَّا بَعْدَ كَشْفِ الشَّهَادَةِ حَتَّى يَدُلَّ تَفْسِيرُهُمْ أَنَّهُ الزِّنَا وَيَقُولُوا مِثْلَ الْمِرْوَدِ فِي الْمُكْحُلَةِ، فَإِنْ اسْتَرَابَ الْقَاضِي مِنْ غَيْرِ عَدْلٍ سَأَلَهُ عَنْ غَيْرِ هَذَا مِمَّا يَرْجُو فِيهِ بَيَانًا مِنْ اخْتِلَافِ شَهَادَتِهِ.

.فَصْلٌ فِي الشَّهَادَةِ فِي السَّرِقَةِ:

وَإِذَا شَهِدَ الشُّهُودُ فِي السَّرِقَةِ فَلَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمْ مُجْمَلَةٌ، ولابد أَنْ يَسْأَلَ الْحَاكِمُ الشَّاهِدَيْنِ عَنْ السَّرِقَةِ مَا هِيَ؟ وَكَيْفَ أَخَذَهَا؟ وَمِنْ أَيْنَ أَخْرَجَهَا؟، وَإِلَى أَيْنَ أَخْرَجَهَا؟ فَإِنْ غَابَا قَبْلَ أَنْ يَسْأَلَهُمَا الْحَاكِمُ لَمْ يُقْطَعْ السَّارِقُ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ دُونَ النِّصَابِ أَوْ مِنْ غَيْرِ حِرْزٍ، فَإِنْ قَالَا: إنَّهَا مِمَّا يَجِبُ فِيهِ الْقَطْعُ وَغَابَا قَبْلَ أَنْ يَسْأَلَهُمَا لَمْ يُقْطَعْ إلَّا أَنْ يَكُونَا مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَمَذْهَبُهُمَا مَذْهَبُ الْحَاكِمِ.
فَصْلٌ مِنْ نَوْعِ مَا تَقَدَّمَ وَفِي وَثَائِقِ الْغَرْنَاطِيِّ لَا تُقْبَلُ الشَّهَادَةُ مُجْمَلَةً فِي تَرْشِيدٍ أَوْ تَسْفِيهٍ أَوْ مَالِكٍ أَوْ غَبْنٍ أَوْ تَجْرِيحٍ أَوْ تَعْدِيلٍ أَوْ تَوْلِيجٍ إلَّا مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَأَمَّا مِنْ غَيْرِهِمْ فَلَا تُقْبَلُ الشَّهَادَةُ إلَّا مُفَسَّرَةً، وَكَذَا فِي الْكُفْرِ لِاخْتِلَافِ النَّاسِ فِي الْأَلْفَاظِ الَّتِي يَكْفُرُ بِهَا.
نَوْعٌ مِنْهُ: وَإِذَا قَالَ الشُّهُودُ نَشْهَدُ عَلَى فُلَانَةَ بِنْتِ فُلَانٍ الْبِكْرِ الْمُعَنَّسِ بِكَذَا، فَإِنَّهُ يَحْتَاجُ أَنْ تَكُونَ الشُّهُودُ بِذَلِكَ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ بِحَدِّ التَّعْنِيسِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ كُلُّ الشُّهَدَاءِ يَعْرِفُونَ ذَلِكَ.

.فَصْلٌ فِي الشَّهَادَةِ عَلَى التَّرْشِيدِ:

وَفِي أَحْكَامِ ابْنِ سَهْلٍ قَالَ وَفِي كِتَابِ ابْنِ الْمَوَّازِ لَا تَجُوزُ شَهَادَةُ رَجُلَيْنِ فَقَطْ فِي تَرْشِيدِ السَّفِيهِ حَتَّى يَكُونَ ذَلِكَ فَاشِيًا قَالَهُ أَصَبْغُ، وَتَجُوزُ فِي فُشُوِّ ذَلِكَ شَهَادَةُ النِّسَاءِ وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي شَهَادَتِهِنَّ فِيهِ.
وَفِي الْأَحْكَامِ لِابْنِ حَبِيبٍ سَمِعْت أَصَبْغَ يَقُولُ: لَا أَرَى أَنْ يَخْرُجَ الْمَوْلَى عَلَيْهِ مِنْ وِلَايَتِهِ وَلَا أَنْ يَجُوزَ لِلْبِكْرِ تَصَرُّفٌ فِي مَالِهَا، وَإِنْ عَنَّسَتْ إلَّا بِشَهَادَةِ عَدْلَيْنِ أَنَّ نَظَرَهُمَا فِي أَمْوَالِهِمَا حَسَنٌ، وَيَكُونُ ذَلِكَ مَعَ شَهَادَتِهِمَا فَاشِيًا غَالِبًا، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ فَلَا أَرَى أَنْ تُدْفَعَ إلَيْهِمَا أَمْوَالُهُمَا بِشَهَادَتِهِمَا.
وَفِي تَفْسِيرِ ابْنِ مُزَيْنٍ قَالَ عِيسَى فِي قَوْلِ مَالِكٍ: لَيْسَ لِلْبِكْرِ جَوَازٌ فِي مَالِهَا حَتَّى تَدْخُلَ بَيْتَهَا وَيُعْرَفُ الرُّشْدُ مِنْ حَالِهَا وَهُوَ أَنْ يَشْهَدَ الْعُدُولُ مِنْ أَهْلِ الِاخْتِبَارِ أَنَّهَا صَحِيحَةُ الْعَقْلِ حَسَنَةُ النَّظَرِ فِي مَالِهَا مُصْلِحَةٌ لَهُ حَابِسَتُهُ عَلَى نَفْسِهَا.
وَلَا يَكُونُ هَذَا بِشَهِيدِينَ حَتَّى يَشْهَدَ لَهَا مَلَأٌ مِنْ النَّاسِ وَيُعْرَفُ ذَلِكَ مِنْهَا وَيُشْتَهَرُ، فَإِذَا كَانَ ذَلِكَ جَازَ أَمْرُهَا، وَإِنْ كَانَتْ حَدِيثَةَ السِّنِّ، وَلَا يُنْتَظَرُ بِهَا سَنَةً بَعْدَ الْبِنَاءِ، وَلَا أُحِبُّ لِلْقَاضِي أَنْ يَدْفَعَ إلَيْهَا وَلَا إلَى الْمَوْلَى عَلَيْهِ مَالَهُمَا، وَلَا يُخْرِجُهُمَا مِنْ وِلَايَةِ مَنْ يَنْظُرُ لَهُمَا حَتَّى يَشْهَدَ عِنْدَهُ عَلَى مَا وَصَفْنَاهُ مِنْ أَمْرِهِمَا جَمَاعَةٌ مِنْ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ، أَوْ الرِّجَالِ دُونَ النِّسَاءِ، وَيَكُونُ أَمْرُهُمَا فَاشِيًا، وَلَا تُقْبَلُ فِيهِ شَهَادَةُ النِّسَاءِ دُونَ الرِّجَالِ وَلَا يُكْتَفَى فِيهِ بِرَجُلَيْنِ حَتَّى يَكُونَ مَعَهُمَا سَمَاعٌ فَاشٍ يُعْرَفُ بِهِ حُسْنُ حَالِهِمَا وَرَأْيُهُمَا فِي أَنْفُسِهِمَا، وَإِصْلَاحُهُمَا بِمَالِهِمَا. وَرَوَى يَحْيَى بْنُ يَحْيَى عَنْ ابْنِ نَافِعٍ مِثْلَهُ، قَالَ مُطَرِّفٌ: وَلَا يَجُوزُ فِي هَذِهِ إلَّا شَهَادَةُ الْأَقَارِبِ وَالْجِيرَانِ، وَمَنْ يُرَى أَنَّهُمْ يَعْلَمُونَ ذَلِكَ، وَبِهِ كَانَتْ تَعْمَلُ قُضَاتُنَا بِالْمَدِينَةِ.
وَقَالَ ابْنُ مُزَيْنٍ وَقَالَ لِي أَصَبْغُ تَجُوزُ فِيهِ شَهَادَةُ الْأَبَاعِدِ، إذَا لَمْ يَقُمْ الْأَقَارِبُ وَيُنْكِرُوا شَهَادَةَ الْأَبَاعِدِ.
فَرْعٌ:
قَالَ أَصَبْغُ: وَإِنْ عَجَزَ السَّفِيهُ عَنْ أَكْثَرَ مِنْ شَهِيدِينَ، لَمْ أَرَ أَنْ يُمْنَعَ مِنْ أَخْذِ مَالِهِ.
وَفِي وَثَائِقِ الْجَزِيرِيِّ، أَنَّ شُهُودَ التَّرْشِيدِ تَجِبُ فِيهِمْ الْكَثْرَةُ، وَأَقَلُّهُمْ عَلَى قَوْلِ ابْنِ الْمَاجِشُونِ أَرْبَعَةٌ، وَكَذَلِكَ فِي التَّسْفِيهِ وَفِي الِاسْتِرْعَاءَاتِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ الشَّهَادَةَ فِي التَّرْشِيدِ وَالسَّفَهِ لَا تُقْبَلُ مُجْمَلَةً ولابد أَنْ تَكُونَ مُفَسَّرَةً.

.فَصْلٌ فِي الشَّهَادَةِ فِي التَّعْدِيلِ وَالتَّجْرِيحِ:

وَفِي تَنْبِيهِ الْحُكَّامِ عَنْ مَأْخَذِ الْأَحْكَامِ، قَالَ وَلِقَبُولِ الشَّهَادَةِ فِي النَّقْلِ ثَلَاثَةُ شُرُوطٍ:
أَحَدُهُا: فِي شَهَادَةِ التَّعْدِيلِ.
الثَّانِي: فِي الْمُخَالَطَةِ الْمُبِيحَةِ لِلتَّعْدِيلِ.
الثَّالِثُ: فِي الْوَصْفِ الْكَافِي فِي التَّعْدِيلِ.
فَأَمَّا شَاهِدُ التَّعْدِيلِ، فَالْمُبَرِّزُ النَّاقِدُ الْفَطِنُ الَّذِي لَا يُخْدَعُ فِي عَقْلِهِ وَلَا يَخْفَى عَلَيْهِ شُرُوطُ التَّعْدِيلِ، وَلَا تُقْبَلُ التَّزْكِيَةُ مِنْ الْأَبْلَهِ وَالْجَاهِلِ بِوَجْهِ الْعَدَالَةِ، وَإِنْ كَانَ فِي نَفْسِهِ عَدْلًا مَقْبُولًا فِي غَيْرِ ذَلِكَ، وَلَا يُقْبَلُ تَعْدِيلُ مَنْ يَرَى تَعْدِيلَ كُلِّ مُسْلِمٍ بِمُجَرَّدِ الْإِسْلَامِ، وَأَمَّا الْمُخَالَطَةُ الْمُبِيحَةُ لِلتَّعْدِيلِ فَأَنْ يَتَكَرَّرَ اخْتِبَارُهُ لَهُ، وَتَطُولَ مُخَالَطَتُهُ إيَّاهُ، وَلَا يَقْنَعُ فِي ذَلِكَ بِالْيَسِيرِ؛ لِأَنَّهُ يَحْتَاجُ إلَى مَعْرِفَةٍ ظَاهِرَةٍ وَبَاطِنَةٍ، وَذَلِكَ لَا يُدْرَكُ إلَّا مَعَ الْمُطَاوَلَةِ، فَإِنَّ مِنْ شَأْنِ النَّاسِ تَزْيِينَ الظَّوَاهِرِ وَكِتْمَانَ الْعُيُوبِ، وَمَعْنَى مَعْرِفَةِ بَاطِنِهِ أَنْ يَعْلَمَ الْغَائِبَ مِنْ بَاطِنِهِ الَّذِي يَصِحُّ لَهُ بِهِ الْحُكْمُ عَلَيْهِ، وَأَمَّا الْقَطْعُ عَلَى ذَلِكَ فَمِنْ الْغَيْبِ.
مَسْأَلَةٌ:
وَفِي الْمُتَيْطِيَّةِ شُهُودُ التَّزْكِيَةِ بِخِلَافِ شُهُودِ الْحُقُوقِ، قَالَ مَالِكٌ: قَدْ تَجُوزُ شَهَادَةُ الرَّجُلِ، وَلَا يَجُوزُ تَعْدِيلُهُ، وَلَا يَجُوزُ إلَّا تَعْدِيلُ الْعَارِفِ.
وَقَالَ سَحْنُونٌ: لَا يُقْبَلُ فِي التَّزْكِيَةِ إلَّا الْعَدْلُ الْمُبَرِّزُ الْفَطِنُ الَّذِي لَا يُخْدَعُ فِي عَقْلِهِ وَلَا يُسْتَنْزَلُ فِي رَأْيِهِ، وَعَلَى هَذَا أَكْثَرُ أَصْحَابِ مَالِكٍ وَبِهِ جَرَى الْعَمَلُ. وَرُوِيَ عَنْهُ أَيْضًا: أَنَّ شُهُودَ التَّزْكِيَةِ كَشُهُودِ سَائِرِ الْحُقُوقِ.
مَسْأَلَةٌ:
وَفِي الْمُقَدِّمَاتِ الشَّاهِدُ الَّذِي ثَبَتَ عَلَيْهِ جُرْحَةٌ قَدِيمَةٌ أَوْ يَعْلَمُهَا الْحَاكِمُ فِيهِ، لَا تَجُوزُ الشَّهَادَةُ بِتَزْكِيَتِهِ مُطْلَقًا، وَإِنَّمَا تُقْبَلُ مِمَّنْ عَلِمَ بِجُرْحَتِهِ ثُمَّ شَهِدَ عَلَى تَوْبَتِهِ مِنْهَا وَنَزْعِهِ عَنْهَا وَحِينَئِذٍ يُزَكِّيهِ.
فَرْعٌ:
وَكَذَلِكَ الْمَحْدُودُ وَالْمَقْذُوفُ بِمَنْزِلَتِهِ لَا تَجُوزُ تَزْكِيَتُهُ عَلَى الْإِطْلَاقِ، وَإِنَّمَا تَجُوزُ بِمَعْرِفَةٍ تَزَيُّدِهِ فِي الْخَيْرِ.
تَنْبِيهٌ:
تَعْدِيلُ الْأَبِ ابْنَهُ أَوْ الِابْنُ أَبَاهُ لَا يَجُوزُ عِنْدَ وَاحِدٍ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ، وَإِنْ كَانَ الْمُعَدِّلُ مُبَرِّزًا لِابْنِ الْمَاجِشُونِ، فَإِنَّهُ قَالَ: إذَا كَانَ قِيَامُهُ لِغَيْرِ التَّعْدِيلِ وَلَمْ يَقْصِدْ إلَّا إحْيَاءَ الشَّهَادَةِ، فَلَا بَأْسَ أَنْ يَصِفَهُ بِاَلَّذِي تَتِمُّ بِهِ شَهَادَتُهُ مِنْ عَدَالَتِهِ مِنْ الْبَيَانِ.
مَسْأَلَةٌ:
قَالَ الْمَازِرِيُّ فِي الشَّاهِدِ الَّذِي لَمْ تَثْبُتْ عَدَالَتُهُ وَلَا جُرْحَتُهُ يَشْهَدُ فِيمَا سِوَى الْحُدُودِ: مَذْهَبُ مَالِكٍ، أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْقَاضِي الْبَحْثُ عَنْ حَالِهِ وَلَا يَحْمِلُهُ عَلَى فِسْقٍ وَلَا عَلَى عَدَالَةٍ حَتَّى تَنْكَشِفَ لَهُ إحْدَى الْحَالَتَيْنِ.
مَسْأَلَةٌ:
لَا يُزَكَّى الشَّاهِدُ إذَا لَمْ يَعْرِفْهُ الْقَاضِي إلَّا عَلَى عَيْنِهِ، وَلَيْسَ عَلَى الْقَاضِي أَنْ يَسْأَلَ الْمُزَكِّيَ عَنْ تَفْسِيرِ الْعَدَالَةِ: إذَا كَانَ عَالِمًا بِوُجُوهِهَا، وَلَا عَنْ الْجُرْحَةِ إذَا كَانَ عَالِمًا بِهَا.

.فَصْلٌ عَدَدُ مَنْ يُقْبَلُ فِي تَزْكِيَةِ الْعَلَانِيَةِ:

فَصْلٍ: وَأَمَّا عَدَدُ مَنْ يُقْبَلُ فِي تَزْكِيَةِ الْعَلَانِيَةِ، فَقِيلَ يُجْزِئُ فِي ذَلِكَ عَدْلَانِ وَهُوَ الْمَشْهُورُ، وَقِيلَ لابد مِنْ ثَلَاثَةٍ وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ ابْنِ كِنَانَةَ، وَعَنْ ابْنِ الْمَاجِشُونِ أَنَّ أَقَلَّ مَا يُزَكِّي الرَّجُلَ أَرْبَعَةُ شُهُودٍ.
وَقَالَ ابْنُ حَبِيبٍ: فِي الْوَاضِحَةِ وَالتَّزْكِيَةُ تَخْتَلِفُ، فَتَكُونُ بِالْوَاحِدِ وَالِاثْنَيْنِ وَالْجَمَاعَةِ بِقَدْرِ مَا يَظْهَرُ لِلْحَاكِمِ وَيَتَأَكَّدُ عِنْدَهُ. قَالَ الْمُتَيْطِيُّ: وَمَا كَثُرَ مِنْ الشُّهُودِ فَهُوَ أَحْسَنُ، إلَّا أَنْ تَكُونَ التَّزْكِيَةُ فِي شَاهِدٍ شَهِدَ بِزِنًا، فَإِنَّ مُطَرِّفًا رَوَى عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ لَا يُزَكِّيهِ إلَّا أَرْبَعَةٌ.
وَقَالَ سَحْنُونٌ: اخْتَلَفَ فِي ذَلِكَ قَوْلُ مَالِكٍ، فَمَرَّةً اسْتَحَبَّ أَنْ لَا يَجْتَزِئَ بِقَوْلِ وَاحِدٍ، وَرُوِيَ عَنْهُ: أَنَّهُ أَجَازَهُ، وَاَلَّذِي جَرَى بِهِ الْقَضَاءُ أَنَّهُ لَا يَجْتَزِئُ بِقَوْلِ وَاحِدٍ، مَخَافَةَ أَنْ يَكُونَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الشَّاهِدِ عَدَاوَةٌ، قَالَهُ الْمُتَيْطِيُّ.
وَقَالَ أَيْضًا وَاسْتُحْسِنَ إذَا ثَبَتَتْ الْعَدَالَةُ بِاثْنَيْنِ أَنْ يَزِيدَ فِي الْبَحْثِ وَالْكَشْفِ فَلَا يَزِيدُهُ ذَلِكَ إلَّا خَيْرًا.
فَرْعٌ:
وَلَا يَكْتَفِي الْقَاضِي بِتَعْدِيلِ الْعَلَانِيَةِ دُونَ تَعْدِيلِ السِّرِّ، وَلَهُ أَنْ يَكْتَفِيَ بِتَعْدِيلِ السِّرِّ دُونَ تَعْدِيلِ الْعَلَانِيَةِ. قَالَ بَعْضُ الشُّيُوخِ. وَمَعْنَاهُ فِي الِاخْتِيَارِ دُونَ اللُّزُومِ عَلَى مَا فِي الْمُدَوَّنَةِ وَغَيْرِهَا.
فَرْعٌ:
وَلَا تُقْبَلُ تَزْكِيَةُ النِّسَاءِ لَا فِي حَقِّ الرِّجَالِ وَلَا فِي حَقِّ النِّسَاءِ. قَالَ ابْنُ رُشْدٍ: إنَّ التَّزْكِيَةَ يُشْتَرَطُ فِيهَا التَّبْرِيزُ فِي الْعَدَالَةِ، وَهِيَ صِفَةٌ تَخْتَصُّ بِالرِّجَالِ، قَالَ وَقَدْ قِيلَ: إنَّهُنَّ يُزَكِّينَ الرِّجَالَ إذَا شَهِدُوا فِيمَا تَجُوزُ شَهَادَتُهُنَّ فِيهِ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنُ نَافِعٍ وَابْنُ الْمَاجِشُونِ فِي الْمَبْسُوطَةِ، وَالْقِيَاسُ جَوَازُ تَزْكِيَتِهِنَّ لِلنِّسَاءِ اُنْظُرْ الْبَيَانَ.
تَنْبِيهٌ:
تَعْدِيلُ السِّرِّ يُفَارِقُ تَعْدِيلَ الْعَلَانِيَةِ مِنْ وَجْهَيْنِ. أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَا يَجُوزُ إعْذَارٌ فِي تَعْدِيلِ السِّرِّ إلَى الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ، وَيُعْذَرُ إلَيْهِ فِي تَعْدِيلِ الْعَلَانِيَةِ.
الثَّانِي: أَنَّهُ يُجْتَزَأُ فِي تَعْدِيلِ السِّرِّ بِالشَّاهِدِ الْوَاحِدِ، وَإِنْ كَانَ الِاخْتِيَارُ اثْنَيْنِ بِخِلَافِ تَعْدِيلِ الْعَلَانِيَةِ فِي الْوَجْهَيْنِ، يَعْنِي الْإِعْذَارَ وَعَدَمَ الِاكْتِفَاءِ بِالْوَاحِدِ.

.فَصْلٌ إذَا كَتَبَ الشُّهُودُ شَهَادَتَهُمْ فِي عَقْدِ التَّزْكِيَةِ وَشَهِدُوا بِهَا:

فَصْلٌ: فَإِذَا كَتَبَ الشُّهُودُ شَهَادَتَهُمْ فِي عَقْدِ التَّزْكِيَةِ، وَشَهِدُوا بِهَا عِنْدَ الْقَاضِي عَلَى عَيْنِ الْمُزَكَّى فِيهِ، كَتَبَ عَلَى شَهَادَةِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ شَهِدَ عِنْدِي عَلَى عَيْنِهِ؛ لِأَنَّ التَّعْدِيلَ لَا يَكُونُ إلَّا عَلَى الْعَيْنِ فِي مَجْلِسِ الْقَاضِي، إلَّا أَنْ يَكُونَ الْعَدْلُ مَشْهُورَ الْعَيْنِ فِي الْبَلَدِ لَا يَشْتَبِهُ بِغَيْرِهِ فَلَا بَأْسَ بِتَعْدِيلِهِ غَائِبًا.
تَنْبِيهٌ:
قَالَ الْمَازِرِيُّ: وَأَمَّا الْبَعِيدُ الْغَيْبَةِ فَيَسْمَعُ التَّزْكِيَةَ فِيهِ، وَيَقْبَلُ كَمَا يَحْكُمُ عَلَيْهِ إذَا كَانَ غَائِبًا.

.فَصْلٌ فِي صِفَةِ شَهَادَةِ التَّعْدِيلِ:

وَالتَّعْدِيلُ التَّامُّ عِنْدَ مَالِكٍ، وَأَصْحَابِهِ، وَهُوَ الَّذِي جَرَى بِهِ الْعَمَلُ أَنْ يَقُولَ: هُوَ عَدْلٌ رِضًا، قَالَ مَالِكٌ: لَيْسَ عَلَيْهِ أَنْ يَقُولَ لَا أَعْلَمُ إلَّا خَيْرًا، وَلَوْ قَالَ نِعْمَ الْعَبْدُ، أَوْ قَالَ هُوَ مِمَّنْ يَجِبُ أَنْ تُقْبَلَ شَهَادَتُهُ، وَلَمْ يَزِدْ عَلَى ذَلِكَ كَانَ تَعْدِيلًا إذَا كَانَ الْمُعَدِّلُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ، فَإِنْ كَانَ مِنْ غَيْرِ أَهْلِ الْعِلْمِ لَمْ يَنْفُذْ تَعْدِيلُهُ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَقُولَ هُوَ عَدْلٌ رِضًا فِي عِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى، وَلَا أَنْ يَقُولَ أَرْضَاهُ لِي، وَعَلَيَّ وَرَوَاهُ أَشْهَبُ وَابْنُ لُبَابَةَ، عَنْ مَالِكٍ وَبِهِ قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ وَسَحْنُونٌ، وَلَا لَهُ أَنْ يَقُولَ لَا أَعْلَمُهُ إلَّا عَدْلًا رِضًا. قَالَ سَحْنُونٌ وَلَا أَنْ يَقُولَ هُوَ صَالِحٌ.
وَقَالَهُ ابْنُ الْمَوَّازِ.
وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ نَصْرٍ الدَّاوُدِيُّ: هُوَ تَعْدِيلٌ.
فَرْعٌ:
قَالَ أَصَبْغُ وَلَا أُحِبُّ أَنْ يَقُولَ هُوَ عَدْلٌ، وَلَكِنْ يَقُولُ أَرَاهُ عَدْلًا، قَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ: كُلُّ لَفْظٍ عُبِّرَ بِهِ عَنْ عَدْلٍ رِضًا فَإِنَّهُ يُجْزِئُهُ.
فَرْعٌ:
فَإِنْ اقْتَصَرَ عَلَى أَحَدِ الْكَلِمَتَيْنِ فَفِي الْجَلَّابِ رِوَايَةٌ أَنَّهُ لَا تَجُوزُ إلَّا بِاجْتِمَاعِهِمَا.
وَقَالَ سَحْنُونٌ: إنْ اقْتَصَرَ عَلَى عَدْلٍ أَجْزَأَهُ.
وَقَالَهُ غَيْرُهُ، وَاحْتَجَّ بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق: 2]، وَأَجَازَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْ الْعُلَمَاءِ الِاقْتِصَارَ عَلَى رِضًا؛ لِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} [البقرة: 282].
وَقَالَ أَبُو عُمَرَ بْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي الْكَافِي تَحْصِيلُ مَذْهَبِ مَالِكٍ، أَنَّهُ لَا يَجْتَزِئُ بِأَحَدِ الْوَصْفَيْنِ عَنْ الْآخَرِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّهُ رِوَايَةُ ابْنِ الْجَلَّابِ عَنْ مَالِكٍ أَيْضًا: أَنَّ حَدَّ الْوَصْفَيْنِ تَعْدِيلٌ قَالَ وَهُوَ الصَّوَابُ، وَاَلَّذِي جَرَى بِهِ الْعَمَلُ وَالْقَضَاءُ مَا قَدَّمْنَاهُ. تَنْبِيهٌ:
وَمَعْنَى رِضًا هُوَ الَّذِي لَا يُخْدَعُ، وَلَا يُلَبَّسُ عَلَيْهِ، وَلَا يُطْمَعُ فِي غَفْلَتِهِ، وَلَا خُدْعَتِهِ.
فَرْعٌ:
وَاسْتَحْسَنَ بَعْضُهُمْ أَنْ يُضِيفَ إلَى عَدْلٍ رِضًا مَنْ تَجُوزُ شَهَادَتُهُ وَيُقْضَى بِهَا، قَالَ الْمُتَيْطِيُّ وَهُوَ زِيَادَةٌ حَسَنَةٌ، فَلَوْ اقْتَصَرَ عَلَيْهَا دُونَ عَدْلٍ رِضًا، فَإِنَّهَا لَا تُقْبَلُ إلَّا مِنْ الْعَالِمِ كَمَا تَقَدَّمَ.

.فَصْلٌ التَّزْكِيَةِ قَبْلَ الشَّهَادَةِ:

فَصْلٌ: مَنَعَ مُطَرِّفٌ وَابْنُ الْمَاجِشُونِ مِنْ التَّزْكِيَةِ قَبْلَ الشَّهَادَةِ، وَمِنْ الشَّهَادَةِ عَلَى الشَّهَادَةِ بِالتَّعْدِيلِ، إلَّا أَنْ يَشْهَدَ رَجُلٌ عَلَى شَهَادَةِ رَجُلٍ غَائِبٍ وَمَيِّتٍ، وَيُزَكِّيهِ مَعَ ذَلِكَ.
وَقَالَ هُوَ الَّذِي لَا نَعْلَمُ خِلَافَهُ مِنْ قَوْلِ مَالِكٍ وَعَلَيْهِ أَهْلُ الْمَدِينَةِ، وَأَجَازَ سَحْنُونٌ أَنْ يَشْهَدَ رَجُلٌ عِنْدَ الْقَاضِي أَنَّ فُلَانًا وَفُلَانًا الْغَائِبَيْنِ أَوْ الْمَيِّتَيْنِ، أَشْهَدَهُمَا عَلَى تَعْدِيلِ فُلَانٍ الَّذِي يَشْهَدُ الْآنَ فِي حَقٍّ وَهُوَ عِنْدَهُ تَعْدِيلٌ كَامِلٌ.
فَرْعٌ:
قَالَ الْمُتَيْطِيُّ: زَادَ فِي الْعُتْبِيَّةِ قِيلَ لَهُ فِي التَّجْرِيحِ أَتَجُوزُ فِيهِ الشَّهَادَةُ عَلَى الشَّهَادَةِ عَلَى مَا وُصِفْتُ لَك فِي الْعَدَالَةِ فِي غَيْبَةِ الشُّهُودِ أَوْ مَرَضِهِمْ؟ قَالَ: نَعَمْ ذَلِكَ جَائِزٌ، وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ سَحْنُونٍ أَنَّ أَبَاهُ رَجَعَ عَنْ الشَّهَادَةِ عَلَى الشُّهُودِ فِي الْعَدَالَةِ وَالتَّجْرِيحِ إلَّا فِي تَعْدِيلِ الْبَدْوِيِّ فَذَلِكَ جَائِزٌ، قَالَ بَعْضُ الشُّيُوخِ: وَمَا رَجَعَ إلَيْهِ سَحْنُونٌ هُوَ قَوْلُ ابْنِ الْمَاجِشُونِ فِي الْوَاضِحَةِ وَهُوَ الصَّوَابُ؛ لِأَنَّ التَّعْدِيلَ لَا يَكُونُ إلَّا بَعْدَ الشَّهَادَةِ وَلَوْ جَازَ قَبْلَ الشَّهَادَةِ لَجَازَتْ شَهَادَةُ غَيْرِ الْعَدْلِ؛ لِأَنَّ النَّاسَ قَدْ تَتَغَيَّرُ أَحْوَالُهُمْ، وَإِنَّمَا يُعَدَّلُونَ بَعْدَ الشَّهَادَةِ.
فَرْعٌ:
وَلَا يُزَكِّي الشَّاهِدُ مَنْ شَهِدَ مَعَهُ وَلَا مَنْ نَقَلَ مَعَهُ شَهَادَتَهُ فِي ذَلِكَ الْحَقِّ، وَأَجَازَ سَحْنُونٌ إذَا شَهِدَتْ طَائِفَةٌ بَعْدَ ذَلِكَ، أَنْ تُزَكِّيَ كُلُّ طَائِفَةٍ صَاحِبَتَهَا وَهُوَ عِنْدَهُ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ شَهِدَتَا فِي حَقَّيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ، وَرُوِيَ عَنْهُ: أَنَّ ذَلِكَ لَا يَجُوزُ وَلَوْ شَهِدَتَا فِي حَقَّيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ.
فَرْعٌ:
وَإِذَا زَكَّى الشَّاهِدُ رَجُلًا فِي حَقٍّ ثُمَّ شَهِدَ ذَلِكَ الْمُزَكَّى عَلَى الشَّاهِدِ مَضَتْ شَهَادَتُهُ دُونَ افْتِقَارِ التَّزْكِيَةِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ زَكَّاهُ أَوَّلًا حَكَاهُ صَاحِبُ الطُّرَرِ عَنْ ابْنِ كِنَانَةَ.

.فَصْلٌ فِي صِفَةِ تَعْدِيلِ السِّرِّ:

وَفِي مُخْتَصَرِ الْوَاضِحَةِ، وَتَعْدِيلُ السِّرِّ أَنْ يَتَّخِذَ الْحَاكِمُ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ الْعَدْلِ وَالرِّضَا مُجْمَعًا عَلَيْهِ بِذَلِكَ، فَيُوَلِّيهِ الْمَسْأَلَةَ عَنْ الشُّهُودِ سِرًّا فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ، وَلَا يُشْهِرُهُ لِئَلَّا يَصِيرَ حَكَمًا مِثْلَهُ، فَيَسْأَلُ ذَلِكَ الرَّجُلُ عَنْ الشَّاهِدِ مَنْ يَثِقُ بِهِ مِنْ أَهْلِ مَسْجِدِهِ، وَأَهْلِ مَحَلَّتِهِ، وَلَا يَنْبَغِي لِذَلِكَ الرَّجُلِ أَنْ يَقْتَصِرَ عَلَى سُؤَالٍ وَاحِدٍ، خِيفَةَ أَنْ يَكُونَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الشَّاهِدِ ضَغَنٌ، وَلَكِنْ يَسْأَلُ الِاثْنَيْنِ وَالثَّلَاثَةَ، وَيَسْتَسِرُّ بِذَلِكَ وَلَا يَنْقُلُ لِلْحَاكِمِ إلَّا مَا اتَّفَقَ عَلَيْهِ عَدْلَانِ فَأَكْثَرُ، فَيَنْبَغِي لِلْحَاكِمِ إذَا وَثِقَ بِعَدَالَةِ الرَّجُلِ وَصَلَاحِهِ وَمَعْرِفَتِهِ بِأَهْلِ مَكَانِهِ، وَبِوُجُوهِ الْعَدَالَةِ أَنْ يَسْأَلَهُ عَنْ النَّاسِ فَيُعَرِّفَهُ مَنْ تُجْهَلُ عَدَالَتُهُ أَوْ جُرْحَتُهُ، فَهَذَا كُلُّهُ مِنْ تَعْدِيلِ السِّرِّ.

.فَصْلٌ صِفَةُ الشَّهَادَةِ عَلَى التَّجْرِيحِ:

فَصْلٌ: وَأَمَّا صِفَةُ الشَّهَادَةِ عَلَى التَّجْرِيحِ، فَيَكْفِي أَنْ يَقُولَ هُوَ عِنْدَنَا مَجْرُوحٌ، وَمِثْلُهُ لَا تَجُوزُ شَهَادَتُهُ، وَلَيْسَ عَلَى الْمُجَرِّحِينَ أَنْ يَكْشِفُوا التَّجْرِيحَ إذَا كَانُوا مِمَّنْ يَعْرِفُ وَجْهَ التَّجْرِيحِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ مِنْ فُصُولِ الْأَعْذَارِ ذِكْرُ مَا يُسْمَعُ مِنْ التَّجْرِيحِ وَمَا لَا يُسْمَعُ.
فَرْعٌ:
وَالْوَاحِدُ يُجَرِّحُ وَذَلِكَ إذَا كَانَ ذَلِكَ بِمَسْأَلَةِ الْقَاضِي وَكَانَ عَدْلًا، قَالَهُ ابْنُ الْقَاسِمِ، وَكَذَلِكَ يَجُوزُ التَّجْرِيحُ إذَا كَانَ بِمَجْلِسِ الْقَاضِي.
فَرْعٌ:
قَالَ ابْنُ عَتَّابٍ الَّذِي أَحَاطَ بِهِ الْعِلْمُ وَجَرَى بِهِ الْحُكْمُ فِي التَّجْرِيحِ بِالْعَدَاوَةِ أَنَّهَا تَكُونُ بِشَهَادَةٍ مَنْ يُزَكَّى مِنْ الشُّهَدَاءِ، وَلَا يُشْتَرَطُ فِي ذَلِكَ أَهْلُ التَّبْرِيزِ فِي الْعَدَالَةِ، وَإِنَّمَا يُطْلَبُ التَّبْرِيزُ فِي غَيْرِ الْعَدَاوَةِ مِنْ وُجُودِ التَّجْرِيحِ، وَلَا أَعْلَمُ فِي هَذَا خِلَافًا مِنْ أَحْكَامِ ابْنِ سَهْلٍ فِي الْجُزْءِ الثَّانِي فِي رَسْمٍ تَدَاعَى بَيْنَ سَهْلِ بْنِ الدَّبَّاغِ وَيَعْمُرَ فِي سَانِيَةٍ.
مَسْأَلَةٌ:
وَفِي الْوَثَائِقِ الْمَجْمُوعَةِ وَلَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ أَنْ يُجَرِّحَ شَاهِدًا أَنَّهُ شَهِدَ بِالْحَقِّ، ذَكَرَهَا فِي رَسْمِ تَقْيِيدِ عَدَاوَةٍ لِتَكُونَ عِدَّةً.

.فَصْلٌ فِي تَعَارُضِ شُهُودِ التَّزْكِيَةِ وَالْجَرْحِ:

وَفِي تَنْبِيهِ الْحُكَّامِ لَوْ عَدَّلَ شَاهِدَانِ رَجُلًا وَجَرَّحَهُ آخَرَانِ، فَفِي ذَلِكَ قَوْلَانِ: قِيلَ يَقْضِي بِأَعْدَلِهِمَا لِاسْتِحَالَةِ الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا، وَقِيلَ يَقْضِي بِشُهُودِ الْجَرْحِ؛ لِأَنَّهُمْ زَادُوا عَلَى شُهُودِ التَّعْدِيلِ، إذْ الْجَرْحُ مِمَّا يَبْطُنُ فَلَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ كُلُّ النَّاسِ، بِخِلَافِ الْعَدَالَةِ، وَلِلَّخْمِيِّ تَفْصِيلٌ قَالَ إنْ كَانَ اخْتِلَافُ الْبَيِّنَتَيْنِ فِي فِعْلِ شَيْءٍ فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ، كَدَعْوَى إحْدَى الْبَيِّنَتَيْنِ أَنَّهُ فَعَلَ كَذَا فِي وَقْتِ كَذَا.
وَقَالَتْ الْبَيِّنَةُ الْأُخْرَى لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ فَإِنَّهُ يَقْضِي بِأَعْدَلِهِمَا، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ فِي مَجْلِسَيْنِ مُتَقَارِبَيْنِ قَضَى بِشَهَادَةِ الْجَرْحِ؛ لِأَنَّهَا زَادَتْ عِلْمًا فِي الْبَاطِنِ وَإِنْ تَبَاعَدَ مَا بَيْنَ الْمَجْلِسَيْنِ قَضَى بِآخِرِهِمَا تَارِيخًا، وَيُحْمَلُ عَلَى أَنَّهُ كَانَ عَدْلًا فَفَسَقَ، أَوْ فَاسِقًا فَتَزَكَّى، إلَّا أَنْ يَكُونَ فِي وَقْتِ تَقْيِيدِ الْجَرْحِ ظَاهِرُ الْعَدَالَةِ، فَبَيِّنَةُ الْجَرْحِ مُقَدَّمَةٌ؛ لِأَنَّهَا زَادَتْ.

.فَصْلٌ فِي شَهَادَةِ الِاسْتِرْعَاءِ:

وَشَهَادَاتُ الِاسْتِرْعَاءِ: لابد أَنْ تَكُونَ الشُّهُودُ يَسْتَحْضِرُونَهَا مِنْ غَيْرِ أَنْ يَرَوْا الْوَثِيقَةَ. إذَا كَانَتْ الْوَثِيقَةُ مَبْنِيَّةً عَلَى مَعْرِفَةِ الشُّهُودِ، وَذَلِكَ فِي عُقُودِ الِاسْتِرْعَاءِ الَّتِي يُكْتَبُ فِيهَا، يَشْهَدُ الْمُسَمَّوْنَ فِي هَذَا الْكِتَابِ مِنْ الشُّهُودِ أَنَّهُمْ يَعْرِفُونَ كَذَا وَكَذَا، فَإِنْ رَأَى الْحَاكِمُ رِيبَةً تُوجِبُ التَّثَبُّتَ، فَيَنْبَغِي أَنْ يَقُولَ لَهُمْ مَا تَشْهَدُونَ بِهِ فَإِنْ ذَكَرُوا شَهَادَتَهُمْ بِأَلْسِنَتِهِمْ عَلَى مَا فِي الْوَثِيقَةِ، جَازَتْ وَإِلَّا رَدَّهَا، وَلَيْسَ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ يَنْبَغِي أَنْ يَفْعَلَ هَذَا وَلَا بِكُلِّ الشُّهُودِ، وَأَمَّا إذَا كَانَتْ الْوَثِيقَةُ مُنْعَقِدَةً عَلَى إشْهَادِ الشَّاهِدَيْنِ كَالصَّدَقَةِ وَالِابْتِيَاعِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، فَلَا يَنْبَغِي أَنْ تُؤْخَذَ الشُّهُودُ بِحِفْظِ مَا فِي الْوَثِيقَةِ، وَحَسْبُهُمْ أَنْ يَقُولُوا: إنَّ شَهَادَتَهُمْ فِيهَا حَقٌّ، وَأَنَّهُمْ يَعْرِفُونَ مَنْ أَشْهَدَهُمْ، وَلَا يُمْسِكُ الْقَاضِي الْكِتَابَ وَيَسْأَلُهُمْ عَنْ شَهَادَتِهِمْ.

.فَصْلٌ فِي الشَّهَادَةِ فِي الْعَدَمِ:

وَصِفَتُهَا أَنْ تَقُولَ الشُّهُودُ: إنَّا نَعْرِفُ فُلَانَ بْنَ فُلَانٍ مَعْرِفَةً صَحِيحَةً، وَإِنَّهُ مِنْ أَهْلِ الْفَقْرِ وَالْعَدَمِ، وَمَا عِلْمَنَا أَنَّ لَهُ مَالًا حَاضِرًا وَلَا غَائِبًا وَلَا رِيعًا وَلَا عُرُوضًا، وَلَا شَيْئًا يُعْدَى عَلَيْهِ فِيهِ.
تَنْبِيهٌ:
قَالَ ابْنُ الْهِنْدِيِّ: إذَا شَهِدَتْ الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمِدْيَانِ أَنَّ لَهُ مَالًا وَلَمْ تُعَيِّنْ ذَلِكَ، فَلَيْسَ ذَلِكَ بِشَيْءٍ إذَا كَانَ الْعَدَمُ قَدْ ثَبَتَ لَهُ، وَإِنَّمَا أُلْزِمَ بِالْيَمِينِ اسْتِبْرَاءً إذَا اُتُّهِمَ أَنَّهُ أَخْفَى مَالًا.

.فَصْلٌ إذَا وَقَعَ فِي وَثِيقَة مَحْوٌ أَوْ بَشْرٌ أَوْ ضَرْبٌ فِي غَيْرِ مَوَاضِعِ الْعَدَدِ:

فَصْلٌ: وَفِي الطُّرَرِ لِابْنِ عَاتٍ إذَا وَقَعَ فِي الْوَثِيقَةِ مَحْوٌ أَوْ بَشْرٌ أَوْ ضَرْبٌ فِي غَيْرِ مَوَاضِعِ الْعَدَدِ، مِثْلُ عَدَدُ الدَّنَانِيرِ أَوْ جُلُّهَا أَوْ تَارِيخُ الْوَثِيقَةِ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ، لَمْ يَضُرَّ الْوَثِيقَةَ، وَإِنْ لَمْ يَعْتَذِرْ مِنْهُ الْكَاتِبُ، وَإِنْ كَانَ فِي تِلْكَ الْمَوَاضِعِ، سُئِلَتْ الْبَيِّنَةُ عَنْهُ، فَإِنْ حَفِظَتْ الشَّيْءَ بِعَيْنِهِ الَّذِي وَقَعَ فِيهِ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَرَوْا الْوَثِيقَةَ مَضَتْ، وَسُئِلُوا عَنْ الْبَشْرِ، فَإِنْ حَفِظُوهُ مَضَتْ أَيْضًا، وَإِنْ لَمْ يَحْفَظُوهُ سَقَطَتْ الْوَثِيقَةُ.

.الْفَصْلُ التَّاسِعُ فِيمَا يُحَدِّثُهُ الشَّاهِدُ بَعْدَ شَهَادَتِهِ فَتَبْطُلُ:

وَفِي أَحْكَامِ ابْنِ سَهْلٍ عَنْ ثَمَانِيَةِ أَبِي زَيْدٍ فِيمَنْ شَهِدَ عِنْدَ الْقَاضِي، فَلَمَّا أَدَّى شَهَادَتَهُ عِنْدَهُ قَالَ لَهُ بَلَغَنِي أَنَّ هَذَا يَعْنِي الْمَشْهُودَ عَلَيْهِ، يُهَدِّدُنِي وَيَشْتُمُنِي وَيَرْمِينِي بِالْمَكْرُوهِ، قَالَ ابْنُ الْمَاجِشُونِ: قَدْ أَبْطَلَ شَهَادَتُهُ، وَلَا أَرَى لِلْحَاكِمِ أَنْ يَقْبَلَهَا؛ لِأَنَّهُ يُخْبِرُ أَنَّهُ عَدُوُّهُ فَكَيْفَ يَشْهَدُ عَلَيْهِ؟ وَبِأَدْنَى مِنْ هَذَا الْكَلَامِ تَطْرَحُ شَهَادَتَهُ.
وَقَالَ أَصَبْغُ: إنْ قَالَهُ عَلَى وَجْهِ الشَّكْوَى وَقَصَدَهُ أَنْ يَنْهَاهُ عَنْ الْأَذَى، وَلَمْ يَكُنْ عَلَى طَلَبِ خُصُومَتِهِ بِذَلِكَ، وَلَا سَمَّى الشَّتِيمَةَ فَلَا أَرَى ذَلِكَ شَيْئًا، وَإِنْ سَمَّى الشَّتِيمَةَ وَقَامَ بِهَا يُطَالِبُهُ أَوْ يُخَاصِمُهُ، أَوْ كَانَ عَلَى وَجْهِ الْخُصُومَةِ، وَإِنْ لَمْ يُسَمِّهَا فِي تِلْكَ السَّاعَةِ فَشَهَادَتُهُ سَاقِطَةٌ.
مَسْأَلَةٌ:
وَفِي الْمُقْنِعِ لِابْنِ بَطَّالٍ إذَا شَهِدَ الشَّاهِدُ ثُمَّ حَدَثَ مِنْهُ زِنًا أَوْ قَذْفٌ أَوْ شُرْبُ خَمْرٍ أَوْ غَيْرُ ذَلِكَ مِمَّا يُجَرِّحُهُ سَقَطَتْ شَهَادَتُهُ، إلَّا أَنْ يَنْفُذَ الْقَضَاءُ بِشَهَادَتِهِ قَبْلَ أَنْ يَصِيرَ إلَى ذَلِكَ، فَيَنْفُذُ الْحُكْمُ.
وَفِي كِتَابِ ابْنِ الْمَوَّازِ إذَا كَتَبَ الْقَاضِي شَهَادَةَ الشَّاهِدِ، وَلَمْ يَحْكُمْ بِهَا حَتَّى قَتَلَ أَوْ قَذَفَ أَوْ قَاتَلَ، مَنْ شَهِدَ عَلَيْهِ، فَلَا تَسْقُطُ بِهَذَا شَهَادَتُهُ الَّتِي وَقَعَتْ عِنْدَ الْحَاكِمِ، إلَّا أَنْ يُحْدِثَ مَا يَسْتُرُهُ النَّاسُ مِنْ الزِّنَا وَالشُّرْبِ فَتَسْقُطُ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ يَفْعَلُ ذَلِكَ قَبْلَ هَذَا.
مَسْأَلَةٌ:
وَلَوْ شَهِدَ شَاهِدٌ بِطَلَاقِ امْرَأَةٍ، وَأَنَّ زَوْجَهَا طَلَّقَهَا أَلْبَتَّةَ فَقِبَلَهُ الْإِمَامُ، وَأَحْلَفَ الْمَشْهُودَ عَلَيْهِ أَنَّ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ ثُمَّ فَسَدَتْ حَالُ الشَّاهِدِ، ثُمَّ شَهِدَ آخَرُ بِمِثْلِ شَهَادَتِهِ، قَالَ: لَا يُقْبَلُ الْأَوَّلُ عَلَى الزَّوْجِ الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ يَوْمَ تُضَمُّ شَهَادَتُهُ إلَى الشَّاهِدِ الثَّانِي غَيْرِ الْعَدْلِ، فَشَهَادَةُ الْأَوَّلِ سَاقِطَةٌ.
مَسْأَلَةٌ:
وَأَمَّا إذَا شَهِدَ الشَّاهِدُ ثُمَّ لَمْ يَحْكُمْ بِشَهَادَتِهِ حَتَّى وَقَعَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ خُصُومَةٌ، فَإِنَّ شَهَادَتَهُ لَا تُرَدُّ بِذَلِكَ، وَكَذَا لَوْ شَهِدَ لِامْرَأَةٍ بِشَهَادَتِهِ فَلَمْ يَحْكُمْ بِهَا حَتَّى تَزَوَّجَهَا، فَإِنَّ شَهَادَتَهُ مَاضِيَةٌ؛ لِأَنَّ الْعَدَاوَةَ وَالزَّوْجِيَّةَ إنَّمَا حَدَثَتَا بَعْدَ أَدَاءِ الشَّهَادَةِ فَلِذَلِكَ كَانَتْ مَاضِيَةً، وَفِي الْمُقْنِعِ كَثِيرٌ مِنْ هَذَا الْمَعْنَى.

.الْفَصْلُ الْعَاشِرُ فِي صِفَةِ أَدَاءِ الشَّهَادَةِ:

وَاللَّفْظُ الَّذِي يَصِحُّ بِهِ أَدَاءُ الشَّهَادَةِ قَالَ الْقَرَافِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي الْفَرْقِ السَّابِعِ وَالْعِشْرِينَ وَالْمِائَتَيْنِ: اعْلَمْ أَنَّ أَدَاءَ الشَّهَادَةِ لَا يَصِحُّ بِالْخَبَرِ أَلْبَتَّةَ، فَلَوْ قَالَ الشَّاهِدُ لِلْحَاكِمِ: أَنَا أُخْبِرُك أَيُّهَا الْقَاضِي بِأَنَّ لِزَيْدٍ عِنْدَ عَمْرٍو دِينَارًا عَنْ يَقِينٍ، فَلَا يَجُوزُ اعْتِمَادُ الْقَاضِي عَلَى هَذَا الْوَعْدِ، وَلَوْ قَالَ قَدْ أَخْبَرْتُك أَيُّهَا الْقَاضِي بِكَذَا، كَانَ كَاذِبًا؛ لِأَنَّ مُقْتَضَاهُ تَقَدُّمُ الْإِخْبَارِ مِنْهُ، وَلَمْ يَقَعْ وَالِاعْتِمَادُ عَلَى الْكَذِبِ لَا يَجُوزُ، فَالْمُسْتَقْبَلُ وَعْدٌ وَالْمَاضِي كَذِبٌ وَكَذَلِكَ اسْمُ الْفَاعِلِ الْمُقْتَضِي لِلْحَالِ كَقَوْلِهِ: أَنَا مُخْبِرُك أَيُّهَا الْقَاضِي بِذَلِكَ، فَإِنَّهُ إخْبَارٌ عَنْ اتِّصَافِهِ بِالْخَبَرِ لِلْقَاضِي وَذَلِكَ لَمْ يَقَعْ فِي الْحَالِ، فَالْخَبَرُ كَيْفَ تَصَرَّفَ لَا يَجُوزُ لِلْحَاكِمِ الِاعْتِمَادُ عَلَيْهِ. وَكَذَلِكَ إذَا قَالَ الْحَاكِمُ لِلشَّاهِدِ بِأَيِّ شَيْءٍ تَشْهَدُ؟ فَقَالَ حَضَرْت عِنْدَ فُلَانٍ فَسَمِعْته يُقِرُّ بِكَذَا، أَوْ أَشْهَدَنِي عَلَى نَفْسِهِ بِكَذَا، أَوْ شَهِدْت بَيْنَهُمَا بِصُدُورِ الْبَيْعِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْعُقُودِ، لَا يَكُونُ ذَلِكَ أَدَاءَ شَهَادَةٍ، وَلَا يَجُوزُ لِلْحَاكِمِ اعْتِمَادٌ عَلَى شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، بِسَبَبِ أَنَّ هَذَا مُخْبِرٌ عَنْ أَمْرٍ تَقَدَّمَ.
فَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ قَدْ اطَّلَعَ بَعْدَ ذَلِكَ عَلَى مَانِعٍ مِنْ الشَّهَادَةِ بِهِ مِنْ فَسْخٍ أَوْ إقَالَةٍ أَوْ حُدُوثِ رِيبَةٍ لِلشَّاهِدِ تَمْنَعُ الْأَدَاءَ، فَلَا يَجُوزُ لِأَجْلِ هَذِهِ الِاحْتِمَالَاتِ الِاعْتِمَادُ عَلَى شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، إذَا صَدَرَ مِنْ الشَّاهِدِ بَلْ لابد مِنْ إنْشَاءِ الْإِخْبَارِ عَنْ الْوَاقِعَةِ الْمَشْهُودِ بِهَا، وَالْإِنْشَاءُ لَيْسَ بِخَبَرٍ، وَلِذَلِكَ لَا يَحْتَمِلُ التَّصْدِيقَ وَالتَّكْذِيبَ، فَإِذَا قَالَ الشَّاهِدُ: أَشْهَدُ عِنْدَك أَيُّهَا الْقَاضِي كَانَ إنْشَاءً، وَلَوْ قَالَ شَهِدْت لَمْ يَكُنْ إنْشَاءً، وَعَكْسُهُ فِي الْبَيْعِ لَوْ قَالَ أَبِيعُك لَمْ يَكُنْ إنْشَاءً لِلْبَيْعِ، بَلْ إخْبَارٌ لَا يَنْعَقِدُ بِهِ بَيْعٌ بَلْ هُوَ وَعْدٌ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، وَلَوْ قَالَ بِعْتُك كَانَ إنْشَاءً لِلْبَيْعِ، فَالْإِنْشَاءُ فِي الشَّهَادَةِ بِالْمُضَارِعِ وَفِي الْعُقُودِ بِالْمَاضِي، وَاسْمُ الْفَاعِلِ نَحْوُ أَنْتِ طَالِقٌ، وَأَنْتَ حُرٌّ، وَلَمْ يَقَعْ الْإِنْشَاءُ فِي الْبَيْعِ بِاسْمِ الْفَاعِلِ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي الشَّهَادَةِ نَحْوُ أَنَا شَاهِدٌ عِنْدَك بِكَذَا، أَوْ أَنَا بَائِعُك بِكَذَا، فَهُوَ لَيْسَ إنْشَاءً. قَالَ وَسَبَبُ الْفَرْقِ بَيْنَ هَذِهِ الْمَوَاطِنِ: الْوَضْعُ الْعُرْفِيُّ، فَمَا وَضَعَهُ أَهْلُ الْعُرْفِ لِلْإِنْشَاءِ كَانَ إنْشَاءً وَمَا لَا فَلَا، فَإِنْ اُتُّفِقَ أَنَّ الْعَوَائِدَ تَغَيَّرَتْ، وَصَارَ الْمَاضِي مَوْضِعًا لِإِنْشَاءِ الشَّهَادَةِ، وَالْمُضَارِعُ لِإِنْشَاءِ الْعُقُودِ، جَازَ لِلْحَاكِمِ الِاعْتِمَادُ عَلَى مَا صَارَ مَوْضِعًا لِلْإِنْشَاءِ، وَلَا يَجُوزُ لَهُ الِاعْتِمَادُ عَلَى الْعُرْفِ الْأَوَّلِ.
تَنْبِيهٌ:
وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ الْقَرَافِيُّ: هُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَلَمْ أَرَهُ لِأَحَدِ الْمَالِكِيَّةِ، وَنَقَلَ شَمْسُ الدِّينِ بْنُ قَيِّمِ الْجَوْزِيَّةِ الْحَنْبَلِيُّ الدِّمَشْقِيُّ: أَنَّ مَذْهَبَ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَظَاهِرَ كَلَامِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ: أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ فِي صِحَّةِ الشَّهَادَةِ لَفْظُ أَشْهَدُ، بَلْ مَتَى قَالَ الشَّاهِدُ رَأَيْت كَذَا وَكَذَا، أَوْ سَمِعْت نَحْوَ ذَلِكَ كَانَتْ شَهَادَتُهُ مِنْهُ، وَلَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى وَلَا سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَوْضِعٌ وَاحِدٌ يَدُلُّ عَلَى اشْتِرَاطِ لَفْظِ الشَّهَادَةِ، وَلَا وَرَدَ ذَلِكَ عَنْ أَحَدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ، وَلَا وَرَدَ فِي الْقِيَاسِ وَالِاسْتِنْبَاطِ مَا يَقْتَضِي ذَلِكَ، بَلْ الْأَدِلَّةُ الْمُتَظَاهِرَةُ مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَأَقْوَالِ الصَّحَابَةِ وَلُغَةِ الْعَرَبِ تَنْفِي ذَلِكَ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {قُلْ هَلُمَّ شُهَدَاءَكُمُ الَّذِينَ} [الأنعام: 150] الْآيَةَ.
وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ التَّلَفُّظَ بِلَفْظِ أَشْهَدُ فِي هَذَا الْمَحَلِّ بَلْ مُجَرَّدَ الْإِخْبَارِ بِتَحْرِيمِهِ.
وَقَالَ تَعَالَى: {لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ} [النساء: 166]، وَلَا يَتَوَقَّفُ صِحَّةُ ذَلِكَ إلَّا عَلَى أَنْ يَقُولَ- سُبْحَانَهُ- أَشْهَدُ، وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ} [آل عمران: 18] الْآيَةَ.
وَقَالَ تَعَالَى: {وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} [التوبة: 107] وَقَالَ تَعَالَى: {وَلا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفَاعَةَ إِلا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ} [الزخرف: 86] أَيْ أَخْبَرَ بِهِ وَتَكَلَّمَ بِهِ عَنْ عِلْمٍ.
وَقَالَ تَعَالَى: {وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا} [يوسف: 26] الْآيَةَ.
وَقَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ} [النساء: 135]، وَالْمُقِرُّ عَلَى نَفْسِهِ لَا يَقُولُ أَشْهَدُ وَسَمَّى ذَلِكَ شَهَادَةً، وَلَا يَفْتَقِرُ صِحَّةُ الْإِسْلَامِ إلَى أَنْ يَقُولَ الدَّاخِلُ فِي الْإِسْلَامِ: أَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ، بَلْ لَوْ قَالَ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ كَفَى.
وَقَالَ تَعَالَى: {وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ حُنَفَاءَ} [الحج: 30- 31].
وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «عَدَلَتْ شَهَادَةُ الزُّورِ الْإِشْرَاكَ بِاَللَّهِ».
وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «أَلَا أُنَبِّئُكُمْ بِأَكْبَرِ الْكَبَائِرِ؟ الشِّرْكُ بِاَللَّهِ وَقَتْلُ النَّفْسِ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ أَلَا وَقَوْلُ الزُّورِ فَسَمَّى قَوْلَ الزُّورِ شَهَادَةً». وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: شَهِدَ عِنْدِي رِجَالٌ مَرْضِيُّونَ، وَأَرْضَاهُمْ عِنْدِي عُمَرُ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «نَهَى عَنْ الصَّلَاةِ بَعْدَ الْعَصْرِ حَتَّى تَغْرُبَ الشَّمْسُ، وَبَعْدَ الصُّبْحِ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ». وَمَعْلُومٌ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ لَمْ يَقُلْ لِابْنِ عَبَّاسٍ: أَشْهَدُ عِنْدَك، وَلَكِنْ أَخْبَرَهُ فَسَمَّى ذَلِكَ شَهَادَةً، فَاشْتِرَاطُ لَفْظِ الشَّهَادَةِ لَا أَصْلَ لَهُ فِي الْكِتَابِ وَلَا فِي السُّنَّةِ، وَلَا فِي عَمَلِ السَّلَفِ الصَّالِحِ. انْتَهَى مَا ذَكَرَهُ ابْنُ قَيِّمِ الْجَوْزِيَّةِ وَنَسَبَهُ إلَى مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى.
تَنْبِيهٌ:
وَيُؤَيِّدُ مَا نَقَلَهُ ابْنُ قَيِّمِ الْجَوْزِيَّةِ عَنْ مَذْهَبِنَا مَا ذَكَرَهُ ابْنُ بَطَّالٍ فِي الْمُقْنِعِ عَنْ أَصَبْغَ قَالَ: لَقَدْ حَضَرْت ابْنَ وَهْبٍ وَمَنْ مَعَهُ مِنْ الْفُقَهَاءِ عِنْدَ الْقَاضِي الْعُمَرِيِّ، فَكَانَ كَاتِبُ الْقَاضِي يَقْرَأُ عَلَى الْقَاضِي شَهَادَةَ الشَّاهِدِ بِمَحْضَرِ الشَّاهِدِ، ثُمَّ يَقُولُ لِلشَّاهِدِ هَذِهِ شَهَادَتُك؟ فَإِذَا قَالَ: نَعَمْ قَبِلَ ذَلِكَ مِنْهُ، فَقَوْلُهُ نَعَمْ لَيْسَ هُوَ إنْشَاءٌ لِلشَّهَادَةِ، وَقَدْ اكْتَفَى بِهِ مِنْ الشَّاهِدِ وَفِي رِسَالَةِ الْقَضَاءِ، وَالْأَحْكَامِ فِيمَا يَتَرَدَّدُ بَيْنَ الْمُتَخَاصِمِينَ عِنْدَ الْحُكَّامِ، قَالَ: وَإِذَا فَرَغَ الْكَاتِبُ مِنْ قِرَاءَةِ الْمَحْضَرِ الَّذِي تُقَيَّدُ فِيهِ الدَّعْوَى وَالْجَوَابُ قَالَ الْقَاضِي لِلْمُدَّعِي هَذِهِ دَعْوَاك؟ فَإِذَا قَالَ نَعَمْ قَالَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الشُّهُودِ هَكَذَا شَهِدْت، فَإِذَا قَالَ نَعَمْ وَقَّعَ الْقَاضِي بِخَطِّهِ فِي آخِرِهِ، شَهِدَ هَؤُلَاءِ الشُّهُودُ عِنْدِي، وَإِنْ شَاءَ كَتَبَ: كَذَلِكَ كَانَتْ الشَّهَادَةُ عِنْدِي. فَجَعَلَ أَدَاءَ الشَّهَادَةِ لَفْظَةَ نَعَمْ فَقَطْ.
وَفِي الْوَثَائِقِ الْمَجْمُوعَةِ أَنَّ شُرَيْحًا كَانَ يَقُولُ لِلشَّاهِدَيْنِ إنَّمَا يَقْضِي عَلَى هَذَا الْمُسْلِمِ أَنْتُمَا، وَإِنَى مُحِقٌّ بِكَمَا فَاتَّقِيَا اللَّهَ أَتَشْهَدَانِ أَنَّ الْحَقَّ لِهَذَا؟ فَإِذَا قَالَا نَعَمْ أَجَازَ شَهَادَتَهُمَا، فَظَاهِرُ نُصُوصِ الْمَذْهَبِ، أَنَّ مَا ذَكَرَهُ الْقَرَافِيُّ لَا يُشْتَرَطُ فِي أَدَاءِ الشَّهَادَةِ وَقَبُولِهَا وَهُوَ مَنْسُوبٌ إلَى الشَّافِعِيَّةِ، وَلَعَلَّهُ نَقَلَهُ مِنْ كَلَامِهِمْ، فَكَثِيرًا مَا يَنْقُلُ عِبَارَاتِهِمْ إذَا ظَهَرَ لَهُ أَنَّهَا غَيْرُ مُخَالِفَةٍ لِقَوَاعِدِ الْمَذْهَبِ، وَقَدْ فَعَلَ ذَلِكَ فِي تَصْحِيحِ الدَّعَاوَى، وَلَهُ مِنْ ذَلِكَ كَثِيرٌ فِي بَابِ السِّيَاسَةِ مِنْ كِتَابِ الذَّخِيرَةِ لَهُ، نَقَلَهُ مِنْ الْأَحْكَامِ السُّلْطَانِيَّةِ لِلْمَاوَرْدِيِّ الشَّافِعِيِّ، وَنُصُوصُ الْمَذْهَبِ مُخَالِفَةٌ لِمَا ذَكَرَهُ، وَقَدْ ذَكَرْت ذَلِكَ فِي قِسْمِ السِّيَاسَةِ الشَّرْعِيَّةِ.

.فَصْلٌ الْفَرْقُ بَيْن الشَّهَادَةِ بِالْمَصْدَرِ وَاسْمِ الْمَفْعُولِ وَالشَّهَادَةِ بِالصُّدُورِ:

فَصْلٌ: وَلِلشَّافِعِيَّةِ تَفْرِيقٌ فِي الشَّهَادَةِ بِالْمَصْدَرِ، وَاسْمِ الْمَفْعُولِ وَالشَّهَادَةِ بِالصُّدُورِ، فَإِذَا قَالَ الشُّهُودُ نَشْهَدُ أَنَّ هَذَا وَقْفٌ، أَوْ هَذَا مَبِيعٌ مِنْ فُلَانٍ، أَوْ هَذِهِ مَنْكُوحَةُ فُلَانٍ، فَإِنَّ الْحَاكِمُ يَحْكُمُ بِمُوجِبِ شَهَادَتِهِمْ، وَيَكُونُ ذَلِكَ مُتَضَمِّنًا لِلْحُكْمِ بِصِحَّةِ الْوَقْفِ وَنَحْوِهِ، وَلَوْ شَهِدُوا بِالصُّدُورِ فَقَالُوا: نَشْهَدُ بِصُدُورِ الْوَقْفِ أَوْ بِصُدُورِ الْبَيْعِ، لَمْ يَحْكُمْ بِمُوجَبِ شَهَادَتِهِمْ لِاحْتِمَالِ تَغْيِيرِ تِلْكَ الْعُقُودِ، كَمَا لَوْ اُسْتُحِقَّ الْوَقْفُ أَوْ صَدَرَتْ الْإِقَالَةُ فِي الْبَيْعِ وَنَحْوُ ذَلِكَ، قَالَهُ الشَّيْخُ سِرَاجُ الدِّينِ الْبُلْقِينِيُّ فِي بَعْضِ تَعَالِيقِهِ، وَهُوَ الَّذِي أَشَارَ إلَيْهِ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ كَمَا قَدَّمْنَاهُ عَنْهُ قَبْلَ هَذَا، فَيَنْبَغِي تَأَمُّلُ ذَلِكَ.

.الْقِسْمُ الثَّانِي مِنْ الْكِتَابِ فِي أَنْوَاعِ الْبَيِّنَاتِ:

.الْبَابِ الْأَوَّلِ فِي الْقَضَاءِ بِأَرْبَعَةِ شُهُودٍ:

وَمَا يَتَنَزَّلُ مَنْزِلَتَهَا وَمَا يَجْرِي مَجْرَاهَا وَيَنْحَصِرُ ذَلِكَ فِي سَبْعِينَ بَابًا وَذَلِكَ فِي الشَّهَادَةِ عَلَى إثْبَاتِ الزِّنَا، وَهِيَ عَلَى أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ.
الْوَجْهِ الْأَوَّلِ: الشَّهَادَةُ عَلَى رُؤْيَةِ الزِّنَا عِيَانًا، فَهَذَا الْوَجْهُ هُوَ الْمُتَّفَقُ عَلَى أَنَّهُ لابد فِيهِ مِنْ أَرْبَعَةِ شُهُودٍ.
الْوَجْهِ الثَّانِي: الشَّهَادَةُ عَلَى الْإِقْرَارِ بِهِ وَلَوْ مَرَّةً، خِلَافًا لِمَنْ يَشْتَرِطُ الْإِقْرَارَ بِهِ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ، وَاخْتُلِفَ هَلْ يَكْتَفِي بِشَهَادَةِ رَجُلَيْنِ عَلَى الْمُقِرِّ، أَوْ لابد مِنْ شَهَادَةِ أَرْبَعَةٍ عَلَى الْإِقْرَارِ بِهِ؛ لِأَنَّ الشَّهَادَةَ عَلَى الْإِقْرَارِ تَئُولُ إلَى إقَامَةِ الْحَدِّ، فَسَاوَتْ الشَّهَادَةَ عَلَى الْمُعَايَنَةِ لِتَسَاوِي مُوجِبِهِمَا. وَوَجْهُ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ: أَنَّ الْأَصْلَ فِي الشَّهَادَاتِ عَلَى الْإِقْرَارَاتِ أَنْ يُكْتَفَى فِيهَا بِشَاهِدَيْنِ، فَأَجْرَى الْإِقْرَارَ بِالزِّنَا عَلَى ذَلِكَ الْأَصْلِ.
فَرْعٌ:
وَفِي تَنْبِيهِ الْحُكَّامِ اُخْتُلِفَ فِي شَهَادَةِ اثْنَيْنِ فِي الْإِقْرَارِ وَالنَّقْلِ عَنْ شُهُودِ الْأَصْلِ الَّذِينَ عَايَنُوا الزِّنَا. وَكَذَلِكَ إذَا شَهِدَ اثْنَانِ عَلَى كِتَابِ الْقَاضِي بِالْحُكْمِ بِذَلِكَ، هَلْ تَجُوزُ أَمْ لَا؟، وَإِذَا لَمْ تَجُزْ فَهَلْ يُحَدُّ الشَّاهِدَانِ أَمْ لَا؟، وَإِنْ شَهِدَ وَاحِدٌ عَلَى الْإِقْرَارِ حُدَّ، فَإِنْ نَقَلَ ذَلِكَ عَنْ غَيْرِهِ فَفِيهِ خِلَافٌ، قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: يُحَدُّ.
وَقَالَ مُحَمَّدٌ: لَا يُحَدُّ إذَا قَالَ أَشْهَدَنِي فُلَانٌ، إلَّا أَنْ يَقُولَ هُوَ زَانٍ أَشْهَدَنِي فُلَانٌ، وَهَذَا أَحْسَنُ؛ لِأَنَّهُ حُقِّقَ عَلَيْهِ، فَإِذَا لَمْ يُثْبِتْ حُدَّ.
فَرْعٌ:
وَاخْتُلِفَ إذَا قَالَ الشَّاهِدُ الْوَاحِدُ: رَأَيْت فُلَانًا مَعَ فُلَانَةَ أَوْ بَيْنَ فَخِذَيْهَا، فَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: يُعَاقَبُ.
وَقَالَ غَيْرُهُ لَا عُقُوبَةَ، وَرَأَى اللَّخْمِيُّ أَنَّ الشَّاهِدَ إنْ كَانَ عَدْلًا فَلَا عُقُوبَةَ عَلَيْهِ، أَوْ غَيْرَ عَدْلٍ فَيُعَاقَبُ، وَقِيلَ إنْ كَانَ الشُّهُودُ عَلَيْهِ مِمَّنْ يُتَّهَمُ لَمْ يُعَاقَبْ الشَّاهِدُ، وَإِلَّا عُوقِبَ.
الْوَجْهِ الثَّالِثِ: الشَّهَادَةُ عَلَى الشَّهَادَةِ بِهِ، وَاخْتُلِفَ فِي ذَلِكَ فَقِيلَ: يَكْفِي اثْنَانِ عَلَى شَهَادَةِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْأَرْبَعَةِ، وَقِيلَ لَا يَكْفِي إلَّا أَرْبَعَةٌ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْأَرْبَعَةِ، فَتَكُونُ سِتَّةَ عَشَرَ، وَقِيلَ يَكْفِي أَرْبَعَةٌ يَشْهَدُونَ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْأَرْبَعَةِ الَّذِينَ شَهِدُوا عَلَى الْمُعَايَنَةِ.
فَرْعٌ:
لَوْ لَمْ يَعْرِفْ الْقَاضِي أَحَدَ الشُّهُودِ فَاخْتُلِفَ، هَلْ يَكْتَفِي فِي تَعْدِيلِهِ بِاثْنَيْنِ أَوْ لابد مِنْ أَرْبَعَةٍ؟
الْوَجْهِ الرَّابِعِ: الشَّهَادَةُ عَلَى كِتَابِ الْقَاضِي بِثُبُوتِهِ وَالْحُكْمِ بِهِ، وَاخْتُلِفَ أَيْضًا فِي ذَلِكَ كَمَا تَقَدَّمَ فِي الشَّهَادَةِ عَلَى الشَّهَادَةِ، هَلْ يَكْفِي فِي الشَّهَادَةِ عَلَى كِتَابِ الْقَاضِي اثْنَانِ أَوْ لابد مِنْ أَرْبَعَةٍ؟.
مَسْأَلَةٌ:
وَفِي الْمُتَيْطِيَّةِ لَوْ شَهِدَ أَرْبَعَةٌ بِالزِّنَا عَلَى رَجُلٍ وَتَعَلَّقُوا بِهِ، وَأَتَوْا بِهِ إلَى السُّلْطَانِ، وَشَهِدُوا عَلَيْهِ قَالَ لَا أَرَى أَنْ تَجُوزَ شَهَادَتُهُمْ، وَأَرَاهُمْ قَذَفَةً، وَرَوَاهُ أَصَبْغُ فِي كِتَابِ الْحُدُودِ، فَإِنْ كَانُوا أَصْحَابَ شَرْطٍ مُوَكَّلِينَ بِتَغَيُّرِ الْمُنْكَرِ وَرَفْعِهِ، فَأَخَذُوهُ وَجَاءُوا بِهِ فَشَهِدُوا عَلَيْهِ، جَازَتْ شَهَادَتُهُمْ؛ لِأَنَّهُمْ فَعَلُوا فِي أَخْذِهِ وَرَفْعِهِ مَا يَلْزَمُهُمْ.
وَفِي الْوَاضِحَةِ لِمُطَرِّفٍ وَابْنِ الْمَاجِشُونِ وَأَصْبَغَ، أَنَّهُ إذَا شَهِدَ أَرْبَعَةٌ بِزِنًا عَلَى رَجُلٍ جَازَتْ شَهَادَتُهُمْ، وَإِنْ كَانُوا هُمْ الْقَائِمِينَ بِذَلِكَ مُجْتَمَعِينَ جَاءُوا، أَوْ مُتَفَرِّقِينَ إذَا كَانَ افْتِرَاقُهُمْ قَرِيبًا بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ.
مَسْأَلَةٌ:
وَيُشْتَرَطُ فِي الشَّهَادَةِ عَلَى الزِّنَا أَنْ يَكُونُوا أَرْبَعَةَ رِجَالٍ ذُكُورًا عُدُولًا، يَشْهَدُونَ بِزِنًا وَاحِدٍ مُجْتَمَعِينَ فِي أَدَاءِ الشَّهَادَةِ، غَيْرَ مُفْتَرِقِينَ بِأَنَّهُ أَدْخَلَ فَرْجَهُ فِي فَرْجِهَا كَالْمِرْوَدِ فِي الْمُكْحُلَةِ.
مَسْأَلَةٌ:
وَظَاهِرُ الْمَذْهَبِ جَوَازُ النَّظَرِ إلَى الْفَرْجِ قَصْدًا لِلتَّحَمُّلِ، وَلِلْحَاكِمِ أَنْ يَسْأَلَهُمْ كَمَا يَسْأَلُ الشُّهُودَ فِي السَّرِقَةِ، مَا هِيَ؟ وَمِنْ أَيْنَ؟. وَفُرُوعُ هَذَا الْبَابِ مَشْهُورَةٌ فِي مَحَالِّهَا.

.فَصْلٌ الشُّهُودُ الَّذِينَ يَحْضُرُونَ لِعَانَ الزَّوْجَيْنِ:

فَصْلٌ: وَيَلْحَقُ بِهَذَا النَّوْعِ أَحْكَامٌ لابد فِيهَا مِنْ أَرْبَعَةِ شُهُودٍ.
الْأَوَّلُ: الشُّهُودُ الَّذِينَ يَحْضُرُونَ لِعَانَ الزَّوْجَيْنِ، وَالْمَذْهَبُ أَنَّ أَقَلَّهُمْ أَرْبَعَةٌ.
الثَّانِي: شَهَادَةُ الْأَبْدَادِ فِي النِّكَاحِ، وَذَلِكَ إذْ أَنْكَحَ الرَّجُلُ ابْنَتَهُ الْبِكْرَ مِنْ رَجُلٍ وَلَمْ يَحْضُرْهُمَا شُهُودٌ، بَلْ إنَّمَا عَقَدَا النِّكَاحَ وَتَفَرَّقَا.
وَقَالَ كُلُّ وَاحِدٍ لِصَاحِبِهِ أَشْهِدْ مَنْ لَاقَيْت هَكَذَا، فَسَّرَهُ فِي الْمُخْتَصَرِ، فَلَا تَتِمُّ الشَّهَادَةُ إلَّا بِأَرْبَعَةٍ شَاهِدَانِ عَلَى الْأَبِ، وَشَاهِدَانِ عَلَى الزَّوْجِ، فَإِنْ أَشْهَدَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الشُّهُودَ الَّذِينَ أَشْهَدَهُمْ صَاحِبُهُ، لَمْ تُسَمَّ هَذِهِ شَهَادَةَ أَبْدَادٍ وَسَيَأْتِي بَيَانُ ذَلِكَ فِي بَابِهِ مِنْ هَذَا الْكِتَابِ.
فَرْعٌ:
أَمَّا لَوْ كَانَتْ الزَّوْجَةُ مَالِكَةً أَمْرِهَا، لَمْ تَكْمُلْ الشَّهَادَةُ عَلَى النِّكَاحِ إلَّا بِسِتَّةٍ، اثْنَانِ عَلَى النَّاكِحِ، وَاثْنَانِ عَلَى الْمُنْكِحِ، وَاثْنَانِ عَلَى الزَّوْجَةِ.
الثَّالِثُ: لَوْ قَذَفَ رَجُلٌ رَجُلًا فَأَتَى بِشَاهِدَيْنِ، يَشْهَدَانِ أَنَّهُمَا حَضَرَاهُ، يُجْلَدُ الْحَدُّ فِي الزِّنَا، قَالَ لَا يَنْفَعُهُ ولابد مِنْ أَرْبَعَةِ شُهُودٍ يَشْهَدُونَ أَنَّهُ حُدَّ فِي الزِّنَا، قَالَ ابْنُ رُشْدٍ فِي الْبَيَانِ: وَالْقِيَاسُ أَنَّهُ يَدْخُلُ الْخِلَافُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مِنْ اخْتِلَافِهِمْ فِي كِتَابِ الْقَاضِي بِثُبُوتِ الزِّنَا، أَنَّهُ يَكْفِي فِيهِ اثْنَانِ وَقَدْ تَقَدَّمَ ذَلِكَ.
الرَّابِعُ: الشُّهُودُ الَّذِينَ يَحْضُرُونَ عُقُوبَةَ الزَّانِي أَقَلُّهُمْ أَرْبَعَةٌ.
الْخَامِسُ: شَهَادَةُ السَّمَاعِ فِي الْأَحْبَاسِ وَغَيْرِهَا، لَا يُجْزِئُ فِيهَا أَقَلُّ مِنْ أَرْبَعَةٍ عَلَى قَوْلِ ابْنِ الْمَاجِشُونِ، وَالْمَشْهُورُ أَنَّهُ يُجْزِئُ فِيهَا اثْنَانِ.
السَّادِسُ: الشَّهَادَةُ فِي بَابِ الِاسْتِرْعَاءِ، وَأَقَلُّهُمْ أَرْبَعَةٌ عَلَى قَوْلِ ابْنِ الْمَاجِشُونِ، وَالْمَشْهُورُ اثْنَانِ.
السَّابِعُ: الشَّهَادَةُ فِي التَّرْشِيدِ وَالتَّسْفِيهِ، قَالَ ابْنُ الْمَاجِشُونِ وَغَيْرُهُ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ: وَيُشْتَرَطُ فِيهَا الْكَثْرَةُ، وَأَقَلُّهُمْ أَرْبَعَةُ شُهُودٍ، وَالْمَشْهُورُ أَنَّهُ يُجْزِئُ فِي ذَلِكَ اثْنَانِ.
الثَّامِنُ: شَهَادَةُ الْقَوْمِ الَّذِينَ قَطَعَ اللُّصُوصُ عَلَيْهِمْ الطَّرِيقَ، قَالَ مَالِكٌ: تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمْ عَلَيْهِمْ إذَا كَانُوا كَثِيرًا، وَأَقَلُّ الْكَثِيرِ أَرْبَعَةٌ.
وَقَالَ ابْنُ الْمَاجِشُونِ وَالْمُغِيرَةُ وَابْنُ دِينَارٍ: لَا يُجْزِئُ فِي ذَلِكَ أَقَلُّ مِنْ أَرْبَعَةٍ.
وَقَالَ مُطَرِّفٌ وَابْنُ الْقَاسِمِ: يَجُوزُ عَدْلَانِ.
التَّاسِعُ: قَالَ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ: حَكَى بَعْضُهُمْ عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ الْجَهْمِ مِنْ أَصْحَابِنَا، أَنَّهُ لَا يُقْبَلُ فِي الرَّضَاعِ أَقَلُّ مِنْ أَرْبَعَةٍ، وَالْمَشْهُورُ أَنَّهُ يَثْبُتُ بِشَاهِدَيْنِ وَبِامْرَأَتَيْنِ.

.الْبَابُ الثَّانِي فِي الْقَضَاءِ بِشَاهِدَيْنِ:

لَا يُجْزِئُ غَيْرُهُمَا، وَذَلِكَ فِي النِّكَاحِ وَالرَّجْعَةِ وَالطَّلَاقِ وَالْخُلْعِ وَالتَّمْلِيكِ وَالْمُبَارَاةِ وَالْعِتْقِ وَالْإِسْلَامِ وَالرِّدَّةِ وَالْوَلَاءِ وَالنَّسَبِ وَالْكِتَابَةِ وَالتَّدْبِيرِ وَالْبُلُوغِ وَالْعِدَّةِ وَالْجَرْحِ وَالتَّعْدِيلِ وَالشُّرْبِ وَالْقَذْفِ وَالْحُرِّيَّةِ وَالشَّرِكَةِ وَالْإِحْلَالِ وَالْإِحْصَانِ وَقَتْلِ الْعَمْدِ، وَكَذَلِكَ الْوَكَالَةُ وَالْوَصِيَّةُ عِنْدَ أَشْهَبَ، فَهَذِهِ الْأَحْكَامُ لَا تَثْبُتُ إلَّا بِشَاهِدَيْنِ: ذَكَرَيْنِ حُرَّيْنِ عَدْلَيْنِ، قَالَهُ ابْنُ رَاشِدٍ وَغَيْرُهُ.
تَنْبِيهٌ:
فَإِنْ شَهِدَ فِي هَذِهِ الْأُمُورِ شَاهِدٌ وَاحِدٌ، أَحْدَثَ حُكْمًا آخَرَ، فَأَمَّا النِّكَاحُ فَإِنْ كَانَ الزَّوْجَانِ مُقِرَّيْنِ أَشْهَدَا شَاهِدًا آخَرَ، وَأُجْبِرَ الْآبِي مِنْهُمَا، وَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا مُنْكِرًا لَمْ يَحْلِفْ الْمَشْهُودُ لَهُ مَعَ الشَّاهِدِ، وَأَمَّا الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ، فَإِنْ كَانَتْ الْمَرْأَةُ لَمْ تَحْلِفْ.
وَفِي الْمَوَّازِيَّةِ أَنَّ الْمَشْهُودَ عَلَيْهِ مِنْهُمَا يَحْلِفُ وَالْمَشْهُودُ، وَأَنَّ الشَّاهِدَ الْوَاحِدَ لَا يُوجِبُ يَمِينًا عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا، فَإِنْ شَهِدَ عَلَى النِّكَاحِ رَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ وَثَبَتَ الْمَسِيسُ سَقَطَ الْحَدُّ، وَلَا يُحْكَمُ بِالنِّكَاحِ مِنْ تَنْبِيهِ الْحُكَّامِ لِابْنِ الْمُنَاصِفِ، وَأَمَّا دَعْوَى الْعَبْدِ أَوْ الْأَمَةِ الْعِتْقَ، فَإِنْ أَقَامَ أَحَدُهُمَا شَاهِدًا حَلَفَ السَّيِّدُ، فَإِنْ نَكَلَ فَقِيلَ يُعْتَقُ عَلَيْهِ، وَقِيلَ يُسْجَنُ حَتَّى يَحْلِفَ، وَقِيلَ يُخْلَى مِنْ السِّجْنِ إذَا طَالَ وَالطُّولُ سَنَةٌ.
وَأَمَّا إنْ شَهِدَ بِقَتْلِ الْعَمْدِ شَاهِدٌ وَاحِدٌ، وَنَكَلَ الْأَوْلِيَاءُ عَنْ الْقَسَامَةِ فَإِنَّ الْأَيْمَانَ تُرَدُّ عَلَى الْقَاتِلِ، فَإِنْ حَلَفَ بَرِيءَ وَاخْتُلِفَ إذَا نَكَلَ، قِيلَ يُسْجَنُ أَبَدًا حَتَّى يَحْلِفَ.
وَقَالَ أَشْهَبُ: إنْ طَالَ السِّجْنُ وَيُئِسَ أَنْ يَقِرَّ أَوْ يَحْلِفَ، كَانَتْ الدِّيَةُ عَلَيْهِ فِي مَالِهِ مِنْ التَّنْبِيهِ وَأَمَّا إنْ شَهِدَ بِجُرْحِ الْعَمْدِ شَاهِدٌ فَتَثْبُتُ الْيَمِينُ عَلَى الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ، إمَّا لِنُكُولِ الْمَشْهُودِ لَهُ عَنْ الْيَمِينِ عَلَى الْقَوْلِ بِوُجُوبِ ذَلِكَ بِشَاهِدٍ وَيَمِينٍ، أَوْ عَلَى الْقَوْلِ الْآخَرِ أَنَّهُ لَا يُمَكَّنُ مِنْ ذَلِكَ بِالشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ، وَتَوَجَّهَتْ الْيَمِينُ عَلَى الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ، فَإِنْ نَكَلَ عَنْ الْيَمِينِ سُجِنَ أَبَدًا حَتَّى يُقِرَّ أَوْ يَحْلِفَ، وَعَلَى الْقَوْلِ الْآخَرِ يَخْرُجُ بَعْدَ سَنَةٍ.
وَقَالَ أَشْهَبُ يُقْتَصُّ مِنْهُ، وَذَكَرَ ذَلِكَ عَنْ ابْنِ الْقَاسِمِ مِنْ التَّنْبِيهِ. وَأَمَّا الشَّاهِدُ الْوَاحِدُ عَلَى قَتْلِ الْخَطَأِ وَالْجِرَاحِ، فَلَيْسَ مِنْ هَذَا الْبَابِ، وَحُكْمُهُ حُكْمُ الْمَالِيَّاتِ، تَثْبُتُ الدِّيَةُ بِشَاهِدٍ وَيَمِينِ الْقَسَامَةِ، وَبِشَاهِدٍ وَنُكُولِ الْمُدَّعِي عَلَيْهِمْ مِنْ التَّنْبِيهِ.

.فَصْلٌ كُلُّ مَنْ أَقَرَّ مِنْ هَؤُلَاءِ بِالْحَقِّ الْمَشْهُودِ بِهِ عَلَيْهِ:

فَصْلٌ: قَالَ فِي تَنْبِيهِ الْحُكَّامِ وَكُلُّ مَنْ أَقَرَّ مِنْ هَؤُلَاءِ بِالْحَقِّ الْمَشْهُودِ بِهِ، عَلَيْهِ بِسَبَبِ طُولِ السِّجْنِ، أُخِذَ بِإِقْرَارِهِ، وَلَمْ يَكُنْ السِّجْنُ فِي حَقِّهِ إكْرَاهًا؛ لِأَنَّهُ سُجِنَ بِحَقٍّ بِخِلَافِ الْإِكْرَاهِ ظُلْمًا، وَأَمَّا الطَّلَاقُ فَإِنْ أَقَامَتْ الْمَرْأَةُ شَاهِدًا بِالطَّلَاقِ، وَأَنْكَرَ الزَّوْجُ حَلَفَ وَخُلِّيَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا، وَإِنْ نَكَلَ سُجِنَ حَتَّى يَحْلِفَ أَوْ يَطُولَ أَمْرُهُ وَالطُّولُ فِي ذَلِكَ سَنَةٌ، وَقِيلَ يُسْجَنُ أَبَدًا حَتَّى يَحْلِفَ أَوْ يُطَلِّقَ، وَقِيلَ تَطْلُقُ عَلَيْهِ لِتَمَامِ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ لِمُشَابَهَتِهِ الْإِيلَاءَ. وَأَمَّا الشُّرْبُ فَقَالَ فِي الْمُدَوَّنَةِ: إنْ شَهِدَ رَجُلٌ عَلَى آخَرَ أَنَّهُ شَرِبَ خَمْرًا نُكِّلَ الشَّاهِدُ. وَأَمَّا السَّرِقَةُ فَإِنْ كَانَ لَهَا مَنْ يَطْلُبُهَا لَمْ يُعَاقَبْ الشَّاهِدُ عَدْلًا كَانَ أَوْ غَيْرَ عَدْلٍ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا مَنْ يَطْلُبُهَا عُوقِبَ إنْ كَانَ غَيْرَ عَدْلٍ، وَإِنْ كَانَ عَدْلًا فَلَا فَإِذَا شَهِدَ شَاهِدٌ عَدْلٌ، أَوْ شَاهِدٌ وَامْرَأَتَانِ أَنَّهُ سُرِقَ لِلْمُدَّعِي مِثْلُ الشَّيْءِ الْمُدَّعَى فِيهِ مِنْ غَيْرِ تَعْيِينٍ لِذَلِكَ الشَّيْءِ الْمُدَّعَى فِيهِ أَنَّهُ عَيْنُ شَيْئِهِ، فَإِنَّهُ يُوجِبُ تَوْقِيفَهُ.
وَقَالَ مَالِكٌ فِيمَنْ شَهِدَ لَهُ قَوْمٌ أَنَّهُمْ سَمِعُوا أَنَّهُ سُرِقَ لَهُ مِثْلُ مَا يَدَّعِي، فَإِنَّهُ يُدْفَعُ ذَلِكَ إلَيْهِ إذَا وَضَعَ قِيمَتَهُ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ شَهَادَةً قَاطِعَةً، يَعْنِي أَنَّهُ يُمَكَّنُ مِنْ دَفْعِهِ إلَيْهِ لِتَشْهَدَ بِبَيِّنَتِهِ عَلَى عَيْنِهِ، فَإِذَا صَحَّ ذَلِكَ حُكِمَ لَهُ بِهِ مِنْ التَّنْبِيهِ، وَأَمَّا الْقَذْفُ فَيَحْلِفُ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ وَيَبْرَأُ، فَإِنْ نَكَلَ فَهَلْ يُحَدُّ فِي الْقَذْفِ أَوْ يُسْجَنُ أَبَدًا حَتَّى يَحْلِفَ أَوْ يَخْرُجَ بَعْدَ سَنَةٍ خِلَافٌ.
مَسْأَلَةٌ:
وَفِي التَّنْبِيهِ لِابْنِ الْمُنَاصِفِ، وَاخْتُلِفَ فِي الشَّاهِدِ الْوَاحِدِ عَلَى التَّوْكِيلِ بِالْمَالِ مِنْ غَائِبٍ، هَلْ يَحْلِفُ الْوَكِيلُ مَعَهُ لِيَثْبُتَ التَّوْكِيلُ؟ أَوْ لَا فَالْأَشْهَرُ الْمَنْعُ وَاسْتَحْسَنَهُ اللَّخْمِيُّ إلَّا أَنْ يَتَعَلَّقَ بِذَلِكَ التَّوْكِيلِ حَقٌّ لِلْوَكِيلِ، مِثْلَ أَنْ يَكُونَ عَلَى الْغَائِبِ دَيْنٌ أَوْ؛ لِأَنَّهُ يُقِرُّ الْمَالَ فِي يَدِهِ قِرَاضًا وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ فَيَحْلِفُ وَيَسْتَحِقُّ.

.الْبَابُ الثَّالِثُ فِي الْقَضَاءِ بِشَاهِدَيْنِ أَوْ بِشَاهِدٍ وَامْرَأَتَيْنِ أَوْ بِشَاهِدٍ وَيَمِينِ:

الْمُدَّعِي أَوْ بِامْرَأَتَيْنِ وَيَمِينِ الْمُدَّعِي وَذَلِكَ فِي الْأَمْوَالِ وَحُقُوقِهَا، كَالْآجَالِ وَالْخِيَارِ وَالشُّفْعَةِ وَالْإِجَارَةِ وَالْحَبْسِ وَقَتْلِ الْخَطَأِ، وَنُجُومِ الْكِتَابَةِ، وَإِنْ عَتَقَ بِهَا، وَكَالشَّهَادَةِ عَلَى الْوَكَالَةِ بِطَلَبِ الْمَالِ، وَإِسْنَادِ الْوَصِيَّةِ الَّتِي لَيْسَ فِيهَا غَيْرُ الْمَالِ وَالْمَشْهُورُ الْجَوَازُ فِي الْمَسْأَلَتَيْنِ، وَكَذَلِكَ الْقَرْضُ وَالْبَيْعُ وَمَا فِي بَابِهِ. وَمِمَّا يَدْخُلُ فِي هَذَا الْقِسْمِ وَيَخْتَلِفُ أَيْضًا فِيهِ، هَلْ لَهُ حُكْمُ الْمَالِ أَوْ لَا الشَّهَادَةُ عَلَى التَّارِيخِ الْمُتَضَمِّنِ مَالًا، وَهُوَ يَئُولُ إلَى مَا يَتَعَلَّقُ بِالْأَبْدَانِ، كَالرَّجُلِ تَلْزَمُهُ يَمِينٌ بِالطَّلَاقِ أَوْ الْعِتْقِ، لَيَقْضِيَنَّ فُلَانًا حَقَّهُ إلَى أَجَلِ كَذَا فَيَمْضِي الْأَجَلُ، وَيَدَّعِي الْحَالِفُ أَنَّهُ قَدْ مَضَى الْمَالُ قَبْلَ الْأَجَلِ، وَيَشْهَدُ لَهُ رَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ بِأَنَّهُ قَضَى الْمَالَ فَقَدْ سَقَطَ الْمَالُ، وَأَمَّا الطَّلَاقُ وَالْعِتْقُ، فَعَنْ مَالِكٍ قَوْلَانِ قَالَ مَرَّةً: إنَّ الطَّلَاقَ وَقَعَ بِمُضِيِّ الْأَجَلِ فَلَا يَرْتَفِعُ حُكْمُهُ إلَّا بِشَهَادَةِ رَجُلَيْنِ عَلَى مَا ادَّعَاهُ.
وَقَالَ مَرَّةً: إنَّهُ يَسْقُطُ الطَّلَاقُ بِسُقُوطِ ذَلِكَ الْحَقِّ، إمَّا بِإِقْرَارِ الطَّالِبِ أَنَّهُ قَبَضَ، وَيَمِينِ الْمَطْلُوبِ عِنْدَ نُكُولِ الطَّالِبِ أَوْ شَاهِدٍ وَيَمِينٍ وَكَذَلِكَ الشَّاهِدُ وَالْمَرْأَتَانِ.
وَمِثْلُ ذَلِكَ أَنْ لَوْ شَهِدَ أَرْبَعَةٌ أَنَّهُ وَطِئَ أَمَةً لِفُلَانٍ، فَزَعَمَ الْوَاطِئُ أَنَّهُ اشْتَرَاهَا مِنْ سَيِّدِهَا قَبْلَ ذَلِكَ، فَرَأَى ابْنُ الْقَاسِمِ سُقُوطَ الْحَدِّ عَنْهُ إذَا ثَبَتَ مِلْكُهُ، بِمَا تَثْبُتُ بِهِ الْأَمْلَاكُ مِنْ إقْرَارٍ أَوْ شَاهِدٍ وَامْرَأَتَيْنِ، أَوْ يَمِينِ الْوَاطِئِ مَعَ نُكُولِ السَّيِّدِ.
وَقَالَ أَشْهَبُ يُحَدُّ وَلَا يَسْقُطُ الْحَدُّ عَنْهُ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ، إلَّا أَنْ شَهِدَ بِهِ رَجُلَانِ وَاسْتُحْسِنَ إذَا شَهِدَ رَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ، بِتَقَدُّمِ الشِّرَاءِ أَنْ يُدْرَأَ عَنْهُ الْحَدُّ، وَذَلِكَ لِقُوَّةِ الشُّبْهَةِ فِي كَمَالِ الشَّهَادَةِ، فَهَذَا وَمَا كَانَ فِي مَعْنَاهُ مُخْتَلِفٌ فِي أَيِّ أَصْلٍ يَكُونُ؟ قِيلَ هُوَ شَهَادَةٌ عَنْ مَالٍ، فَيُحْمَلُ عَلَى أَحْكَامِهِ فِي الشَّهَادَاتِ وَسَائِرِ وُجُوهِ الْإِثْبَاتِ، فَإِذَا صَحَّ تَعَلَّقَ بِهِ مَا يَتَقَاضَاهُ صِحَّةُ ذَلِكَ الْحَقِّ مِنْ حُكْمِ غَيْرِ الْمَالِ، كَمَا كَانَ ذَلِكَ فِي الْمُكَاتَبِ يُؤَدِّي نُجُومَهُ، وَالرَّجُلُ يَشْتَرِي أَبَاهُ أَوْ ابْنَهُ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ، وَقِيلَ بَلْ هُوَ شَاهِدٌ عَلَى وَقْتٍ، وَالْوَقْتُ لَيْسَ هُوَ بِمَالٍ، ثُمَّ هُوَ مَعَ ذَلِكَ يَئُولُ إلَى غَيْرِ الْمَالِ فَلَمْ يَجُزْ فِيهِ إلَّا رَجُلَانِ.
وَمِمَّا يُخْتَلَفُ فِي شَهَادَةِ النِّسَاءِ فِيهِ جِرَاحُ الْعَمْدِ، قَالَ ابْنُ رَاشِدٍ: فِيهَا ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ. أَحَدُهُمَا: جَوَازُ شَهَادَتِهِنَّ فِيهَا. وَالثَّانِي: أَنَّهَا تَجُوزُ فِي الْجُرْحِ الَّذِي لَا قِصَاصَ فِيهِ، وَإِنَّمَا هُوَ مَالٌ وَقِيلَ تَجُوزُ فِيمَا صَغُرَ مِنْ الْجِرَاحِ دُونَ مَا كَبُرَ، فَوَجْهُ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ أَنَّ مِنْ جِرَاحِ الْعَمْدِ مَا لَا قَوَدَ فِيهِ، إنَّمَا فِيهِ دِيَةُ ذَلِكَ الْجُرْحِ كَالْجَائِفَةِ وَالْمَأْمُومَةِ، فَحُمِلَ مَا بَقِيَ مِنْ جِرَاحِ الْعَمْدِ عَلَى ذَلِكَ، وَحُمِلَ جَمِيعُ ذَلِكَ عَلَى بَابِ الْمَالِيَّاتِ. وَوَجْهُ الْمَنْعِ أَنَّ ذَلِكَ مِنْ حُقُوقِ الْأَبْدَانِ، فَلَا يُجْزِئُ فِيهَا إلَّا شَاهِدَانِ وَهُوَ أَجْرَى عَلَى قِيَاسِ الْمَذْهَبِ، وَمِنْ ذَلِكَ النَّقْلُ عَمَّنْ شَهِدَ بِمَالٍ وَالْوَكَالَةُ بِطَلَبِ الْمَالِ وَالْوَصِيَّةُ بِهِ وَقَدْ تَقَدَّمَ ذَلِكَ، وَالشَّهَادَةُ عَلَى أَسْبَابِ التَّوَارُثِ وَسَيَأْتِي بَيَانُهُ قَرِيبًا، وَكَذَلِكَ فِي الْوَلَاءِ وَالنَّسَبِ وَسَيَأْتِي بَيَانُهُ، وَالْجَوَازُ لِابْنِ الْقَاسِمِ، وَالْمَنْعُ لِأَشْهَبَ، فَحَمَلَ ابْنُ الْقَاسِمِ شَهَادَةَ الْمَرْأَتَيْنِ فِي ذَلِكَ عَلَى شَهَادَتِهِنَّ فِي الْأَمْوَالِ، وَمَنَعَ أَشْهَبُ اعْتِبَارًا بِأَعْيَانِهِنَّ لَا بِمَا تَئُولُ إلَيْهِ.
مَسْأَلَةٌ:
لَوْ شَهِدَ بِالسَّرِقَةِ رَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ ثَبَتَ الْمَالُ دُونَ الْقَطْعِ، وَكَذَلِكَ فَسْخُ الْعُقُودِ يَثْبُتُ بِشَاهِدٍ وَامْرَأَتَيْنِ، وَكُلُّ جُرْحٍ لَا يُوجِبُ إلَّا الْمَالَ كَمَا تَقَدَّمَ مِثَالُهُ، وَكُلُّ مَا كَانَ مِنْ الْمَالِ أَوْ الْمَقْصُودُ مِنْهُ الْمَالُ فَيَثْبُتُ بِرَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ، وَاَلَّذِي الْمَقْصُودُ مِنْهُ الْمَالُ كَالْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ مَا تَقَدَّمَ، وَمِنْ ذَلِكَ الْوَدِيعَةُ وَالْعَارِيَّةُ وَالرَّهْنُ وَالْقِرَاضُ وَالْغَصْبُ وَالْمُسَاقَاةُ وَالْمُغَارَسَةُ وَالصُّلْحُ وَالْكَفَالَةُ بِالْمَالِ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ.

.فَصْلٌ الْقَضَاءُ بِالْيَمِينِ مَعَ الشَّاهِدِ:

فَصْلٌ: وَأَمَّا الْقَضَاءُ بِالْيَمِينِ مَعَ الشَّاهِدِ فَهُوَ أَمْرٌ ثَابِتٌ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ، وَقَضَى بِهِ جَمَاعَةٌ مِنْ الصَّحَابَةِ وَلَمْ يُرْوَ عَنْ أَحَدٍ مِنْهُمْ أَنَّهُ أَنْكَرَهُ، وَبِهِ قَالَ الْفُقَهَاءُ السَّبْعَةُ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ، قَالَ مَالِكٌ: يُقْضَى بِهِ فِي كُلِّ بَلَدٍ، وَيُحْمَلُ عَلَيْهِ النَّاسُ حَيْثُ كَانُوا، وَأَمَّا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى الْأَنْدَلُسِيُّ اللَّيْثِيُّ فَإِنَّهُ تَرَكَ الْعَمَلَ بِهِ وَزَعَمَ أَنَّهُ لَمْ يَرَ اللَّيْثَ يَقُولُ بِهِ، وَيُحْكَى عَنْ قَاضِي الْجَمَاعَةِ ابْنِ بَشِيرٍ الْأَنْدَلُسِيِّ أَنَّهُ لَمْ يَحْكُمْ بِهِ إلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً.
وَقَالَ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنِ يَحْيَى الَّذِي كُنْت أَعْرِفُهُ مِنْ وَالِدِي، أَنَّهُ كَانَ يَذْهَبُ إلَى أَنَّ التَّخْيِيرَ إلَى الْقَاضِي، إنْ كَانَ ذَلِكَ الْأَمْرُ مِنْ الْأَشْيَاءِ الَّتِي لَا يُوصَلُ إلَى الْإِكْثَارِ فِيهَا مِنْ الشُّهُودِ، وَكَانَ الْأَمْرُ مَشْهُورًا عِنْدَ النَّاسِ، أَوْ كَانَ كِتَابًا قَدِيمًا قَدْ مَاتَ شُهُودُهُ إلَّا وَاحِدًا مُبَرِّزًا، فَكَانَ يَرَى أَنْ يَحْكُمَ الْقَاضِي فِي ذَلِكَ بِالْيَمِينِ مَعَ الشَّاهِدِ.
وَقَالَ ابْنُ لُبَابَةَ: اخْتِلَافُ الْعُلَمَاءِ وَمَا ذَهَبَ إلَيْهِ مَالِكٌ فِي ذَلِكَ مَعْرُوفٌ، وَقُضَاتُنَا لَا يَرَوْنَ ذَلِكَ، وَإِنِّي مُتَوَقِّفٌ عَنْ الِاخْتِيَارِ فِي ذَلِكَ، قَالَ ابْنُ سَهْلٍ: وَمَنْ صَحَّ نَظَرُهُ فِي أَحْوَالِ النَّاسِ لَمْ تَطِبْ نَفْسُهُ أَنْ يَقْضِيَ إلَّا بِالشَّاهِدِ الْمُبَرِّزِ فِي الْعَدَالَةِ.
قَالَ الرُّعَيْنِيُّ فِي كِتَابِ الدَّعْوَى وَالْإِنْكَارِ وَيَحْكُمُ بِالشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ فِي كُلِّ حَقٍّ يَدَّعِيهِ الرَّجُلُ عَلَى صَاحِبِهِ مِنْ بَيْعٍ أَوْ شِرَاءٍ مِنْ أَيِّ السِّلَعِ، كَانَ مِنْ دُورٍ أَوْ أَرْضِينَ أَوْ حَيَوَانٍ أَوْ رَقِيقٍ أَوْ ثِيَابٍ، أَوْ طَعَامٍ أَوْ كِرَاءٍ أَوْ إجَارَةٍ أَوْ شَرِكَةٍ، أَوْ مُعَاوَضَةٍ أَوْ مُسَاقَاةٍ أَوْ مُقَارَضَةٍ، أَوْ جُعْلٍ أَوْ صِنَاعَةٍ أَوْ سَلَفٍ أَوْ وَدِيعَةٍ، أَوْ غَصْبٍ أَوْ سَرِقَةٍ، أَوْ تَعَدٍّ أَوْ هِبَةٍ لِلَّهِ تَعَالَى أَوْ لِلثَّوَابِ أَوْ صَدَقَةٍ، أَوْ نِحْلَةٍ أَوْ عَطِيَّةٍ أَوْ بِضَاعَةٍ أَوْ عَارِيَّةٍ، أَوْ حَبْسٍ أَوْ سُكْنَى أَوْ إخْدَامٍ أَوْ صَدَاقٍ أَوْ صُلْحٍ مِنْ إقْرَارٍ، أَوْ إنْكَارٍ فِي عَمْدٍ أَوْ خَطَأٍ أَوْ جِرَاحَةٍ عَمْدًا، أَوْ خَطَأً أَوْ تَوْلِيَةٍ أَوْ إقَالَةٍ أَوْ خِيَارٍ، أَوْ تَبَرٍ مِنْ عَيْبٍ وَرِضًى بِهِ بَعْدَ الْعِلْمِ مِنْ غَيْرِ تَبَرٍ، أَوْ وَكَالَةٍ فِي شَيْءٍ مِمَّا ذَكَرْنَاهُ، مِمَّا يَكُونُ مَالًا أَوْ يَئُولُ إلَى مَالٍ، فَإِذَا أَقَامَ الْمُدَّعِي عَلَى شَيْءٍ مِمَّا تَقَدَّمَ شَاهِدًا وَاحِدًا عَدْلًا، وَحَلَفَ مَعَهُ أَخَذَ مَا ادَّعَى، وَيَثْبُتُ فِي الْقَتْلِ عَمْدُهُ وَخَطَؤُهُ إلَّا أَنَّهُ مَعَ الْقَسَامَةِ.
تَنْبِيهٌ:
قَوْلُ الرُّعَيْنِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَوْ فِي حَبْسٍ يُرِيدُ عَلَى مُعَيَّنِينَ، فَفِي الْمُتَيْطِيَّةِ، وَإِنْ شَهِدَ شَاهِدٌ بِصَدَقَةٍ أَوْ حَبْسٍ عَلَى مُعَيَّنِينَ حَلَفُوا مَعَ شَاهِدِهِمْ، وَاسْتَحَقُّوهَا، وَإِنْ كَانَ عَلَى غَيْرِ مُعَيَّنِينَ، حَلَفَ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ وَبَرِئَ، فَإِنْ نَكَلَ حُكِمَ عَلَيْهِ بِهِ، قَالَ، وَإِنْ كَانَتْ الصَّدَقَةُ أَوْ الْحَبْسُ عَلَى بَنِي فُلَانٍ، فَرَوَى ابْنُ الْمَاجِشُونِ عَنْ مَالِكٍ: أَنَّهُ يَحْلِفُ الْكُلُّ مَعَهُ وَيَنْفُذُ لِجَمِيعِهِمْ.
وَفِي كِتَابِ ابْنِ حَبِيبٍ إنْ حَلَفَ مِنْهُمْ وَاحِدٌ نُفِّذَ لَهُ وَلِغَيْرِهِ، وَرَوَى مُحَمَّدٌ عَنْ أَصْحَابِهِ: أَنَّهُ لَا تَجُوزُ فِيهِ الْيَمِينُ مَعَ الشَّاهِدِ. وَاعْلَمْ أَنَّ الْيَمِينَ مَعَ الشَّاهِدِ إنَّمَا تَكُونُ فِي الْأَمْوَالِ كَمَا تَقَدَّمَ، وَتَكُونُ فِي الْمُشَاتَمَةِ، مَا عَدَا الْحُدُودَ فِي الْفِرْيَةِ وَالسَّرِقَةِ وَالشُّرْبِ وَالنِّكَاحِ وَالرَّجْعَةِ وَالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ، وَمَا تَقَدَّمَ أَنَّهُ لَا يَثْبُتُ إلَّا بِشَاهِدَيْنِ، وَكَذَلِكَ لَا يَكُونُ الْيَمِينُ مَعَ الشَّاهِدِ الْوَاحِدِ فِي الشَّهَادَةِ عَلَى شَهَادَةِ الشَّاهِدِ، وَاخْتُلِفَ فِي الْوَكَالَةِ بِالْمَالِ، وَذَكَرَ ابْنُ رَاشِدٍ فِي قَوْلِ ابْنِ الْحَاجِبِ، وَكَذَلِكَ الْوَكَالَةُ بِالْمَالِ وَالْوَصِيَّةُ بِهِ عَلَى الْمَشْهُورِ، قَالَ: وَمَنْشَأُ الْقَوْلَيْنِ فِي الْوَكَالَةِ وَالْوَصِيَّةِ، أَنَّ الشَّهَادَةَ بَاشَرَتْ مَا لَيْسَ بِمَالٍ لَكِنَّهَا تَئُولُ إلَى الْمَالِ.
فَاعْتَبَرَ ابْنُ الْقَاسِمِ الْمَالَ فَأَجَازَ فِيهَا الشَّاهِدَ وَالْيَمِينَ وَالرَّجُلَ وَالْمَرْأَتَيْنِ، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَابْنِ وَهْبٍ، لَمَّا كَانَ قَوْلُ مَالِكٍ وَابْنِ الْقَاسِمِ وَابْنِ وَهْبٍ الْجَوَازَ شَهَرَهُ ابْنُ الْحَاجِبِ وَلَمْ يُجِزْ ذَلِكَ أَشْهَبُ وَابْنُ الْمَاجِشُونِ؛ لِأَنَّهَا بَاشَرَتْ مَا لَيْسَ بِمَالٍ.
وَفِي الْمُتَيْطِيَّةِ، وَإِنْ شَهِدَ عَلَى غَائِبٍ فِي وَكَالَةٍ شَاهِدٌ، فَرُوِيَ أَنَّهُ يَحْلِفُ الْوَكِيلُ وَتَثْبُتُ وَكَالَتُهُ، وَالْأَكْثَرُ الَّذِي جَرَى عَلَيْهِ الْعَمَلُ أَنَّهُ لَا يَحْلِفُ مَعَهُ.
قَالَ ابْنُ دَحُونٍ يَلْزَمُ مَنْ أَجَازَ شَهَادَةَ النِّسَاءِ عَلَى الْوَكَالَةِ فِي الْمَالِ، أَنْ يُجِيزَ شَاهِدًا وَيَمِينًا عَلَى الْوَكَالَةِ فِي الْمَالِ؛ لِأَنَّهَا تَئُولُ إلَى الْمَالِ، وَزَادَ الْقَرَافِيُّ فِيمَا نَقَلَهُ عَنْ الْعُبَيْدِيِّ فِي هِلَالِ رَمَضَانَ وَذِي الْحِجَّةِ وَالْإِيصَاءِ وَالتَّرْشِيدِ، قَالَ: وَالْمَوَاضِعُ الْمُخْتَلِفَةُ فِيهَا خَمْسَةٌ: الْوَكَالَةُ بِالْمَالِ، وَالْوَصِيَّةُ بِهِ، وَالتَّجْرِيحُ وَالتَّعْدِيلُ، وَنِكَاحُ امْرَأَةٍ قَدْ مَاتَتْ، اُنْظُرْ الْقَوَاعِدَ فِي الْفَرْقِ الثَّامِنِ وَالثَّلَاثِينَ وَالْمِائَتَيْنِ. وَمَعْنَى قَوْلِهِ نِكَاحُ امْرَأَةٍ قَدْ مَاتَتْ، أَنَّهُ إذَا شَهِدَ عَلَى النِّكَاحِ بَعْدَ مَوْتِ الْمَرْأَةِ شَاهِدٌ، أَوْ أَنَّ أَحَدَ الْوَارِثِينَ مَاتَ قَبْلَ الْآخَرِ، فَهَلْ يَحْلِفُ مَعَ الشَّاهِدِ؟ وَيَثْبُتُ الْمِيرَاثُ أَوْ لَا. وَكَذَلِكَ لَوْ شَهِدَ بِذَلِكَ رَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ، قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: يُوَرَّثُ مَعَ الشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ وَالشَّاهِدِ وَالْمَرْأَتَيْنِ، وَأَشْهَبُ يَمْنَعُ؛ لِتَرَتُّبِ ثُبُوتِ النِّكَاحِ عَلَى ذَلِكَ.
مَسْأَلَةٌ:
وَتَجُوزُ الْيَمِينُ مَعَ الشَّاهِدِ فِي الْوِرَاثَةِ، مِثْلَ أَنْ يَشْهَدَ شَاهِدَانِ عَلَى تَسْمِيَةِ وَرَثَةِ مَيِّتٍ، فَيَقُولُ أَحَدُ الشَّاهِدَيْنِ: لَا أَعْلَمُ لَهُ وَارِثًا غَيْرَهُمْ، وَيَقُولُ الْآخَرُ لَا أَدْرِي هَلْ لَهُ وَارِثٌ غَيْرُهُمْ، أَوْ لَا فَإِنَّ الْوَرَثَةَ يَحْلِفُونَ بِاَللَّهِ لَمَا لَهُ وَارِثٌ غَيْرُنَا، ثُمَّ يَسْتَحِقُّونَ الْمِيرَاثَ، وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ فِي الرَّجُلِ يَهْلِكُ عَنْ مَالٍ وَوَلَدٍ فَيُثْبِتُ نَسَبُهُ مِنْ أَبِيهِ بِشَاهِدَيْنِ، فَيَسْأَلُهُ الْحَاكِمُ الْبَيِّنَةَ عَلَى عِدَّةِ وَرَثَةِ أَبِيهِ، فَيَقُولُ لَا وَارِثَ لَهُ غَيْرَى، وَيَأْتِي عَلَى ذَلِكَ بِشَاهِدٍ وَاحِدٍ يَشْهَدُ لَهُ أَنَّهُ لَا يَعْلَمُ لَهُ وَارِثًا غَيْرَهُ، فَإِنَّهُ يَحْلِفُ مَعَ شَاهِدِهِ، وَيَسْتَحِقُّ الْمَالَ، وَلَوْ لَمْ يَثْبُتْ نَسَبُهُ إلَّا بِشَاهِدٍ وَاحِدٍ لَمْ يَحْلِفْ مَعَهُ، كَمَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّهُ لَا يَثْبُتُ إلَّا بِشَاهِدَيْنِ.
مَسْأَلَةٌ:
وَكَذَلِكَ الْوَلَاءُ لَا يَثْبُتُ إلَّا بِشَاهِدَيْنِ، فَلَوْ أَقَامَ شَاهِدًا وَاحِدًا عَلَى مَيِّتٍ أَنَّهُ مَوْلَاهُ، وَأَنَّهُ أَعْتَقَهُ، فَكَانَ ابْنُ الْقَاسِمِ يَقُولُ: إنَّهُ يَحْلِفُ مَعَ شَاهِدِهِ وَيَسْتَحِقُّ الْمَالَ وَلَا يَسْتَحِقُّ الْوَلَاءَ. قَالَ أَشْهَبُ: لَا يَسْتَحِقُّ الْمَالَ وَلَا الْوَلَاءَ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ الْوَلَاءُ الَّذِي يَسْتَحِقُّ بِهِ الْمَالَ، فَلَا يَسْتَحِقُّ الْمَالَ قَبْلَ أَنْ يَسْتَحِقَّ الْوَلَاءَ.
مَسْأَلَةٌ:
لَوْ ادَّعَى الْمُبْتَاعُ فِي الْعَيْبِ الْخَفِيِّ أَنَّهُ كَانَ عِنْدَ الْبَائِعِ، وَشَهِدَ لَهُ بِذَلِكَ شَاهِدٌ وَاحِدٌ، فَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ فِي كِتَابِ مُحَمَّدٍ: يَحْلِفُ الْمُبْتَاعُ مَعَ شَاهِدِهِ وَيَرُدُّ الْعَبْدَ، قَالَهُ ابْنُ نَافِعٍ وَالْمَخْزُومِيُّ.
وَقَالَ ابْنُ كِنَانَةَ: لَا يَحْلِفُ مَعَ شَاهِدِهِ؛ لِأَنَّهُ إذَا حَلَفَ مَعَهُ، فَكَأَنَّهُ قَدْ عَلِمَ أَنَّهُ كَانَ بِهِ ذَلِكَ الْعَيْبُ يَوْمَ ابْتَاعَهُ، فلابد مِنْ شَاهِدَيْنِ عَلَى مَا يَدَّعِيهِ، قَالَ بَعْضُ الشُّيُوخِ وَالصَّوَابُ مَا فِي كِتَابِ مُحَمَّدٍ، غَيْرَ أَنَّهُ لِلْمُبْتَاعِ أَنْ يَصِلَ بِيَمِينِهِ أَنَّهُ لَا يَعْلَمُ بِهَذَا الْعَيْبِ، إلَّا حِينَ قِيَامِهِ؛ لِيَنْدَفِعَ بِذَلِكَ مَا اعْتَلَّ بِهِ ابْنُ كِنَانَةَ، وَإِذَا قُلْنَا يَحْلِفُ الْمُبْتَاعُ مَعَ شَاهِدِهِ، فَلَوْ نَكَلَ عَنْ الْيَمِينِ فَهَلْ يَحْلِفُ الْبَائِعُ عَلَى الْبَتِّ وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ، وَلَيْسَ بِالْبَيِّنِ أَوْ يَحْلِفُ عَلَى الْعِلْمِ قَالَهُ أَصَبْغُ اُنْظُرْ الْمُتَيْطِيَّةِ.
مَسْأَلَةٌ:
قَالَ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ: قَدْ تَكُونُ الشَّهَادَةُ فِي الْمَالِ تُؤَدِّي إلَى الطَّلَاقِ، مِثْلَ أَنْ يُقِيمَ شَاهِدًا وَاحِدًا أَنَّهُ اشْتَرَى امْرَأَتَهُ مِنْ سَيِّدِهَا، فَيَحْلِفُ مَعَهُ وَيَسْتَحِقُّهَا وَيَكُونُ فِرَاقًا.
فَرْعٌ:
وَقَدْ يَدْخُلُ الشَّاهِدُ وَالْيَمِينُ فِي مَالٍ يُؤَدِّي إلَى الْعِتْقِ، مِثْلَ أَنْ يُقِيمَ الْمُكَاتَبُ شَاهِدًا عَلَى أَدَاءِ كِتَابَتِهِ، فَإِنَّهُ يَحْلِفُ مَعَهُ وَيَتِمُّ الْعِتْقُ، وَكَذَا لَوْ ثَبَتَ عَلَى رَجُلٍ دَيْنٌ بِشَهَادَةِ رَجُلٍ وَيَمِينِ الْمُدَّعِي، فَإِنَّهُ يَرُدُّ بِهَذِهِ الشَّهَادَةِ الْعِتْقَ الَّذِي وَقَعَ بَعْدَ الدَّيْنِ.
فَرْعٌ:
وَقَدْ يَدْخُلُ الشَّاهِدُ وَالْيَمِينُ فِي الْقَذْفِ، مِثْلَ أَنْ يَقْذِفَ رَجُلٌ رَجُلًا ظَاهِرَ الْحُرِّيَّةِ فَيَجِبُ عَلَيْهِ الْحَدُّ، فَيَأْتِي مَنْ يَسْتَحِقُّ رَقَبَةَ الْمَقْذُوفِ بِشَاهِدٍ وَيَمِينٍ فَيُسْقِطُ الْحَدَّ عَنْ الْقَاذِفِ، أَوْ يَقْذِفُهُ مُكَاتَبًا، فَيَأْتِي الْمُكَاتَبُ بِشَاهِدٍ أَنَّهُ أَدَّى كِتَابَتَهُ فَيَحْلِفُ مَعَهُ فَيَجِبُ الْحَدُّ لِتَمَامِ الْعِتْقِ مِنْ الْمُتَيْطِيَّةِ.
مَسْأَلَةٌ:
حَيْثُ قُلْنَا: يَحْكُمُ بِالْيَمِينِ مَعَ الشَّاهِدِ، فَهَلْ ذَلِكَ مَنْسُوبٌ إلَى الشَّاهِدِ فَقَطْ، وَالْيَمِينُ كَالِاسْتِظْهَارِ أَوْ الْيَمِينُ كَشَاهِدٍ ثَانٍ؟ فِيهِ خِلَافٌ، وَيَظْهَرُ أَثَرُ ذَلِكَ الْخِلَافِ إذَا رَجَعَ الشَّاهِدُ هَلْ يَغْرَمُ الْحَقَّ كُلَّهُ أَوْ نِصْفَهُ.
مَسْأَلَةٌ:
وَحَيْثُ يَحْكُمُ بِالْيَمِينِ مَعَ الشَّاهِدِ وَكَانَتْ الدَّعْوَى عَلَى يَهُودِيٍّ أَوْ نَصْرَانِيٍّ أَوْ مَجُوسِيٍّ أَوْ عَبْدٍ مَمْلُوكٍ أَوْ أَمَةٍ، أَوْ كَانَتْ الدَّعْوَى لِوَاحِدٍ مِنْ هَؤُلَاءِ، فَإِنَّهُ يَحْلِفُ مَعَ شَاهِدِهِ وَيَسْتَحِقُّ مَا حَلَفَ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَتْ الدَّعْوَى عَلَيْهِ فَلَيْسَ عَلَيْهِ إلَّا يَمِينُهُ بِاَللَّهِ تَعَالَى.

.فَصْلٌ الْقَضَاءُ بِامْرَأَتَيْنِ وَيَمِينٍ:

فَصْلٌ: وَأَمَّا الْقَضَاءُ بِامْرَأَتَيْنِ وَيَمِينٍ، فَيَجْرِي الْمُدَّعِي فِيمَا يَجْرِي فِيهِ الشَّاهِدُ وَالْيَمِينُ مِنْ الْأَمْوَالِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ فِي بَابِ الشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ، وَكَذَا الْوَرَثَةُ، كَمَا لَوْ وَلَدَتْ امْرَأَةٌ ثُمَّ مَاتَتْ هِيَ وَوَلَدُهَا، فَشَهِدَتْ امْرَأَتَانِ أَنَّ الْأُمَّ مَاتَتْ قَبْلَ وَلَدِهَا فَإِنَّ الْأَبَ يَحْلِفُ أَوْ وَرَثَتُهُ عَلَى ذَلِكَ، وَيَسْتَحِقُّونَ مَا يَرِثُ عَنْ أُمِّهِ؛ لِأَنَّهُ مَالٌ قَالَهُ ابْنُ الْقَاسِمِ.
تَنْبِيهٌ:
وَاخْتُلِفَ فِي مَسَائِلَ مِنْهَا: لَوْ شَهِدَ النِّسَاءُ فِي طَلَاقٍ وَدَيْنٍ بِشَهَادَةِ وَاحِدٍ جَازَتْ فِي الدَّيْنِ مَعَ الْيَمِينِ دُونَ الطَّلَاقِ.
فَرْعٌ:
وَكَذَا إذَا شَهِدَتْ امْرَأَتَانِ عَلَى مَيِّتٍ أَنَّهُ أَوْصَى لِرَجُلٍ، قَالَ فِي الْمُدَوَّنَةِ لَا تَجُوزُ شَهَادَتُهُمَا إنْ كَانَ فِي الْوَصِيَّةِ عِتْقٌ، وَأَبْضَاعُ النِّسَاءِ يُرِيدُ نِكَاحَ الْبَنَاتِ فَأَبْطَلَ الْوَصِيَّةَ كُلَّهَا، قَالَ ابْنُ رَاشِدٍ: وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي هَذَا الْأَصْلِ وَهُوَ مَا إذَا اشْتَمَلَتْ الشَّهَادَةُ عَلَى مَا تُجِيزُهُ السُّنَّةُ وَمَا لَا تُجِيزُهُ، وَالْمَشْهُورُ جَوَازُ مَا أَجَازَتْهُ السُّنَّةُ دُونَ مَا لَا تُجِيزُهُ، وَقِيلَ يُرَدُّ الْجَمِيعُ.

.الْبَابُ الرَّابِعُ فِي الْقَضَاءِ بِشَاهِدٍ وَامْرَأَتَيْنِ وَنُكُولِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ:

عَنْ الْيَمِينِ الْمَرْدُودَةِ وَالْقَضَاءِ بِالْيَمِينِ الرَّافِعَةِ وَالْيَمِينِ الْمُنْقَلِبَةِ وَحُكْمِ نُكُولِ الْمُدَّعَى عَنْ الْيَمِينِ الْمُصَحَّحَةِ لِلدَّعْوَى وَذَلِكَ يَجْرِي فِي كُلِّ مَوْضِعٍ يُقْبَلُ فِيهِ الشَّاهِدُ وَالْيَمِينُ وَالْمَرْأَتَانِ وَالْيَمِينُ. وَصُورَةُ ذَلِكَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ شَاهِدٌ وَامْرَأَتَانِ، فَإِذَا تَوَجَّهَتْ الْيَمِينُ عَلَى الْمُدَّعِي رَدَّهَا عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، فَإِنْ نَكَلَ عَنْ الْيَمِينِ قَضَى عَلَيْهِ بِنُكُولِهِ وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَرُدَّهَا عَلَى الْمُدَّعِي؛ لِأَنَّ الْيَمِينَ الْمَرْدُودَةَ لَا تُرَدُّ، فَفِي هَذِهِ الصُّورَةِ تُسَمَّى الْيَمِينُ الْمَرْدُودَةُ وَلَوْ لَمْ يَرُدَّهَا الْمُدَّعِي، فَإِنَّ الْحُكْمَ يُوجِبُ انْقِلَابَهَا عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، فَإِنْ حَلَفَ بَرِيءَ، وَإِنْ نَكَلَ غَرِمَ.
وَأَمَّا الْيَمِينُ الرَّافِعَةُ لِلدَّعْوَى، فَصُورَةُ ذَلِكَ أَنْ يَدَّعِيَ رَجُلٌ عَلَى رَجُلٍ حَقًّا وَلَيْسَ لَهُ بَيِّنَةٌ عَلَى ذَلِكَ، فَيُنْكِرُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فَتَتَوَجَّهُ عَلَيْهِ الْيَمِينُ عَلَى نَفْيِ مَا ادَّعَى بِهِ عَلَيْهِ، فَهَذِهِ هِيَ الْيَمِينُ الرَّافِعَةُ لِلدَّعْوَى.
وَأَمَّا الْيَمِينُ الْمُنْقَلِبَةُ، فَهِيَ أَنْ يُطْلَبَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِالْيَمِينِ الرَّافِعَةِ لِلدَّعْوَى، فَيَنْكُلُ عَنْهَا فَتَنْقَلِبُ الْيَمِينُ عَلَى الطَّالِبِ فَيَحْلِفُ وَيَسْتَحِقُّ، فَإِنْ جَهِلَ الْمَطْلُوبُ رَدَّهَا فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْحَاكِمِ أَنْ يُخْبِرَهُ وَلَا يَقْضِيَ عَلَيْهِ حَتَّى يَرُدَّهَا، فَإِنْ نَكَلَ الْمُدَّعِي فَلَا شَيْءَ لَهُ.
فَرْعٌ:
فَإِنْ حَلَفَ الْمُدَّعِي حِينَ نَكَلَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، وَأَخَذَ مَا ادَّعَاهُ، ثُمَّ إنَّ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ وَجَدَ بَيِّنَةً بِبَرَاءَتِهِ مِنْ ذَلِكَ نَفَعَهُ ذَلِكَ، وَاسْتَعَادَ مَا أَخَذَهُ مِنْهُ الْمُدَّعِي مِنْ مُخْتَصَرِ الْوَاضِحَةِ.
فَرْعٌ:
وَعَكْسُ هَذَا إذَا امْتَنَعَ الْمُدَّعِي مِنْ الْيَمِينِ مَعَ الشَّاهِدِ، وَحَلَفَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ ثُمَّ وَجَدَ الطَّالِبُ شَاهِدًا آخَرَ، فَقِيلَ يُضَمُّ إلَى شَاهِدِهِ الْأَوَّلِ، وَتَبْطُلُ يَمِينُ الْمَطْلُوبِ رَوَاهُ ابْنُ الْمَاجِشُونِ عَنْ مَالِكٍ، قَالَ ابْنُ الْمَاجِشُونِ: وَكَلَّمْت فِيهِ ابْنُ كِنَانَةَ، فَقَالَ: هَذَا عِنْدَنَا وَهْمٌ مِنْ قَوْلِهِ، وَقَدْ كَانَ يَقُولُ: إنَّ ذَلِكَ لَيْسَ لَهُ؛ لِأَنَّ الطَّالِبَ قَدْ كَانَ لَهُ أَنْ يَحْلِفَ مَعَ شَاهِدِهِ الْأَوَّلِ، فَلَمَّا أَبَى ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ لَهُ بَعْدَ ذَلِكَ الرُّجُوعُ فِي ذَلِكَ، وَلَا الِاعْتِدَادُ بِهِ بِشَاهِدٍ آخَرَ، وَإِنَّمَا يَكُونُ هَذَا فِيمَا لَيْسَ فِيهِ الْيَمِينُ مَعَ الشَّاهِدِ، مِثْلُ الْمَرْأَةُ تُقِيمُ شَاهِدًا عَلَى طَلَاقِ زَوْجِهَا إيَّاهَا، وَالْعَبْدُ يُقِيمُ شَاهِدًا عَلَى عِتْقِ سَيِّدِهِ إيَّاهُ، فَيَحْلِفُ الزَّوْجُ أَوْ السَّيِّدُ ثُمَّ يَجِدُ الطَّالِبُ مِنْهُمَا شَاهِدًا آخَرَ، فَإِنَّهُ يُضَمُّ لَهُ إلَى شَاهِدِهِ الْأَوَّلِ وَيَبْطُلُ يَمِينُ الْحَالِفِ. قَالَ ابْنُ الْمَاجِشُونِ وَبِهَذَا أَقُولُ وَهُوَ الْحَقُّ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَقِيلَ إنْ جَاءَ بِشَاهِدَيْنِ سِوَى الْأَوَّلِ قَضَى لَهُ بِهِمَا، وَإِلَّا فَلَا، وَقِيلَ إنْ جَاءَ بِشَاهِدَيْنِ قُضِيَ لَهُ بِهِمَا، وَإِنْ جَاءَ بِشَاهِدٍ اُسْتُؤْنِفَ الْحُكْمُ فَيَحْلِفُ مَعَهُ. اُنْظُرْ الْمُتَيْطِيَّةِ، وَهَذَا الِاخْتِلَافُ إذَا لَمْ يَعْلَمْ بِشَهَادَةِ الثَّانِي، أَوْ كَانَ بَعِيدَ الْغَيْبَةِ. وَمِنْ ذَلِكَ إذَا ادَّعَى الْمَطْلُوبُ الْعَدَمَ.
وَقَالَ: إنَّ الْمُدَّعِيَ عَالِمٌ بِذَلِكَ فَلَهُ أَخْذُ الْيَمِينِ الرَّافِعَةِ لِلدَّعْوَى، فَإِنْ نَكَلَ الْمُدَّعِي فَلَا مَقَالَ وَحَلَفَ الْمَطْلُوبُ أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ مَالٌ ظَاهِرٌ وَلَا بَاطِنٌ، وَهَذِهِ الْيَمِينُ تُسَمَّى الْيَمِينَ الْمُصَحِّحَةَ لِلدَّعْوَى، وَالْمُدَّعِي فِي هَذِهِ الصُّورَةِ مُدَّعًى عَلَيْهِ، اُنْظُرْ الْمُتَيْطِيَّةِ.
تَنْبِيهٌ:
وَيَنْبَغِي لِلْحَاكِمِ أَنْ يُبَيِّنَ لِلْمُدَّعَى عَلَيْهِ حُكْمَ النُّكُولِ، إنْ كَانَتْ الدَّعْوَى فِي مَالٍ وَحُكْمِهِ إنْ كَانَتْ فِي طَلَاقٍ أَوْ عِتْقٍ.
مَسْأَلَةٌ:
وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي الْقَضَاءِ بِالشَّاهِدِ وَالنُّكُولِ فِي الطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ، فَعَنْ مَالِكٍ فِي ذَلِكَ رِوَايَتَانِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ ذَلِكَ فِي الْبَابِ الثَّانِي.

.فَصْلٌ الدَّعْوَى إذَا لَمْ تَقُمْ عَلَيْهَا بَيِّنَةٌ وَنَكَلَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ:

فَصْلٌ: وَأَصْلُ هَذَا الْبَابِ إقَامَةُ السَّبَبِ الْمُقَوِّي لِلدَّعْوَى مَقَامَ الشَّاهِدِ الْوَاحِدِ. وَبَيَانُ ذَلِكَ أَنَّ الدَّعْوَى إذَا لَمْ تَقُمْ عَلَيْهَا بَيِّنَةٌ، وَنَكَلَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ عَنْ الْيَمِينِ فَرُدَّتْ الْيَمِينُ عَلَى الْمُدَّعِي حَلَفَ وَاسْتَحَقَّ حَقَّهُ بِاجْتِمَاعِ نُكُولِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ وَيَمِينِ الْمُدَّعِي، فَكَمَا كَانَتْ تَجِبُ الْيَمِينُ مَعَ الشَّاهِدِ وَجَبَتْ مَعَ النُّكُولِ، فَالنُّكُولُ سَبَبٌ يَقُومُ مَقَامَ الشَّاهِدِ الْوَاحِدِ، وَالْيَمِينُ تَقُومُ مَقَامَ الشَّاهِدِ الْآخَرِ، فَيَسْتَحِقُّ بِذَلِكَ حَقَّهُ كَمَا يَسْتَحِقُّ بِالشَّاهِدَيْنِ، فَإِنْ نَكَلَ الْمُدَّعِي عَنْ الْيَمِينِ فَلَا شَيْءَ لَهُ. وَإِنْ أَقَامَ عَلَى الدَّعْوَى شَاهِدًا فَنَكَلَ الَّذِي قَامَ لَهُ الشَّاهِدُ، حَلَفَ الْآخَرُ وَبَرِئَ؛ لِأَنَّ يَمِينَهُ تُكَافِئُ شَاهِدَ الْمُدَّعِي، فَيَسْقُطُ الطَّلَبُ، فَإِنْ نَكَلَ الْمَطْلُوبُ بَعْدَ رَدِّ الْيَمِينِ عَلَيْهِ غَرِمَ؛ لِأَنَّ نُكُولَهُ سَبَبٌ ثَانٍ يُقَوِّي دَعْوَى الطَّالِبِ، فَوَجَبَ الْحَقُّ لِاجْتِمَاعِ السَّبَبَيْنِ كَمَا يَجِبُ بِالشَّاهِدَيْنِ، وَحَاصِلُهُ أَنَّ الْحَقَّ لَا يَثْبُتُ بِسَبَبٍ وَاحِدٍ، كَمَا لَا يَثْبُتُ بِشَاهِدٍ وَاحِدٍ.
فَتَلَخَّصَ مِنْ هَذَا صُورَتَانِ.
الْأُولَى: نُكُولُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ عَنْ الْيَمِينِ الرَّافِعَةِ لِلدَّعْوَى، حَيْثُ لَا بَيِّنَةَ فَتَنْقَلِبُ الْيَمِينُ عَلَى الْمُدَّعِي، فَإِنْ حَلَفَ اسْتَحَقَّ، وَإِلَّا فَلَا شَيْءَ لَهُ. الصُّورَةُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يَكُونَ عَلَى الدَّعْوَى شَاهِدٌ فَيَنْكُلُ الْمُدَّعِي عَنْ الْيَمِينِ مَعَ شَاهِدِهِ، وَتُرَدُّ الْيَمِينُ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، فَإِنْ حَلَفَ بَرِيءَ، وَإِنْ نَكَلَ غَرِمَ.

.الْبَابُ الْخَامِسُ فِي الْقَضَاءِ بِالْبَيِّنَةِ التَّامَّةِ مَعَ يَمِينِ الْقَضَاءِ:

وَتُسَمَّى أَيْضًا يَمِينَ الِاسْتِبْرَاءِ، وَصُورَةُ ذَلِكَ أَنْ يَشْهَدَ شَاهِدَانِ لِرَجُلٍ بِشَيْءٍ مُعَيَّنٍ فِي يَدِ آخَرَ، فَإِنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّهُ حَتَّى يَحْلِفَ مَا بَاعَ وَلَا وَهَبَ وَلَا خَرَجَتْ عَنْ يَدِهِ بِطَرِيقٍ مِنْ الطُّرُقِ الْمُزِيلَةِ لِلْمِلْكِ، وَهُوَ الَّذِي عَلَيْهِ الْفُتْيَا وَالْقَضَاءُ، وَعَلَّلَهُ الْأَصْحَابُ بِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بَاعَهَا مِنْ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، أَوْ غَيْرُ ذَلِكَ مِنْ الِاحْتِمَالَاتِ، وَمَعَ قِيَامِ الِاحْتِمَالِ لابد مِنْ الْيَمِينِ.
مَسْأَلَةٌ:
قَالَ ابْنُ رَاشِدٍ: وَيَمِينٌ الْقَضَاءِ مُتَوَجِّهَةٌ عَلَى مَنْ يَقُومُ عَلَى الْمَيِّتِ، أَوْ عَلَى الْغَائِبِ، أَوْ عَلَى الْيَتِيمِ، أَوْ عَلَى الْأَحْبَاسِ، أَوْ عَلَى الْمَسَاكِينِ، وَعَلَى كُلِّ وَجْهٍ مِنْ وُجُوهِ الْبِرِّ، وَعَلَى بَيْتِ الْمَالِ، وَعَلَى مَنْ اسْتَحَقَّ شَيْئًا مِنْ الْحَيَوَانِ، وَلَا يَتِمُّ الْحُكْمُ إلَّا بِهَا.
فَرْعٌ:
وَفِي مُفِيدِ الْحُكَّامِ مِمَّا نَقَلَهُ مِنْ الْأَحْكَامِ لِلْبَاجِيِّ، قَالَ: أَجْمَعَ مَنْ عَلِمْتُ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ أَنَّهُ لَا يَتِمُّ لِمُسْتَحِقِّ غَيْرِ الرِّبَاعِ وَالْعَقَارِ حُكْمٌ إلَّا بَعْدَ يَمِينِهِ، قَالَ وَرَأَى بَعْضُ مَشَايِخِنَا ذَلِكَ لَازِمًا فِي الْعَقَارِ وَالرِّبَاعِ، وَبَعْضُهُمْ لَمْ يَرَ فِي ذَلِكَ يَمِينًا.
مَسْأَلَةٌ:
وَيَمِينٌ الْمُسْتَحِقِّ عَلَى الْبَتِّ أَنَّهُ مَا بَاعَ وَلَا وَهَبَ، وَيَمِينُ الْوَرَثَةِ عَلَى الْعِلْمِ أَنَّهُ مَا خَرَجَ عَنْ مِلْكِ مُوَرِّثِهِمْ بِوَجْهٍ مِنْ الْوُجُوهِ كُلِّهَا، وَأَنَّ مِلْكَ جَمِيعِهِمْ يَعْنِي الْوَرَثَةَ، بَاقٍ عَلَيْهِ إلَى حِينِ يَمِينِهِمْ، وَهَذِهِ التَّتِمَّةُ فِي الْيَمِينِ تَكُونُ عَلَى الْبَتِّ.
مَسْأَلَةٌ:
إذَا ادَّعَى رَجُلٌ بِدَيْنٍ عَلَى مَيِّتٍ، وَأَقَامَ عَلَيْهِ الْبَيِّنَةُ، فَإِنْ كَانَ وَرَثَتُهُ كِبَارًا وَلَمْ يَدَّعُوا دَفْعَ الدَّيْنِ مِنْ مُوَرِّثِهِمْ وَلَا مِنْ أَنْفُسِهِمْ، فَفِي كِتَابِ ابْنِ شَعْبَانَ: لَا يَلْزَمُ رَبَّ الدَّيْنِ يَمِينٌ بِخِلَافِ مَا لَوْ كَانُوا صِغَارًا، فلابد مِنْ الْيَمِينِ. وَظَاهِرُ مَا فِي النَّوَادِرِ خِلَافُهُ.
وَقَالَ بَعْضُ الشُّيُوخِ: لابد مِنْ الْيَمِينِ مَخَافَةَ طُرُوءِ دَيْنٍ أَوْ وَارِثٍ آخَرَ.
مَسْأَلَةٌ:
وَفِي مَعِينُ الْحُكَّامِ، اُخْتُلِفَ فِيمَنْ اسْتَحَقَّ شَيْئًا مِنْ الرِّبَاعِ أَوْ الْأُصُولِ، هَلْ عَلَيْهِ يَمِينٌ أَمْ لَا؟ فَاَلَّذِي ذَهَبَ إلَيْهِ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ وَجَرَى عَلَيْهِ الْعَمَلُ أَنْ لَا يَمِينَ عَلَى مُسْتَحِقِّ ذَلِكَ، وَوَجْهُ قَوْلِ مَالِكٍ: أَنَّ الرِّبَاعَ مِمَّا جَرَتْ الْعَادَةُ بِكَتْبِ الْوَثَائِقِ فِيهَا عِنْدَ انْتِقَالِ الْمِلْكِ عَلَيْهَا وَالْإِعْلَانِ بِالشَّهَادَةِ فِيهَا، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ عِنْدَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ الْعُقُودِ وَالْمُكَاتَبِ، وَقَامَتْ الْبَيِّنَةُ لِلطَّالِبِ قَوِيَتْ حُجَّتُهُ، وَاكْتَفَى بِالْبَيِّنَةِ عَنْ إحْلَافِهِ بِخِلَافِ سَائِرِ الْمُمَوَّلَاتِ الَّتِي يَخْفَى وَجْهُ انْتِقَالِهَا، وَيَقِلُّ حِرْصُ النَّاسِ عَلَى الْمُشَاحَّةِ فِي كِتَابِ الْوَثَائِقِ فِيهَا، فَتَوَجَّهَتْ الْيَمِينُ لِذَلِكَ.
وَقَالَ ابْنُ وَهْبٍ وَابْنُ الْقَاسِمِ فِي كِتَابِ الِاسْتِحْقَاقِ مِنْ الْعُتْبِيَّةِ: لابد مِنْ يَمِينِ مَنْ اسْتَحَقَّ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ، أَنَّهُ مَا بَاعَ وَمَا وَهَبَ كَالْعُرُوضِ وَالْحَيَوَانِ، وَاتَّفَقُوا فِي غَيْرِ الْأُصُولِ أَنَّهُ لَا يَقْضِي لِمُسْتَحِقٍّ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ حَتَّى يَحْلِفَ.
قَالَ ابْنُ سَهْلٍ وَقَالَ ابْنُ كِنَانَةَ: لَيْسَ عَلَى مَنْ أَقَامَ بَيِّنَةً فِي أَرْضٍ أَوْ حَيَوَانٍ أَوْ سِلْعَةٍ يَمِينٌ إلَّا أَنْ يَدَّعِيَ الَّذِي ذَلِكَ فِي يَدَيْهِ أَمْرًا يَظُنُّ بِصَاحِبِهِ أَنَّهُ قَدْ فَعَلَهُ، فَيَحْلِفُ مَا فَعَلَهُ وَيَأْخُذُهُ حَقَّهُ وَهَذِهِ قَوْلَةٌ ثَالِثَةٌ.
تَنْبِيهٌ:
قَالَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ: هَذَا إذَا اُسْتُحِقَّتْ مَنْ يَدِ غَيْرِ غَاصِبٍ، وَأَمَّا إنْ اُسْتُحِقَّتْ مِنْ يَدِ غَاصِبٍ فَلَا يَمِينَ عَلَى مُسْتَحَقِّيهَا إذَا ثَبَتَ مِلْكُهَا لَهُ.
مَسْأَلَةٌ:
قَالَ ابْنُ سَهْلٍ: وَإِذَا شَهِدَ لِرَجُلٍ شَاهِدَانِ عَلَى دَيْنٍ لِأَبِيهِ حَلَفَ أَنَّهُ لَا يَعْلَمُ أَنَّ أَبَاهُ اقْتَضَى مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا، وَإِنْ كَانَ شَيْئًا مُعَيَّنًا فَاسْتَحَقَّهُ بِشَاهِدَيْنِ، حَلَفَ أَنَّهُ مَا يَعْلَمُ أَنَّ أَبَاهُ لَا وَهَبَ وَلَا خَرَجَ مِنْ يَدِهِ بِوَجْهٍ مِنْ وُجُوهِ الْمِلْكِ، وَالْيَمِينُ فِي ذَلِكَ عَلَى مَنْ يُظَنُّ بِهِ عِلْمُ ذَلِكَ، وَلَا يَمِينَ عَلَى مَنْ لَا يُظَنُّ بِهِ عِلْمُ ذَلِكَ، وَلَا عَلَى صَغِيرٍ وَمَنْ نَكَلَ مِمَّنْ تَلْزَمُهُ الْيَمِينُ مِنْهُمْ سَقَطَ مِنْ الدَّيْنِ حِصَّتُهُ فَقَطْ، قَالَ فِي رِوَايَةِ يَحْيَى: بَعْدَ يَمِينِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ مِنْ ابْنِ يُونُسَ مِنْ قَوْلِهِ وَالْيَمِينُ فِي ذَلِكَ.
تَنْبِيهٌ:
قَالَ ابْنُ سَهْلٍ وَلَا يُكَلَّفُ الْوَرَثَةُ أَنْ يَزِيدُوا فِي يَمِينِهِمْ أَنَّ الشَّيْءَ الْمُسْتَحَقَّ كَانَ فِي مِلْكِ مُوَرِّثِهِمْ؛ لِأَنَّ الْبَيِّنَةَ قَدْ شَهِدُوا بِذَلِكَ وَقَطَعُوا بِهِ، وَقَدْ أُنْكِرَ هَذَا عَلَى بَعْضِ الْقُضَاةِ لَمَّا فَعَلَهُ، فَلَا يَنْبَغِي لِلْحَاكِمِ أَنْ يَحْكُمَ إلَّا فِيمَا لابد مِنْهُ، فَيَنْبَغِي التَّحَفُّظُ فِي هَذِهِ الزِّيَادَةِ وَشَبَهِهَا.
مَسْأَلَةٌ:
وَفِي الطُّرَرِ: مَنْ شَهِدَ لَهُ شَاهِدَانِ عَلَى خَطِّ غَرِيمِهِ بِمَا ادَّعَاهُ عَلَيْهِ وَالْغَرِيمُ جَاحِدٌ فَلَا يُحْكَمُ لَهُ بِمُجَرَّدِ الشَّهَادَةِ عَلَى خَطِّهِ حَتَّى يَحْلِفَ مَعَهُمَا، فَإِذَا حَلَفَ أَنَّهُ لَحَقٌّ، وَمَا اقْتَضَيْتُ شَيْئًا مِمَّا كَتَبَ بِهِ خَطُّهُ أُعْطِيَ حَقَّهُ.
تَنْبِيهٌ:
مَنْ أَقَامَ بَيِّنَةً عَلَى حَاضِرٍ بِدَيْنٍ فَلَا يَحْلِفُ مَعَ بَيِّنَتِهِ عَلَى إثْبَاتِ الْحَقِّ، وَلَا عَلَى أَنَّهُ مَا قَبَضَهُ مِنْهُ حَتَّى يَدَّعِيَ الْمَطْلُوبُ أَنَّهُ دَفَعَهُ إلَيْهِ، أَوْ دَفَعَهُ عَنْهُ دَافِعٌ مِنْ وَكِيلٍ أَوْ غَيْرِهِ، فَحِينَئِذٍ يَحْلِفُ قَالَهُ فِي الْمُدَوَّنَةِ.

.فَصْلٌ شَهَادَةُ السَّمَاعِ:

فَصْلٌ: وَمِمَّا يُحْكَمُ فِيهِ بِالْيَمِينِ مَعَ الشَّاهِدَيْنِ، شَهَادَةُ السَّمَاعِ قَالَ ابْنُ مُحْرِزٍ لَا يُقْضَى لِأَحَدٍ بِشَهَادَةِ السَّمَاعِ إلَّا بَعْدَ يَمِينِهِ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ أَصْلُ السَّمَاعِ مِنْ شَاهِدٍ وَاحِدٍ، وَالشَّاهِدُ الْوَاحِدُ لابد مَعَهُ مِنْ الْيَمِينِ.

.فَصْلٌ جَعَلَ الزَّوْجُ أَمْر زَوْجَتِهِ بِيَدِهَا إنْ غَابَ عَنْهَا وَأَشْهَدَ عَلَى ذَلِكَ وَغَابَ:

فَصْلٌ: وَمِنْ ذَلِكَ أَيْضًا إذَا جَعَلَ الزَّوْجُ لِزَوْجَتِهِ، إنْ غَابَ عَنْهَا أَكْثَرَ مِنْ سَنَةٍ مَثَلًا فَأَمْرُهَا بِيَدِهَا، وَأَشْهَدَ عَلَى ذَلِكَ وَغَابَ فَأَرَادَتْ الْأَخْذَ بِشَرْطِهَا عِنْدَ الْأَجَلِ، وَأَثْبَتَتْ عِنْدَ الْحَاكِمِ الزَّوْجِيَّةَ وَالْغَيْبَةَ وَاتِّصَالَهَا وَالشَّرْطَ بِذَلِكَ فلابد أَنْ تَحْلِفَ أَنَّهَا مَا تَرَكَتْ مَا جَعَلَهُ بِيَدِهَا، وَأَنَّهُ غَابَ أَكْثَرَ مِنْ الْمُدَّةِ الَّتِي شَرَطَهَا، وَهَذِهِ يَمِينُ اسْتِبْرَاءٍ، وَمِنْ ذَلِكَ إذَا قَامَتْ بَيِّنَةٌ لِلْغَرِيمِ الْمَجْهُولِ الْحَالِ بِأَنَّهُ مُعْدِمٌ، فلابد مِنْ يَمِينِهِ أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ مَالٌ ظَاهِرٌ وَلَا بَاطِنٌ، وَإِنْ وَجَدَ مَالًا لَيُؤَدِّيَنَّ حَقَّهُ عَاجِلًا؛ لِأَنَّ الْبَيِّنَةَ إنَّمَا شَهِدَتْ عَلَى الظَّاهِرِ وَلَعَلَّهُ غَيَّبَ مَالًا، وَمِنْ ذَلِكَ الْمَرْأَةُ تَدَّعِي عَلَى زَوْجِهَا الْغَائِبِ النَّفَقَةَ، وَتُقِيمُ الْبَيِّنَةَ بِإِثْبَاتِ الزَّوْجِيَّةِ وَالْغَيْبَةِ، وَاتِّصَالِهَا، وَأَنَّهُمْ مَا عَلِمُوهُ تَرَكَ لَهَا نَفَقَةً، فلابد مِنْ يَمِينِهَا عَلَى مَا هُوَ مَذْكُورٌ فِي الْفَصْلِ الْخَامِسِ فِي التَّنْبِيهِ عَلَى أَحْكَامٍ تَتَوَقَّفُ سَمَاعُ الدَّعْوَى بِهَا عَلَى إثْبَاتِ فُصُولٍ، وَضَابِطُ هَذَا الْبَابِ أَنَّ كُلَّ بَيِّنَةٍ شَهِدَتْ بِظَاهِرٍ فَإِنَّهُ يُسْتَظْهَرُ بِيَمِينِ الطَّالِبِ عَلَى بَاطِنِ الْأَمْرِ، قَالَهُ فِي التَّوْضِيحِ فِي بَابِ التَّفْلِيسِ.

.فَصْلٌ تَسْقُطُ يَمِينُ الْقَضَاءِ فِي بَعْضِ الصُّوَرِ:

فَصْلٌ: قَدْ تَسْقُطُ يَمِينُ الْقَضَاءِ فِي بَعْضِ الصُّوَرِ، قَالَ ابْنُ الْهِنْدِيِّ: إذَا أَوْصَى الرَّجُلُ أَنْ يُقْضَى دِينُهُ مِنْ ثُلُثِهِ فَلَا يَمِينَ عَلَى صَاحِبِ الدَّيْنِ، وَذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ الْوَصَايَا.
فَرْعٌ:
أَمَّا لَوْ أَقَرَّ لَهُ فِي مَرَضِهِ بِدَنَانِيرَ أَوْ دَرَاهِمَ أَوْ مَا لَا يُعْرَفُ بِعَيْنِهِ ثُمَّ مَاتَ وَقَامَتْ الْبَيِّنَةُ بِالْإِقْرَارِ، فلابد مِنْ الْيَمِينِ أَنَّهُ مَا قَبَضَ وَلَا وَهَبَ وَلَا اسْتَحَالَ، وَأَنَّهُ لَبَاقٍ إلَى حِينِ يَمِينِهِ.
فَرْعٌ:
أَمَّا لَوْ أَقَرَّ لَهُ بِعَرَضٍ بِعَيْنِهِ ثُمَّ مَاتَ الْمُقِرُّ، وَجَبَ لِلْمُقَرِّ لَهُ أَخَذُ ذَلِكَ الْعَرَضِ دُونَ يَمِينٍ، وَكَذَلِكَ كُلُّ شَيْءٍ يَعْرِفُهُ الشُّهُودُ بِعَيْنِهِ فَيَنْبَغِي التَّفَطُّنُ لِهَذِهِ الْوُجُوهِ. اُنْظُرْ ابْنَ سَهْلٍ.

.فَصْلٌ الصَّدَاقُ فِي ذِمَّةِ الْغَائِبِ:

فَصْلٌ: وَمِمَّا يُحْكَمُ فِيهِ بِالْيَمِينِ مَعَ الشَّاهِدَيْنِ، الصَّدَاقُ فِي ذِمَّةِ الْغَائِبِ وَفِي الْمَذْهَبِ فِي ضَبْطِ قَوَاعِدِ الْمَذْهَبِ لِابْنِ رَاشِدٍ: الصَّدَاقُ دَيْنٌ، وَالدَّيْنُ لَا يُؤْخَذُ مِنْ مَالِ الْغُيَّبِ إلَّا بَعْدَ يَمِينِ الْقَضَاءِ.
فَرْعٌ:
فَلَوْ كَانَتْ الْبِنْتُ فِي وِلَايَةِ أَبِيهَا فَمَنْ الَّذِي يَحْلِفُ؟ قَالَ الْمُتَيْطِيُّ فِي كِتَابِ الْمَفْقُودِ: إذَا قَامَتْ الْمَرْأَةُ تَطْلُبُ كَالِئَهَا، وَهِيَ فِي وِلَايَةِ أَبِيهَا فَفِيهَا ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ.: الْمَشْهُورُ أَنَّهَا هِيَ الَّتِي تَحْلِفُ.
وَقَالَهُ ابْنُ عَتَّابٍ وَابْنُ الْعَطَّارِ وَقَالَ ابْنُ الْقَطَّانِ: لَا يَمِينَ عَلَيْهَا فِي ذَلِكَ وَلَا عَلَى أَبِيهَا.
وَقَالَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ الْمُوَثَّقِينَ: إنَّ الْأَبَ يَحْلِفُ دُونَهَا وَهِيَ عِنْدِي أَصَحُّ؛ لِأَنَّهَا لَوْ أَقَرَّتْ بِقَبْضِهِ لَمْ يَسْقُطْ عَنْ الزَّوْجِ بِذَلِكَ، وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وُجُوبُ الْيَمِينِ.

.فَصْلٌ يَمِينُ الْقَضَاءِ لَا نَصَّ عَلَى وُجُوبِهَا:

لِعَدَمِ الدَّعْوَى عَلَى الْحَالِفِ بِمَا يُوجِبُهَا، إلَّا أَنَّ أَهْلَ الْعِلْمِ رَأَوْا ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِحْسَانِ نَظَرًا لِلْمَيِّتِ وَالْغَائِبِ وَحِيَاطَةً عَلَيْهِ وَحِفْظًا لِمَالِهِ لِلشَّكِّ فِي بَقَاءِ الدَّيْنِ عَلَيْهِ.
تَنْبِيهٌ:
فَإِذَا حَلَفَ مَرَّةً، وَتَأَخَّرَ الْقَضَاءُ لَمْ يَصِحَّ أَنْ يَحْلِفَ ثَانِيَةً بِالتَّوَهُّمِ الْمُحْتَمَلِ، وَلَا يُشْبِهُ ذَلِكَ إذَا كَانَ صَاحِبُهُ حَاضِرًا وَادَّعَى عَلَيْهِ أَنَّهُ قَضَاهُ بَعْدَ ذَلِكَ، أَوْ وَهَبَهُ إيَّاهُ؛ لِأَنَّ الْيَمِينَ عَلَيْهِ وَاجِبَةٌ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ؛ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي وَالْيَمِينُ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ».
تَنْبِيهٌ:
قَدْ تَكَرَّرَ يَمِينُ الْقَضَاءِ فِي بَعْضِ الصُّوَرِ، وَذَلِكَ إذَا تَأَخَّرَ الْقَضَاءُ بَعْدَ إقَامَةِ الْبَيِّنَةِ وَيَمِينُ الْقَضَاءِ إلَى أَنْ قَدِمَ الْغَائِبُ الْمِدْيَانُ، وَأَقَامَ مُدَّةً ثُمَّ مَاتَ، فَإِنَّهُ يَجِبُ أَنْ لَا يَقْضِيَ الطَّالِبُ حَقَّهُ حَتَّى يَحْلِفَ ثَانِيَةً؛ لِأَنَّ الشَّكَّ هَا هُنَا حَاصِلٌ كَمَا كَانَ أَوَّلَ مَرَّةٍ مِنْ الطُّرَرِ لِابْنِ عَاتٍ، وَمِنْ ذَلِكَ إذَا كَانَ عَلَى الْغَائِبِ دَيْنٌ مُنَجَّمٌ، فَأَقَامَ الطَّالِبُ عَلَيْهِ الْبَيِّنَةَ عِنْدَ حُلُولِ النَّجْمِ الْأَوَّلِ، وَحَلَفَ يَمِينَ الْقَضَاءِ فَلَا تُعَادُ عَلَيْهِ الْيَمِينُ عِنْدَ حُلُولِ النَّجْمِ الثَّانِي وَلَا الثَّالِثِ، إلَّا أَنْ يَقْدُمَ الْغَائِبُ الْمِدْيَانُ فِي خِلَالِ الْمُدَّةِ، أَوْ بَعْدَ النَّجْمِ بِحَيْثُ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ بَعْدَ أَنْ اقْتَضَى النَّجْمَ الْأَوَّلَ اقْتَضَى النَّجْمَ الثَّانِيَ، أَوْ وَكَّلَ مَنْ اقْتَضَاهُ فَحِينَئِذٍ يَحْلِفُ فَتَأَمَّلْ ذَلِكَ مِنْ الطُّرَرِ.

.الْبَابُ السَّادِسُ فِي الْقَضَاءِ بِتَبْدِئَةِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِالْيَمِينِ:

وَتَأْخِيرِ يَمِينِ الْمُدَّعَى لَهُ مِنْ صَغِيرٍ حَتَّى يَبْلُغَ أَوْ غَائِبٍ حَتَّى يَقْدُمَ وَحُكْمِ الْمَوْلَى عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ وَفِي مُخْتَصَرِ الْوَاضِحَةِ، قَالَ ابْنُ حَبِيبٍ: أَخْبَرَنِي مُطَرِّفٌ عَنْ مَالِكٍ فِي الصَّغِيرِ: يَشْهَدُ لَهُ الشَّاهِدُ عَلَى رَجُلٍ بِحَقٍّ وَرِثَهُ عَنْ أَبِيهِ، أَوْ صَارَ لَهُ بِوَجْهٍ أَنَّ الْمَشْهُودَ عَلَيْهِ إنْ كَانَ مُنْكِرًا لِذَلِكَ، فَإِنَّهُ يَحْلِفُ أَنَّ الَّذِي شَهِدَ بِهِ الشَّاهِدُ لَيْسَ عَلَيَّ، ثُمَّ يُتْرَكُ، وَسَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ مَالًا أَوْ شَيْئًا بِعَيْنِهِ، مِثْلَ الدَّارِ وَالْعَبْدِ أَوْ مَا لَهُ غَلَّةٌ كُلُّ ذَلِكَ يُسَلَّمُ إلَى الْحَالِفِ وَلَا يُوقَفُ عَلَيْهِ.
وَفِي كِتَابِ مُحَمَّدٍ: يُوقَفُ إذَا كَانَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ يُخْشَى فَقْرُهُ. قَالَ مَالِكٌ: وَإِذَا كَبُرَ الصَّغِيرُ حَلَفَ مَعَ شَاهِدِهِ، وَبَطَلَتْ يَمِينُ الْحَالِفِ أَوَّلًا وَاسْتَحَقَّ حَقَّهُ وَقَبَضَهُ إنْ كَانَ بِعَيْنِهِ، وَإِلَّا فَقِيمَتَهُ يَوْمَئِذٍ إنْ كَانَ فَائِتًا.
تَنْبِيهٌ:
وَيَكْتُبُ الْقَاضِي لِلصَّبِيِّ بِمَا صَحَّ عِنْدَهُ؛ لِيُنَفِّذَهُ لَهُ مَنْ يَقُومُ عِنْدَهُ مِنْ الْقُضَاةِ، إذْ لَعَلَّ الشَّاهِدَ يَمُوتُ أَوْ تَتَغَيَّرُ حَالُهُ عَنْ الْعَدَالَةِ قَبْلَ بُلُوغِ الصَّبِيِّ، فَإِنْ نَكَلَ الصَّبِيُّ عَنْ الْيَمِينِ إذَا بَلَغَ فَلَا شَيْءَ لَهُ، وَاكْتَفَى بِيَمِينِ الْمَطْلُوبِ الْأُولَى عَلَى الْمَشْهُورِ. وَفِي الْمُتَيْطِيَّةِ، وَرُوِيَ عَنْ مَالِكٍ: أَنَّ الصَّغِيرَ يَحْلِفُ مَعَ شَاهِدِهِ وَهُوَ بَعِيدٌ شَاذٌّ.
فَرْعٌ:
أَمَّا لَوْ نَكَلَ الْغَرِيمُ أَوَّلًا عَنْ الْيَمِينِ، كَانَ نُكُولُهُ كَإِقْرَارِهِ وَأُخِذَ مِنْهُ الْحَقُّ وَدُفِعَ إلَى وَلِيِّ الصَّبِيِّ، وَلَا يُكَلَّفُ الصَّبِيُّ إذَا كَبُرَ يَمِينًا وَلَا شَيْئًا فَرْعٌ:
فَإِنْ شَرِكَ الصَّغِيرَ وَارِثٌ كَبِيرٌ حَلَفَ وَاسْتَحَقَّ قَدْرَ نَصِيبِهِ وَيَحْلِفُ الْمَطْلُوبُ، فَإِنْ نَكَلَ عَجَّلَ حَقَّ الطِّفْلِ إنْ كَانَ حَالًّا ثُمَّ لَا يَمِينَ لَهُ عَلَى الصَّغِيرِ بَعْدَ كِبَرِهِ كَحُكْمٍ نَفَذَ.
وَقَالَ ابْنُ حَبِيبٍ: تُرَدُّ عَلَيْهِ الْيَمِينُ بَعْدَ كِبَرِهِ وَرُشْدِهِ، فَإِنْ حَلَفَ قَضَى لَهُ بِهِ، وَإِنْ نَكَلَ رُدَّ عَلَى الْمَطْلُوبِ مَا صَارَ إلَيْهِ مِنْهُ، فَإِنْ كَانَ الْغَرِيمُ يَوْمَ بَلَغَ الصَّبِيُّ وَحَلَفَ عَلَى حَقِّهِ عَدِيمًا فَيُنْظَرُ، فَإِنْ كَانَ الْغَرِيمُ يَوْمَ أَخَذَ الْكَبِيرُ حَقَّهُ لَا شَيْءَ لَهُ إلَّا مَا أَخَذَ، رَجَعَ الصَّغِيرُ عَلَى أَخِيهِ بِنِصْفِ مَا كَانَ أَخَذَ بَعْدَ يَمِينِهِ. وَفِي كِتَابِ ابْنِ الْمَوَّازِ، قِيلَ: فَكَيْفَ يَحْلِفُ الصَّغِيرُ عَلَى مَا لَا يَعْلَمُ، قَالَ: لَا يَحْلِفُ حَتَّى يَعْلَمَ بِالْخَبَرِ الَّذِي يَتَيَقَّنُ بِهِ، فَحِينَئِذٍ يَحْلِفُ، قَالَ مَالِكٌ: وَيَحْلِفُ عَلَى الْبَتِّ أَنَّ هَذَا الْحَقَّ لَحَقٌّ مِنْ رِسَالَةِ الْقَضَاءِ وَالْأَحْكَامِ.
فَرْعٌ:
قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ فِي الصَّبِيِّ: يَقُومُ لَهُ شَاهِدٌ وَاحِدٌ بِحَقٍّ فَيَسْتَحْلِفُ الْحَاكِمُ الْمَطْلُوبَ فَيَحْلِفُ، فَلَمَّا كَبُرَ الصَّبِيُّ، قِيلَ لَهُ احْلِفْ مَعَ شَاهِدِك وَخُذْ حَقَّك، فَأَرَادَ تَحْلِيفَ الْمَطْلُوبِ ثَانِيَةً، فَلَيْسَ لَهُ ذَلِكَ. وَأَمَّا الْمُوَلَّى عَلَيْهِ إذَا قَامَ لَهُ شَاهِدٌ وَاحِدٌ عَلَى حَقِّهِ، قَضَى لَهُ بِالْيَمِينِ مَعَ الشَّاهِدِ، فَإِنْ حَلَفَ أَخَذَ الْحَقَّ، وَدُفِعَ لِلْمُوصَى عَلَيْهِ أَوْ وَلِيِّهِ، وَإِنْ نَكَلَ عَنْ الْيَمِينِ لَمْ يُبْطِلْ ذَلِكَ حَقَّهُ، وَيَحْلِفُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ وَيَبْقَى الْمُوَلَّى عَلَيْهِ عَلَى حَقِّهِ حَتَّى يَرْشُدَ فَإِنْ نَكَلَ عَنْ الْيَمِينِ لَمْ يَكُنْ لَهُ شَيْءٌ وَلَمْ تَعُدْ الْيَمِينُ عَلَى الْمَطْلُوبِ، وَكَانَ ابْنُ الْقَاسِمِ وَأَصْبَغُ يَجْعَلَانِ الْمَوْلَى عَلَيْهِ كَالْكَبِيرِ الرَّشِيدِ إنْ حَلَفَ مَعَ شَاهِدِهِ اسْتَحَقَّ حَقَّهُ، وَإِنْ نَكَلَ بَطَلَ حَقُّهُ، قَالَ ابْنُ حَبِيبٍ: وَبِالْأَوَّلِ أَقُولُ وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ كِنَانَةَ وَمُطَرِّفٍ، وَإِنَّمَا قُلْنَا: إنَّ الْمُوَلَّى عَلَيْهِ يَحْلِفُ مَعَ شَاهِدِهِ، إحْيَاءً لِلسُّنَّةِ الْوَارِدَةِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اُنْظُرْ الْمُتَيْطِيَّةِ.
فَرْعٌ:
وَإِذَا ادَّعَى الْمُوَلَّى عَلَيْهِ حَقًّا عَلَى رَجُلٍ فَلَمْ تَقُمْ لَهُ بَيِّنَةٌ فَوَجَبَتْ الْيَمِينُ عَلَى الْمَطْلُوبِ لِرَفْعٍ الْخُصُومَةِ فَرَدَّهَا عَلَى الْمُوَلَّى عَلَيْهِ، فَقَالَ ابْنُ الْهِنْدِيِّ فِي وَثَائِقِهِ: لَا يَحْلِفُ الْمُوَلَّى عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا يَحْلِفُ مَعَ الشَّاهِدِ الْعَدْلِ مِنْ جِهَةِ إحْيَاءِ السُّنَّةِ، وَيَلْزَمُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ إذَا رَدَّ الْيَمِينَ عَلَى الْمُوَلَّى عَلَيْهِ الْغُرْمُ بِنُكُولِهِ، وَيُرْجِئُ لَهُ الْيَمِينَ عَلَى الْمَحْجُورِ حَتَّى يَرْشُدَ، قَالَ ابْنُ سَهْلٍ فِي أَحْكَامِهِ: وَفِي هَذَا عِنْدِي نَظَرٌ وَالصَّحِيحُ أَنْ يَحْلِفَ الْمُوَلَّى عَلَيْهِ إذَا رَدَّ الْمَطْلُوبُ عَلَيْهِ الْيَمِينَ، وَيَأْخُذُ حَقَّهُ كَمَا يَحْلِفُ مَعَ شَاهِدِهِ، وَلَا وَجْهَ لِإِرْجَاءِ الْيَمِينِ، وَقَدْ رَضِيَ بِهَا مِنْهُ بِنُكُولِهِ عَنْهَا، ذَكَرَهَا الْمُتَيْطِيُّ وَهِيَ فِي أَحْكَامِ ابْنِ سَهْلٍ أَتَمُّ.
فَرْعٌ:
وَإِذَا مَاتَ رَجُلٌ وَلَهُ وَرَثَةٌ كِبَارٌ وَصِغَارٌ، وَتَرَكَ ذِكْرَ حَقٍّ وَلَيْسَ فِيهِ إلَّا شَاهِدٌ وَاحِدٌ، فَإِنَّ الْكِبَارَ يَحْلِفُونَ كُلَّهُمْ مَعَ شَاهِدِهِمْ وَيَسْتَحِقُّونَ حَقَّهُمْ، وَأَمَّا الصِّغَارُ فَيُقَالُ لِلْغَرِيمِ: احْلِفْ أَنَّ الَّذِي شَهِدَ بِهِ عَلَيْك الشَّاهِدُ بَاطِلٌ وَأَنَّهُ لَيْسَ عَلَيْك، فَإِنْ نَكَلَ أُخِذَ مِنْهُ حَقُّ الصَّبِيِّ، وَدُفِعَ إلَى وَلِيِّهِ، وَإِنْ حَلَفَ أَقَرَّ حَقَّ الصَّبِيِّ بِيَدِهِ، فَإِذَا بَلَغَ الصَّبِيُّ حَلَفَ وَأَخَذَ، فَإِنْ نَكَلَ عَنْ الْيَمِينِ لَمْ يَكُنْ لَهُ شَيْءٌ. فَصْلٌ: وَأَمَّا الْغَائِبُ يَقُومُ لَهُ وَكِيلُهُ فِي إثْبَاتِ حَقٍّ، وَيَشْهَدُ فِي ذَلِكَ الْحَقِّ شَاهِدٌ وَاحِدٌ. فَحُكْمُهُ حُكْمُ الصَّغِيرِ يَقُومُ لَهُ شَاهِدٌ بِحَقٍّ. وَالْوَاجِبُ فِي ذَلِكَ أَنْ يَحْلِفَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ وَتُؤَخَّرُ يَمِينُ الْمُوَكِّلِ حَتَّى يَقْدُمَ، وَإِنْ كَانَتْ غَيْبَتُهُ قَرِيبَةً كُتِبَ إلَيْهِ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ الْقَائِمُ لِلْغَائِبِ وَلَدَهُ، فَإِنَّ مَالِكًا قَالَ: إنَّ لَهُ طَلَبَ الْغَرِيمِ بِغَيْرِهِ وَكَالَةً فَإِذَا أَقَامَ شَاهِدًا وَعَجَزَ عَنْ الْآخَرِ، حَلَفَ الْغَرِيمُ وَتُرِكَ حَتَّى يَقْدُمَ الْغَائِبُ فَيَحْلِفَ مَعَ شَاهِدِهِ، وَقَدْ ذَكَرْت هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ فِيمَنْ يَسْمَعُ الْحَاكِمُ مِنْهُ الْبَيِّنَةَ، وَمَنْ لَا يَسْمَعُ مِنْهُ الْبَيِّنَةَ فَصْلٌ: وَأَمَّا الْمَعْتُوهُ فَإِنَّ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ يَحْلِفُ وَيَبْرَأُ، وَإِنْ نَكَلَ غَرِمَ، فَإِنْ حَلَفَ الْمَطْلُوبُ ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ عَقَلَ الْمَعْتُوهُ، فَإِنَّهُ يَحْلِفُ وَيَسْتَحِقُّ مَعَ الشَّاهِدِ، وَاَللَّهُ- سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- أَعْلَمُ.

.الْبَابُ السَّابِعُ فِي الْقَضَاءِ بِشَاهِدِ الْمُوَلَّى عَلَيْهِ مَعَ يَمِينِ وَلِيِّهِ:

وَيَحْلِفُ الْأَبُ مَعَ الشَّاهِدِ فِي حَقِّ ابْنِهِ إذَا كَانَ هُوَ الَّذِي تَوَلَّى الْمُعَامَلَةَ لَهُ، وَإِنْ نَكَلَ الْأَبُ غَرِمَ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ الْأَبُ هُوَ الْمُتَوَلِّي لِلْمُعَامَلَةِ لِابْنِهِ، فَفِي ذَلِكَ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ، قَالَ ابْنُ رَاشِدٍ: أَحَدُهَا أَنَّ الصَّبِيَّ يَحْلِفُ وَهُوَ شَاذٌّ، وَقَالَ ابْنُ كِنَانَةَ: يَحْلِفُ أَبُوهُ.
وَقَالَ ابْنُ الْمَوَّازِ: يَحْلِفُ الْمَطْلُوبُ وَهُوَ الْمَعْرُوفُ.
فَرْعٌ:
وَفِي الْمُقْنِعِ لِابْنِ بَطَّالٍ قَالَ مَالِكٌ: وَمَنْ زَوَّجَ ابْنَتَهُ الصَّغِيرَةَ مِنْ صَبِيٍّ فَمَاتَ الزَّوْجُ وَطَلَبَ أَبُوهَا الْمِيرَاثَ وَالْمَهْرَ، فَإِنْ كَانَ لَهَا شَاهِدٌ حَلَفَتْ مَعَ الشَّاهِدِ إذَا كَبُرَتْ، قَالَ ابْنُ الْمَوَّازِ: وَذَلِكَ مَا لَمْ يَدَّعِ الْأَبُ التَّسْمِيَةَ مَعَ الشَّاهِدِ، فَإِنْ ادَّعَاهَا حَلَفَ، وَإِنْ لَمْ يَحْلِفْ ضَمِنَ إذَا لَمْ يَتَوَثَّقْ لَهَا بِشَاهِدَيْنِ، وَلَهَا أَنْ تَدَعَ أَبَاهَا وَتَحْلِفَ مَعَ شَاهِدِهَا وَلَهَا ذَلِكَ فِي مَوْتِ الْأَبِ وَعَدَمِهِ.
فَرْعٌ:
فِي الْمُتَيْطِيَّةِ: إذَا اخْتَلَفَ الزَّوْجَانِ فِي عَدَدِ الطَّلَاقِ قَبْلَ الْبِنَاءِ مِنْ غَيْرِ مَوْتٍ، وَلَا طَلَاقٍ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمَرْأَةِ مَعَ يَمِينِهَا إنْ كَانَتْ رَشِيدَةً، وَإِلَّا فَقَوْلُ مَنْ عَقَدَ النِّكَاحَ مِنْ أَبٍ أَوْ وَصِيٍّ أَوْ وَلِيٍّ، يَعْنِي مَعَ يَمِينِهِ وَهِيَ الْمُبْتَدِئَةُ بِالْيَمِينِ أَوْ أَبُوهَا عَلَى الْمَشْهُورِ، وَقِيلَ: يَبْدَأُ الزَّوْجُ بِالْيَمِينِ وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ مَالِكٍ أَيْضًا.
فَرْعٌ:
إذَا زَوَّجَ الْأَبُ ابْنَهُ الْبَالِغَ الْمَالِكَ لِأَمْرِهِ وَهُوَ حَاضِرٌ صَامِتٌ، فَلَمَّا فَرَغَ قَالَ: لَا أَرْضَى وَإِنَّمَا صَمَتُّ لِأَنِّي أَعْلَمُ أَنَّ ذَلِكَ لَا يَلْزَمُنِي، فَادَّعَى أَبُو الصَّبِيَّةِ أَنَّ مُخْبِرًا أَخْبَرَهُ: أَنَّ الِابْنَ أَمَرَ أَبَاهُ بِذَلِكَ، فَعَلَى الزَّوْجِ الْيَمِينُ فَإِنْ نَكَلَ حَلَفَ وَالِدُ الزَّوْجَةِ، وَثَبَتَ النِّكَاحُ مِنْ الْمُتَيْطِيَّةِ فِي إجْبَارِ الْأَبِ ابْنَتَهُ.
فَرْعٌ:
لَوْ كَانَ الصَّبِيُّ فَقِيرًا لَا مَالَ لَهُ وَإِنَّمَا يُنْفِقُ عَلَيْهِ أَبُوهُ، وَطَلَبَ الْأَبُ أَنْ يَحْلِفَ مَعَ الشَّاهِدِ عَلَى حَقٍّ لِوَلَدِهِ، فَرُوِيَ أَنَّ لَهُ ذَلِكَ، وَأَشَارَ فِي الْمَوَّازِيَّةِ إلَى أَنَّهُ لَا يُمَكَّنُ مِنْ ذَلِكَ، وَرَآهُ كَالْحَلِفِ لِيَمْلِكَ غَيْرَ مَا يَدْفَعُ بِهِ عَنْ مَالِهِ.
فَرْعٌ:
إنْ لَمْ يَكُنْ عُرْفُ الْبَلَدِ أَنَّ الزَّوْجَ يَدْفَعُ الصَّدَاقَ قَبْلَ الْبِنَاءِ، أَوْ كَانَ عُرْفُ الْبَلَدِ أَنَّهُ لَا يَدْخُلُ إلَّا بَعْدَ الدَّفْعِ، فَادَّعَى بَعْدَ الْبِنَاءِ، أَنَّهُ دَفَعَهُ بَعْدَ الْبِنَاءِ فَإِنْ كَانَتْ الْمَرْأَةُ مَالِكَةً أَمْرَ نَفْسِهَا حَلَفَتْ، وَإِلَّا حَلَفَ الْأَبُ أَوْ الْوَصِيُّ وَغَرِمَ الزَّوْجُ مِنْ النِّهَايَةِ.
فَرْعٌ:
إذَا ادَّعَى الزَّوْجُ أَنَّهُ وَجَدَ الزَّوْجَةَ ثَيِّبًا وَأَكْذَبَتْهُ، فَالْيَمِينُ لَهُ عَلَيْهَا إنْ كَانَتْ مَالِكَةً أَمْرَ نَفْسِهَا، أَوْ عَلَى أَبِيهَا إذَا كَانَ لَهَا أَبٌ، وَيَحْلِفُ أَنَّهُ مَا وَجَدَهَا ثَيِّبًا، وَمَا أَلْفَاهَا إلَّا بِكْرًا، وَيَلْزَمُ النِّكَاحُ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ فِي وِلَايَةِ أَبِيهَا، فَالْيَمِينُ عَلَيْهَا لَا عَلَى الْأَبِ، وَاَللَّهُ- سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- أَعْلَمُ.

.الْبَابُ الثَّامِنُ فِي الْقَضَاءِ بِشَاهِدِ الْعَبْدِ وَيَمِينِ سَيِّدِهِ:

وَفِي مُخْتَصَرِ الْوَاضِحَةِ: قَالَ ابْنُ حَبِيبٍ: قَالَ لِي مُطَرِّفٌ وَابْنُ الْمَاجِشُونِ فِي الْعَبْدِ الْمَأْذُونِ يُقَيَّمُ شَاهِدًا وَاحِدًا عَلَى حَقٍّ فَيَأْبَى أَنْ يَحْلِفَ مَعَ شَاهِدِهِ، فَيُرِيدُ سَيِّدُهُ أَنْ يَحْلِفَ مَعَ الشَّاهِدِ، وَيَسْتَحِقَّ حَقَّ عَبْدِهِ فَلَيْسَ ذَلِكَ لَهُ مَا كَانَ الْعَبْدُ قَائِمًا، لِأَنَّ نُكُولَهُ عَنْ الْيَمِينِ كَإِقْرَارِهِ، وَإِقْرَارُهُ جَائِزٌ، وَلَكِنْ لَوْ مَاتَ الْعَبْدُ، كَانَ لِلسَّيِّدِ أَنْ يَحْلِفَ مَعَ شَاهِدِ عَبْدِهِ، وَيَأْخُذَ الْمَالَ.
فَرْعٌ:
وَفِي مُخْتَصَرِ الْوَاضِحَةِ قَالَ فَضْلُ بْنُ سَلَمَةَ: إذَا أَمَرَ عَبْدَهُ بِدَفْعِ دَيْنٍ عَلَى السَّيِّدِ إلَى رَجُلٍ فَأَنْكَرَ الْمَدْفُوعُ إلَيْهِ، وَقَدْ قَامَ لِلْعَبْدِ شَاهِدٌ وَنَكَلَ الْعَبْدُ عَنْ الْيَمِينِ، حَلَفَ سَيِّدُهُ.
وَفِي ابْنِ يُونُسَ؟ إنْ نَكَلَ الْعَبْدُ وَجَبَ أَنْ يَحْلِفَ السَّيِّدُ مَعَ الشَّاهِدِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَدْفَعْ عَنْ نَفْسِهِ بِشَاهِدٍ قَامَ لَهُ.
وَفِي الطُّرَرِ عَلَى التَّهْذِيبِ لِأَبِي إبْرَاهِيمَ الْأَعْرَجِ فِي الْكَلَامِ عَلَى هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، قَالَ ابْنُ وَضَّاحٍ: قِيلَ لِسَحْنُونٍ فَإِنْ نَكَلَ الْعَبْدُ أَيَكُونُ لِلسَّيِّدِ أَنْ يَحْلِفَ؟ قَالَ نَعَمْ؛ لِأَنَّا نَتَّهِمُ الْعَبْدَ أَنْ يَكُونَ أَرَادَ إبْطَالَ مَالِ سَيِّدِهِ. وَفِي كِتَابِ الْجِدَالِ لِابْنِ الْقَاسِمِ وَمَالِكٍ: لَا يَحْلِفُ السَّيِّدُ.
وَفِي التَّفْسِيرِ لِيَحْيَى عَنْ ابْنِ الْقَاسِمِ: إنْ نَكَلَ الْعَبْدُ حَلَفَ السَّيِّدُ، فَيَكُونُ عَنْ ابْنِ الْقَاسِمِ قَوْلَانِ.

.الْبَابُ التَّاسِعُ فِي الْقَضَاءِ بِشَاهِدِ الْوَكِيلِ وَيَمِينِ الْمُوَكِّلِ:

وَفِي مُخْتَصَرِ الْوَاضِحَةِ قَالَ ابْنُ حَبِيبٍ: قَالَ لِي مُطَرِّفٌ وَابْنُ الْمَاجِشُونِ وَأَصْبَغُ: فِي الرَّجُلِ يُوَكِّلُ الْوَكِيلَ عَلَى دَفْعِ دَيْنِهِ عَنْهُ إلَى رَجُلٍ وَكَانَ وَكِيلًا مُفَوَّضًا إلَيْهِ، فَدَفَعَهُ بِشَاهِدٍ وَاحِدٍ، وَجَحَدَ الْقَابِضُ فَأَبَى الْوَكِيلُ أَنْ يَحْلِفَ مَعَ الشَّاهِدِ، وَأَرَادَ الْمُوَكِّلُ أَنْ يَحْلِفَ مَعَ الشَّاهِدِ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ لَهُ، مَا كَانَ الْوَكِيلُ مَلِيًّا لِأَنَّهُ ضَامِنُ ذَلِكَ لِلْمُوَكِّلِ حِينَ فَرَّطَ، وَلَمْ يَشْهَدْ وَصَارَ نُكُولُ الْوَكِيلِ كَإِقْرَارِهِ أَنَّهُ لَمْ يَدْفَعْ ذَلِكَ إلَيْهِ، وَإِذَا كَانَ الْوَكِيلُ مُفْلِسًا فَعِنْدَ ذَلِكَ يَجُوزُ لِلَّذِي وَكَّلَهُ أَنْ يَحْلِفَ مَعَ الشَّاهِدِ، وَيَبْرَأَ لِأَنَّهُ صَارَ كَغَرِيمِ الْغَرِيمِ.
وَفِي الطُّرَرِ لِأَبِي الْأَعْرَجِ عَنْ ابْنِ الْقَاسِمِ قَوْلَانِ فِي يَمِينِ الْمُوَكِّلِ، إذَا نَكَلَ الْوَكِيلُ عَنْ الْيَمِينِ ثُمَّ قَالَ فَإِنْ نَكَلَ الْوَكِيلُ وَكَانَ عَدِيمًا، فَكَالْعَبْدِ يَحْلِفُ الْمُوَكِّلُ وَيَبْرَأُ، وَلَكِنَّهُ يَنْبَغِي مَتَى أَيْسَرَ الْوَكِيلُ حَلَفَ الَّذِي عَلَيْهِ الدَّيْنُ وَرَجَعَ عَلَى الْوَكِيلِ، وَإِنْ كَانَ الْوَكِيلُ مَلِيًّا وَنَكَلَ، حَلَفَ الَّذِي عَلَيْهِ الدَّيْنُ، وَبَرِئَ وَغَرِمَ الْوَكِيلُ الَّذِي لَهُ الدَّيْنُ.
مَسْأَلَةٌ:
وَفِي الْمُقْنِعِ لِابْنِ بَطَّالٍ، قَالَ ابْنُ كِنَانَةَ فِيمَنْ أَمَرَ رَجُلًا أَنْ يَشْتَرِيَ لَهُ جَارِيَةً أَوْ سِلْعَةً فَفَعَلَ، فَقَامَ لَهُ بِذَلِكَ شَاهِدٌ وَالْبَائِعُ مُنْكِرٌ، فَإِنَّهُ إذَا قَامَتْ لِلْآمِرِ بَيِّنَةٌ عَلَى أَنَّهُ أَمَرَهُ أَنْ يَشْتَرِيَ لَهُ جَارِيَةً حَلَفَ مَعَ شَاهِدِ وَكِيلِهِ، وَإِنْ لَمْ تَقُمْ لَهُ بَيِّنَةٌ فَالْيَمِينُ عَلَى الْوَكِيلِ، وَاَللَّهُ- سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- أَعْلَمُ.

.الْبَابُ الْعَاشِرُ فِي الْقَضَاءِ بِبَيِّنَةِ الْمُوَكِّلِ وَيَمِينِ الْوَكِيلِ:

وَفِي مُخْتَصَرِ الْوَاضِحَةِ، فِي الرَّجُلِ يَكُونُ بِمِصْرَ وَلَهُ حَقٌّ عَلَى رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ إفْرِيقِيَةَ، فَوَكَّلَ صَاحِبُ الْحَقِّ وَكِيلًا يَقْتَضِي مِنْ الْغَرِيمِ حَقَّهُ، فَلَمَّا أَتَاهُ بِكِتَابِ الْقَاضِي إلَى الْقَاضِي وَثَبَتَتْ وَكَالَتُهُ، ادَّعَى الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ أَنَّهُ قَدْ دَفَعَ إلَى صَاحِبِ الْحَقِّ حَقَّهُ، وَسُئِلَ أَنْ يُؤَخَّرَ قَبْضُ ذَلِكَ مِنْهُ حَتَّى يَسْتَحْلِفَ صَاحِبَ الْحَقِّ بِمِصْرَ، فَقَالَ ابْنُ عَبْدُوسٍ: قَالَ ابْنُ كِنَانَةَ: لَا أَرَى ذَلِكَ لَهُ، وَلَكِنْ عَلَى الْوَكِيلِ الْيَمِينُ بِاَللَّهِ مَا عَلِمْت أَنَّهُ قَبَضَ مِنْهُ شَيْئًا، ثُمَّ يَقْبِضُ مِنْهُ الْحَقَّ إلَّا أَنْ يَكُونَ صَاحِبُ الْحَقِّ قَرِيبًا عَلَى الْيَوْمَيْنِ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ، فَلْيَكْتُبْ إلَيْهِ فَيَحْلِفُ، وَكَانَ ابْنُ الْقَاسِمِ يَقُولُ فِي مِثْلِ هَذَا: إنَّهُ لَا يَحْلِفُ الْوَكِيلُ، وَلَكِنْ يَنْتَظِرُ حَتَّى يَجْتَمِعَ بِصَاحِبِ الْحَقِّ فَيَحْلِفُ.
وَقَالَ غَيْرُهُ لَا يَنْبَغِي لِلْقَاضِي أَنْ يَكْتُبَ لِلطَّالِبِ الْكِتَابَ حَتَّى يُحْلِفَهُ أَنَّهُ مَا اقْتَضَى مِنْ ذَلِكَ الْحَقِّ شَيْئًا اسْتِقْصَاءً لِحُجَجِ الْغَائِبِ.
وَفِي مَعِينِ الْحُكَّامِ إذَا تَوَجَّهَ الْوَكِيلُ لِطَلَبِ الْغَرِيمِ فِي غَيْرِ بَلَدِ الْمُوَكِّلِ، فَادَّعَى الْغَرِيمُ أَنَّهُ دَفَعَ لِلْمُوَكِّلِ جَمِيعَ الدَّيْنِ أَوْ بَعْضَهُ، فَإِنْ كَانَتْ غَيْبَتُهُ قَرِيبَةً عَلَى مَسِيرَةِ الْيَوْمَيْنِ وَنَحْوِهِمَا، أُخِّرَ حَتَّى يَكْتُبَ إلَيْهِ فَيَحْلِفُ، وَإِنْ كَانَتْ غَيْبَتُهُ بَعِيدَةً لَمْ تُؤَخَّرْ، وَقَضَى عَلَيْهِ بِالدَّيْنِ، قَالَهُ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ: وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِ ابْنِ الْقَاسِمِ فِي سَمَاعِ عِيسَى وَقَوْلِ أَصْبَغَ، وَرَوَى فِي الْمَجْمُوعَةِ وَغَيْرِهَا عَنْ ابْنِ كِنَانَةَ وَابْنِ الْقَاسِمِ: أَنَّ الْوَكِيلَ يَحْلِفُ عَلَى الْعِلْمِ فِي الْغَيْبَةِ الْبَعِيدَةِ، وَحِينَئِذٍ يُقْضَى لَهُ، قَالَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ إنَّمَا حَلَفَ الْوَكِيلُ هُنَا؛ لِأَنَّ لَهُ أُجْرَةً عَلَى تَقَاضِي الدَّيْنِ.
وَفِي الْمَذْهَبِ لِابْنِ رَاشِدٍ: وَإِذَا كَانَتْ مُخَاصِمَةُ الْمَطْلُوبِ مَعَ وَكِيلِ الطَّالِبِ فَقَالَ مُوَكِّلُك أَبْرَأَنِي، فَقَالَ ابْنُ كِنَانَةَ: يَحْلِفُ الْوَكِيلُ مَا عَلِمَ بِبَرَاءَتِهِ، وَيَأْخُذُ الْمَالَ إلَّا أَنْ يَكُونَ مُوَكِّلُهُ قَرِيبًا فَيَكْتُبُ إلَيْهِ فَيَحْلِفُ.
تَنْبِيهٌ:
وَهَذَا حُكْمُ الْوَكِيلِ الْقَائِمِ بِالْوِكَالَةِ، وَأَمَّا لَوْ كَانَ الْقَائِمُ عَلَى الْغَرِيمِ هُوَ ابْنُ صَاحِبِ الدَّيْنِ، وَقُلْنَا لَهُ الْقِيَامُ وَالطَّلَبُ بِغَيْرِ وَكَالَةٍ، فَأَقَامَ شَاهِدًا وَاحِدًا وَعَجَزَ عَنْ آخَرَ لَمْ يَحْلِفْ مَعَ الشَّاهِدِ قَوْلًا وَاحِدًا، وَحَلَفَ الْغَرِيمُ بِاَللَّهِ أَنَّهُ بَرِئَ مِنْ هَذَا الدَّيْنِ، فَإِنْ حَلَفَ بَرِئَ الْآنَ مِنْ الْمُعَارَضَةِ لَهُ، وَإِنْ نَكَلَ عَنْ الْيَمِينِ أُخِذَ الْحَقُّ مِنْهُ مُعَجَّلًا.

.الْبَابُ الْحَادِيَ عَشَرَ فِي الْقَضَاءِ بِشَاهِدِ الْمُفْلِسِ وَيَمِينِ الْغُرَمَاءِ:

وَإِذَا شَهِدَ لِلْمُفْلِسِ بَعْدَ فَلَسِهِ شَاهِدٌ بِحَقٍّ، وَنَكَلَ الْمُفْلِسُ عَنْ الْيَمِينِ حَلَفَ مَعَهُ الْغُرَمَاءُ وَأَخَذُوهُ، فَإِنْ نَكَلَ مِنْهُمْ أَحَدٌ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُحَاصَّ فِيمَا أَخَذَ مَنْ حَلَفَ.
وَقَالَ ابْنُ الْمَاجِشُونِ: يَكُونُ لِمَنْ حَلَفَ مِنْهُمْ بِقَدْرِ نَصِيبِهِ مِنْهُ.
وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ: يَكُونُ جَمِيعُ الدَّيْنِ بَيْنَ مَنْ حَلَفَ مِنْهُمْ.
مَسْأَلَةٌ:
وَاخْتُلِفَ إذَا أَقَامَ الْمُفْلِسُ شَاهِدًا أَنَّهُ قَضَى بَعْضَهُمْ، وَنَكَلَ عَنْ الْيَمِينِ مَعَ الشَّاهِدِ هَلْ يَحْلِفُ الْغُرَمَاءُ مَعَ الشَّاهِدِ أَمْ لَا؟ تَنْبِيهٌ:
وَفِي مُخْتَصَرِ الْوَاضِحَةِ: وَإِنَّمَا يَحْلِفُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ عَلَى أَنَّ الَّذِي شَهِدَ بِهِ الشَّاهِدُ حَقٌّ عَلَى جَمِيعِ الْحَقِّ، وَلَيْسَ عَلَى مَا يَنُوبُهُ مِنْهُ، وَمَنْ نَكَلَ فَلَيْسَ لَهُ شَيْءٌ كَمَا تَقَدَّمَ، وَمَنْ رَجَعَ مِنْهُمْ بَعْدَ نُكُولِهِ فَهَلْ يُقْبَلُ رُجُوعُهُ وَيَحْلِفُ أَوْ لَا يُمَكَّنُ مِنْ الْحَلِفِ؟ قَالَ ابْنُ الْمَاجِشُونِ: يُمَكَّنُ.
وَقَالَ مُطَرِّفٌ لَا يُمَكَّنُ مِنْ أَنْ يَحْلِفَ، وَلَا يُقَالُ وَجْهُ قَوْلِ ابْنِ الْمَاجِشُونِ: أَنَّ نُكُولَهُ لَيْسَ بِنُكُولٍ، وَلَيْسَ كَنُكُولِهِ عَنْ حَقِّ نَفْسِهِ؛ لِأَنَّهُ يَقُولُ ظَنَنْت أَنَّ الْغَرِيمَ سَيَحْلِفُ، وَيَكْفِينَا عَنْ الْحَلِفِ أَوْ أَرَدْت أَنْ أَكْشِفَ عَنْ عِلْمٍ ذَلِكَ، قَالَ: قَالَ ابْنُ حَبِيبٍ: وَقَوْلُ ابْنِ الْمَاجِشُونِ أَحَبُّ إلَيَّ وَبِهِ أَقُولُ.
فَرْعٌ:
وَفِي الْوَاضِحَةِ قَالَ مُطَرِّفٌ وَابْنُ الْمَاجِشُونِ، وَمَنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ فَأَقَامَ شَاهِدًا بِدَيْنٍ لَهُ عَلَى رَجُلٍ وَنَكَلَ عَنْ الْيَمِينِ، فَلَيْسَ لِغُرَمَائِهِ أَنْ يَحْلِفُوا مَعَ الشَّاهِدِ، وَيَأْخُذُوا ذَلِكَ الدَّيْنَ فِي حُقُوقِهِمْ مَا كَانَ قَائِمَ الْوَجْهِ وَلَمْ يُفْلِسْ؛ لِأَنَّ إقْرَارَهُ جَائِزٌ، فَنُكُولُهُ كَإِقْرَارِهِ فَأَمَّا إنْ أَفْلَسَ حَتَّى لَا يَجُوزَ إقْرَارُهُ، فَلِغُرَمَائِهِ أَنْ يَحْلِفُوا إذَا نَكَلَ وَيَسْتَحِقُّوا ذَلِكَ.
مَسْأَلَةٌ:
وَإِذَا هَلَكَ رَجُلٌ وَلَهُ دَيْنٌ لَهُ عَلَيْهِ شَاهِدٌ وَاحِدٌ وَعَلَيْهِ دَيْنٌ لِلنَّاسِ، فَلِلْوَرَثَةِ أَنْ يَحْلِفُوا مَعَ الشَّاهِدِ وَيَسْتَحِقُّونَ الدَّيْنَ فَإِذَا حَلَفُوا وَأَخَذُوا الْمَالَ، قَضَى مِنْهُ الدَّيْنَ وَأَخَذُوا الْبَاقِي مِيرَاثًا، وَلَيْسَ لِلْغُرَمَاءِ إجْبَارُهُمْ عَنْ الْيَمِينِ، فَإِنْ أَبَى الْوَرَثَةُ أَنْ يَحْلِفُوا، فَإِنَّ الْغُرَمَاءَ يَحْلِفُونَ وَيَأْخُذُونَ حُقُوقَهُمْ، فَإِنْ فَضَلَ فَضْلٌ بَعْدَ اسْتِيفَائِهِمْ، لَمْ يَكُنْ لِلْوَرَثَةِ أَنْ يَحْلِفُوا عَلَيْهِ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شَيْءٌ مِنْهُ؛ لِأَنَّ الْأَيْمَانَ عُرِضَتْ عَلَيْهِمْ أَوَّلًا فَتَرَكُوهَا، إلَّا أَنْ يَقُولُوا لَمْ نَكُنْ نَعْلَمُ أَنَّهُ يَفْضُلُ لِصَاحِبِنَا فَضْلٌ، وَنَعْلَمُ أَنَّ نُكُولَهُمْ مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ، فَيَحْلِفُونَ وَيَأْخُذُونَ مَا بَقِيَ مِنْ دَيْنِهِ، قَالَ مَالِكٌ: وَمَنْ نَكَلَ مِنْ الْغُرَمَاءِ بَطَلَ قَدْرُ حَقِّهِ مِنْ ذَلِكَ الدَّيْنِ وَلَمْ يَجُزْ عَنْهُ يَمِينُ غَيْرِهِ مِنْ الْغُرَمَاءِ، وَكَذَلِكَ مَنْ نَكَلَ مِنْ الْوَرَثَةِ فَلَا شَيْءَ لَهُ مِنْ ذَلِكَ الدَّيْنِ وَلَمْ تَجُزْ يَمِينُ غَيْرِهِ مِنْ الْوَرَثَةِ.
تَنْبِيهٌ:
قَالَ فَضْلٌ: قَالَ سَحْنُونٌ: إنَّمَا بَدَأَ الْوَرَثَةُ بِالْيَمِينِ؛ لِأَنَّ الدَّيْنَ لَمْ يَكُنْ ثَبَتَ عَلَى الْمَيِّتِ لِلْغُرَمَاءِ، وَأَمَّا لَوْ كَانَ دَيْنُ الْغُرَمَاءِ ثَابِتًا مَعْرُوفًا، كَانُوا هُمْ الْمُبْدِئِينَ بِالْيَمِينِ؛ لِأَنَّ الْحَقَّ لَهُمْ دُونَ الْوَرَثَةِ.
مَسْأَلَةٌ:
قَالَ ابْنُ حَبِيبٍ سَمِعْت مُطَرِّفًا وَابْنَ الْمَاجِشُونِ يَقُولَانِ فِي الرَّجُلِ يُقْتَلُ خَطَأً وَعَلَيْهِ دَيْنٌ يُحِيطُ بِمَالِهِ، فَيَأْبَى وَرَثَتُهُ أَنْ يَقْتَسِمُوا، أَنَّ لِأَهْلِ دِيَتِهِ أَنْ يَقْتَسِمُوا وَيَأْخُذُوا دِيَتَهُ فِي دَيْنِهِمْ، إذَا كَانَ دَيْنُهُمْ يُحِيطُ بِدِيَتِهِ، وَيَنْزِلُونَ فِي ذَلِكَ مَنْزِلَةَ الْوَرَثَةِ إذَا أَقْسَمَ بَعْضُهُمْ وَأَبَى بَعْضُهُمْ.
وَقَالَهُ أَصَبْغُ وَابْنُ نَافِعٍ.
مَسْأَلَةٌ:
وَلَوْ مَاتَ رَجُلٌ وَعَلَيْهِ دُيُونٌ لِلنَّاسِ فَيَشْهَدُ لَهُ شَاهِدٌ وَاحِدٌ بِدَفْعِ بَعْضِ الدُّيُونِ، فَأَرَادَ الْغُرَمَاءُ أَنْ يَحْلِفُوا مَعَ شَاهِدِ غَرِيمِهِمْ أَوْ كَانُوا وَرَثَةً فَلَيْسَ ذَلِكَ لَهُمْ، وَلَا يُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ لِغَرِيمِهِمْ شَاهِدٌ وَاحِدٌ عَلَى دَيْنِهِ، هُنَالِكَ يَحْلِفُونَ أَنَّ حَقَّهُمْ حَقٌّ، وَقَدْ صَارَ ذَلِكَ لَهُمْ، وَهُنَا لَوْ حَلَفُوا فَإِنَّمَا يَحْلِفُونَ لَقَدْ دَفَعَ كَذَا، وَهَذَا مِنْ الْغَيْبِ الَّذِي لَا يُقْبَلُ حَلِفُهُمْ عَلَيْهِ وَلَا يَحِلُّ لَهُمْ، وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ نَظِيرَةُ مَسْأَلَةِ الْمُفْلِسِ وَنَقَلَ الْمُتَيْطِيُّ فِي تِلْكَ الْخِلَافَ.

.الْبَابُ الثَّانِيَ عَشَرَ فِي الْقَضَاءِ بِشَاهِدٍ وَيَمِينِ أَحَدِ الْمُدَّعِيَيْنِ:

وَإِذَا قَامَ جَمَاعَةٌ فِي صَدَقَةٍ تَصَدَّقَ بِهَا عَلَيْهِمْ، وَمِنْهُمْ الْحَاضِرُ وَالْغَائِبُ وَالصَّغِيرُ وَالْكَبِيرُ، فَقَامُوا يَطْلُبُونَ صَدَقَتَهُمْ مِنْ وَرَثَةِ الْمُوَصِّي وَلَمْ يَجِدُوا عَلَيْهَا إلَّا شَاهِدًا وَاحِدًا، فَإِنَّهُ يَحْلِفُ رَجُلٌ مِنْهُمْ مِمَّنْ حَضَرَ مَعَ شَاهِدِهِمْ، وَيَسْتَحِقُّ الصَّدَقَةَ لِجَمِيعِهِمْ، وَلَيْسَ عَلَيْهِمْ أَنْ يَحْلِفُوا كُلُّهُمْ كَمَا يَحْلِفُ الْوَرَثَةُ فِي ذِكْرِ الْحَقِّ، وَلَيْسَ هَذَا مِثْلَ ذَلِكَ، قَالَهُ فَضْلٌ فِي مُخْتَصَرِ الْوَاضِحَةِ وَفِي الْمُتَيْطِيَّةِ إنْ كَانَتْ الصَّدَقَةُ أَوْ الْحَبْسُ عَلَى بَنِي فُلَانٍ، فَرَوَى ابْنُ الْمَاجِشُونِ عَنْ مَالِكٍ: أَنَّهُ يَحْلِفُ الْجُلُّ مَعَهُ، أَيْ مَعَ الشَّاهِدِ وَتَنْفُذُ لِجَمِيعِهِمْ، وَالْجُلُّ مَا زَادَ عَلَى النِّصْفِ، ثُمَّ ذَكَرَ مَا تَقَدَّمَ عَنْ مُخْتَصَرِ الْوَاضِحَةِ.
فَرْعٌ:
وَأَمَّا إذَا أَوْصَى لِلْمَسَاكِينِ أَوْ لِأَبْنَاءِ السَّبِيلِ أَوْ لِبَنِي تَمِيمٍ أَوْ لِقُرَيْشٍ أَوْ لِلْأَنْصَارِ، فَلَا خِلَافَ أَنَّهُ لَا يَمِينَ فِي ذَلِكَ مَعَ الشَّاهِدِ، وَإِنَّمَا الْخِلَافُ إذَا أَوْصَى لِمَنْ يَحْصُرُهُمْ الْعَدَدُ كَآلِ فُلَانٍ أَوْ مَسَاكِينِ آلِ فُلَانٍ، فَهِيَ الْمَسْأَلَةُ الَّتِي اُخْتُلِفَ فِيهَا، هَلْ يَحْلِفُ الْجُلُّ أَوْ يُكْتَفَى فِيهَا بِوَاحِدٍ؟ وَفِي مَعِينِ الْحُكَّامِ وَقِيلَ لَا يَمِينَ فِي ذَلِكَ مَعَ الشَّاهِدِ، قَالَ وَيَقُومُ ذَلِكَ مِنْ كِتَابِ الْوَصَايَا الثَّانِي مِنْ الْمُدَوَّنَةِ فِي الَّذِي يُوصِي لِأَخْوَالِهِ وَأَوْلَادِهِمْ.

.فَصْلٌ أَوْصَى لِرَجُلٍ بِثُلُثِ مَالِهِ فَوُجِدَ لِلْمَيِّتِ كِتَابٌ يَذْكُرُ حَقًّا لَهُ عَلَى رَجُلٍ:

فَصْلٌ: وَيَلْحَقُ بِهَذَا الْبَابِ مَا ذَكَرَهُ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي رِسَالَةِ الْقَضَاءِ قَالَ: وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا أَوْصَى لِرَجُلٍ بِثُلُثِ مَالِهِ، فَوُجِدَ لِلْمَيِّتِ كِتَابٌ يَذْكُرُ حَقًّا لَهُ عَلَى رَجُلٍ لَا يَشْهَدُ عَلَيْهِ إلَّا شَاهِدٌ وَاحِدٌ فَإِنَّهُ يَحْلِفُ الْمُوصَى لَهُ بِالثُّلُثِ مَعَ الشَّاهِدِ، وَيَأْخُذُ ثُلُثَ ذَلِكَ الدَّيْنِ؛ لِأَنَّ الْمُوصَى لَهُ بِمَنْزِلَةِ الْوَارِثِ فِي ذَلِكَ، وَاَللَّهُ- سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- أَعْلَمُ.

.الْبَابُ الثَّالِثَ عَشَرَ فِي الْقَضَاءِ بِبَيِّنَةِ الْمُدَّعِي:

بَعْدَ فَصْلِ الْقَضَاءِ بِيَمِينِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ إذَا ادَّعَى رَجُلٌ قِبَلَ رَجُلٍ مَالًا وَدَعَا إلَى يَمِينِ الْمَطْلُوبِ فَحَلَفَ لَهُ ثُمَّ زَعَمَ أَنَّهُ وَجَدَ بَيِّنَةً تَشْهَدُ لَهُ بِمَا ادَّعَاهُ، وَلَمْ يَكُنْ يَعْلَمُ بِهَا فَإِنَّهُ يَحْلِفُ أَنَّهُ مَا عَلِمَ بِهَا فِي حِينِ اسْتِحْلَافِهِ، ثُمَّ يَسْمَعُ الْحَاكِمُ مِنْ بَيِّنَتِهِ، وَقَدْ جَاءَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ الْبَيِّنَةُ الْعَادِلَةُ أَحَقُّ مِنْ الْيَمِينِ الْفَاجِرَةِ.
تَنْبِيهٌ:
وَإِذَا حَلَفَ أَنَّهُ مَا عَلِمَ بِبَيِّنَتِهِ فَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ تَكُونَ يَوْمَ حَلَفَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ حَاضِرَةً أَوْ غَائِبَةً.
فَرْعٌ:
أَمَّا إنْ اسْتَحْلَفَهُ مَعَ عِلْمِهِ بِبَيِّنَتِهِ تَارِكًا لَهَا، إمَّا تَصْرِيحًا أَوْ مُعَرِّضًا عَنْهَا، وَهِيَ حَاضِرَةٌ أَوْ غَائِبَةٌ فَلَا حَقَّ لَهُ.
فَرْعٌ:
وَفِي الثَّمَانِيَةِ لِأَبِي زَيْدٍ، قَالَ مُطَرِّفٌ وَابْنُ الْمَاجِشُونِ: وَمَنْ اسْتَحْلَفَ رَجُلًا فِي حَقِّهِ، وَهُوَ عَالِمٌ بِبَيِّنَتِهِ وَهِيَ حَاضِرَةٌ مَعَهُ فَحَلَفَ لَهُ، لَمْ يَضُرَّهُ اسْتِحْلَافُهُ إيَّاهُ، وَلَهُ الْقِيَامُ بِهَا وَيُقْضَى بِهَا؛ لِأَنَّ مِنْ حُجَّتِهِ أَنْ يَقُولَ ظَنَنْت أَنَّهُ لَا يَحْلِفُ وَلَا يَتَجَرَّأُ عَلَى الْيَمِينِ، وَأَنَّهُ يُقِرُّ لَهُ حِينَئِذٍ.
وَقَالَ ابْنُ الْمَاجِشُونِ: أَرَاهُ آثِمًا حِينَ أَلْجَأَهُ إلَى الْيَمِينِ، وَلَهُ بَيِّنَةٌ حَاضِرَةٌ.
تَنْبِيهٌ:
قَالَ الْمَازِرِيُّ قَالَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكِ رَحِمَهُ اللَّهُ: إنَّ الْمُدَّعِيَ إذَا اسْتَحْلَفَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ عَلَى دَعْوَاهُ، ثُمَّ وَجَدَ الْمُدَّعِي شَاهِدًا وَاحِدًا فَلَا يَحْلِفُ مَعَهُ؛ لِأَنَّ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ قَدْ بَرِئَ مِنْ الدَّعْوَى بِيَمِينِهِ، فَلَا يُكْتَفَى بِشَاهِدٍ وَيَمِينٍ فِي إبْطَالِ يَمِينِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، وَلَا يَثْبُتُ حَقُّهُ إلَّا بِشَاهِدَيْنِ، وَقِيلَ يَحْلِفُ مَعَهُ.
فَرْعٌ:
قَالَ سَحْنُونٌ: الْقَوْلُ قَوْلُ صَاحِبِ الْحَقِّ أَنَّهُ لَمْ يَعْلَمْ بِبَيِّنَتِهِ مَعَ يَمِينِهِ، وَهَذَا إذَا ادَّعَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ أَنَّهُ كَانَ عَالِمًا بِبَيِّنَتِهِ وَجَحَدَ الْآخَرُ، وَرَوَى أَشْهَبُ وَابْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ عَنْ مَالِكٍ: أَنَّ لَهُ الْقِيَامَ، وَإِنْ عَلِمَ بِبَيِّنَتِهِ.
تَنْبِيهٌ:
قَالَ فِي الْمُتَيْطِيَّةِ: وَمِنْ الْحَزْمِ لِلْمُدَّعَى عَلَيْهِ إذَا طَلَبَ الْمُدَّعِي يَمِينَهُ أَنْ يُلْزِمَ الْمُدَّعِيَ أَنَّهُ قَدْ أَسْقَطَ بَيِّنَتَهُ مَا عَلِمَ مِنْهَا وَمَا لَمْ يَعْلَمْ، فَإِنْ عَقَدَ عَلَى نَفْسِهِ مِثْلَ هَذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَقُومَ عَلَيْهِ بَعْدَ يَمِينِهِ بِالْبَيِّنَةِ.
فَرْعٌ:
فَإِذَا ادَّعَى أَنَّ بَيِّنَتَهُ غَائِبَةٌ، وَأَرَادَ أَنْ يَسْتَحْلِفَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، وَأَنْ يَكُونَ عَلَى بَيِّنَتِهِ إذَا قَدِمَتْ، فَإِنْ زَعَمَ أَنَّ الْبَيِّنَةَ بِمَوْضِعٍ قَرِيبٍ، وَأَنْ يُقِيمَهَا فِي الْيَوْمَيْنِ وَالثَّلَاثَةِ أُخِّرَتْ الْيَمِينُ، فَإِنْ أَحْضَرَ الْبَيِّنَةَ، وَإِلَّا كَانَ عَلَيْهِ أَنْ يَحْلِفَ لَهُ عَلَى تَرْكِ الْبَيِّنَةِ وَإِسْقَاطِهَا، وَإِنْ زَعَمَ أَنَّ بَيِّنَتَهُ بِمَوْضِعٍ بَعِيدٍ حَلَفَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، وَكَانَ عَلَى بَيِّنَتِهِ يُقِيمُهَا إذَا حَضَرَتْ.
تَنْبِيهٌ:
وَفِي الْمُتَيْطِيَّةِ وَإِنَّمَا يَكُونُ لِلْمُدَّعِي أَنْ يُحَلِّفَهُ، إذَا ادَّعَى أَنَّ بَيِّنَتَهُ بِمَوْضِعٍ بَعِيدٍ، بَعْدَ أَنْ يَحْلِفَ أَنَّ بَيِّنَتَهُ بِمَوْضِعٍ بَعِيدٍ وَيُسَمِّي الْبَيِّنَةَ.
وَقَالَ ابْنُ الْهِنْدِيِّ فِي وَثَائِقِهِ: قَالَ وَقَدْ كَانَ أَبُو إبْرَاهِيمَ إِسْحَاقُ بْنُ إبْرَاهِيمَ التُّجِيبِيُّ، لَا يَحْلِفُ الْمُدَّعِي، وَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ سَمِّ بَيِّنَتَك، وَاشْهَدْ أَنَّك لَا بَيِّنَةَ لَك غَيْرَهَا، فَإِذَا فَعَلَ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ أَكْثَرُ مِنْ هَذَا، وَيَحْلِفُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ وَيَبْقَى الْمُدَّعِي عَلَى إقَامَةِ مَنْ سَمَّاهُ، فَإِنْ كَانُوا عُدُولًا وَشَهِدُوا، وَلَمْ يَكُنْ لِلْمُدَّعَى عَلَيْهِ فِيهِمْ مَدْفَعٌ حَكَمَ لَهُ بِهِمْ، وَإِلَّا لَمْ يَكُنْ لِلْمُدَّعِي شَيْءٌ، قَالَ: وَحَضْرَتُهُ يُفْتِي بِهَذَا مِرَارًا.
مَسْأَلَةٌ:
وَفِي مُخْتَصَرِ الْوَاضِحَةِ، وَلَوْ كَانَ الْمُدَّعِي لَا شَاهِدَ لَهُ وَطَلَبَ يَمِينَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فَنَكَلَ عَنْ الْيَمِينِ، فَرَجَعَتْ الْيَمِينُ عَلَى الْمُدَّعِي فَحَلَفَ وَأَخَذَ ثُمَّ إنَّ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ وَجَدَ الْبَيِّنَةَ عَلَى بَرَاءَتِهِ مِنْ ذَلِكَ الْحَقِّ فَإِنَّهُ يُبَرَّأُ، وَيَرْجِعُ إلَى مَا أَخَذَ مِنْهُ فَيَأْخُذُهُ.
فَرْعٌ:
وَلَوْ كَانَ الْمُدَّعِي حِينَ رَجَعَتْ الْيَمِينُ عَلَيْهِ نَكَلَ عَنْهَا، فَلَمْ يُعْطِ شَيْئًا لِنُكُولِهِ، ثُمَّ وَجَدَ الْبَيِّنَةَ عَلَى أَنَّ دَعْوَاهُ حَقٌّ، فَإِنَّهُ يَأْخُذُ بِبَيِّنَتِهِ وَلَا يَمْنَعُهُ مِنْ ذَلِكَ نُكُولُهُ عَنْ الْيَمِينِ حِينَ رُدَّتْ عَلَيْهِ.
فَرْعٌ:
وَفِي الطُّرَرِ لِأَبِي إبْرَاهِيمَ: وَلَوْ أَنَّ لِرَجُلٍ عَلَى رَجُلٍ مَالًا فَأَنْكَرَهُ، وَلِصَاحِبِ الْحَقِّ بَيِّنَةٌ قَدْ عَلِمَ بِهَا فَصَالَحَهُ بِبَعْضِ الْحَقِّ، ثُمَّ حَضَرَتْ الْبَيِّنَةُ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ عَلَيْهِ بِشَيْءٍ.
فَرْعٌ:
وَلَوْ صَالَحَ الطَّالِبُ الْمَطْلُوبَ عَلَى شَيْءٍ لِبُعْدِ غَيْبَةِ الْبَيِّنَةِ فَلَا قِيَامَ لَهُ بِالْبَيِّنَةِ إذَا قَدِمَتْ؛ لِأَنَّهُ قَدْ رَضِيَ بِمَا قَدْ أَخَذَ.
تَنْبِيهٌ:
قَالَ فِي التَّهْذِيبِ: إنَّ الْغَيْبَةَ الْقَرِيبَةَ مِثْلُ الْيَوْمَيْنِ وَالثَّلَاثَةِ.
وَقَالَ مِثْلَ ذَلِكَ فِيمَنْ ادَّعَى عَبْدًا بِيَدِ رَجُلٍ وَذَكَرَ أَنَّ لَهُ بَيِّنَةً قَرِيبَةً مِثْلَ الْيَوْمَيْنِ وَالثَّلَاثَةِ، وَسَأَلَ وَضْعَ قِيمَةِ الْعَبْدِ لِيَذْهَبَ بِهِ إلَى بَيِّنَتِهِ لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ، وَإِنْ أَتَى بِشَاهِدٍ أَوْ بِسَمَاعٍ وَادَّعَى شُهُودًا حُضُورًا، وَسَأَلَ إيقَافَ الْعَبْدِ أُوقِفَ الْعَبْدُ لَهُ نَحْوَ الْخَمْسَةِ الْأَيَّامِ وَالْجُمُعَةِ.
وَقَالَ أَبُو إبْرَاهِيمَ الْأَعْرَجُ: فَانْظُرْ هَلْ هَذَا وِفَاقٌ أَوْ خِلَافٌ. انْتَهَى. وَاَللَّهُ- سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- أَعْلَمُ.
فَرْعٌ:
وَفِي الْمُتَيْطِيَّةِ عَنْ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ: فِيمَنْ قَضَى رَجُلًا دِينَارًا كَانَ لَهُ عَلَيْهِ، وَأَشْهَدَ عَلَى ذَلِكَ شَاهِدَيْنِ، ثُمَّ جَاءَ يَتَقَاضَاهُ الدِّينَارَ فَقَالَ: قَدْ قَضَيْتُك وَأَشْهَدْت عَلَيْك فُلَانًا وَفُلَانًا، فَقَالَ مَا قَبَضْته، فَقَالَ تَحْلِفُ وَأُعْطِيك فَحَلَفَ، فَأَرَادَ أَنْ يَأْتِيَ عَلَيْهِ بِالشَّاهِدَيْنِ أَتَرَى لَهُ ذَلِكَ؟ فَقَالَ مَالِكٌ: أَرَى ذَلِكَ فَلْيَأْتِ بِهِمَا.

.الْبَابُ الرَّابِعَ عَشَرَ فِي الْقَضَاءِ بِقَوْلِ رَجُلٍ بِانْفِرَادِهِ وَمَا يَجْرِي مَجْرَى ذَلِكَ:

قَالَ ابْنُ رُشْدٍ فِي الْمُقَدِّمَاتِ: وَيَكْفِي الشَّاهِدُ الْوَاحِدُ فِيمَا يُبْتَدَأُ الْحُكْمُ فِيهِ بِالسُّؤَالِ، وَفِيمَا كَانَ عِلْمًا يُؤَدِّيهِ.
فَرْعٌ:
قَالَ ابْنُ حَبِيبٍ قَالَ ابْنُ الْمَاجِشُونِ: وَمَا اُخْتُصِمَ فِيهِ مِنْ الْعُيُوبِ الَّتِي تَكُونُ فِي الْعَبْدِ الْمَبِيعِ، وَعُيُوبِ الْإِمَاءِ الَّتِي لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهَا إلَّا النِّسَاءُ، فَكَانَا قَائِمَيْنِ غَيْرَ فَائِتَيْنِ، فَلِلْحَاكِمِ الَّذِي يَتَوَلَّى الْكَشْفَ عَنْ ذَلِكَ بِأَنْ يُرْسِلَ بِالْعَبْدِ إلَى مَنْ يَرْتَضِيهِ، أَوْ يَثِقُ بِبَصَرِهِ وَمَعْرِفَتِهِ بِذَلِكَ الْعَيْبِ وَغَوْرِهِ، مِثْلَ: الشِّغَافِ وَالطِّحَالِ وَالْبَرَصِ الْمَشْكُوكِ فِيهِ وَأَمْثَالُ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ، فَيَأْخُذُ فِيهِ بِالْمُخْبِرِ الْوَاحِدِ وَبِقَوْلِ الطَّبِيبِ الَّذِي لَيْسَ عَلَى الْإِسْلَامِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ عَلَى جِهَةِ الشَّهَادَةِ، وَإِنَّمَا هُوَ عِلْمٌ يَأْخُذُهُ الْحَاكِمُ عَمَّنْ يُبْصِرُهُ وَيَعْرِفُهُ، مَرَضِيًّا كَانَ أَوْ مَسْخُوطًا وَاحِدًا كَانَ أَوْ اثْنَيْنِ.
فَرْعٌ:
إذَا كَانَ فَائِتًا بِغَيْبَةٍ أَوْ مَوْتٍ، كَانَتْ الشَّهَادَةُ عَلَى سُنَّتِهَا تَحْيَا بِمَا تَحْيَا بِهِ الشَّهَادَاتُ، وَتَضْعُفُ بِمَا يُضْعِفُهَا.
مَسْأَلَةٌ:
وَفِي الْوَثَائِقِ الْمَجْمُوعَةِ، وَرُوِيَ فِي الرَّجُلِ يَشْهَدُ لِابْنِهِ بِحَقٍّ، فَيَدْفَعُ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ الْمَالَ إلَى الِابْنِ شَهَادَةُ الْأَبِ بِغَيْرِ حُكْمٍ مِنْ سُلْطَانٍ.
وَفِي الرَّجُلِ يَقُومُ لَهُ شَاهِدٌ وَاحِدٌ عَلَى حَقِّهِ، فَيَدْفَعُ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ الْحَقَّ إلَى الْمَشْهُودِ لَهُ.
وَفِي الرَّجُلِ يُطَلِّقُ امْرَأَتَهُ، فَتَدَّعِي حَمْلًا وَهُوَ غَيْرُ ظَاهِرٍ، فَيُنْفِقُ عَلَيْهَا ثُمَّ يَنْفُشُ الْحَمْلُ أَنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ أَصْلٌ وَاحِدٌ، لَا رُجُوعَ لِوَاحِدٍ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ مِمَّا دَفَعُوهُ، وَلَيْسَ يَنْفَعُهُمْ قَوْلُهُمْ ظَنَنَّا أَنَّ ذَلِكَ يَلْزَمُنَا، وَقَدْ أُمْضِيَ الْحَقُّ لِمَنْ أَخَذَهُ وَلَوْ شَاءُوا تَثَبَّتُوا قَبْلَ الدَّفْعِ، وَهَذِهِ الشَّهَادَةُ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ رُفِعَتْ إلَى الْحَاكِمِ ابْتِدَاءً، فَإِنَّهُ يُمْضِي مَا تَرَتَّبَ عَلَيْهِ إذَا وَقَعَ التَّحَاكُمُ عِنْدَهُ، اُنْظُرْهَا فِي الْوَثَائِقِ الْمَجْمُوعَةِ فِي رَسْمِ تَقْيِيدِ عَدَاوَةٍ لِتَكُونَ عِنْدَهُ.
مَسْأَلَةٌ:
وَفِي التَّهْذِيبِ فِيمَنْ أَوْدَعْتَهُ وَدِيعَةً فَاسْتَهْلَكَهَا ابْنُهُ الصَّغِيرُ، فَذَلِكَ فِي مَالِ الِابْنِ وَفِي طُرَرِ التَّهْذِيبِ لِأَبِي الْحَسَنِ الطَّنْجِيِّ، عَمَّا قَيَّدَهُ عَنْ أَبِي الْحَسَنِ الصَّغِيرِ، قَالَ: وَظَاهِرُ هَذَا سَوَاءٌ ثَبَتَ اسْتِهْلَاكُهُ بِبَيِّنَةٍ أَوْ بِشَهَادَةِ الْأَبِ، وَيُصَدَّقُ الْأَبُ وَهِيَ شَهَادَةٌ وَلَيْسَ هَذَا إقْرَارًا، إنَّمَا يَكُونُ الْإِقْرَارُ فِيمَا وَلِيَ مِنْ الْمُعَامَلَات عَلَيْهِ وَالْوَصِيِّ.
مَسْأَلَةٌ:
قَالَ ابْنُ حَبِيبٍ: وَمِنْ ذَلِكَ شَهَادَةُ الْقَايِسِ لِلْجِرَاحِ، إذَا كَانَ الْحَاكِمُ يَأْمُرُهُ أَنْ يَنْظُرَ الشَّجَّةَ وَالْجِرَاحَ مَا هِيَ وَمَا غَوْرُهَا وَمَا اسْمُهَا وَقِيَاسُهَا، كَاَلَّذِي ذَكَرْنَاهُ مِنْ أَمْرِ الطَّبِيبِ، وَمَا أَشْبَهَهُ، فَيُقْبَلُ فِي ذَلِكَ وَحْدَهُ، وَأَحَبُّ إلَيَّ أَنْ يُنَصِّبَ لِهَذَا مِنْ أُمُورِ النَّاسِ عَدْلًا، وَإِنْ لَمْ يُنَصِّبْ لِذَلِكَ أَحَدًا بِعَيْنِهِ، اكْتَفَى بِأَنْ يُرْسِلَ الْمَجْرُوحَ إلَى مَنْ ارْتَضَاهُ وَوَثِقَ بِرَأْيِهِ وَبَصَرِهِ، وَإِنْ لَمْ يَجِدْ إلَّا طَبِيبًا مِثْلَ الْعُيُوبِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ عَلَى الشَّهَادَةِ.
تَنْبِيهٌ:
وَإِنْ لَمْ يَكُنْ السُّلْطَانُ فِي أَوَّلِ ذَلِكَ أَمَرَ بِقِيَاسِهِ، وَإِنَّمَا جَاءَ هَذَا يَطْلُبُ عَقْلَ مَا قَدْ مَضَى وَبَرِئَ وَصَحَّ، لَمْ يَكُنْ بُدٌّ مِنْ أَنْ يَدْعُوَهُ بِشَاهِدَيْنِ عَدْلَيْنِ عَلَى أَنْ يَجْلِبَهُ مَا كَانَ حِينَئِذٍ.
مَسْأَلَةٌ:
الْمُوَجَّهُ مِنْ قِبَلِ الْقَاضِي لِلْحِيَازَةِ يُجْزِئُ فِيهِ وَاحِدٌ عَدْلٌ، وَكَذَلِكَ الْمُوَجَّهُ مِنْ قِبَلِهِ لِلْإِعْذَارِ وَيُجْزِئُ فِيهِ الْوَاحِدُ الْعَدْلُ مِنْ الطُّرَرِ.
مَسْأَلَةٌ:
وَفِي بَقْرِ بَطْنِ الْمَيِّتِ عَلَى الْمَالِ، قَالَ ابْنُ رَاشِدٍ فِي الْمَذْهَبِ: إنَّمَا يَبْقُرُ عَنْ الْمَالِ إذَا ثَبَتَ بِعَدْلَيْنِ، فَإِنْ شَهِدَ بِهِ عَدْلٌ، فَأَجْرَاهُ أَبُو عِمْرَانَ الْفَاسِيُّ عَلَى الْخِلَافِ فِي الْقِصَاصِ فِي الْجِرَاحِ بِالشَّاهِدِ الْوَاحِدِ.
مَسْأَلَةٌ:
إذَا ادَّعَى عَلَى إنْسَانٍ أَنَّهُ تَخَلَّفَ فِي الْجِهَادِ عَنْ الْجَيْشِ، وَأَرَادَ مَنَعَهُ مِنْ الْغَنِيمَةِ، وَلَمْ تَقُمْ بَيِّنَةٌ عَلَى ذَلِكَ وَإِنَّمَا شَهِدَ عَلَيْهِ الْأَمِيرُ بِنَفْسِهِ، فَفِي الْعَمَلِ بِشَهَادَتِهِ عَلَيْهِ قَوْلَانِ بِنَاءً عَلَى الْخِلَافِ فِي الْحَاكِمِ، هَلْ يَحْكُمُ بِعِلْمِهِ أَوْ لَا مِنْ الْمَذْهَبِ.
مَسْأَلَةٌ:
إذَا دَخَلَ الزَّوْجُ بِزَوْجَتِهِ قَبْلَ الْإِشْهَادِ فُسِخَ بِطَلْقَةٍ بَائِنَةٍ.
وَقَالَ ابْنُ حَبِيبٍ يُحَدَّانِ إنْ ثَبَتَ الْوَطْءُ مَا لَمْ يَكُنْ فَاشِيًا، ابْنُ الْمَاجِشُونِ وَالْمُشَاهَدُ الْوَاحِدُ لَهُمَا بِالنِّكَاحِ أَوْ بِابْتِنَائِهِمَا بِاسْمِ النِّكَاحِ، وَذَكَرَهُ كَالْأَمْرِ الْفَاشِي يَعْنِي فَيَسْقُطُ عَنْهُمَا الْحَدُّ بِشَهَادَتِهِ.
مَسْأَلَةٌ:
وَفِي مُخْتَصَرِ الْوَاضِحَةِ فِي الرَّجُلِ يَحْلِفُ لِغَرِيمِهِ بِطَلَاقِ امْرَأَتِهِ، لَيَقْضِيَنَّهُ عِنْدَ الْهِلَالِ فَيَقْضِيهِ قَبْلَ الْهِلَالِ، فَتَقُومُ امْرَأَتُهُ تُرِيدُ فِرَاقَهُ وَتَدَّعِي عَدَمَ الْقَضَاءِ فَيَقُومُ لِلْحَالِفِ شَاهِدٌ مَعَ الْغَرِيمِ فَيَشْهَدَانِ أَنَّهُ قَضَاهُ قَبْلَ الْهِلَالِ، فَشَهَادَتُهُمَا جَائِزَةٌ، وَلَوْ لَمْ يَشْهَدْ إلَّا الْغَرِيمُ وَحْدَهُ، فَقَالَ مُطَرِّفٌ وَابْنُ الْمَاجِشُونِ: لَا يُخْرِجُهُ عَنْ الْحِنْثِ شَاهِدٌ وَاحِدٌ.
وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ: أَرَى ذَلِكَ مُخْرِجًا لَهُ مِنْ الْحِنْثِ إنْ كَانَ مَأْمُونًا.
مَسْأَلَةٌ:
وَكَذَا الْقَاسِمُ إذَا أَرْسَلَهُ الْحَاكِمُ لِقَسْمِ شَيْءٍ بَيْنَ أَهْلِهِ، وَوَثِقَ بِهِ وَنَصَّبَهُ لَهُ، فَجَائِزٌ لِلْحَاكِمِ قَبُولُ ذَلِكَ مِنْهُ وَحْدَهُ وَالْإِشْهَادُ عَلَيْهِ لِأَهْلِهِ إذَا رَآهُ صَوَابًا؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ عَلَى جِهَةِ الشَّهَادَةِ.
مَسْأَلَةٌ:
وَالْمُحَلِّفُ أَيْضًا مِنْ هَذَا الْبَابِ إذَا أَمَرَهُ الْحَاكِمُ بِإِحْلَافِ أَحَدٍ، فَقَوْلُهُ فِي ذَلِكَ مَقْبُولٌ إذَا أَنْكَرَ الطَّالِبُ ذَلِكَ.
مَسْأَلَةٌ:
وَكَذَلِكَ شَهَادَةُ كَاتِبِ الْقَاضِي وَحْدَهُ، عَلَى مَا كَتَبَ بِأَمْرِهِ مِنْ هَذَا الْبَابِ، وَلَوْ شَهِدَ كَاتِبُ الْقَاضِي عَلَى كِتَابَةِ شَهَادَةِ رَجُلٍ قَدْ مَاتَ أَوْ غَابَ، وَالْقَاضِي لَا يَحْفَظُ أَنَّهُ أَمَرَهُ بِإِيقَاعِهَا، وَلَا أَنَّهُ شَهِدَ بِهَا عِنْدَهُ، لَمْ يَكْتَفِ فِي هَذَا بِالْكِتَابِ وَحْدَهُ وَكَانَ بِمَقَامِ شَاهِدٍ وَاحِدٍ، وَإِنْ لَمْ يَقُلْ لَهُ الشَّاهِدُ اشْهَدْ عَلَى شَهَادَتِي؛ لِأَنَّهُ لَا يُخْلِصُ شَهَادَتَهُ وَلَا تَتِمُّ لِمَنْ جَاءَ بِهَا لَا بِإِيقَاعِهَا، فَلَا يَعْدُو أَنْ يَكُونَ شَاهِدًا عَلَى شَاهِدٍ، فَإِنْ كَانَ مَعَهُ آخَرُ عَلَى شَهَادَةِ شَاهِدٍ حَيٍّ وَإِلَّا لَمْ يَحْيَى، قَالَ فَضْلٌ: مَعْنَاهُ عِنْدِي عَلَى أَنَّ الْكِتَابَ لَمْ يَكُنْ فِي دِيوَانِ الْقَاضِي، وَقَدْ قَالَ مُطَرِّفٌ وَابْنُ الْمَاجِشُونِ: لَا يَنْبَغِي لِلْقَاضِي أَنْ يُجِيزَ شَهَادَاتٍ وَجَدَهَا فِي دِيوَانِهِ لَا يَعْرِفُهَا إلَّا بِطَوَابِعِهَا إلَّا أَنْ يَكُونَ بِخَطِّ يَدِهِ أَوْ خَطِّ كَاتِبِهِ، وَكَانَ عِنْدَهُ مَأْمُونًا فَلْيُنَفِّذْهَا.
مَسْأَلَةٌ:
وَيَكْفِي عِنْدَ أَشْهَبَ فِي ثُبُوتِ الْخُلْطَةِ شَهَادَةُ رَجُلٍ وَاحِدٍ.
مَسْأَلَةٌ:
وَكَذَلِكَ اللَّوْثُ يَكْفِي فِيهِ الشَّاهِدُ الْعَدْلُ، وَعِنْدَ أَشْهَبَ يَكْفِي فِيهِ الشَّاهِدُ غَيْرُ الْمُعَدَّلِ، وَهِيَ رِوَايَةٌ عَنْ مَالِكٍ مِنْ الْمُقَدِّمَاتِ.
مَسْأَلَةٌ:
وَكَذَلِكَ الِاكْتِفَاءُ بِقَوْلِ وَاحِدٍ فِي تَزْكِيَةِ السِّرِّ عَلَى الْخِلَافِ فِي الْمَسْأَلَةِ، قَالَ ابْنُ رَاشِدٍ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ فِي الْحَقِيقَةِ إخْبَارٌ، وَالْخَبَرُ يُكْتَفَى فِيهِ بِالْوَاحِدِ وَهُوَ مُشْكِلٌ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يَئُولُ إلَى الْحُكْمِ، وَالْحُكْمُ لَا يَكُونُ إلَّا بِاثْنَيْنِ.
مَسْأَلَةٌ:
وَكَذَلِكَ الْعَمَلُ بِقَوْلِ الْكَاشِفِ الَّذِي يَنْبَغِي لِلْحَاكِمِ أَنْ يَتَّخِذَهُ يُخْبِرُهُ بِمَا تَقُولُ النَّاسُ فِي أَحْكَامِهِ وَسِيرَتِهِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَحْوَالِ النَّاسِ.
مَسْأَلَةٌ:
إذَا تَنَازَعَ الْمُتَبَايِعَانِ فِي الْعَيْبِ الْخَفِيِّ أَوْ فِي قَدِمَ الْعَيْبِ، وَكَانَ الْعَيْبُ لَا يَعْرِفُهُ إلَّا أَهْلُ الْعِلْمِ بِهِ، كَالْأَمْرَاضِ الَّتِي تَحْدُثُ بِالنَّاسِ فَلَا يُقْبَلُ فِيهِ إلَّا أَهْلُ الْعِلْمِ بِهِ، فَإِنْ وُجِدُوا وَإِلَّا قُبِلَ غَيْرُهُمْ، وَإِنْ كَانُوا غَيْرَ مُسْلِمِينَ. قَالَ فِي الْمُتَيْطِيَّةِ: وَالْوَاحِدُ مِنْهُمْ أَوْ مِنْ الْمُسْلِمِينَ كَافٍ، وَالِاثْنَيْنِ أَوْلَى إذْ طَرِيقُ ذَلِكَ الْخَبَرُ لَا الشَّهَادَةُ، وَهَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ الْمَعْمُولُ بِهِ.
وَقَالَ مُحَمَّدٌ لَا يُرَدُّ مِنْ الْعُيُوبِ إلَّا مَا اجْتَمَعَ فِيهِ عَدْلَانِ مِنْ أَهْلِ الْبَصَرِ وَالْمَعْرِفَةِ.
وَقَالَ ابْنُ الْمَاجِشُونِ: إنْ كَانَ الْعَبْدُ الْمَعِيبُ حَيًّا حَاضِرًا، فَيَجُوزُ فِيهِ قَوْلُ وَاحِدٍ مِنْ أَهْلِ الْمَعْرِفَةِ، وَإِنْ كَانَ مَيِّتًا أَوْ غَائِبًا فَلَا يَثْبُتُ إلَّا بِاثْنَيْنِ عَدْلَيْنِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ هَذَا وَهَذَا أَبْيَنُ.
تَنْبِيهٌ:
قَالَ ابْنُ رَاشِدٍ قَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: وَهَذَا كُلُّهُ إنْ كَانَ الْقَاضِي أَرْسَلَهُمْ لِيَقِفُوا عَلَيْهِ، وَأَمَّا إنْ كَانَ الْمُبْتَاعُ أَوْقَفَ عَلَيْهِ مِنْ ذَاتِ نَفْسِهِ، فَلَا يَثْبُتُ بِاتِّفَاقٍ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ، إلَّا بِعَدْلَيْنِ مِنْ أَهْلِ الْمَعْرِفَةِ.
مَسْأَلَةٌ:
وَكَذَا إذَا شَهِدَ شَاهِدٌ بِمَا دُونَ الْقَذْفِ مِنْ الشَّتْمِ، فَقَالَ مَالِكٌ: لَا يَحْلِفُ مَعَهُ لَكِنْ يُعَزَّرُ إنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ السَّفَهِ، فَأَثْبَتَ التَّعْزِيرَ بِشَاهِدٍ وَاحِدٍ مَعَ قَرِينَةِ السَّفَهِ.
وَقَالَ ابْنُ حَبِيبٍ: يَحْلِفُ الْمَشْتُومُ مَعَهُ، وَرَوَاهُ عَنْ مَالِكٍ أَيْضًا.
وَقَالَ أَبُو مُصْعَبٍ: يُحْبَسُ الشَّاتِمُ حَتَّى يَحْلِفَ أَوْ يُقِرَّ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الْبَابِ الثَّانِي فِي الْقَضَاءِ بِشَاهِدَيْنِ، أَنَّ الشَّاهِدَ الْوَاحِدَ تَحْدُثُ بِشَهَادَتِهِ أَحْكَامٌ ذَكَرْنَا هُنَاكَ بَعْضَهَا، وَهِيَ كَثِيرَةٌ جِدًّا لِمَنْ تَتَبَّعَهَا.
فَرْعُ: قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ فِي الشِّفَاءِ: أَمَّا شَهَادَةُ الْوَاحِدِ وَاللَّفِيفِ مِنْ النَّاسِ، أَنَّ رَجُلًا سَبَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيَدْرَأُ عَنْهُ الْقَتْلَ وَيَجْتَهِدُ فِي أَدَبِهِ بِقَدْرِ شُهْرَةِ حَالِهِ، وَقُوَّةِ الشَّهَادَةِ عَلَيْهِ وَضَعْفِهَا وَكَثْرَةِ السَّمَاعِ عَنْهُ.
فَرْعٌ:
وَفِي الْمُتَيْطِيَّةِ: وَإِذَا شَهِدَ شَاهِدٌ وَاحِدٌ عَلَى قَتْلِ الْغِيلَةِ، وَلَمْ يَجِدْ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ مَدْفَعًا فِي الشَّاهِدِ، فَاَلَّذِي أَجَابَ بِهِ الْفُقَهَاءُ وَشُيُوخُ الْمَذْهَبِ الْمُتَأَخِّرُونَ: بِأَنَّ فِي الْمَسْأَلَةِ اخْتِلَافًا، وَاَلَّذِي نَأْخُذُ بِهِ وَنَخْتَارُهُ، أَنَّهُ لَا يُقْتَلُ مَعَ الشَّاهِدِ الْوَاحِدِ، وَلَكِنْ إنْ أَخَذْت بِمَا قُلْنَاهُ، فَإِنَّهُ يُضْرَبُ مِائَةً وَيُسْجَنُ عَامًا مِنْ تَارِيخِ الضَّرْبِ، وَتُرْجَأُ الْحُجَّةُ لِلدَّمِ، وَكَذَلِكَ الْأَمَةُ تَدَّعِي الْعِتْقَ فَيُنْكِرُ سَيِّدُهَا فَتُقِيمُ شَاهِدًا عَدْلًا بِذَلِكَ، فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَى السَّيِّدِ الْيَمِينُ، وَكَذَلِكَ مَا رُوِيَ فِي الرَّجُلِ يُدَّعَى عَلَيْهِ أَنَّهُ بَاعَ أَصْلًا، أَنَّهُ لَا تَجِبُ عَلَيْهِ الْيَمِينُ إلَّا بِشَاهِدٍ، وَكَذَلِكَ الْمَرْأَةُ تَدَّعِي أَنَّ زَوْجَهَا طَلَّقَهَا، فَلَا تَتَوَجَّهُ لَهَا عَلَيْهِ يَمِينٌ إلَّا بِشَاهِدٍ عَدْلٍ، وَكَذَلِكَ الْمَالُ يُوقَفُ لِلْمُدَّعِيَةِ بِالشَّاهِدِ الْوَاحِدِ وَتَتَبُّعُ ذَلِكَ يَطُولُ.
مَسْأَلَةٌ:
قَالَ ابْنُ دِينَارٍ: إذَا تَنَازَعَ رَجُلَانِ فِي شَيْءٍ، كُلُّ وَاحِدٍ يَظُنُّهُ لِنَفْسِهِ مِنْ غَيْرِ يَقِينٍ كَالشَّيْءِ يَكُونُ مِنْ قِبَلِ الْأَبِ أَوْ الْجَدِّ، فَيَسْأَلَانِ الرَّجُلَ يَفْزَعَانِ إلَيْهِ فِي عِلْمِهِ فَيَشْهَدُ أَنَّهُ لِأَحَدِهِمَا فَذَلِكَ جَائِزٌ وَيَلْزَمُهُمَا، وَلَا تُشْبِهُ هَذِهِ مَسْأَلَةَ الرَّجُلَيْنِ يَتَدَاعَيَانِ الشَّيْءَ، فَيَقُولُ أَحَدُهُمَا: قَدْ رَضِيتُ بِشَهَادَةِ فُلَانٍ بَيْنِي وَبَيْنَك، فَيَشْهَدُ الرَّجُلُ عَلَى أَحَدِهِمَا، فَيَقُولُ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ: ظَنَنْت أَنَّك تَقُولُ الْحَقَّ الَّذِي تَعْلَمُ أَنَّهُ الْحَقُّ، فَأَمَّا إذَا شَهِدْت عَلَى غَيْرِ الْحَقِّ فَلَا أَرْضَى بِذَلِكَ، فَذَلِكَ لَهُ وَالشَّهَادَةُ غَيْرُ جَائِزَةٍ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْمَسْأَلَةَ الْأُولَى لَيْسَ مَعَ أَحَدِهِمَا يَقِينٌ فِي دَعْوَى الْمِلْكِ، وَقَدْ رَضِيَا بِعِلْمِ الرَّجُلِ وَشَهَادَتِهِ، وَفِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ يَدَّعِي تَحْقِيقَ مِلْكِهِ لِلشَّيْءِ الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ فِيهِ فَافْتَرَقَا، وَوَافَقَ ابْنُ دِينَارٍ عَلَى قَوْلِ سَحْنُونٍ وَابْنِ كِنَانَةَ، وَخَالَفَهُمْ ابْنُ الْقَاسِمِ فِي ذَلِكَ.
وَقَالَ: لَا تَنْفُذُ شَهَادَتُهُ، وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ نَافِعٍ أَنَّ لِلْمَشْهُودِ عَلَيْهِ الرُّجُوعَ، مَا لَمْ يَحْكُمْ الْحَاكِمُ بِذَلِكَ، فَإِذَا حَكَمَ فَلَا رُجُوعَ لَهُ.
وَقَالَ مُطَرِّفٌ: فِي الْوَاضِحَةِ لِلَّذِي رَضِيَ الرُّجُوعُ مَا لَمْ يَشْهَدْ الشَّاهِدُ، فَإِذَا شَهِدَ فَلَا رُجُوعَ لَهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَدْلًا؛ لِأَنَّهُ كَالْإِقْرَارِ مِنْهُ بِمَا قَالَ، إلَّا أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مِنْهُ عَلَى وَجْهِ التَّشْكِيكِ، مِثْلَ أَنْ يَقُولَ أَحَدُهُمْ فُلَانٌ يَعْرِفُ هَذَا وَيَشْهَدُ بِهِ، فَيَقُولُ الْآخَرُ اشْهَدُوا إنْ قَالَهُ فُلَانٌ فَقَدْ رَضِيتُ، ثُمَّ يَرْجِعُ فَيَقُولُ مَا ظَنَنْته أَنْ يَقُولَ هَذَا، فَيَكُونُ ذَلِكَ لَهُ، وَلَيْسَ هَذَا مِثْلَ نُفُورِهِمَا إلَيْهِ لِأَجْلِ عِلْمِهِ بِالْمَشْهُودِ فِيهِ، فَذَلِكَ يَلْزَمُهُ.
مَسْأَلَةٌ:
وَمِنْ ذَلِكَ إذَا قَالَ الْإِمَامُ فِي الْجِهَادِ: مَنْ فَتَلَ قَتِيلًا فَلَهُ سَلَبُهُ، إذَا كَانَتْ لَهُ بِذَلِكَ بَيِّنَةٌ، فَإِذَا شَهِدَ لَهُ شَاهِدٌ وَاحِدٌ فَإِنَّهُ يَكْتَفِي بِهِ، قَالَ أَبُو الْوَلِيدِ الْبَاجِيُّ: وَعِنْدِي أَنَّهُ يُجْزِئُ فِي قَبُولِ ذَلِكَ الشَّاهِدُ الْوَاحِدُ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَفَعَ السَّلَبَ إلَى أَبِي قَتَادَةَ بِشَهَادَةِ رَجُلٍ وَاحِدٍ وَلَمْ يُحْلِفْهُ، وَحَمَلَهُ بَعْضُهُمْ عَلَى أَنَّهُ مِنْ بَابِ الْخَبَرِ لَا مِنْ بَابِ الشَّهَادَةِ.
تَنْبِيهٌ:
قَالَ ابْنُ رَاشِدٍ: وَلَا يَجُوزُ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ أَنْ يَحْلِفَ مَعَ شَاهِدِهِ؛ لِأَنَّ الشَّهَادَةَ لَمْ تَتَنَاوَلْ الْمَالَ، وَإِنَّمَا تَتَنَاوَلُ الْقَتْلَ، وَهُوَ حُكْمٌ فِي الْبَدَنِ لَا يَثْبُتُ بِالشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ الْوَاحِدِ.
مَسْأَلَةٌ:
وَمِنْ ذَلِكَ قَالَ ابْنُ الْقَصَّارِ. وَعِنْدَ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ: يُقْبَلُ قَوْلُ التَّاجِرِ فِي قِيَمِ الْمُتْلَفَاتِ، إلَّا أَنْ يَتَعَلَّقَ بِالْقِيمَةِ حَدٌّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ تَعَالَى فلابد مِنْ اثْنَيْنِ. وَرُوِيَ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ لابد مِنْ اثْنَيْنِ. مِثَالُ الْقِيمَةِ الَّتِي يَتَعَلَّقُ بِهَا حَدٌّ، كَتَقْوِيمِ الْعَرَضِ الْمَسْرُوقِ، هَلْ بَلَغَتْ قِيمَتُهُ إلَى النِّصَابُ أَمْ لَا؟ فَهَاهُنَا لابد مِنْ اثْنَيْنِ، وَمَنْشَأُ الْخِلَافِ حُصُولُ ثَلَاثَةِ أَشْبَاهٍ، شَبَهُ الشَّهَادَةِ؛ لِأَنَّهُ إلْزَامٌ لِمُعَيِّنٍ وَهُوَ ظَاهِرٌ، وَشَبَهُ الرِّوَايَةِ؛ لِأَنَّ الْمُقَوِّمَ مُتَصَدٍّ لِجَمِيعِ النَّاسِ، وَهُوَ ضَعِيفٌ؛ لِأَنَّ الشَّاهِدَ كَذَلِكَ، وَشَبَهُ الْحَاكِمِ؛ لِأَنَّ حُكْمَهُ يَنْفُذُ فِي الْقِيمَةِ وَالْحَاكِمُ يُنْفِذُهُ، فَإِنْ تَعَلَّقَ بِإِخْبَارِهِ حَدٌّ تَعَيَّنَ مُرَاعَاةُ الشَّهَادَةِ.
مَسْأَلَةٌ:
وَكَذَلِكَ يُقْبَلُ قَوْلُ الْقَائِفِ الْعَدْلِ عِنْدَ مَالِكٍ وَابْنِ الْقَاسِم وَرُوِيَ عَنْ مَالِكٍ وَابْنِ الْقَاسِمِ أَيْضًا: أَنَّهُ لابد مِنْ اثْنَيْنِ، قَالَ سَحْنُونٌ: لابد مِنْ اثْنَيْنِ؛ لِأَنَّهُ يُلْحَقُ بِهِ نَسَبٌ، وَيُكْتَبُ بِهِ إلَى الْبُلْدَانِ وَيُنْتَظَرُ أَبَدًا حَتَّى يُضَمَّ إلَيْهِ آخَرُ، قَالَ الْبَاجِيُّ: وَعَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ فَيُقْبَلُ فِيهِ قَوْلُ الْعَبْدِ وَالْمَرْأَةِ، قَالَ وَهُوَ الْأَظْهَرُ، وَالْقَوْلُ الثَّانِي مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّهُ شَهَادَةٌ، وَسَبَبُ الْخِلَافِ هَلْ هُوَ مِنْ بَابِ الشَّهَادَةِ أَوْ الرِّوَايَةِ؟ وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ لَيْسَ مِنْهُمَا، بَلْ هُوَ مِنْ بَابِ الْحُكْمِ بِالْأَمَارَاتِ، وَبِهَذَا قَالَ بَعْضُ الْحَنَابِلَةِ.
مَسْأَلَةٌ:
وَكَذَلِكَ يُقْبَلُ قَوْلُ الْمُقَوِّمِ لِأَرْشِ الْجِنَايَةِ.
مَسْأَلَةٌ:
يُقْبَلُ قَوْلُ الْخَارِصِ الْوَاحِدِ فِيمَا يَخْرُصُهُ عِنْدَ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ.
فَصْلٌ: ذَكَرَ الشَّيْخُ أَبُو بَكْرٍ الطُّرْطُوشِيُّ فِي مُقَدِّمَةِ كِتَابِهِ، تَعْلِيقَهُ الْخِلَافَ فِي الْمَسَائِلِ الَّتِي يُقْبَلُ فِيهَا قَوْلُ الْوَاحِدِ، وَتَبِعَهُ الْقَرَافِيُّ فِي الْقَوَاعِدِ وَزَادَ عَلَيْهِ مَسَائِلَ ذَكَرْتهَا اسْتِطْرَادًا، وَإِنْ كَانَ بَعْضُهَا لَا مَدْخَلَ لِلْحُكْمِ فِيهِ.
مَسْأَلَةٌ:
يُقْبَلُ قَوْلُ الرَّاوِي فِيمَا يَرْوِيهِ.
مَسْأَلَةٌ:
وَكَذَلِكَ يُقْبَلُ عِنْدَ مَالِكٍ قَوْلُ الطَّبِيبِ فِيمَا يَدَّعِيهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ قَوْلُ الطَّبِيبِ فِي قِيَاسِ الْجِرَاحِ وَتَسْمِيَتِهَا.
مَسْأَلَةٌ:
يُقْبَلُ قَوْلُ الْمَلَّاحِ فِي الْقِبْلَةِ إذَا خَفِيَتْ أَدِلَّتُهَا، وَكَانَ عَدْلًا دَرِيًّا فِي السَّيْرِ فِي الْبَحْرِ، وَكَذَلِكَ كُلُّ مَنْ كَانَتْ صِنَاعَتُهُ فِي الصَّحْرَاءِ وَهُوَ عَدْلٌ.
مَسْأَلَةٌ:
وَكَذَلِكَ يَجُوزُ عِنْدَ مَالِكٍ تَقْلِيدُ الْأُنْثَى وَالصَّبِيِّ وَالْكَافِرِ وَالْعَبْدِ وَالْوَاحِدِ فِي الْهَدِيَّةِ أَوْ الِاسْتِئْذَانِ.
مَسْأَلَةٌ:
وَكَذَلِكَ يُقَلَّدُ الْقَصَّابُ فِي الذَّكَاةِ ذَكَرًا كَانَ أَوْ أُنْثَى، مُسْلِمًا أَوْ كِتَابِيًّا، وَمَنْ مِثْلُهُ يَذْبَحُ وَيُقْبَلُ قَوْلُهُ أَنَّهُ ذَكَّى وَلَيْسَ عَلَيْهِ اسْتِعْلَامُهُ، وَلَيْسَ هُوَ مِنْ بَابِ الشَّهَادَةِ وَلَا الرِّوَايَةِ، بَلْ مِنْ بَابِ الْقَاعِدَةِ الشَّرْعِيَّةِ، أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مُؤْتَمَنٌ عَلَى مَا يَدَّعِي أَنَّهُ مِلْكُهُ أَوْ مُبَاحٌ لَهُ فَيُقْبَلُ قَوْلُهُ، وَإِنْ كَانَ أَفْسَقَ النَّاسِ مِنْ الْقَوَاعِدِ وَمِنْ تَعْلِيقِهِ الْخِلَافَ لِلطُّرْطُوشِيِّ.
مَسْأَلَةٌ:
يُقْبَلُ قَوْلُ الْعَامِّيِّ فِي تَرْجَمَةِ الْفَتْوَى، بِاللِّسَانِ الْعَرَبِيِّ أَوْ الْعَجَمِيِّ، وَفِي قِرَاءَتِهَا أَيْضًا.
فَرْعٌ:
قَالَ الشَّيْخُ أَبُو بَكْرٍ الطُّرْطُوشِيُّ: يُقَلَّدُ الْوَاحِدُ فِي رُؤْيَةِ الْهِلَالِ إنْ أَرَادَ بِهِ عِلْمَ التَّارِيخِ؛ لِأَنَّهُ خَبَرٌ وَيَجِبُ أَنْ يُقْبَلَ مِنْ الْمَرْأَةِ وَالْعَبْدِ، فَإِنْ تَعَلَّقَ بِهِ فَرْضٌ مِثْلَ صَوْمِ رَمَضَانَ أَوْ الْفِطْرِ مِنْهُ، فلابد مِنْ اثْنَيْنِ عَدْلَيْنِ؛ لِأَنَّهُ مِنْ بَابِ الشَّهَادَةِ إذَا أَخْبَرَ رَجُلٌ رَجُلًا أَنَّ هَذَا الثَّوْبَ وَقَعَ فِيهِ بَوْلٌ، لَمْ يُقْبَلْ مِنْهُ حَتَّى يُخْبِرَ بِتَعْيِينِ الْبَوْلِ؛ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ بَوْلَ حَيَوَانٍ طَاهِرٍ.
فَرْعٌ:
وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ: أَصَابَتْهُ نَجَاسَةٌ لَمْ يُقْبَلْ مِنْهُ، حَتَّى يُخْبِرَ بِتَعْيِينِ النَّجَاسَةِ وَالتَّعْلِيلِ فِيهِ مَا تَقَدَّمَ فِي الْفَرْعِ قَبْلَ هَذَا.
فَرْعٌ:
فَلَوْ كَانَ الْمُخْبِرُ أَعْمَى قُبِلَ خَبَرَهُ، كَمَا يُقْبَلُ خَبَرُ الْبَصِيرِ؛ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ عَلِمَ ذَلِكَ قَطْعًا، أَوْ أَخْبَرَهُ بِهِ بَصِيرٌ.
فَرْعٌ:
إذَا أَخْبَرَ أَعْمَى أَعْمَى: أَنَّ هَذَا الْمَاءَ وَقَعَ فِيهِ بَوْلٌ وَتَغَيَّرَ قَبِلَ خَبَرَهُ؛ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَعْلَمَ ذَلِكَ قَطْعًا بِإِخْبَارِ بَصِيرٍ لَهُ بِذَلِكَ، وَلَوْ قَالَ لَهُ: هَذَا الْمَاءُ نَجِسٌ، لَمْ يُقْبَلْ مِنْهُ حَتَّى يُبَيِّنَ بِأَيِّ شَيْءٍ تَنَجَّسَ؛ لِجَوَازِ أَنْ يَعْتَقِدَ أَنَّ سُؤْرَ الْكَلْبِ، أَوْ أَسْآرَ السِّبَاعِ أَوْ أَبْوَالَ الْحَيَوَانِ الْمَأْكُولِ نَجِسَةٌ، وَلَا يُتَصَوَّرُ ذَلِكَ إذَا كَانَ الْمُخْبِرُ مُبْصِرًا؛ لِأَنَّ الْمَاءَ عِنْدَهُ لَا يَنْجُسُ بِحُلُولِ النَّجَاسَةِ فِيهِ إلَّا أَنْ يَتَغَيَّرَ.
فَرْعٌ:
إذَا أَخْبَرَك رَجُلٌ أَنَّ هَذَا الثَّوْبَ أَصَابَهُ بَوْلٌ دُونَ هَذَا الثَّوْبِ، وَقَالَ لَك رَجُلٌ آخَرُ بَلْ أَصَابَتْ النَّجَاسَةُ هَذَا الثَّوْبَ الْآخَرَ دُونَ الْأَوَّلِ لَمْ يُصَلِّ فِيهِمَا؛ لِأَنَّ صِدْقَ الْجَمِيعِ مُمْكِنٌ.
فَرْعٌ:
إذَا وَجَبَ عَلَى أَهْلِ الْقَافِلَةِ طَلَبُ الْمَاءِ، فَأَرْسَلُوا وَاحِدًا مِنْهُمْ إلَى صَوْبِ الطَّلَبِ، فَرَجَعَ وَقَالَ: لَمْ أَجِدْ شَيْئًا، قُبِلَ خَبَرُهُ وَجَازَ لَهُمْ التَّيَمُّمُ.
فَرْعٌ:
وَإِذَا حَكَمَ الْحَاكِمُ بِرُؤْيَةِ الْهِلَالِ بِشَهَادَةِ عَدْلَيْنِ، وَأَمَرَ بِالصِّيَامِ فَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ مُيَسَّرٍ مِنْ أَصْحَابِنَا، إذَا نَقَلَهُ إلَيْهِ عَدْلٌ أَوْ نَقَلَهُ وَاحِدٌ إلَى أَهْلِ بَلَدٍ آخَرَ لَزِمَهُمْ الصَّوْمُ، وَيَكُونُ مِنْ بَابِ قَبُولِ خَبَرِ الْعَدْلِ، قَالَ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ أَبِي زَيْدٍ: كَمَا أَنَّ الرَّجُلَ يَنْقُلُ إلَى أَهْلِهِ وَابْنَتِهِ الْبِكْرِ مِثْلَ ذَلِكَ، فَيَلْزَمُهُمْ تَبْيِيتُ الصِّيَامِ بِقَوْلِهِ، فَيَكُونُ أَصْلُ ثُبُوتِهِ طَرِيقَةَ الشَّهَادَةِ لِعُذْرِ رُؤْيَةِ الْجَمِيعِ لَهُ.
فَرْعٌ:
أَمَّا لَوْ كَانَ بِمَوْضِعٍ لَيْسَ فِيهِ مَنْ يَتَفَقَّدُ أَمْرَ النَّاسِ فِي الْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ، فَقَالَ ابْنُ الْمَاجِشُونِ: يَنْبَغِي أَنْ يُرَاعِيَ ذَلِكَ وَيَتَفَقَّدَ، فَمَنْ ثَبَتَ ذَلِكَ عِنْدَهُ بِرُؤْيَةِ نَفْسِهِ أَوْ بِرُؤْيَةِ مَنْ يَثِقُ بِهِ، صَامَ لِذَلِكَ وَأَفْطَرَ، وَيُحْمَلُ عَلَى ذَلِكَ مَنْ يَقْتَدِي بِهِ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا تَعَذَّرَ ثُبُوتُهُ عِنْدَ الْحَاكِمِ عَادَ إلَى أَصْلِهِ فِي ثُبُوتِهِ بِالْخَبَرِ.
فَرْعٌ:
إذَا ثَبَتَ الْهِلَالُ بِالشَّهَادَةِ أَوْ بِالرُّؤْيَةِ الْمُسْتَفِيضَةِ، فَنَقَلَهُ نَاقِلٌ إلَى بَلَدٍ آخَرَ أَوْ إلَى أَهْلِهِ، هَلْ يَجُوزُ فِي ذَلِكَ النَّاقِلِ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا أَوْ امْرَأَةً؟ فَهَذَا أَيْضًا فِي مَسْأَلَةِ التَّرْجَمَةِ، وَذَلِكَ أَنَّ ابْنَ الْمَاجِشُونِ وَمُطَرِّفًا يَقُولَانِ: إنَّهُ يُجْزِئُ مُتَرْجِمٌ وَاحِدٌ، وَالِاثْنَانِ أَحَبُّ إلَيْنَا، وَتُجْزِئُ فِيهِ الْمَرْأَةُ الْوَاحِدَةُ إذَا كَانَ مِمَّا يُقْبَلُ فِيهِ شَهَادَةُ النِّسَاءِ، وَمَنَعَ سَحْنُونٌ مِنْ تَرْجَمَةِ النِّسَاءِ وَالرَّجُلِ الْوَاحِدِ، وَسَيَأْتِي ذِكْرُ ذَلِكَ بِأَبْسَطَ مِنْ هَذَا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. قَالَ الْبَاجِيُّ: إذَا كَانَ عِنْدَ مُطَرِّفٍ وَابْنِ الْمَاجِشُونِ مِنْ بَابِ الْخَبَرِ، فَيَجِبُ أَنْ يُقْبَلَ فِيهِ قَوْلُ الْمَرْأَةِ فِي كُلِّ شَيْءٍ، وَيَجِبُ أَيْضًا أَنْ يُقْبَلَ فِيهِ قَوْلِ الْعَبْدِ، قَالَ أَبُو بَكْرٍ الطُّرْطُوشِيُّ: وَالدَّلِيلُ عَلَى قَوْلِ الْبَاجِيِّ وَتَخْرِيجِهِ، أَنَّهُ يُقْبَلُ مِنْ الْمَرْأَةِ الْخَبَرُ وَالْفُتْيَا.
فَرْعٌ:
قَالَ ابْنُ شَعْبَانَ فِي كِتَابِ الْوَكَالَاتِ: يَجُوزُ قَبُولُ الْمُعَرَّفِ بِالْمَرْأَةِ الْمَشْهُودِ عَلَيْهَا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَدْلًا.
فَرْعٌ:
قَالَ الْقَاضِي أَبُو الْحَسَنِ بْنُ الْقَصَّارِ: يَجُوزُ تَقْلِيدُ الْقَاسِمِ إذَا قَسَمَ شَيْئًا بَيْنَ اثْنَيْنِ عَلَى مَا رَوَاهُ ابْنُ نَافِعٍ عَنْ مَالِكٍ، كَمَا يُقَلَّدُ الْمُقَوِّمُ لِأَرْشِ الْجِنَايَاتِ؛ لِمَعْرِفَتِهِ بِذَلِكَ.
وَقَالَ الْأَبْهَرِيُّ يَجِبُ أَنْ يَكُونَا اثْنَيْنِ ثُمَّ رَجَعَ عَنْ ذَلِكَ، وَرَوَى ابْنُ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ: لَا يُقْبَلُ قَوْلُ الْقَاسِمِ فِيمَا قَسَمَ، وَإِنْ كَانَ مَعَهُ غَيْرُهُ؛ لِأَنَّهُ يَشْهَدُ عَلَى فِعْلِ نَفْسِهِ إلَّا أَنْ يَكُونَ الْحَاكِمُ أَرْسَلَهُمَا فَتُقْبَلُ شَهَادَتُهُمَا، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَعْضُ هَذَا، وَهَذَا أَتَمُّ فَائِدَةً، وَيُوَضِّحُ حُكْمَ الْقَاسِمِ بِنَفْسِهِ بِغَيْرِ إرْسَالِ حَاكِمٍ، وَالْفَرْعُ السَّابِقُ هُوَ الْقَاسِمُ الَّذِي نَصَبَهُ الْحَاكِمُ، قَالَ الْقَرَافِيُّ وَمَنْشَأُ الْخِلَافِ هَلْ هُوَ مِنْ بَابِ الْحُكْمِ أَوْ مِنْ بَابِ الرِّوَايَةِ أَوْ الشَّهَادَةِ؟ وَالْأَظْهَرُ شَبَهُ الْحُكْمِ؛ لِأَنَّ الْحَاكِمَ اسْتَنَابَهُ فِي ذَلِكَ، وَهُوَ الْمَشْهُورُ عِنْدَنَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَيْضًا.
فَرْعٌ:
قَالَ أَصْحَابُنَا يَجُوزُ تَقْلِيدُ الْمُفْتِي الْوَاحِدِ، إذَا كَانَ عَدْلًا بَالِغًا سَوَاءٌ كَانَ حُرًّا أَوْ عَبْدًا أَوْ امْرَأَةً، وَيَجُوزُ أَنْ تُقَلِّدَ رَسُولَك إلَيْهِ إذَا كَانَ ثِقَةً، وَكَذَلِكَ إذَا كَتَبَ الْمُفْتِي خَطَّهُ فِي رُقْعَةٍ لِلْمُسْتَفْتِي، جَازَ الْعَمَلُ بِالْخَطِّ إنْ كَانَ الرَّسُولُ ثِقَةً، فَإِنْ عَرَفَ الْمُسْتَفْتِي خَطَّهُ وَكَانَ الرَّسُولُ غَيْرَ ثِقَةٍ فَفِيهِ نَظَرٌ، وَوَجْهُ هَذَا مَا جَرَتْ الْعَادَةُ بِهِ فِي سَائِرِ الْأَعْصَارِ مَعَ ضَرُورَةِ النَّاسِ إلَى ذَلِكَ، وَكَانَتْ الْخَوَاتِمُ تَجُوزُ عَلَى كُتُبِ الْقُضَاةِ، حَتَّى أُحْدِثَتْ الشَّهَادَةُ عَلَى كِتَابِ الْقَاضِي لِأَجْلِ حُدُوثِ التُّهْمَةِ عَلَى خَاتَمِ الْقَاضِي، وَأَوَّلُ مَنْ أَحْدَثَ الشَّهَادَةَ عَلَى ذَلِكَ هَارُونُ الرَّشِيدِ، وَقِيلَ: أَبُوهُ الْمَهْدِيُّ، قَالَهُ ابْنُ شَعْبَانَ فِي الزَّاهِي.
فَرْعٌ:
قَالَ الْقَاضِي أَبُو الْحَسَنِ: إذَا كَانَ الْكِتَابُ مُتَرْجَمًا بِاسْمِ صَاحِبِهِ عَلَى مَا جَرَتْ بِهِ رُسُومُ الْمُسْلِمِينَ، مِثْلَ: مُوَطَّأِ مَالِكٍ، وَمُدَوَّنَةِ سَحْنُونٍ، وَكِتَابِ الثَّوْرِيِّ، وَمُخْتَصَرِ الْمُزَنِيِّ وَنَحْوِ ذَلِكَ، فَهَلْ يَجُوزُ أَنْ تَقُولَ فِي شَيْءٍ تَجِدُهُ فِيهِ قَالَ فُلَانٌ؟. قَالَ: فَإِنْ كَانَ مِنْ الْكُتُبِ الَّتِي قَدْ انْتَشَرَ ذِكْرُهَا مِثْلَ: مُوَطَّأِ مَالِكٍ، وَجَامِعِ سُفْيَانَ وَأَمْثَالِهِمَا، جَازَ أَنْ يُعْزَى ذَلِكَ إلَى الْمُتَرْجَمِ عَنْهُ، إذَا كَانَ الْكِتَابُ صَحِيحًا مَقْرُوءًا عَلَى الْعُلَمَاءِ مُعَارِضًا بِكُتُبِهِمْ، فَأَمَّا إنْ كَانَ مِنْ الْكُتُبِ الَّتِي لَمْ تَنْتَشِرْ، لَمْ يَجُزْ ذَلِكَ حَتَّى يَرْوِيَهُ عَنْ الثِّقَاتِ مَوْصُولًا إلَى الْمُتَرْجَمِ عَنْهُ.
فَرْعٌ:
إذَا أَخْبَرَهُ بِعَدَدِ مَا صَلَّى عَدْلٌ فَهَلْ يَكْتَفِي بِهِ؟ أَمْ لابد مِنْ اثْنَيْنِ خِلَافٌ.
فَرْعٌ:
وَالْمُؤَذِّنُ يَكْفِي إخْبَارُهُ بِدُخُولِ الْوَقْتِ، إذَا كَانَ بَالِغًا عَاقِلًا عَالِمًا بِالْأَوْقَاتِ مُسْلِمًا ذَكَرًا، وَيُعْتَمَدُ عَلَى قَوْلِهِ.
فَرْعٌ:
يَجُوزُ الْحُكْمُ بِقَوْلِ التُّرْجُمَانِ، قَالَ مَالِكٌ: وَإِذَا اخْتَصَمَ إلَى الْقَاضِي مَنْ لَا يَتَكَلَّمُ بِالْعَرَبِيَّةِ وَلَا يُفْهَمُ عَنْهُ، فَلْيُتَرْجِمْ عَنْهُ رَجُلٌ ثِقَةٌ مُسْلِمٌ مَأْمُونٌ فَيُخْبِرُهُ، وَاثْنَانِ أَحَبُّ إلَيْنَا، وَلَا تُقْبَلُ تَرْجَمَةُ كَافِرٍ أَوْ عَبْدٍ أَوْ مَسْخُوطٍ، وَفِي قَبُولِ تَرْجَمَةِ الْمَرْأَةِ الْعَدْلِ قَوْلَانِ مَبْنِيَّانِ، عَلَى أَنَّ ذَلِكَ هَلْ هُوَ مِنْ بَابِ الشَّهَادَةِ أَوْ مِنْ بَابِ الْخَبَرِ؟ قَالَ مُطَرِّفٌ وَابْنُ الْمَاجِشُونِ، وَذَلِكَ إذَا لَمْ يَجِدْ مِنْ الرِّجَالِ مَنْ يُتَرْجِمُ لَهُ، وَكَانَ مِمَّا تُقْبَلُ فِيهِ شَهَادَةُ النِّسَاءِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي تَرْجَمَةِ الْفَتْوَى وَالْخُطُوطِ بَعْضُ هَذَا، قَالَ ابْنُ رُشْدٍ فِي قَوْلِهِمْ: لَا يُقْبَلُ فِي ذَلِكَ أَهْلُ الْكُفْرِ وَلَا الْعَبِيدُ وَلَا الْمَسْخُوطُونَ. قَالَ بَعْضُ الشُّيُوخِ: يُرِيدُ مَعَ وُجُودِ عَدْلٍ وَلَوْ اُضْطُرَّ إلَى تَرْجَمَةِ أَحَدِهِمْ عَمِلَ بِقَوْلِهِ، كَالْحُكْمِ بِقَوْلِ الطَّبِيبِ النَّصْرَانِيِّ فِيمَا يُضْطَرُّ إلَيْهِ فِيهِ.
فَرْعٌ:
لَا تُقْبَلُ تَرْجَمَةُ مَنْ لَا تَجُوزُ شَهَادَتُهُ عَلَى الَّذِي يُتَرْجِمُ عَنْهُ؛ لِمَا يُتَّهَمُ بِهِ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْقَاضِيَ إذَا لَمْ يَعْلَمْ مَا يَتَكَلَّمُ بِهِ الْخَصْمِ فَكَأَنَّهُ لَمْ يَسْمَعْهُ.
فَرْعٌ:
وَفِي أَحْكَامِ ابْنِ بَطَّالٍ عَنْ سَحْنُونٍ: لَا بَأْسَ أَنْ تُقْبَلَ تَرْجَمَةُ رَجُلَيْنِ عَدْلَيْنِ مِمَّنْ يَعْلَمُ ذَلِكَ اللِّسَانُ مُرَادَ غَيْرِهِ إذَا كَانَا مِمَّنْ تَكَلَّمَا بِهَا وَأَحْكَمَاهَا وَسَكَنَا بَيْنَ أَهْلِهَا، حَتَّى عَرَفَا تَصَارِيفَ كَلَامِهِمْ وَمَعَانِيَهُ، وَلَمْ يَخَفْ عَلَيْهِمَا وَلَمْ يَخَافَا عَلَى أَنْفُسِهِمَا الْغَلَطَ فِي ذَلِكَ، فَيُقَلِّدُهُمَا الْحَاكِمُ فِي ذَلِكَ إذَا كَانَا عَلَى الصِّفَةِ الَّتِي ذَكَرْنَا.
فَرْعٌ:
وَيَكْتَفِي الْقَاضِي بِقَوْلِ أَمِينِهِ فِي التَّزْكِيَةِ، وَيُعَوِّلُ عَلَى قَوْلِهِ فِي تَعْدِيلِ مَنْ شَهِدَ عِنْدَهُ، وَيُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ أَمِينًا ثِقَةً عَالِمًا بِوَجْهِ الْجَرْحِ وَالتَّعْدِيلِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ هَذَا.

.الْبَابُ الْخَامِسَ عَشَرَ فِي الْقَضَاءِ بِقَوْلِ امْرَأَتَيْنِ بِانْفِرَادِهِمَا:

وَذَلِكَ فِيمَا لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ إلَّا النِّسَاءُ كَالْوِلَادَةِ وَالْبَكَارَةِ وَالثُّيُوبَةِ وَالْحَيْضِ، وَالْحَمْلِ وَالسَّقْطِ وَالِاسْتِهْلَالِ وَالرَّضَاعِ، وَإِرْخَاءِ السُّتُورِ وَعُيُوبِ الْحَرَائِرِ وَالْإِمَاءِ وَفِي كُلِّ مَا تَحْتَ ثِيَابِهِنَّ. وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّهُ لَمَّا كَانَتْ هَذِهِ الْأُمُورُ مِمَّا لَا يَحْضُرُهَا الرِّجَالُ وَلَا يَطَّلِعُونَ عَلَيْهَا، أُقِيمَ فِيهَا النِّسَاءُ مَقَامَ الرِّجَالِ لِلضَّرُورَةِ.
مَسْأَلَةٌ:
وَفِي التَّنْبِيهِ لِابْنِ الْمُنَاصِفِ وَالشَّهَادَةُ فِي الْوَلَدِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: عَلَى نَفْسِ الْوِلَادَةِ، وَعَلَى الِاسْتِهْلَالِ، وَعَلَى أَنَّهُ ذَكَرٌ فَأَمَّا شَهَادَتُهُنَّ عَلَى الْوِلَادَةِ فَجَائِزَةٌ مَعَ حُضُورِ الْوَلَدِ يَشْهَدَانِ أَنَّ هَذِهِ وَلَدَتْهُ فَيُحْكَمُ بِذَلِكَ، وَاخْتُلِفَ إذَا لَمْ يَكُنْ الْوَلَدُ مَوْجُودًا، فَأَجَازَهَا ابْنُ الْقَاسِمِ؛ لِأَنَّهُ مِمَّا تَجُوزُ لَهُنَّ الشَّهَادَةُ فِيهِ، وَمَنَعَهُ سَحْنُونٌ؛ لِأَنَّ جَوَازَ شَهَادَتِهِنَّ لِلضَّرُورَةِ، وَذَلِكَ فِي نَفْسِ الْوِلَادَةِ. وَأَمَّا وُجُودُ الْمَوْلُودِ فَيَطَّلِعُ عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِهِنَّ فَلَمْ يُقْبَلْ فِي ذَلِكَ، وَفَرَّقَ اللَّخْمِيُّ بَيْنَ أَنْ تَكُونَ شَهَادَتُهُنَّ بِقُرْبِ الْوِلَادَةِ فَلَا تَجُوزُ إذَا عَدِمَ الْوَلَدُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى إظْهَارِهِ حِينَئِذٍ، وَلَوْ كَانَ مَقْبُورًا، وَبَيْنَ أَنْ تَكُونَ الشَّهَادَةُ بَعْدَ طُولِ الْأَمَدِ، وَقَدْ اُحْتِيجَ إلَى إقَامَتِهَا الْآنَ؛ لِأَجْلِ قُدُومِ مَنْ أَنْكَرَ الْوِلَادَةَ، أَوْ جُحُودِ شَهَادَتِهِنَّ عَلَى الِاسْتِهْلَالِ، فَشَهَادَتُهُنَّ حِينَئِذٍ جَائِزَةٌ لِلضَّرُورَةِ.
فَرْعٌ:
وَلَوْ وَلَدَتْهُ ثُمَّ مَاتَتْ هِيَ وَالْوَلَدُ، فَشَهِدَتْ امْرَأَتَانِ أَنَّ الْأُمَّ مَاتَتْ قَبْلَهُ، فَرَوَى عِيسَى عَنْ ابْنِ الْقَاسِمِ: أَنَّ الْأَبَ يَحْلِفُ أَوْ وَرَثَتُهُ عَلَى ذَلِكَ وَيَسْتَحِقُّونَ مَا يَرِثُ عَنْ أُمِّهِ؛ لِأَنَّهُ مَالٌ. وَأُمًّا شَهَادَتُهُنَّ عَلَى الِاسْتِهْلَالِ فَجَائِزَةٌ أَيْضًا، إذَا كَانَ الْبَدَنُ مَوْجُودًا كَمَا تَقَدَّمَ، إلَّا أَنْ يُعْرَفَ أَنَّ مِثْلَ ذَلِكَ لَا يَسْتَهِلُّ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَتِمَّ خَلْقُهُ. وَاخْتُلِفَ فِي شَهَادَتِهِنَّ عَلَى الِاسْتِهْلَالِ مَعَ غَيْبَةِ الْجَسَدِ، فَأَجَازَهَا ابْنُ الْقَاسِمِ وَمَنَعَهَا سَحْنُونٌ كَمَا تَقَدَّمَ، إلَّا أَنْ يَكُونَ الِاتِّفَاقُ مِنْ الْخَصْمَيْنِ عَلَى الْوِلَادَةِ، وَإِنَّمَا اخْتَلَفَا فِي الِاسْتِهْلَالِ فَشَهَادَتُهُنَّ أَيْضًا جَائِزَةٌ، وَإِنْ عُدِمَ الْبَدَنُ؛ لِأَنَّ اتِّفَاقَ الْخَصْمَيْنِ عَلَى وُجُودِهِ مُغْنٍ عَنْ حُضُورِهِ.
فَرْعٌ:
وَإِذَا شَهِدَتَا بِأَنَّ فُلَانَةَ زَوْجَةُ فُلَانٍ وَلَدَتْ وَلَدًا وَاسْتَهَلَّ صَارِخًا، فَإِنْ أَمْكَنَهُمْ إخْرَاجُهُ لِلرِّجَالِ حَتَّى يَسْمَعُوا اسْتِهْلَالَهُ فَلَمْ يُخْرِجُوهُ حَتَّى مَاتَ، فَيُخْتَلَفُ فِي قَبُولِ شَهَادَتِهِمَا، وَإِنْ تَعَذَّرَ ذَلِكَ بِأَنْ مَاتَ إثْرَ سَمَاعِهِمَا لِاسْتِهْلَالِهِ، فَلَا يُخْتَلَفُ فِي قَبُولِ شَهَادَتِهِمَا. وَأَمَّا شَهَادَتُهُنَّ عَلَى أَنَّهُ ذَكَرٌ فَلَا يُحْكَمُ فِي ذَلِكَ بِمُجَرَّدِ شَهَادَتِهِنَّ مَعَ غَيْبَةِ الْجَسَدِ، ولابد مِنْ الْيَمِينِ عِنْدَ ابْنِ الْقَاسِمِ، فَإِنَّهُ قَالَ يَحْلِفُ الطَّالِبُ مَعَ شَهَادَتِهِنَّ وَيَسْتَحِقُّ فَأَقَامَهُمَا مَقَامَ رَجُلٍ؛ لِأَنَّ كَوْنَهُ ذَكَرًا مِمَّا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ الرِّجَالُ وَهِيَ شَهَادَةٌ فِي غَيْرِ مَالٍ، وَيَسْتَحِقُّ بِهَا الْمَالَ، فَأَجْرَاهَا مَجْرَى الشَّهَادَةِ فِي الْأَمْوَالِ.
وَقَالَ أَشْهَبُ: لَا تَجُوزُ بِوَجْهٍ جَرْيًا عَلَى أَصْلِهِ فِي مَنْعِ شَهَادَةِ النِّسَاءِ فِيمَا لَيْسَ بِمَالٍ، وَإِنْ كَانَ يَئُولُ إلَى الْمَالِ، وَقِيلَ إنْ فَاتَ بِالدَّفْنِ وَطَالَ مُكْثُهُ وَتَعَذَّرَ إخْرَاجُهُ فَيَنْظُرُ، فَإِنْ كَانَ فَضْلُ ذَلِكَ الْمَالِ يَرْجِعُ إلَى بَيْتِ الْمَالِ أَوْ الْعَشِيرَةِ الْبَعِيدَةِ فَتَجُوزُ، وَإِنْ كَانَ يَرْجِعُ إلَى بَعْضِ الْوَرَثَةِ دُونَ بَعْضٍ لَمْ يَجُزْ، قَالَهُ أَصَبْغُ وَضَعَّفَهُ مُحَمَّدٌ.
وَقَالَ ذَلِكَ كُلُّهُ سَوَاءٌ؛ لِأَنَّ حَقَّ بَيْتِ الْمَالِ كَحَقِّ أَقْرَبِ الْوَرَثَةِ.
وَأَمَّا شَهَادَتُهُنَّ عَلَى عُيُوبِ الْفَرْجِ، فَالْمَشْهُودُ عَلَيْهِ نَوْعَانِ حَرَائِرُ وَإِمَاءٌ. فَأَمَّا الْحُرَّةُ يَدَّعِي الزَّوْجُ بِهَا عَيْبًا يُوجِبُ الرَّدَّ فَفِي ذَلِكَ خِلَافٌ، وَالْمَشْهُورُ أَنَّهُ لَا يُنْظَرُ إلَيْهَا، وَهِيَ مُصَدَّقَةٌ، قَالَهُ ابْنُ الْقَاسِمِ، وَقِيلَ: يَنْظُرُ إلَيْهَا النِّسَاءُ، حَكَاهُ سَحْنُونٌ، وَالْقَوْلُ: بِالنَّظَرِ أَوْلَى؛ لِأَنَّهَا تُتَّهَمُ فِي أَنْ تَدْفَعَ عَنْ نَفْسِهَا، فَالشَّهَادَةُ عَلَى ذَلِكَ ضَرُورَةٌ؛ لِتَعَلُّقِ حَقِّ الْغَيْرِ، وَأَمَّا الْأَمَةُ فَإِنْ كَانَ عَيْبًا لَا يَتَحَقَّقُ الرِّجَالُ قَدْرَهُ، وَإِنَّمَا يُوجَدُ عِلْمُ ذَلِكَ عِنْدَ النِّسَاءِ، يَنْظُرْنَ إلَيْهَا ثُمَّ لَا يَخْلُو ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ الْحَاكِمُ هُوَ الَّذِي ابْتَدَأَ بِبَعْثِ مَنْ يَكْشِفُ ذَلِكَ فَفِيهِ خِلَافٌ، قِيلَ: تُجْزِئُ فِيهِ امْرَأَةٌ وَاحِدَةٌ؛ لِأَنَّهُ مِنْ بَابِ الْخَبَرِ وَإِيصَالِ الْعِلْمِ، وَقِيلَ: لابد مِنْ اثْنَتَيْنِ وَهُوَ أَوْلَى، قَالَ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ: وَهَذَا مَعَ حُضُورِ الْمَرْأَةِ، وَإِنْ كَانَتْ قَدْ مَاتَتْ أَوْ غَابَتْ، فلابد مِنْ امْرَأَتَيْنِ؛ لِأَنَّهَا شَهَادَةٌ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ رُفِعَ إلَيْهِ عَلَى مَعْنَى الشَّهَادَةِ، فلابد مِنْ اثْنَتَيْنِ، وَأَمَّا أَنْ تَكُونَ الشَّهَادَةُ فِي الْأَمْرِ الَّذِي يَعْلَمُهُ الرِّجَالُ: كَالْبَكَارَةِ، فَاخْتُلِفَ فِي إيجَابِ الْيَمِينِ مَعَ شَهَادَةِ الْمَرْأَتَيْنِ فِي ذَلِكَ.
وَأَمَّا الشَّهَادَةُ عَلَى مَا تَحْتَ الثِّيَابِ مِنْ سَائِرِ الْجَسَدِ فِي الْحَرَائِرِ فَفِيهِ خِلَافٌ، قِيلَ: لابد أَنْ يَنْظُرَ إلَيْهِ الرِّجَالُ، وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنْ يُبْقَرَ الثَّوْبُ عَنْ مَوْضِعِ الْحَاجَةِ، حَتَّى يَنْكَشِفَ مَوْضِعُ الْحَاجَةِ لِلنَّظَرِ، وَقِيلَ يُجْزِئُ فِي ذَلِكَ امْرَأَتَانِ قَالَهُ أَصَبْغُ وَحُجَّتُهُ أَنَّ جَمِيعَ الْجَسَدِ فِي الْحُرَّةِ عَوْرَةٌ بِخِلَافِ الْإِمَاءِ، وَأَمَّا شَهَادَتُهُمَا فِي الرَّضَاعِ، فَقَالَ ابْنُ الْحَاجِبِ: وَيَثْبُتُ الرَّضَاعُ بِامْرَأَتَيْنِ إنْ كَانَ فَاشِيًا مِنْ قَوْلِهِمَا، قَالَ ابْنُ رَاشِدٍ: وَقَيْدُ الْفُشُوِّ ذَكَرَهُ الْبَاجِيُّ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ فِي وَثَائِقِهِ، وَلَمْ أَرَهُ لِغَيْرِهِ فَانْظُرْهُ.
مَسْأَلَةٌ:
وَتَجُوزُ الْقَسَامَةُ مَعَ شَهَادَةِ امْرَأَتَيْنِ عَلَى أَحَدِ الْأَقْوَالِ فِيمَا تَجُوزُ مَعَهُ الْقَسَامَةِ.
مَسْأَلَةٌ:
وَلَوْ شَهِدَتَا عَلَى نِكَاحِ امْرَأَةٍ بَعْدَ مَوْتِهَا، فَذَلِكَ مَذْكُورٌ فِي الْفَصْلِ الْخَامِسِ، فِي صِفَاتِ الْحُقُوقِ وَمَرَاتِبِ الشَّهَادَاتِ.
مَسْأَلَةٌ:
وَلَوْ قَالَ رَجُلٌ لِامْرَأَتِهِ أَوَّلُ وَلَدٍ تَلِدِينَهُ فَهُوَ حُرٌّ، فَتَلِدُ تَوْأَمَيْنِ فَيَشْهَدُ امْرَأَتَانِ عَلَى أَوَّلِهِمَا خُرُوجًا فَهُوَ كَالِاسْتِهْلَالِ، تَجُوزُ شَهَادَتُهُمَا فِي ذَلِكَ، وَيَعْتِقُ بِذَلِكَ مَنْ شَهِدَتَا لَهُ وَيَرِقُّ الْآخَرُ، وَقَالَهُ ابْنُ وَهْبٍ أَيْضًا.

.فَصْلٌ فِي شَهَادَة النِّسَاء فِيمَا يَقَعُ بَيْنَهُنَّ فِي الْمَآتِمِ وَالْحَمَّامِ:

فَصْلٌ: وَأَمَّا شَهَادَتُهُنَّ فِيمَا يَقَعُ بَيْنَهُنَّ فِي الْمَآتِمِ وَالْحَمَّامِ مِنْ الْجِرَاحِ وَالْقَتْلِ، فَفِي ذَلِكَ خِلَافٌ، وَالْأَصْلُ الْجَوَازُ لِلضَّرُورَةِ، كَشَهَادَةِ الصِّبْيَانِ فِيمَا يَقَعُ بَيْنَهُمْ عَلَى ذَلِكَ، قَالَ ابْنُ الْمُنَاصِفِ قِيلَ: وَكَذَلِكَ إنْ لَمْ يَكُونَا عَدْلَيْنِ؛ لِأَنَّهُ مَوْضِعٌ لَا يَحْضُرُهُ الْعُدُولُ، وَرَأَى اللَّخْمِيُّ أَنْ يُقْسَمَ مَعَهُمَا فِي الْقَتْلِ، ثُمَّ يُقَادُ وَيُحْلَفُ فِي الْجِرَاحِ ثُمَّ يُقْتَصُّ، قَالَ وَإِنْ عَدَلَ مِنْهُنَّ فِي ذَلِكَ اثْنَتَانِ أُقِيدَ فِي الْقَتْلِ بِغَيْرِ قَسَامَةٍ، وَاقْتُصَّ فِي الْجِرَاحِ بِغَيْرِ يَمِينٍ، فَنَحَى بِهِنَّ مَنْحَى الرِّجَالِ.
وَالصَّحِيحُ أَنَّ شَهَادَةَ النِّسَاءِ بَعْضُهُنَّ عَلَى بَعْضٍ فِي الْمَوَاضِعِ الَّتِي لَا يَحْضُرُهَا الرِّجَالُ: كَالْحَمَّامِ وَالْعُرْسِ وَالْمَأْتَمِ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ، لَا تَجُوزُ فِيمَا يَقَعُ بَيْنَهُنَّ مِنْ الْجِرَاحِ وَالْقَتْلِ؛ لِأَنَّ الْغَالِبَ عَدَمُ ضَرُورَتِهِنَّ إلَى الِاجْتِمَاعِ فِي ذَلِكَ، وَقِيلَ تَجُوزُ لِحَاجَتِهِنَّ إلَى ذَلِكَ، قَالَهُ ابْنُ رَاشِدٍ قَالَ: وَلَمْ يَزَلْ النِّسَاءُ يَجْتَمِعْنَ فِي الْأَعْرَاسِ وَالْمَآتِمِ فِي زَمَنِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهَلُمَّ جَرَّا، فَإِذَا لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُ بَعْضِهِنَّ عَلَى بَعْضٍ، ذَهَبَتْ دِمَاؤُهُنَّ.
وَفِي الْإِمْلَاءِ عَلَى الْجَلَّابِ الْمُقَيَّدِ عَنْ ابْن زَيْدٍ الْبُرْنَاسِيِّ، قَالَ: وَهَذَا إذَا كَانَ فِي الْعُرْسِ الْمُبَاحِ الَّذِي لَا يَخْتَلِطُ فِيهِ الرِّجَالُ مَعَ النِّسَاءِ، وَلَمْ يَكُنْ هُنَاكَ مُنْكَرٌ بَيِّنٌ، وَكَانَ دُخُولُهُنَّ الْحَمَّامَ بِالْمِئْزَرِ فَهَذِهِ مَسْأَلَةُ الْخِلَافِ، وَأَمَّا إذَا كُنَّ فِي الْحَمَّامِ بِغَيْرِ مِئْزَرٍ، وَفِي الْأَعْرَاسِ الَّتِي يَمْتَزِجُ فِيهَا الرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ، فَلَا يُخْتَلَفُ فِي الْمَذْهَبِ أَنَّ شَهَادَةَ بَعْضِهِنَّ لِبَعْضٍ لَا تُقْبَلُ، وَكَذَلِكَ الْمَأْتَمُ لَا يَحِلُّ حُضُورُهُ إذَا كَانَ فِيهِ نَوْحٌ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِمَّا حَرَّمَهُ الشَّارِعُ؛ لِأَنَّ بِحُضُورِهِنَّ فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ تَسْقُطُ عَدَالَتِهِنَّ، وَاَللَّهُ تَعَالَى اشْتَرَطَ الْعَدَالَةَ فِي الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} [البقرة: 282].

.الْبَابُ السَّادِسَ عَشَرَ فِي الْقَضَاءِ بِشَهَادَةِ امْرَأَةٍ وَيَمِينِ الْمُدَّعِي:

مَسْأَلَةٌ:
قَالَ اللَّخْمِيُّ: إذَا شَهِدَتْ امْرَأَةٌ عَلَى الْحَمْلِ، حَلَفَ الْمُشْتَرِي، وَرَدَّ الْجَارِيَةَ.
مَسْأَلَةٌ:
إذَا شَهِدَتْ الْمَرْأَةُ عَلَى الْحَيْضِ، وَكَانَتْ الشَّهَادَةُ بَعْدَ أَنْ انْتَقَلَتْ إلَى الطُّهْرِ حَلَفَ الْبَائِعُ وَسَلَّمَهَا. وَلَا يُصِيبُهَا الْمُشْتَرِي وَيُحَالُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا إنْ كَانَ قَدْ كَذَّبَ شَهَادَةَ الْمَرْأَةِ حَتَّى تَحِيضَ.
مَسْأَلَةٌ:
إذَا شَهِدَتْ امْرَأَةٌ أَنَّ بِالْأَمَةِ عَيْبًا فِي مَوْضِعٍ لَا يَطَّلِعُ الرِّجَالُ عَلَيْهِ فَإِنَّهُ يَحْلِفُ وَيَرُدُّ.
مَسْأَلَةٌ:
أَجَازَ أَشْهَبُ الْقَسَامَةَ مَعَ الْمَرْأَةِ الْوَاحِدَةِ فِي الْعَمْدِ وَالْخَطَأِ.
الْبَابُ السَّابِعَ عَشَرَ فِي الْقَضَاءِ بِقَوْلِ امْرَأَةٍ بِانْفِرَادِهَا مَسْأَلَةٌ:
إذَا ادَّعَتْ الْأَمَةُ أَنَّهَا وَلَدَتْ مِنْ سَيِّدِهَا وَأَنْكَرَ السَّيِّدُ، فَشَهِدَتْ لَهَا امْرَأَةٌ، فَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: يَحْلِفُ السَّيِّدُ إذَا أَقَرَّ بِالْوَطْءِ، أَوْ شَهِدَ عَلَيْهِ شَاهِدَانِ، قَالَ: لِأَنَّهَا لَوْ أَقَامَتْ امْرَأَتَيْنِ ثَبَتَتْ الشَّهَادَةُ عَلَى الْوِلَادَةِ، فَإِذَا أَقَامَتْ امْرَأَةٌ حَلَفَ عَلَى نَفْيِ دَعْوَاهَا، يُرِيدُ أَنَّ شَهَادَةَ امْرَأَتَيْنِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ بِمَنْزِلَةِ شَهَادَةِ رَجُلَيْنِ فِي غَيْرِهِ، فَشَهَادَةُ امْرَأَةٍ وَاحِدَةٍ نِصْفُ شَهَادَةٍ، وَيَحْلِفُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ وَهُوَ السَّيِّدُ، كَمَا يَحْلِفُ عَلَى شَهَادَةِ رَجُلٍ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ، قَالَهُ اللَّخْمِيُّ.
فَرْعٌ:
قَالَ اللَّخْمِيُّ: فَعَلَى هَذَا إذَا شَهِدَتْ امْرَأَةٌ عَلَى الِاسْتِهْلَالِ، حَلَفَ مَنْ قَامَ بِشَهَادَتِهَا وَاسْتَحَقَّ، وَأَدْنَى مَرَاتِبِهَا أَنْ يَحْلِفَ الْمُنْكِرُ لِلشَّهَادَةِ إذَا قَالَتْ الْأُمُّ أَنَّهُ عَلِمَ، وَمِنْهَا إثْبَاتُ الْخُلْطَةِ، قَالَ ابْنُ كِنَانَةَ: تَثْبُتُ الْخُلْطَةُ بِشَهَادَةِ امْرَأَةٍ وَاحِدٍ بِغَيْرِ يَمِينٍ، وَرَوَى عِيسَى بْنُ الْقَاسِمِ مِثْلَهُ وَالْمَشْهُورُ أَنَّهَا إنَّمَا تَثْبُتُ بِشَاهِدَيْنِ، وَمِنْهَا أَنَّهُ يُقْبَلُ قَوْلُ الْمَرْأَةِ وَحْدَهَا فِي الْأَمَةِ الْمُتَوَاضِعَةِ تَحْتَ يَدِهَا، أَنَّهَا خَرَجَتْ مِنْ الِاسْتِبْرَاءِ، قَالَ فِي الْمُتَيْطِيَّةِ؛ لِأَنَّهُ مِنْ بَابِ الْخَبَرِ لَا مِنْ بَابِ الشَّهَادَةِ، قَالَهُ أَبُو مُحَمَّدٍ الْأَصِيلِيُّ وَأَبُو الْقَاسِمِ بْنُ الْكَاتِبِ وَمُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ، وَغَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ شُيُوخِ الْقَرَوِيِّينَ وَالْأَنْدَلُسِيِّينَ.
وَقَالَ مُوسَى بْنُ مَنَّاسٍ: لَا يُجْزِئُ فِي ذَلِكَ أَقَلُّ مِنْ امْرَأَتَيْنِ، وَلَيْسَ بِهِ عَمَلٌ وَالْقَضَاءُ بِمَا قَدَّمْنَاهُ.
مَسْأَلَةٌ:
وَلَوْ وُضِعَتْ عَلَى يَدِ رَجُلٍ، فَلَمَّا أَخْبَرَ بِخُرُوجِهِمَا مِنْ الِاسْتِبْرَاءِ، قِيلَ لَهُ: بِمَ عَرَفْتَ أَنَّهَا قَدْ حَاضَتْ؟ فَيَقُولُ خَادِمِي أَوْ زَوْجَتِي أَخْبَرَنِي بِذَلِكَ، فَذَلِكَ جَائِزٌ قَالَهُ فَضْلُ بْنُ سَلَمَةَ وَغَيْرُهُ.
مَسْأَلَةٌ:
إذَا أَنْكَرَ الزَّوْجُ مَا ادَّعَتْهُ عَلَيْهِ الْمَرْأَةُ مِنْ الِاعْتِرَاضِ، فَفِي ذَلِكَ خِلَافٌ مَشْهُورٌ، وَرَوَى الْوَاقِدِيُّ عَنْ مَالِكٍ فِي مُخْتَصَرِ مَا لَيْسَ فِي الْمُخْتَصَرِ أَنَّهُ لَا يُصَدَّقُ فِي الثَّيِّبِ، وَيَجْعَلُ مَعَهُمَا امْرَأَةً تَنْظُرُ إذَا غَشِيَهَا الزَّوْجُ، وَأَجَازَ قَوْلَ امْرَأَةٍ مِنْ الْمُتَيْطِيَّةِ.
مَسْأَلَةٌ:
وَفِي الْوَاضِحَةِ: مَنْ ابْتَاعَ جَارِيَةً فَزَعَمَ أَنَّهَا تَبُولُ فِي الْفِرَاشِ، وَأَرَادَ رَدَّهَا فَلَيْسَ لَهُ ذَلِكَ، حَتَّى يُقِيمَ الْبَيِّنَةَ أَنَّهَا كَانَتْ تَبُولُ عِنْدَ الْبَائِعِ؛ لِأَنَّ هَذَا مِمَّا يَحْدُثُ فِي لَيْلَةٍ، وَيَحْلِفُ الْبَائِعُ أَنَّهُ مَا عَلِمَ ذَلِكَ بِهَا. وَلَا يَحْلِفُ بِقَوْلِ الْمُشْتَرِي أَنَّهَا تَبُولُ، حَتَّى يَعْلَمَ ذَلِكَ بِأَنْ تُوضَعَ عِنْدَ امْرَأَةٍ، فَإِذَا تَبَيَّنَ ذَلِكَ جَازَ قَوْلُ الْمَرْأَةِ وَحْدَهَا، وَقَوْلُ الرَّجُلِ فِي ذَلِكَ عَنْ امْرَأَتِهِ؛ لِأَنَّ هَذَا لَيْسَ عَلَى جِهَةِ الشَّهَادَةِ، وَإِنَّمَا هُوَ عَلَى وَجْهِ اسْتِخْبَارِ الْقَاضِي، ذَلِكَ مِمَّنْ يَطَّلِعُ عَلَيْهِ وَيُخْبِرُ بِهِ، وَمِنْهَا ثُبُوتُ الرَّضَاعِ بِشَهَادَةِ امْرَأَةٍ وَاحِدَةٍ وَقَدْ أَجَازَهُ ابْنُ الْقَاسِمِ فِي النِّكَاحِ الثَّانِي مِنْ الْمُدَوَّنَةِ، وَأَجَازَ مَالِكٌ فِي الْمَوَّازِيَّةِ إذَا فَشَا عِنْدَ الْأَهْلِينَ وَالْمَعَارِفِ.
وَفِي الْحَدِيثِ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: أَمَرَ بِالْفِرَاقِ، بِقَوْلِ امْرَأَةٍ: إنَّهَا أَرْضَعَتْ وَلَمْ يُعْرَفْ ذَلِكَ مِنْ قَوْلِهَا قَبْلَ ذَلِكَ قَالَهُ ابْنُ رَاشِدٍ، وَاخْتُلِفَ فِي أُمِّ أَحَدِ الزَّوْجَيْنِ هَلْ هِيَ كَالْأَجْنَبِيَّةِ أَوْ أَرْفَعُ مِنْهَا؟ فَتَقَعُ الْفُرْقَةُ بِقَوْلِهَا لِنَفْيِ التُّهْمَةِ إذْ لَا يُعْلَمُ ذَلِكَ إلَّا مِنْ قَوْلِهَا، وَفِي ذَلِكَ قَوْلَانِ.
وَقَالَ ابْنُ حَبِيبٍ: قَوْلُ مَالِكٍ وَأَصْحَابِهِ: أَنَّ الْمَرْأَةَ إذَا قَالَتْ ذَلِكَ فِي ابْنَتِهَا، أَوْ قَالَهُ الْأَبُ فِي وَلَدِهِ، أَنَّ الْفُرْقَةَ تَقَعُ بَيْنَهُمَا بِذَلِكَ وَيُحْكَمُ بِالْفِرَاقِ إذَا قَالُوهُ قَبْلَ النِّكَاحِ، وَلَا يُقْبَلُ قَوْلُهَا بَعْدَ الْعَقْدِ، قَالَ اللَّخْمِيُّ: يُحْمَلُ قَوْلُ ابْنِ حَبِيبٍ أَنْ لَا يُقْبَلَ قَوْلُهَا بَعْدَ الْعَقْدِ، عَلَى أَنَّهَا كَانَتْ حَاضِرَةَ الْعَقْدِ فَلَمْ تُنْكِرْهُ، ثُمَّ ادَّعَتْ ذَلِكَ، فَلَوْ كَانَتْ غَائِبَةً فَلَمَّا قَدِمَتْ، أَنْكَرَتْ قُبِلَ قَوْلُهَا، وَهَذَا إذَا قَالَتْ أَنَا أَرْضَعَتْهُمَا.

.فَصْلٌ قَوْلُ الْمَرْأَةِ فِي رُؤْيَةِ الْهِلَالِ:

فَصْلٌ: وَمِنْ الْمَوَاضِعِ الَّتِي يُقْبَلُ فِيهَا قَوْلُ الْمَرْأَةِ مِمَّا لَا يَتَعَلَّقُ بِأَحْكَامِ الْقَضَاءِ، أَنَّهُ يُقْبَلُ قَوْلُ الْمَرْأَةِ فِي رُؤْيَةِ الْهِلَالِ، إذَا أُرِيدَ بِهِ عِلْمُ التَّارِيخِ؛ لِأَنَّهُ خَبَرٌ، فَإِنْ تَعَلَّقَ بِهِ فَرْضٌ كَصَوْمِ رَمَضَانَ وَالْفِطْرِ مِنْهُ، فلابد مِنْ شَاهِدَيْنِ. وَمِنْهَا: إذَا ثَبَتَ الْهِلَالُ بِشَاهِدَيْنِ أَوْ بِالرُّؤْيَةِ الْمُسْتَفِيضَةِ، فَنَقَلَهُ نَاقِلٌ إلَى بَلَدٍ آخَرَ أَوْ إلَى أَهْلِهِ، فَهَلْ يَجُوزُ فِي ذَلِكَ النَّاقِلِ أَنْ يَكُونَ امْرَأَةً أَوْ عَبْدًا؟ قَالَ الطُّرْطُوشِيُّ: هِيَ مِثْلُ مَسْأَلَةِ التَّرْجَمَةِ لِلْحَاكِمِ وَسَنَذْكُرُهَا. وَمِنْهَا: هَلْ يُقْبَلُ فِي تَرْجَمَةِ الْفَتْوَى وَالْخَطِّ امْرَأَةٌ أَوْ لَا؟. فِيهِ خِلَافٌ، وَكَذَلِكَ إذَا كَانَ الْقَاضِي لَا يَفْهَمُ كَلَامَ الْخَصْمَيْنِ، فَقَالَ ابْنُ الْمَاجِشُونِ وَمُطَرِّفٌ: يُجْزِئُ فِي التَّرْجَمَةِ عَنْهُمَا امْرَأَةٌ، وَمَنَعَ ذَلِكَ سَحْنُونٌ وَهُوَ عِنْدَهُمَا مِنْ بَابِ الْخَبَرِ، وَعِنْدَ سَحْنُونٍ مِنْ بَابِ الشَّهَادَةِ. وَمِنْهَا أَنَّهُ يُقْبَلُ الْخَبَرُ وَالْفُتْيَا. وَمِنْهَا: أَنْ يُقْبَلُ قَوْلُ الْمَرْأَةِ فِي إرْسَالِ الْهَدِيَّةِ، وَيَجُوزُ قَبُولُهَا وَالْإِقْدَامُ عَلَى الْأَكْلِ بِقَوْلِهَا. وَمِنْهَا: أَنْ يُقْبَلَ قَوْلُهَا فِي الْإِذْنِ فِي دُخُولِ الدَّارِ، وَالْهَجْمِ عَلَى الْعِيَالِ.

.فَصْلٌ قِيَافَةِ الْمَرْأَةِ الْوَاحِدَةِ:

فَصْلٌ: وَيَلْحَقُ بِمَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ قَبُولِ قَوْلِ الْمَرْأَةِ مَسَائِلُ: مِنْهَا مَا خَرَّجَهُ الْبَاجِيُّ مِنْ جَوَازِ قِيَافَةِ الْمَرْأَةِ الْوَاحِدَةِ.
وَمِنْهَا: أَنَّهُ يُقْبَلُ قَوْلُ الْمَرْأَةِ الْوَاحِدَةِ فِي الْعُيُوبِ الَّتِي فِي الْأَمَةِ الَّتِي لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهَا الرِّجَالُ، إذَا كَانَتْ الْأَمَةُ حَاضِرَةً وَلَمْ يَكُنْ الْخَصْمُ مُنْكِرًا، فَإِنْ أَنْكَرَ فَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الْبَابِ السَّابِقِ أَنَّهُ يُجْزِئُ فِي ذَلِكَ الْيَمِينُ مَعَ شَهَادَةِ الْمَرْأَةِ الْوَاحِدَةِ، وَإِنْ كَانَتْ الْأَمَةُ غَائِبَةً أَوْ مَيِّتَةً، لَمْ يُقْبَلْ إلَّا امْرَأَتَانِ بِمَعْنَى الشَّهَادَةِ، وَذَلِكَ فِيمَا هُوَ مِنْ عُيُوبِهِنَّ تَحْتَ الثِّيَابِ: مِنْ الْبَرَصِ، وَالْحَيْضِ وَالْعَذِرَةِ وَالنِّفَاسِ وَالْعُيُوبِ الْبَاطِنَةِ، وَالْمَرْأَتَانِ فِي هَذَا كَالرَّجُلَيْنِ.
وَمِنْهَا: قَالَ الْقَرَافِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: نَقَلَ ابْنُ حَزْمٍ فِي مَرَاتِبِ الْإِجْمَاعِ، إجْمَاعَ الْأُمَّةِ عَلَى قَبُولِ قَوْلِ الْمَرْأَةِ الْوَاحِدَةِ فِي إهْدَاءِ الزَّوْجَةِ لِزَوْجِهَا لَيْلَةَ الْعُرْسِ، مَعَ أَنَّهُ إخْبَارٌ عَنْ تَعْيِينٍ مُبَاحٍ، جَرَى بِجُزْئِي وَمُقْتَضَاهُ أَنْ لَا يُقْبَلَ فِيهِ إلَّا رَجُلَانِ؛ لِأَنَّهَا شَهَادَةٌ تَتَعَلَّقُ بِالنِّكَاحِ الَّذِي هُوَ مِنْ أَحْكَامِ الْأَبْدَانِ، الَّتِي لَا تُقْبَلُ فِيهَا النِّسَاءُ إلَّا لِلضَّرُورَةِ غَيْرَ أَنَّ هَذِهِ الصُّورَةِ اجْتَمَعَ فِيهَا قَرَائِنُ الْأَحْوَالِ. وَمَذْهَبُنَا أَنَّهُ لَا يُحْتَاجُ إلَى الْمَرْأَةِ، وَهَكَذَا مَذْهَبُ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، وَنَقَلَ ابْنُ قَيِّمِ الْجَوْزِيَّةِ أَنَّ الشَّافِعِيَّةَ وَالْحَنَفِيَّةَ عَلَى ذَلِكَ.

.الْبَابُ الثَّامِنَ عَشَرَ فِي الْقَضَاءِ بِشَاهِدٍ وَامْرَأَةٍ وَيَمِينِ الْمُدَّعِي:

وَفِي مُخْتَصَرِ الْوَاضِحَةِ فِي بَابِ الْيَمِينِ مَعَ الشَّاهِدِ: قَالَ أَشْهَبُ، قَالَ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي رَجُلٍ شَهِدَ لَهُ رَجُلٌ وَامْرَأَةٌ: أَنَّهُ وَارِثُ فُلَانٍ لِرَجُلٍ قَدْ مَاتَ أَنَّهُ يُسْتَأْنَى بِمِثْلِ هَذَا، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ إلَّا هَذَيْنِ حَلَفَ، وَكَانَ ذَلِكَ لَهُ كَمَا يُرِيدُ وَكَانَ نَسَبُهُ قَدْ ثَبَتَ بِعَدْلَيْنِ. اُنْظُرْ وَثَائِقَ أَبِي الْقَاسِمِ الْجَزِيرِيِّ.
مَسْأَلَةٌ:
وَفِي مُخْتَصَرِ الْوَاضِحَةِ: وَلَوْ شَهِدَ رَجُلٌ وَامْرَأَةٌ عَلَى اسْتِهْلَالِ الصَّبِيِّ لَمْ تَجُزْ شَهَادَتُهُمَا.
وَقَالَهُ ابْنُ الْمَاجِشُونِ وَابْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ، وَذَكَرَهُ أَشْهَبُ وَمُطَرِّفٌ عَنْ مَالِكٍ، قَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ وَإِنَّمَا لَمْ تَجُزْ عِنْدَ مَالِكٍ شَهَادَةُ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ؛ لِأَنَّ الرَّجُلَ لَمَّا حَضَرَ لِذَلِكَ صَارَ مِمَّا قَدْ اسْتَغْنَى فِيهِ عَنْ شَهَادَةِ النِّسَاءِ، فَسَقَطَتْ شَهَادَةُ الْمَرْأَةِ الْوَاحِدَةِ، وَجَازَتْ فِيهِ شَهَادَةُ الرَّجُلِ إذَا وُجِدَ مَعَهُ غَيْرُهُ، وَإِلَّا سَقَطَتْ شَهَادَتُهُ أَيْضًا، قَالَهُ ابْنُ حَبِيبٍ غَيْرَ أَنَّى سَمِعْت مَنْ أَرْضَى مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ يُجِيزُ شَهَادَةَ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ فِي الِاسْتِهْلَالِ، وَيَرَى ذَلِكَ أَقْوَى مِنْ شَهَادَةِ الْمَرْأَتَيْنِ عَلَى ذَلِكَ، وَذَلِكَ أَنَّ ابْنَ وَهْبٍ رَوَى أَنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ، وَعُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ، وَعَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ، وَمَرْوَانَ بْنَ الْحَكَمِ، رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ حَكَمُوا بِجَوَازِ قَوْلِ الْمَرْأَةِ الْمُسْلِمَةِ وَحْدَهَا عَلَى اسْتِهْلَالِ الصَّبِيِّ، إذَا كَانَتْ الْمَرْأَةُ عَدْلَةً مَرْضِيَّةً، وَأَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَرَّثَ صَبِيًّا عَلَى أَنَّهُ اسْتَهَلَّ، ثُمَّ مَاتَ هُوَ وَأُمُّهُ فَوَرَّثَهُ بِشَهَادَةِ الْقَابِلَةِ، فَإِذَا كَانَ مَعَ الْمَرْأَةِ الْوَاحِدَةِ رَجُلٌ كَانَ أَتَمَّ لِلشَّهَادَةِ، قَالَ ابْنُ حَبِيبٍ: وَهَذَا أَحَبُّ إلَيَّ وَبِهِ أَقُولُ.

.الْبَابُ التَّاسِعَ عَشَرَ فِي الْقَضَاءِ بِيَمِينِ الْمُدَّعِي وَنُكُولِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ:

عَنْ الْحَلِفِ عَلَى طِبْقِ الدَّعْوَى وَفِي أَحْكَامِ ابْنِ بَطَّالٍ قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ فِي رَجُلٍ جَحَدَ مَا ادَّعَى بِهِ عَلَيْهِ، فَأَرَادَ طَالِبُ الْحَقِّ أَنْ يُحْلِفَهُ مَا أَسْلَفْتُك شَيْئًا وَقَالَ الْمَطْلُوبُ أَحْلِفُ مَا لَك عَلَيَّ شَيْءٌ، قَالَ مَالِكٌ: يَحْلِفُ مَا لَك عِنْدِي حَقٌّ، وَمَا الَّذِي ادَّعَيْت عَلَيَّ بِهِ بَاطِلٌ، فَإِنْ نَكَلَ حَلَفَ الطَّالِبُ وَاسْتَحَقَّ.
وَقَالَ أَصَبْغُ: حَضَرْت ابْنُ الْقَاسِمِ وَقَدْ حَكَمَ بِأَنْ يَحْلِفَ أَنَّهُ مَا أَسْلَفَهُ شَيْئًا.
مَسْأَلَةٌ:
قَالَ مُطَرِّفٌ فِيمَنْ ادَّعَى أَنَّهُ بَاعَ مِنْ رَجُلٍ بَيْعًا، وَبَقِيَ عَلَيْهِ بَعْضُ الثَّمَنِ فَأَنْكَرَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، فَأَرَادَ الْقَاضِي أَنْ يُحْلِفَهُ، فَقَالَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ احْلِفْ أَنَّهُ لَا حَقَّ لَك قِبَلِي، وَيُرِيدُ الطَّالِبُ يَمِينَهُ أَنْ مَا بِعْتُك، قَالَ مَالِكٌ: بَلْ يَحْلِفُ مَا بِعْتنِي ذَلِكَ وَلَا لَك حَقٌّ قِبَلِي، وَهَذَا يُرِيدُ الْأَلْغَازَ وَالتَّحْرِيفَ. قَالَ فَضْلٌ: يُرِيدُ أَنَّهُ يَعْنِي فِي يَمِينِهِ أَنَّى قَدْ ابْتَعْت مِنْك بِمَا تَقُولُ وَقَضَيْتُك الثَّمَنَ، فَأَنَا أَحْلِفُ أَنَّهُ لَا حَقَّ لَك قِبَلِي، فَلَيْسَ ذَلِكَ لَهُ؛ لِأَنَّهُ إذَا أَقَرَّ أَنَّهُ ابْتَاعَ مِنْهُ وَقَضَاهُ، كَانَ الْحَقُّ قَدْ لَزِمَهُ، وَصَارَتْ الْيَمِينُ عَلَى الطَّالِبِ أَنَّهُ مَا قَضَاهُ شَيْئًا، ثُمَّ يَأْخُذُ حَقَّهُ، وَقَالَ ابْنُ الْمَاجِشُونِ: إذَا حَلَفَ بِاَللَّهِ مَا لَك عَلَيَّ مِنْ كُلِّ مَا تَدَّعِيهِ قَلِيلٌ وَلَا كَثِيرٌ، فَقَدْ بَرِئَ، وَلَا يُنْظَرُ إلَى قَوْلِ ابْنِ حَبِيبٍ: وَهَذَا أَحَبُّ إلَيَّ مَا إذَا كَانَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ مِمَّنْ لَا يُتَّهَمُ، وَكَانَ الْمُدَّعِي مِنْ أَهْلِ التُّهْمَةِ وَالظِّنَّةِ وَالطَّلَبِ بِالشُّبْهَةِ.
مَسْأَلَةٌ:
قَالَ ابْنُ سَحْنُونٍ: وَكَانَ سَحْنُونٌ إذَا قَالَ الْخَصْمُ لَا أُقِرُّ وَلَا أُنْكِرُ، أَوْ قَالَ مَا لَهُ عِنْدِي حَقٌّ، وَالْآخَرُ يَدَّعِي دَعْوَى مُفَسَّرَةً يَقُولُ: أَسْلَفْتُهُ أَوْ بِعْته أَوْ أَوْدَعْته، فَكَانَ لَا يَقْبَلُ قَوْلَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، مَا لَهُ عِنْدِي حَقٌّ حَتَّى يُقِرَّ بِالدَّعْوَى نَفْسِهَا أَوْ يُنْكِرَهَا، فَيَقُولُ: مَا بَاعَنِي وَلَا أَسْلَفَنِي وَلَا أَوْدَعَنِي فَإِنْ تَمَادَى عَلَى اللَّدَدِ سَجَنَهُ، فَإِنْ تَمَادَى أَدَّبَهُ، وَكَذَلِكَ إذَا تَمَادَى فِي أَنْ لَا يُقِرَّ وَلَا يُنْكِرَ، وَأَمَّا قَوْلُهُ: مَا لَهُ عِنْدِي حَقٌّ رُبَّمَا قَبِلَ ذَلِكَ مِنْهُ، وَأَمَرَ بِكَتْبِ دَعْوَى الْمُدَّعِي وَإِنْكَارِ الْآخَرِ، وَرُبَّمَا لَمْ يَقْبَلْ مِنْهُ حَتَّى يُقِرَّ بِالشَّيْءِ نَفْسِهِ أَوْ يُنْكِرَهُ، وَرَجَعَ إلَى هَذَا فِي آخِرِ أَيَّامِهِ مِنْ ابْنِ يُونُسَ فِي الشَّهَادَاتِ الثَّانِي.
مَسْأَلَةٌ:
فَإِذَا قَالَ لِي عَلَيْك عَشَرَةٌ حَلَفَ مَا لَك عَلَى عَشَرَةٌ، وَلَا شَيْءٌ، مِنْهَا فَإِنْ ذَكَرَ السَّبَبَ مِثْلَ أَنْ يَقُولَ لَهُ: اشْتَرَيْت مِنِّي سِلْعَةَ كَذَا وَكَذَا، وَقَدْ كَانَ الْمُبْتَاعُ دَفَعَ لَهُ ثَمَنَهَا وَجَحَدَ، فَأَرَادَ أَنْ يَحْلِفَ مَا لَهُ عِنْدِي شَيْءٌ، فَفِيهَا قَوْلَانِ الْمَشْهُورُ أَنَّهُ لابد أَنْ يَحْلِفَ أَنَّهُ مَا اشْتَرَى مِنْهُ سِلْعَةَ كَذَا، وَقَدْ تَقَدَّمَ قَالَ ابْنُ دِينَارٍ: قُلْت لِابْنِ عَبْدُوسٍ: إذَا أَسْلَفَهُ مَالًا فَقَضَاهُ إيَّاهُ فَجَحَدَ، وَأَرَادَ الْمُدَّعِي أَنْ يَحْلِفَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ أَنَّهُ مَا أَسْلَفَهُ، وَقَالَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ أَحْلِفُ مَا لَهُ عِنْدِي شَيْءٌ، فَقَالَ لابد أَنْ يَحْلِفَ مَا أَسْلَفَهُ شَيْئًا، قُلْت لِابْنِ عَبْدُوسٍ فَقَدْ اضْطَرَرْتُمُوهُ إلَى يَمِينٍ كَاذِبَةٍ أَوْ غُرْمِ مَا لَا يَجِبُ عَلَيْهِ قَالَ: يَنْوِي سَلَفًا يَجِبُ عَلَيْهِ رَدُّهُ الْآنَ وَيَبْرَأُ مِنْ الْإِثْمِ.
مَسْأَلَةٌ:
قَالَ أَشْهَبُ: إذَا قَالَ لِي عَلَيْهِ عَشَرَةٌ مِنْ سَلَفٍ، فَأَرَادَ أَنْ يَحْلِفَ لَهُ مَا لَهُ عِنْدِي عَشَرَةٌ مِنْ سَلَفٍ، لَمْ يُجْزِهِ ذَلِكَ حَتَّى يَقُولَ: وَلَا أَعْلَمُ لَهُ شَيْئًا مِنْ وَجْهٍ مِنْ الْوُجُوهِ وَنَحْوِهِ، فِي كِتَابِ ابْنِ سَحْنُونٍ قَالَ الْقَاضِي أَبُو الْوَلِيدِ وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ يُجْزِئُهُ لَا شَيْءَ لَهُ عِنْدِي مِنْ وَجْهٍ يَطْلُبُهُ؛ لِأَنَّ الطَّالِبَ لَمْ يَطْلُبْهُ بِغَيْرِ ذَلِكَ.
فَرْعٌ:
وَيَحْلِفُ فِي دَعْوَى الْإِجَارَةِ، مَا يَسْتَحِقُّ عَلَيَّ إجَارَةً فِي هَذِهِ الدَّارِ عَلَى مَا ادَّعَاهُ مِنْ كِتَابِ الشَّهَادَةِ.
تَنْبِيهٌ:
قَالَ ابْنُ رَاشِدٍ شَرْطُ صِحَّةِ الْيَمِينِ الْمُطَابِقَةُ، وَأَنْ يَحْلِفَ عَلَى الْبَتِّ إلَّا فِيمَا نَسَبَهُ إلَى غَيْرِهِ مِنْ النَّفْيِ، قَالَ ابْنُ شَاسٍ: يَحْلِفُ عَلَى الْبَتِّ فِي كُلِّ مَا نَسَبَهُ إلَى نَفْسِهِ مِنْ نَفْيٍ أَوْ إثْبَاتٍ وَفِيمَا نَسَبَهُ إلَى غَيْرِهِ مِنْ الْإِثْبَاتِ، وَأَمَّا النَّفْيُ فَيَكْفِي الْحَلِفُ عَلَى نَفْيِ الْعِلْمِ، فَيَقُولُ لَا أَعْلَمُ عَلَى مُوَرِّثِي، وَلَا أَعْلَمُ مِنْهُ إسْلَافًا أَوْ بَيْعًا اهـ. فَمَتَى نَكَلَ عَنْ الْيَمِينِ عَلَى طِبْقِ الدَّعْوَى حَلَفَ الْمُدَّعِي وَاسْتَحَقَّ.
وَفِي كِتَابِ أَدَبِ الشَّهَادَاتِ، كَانَ الْقَاضِي بَكَّارٌ يَرَى شُفْعَةَ الْجِوَارِ، فَادَّعَى عِنْدَهُ حَنَفِيٌّ عَلَى شَافِعِيٍّ بِالشُّفْعَةِ فَأَنْكَرَ الشَّافِعِيُّ حَقَّهُ فِي ذَلِكَ، فَقَالَ لَهُ الْقَاضِي بَكَّارٌ: احْلِفْ أَنَّ هَذَا مَا يَسْتَحِقُّ عَلَيْك هَذِهِ الشُّفْعَةَ بِالْجِوَارِ عَلَى مَذْهَبِ الْقَائِلِينَ بِشُفْعَةِ الْجِوَارِ، فَتَوَقَّفَ عَنْ الْيَمِينِ، وَحَدَّثَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِذَلِكَ الْمُزَنِيَّ صَاحِبَ الْإِمَامِ الشَّافِعِيِّ فَقَالَ لَهُ الْمُزَنِيّ: وَقَعْتَ عَلَى قَاضٍ فَقِيهٍ وَإِنَّمَا حَلَّفَهُ عَلَى هَذَا خَوْفًا مِنْ أَنْ يَتَأَوَّلَ مَذْهَبَ الشَّافِعِيِّ، وَيَحْلِفَ فَيَنْبَغِي التَّنْبِيهُ لِذَلِكَ فَهُوَ تَنْبِيهٌ حَسَنٌ، فَقَدْ تَقَعُ الْحُكُومَةُ لِمَنْ لَا يَرَى أَنَّ الْيَمِينَ عَلَى نِيَّةِ الْمُسْتَحْلِفِ.

.الْبَابُ الْعِشْرُونَ فِي الْقَضَاءِ بِيَمِينِ الْمُدَّعِي وَنُكُولِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ عَنْ الْيَمِينِ:

فِي مَقْطَعِ الْحَقِّ وَمَنْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ يَمِينٌ فِيمَا لَهُ بَالٌ مِنْ سَائِرِ الْحُقُوقِ أَوْ فِي رُبُعِ دِينَارٍ فَصَاعِدًا، فَامْتَنَعَ مِنْ الْحَلِفِ عِنْدَ الْمِنْبَرِ فِي مَدِينَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَوْ فِي الْجَامِعِ الْأَعْظَمِ فِي غَيْرِ الْمَدِينَةِ أَوْ عِنْدَ الرُّكْنِ بِمَكَّةَ، وَقَالَ أَنَا أَحْلِفُ بِمَوْضِعِي، فَهُوَ كَنُكُولِهِ عَنْ الْيَمِينِ إنْ لَمْ يَحْلِفْ فِي مُقَاطَعِ الْحُقُوقِ وَغَرِمَ. قَالَ ابْنُ يُونُسَ: يُرِيدُ بَعْدَ يَمِينِ الْمُدَّعِي فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ، يَعْنِي مَقْطَعَ الْحَقِّ، فَإِنْ نَكَلَ الْمُدَّعِي بَطَل حَقُّهُ، وَبِذَلِكَ قَضَى مَرْوَانُ عَلَى زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ.

.الْبَابُ الْحَادِي وَالْعِشْرُونَ فِي الْقَضَاءِ بِيَمِينِ الْمُدَّعِي وَنُكُولِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ عَنْ الْجَوَابِ:

قَالَ أَصَبْغُ: إذَا تَكَلَّمَ الْمُدَّعِي وَادَّعَى بِحُجَّتِهِ، قَالَ الْحَاكِمُ لِلْآخَرِ تَكَلَّمَ فَإِذَا سَكَتَ أَوْ قَالَ لَا أُخَاصِمُهُ إلَيْك، قَالَ لَهُ الْقَاضِي: إمَّا خَاصَمْتَ وَإِمَّا أَحَلَفْتُ هَذَا الْمُدَّعِي عَلَى دَعْوَاهُ وَحَكَمْتُ لَهُ، فَإِنْ تَكَلَّمَ نَظَرَ فِي حُجَّتِهِ، وَإِنْ لَمْ يَتَكَلَّمْ أَحْلَفَ الْمُدَّعِيَ وَقَضَى لَهُ بِحَقِّهِ، إنْ كَانَ مِمَّا يَسْتَحِقُّ مَعَ نُكُولِ الْمَطْلُوبِ عَنْ الْيَمِينِ، وَكَانَتْ الْخُلْطَةُ ثَابِتَةً وَالدَّعْوَى مُشْبِهَةً عُرْفًا؛ لِأَنَّ نُكُولَهُ عَنْ التَّكَلُّمِ نُكُولٌ عَنْ الْيَمِينِ، وَإِنْ كَانَ مِمَّا لَا يَثْبُتُ إلَّا بِالْبَيِّنَةِ، دَعَا بِالْبَيِّنَةِ وَلَا يَسْجُنُهُ حَتَّى يَتَكَلَّمَ، وَلَكِنْ يَسْمَعُ مِنْ صَاحِبِهِ، وَيَحْمِلُ الْحُكْمَ عَلَيْهِ إذَا تَبَيَّنَ لَهُ الْفَصْلُ، وَلَمْ يَرْجِعْ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ إلَى إقْرَارٍ أَوْ إنْكَارٍ، وَيَحْكُمُ عَلَيْهِ بِالْمُدَّعَى بِلَا يَمِينٍ.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ: إنْ قَالَ لَا أُقِرُّ وَلَا أُنْكِرُ لَمْ يَتْرُكْهُ حَتَّى يُقِرَّ أَوْ يُنْكِرَ، وَإِنْ أَبَى سَجَنَهُ حَتَّى يُقِرَّ أَوْ يُنْكِرَ، وَهِيَ رِوَايَةُ أَشْهَبَ قَالَ ابْنُ رَاشِدٍ: وَاَلَّذِي جَرَى بِهِ الْعَمَلُ أَنْ يُسْجَنَ وَيُؤَدَّبَ، فَإِنْ تَمَادَى عَلَى امْتِنَاعِهِ حُكِمَ عَلَيْهِ بِغَيْرِ يَمِينٍ.
وَقَالَ اللَّخْمِيُّ: يُخَيَّرُ الطَّالِبُ بَيْنَ حَبْسِ الْمَطْلُوبِ حَتَّى يُجَاوِبَهُ أَوْ يَحْلِفَ، وَيَأْخُذَهُ مِلْكًا أَوْ يَأْخُذَهُ بِغَيْرِ يَمِينٍ، وَيَبْقَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ عَلَى حُجَّتِهِ.
فَرْعٌ:
قَالَ ابْنُ رَاشِدٍ: فَإِنْ قَالَ: لَا أُجَاوِبُهُ، حَتَّى يُبَيِّنَ الْوَجْهَ الَّذِي تَرَتَّبَ لَهُ ذَلِكَ بِهِ قِبَلِي، فَلِلْقَاضِي أَنْ يَسْأَلَهُ عَنْ ذَلِكَ، فَإِنْ امْتَنَعَ مِنْ بَيَانِهِ لَمْ يَسْأَلْ الْمَطْلُوبَ عَنْ شَيْءٍ، إلَّا أَنْ يَدَّعِيَ نِسْيَانًا فَيَقْبَلَ ذَلِكَ مِنْهُ بِغَيْرِ يَمِينٍ، وَأَلْزَمَ الْمَطْلُوبَ الْجَوَابَ.
وَقَالَ الْبَاجِيُّ: الْقِيَاسُ أَنْ يَحْلِفَ لَقَدْ نَسِيَ.
فَرْعٌ:
وَإِنْ قَالَ أَنَا آتِيهِ بِوَكِيلٍ يُجَاوِبُهُ، فَفِي ذَلِكَ أَقْوَالٌ.
الْأَوَّلُ: الْإِلْزَامُ، وَيُقَالُ لَهُ: قُلْ الْآنَ مَا تَأْمُرُ بِهِ وَكِيلَك. قَالَ أَبُو الْأَصْبَغِ بْنُ سَهْلٍ وَهُوَ الصَّحِيحُ عِنْدِي. الثَّانِي: قَالَ ابْنُ الْهِنْدِيِّ: يُمَكَّنُ مِنْ ذَلِكَ.
الثَّالِثُ: التَّفْرِقَةُ، فَإِنْ كَانَتْ الدَّعْوَى قَرِيبَةَ الْمَعْنَى، أُمِرَ بِالْجَوَابِ ثُمَّ وَكَّلَ، فَإِنْ أَبَى حُمِلَ عَلَيْهِ بِالْأَدَبِ، وَإِلَّا فَلَهُ ذَلِكَ وَبِهِ الْعَمَلُ.
فَرْعٌ:
وَإِنْ قَالَ: لَا أُخَاصِمُهُ عِنْدَك جُبِرَ عَلَيْهِ بِالسِّجْنِ وَالْأَدَبِ.

.الْبَابُ الثَّانِي وَالْعِشْرُونَ فِي الْقَضَاءِ بِالنُّكُولِ عَنْ حُضُورِ مَجْلِسِ الْحُكْمِ:

وَبَيَانِ الْمَوَاضِعِ الَّتِي تَجِبُ فِيهَا إجَابَةُ دَعْوَةِ الْحَاكِمِ، وَمَا لَا يَجِبُ فِيهِ الْإِجَابَةُ قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ فِي تَفْسِيرِ قَوْله تَعَالَى: {وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ} [النور: 48] الْآيَةَ: دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ مَنْ دُعِيَ إلَى حَاكِمٍ فَعَلَيْهِ الْإِجَابَةُ، وَيُجْرَحُ إنْ تَأَخَّرَ، وَرُوِيَ عَنْ الْحَسَنِ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ دُعِيَ إلَى حَاكِمٍ مِنْ حُكَّامِ الْمُسْلِمِينَ فَلَمْ يُجِبْ فَهُوَ ظَالِمٌ لَا حَقَّ لَهُ». انْتَهَى مِنْ مَعِينِ الْحُكَّامِ.
وَفِي الطُّرَرِ لِابْنِ عَاتٍ قَالَ الشَّعْبَانِيُّ: مَنْ ادَّعَى عَلَى غَيْرِهِ دَعْوَى فَدَعَاهُ إلَى الْقَاضِي فَامْتَنَعَ، خَتَمَ لَهُ خَاتَمًا مِنْ طِينٍ، فَإِنْ لَمْ يَأْتِ بَعَثَ مَعَهُ بَعْضَ أَعْوَانِهِ لِيَدْعُوَهُ إلَيْهِ، فَإِنْ امْتَنَعَ وَتَوَارَى عَنْهُ سُئِلَ الْخَصْمُ عَنْ دَعْوَاهُ، فَإِنْ ادَّعَى شَيْئًا مَعْلُومًا وَأَثْبَتَ عَلَيْهِ بَيِّنَةً مَرْضِيَّةً حُكِمَ عَلَيْهِ بِذَلِكَ، إنْ كَانَ لِلْمُدَّعَى عَلَيْهِ مَالٌ ظَاهِرٌ.
فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ ظَاهِرٌ وَثَبَتَ بِالْبَيِّنَةِ أَنَّهُ فِي مَنْزِلِهِ، فَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ يَبْعَثُ إلَيْهِ رَسُولًا ثِقَةً مَعَ شَاهِدَيْنِ يُنَادِي عَلَى بَابِهِ ثَلَاثًا يَا فُلَانُ، الْقَاضِي فُلَانٌ يَدْعُوك لِتَحْضُرَ مَجْلِسَ الْحُكْمِ مَعَ خَصْمِك فُلَانٍ، وَإِلَّا نَصِّبْ لَك وَكِيلًا وَيَسْمَعُ مِنْ شُهُودِ الْمُدَّعِي وَيُمْضِي الْحُكُومَةَ عَلَيْك، فَإِنْ لَمْ يَحْضُرْ وَثَبَتَ عِنْدَ الْقَاضِي أَنَّهَا دَارُ سُكْنَاهُ، وَأَنَّهُ تَغَيَّبَ فِيهَا، وَأَنَّ الرَّسُولَ دَعَاهُ، فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِطَبْعِ الدَّارِ وَتَسْمِيرِهَا بَعْدَ أَنْ تُفَتَّشَ، فَإِنْ خَرَجَ أَخَذَ مِنْهُ الْحَقَّ وَعَاقَبَهُ عَلَى امْتِنَاعِهِ وَتَغَيُّبِهِ. وَفِي الْمُقْنِعِ لِابْنِ بَطَّالٍ: إذَا ثَبَتَ عِنْدَ الْقَاضِي تَغَيُّبُ الْمَطْلُوبِ فِي مَوْضِعٍ يَمْتَنِعُ فِيهِ مِنْ الْخُرُوجِ، فَعَلَى الْقَاضِي أَنْ يَسْتَعِينَ بِالسُّلْطَانِ، وَيَبْعَثُ إلَيْهِ أَنْ يُرْسِلَ إلَى الْمَوْضِعِ الَّذِي فِيهِ الْمَطْلُوبُ رَجُلًا كَانَ أَوْ امْرَأَةً، مَنْ يُخْرِجُهُمَا مِنْهُ إلَى حَيْثُ يَنْتَصِفُ مِنْهُمَا إلَّا أَنْ يَدْفَعَا الْحَقَّ، وَهُمَا بِمَوْضِعِهِمَا فَيُؤْخَذُ مِنْهُمَا.
وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إنْ امْتَنَعَ الْمَطْلُوبُ فِي مَوْضِعٍ، أَمَرَ السُّلْطَانُ بِتَثْقِيفِ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ إذَا لَمْ يُوصَلْ إلَيْهِ، وَضَيَّقَ عَلَيْهِ حَتَّى يَخْرُجَ، فَإِذَا خَرَجَ أَخَذَ مِنْهُ الْحَقَّ وَعَاقَبَهُ عَلَى امْتِنَاعِهِ، وَإِنْ طَالَ أَمْرُهُ وَأَضَرَّ ذَلِكَ بِصَاحِبِ الْحَقِّ، أَمَرَ بِالدُّخُولِ عَلَيْهِ بِهَدْمٍ أَوْ غَيْرِهِ؛ لِأَنَّهُ مُعَانِدُ السُّلْطَانِ، وَلَمْ يَتَعَرَّضْ لِمَالِهِ إلَّا بِحَقٍّ، وَإِنْ لَمْ يَمْتَنِعْ الدُّخُولُ عَلَيْهِ إلَّا أَنَّهُ مُخْتَفٍ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي هُوَ فِيهِ، أَمَرَ السُّلْطَانُ مَنْ يَثِقُ بِهِ مِنْ أَهْلِ الصَّلَاحِ بِعَزْلِ النِّسَاءِ إلَى نَاحِيَةٍ مِنْ الْمَوْضِعِ الَّذِي هُوَ فِيهِ، وَيُفَتِّشُ الْمَوْضِعَ الَّذِي يَطْمَعُ بِهِ فِيهِ، حَتَّى يُفَتِّشَ جَمِيعَ الْمَوَاضِعِ، فَإِنْ أَعْيَا السُّلْطَانَ أَمْرُهُ وَلَمْ يَجِدْهُ سَمِعَ مِنْ الطَّالِبِ وَمِنْ بَيِّنَتِهِ، وَقَضَى لِصَاحِبِ الْحَقِّ عَلَيْهِ، وَلَمْ تُرْجَ لَهُ حَجَّةٌ عُقُوبَةً لَهُ، وَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ امْرَأَةً، أَمَرَ السُّلْطَانُ امْرَأَةً تَعْرِفُهَا بِالتَّفْتِيشِ عَلَيْهَا، فَإِنْ أَخْرَجَتْهَا عُرِضَتْ عَلَى مَنْ يَعْرِفُهَا، وَيَعْرِفُ عَيْنَهَا، وَيُثْبِتُ عِنْدَ الْقَاضِي أَنَّهَا هِيَ الْمُقِرَّةُ الْمَشْهُودُ عَلَيْهَا بِجَمِيعِ مَا ذَكَرَ عَنْهَا وَقَضَى عَلَيْهَا.
وَفِي الطُّرَرِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَرَى أَنْ يَهْجُمَ عَلَيْهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَرَى أَنْ يُرْسِلَ الْقَاضِي عَدْلَيْنِ مَعَ جَمَاعَةٍ مِنْ الْخَدَمِ وَالنِّسْوَانِ وَمَعَهُمْ الْأَعْوَانُ، فَيَكُونُ الْأَعْوَانُ بِالْبَابِ وَحَوْلَ الدَّارِ، ثُمَّ يَدْخُلُ النِّسَاءُ ثُمَّ الْخَدَمُ، وَتُعْزَلُ حُرَمُ الْمَطْلُوبِ فَيُجْعَلُونَ فِي بَيْتٍ، ثُمَّ تُفَتَّشُ الدَّارُ ثُمَّ يَدْخُلُ النِّسَاءُ إلَى مَنْزِلِ الْحُرَمِ فَيُفَتِّشْنَهُ، وَيَكُونُ ذَلِكَ كُلُّهُ بَغْتَةً بِغَيْرِ إذْنِهِ، لِئَلَّا يَصِرْنَ النِّسَاءُ فِي الدَّارِ ثُمَّ يَدْخُلَ الْخَدَمُ فِي إثْرِهِنَّ.
وَفِي مَعِينِ الْحُكَّامِ: قَالَ ابْنُ الْعَطَّارِ: فَإِنْ ثَبَتَ تَغَيُّبُ الْمَطْلُوبِ فِي دَارِهِ، شُدِّدَ عَلَيْهِ بِأَنْ يُطْبَعَ بَابُ مَسْكَنِهِ وَيُخْرَجُ مَا فِيهِ مِنْ الْحَيَوَانِ مِنْ بَنِي آدَمَ وَغَيْرِهِمْ، قَالَ: وَالطَّبْعُ خَيْرٌ مِنْ التَّسْمِيرِ؛ لِأَنَّ التَّسْمِيرَ يُفْسِدُ الْبَابَ وَيَنْقُصُ ثَقْبُ الْمَسَامِيرِ وَلَا مَكَانَ أَنْ يُزَالَ التَّسْمِيرُ وَيُعَادَ وَلَا يَعْلَمُ بِذَلِكَ.
تَنْبِيهٌ:
وَفِي الْوَثَائِقِ الْمَجْمُوعَةِ: وَإِذَا رَأَى التَّسْمِيرَ وَلَمْ يَرَ أَنْ يُطْبَعَ عَلَى الْبَابِ فَلْيُثْبِتْ عِنْدَ الْقَاضِي أَنَّهَا دَارُهُ، وَحِينَئِذٍ يَأْمُرُ بِتَسْمِيرِهَا، قَالُوا: وَيَنْبَغِي لِلْقَاضِي أَنْ لَا يَقْبَلَ قَوْلَ الرَّسُولِ فِي تَغَيُّبِ الْمَطْلُوبِ حَتَّى يَكْشِفَ وَيَسْأَلَ.
فَرْعٌ:
قَالَ ابْنُ سَهْلٍ فِي أَحْكَامِ ابْنِ زِيَادٍ: إنْ تَغَيَّبَ عَنْ الْحُضُورِ مَعَ الطَّالِبِ عِنْدَ الْقَاضِي، فَمِنْ حَقِّ الطَّالِبِ السَّمَاعُ مِنْ بَيِّنَتِهِ وَالنَّظَرُ لَهُ، إذَا تَبَيَّنَ تَوَرُّكُ الْمَطْلُوبِ وَتَنَحِّيهِ، قَالَهُ ابْنُ لُبَابَةَ وَيَحْيَى بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَمُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى وَعُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ الْحُسَيْنِ وَسَعِيدُ بْنُ مُعَاذٍ وَمُحَمَّدُ بْنُ غَالِبٍ وَأَحْمَدُ بْنُ يَحْيَى وَمُحَمَّدُ بْنُ وَلِيَدٍ.
فَرْعٌ:
وَمِنْ أَحْكَامِ ابْنِ سَهْلٍ: قَالَ سَحْنُونٌ: مَنْ ادَّعَى دَارًا بِالْقَيْرَوَانِ وَاَلَّذِي هِيَ بِيَدِهِ غَائِبٌ بِتُونِسَ، كَتَبَ قَاضِي الْقَيْرَوَانِ إلَى قَاضِي تُونِسَ، أَنْ يُقَدِّمَ فُلَانًا يُخَاصِمُ، أَوْ يُوَكِّلَ مَنْ يُخَاصِمُ لَهُ، فَإِنْ أَبَى سَمِعَ مِنْ حُجَّةِ الْمُدَّعِي وَبَيِّنَتِهِ، فَإِنْ أَثْبَتَ الدَّعْوَى وَأَوْقَعَ الْبَيِّنَةَ كَشَفَ عَنْ الْبَيِّنَةِ، فَإِنْ زُكِّيَتْ حَكَمَ عَلَيْهِ.
مَسْأَلَةٌ:
وَفِي مَعِينِ الْحُكَّامِ وَغَيْرِهِ: وَإِذَا تَبَيَّنَ أَنَّ الْمَطْلُوبَ أَلَدُّ بِالْمُدَّعِي، وَدَعَاهُ الطَّالِبُ إلَى الِارْتِفَاعِ إلَى الْقَاضِي فَأَبَى، فَيَكُونُ عَلَى الْمَطْلُوبِ أُجْرَةُ الرَّسُولِ إلَيْهِ، وَلَا يَكُونُ عَلَى الطَّالِبِ مِنْ ذَلِكَ شَيْءٌ، وَيُؤَدِّبُ الْقَاضِي كُلَّ مَنْ أَبَى أَنْ يَرْتَفِعَ إلَيْهِ، وَقَالَ مِثْلَهُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْعَطَّارِ.
تَنْبِيهٌ:
قَالَ ابْنُ الْفَخَّارِ: فِي الِانْتِقَادِ عَلَى ابْنِ الْعَطَّارِ، وَلَا نَعْلَمُ ذَنْبًا يُوجِبُ اسْتِبَاحَةَ الْمَالِ إلَّا الْكُفْرَ وَحْدَهُ، وَلَيْسَ مَطْلُهُ يُوجِبُ اسْتِبَاحَةَ مَالِهِ، وَأَنْ تَكُونَ أُجْرَةُ الرَّسُولِ عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا هُوَ ظَالِمٌ بِمَطْلِهِ وَتَبْطُلُ بِذَلِكَ شَهَادَتُهُ، وَيَسْتَحِقُّ اسْمَ الظُّلْمِ وَمَالُهُ مُحَرَّمٌ وَلَا يَأْخُذُ مِنْهُ شَيْئًا. قَالَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ مَا قَالَهُ ابْنُ الْعَطَّارِ أَوْلَى؛ لِأَنَّ هَذَا لَيْسَ مِنْ بَابِ اسْتِبَاحَةِ الْمَالِ، وَإِنَّمَا هُوَ أَدْخَلَ غَرِيمَهُ فِي غُرْمٍ وَعَرَّضَ بِإِتْلَافِ مَالِهِ، بِعَدَمِ انْقِيَادٍ إلَى الْحُكْمِ فَتَوَجَّهَ عَلَيْهِ غُرْمُ ذَلِكَ.
فَرْعٌ:
قَالَ ابْنُ رُشْدٍ فِي الْبَيَانِ: إذَا لَمْ يَكُنْ لِلشُّرَطِ الْمُتَصَرِّفِينَ بَيْنَ أَيْدِي الْقُضَاةِ، رِزْقٌ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ، كَأَنْ جَعَلَ الْغُلَامَ الْمُتَصَرِّفَ بَيْنَ الْخَصْمَيْنِ عَلَى الطَّالِبِ، إلَّا أَنْ يَلِدَّ الْمَطْلُوبُ وَيَخْتَفِيَ تَعْنِيتًا بِالْمُطَالَبِ، فَيَكُونُ الْجُعَلُ فِي إحْضَارِهِ عَلَيْهِ، وَهَذِهِ النُّصُوصُ كُلُّهَا تُخَالِفُ مَا قَالَهُ ابْنُ الْفَخَّارِ.
مَسْأَلَةٌ:
وَفِي أَحْكَامِ ابْنِ سَهْلٍ فِي الشَّرِيكَيْنِ: يَطْلُبُ أَحَدُهُمَا الْقِسْمَةَ وَيَتَغَيَّبُ الْآخَرُ، قَالَ ابْنُ لُبَابَةَ وَابْنُ وَلِيَدٍ وَابْنُ غَالِبٍ: إذَا تَوَرَّكَ أَحَدُ الشُّرَكَاءِ عَلَى الْحُضُورِ لِلْقِسْمَةِ، وَظَهَرَ ذَلِكَ لِلْقَاضِي بِاتِّصَالِ تَوَرُّكِهِ، أَوْ بِطُولِ التَّرَدُّدِ فِي طَلَبِهِ لِلْحُضُورِ فَلَمْ يَحْضُرْ، أَمَرَ الْقَاضِي بِالْقَسْمِ عَلَيْهِ وَوَكَّلَ لَهُ مَنْ يَقْبِضَ نَصِيبَهُ، فَيَبْعَثُ الْقَاضِي قَاسِمًا يَرْضَاهُ، وَرَجُلَيْنِ يُقْبِلَانِ عَلَيْهِمَا، يُحْضِرَانِ الْقَسْمَ، وَوَكِيلًا يُوَكِّلُهُ لِلْغَائِبِ وَكَالَةً يَشْهَدُ لَهُ بِهَا، فَمَا حَصَلَ لِلْغَائِبِ قَبَضَهُ وَكِيلُهُ، وَكَانَ قَبْضُهُ لَهُ بِأَمْرِ الْقَاضِي كَقَبْضِهِ لِنَفْسِهِ لَوْ كَانَ حَاضِرًا، وَيَذْكُرُ فِي كِتَابِ الْقِسْمَةِ الْمَعْنَى الَّذِي وَكَّلَ الْوَكِيلَ لِأَجْلِهِ مِنْ ثُبُوتِ التَّوَرُّكِ عِنْدَهُ.
مَسْأَلَةٌ:
وَفِي الْبَيَانِ وَالتَّحْصِيلِ وَكَتَبَ ابْنُ غَانِمٍ، إلَى مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ رَحِمَهُ اللَّهُ يَسْأَلُهُ عَنْ الْخَصْمَيْنِ يَخْتَصِمَانِ فِي الْأَرْضِ، فَيُقِيمُ أَحَدُهُمَا الْبَيِّنَةَ بِأَنَّهَا لَهُ، فَإِذَا عَلِمَ خَصْمُهُ بِذَلِكَ، هَرَبَ وَتَغَيَّبَ فَطُلِبَ فَلَمْ يُوجَدْ أَيُقْضَى عَلَيْهِ وَهُوَ غَائِبٌ؟ قَالَ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ: إذَا أَثْبَتَ عِنْدَك الْحُجَجَ، وَسَأَلْته عَنْ كُلِّ مَا تُرِيدُ أَنْ تَسْأَلَهُ عَنْهُ، وَاسْتَقَرَّ عِنْدَك عِلْمُ كُلِّ مَا تُرِيدُ أَنْ تَسْأَلَهُ عَنْهُ فَلَمْ تَبْقَ حُجَّةٌ فَاقْضِ عَلَيْهِ وَهُوَ غَائِبٌ. قَالَ ابْنُ رُشْدٍ وَهَذَا كَمَا قَالَ: إنَّهُ يَقْضِي عَلَيْهِ بَعْدَ اسْتِيفَاءِ عِلْمِ ذَلِكَ وَيُعْجِزُهُ، وَلَا يَكُونُ لَهُ إذَا قَدِمَ أَنْ يَقُومَ بِحُجَّتِهِ، بِمَنْزِلَةِ أَنْ لَوْ قَضَى عَلَيْهِ وَهُوَ حَاضِرٌ، إلَّا عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ الْمَحْكُومَ عَلَيْهِ إذَا أَتَى بِحُجَّةٍ لَهَا وَجْهٌ بَعْدَ الْحُكْمِ عَلَيْهِ، يُسْمَعُ مِنْهُ، فَأَمَّا إنْ هَرَبَ وَتَغَيَّبَ قَبْلَ أَنْ يَسْتَوْفِيَ جَمِيعَ حُجَجِهِ، فَالْوَاجِبُ فِي ذَلِكَ أَنْ يُتَلَوَّمَ لَهُ، فَإِنْ لَمْ يَخْرُجْ وَتَمَادَى عَلَى تَغَيُّبِهِ وَاخْتِفَائِهِ، قَضَى عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَقْطَعَ حُجَجَهُ.

.فَصْلٌ الدَّعْوَى عَلَى الْمَحْبُوسِ فِي حَبْسِ السُّلْطَانِ:

فَصْلٌ: وَمِمَّا يُلْتَحَقُ بِهَذَا الْبَابِ، الدَّعْوَى عَلَى الْمَحْبُوسِ فِي حَبْسِ السُّلْطَانِ، وَإِذَا كَانَتْ لِلنَّاسِ حُقُوقٌ عَلَى مَنْ حَبَسَ السُّلْطَانُ، فَإِنَّ الْحَاكِمَ يَأْمُرُهُ أَنْ يُوَكِّلَ مَنْ يُخَاصِمَ عَنْهُ وَيَسْمَعُ الدَّعْوَى، وَيُعْذِرُ إلَيْهِ، فَإِنْ امْتَنَعَ مِنْ التَّوْكِيلِ حَكَمَ عَلَيْهِ بَعْدَ أَنْ يُعْذِرَ إلَيْهِ مِنْ الْمُقْنِعِ لِابْنِ بَطَّالٍ.

.فَصْلٌ فِي بَيَانِ الْمَوَاضِعِ الَّتِي تَجِبُ فِيهَا إجَابَةُ الْحَاكِمِ:

وَمِنْهَا: إنْ دُعِيَ مِنْ مَسَافَةِ الْقَصْرِ فَمَا دُونَهَا وَجَبَتْ عَلَيْهِ الْإِجَابَةُ؛ لِأَنَّهَا لَا تَتِمُّ مَصَالِحُ الْأَحْكَامِ، وَإِنْصَافُ الْمَظْلُومِينَ مِنْ الظَّالِمِينَ إلَّا بِذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ أَبْعَدَ مِنْ الْمَسَافَةِ فَلَا تَجِبُ الْإِجَابَةُ. وَمِنْهَا: أَنْ يَدْعُوَهُ الْخَصْمُ إلَى حَقٍّ مُخْتَلَفٍ فِي ثُبُوتِهِ، وَخَصْمُهُ يَعْتَقِدُ ثُبُوتَهُ فَتَجِبُ الْإِجَابَةُ؛ لِأَنَّهَا دَعْوَى حَقٍّ، وَإِنْ اعْتَقَدَ عَدَمَ ثُبُوتِهِ لَمْ تَجِبْ؛ لِأَنَّهُ مُبْطِلٌ وَإِنْ دَعَاهُ الْحَاكِمُ وَجَبَتْ الْإِجَابَةُ لَهُ؛ لِأَنَّ الْمَحَلَّ قَابِلٌ لِلْحُكْمِ وَالتَّصَرُّفِ وَالِاجْتِهَادِ. وَمِنْهَا: النَّفَقَاتُ، فَيَجِبُ الْحُضُورُ فِيهَا عِنْدَ الْحَاكِمِ لِتَقْدِيرِهَا إنْ كَانَتْ لِلْأَقَارِبِ، وَإِنْ كَانَتْ لِلزَّوْجَةِ أَوْ لِلرَّقِيقِ فَهُوَ مُخَيَّرٌ بَيْنَ إبَانَةِ الزَّوْجَةِ وَعِتْقِ الرَّقِيقِ وَبَيْنَ الْإِجَابَةِ. وَمِنْهَا: الْفُسُوخُ الْمَوْقُوفَةُ عَلَى الْحُكَّامِ.

.فَصْلٌ فِي بَيَانِ مَا لَا تَجِبُ فِيهِ الْإِجَابَةُ:

وَفِيمَا هُوَ مُخَيَّرٌ بَيْنَ الْإِجَابَةِ وَعَدَمِهَا فَمِنْهَا: إذَا دَعَاهُ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ عَلَيْهِ حَقٌّ لَمْ تَجِبْ الْإِجَابَةُ، أَوْ لَهُ عَلَيْهِ حَقٌّ وَلَكِنْ لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى الْحَاكِمِ فَلَا تَجِبُ الْإِجَابَةُ، فَإِنْ كَانَ قَادِرًا عَلَى أَدَائِهِ لَزِمَهُ أَدَاؤُهُ وَلَا يَذْهَبُ إلَيْهِ. وَمِنْهَا: مَتَى عَلِمَ الْخَصْمُ إعْسَارَ خَصْمِهِ حَرُمَ عَلَيْهِ طَلَبُهُ وَدَعْوَاهُ إلَى الْحَاكِمِ. وَمِنْهَا: إذَا ادَّعَاهُ خَصْمُهُ وَعَلِمَ أَنَّهُ يَحْكُمُ عَلَيْهِ بِجَوْرٍ لَمْ تَجِبْ الْإِجَابَةُ وَتَحْرُمُ الْإِجَابَةُ إذَا كَانَ الْحُكْمُ فِي الدِّمَاءِ وَالْفُرُوجِ وَالْحُدُودِ وَسَائِرِ الْعُقُوبَاتِ الشَّرْعِيَّةِ. وَمِنْهَا: إذَا كَانَ الْحَقُّ مَوْقُوفًا عَلَى الْحَاكِمِ كَتَأْجِيلِ الْعِنِّينِ فَإِنَّ الزَّوْجَ يُخَيَّرُ بَيْنَ الطَّلَاقِ فَلَا تَجِبُ الْإِجَابَةُ، فَلَيْسَ لَهُ الِامْتِنَاعُ مِنْهَا. وَمِنْهَا: الْقِسْمَةُ الْمُتَوَقَّعَةُ عَلَى الْحُكَّامِ فَيُخَيَّرُ الْمَطْلُوبُ بَيْنَ تَمْلِيكِ حِصَّتِهِ لِغَرِيمِهِ وَبَيْنَ الْإِجَابَةِ، وَلَيْسَ لَهُ الِامْتِنَاعُ مِنْهَا، وَقَدْ تَقَدَّمَ مَا فِي نَفَقَةِ الزَّوْجِ وَالرَّقِيقِ.
تَنْبِيهٌ:
مَتَى طُولِبَ بِحَقٍّ عَلَيْهِ أَدَاؤُهُ عَلَى الْفَوْرِ كَرَدِّ الْمَغْصُوبِ فَلَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَقُولَ لِخَصْمِهِ لَا أَدْفَعُهُ لَك إلَّا بِالْحُكْمِ. لِأَنَّ الْمَطْلَ ظُلْمٌ، وَالْوُقُوفَ عَلَى الْحُكَّامِ صَعْبٌ مِنْ (الْقَوَاعِدِ لِلْقَرَافِيِّ) رَحِمَهُ اللَّهُ فِي الْفَرْقِ الْخَامِسِ وَالثَّلَاثِينَ وَالْمِائَتَيْنِ.

.الْبَابُ الثَّالِثُ وَالْعِشْرُونَ فِي الْقَضَاءِ بِالتَّحَالُفِ مِنْ الْجِهَتَيْنِ:

وَذَلِكَ بِأَنْ يَتَحَالَفَا وَيَقْسِمَ الْمُدَّعَى فِيهِ بَيْنَهُمَا، فَيَقْضِيَ لِكُلٍّ مِنْهُمَا بِيَمِينِهِ، أَوْ يَحْكُمَ بِالْفَسْخِ بَيْنَهُمَا فَيَفْسَخَ عَنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَا لَزِمَهُ بِمُوجِبِ الْعَقْدِ بِيَمِينِهِ، وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ تَدْخُلُ فِي أَبْوَابٍ كَثِيرَةٍ. مِنْهَا: اخْتِلَافُ الْمُتَبَايِعَيْنِ وَاخْتِلَافُهُمَا يَرْجِعُ إلَى ثَمَانِيَةَ عَشَرَ نَوْعًا يَقَعُ التَّحَالُفُ مِنْهُمَا فِي أَحَدَ عَشَرَ نَوْعًا، وَالْأَصْلُ فِي ذَلِكَ الْحَدِيثُ: «إذَا اخْتَلَفَ الْمُتَبَايِعَانِ تَحَالَفَا وَتَفَاسَخَا».
النَّوْعُ الْأَوَّلُ: أَنْ يَخْتَلِفَا فِي جِنْسِ الثَّمَنِ فَيَقُولُ أَحَدُهُمَا دَنَانِيرُ وَيَقُولُ الْآخَرُ ثَوْبٌ، فَإِنَّهُمَا يَتَحَالَفَانِ وَيَتَفَاسَخَانِ إذْ لَيْسَ تَصْدِيقُ أَحَدِهِمَا بِأَوْلَى مِنْ الْآخَرِ، وَيَرُدُّ الْمُبْتَاعُ قِيمَةَ السِّلْعَةِ عِنْدَ الْفَوَاتِ.
وَفِي مُفِيدِ الْحُكَّامِ الْقَوْلُ قَوْلُ مُدَّعِي الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ بِالنَّقْدِ مَعَ يَمِينِهِ وَعَلَى الْآخَرِ الْبَيِّنَةُ؛ لِأَنَّ الدَّرَاهِمَ هِيَ الْأَثْمَانُ وَبِهَا يَقَعُ الْبَيْعُ.
الثَّانِي: أَنْ يَخْتَلِفَا فِي نَوْعِ الْمُثَمَّنِ فَيَقُولُ أَحَدُهُمَا: هُوَ قَمْحٌ وَيَقُولُ الْآخَرُ هُوَ شَعِيرٌ، فَأَنَّهُمَا يَتَحَالَفَانِ وَيَتَفَاسَخَانِ.
الثَّالِثُ: أَنْ يَخْتَلِفَا فِي مِقْدَارِ الثَّمَنِ فَيَقُولُ أَحَدُهُمَا بِعِشْرِينَ وَيَقُولُ الْآخَرُ بِعَشَرَةٍ، وَلَا خِلَافَ أَنَّهُمَا يَتَحَالَفَانِ وَيَتَفَاسَخَانِ مَا لَمْ يَقْبِضْ الْمُشْتَرِي السِّلْعَةَ، إذْ لَا مَزِيَّةَ لِأَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ، وَإِذَا تَرَجَّحَتْ دَعْوَى الْمُشْتَرِي بِقَبْضِ السِّلْعَةِ فَفِيهَا أَرْبَعُ رِوَايَاتٍ. أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْمُشْتَرِيَ يُصَدَّقُ فِي الثَّمَنِ مَعَ يَمِينِهِ لِقُوَّةِ الْيَدِ.
الثَّانِيَةُ: أَنَّهُمَا يَتَحَالَفَانِ وَيَتَفَاسَخَانِ وَإِنْ قَبَضَهَا مَا لَمْ يَبْنِ بِهَا فَيُصَدَّقُ حِينَئِذٍ لِلْبَيْنُونَةِ، وَالرِّوَايَتَانِ لِابْنِ وَهْبٍ.
الثَّالِثَةُ: أَنَّهُمَا يَتَحَالَفَانِ وَيَتَفَاسَخَانِ، وَإِنْ قَبَضَهَا وَبَانَ بِهَا مَا لَمْ تَفُتْ بِتَغَيُّرِ سُوقٍ أَوْ بَدَنٍ فَيَكُونُ الْقَوْلُ قَوْلَ الْمُشْتَرِي وَهِيَ رِوَايَةُ ابْنِ الْقَاسِمِ فِي الْمُدَوَّنَةِ وَبِهَا آخُذُ.
الرَّابِعَةُ: أَنَّهُمَا يَتَحَالَفَانِ وَيَتَفَاسَخَانِ، وَإِنْ فَاتَتْ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي، وَيَرُدُّ الْقِيمَةَ بَدَلَ الْعَيْنِ وَهِيَ رِوَايَةُ أَشْهَبَ، وَبِهَا آخُذُ.
وَقَالَ الْمَازِرِيُّ: وَبِهَذِهِ الرِّوَايَةِ كَانَ يُفْتِي شَيْخُنَا، وَأَنَا أُفْتِي بِهِ أَيْضًا، قَالَ ابْنُ رَاشِدٍ: وَإِنَّمَا يَرُدُّ الْقِيمَةَ مَا لَمْ تَكُنْ أَقَلَّ أَوْ أَكْثَرَ.
فَرْعٌ:
وَحَيْثُ قُلْنَا يَتَحَالَفَانِ فَالْبُدَاءَةُ بِالْبَائِعِ، وَقِيلَ بِالْمُشْتَرِي، وَقِيلَ يُقْرَعُ بَيْنَهُمَا فَلَوْ تَنَاكَلَا فَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ يُفْسَخُ، كَمَا إذَا تَحَالَفَا وَقَالَ ابْنُ حَبِيبٍ يَمْضِي الْعَقْدُ بِمَا قَالَ الْبَائِعُ، وَإِذَا فَرَّعْنَا عَلَى قَوْلِ ابْنِ الْقَاسِمِ فَهَلْ لِأَحَدِهِمَا أَنْ يُلْزِمَ صَاحِبَهُ الْبَيْعَ بِمَا ذَكَرَ قَوْلًا، وَإِذَا قُلْنَا بِقَوْلِ ابْنِ حَبِيبٍ فَهَلْ يُفْتَقَرُ إلَى يَمِينٍ أَمْ لَا قَوْلَانِ.
فَرْعٌ:
وَهَلْ يُفْسَخُ الْبَيْعُ بِتَمَامِ التَّحَالُفِ أَوْ يُفْتَقَرُ إلَى الْحُكْمِ قَوْلَانِ.
الْأَوَّلُ: قَوْلُ سَحْنُونٍ.
الثَّانِي: لِابْنِ الْقَاسِمِ وَابْنِ عَبْدِ الْحَكَمِ وَثَمَرَةُ الْخِلَافِ أَنْ يَرْضَى أَحَدُهُمَا بِقَوْلِ الْآخَرِ فَعَلَى قَوْلِ ابْنِ الْقَاسِمِ لَهُ ذَلِكَ، وَعَلَى قَوْلِ سَحْنُونٍ لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ.
وَقَالَ بَعْضُ الْقَرَوِيِّينَ إنْ تَحَالَفَا بِأَمْرِ الْقَاضِي فلابد مِنْ الْحُكْمِ وَإِلَّا انْفَسَخَ بِتَمَامِ التَّحَالُفِ.
الرَّابِعُ: إذَا اخْتَلَفَا فِي تَعْجِيلِ الثَّمَنِ وَتَأْجِيلِهِ فَقَالَ الْبَائِعُ بِعْت بِنَقْدٍ، وَقَالَ الْمُشْتَرِي بِنَسِيئَةٍ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ مَنْ ادَّعَى الْعُرْفَ مَعَ يَمِينِهِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِتِلْكَ السِّلْعَةِ عُرْفٌ فَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: يَتَحَالَفَانِ وَيَتَفَاسَخَانِ.
وَقَالَ ابْنُ وَهْبٍ: إنْ كَانَتْ السِّلْعَةُ بِيَدِ الْبَائِعِ فَهُوَ مُصَدَّقٌ مَعَ يَمِينِهِ، وَإِنْ قَبَضَهَا الْمُبْتَاعُ صَدَقَ مَعَ يَمِينِهِ وَإِنْ ادَّعَى مَا يُشْبِهُ، وَقِيلَ إنْ ادَّعَى الْمُبْتَاعُ أَجَلًا قَرِيبًا يَتَحَالَفَا وَيَتَفَاسَخَا إنْ كَانَتْ السِّلْعَةُ قَائِمَةً، وَيَكُونُ الْقَوْلُ قَوْلَ الْمُشْتَرِي مَعَ الْفَوَاتِ، وَإِنْ ادَّعَى أَجَلًا بَعِيدًا فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْبَائِعِ.
فَرْعٌ:
وَإِنْ اتَّفَقَا عَلَى الْأَجَلِ وَاخْتَلَفَا فِي قَدْرِهِ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُبْتَاعِ مَعَ الْفَوَاتِ، وَيَتَحَالَفَانِ وَيَتَفَاسَخَانِ إنْ كَانَتْ السِّلْعَةُ قَائِمَةً، وَإِنْ اتَّفَقَا عَلَى الْأَجَلِ وَاخْتَلَفَا فِي انْقِضَائِهِ، وَالْأَصْلُ عَدَمُ الِانْقِضَاءِ، فَيَكُونُ الْقَوْلُ قَوْلَ مُدَّعِيهِ مَعَ يَمِينِهِ.
الْخَامِسُ: إذَا اخْتَلَفَا فِي الْخِيَارِ وَالْبَتِّ، فَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: الْقَوْلُ قَوْلُ مُدَّعِي الْبَتِّ مَعَ يَمِينِهِ.
وَقَالَ أَشْهَبُ: قَوْلُ مُدَّعِي الْخِيَارِ، وَقِيلَ يَجْرِي فِيهِ الْخِلَافُ الَّذِي تَقَدَّمَ فِي اخْتِلَافِهِمَا فِي مِقْدَارِ الثَّمَنِ، فَإِنْ ادَّعَى كُلُّ وَاحِدٍ أَنَّهُ اشْتَرَطَ الْخِيَارَ لِنَفْسِهِ دُونَ الْآخَرِ فَاخْتُلِفَ هَلْ يَتَحَالَفَانِ وَيَتَفَاسَخَانِ أَوْ يَتَحَالَفَانِ وَيَثْبُتُ الْبَيْعُ قَوْلَانِ لِابْنِ الْقَاسِمِ.
السَّادِسُ: اخْتِلَافُهُمَا فِي الرَّهْنِ وَالْحَمِيلِ وَذَلِكَ كَاخْتِلَافِهِمَا فِي قَدْرِ الثَّمَنِ؛ لِأَنَّ الثَّمَنَ يَزِيدُ مَعَ فَقْدِهِمَا وَيَنْقُصُ مَعَ وُجُودِهِمَا.
السَّابِعُ: إذَا اخْتَلَفَا فِي عَيْنِ الْمَبِيعِ فَلَا يَخْلُو أَنْ يَخْتَلِفَا فِي ذَلِكَ قَبْلَ الْقَبْضِ أَوْ بَعْدَهُ، فَإِنْ اخْتَلَفَا فِيهِ قَبْلَ الْقَبْضِ فَقَالَ الْبَائِعُ بِعْت مِنْك هَذَا الثَّوْبَ، وَقَالَ الْمُبْتَاعُ بَلْ هَذَا، تَحَالَفَا وَتَفَاسَخَا، وَإِنْ اخْتَلَفَا فِيهِ بَعْدَ الْقَبْضِ عِنْدَ الْحَاكِمِ بِالرَّدِّ فَالْقَوْلُ فِي ذَلِكَ قَوْلُ الْبَائِعِ مَعَ يَمِينِهِ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ رَدَدْته عَلَيْك بَعْدَ التَّحَالُفِ وَالتَّفَاسُخِ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ أَنَّهُ مِنْ ضَمَانِ الْمُبْتَاعِ، فَلَا يَزَالُ فِي ضَمَانِهِ حَتَّى يُقِرَّ لَهُ الْبَائِعُ بِالْقَبْضِ لَوْ تَقُومُ لَهُ الْبَيِّنَةُ.
الثَّامِنُ: إذَا اخْتَلَفَا فِي قَدْرِ الْمَثْمُون فِي بَيْعِ النَّقْدِ فَفِيهِ الْأَقْوَالُ الْمُتَقَدِّمَةُ فِي اخْتِلَافِهِمَا فِي قَدْرِ الثَّمَنِ ذَكَرَهُ الْمَازِرِيُّ.
التَّاسِعُ: إذَا اخْتَلَفَا فِي قَدْرِ الْمُسَلَّمِ فِيهِ فَحَكَى ابْنُ يُونُسَ عَنْ ابْنِ الْمَوَّازِ أَنَّهُمَا إذَا اخْتَلَفَا فِي الْقَدْرِ بِالْقُرْبِ مِنْ عَقْدِ السَّلَمِ تَحَالَفَا وَتَفَاسَخَا، وَإِنْ اخْتَلَفَا فِي ذَلِكَ عِنْدَ حُلُولِ الْأَجَلِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُسَلِّمِ إلَيْهِ مَعَ يَمِينِهِ إنْ أَتَى بِمَا يُشْبِهُ، وَإِنْ أَتَى بِمَا لَا يُشْبِهُ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُسَلِّمِ فِيمَا يُشْبِهُ. قَالَ مُحَمَّدٌ: فَإِنْ أَتَيَا بِمَا لَا يُشْبِهُ حَمْلًا عَلَى الْوَسَطِ مِمَّا يُشْبِهُ مَنْ سَلَمِ النَّاسِ.
الْعَاشِرُ: إذَا اخْتَلَفَا فِي الْجَوْدَةِ فَقَالَ رَبُّ السَّلَمِ سَمْرَاءُ، وَقَالَ الْمُسَلَّمُ إلَيْهِ مَحْمُولَةٌ، فَقَالَ ابْنُ حَبِيبٍ: الْقَوْلُ قَوْلُ الْمُسَلَّمِ إلَيْهِ، وَقَالَ فَضْلُ بْنُ سَلَمَةَ: يَتَحَالَفَانِ وَيَتَفَاسَخَانِ.
الْحَادِيَ عَشَرَ: إذَا اخْتَلَفَا فِي مَوْضِعِ الْقَضَاءِ صُدِّقَ مُدَّعِي مَوْضِعِ الْعَقْدِ، فَإِنْ لَمْ يَدَّعِهِ وَاحِدٌ مِنْهُمَا فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُسَلَّمِ إلَيْهِ، فَإِنْ تَبَاعَدَ قَوْلُهُمَا وَأَتَيَا بِمَا لَا يُشْبِهُ تَحَالَفَا وَتَفَاسَخَا، وَذَلِكَ إذَا تَبَاعَدَتْ الْمَوَاضِعُ جِدًّا حَتَّى لَا يُشْبِهَ قَوْلَ وَاحِدٍ مِنْهُمَا.

.فَصْلٌ وَالتَّحَالُفُ وَالتَّفَاسُخُ يَجْرِي فِي النِّكَاحِ:

إذَا اخْتَلَفَ الزَّوْجَانِ فِي نَوْعِ الصَّدَاقِ أَوْ عَدَدِهِ قَبْلَ الْبِنَاءِ مِنْ غَيْرِ مَوْتٍ وَلَا طَلَاقٍ، فَإِنَّهُمَا يَتَحَالَفَانِ وَيَتَفَاسَخَانِ، وَقَالَ ابْنُ حَبِيبٍ: إذَا تَنَازَعَا فِي ذَلِكَ بَعْدَ الْبِنَاءِ تَحَالَفَا وَوَجَبَ صَدَاقُ الْمِثْلِ.

.فَصْلٌ تَنَازَعَا دَارًا لَيْسَتْ فِي أَيْدِيهِمَا:

فَصْلٌ. وَإِذَا تَنَازَعَا دَارًا لَيْسَتْ فِي أَيْدِيهِمَا قُسِمَتْ بَيْنَهُمَا بَعْدَ أَيْمَانِهِمَا.

.فَصْلٌ اخْتَلَفَ الْمُتَكَارَيَانِ فِي مِقْدَارِ الْأُجْرَةِ:

فَصْلٌ. وَإِذَا اخْتَلَفَ الْمُتَكَارَيَانِ فِي الدُّورِ وَالْأَرْضِينَ وَالدَّوَابِّ فِي مِقْدَارِ الْأُجْرَةِ أَوْ جِنْسِهَا أَوْ مُدَّةِ الْإِجَارَةِ، فَالْحُكْمُ فِي ذَلِكَ كَاخْتِلَافِ الْمُتَبَايِعَيْنِ فِي التَّحَالُفِ وَالتَّفَاسُخِ.

.فَصْلٌ اخْتَلَفَ رَبُّ الْحَائِطِ وَالْعَامِلِ فِي الْمُسَاقَاةِ فِي غِلْمَانِ الْحَائِطِ وَالدَّوَابِّ:

فَصْلٌ. وَإِذَا اخْتَلَفَ رَبُّ الْحَائِطِ وَالْعَامِلِ فِي الْمُسَاقَاةِ فِي غِلْمَانِ الْحَائِطِ وَالدَّوَابِّ، فَقَالَ الْعَامِلُ: كَانُوا فِيهِ وَأَنْكَرَ رَبُّ الْحَائِطِ، فَإِنَّهُمَا يَتَحَالَفَانِ وَيَتَفَاسَخَانِ، وَكَذَلِكَ إذَا اخْتَلَفَا فِي جُزْءِ الْمُسَاقَاةِ قَبْلَ الْعَمَلِ تَحَالَفَا وَتَفَاسَخَا.

.فَصْلٌ كَانَ لِرَجُلٍ عَلَى آخَرَ دَيْنَانِ أَحَدُهُمَا بِرَهْنٍ وَالْآخَرُ بِغَيْرِ رَهْنٍ:

فَصْلٌ: وَإِذَا كَانَ لِرَجُلٍ عَلَى آخَرَ دَيْنَانِ أَحَدُهُمَا بِرَهْنٍ وَالْآخَرُ بِغَيْرِ رَهْنٍ فَقَضَاهُ أَحَدَ الْحَقَّيْنِ ثُمَّ اخْتَلَفَا، فَقَالَ رَبُّ الدَّيْنِ هُوَ الَّذِي لَيْسَ فِيهِ رَهْنٌ، وَقَالَ الْمَطْلُوبُ هُوَ الَّذِي فِيهِ الرَّهْنُ، تَحَالَفَا وَقُسِمَ ذَلِكَ بَيْنَ الْحَقَّيْنِ، وَهَذَا إذَا ادَّعَيَا أَنَّهُمَا بَيَّنَا ذَلِكَ عِنْدَ دَفْعِ الْحَقِّ، وَأَمَّا لَوْ دَفَعَهُ الْمَطْلُوبُ وَلَمْ يَذْكُرْ شَيْئًا فَلَمْ يُخْتَلَفَ أَنَّهُ يُقْسَمُ إذَا كَانَا حَالَّيْنِ أَوْ مُؤَجَّلَيْنِ لِاسْتِوَائِهِمَا، وَإِلَّا فَالْقَوْلُ قَوْلُ مَنْ ادَّعَى أَنَّهُ مِنْ الْحَالِّ.

.الْبَابُ الرَّابِعُ وَالْعِشْرُونَ فِي الْقَضَاءِ بِالْيَدِ وَالتَّرْجِيحِ بِهَا وَبِالْبَيِّنَاتِ:

وَإِذَا تَدَاعَى رَجُلَانِ شَيْئًا، فَإِنْ كَانَتْ الدَّعْوَى مُتَسَاوِيَةً مِثْلَ أَنْ يَدَّعِيَ كُلُّ وَاحِدٍ جَمِيعَهُ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي أَيْدِيهِمَا وَلَكِنْ فِي يَدِ مَنْ لَا يَدَّعِيهِ لِنَفْسِهِ لَمْ يُحْكَمْ بِهِ لِأَحَدِهِمَا إلَّا بِبَيِّنَةٍ، فَإِنْ أَقَامَ أَحَدُهُمَا بَيِّنَةً بِهِ حُكِمَ لَهُ بِهِ، فَإِنْ أَقَامَ الْآخَرُ بَيِّنَةً نُظِرَ إلَى أَعْدَلِ الْبَيِّنَتَيْنِ فَحُكِمَ بِهَا، فَإِنْ تَسَاوَيَا فِي الْعَدَالَةِ عُرِضَتْ الْيَمِينُ عَلَيْهِمَا فَإِنْ نَكَلَ أَحَدُهُمَا حُكِمَ بِهِ لِلْحَالِفِ، فَإِنْ حَلَفَا قَسَمَهُمْ بَيْنَهُمَا، وَإِنْ نَكَلَا تُرِكَا عَلَى مَا كَانَا عَلَيْهِ.
وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ الشَّيْءُ فِي أَيْدِيهِمَا فَالْحُكْمُ فِيهِ، مِثْلَ مَا لَوْ لَمْ يَكُنْ فِي أَيْدِيهِمَا سَوَاءٌ، حَيْثُ قُلْنَا يُقْسَمُ فَإِنْ كَانَ فِي يَدِ غَيْرِهِمَا فَإِنَّهُ يُقْسَمُ عَلَى قَدْرِ الدَّعَاوَى، فَإِنْ كَانَ بِأَيْدِيهِمَا فَقِيلَ يُقْسَمُ عَلَى قَدْرِ الدَّعَاوَى، وَقِيلَ يُقْسَمُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ لِتَسَاوِيهِمَا فِي الْحِيَازَةِ، إلَّا أَنْ يُسْلِمَ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ بَعْدَ حِيَازَتِهِ.
وَإِذَا فَرَّعْنَا عَلَى الْقَوْلِ بِالْقِسْمَةِ عَلَى قَدْرِ الدَّعَاوَى فَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي كَيْفِيَّةِ ذَلِكَ، فَرَوَى ابْنُ حَبِيبٍ عَنْ مَالِكٍ أَنَّ جَمِيعَهُ يُقْسَمُ عَلَى قَدْرِ الدَّعَاوَى، وَإِنْ اخْتَلَفَتْ الْحِصَصُ الْمُدَّعَى بِهَا كَعَوْلِ الْفَرَائِضِ، وَبِهِ قَالَ مُطَرِّفٌ وَابْنُ كِنَانَةَ وَابْنُ وَهْبٍ وَأَشْهَبُ وَأَصْبَغُ.
وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ وَابْنُ الْمَاجِشُونِ: إنْ اخْتَلَفَتْ الدَّعَاوَى فَإِنَّمَا يُقْسَمُ مَا اشْتَرَكُوا فِيهِ فِي الدَّعْوَى، فَيُقْسَمُ بَيْنَهُمْ عَلَى السَّوَاءِ أَمَّا مَا اخْتَصَّ بِهِ أَحَدُهُمَا فَلَا يُقَاسِمُهُ فِيهِ الْآخَرُ.
فَلَوْ تَدَاعَيَا فِي دَارٍ مَثَلًا فَادَّعَى أَحَدُهُمَا جَمِيعَهَا وَادَّعَى الْآخَرُ نِصْفَهَا فَعَلَى قَوْلِ مَالِكٍ وَمَنْ تَابَعَهُ تُقْسَمُ بَيْنَهُمَا أَثْلَاثًا لِمُدَّعِي الْكُلِّ سَهْمَانِ وَلِمُدَّعِي النِّصْفِ سَهْمٌ، وَعَلَى قَوْلِ ابْنِ الْقَاسِمِ وَابْنِ الْمَاجِشُونِ تُقْسَمُ أَرْبَاعًا لِمُدَّعِي الْكُلِّ ثَلَاثَةُ أَسْهُمٍ وَلِمُدَّعِي النِّصْفِ سَهْمٌ، مِنْ ابْنِ رَاشِدٍ.
وَإِنْ كَانَ فِي يَدِ أَحَدِهِمَا وَأَقَامَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بَيِّنَةً وَتَسَاوَيَا فِي الْعَدَالَةِ رُجِّحَ جَانِبُ الَّذِي بِيَدِهِ ذَلِكَ لِكَوْنِهِ حَائِزًا، فَيُحْكَمُ لَهُ بِهِ مَعَ الْيَمِينِ، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِمْ تُقَدَّمُ بَيِّنَةُ الدَّاخِلِ عَلَى بَيِّنَةِ الْخَارِجِ عِنْدَ التَّكَافُؤِ، هَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ.
وَقَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ لَا يَنْتَفِعُ الْحَائِزُ بِبَيِّنَتِهِ وَبَيِّنَةُ الْمُدَّعِي أَوْلَى لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي»، فَخَصَّ الْبَيِّنَةُ بِالْمُدَّعِي.
فَرْعٌ:
فَإِنْ نَكَلَ الْحَائِزُ حَلَفَ الْمُدَّعِي وَحُكِمَ لَهُ بِهِ فَإِنْ نَكَلَ أَقَرَّ عَلَى يَدِهِ مَنْ هُوَ فِي يَدِهِ.
فَرْعٌ:
وَعَلَى الْمَشْهُورِ فَإِنْ كَانَتْ بَيِّنَةُ الْخَارِجِ أَرْجَحَ قُدِّمَتْ؛ لِأَنَّ الْيَدَ لَا اعْتِبَارَ لَهَا مَعَ الْحُجَّةِ الضَّعِيفَةِ، ثُمَّ هَلْ يَحْلِفُ الْخَارِجُ لِأَجْلِ اقْتِرَانِ الْيَدِ وَالْبَيِّنَةِ قَوْلَانِ.
فَرْعٌ:
قَالَ الْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ: وَسَوَاءٌ كَانَتْ الدَّعْوَى فِي مِلْكٍ مُطْلَقٍ غَيْرِ مُضَافٍ إلَى سَبَبٍ أَوْ فِي مِلْكٍ غَيْرِ مُطْلَقٍ وَهُوَ الْمُضَافُ إلَى سَبَبٍ يَتَكَرَّرُ أَوْ لَا يَتَكَرَّرُ، فَالْمُطْلَقُ أَنْ يُقِيمَ بَيِّنَةً بِأَنَّ هَذَا الشَّيْءَ لَهُ مِلْكًا مُطْلَقًا، وَغَيْرُ الْمُطْلَقِ هُوَ الْمُضَافُ إلَى سَبَبٍ، وَهُوَ أَنْ يُبَيِّنَ سَبَبَ الْمِلْكِ، مِثْلُ أَنْ يُقِيمَ بَيِّنَةً بِأَنَّ هَذَا الْعَبْدَ مِلْكُهُ وُلِدَ فِي مِلْكِهِ، وَأَنَّ هَذِهِ الدَّابَّةَ نُتِجَتْ فِي مِلْكِهِ، وَأَنَّ هَذَا الثَّوْبَ مِلْكُهُ نُسِجَ فِي مِلْكِهِ.
ثُمَّ هَذَا السَّبَبُ عَلَى ضَرْبَيْنِ مِنْهُ مَا يُمْكِنُ أَنْ يَتَكَرَّرَ فِي الْمِلْكِ مِثْلُ الْغِرَاسِ إذَا قَالَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا: غَرَسْته فِي مِلْكِي، فَهَذَا يُمْكِنُ أَنْ يَتَكَرَّرَ بِأَنْ يَغْرِسَ دَفْعَتَيْنِ، وَهَكَذَا نَسْجُ الثَّوْبِ الْخَزِّ عَلَى مَا يَقُولُهُ أَهْلُ صَنْعَتِهِ يُمْكِنُ أَنْ يُنْسَجَ دَفْعَتَيْنِ. وَمِنْهُ مَا لَا يُمْكِنُ تَكْرَارُهُ كَالْوِلَادَةِ وَالنِّتَاجِ وَنَسْجِ ثَوْبِ الْقُطْنِ.

.فَصْلٌ تَعَارَضَتْ بَيِّنَتَانِ وَأَمْكَنَ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا:

فَصْلٌ: إذْ تَعَارَضَتْ الْبَيِّنَتَانِ وَأَمْكَنَ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا جُمِعَ، وَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ رُجِعَ إلَى التَّرْجِيحِ إنْ أَمْكَنَ وَالتَّرْجِيحُ يَحْصُلُ بِوُجُوهٍ.
الْأَوَّلُ: الزِّيَادَةُ فِي الْعَدَالَةِ وَالْمَشْهُورُ التَّرْجِيحُ بِذَلِكَ قَالَ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ، وَرُوِيَ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ لَا يُرَجَّحُ بِهَا وَعَلَى الْأَوَّلِ فلابد مِنْ حَلِفِ مَنْ زَادَتْ عَدَالَةُ بَيِّنَتِهِ.
وَفِي الْمَوَّازِيَّةِ لَا يَحْلِفُ بِنَاءً عَلَى أَنَّ زِيَادَةَ الْعَدَالَةِ هَلْ هِيَ بِشَاهِدٍ وَاحِدٍ أَوْ بِشَاهِدَيْنِ مِنْ التَّوْضِيحِ، وَلَا يُرَجَّحُ بِكَثْرَةِ الْعَدَدِ عَلَى الْمَشْهُورِ، وَرَوَى مُطَرِّفٌ وَابْنُ الْمَاجِشُونِ أَنَّهُ يُرَجَّحُ بِكَثْرَةِ الْعَدَدِ عِنْدَ التَّكَافُؤِ فِي الْعَدَالَةِ، إلَّا أَنْ يَكْثُرُوا كَثْرَةً يُكْتَفَى بِهِمْ فِيمَا يُرَادُ مِنْ الِاسْتِظْهَارِ وَالْآخَرُونَ كَثِيرُونَ جِدًّا، فَلَا تُرَاعَى الْكَثْرَةُ حِينَئِذٍ، وَإِنَّمَا يَقَعُ التَّرْجِيحُ بِمَزِيَّةِ الْعَدَالَةِ دُونَ مَزِيَّةِ الْعَدَدِ.
تَنْبِيهٌ:
قَالَ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ: مَنْ رَجَّحَ بِزِيَادَةِ الْعَدَدِ لَمْ يَقُلْ بِهِ كَيْفَمَا اُتُّفِقَ، وَإِنَّمَا اعْتَبَرَهُ مَعَ قَيْدِ الْعَدَالَةِ الثَّانِي: قُوَّةُ الْحُجَّةِ، فَيُقَدَّمُ الشَّاهِدَانِ عَلَى الشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ، وَعَلَى الشَّاهِدِ وَالْمَرْأَتَيْنِ إذَا اسْتَوَوْا فِي الْعَدَالَةِ، قَالَهُ أَشْهَبُ.
وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: لَا يُقَدَّمَانِ، ثُمَّ رَجَعَ ابْنُ الْقَاسِمِ لِقَوْلِ أَشْهَبَ، قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: وَلَوْ كَانَ الشَّاهِدُ أَعْدَلَ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حُكِمَ بِهِ مَعَ الْيَمِينِ وَقُدِّمَ عَلَى الشَّاهِدَيْنِ.
وَقَالَ ابْنُ الْمَاجِشُونِ وَمُطَرِّفٌ لَا يُقَدَّمُ، وَلَوْ كَانَ أَعْدَلَ أَهْلِ زَمَانِهِ، وَهُوَ أَقْيَسُ؛ لِأَنَّ بَعْضَ أَهْلِ الْمَذْهَبِ لَا يَرَى الْيَمِينَ مَعَ الشَّاهِدِ.
الثَّالِثِ: اشْتِمَالُ إحْدَى الْبَيِّنَتَيْنِ عَلَى زِيَادَةِ تَارِيخِ الْمُتَقَدِّمِ أَوْ سَبَبِ مِلْكٍ مُرَجَّحٍ، مِثْلَ أَنْ تَشْهَدَ بَيِّنَةٌ أَنَّهُ مَلَكَهُ مُنْذُ سَنَةٍ وَتَشْهَدُ الْأُخْرَى لِلْآخَرِ أَنَّهُ مَلَكَهُ مُنْذُ سَنَتَيْنِ، فَتُقَدَّمُ السَّابِقَةُ. وَأَمَّا سَبَبُ الْمِلْكِ فَمِثْلَ أَنْ تَذْكُرَ إحْدَى الْبَيِّنَتَيْنِ سَبَبَ الْمِلْكِ مِنْ نِتَاجٍ أَوْ زِرَاعَةٍ وَتَكُونَ شَهَادَةُ الْبَيِّنَةِ الْأُخْرَى مُطْلَقَةً لَا تَذْكُرُ سِوَى مُجَرَّدِ الْمِلْكِ، فَإِنَّهُ يُرَجِّحُ مَنْ ذَكَرَ السَّبَبَ.
تَنْبِيهٌ:
حَكَى الْقَرَافِيُّ فِي كِتَابِ (الْإِحْكَامِ فِي تَمْيِيزِ الْفَتَاوَى عَنْ الْأَحْكَامِ) فِي السُّؤَالِ السَّابِعِ وَالثَّلَاثِينَ: أَنَّ مَذْهَبَ الْمَالِكِيَّةِ أَنَّهُ لَا يُحْكَمُ بِأَعْدَلِ الْبَيِّنَتَيْنِ عِنْدَ التَّعَارُضِ إلَّا فِي الْأَمْوَالِ خَاصَّةً.
فَرْعٌ:
إذَا شَهِدَتْ بَيِّنَةٌ بِمِلْكِيَّتِهِ بِالْأَمْسِ مَثَلًا، وَلَمْ تَتَعَرَّضْ لِلْحَالِ لَمْ تُسْمَعْ، حَتَّى يَقُولُوا: وَلَمْ تَخْرُجْ عَنْ مِلْكِهِ فِي عِلْمِهِمْ.
وَفِي الْمُدَوَّنَةِ فِي كِتَابِ الْعَارِيَّةِ، وَإِنْ شَهِدُوا أَنَّ الدَّارَ لَهُ وَلَمْ يَقُولُوا لَا نَعْلَمُ أَنَّهُ بَاعَ وَلَا وَهَبَ فَإِنَّهُ يَحْلِفُ عَلَى الْبَتِّ لَا بَاعَ وَلَا وَهَبَ، وَلَا تَصَدَّقَ وَيُقْضَى لَهُ.
وَقَالَ أَشْهَبُ مِثْلَهُ إنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى سُؤَالِهِمْ، وَإِنْ وُجِدُوا سُئِلُوا.
وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: فَإِنْ أَبَوْا أَنْ يَقُولُوا مَا عَلِمُوهُ بَاعَ وَلَا وَهَبَ وَلَا تَصَدَّقَ فَشَهَادَتُهُمْ بَاطِلَةٌ. اُنْظُرْ تَمَامَ الْمَسْأَلَةِ فِي ابْنِ عَبْدِ السَّلَامِ.
فَرْعٌ:
وَإِذَا شَهِدَتْ بَيِّنَةٌ لِرَجُلٍ بِأَنَّ فُلَانًا أَقَرَّ لِخَصْمِهِ مُنْذُ كَذَا بِهَذَا الشَّيْءِ الْمُتَنَازَعِ فِيهِ فَإِنَّهُ يُقْضَى لِلشُّهُودِ بِهِ، وَيُكْتَفَى بِهَذِهِ الشَّهَادَةِ، وَإِنْ لَمْ تَقُلْ الشُّهُودُ وَلَا نَعْلَمُ خُرُوجَ ذَلِكَ عَنْ مِلْكِهِ إلَى الْآنِ؛ لِأَنَّ حُكْمَ الْإِقْرَارِ مُسْتَصْحَبٌ، فَعَلَيْهِ بَيَانُ صِحَّةِ مَا يَدَّعِيهِ بَعْدَ ذَلِكَ بِشِرَاءٍ مِنْ الشُّهُودِ لَهُ أَوْ بِغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَسْبَابِ الْإِمْلَاكِ.
فَرْعٌ:
وَكَذَا لَوْ قَالَ أَحَدُ الْخَصْمَيْنِ كَانَ هَذَا الشَّيْءُ الْمُتَنَازَعُ فِيهِ مِلْكًا بِالْأَمْسِ لِخَصْمِي، فَذَلِكَ إقْرَارٌ مِنْهُ لِخَصْمِهِ، فَيُحْكَمُ عَلَيْهِ بِإِقْرَارِهِ وَيُسْتَصْحَبُ حُكْمُ الْإِقْرَارِ كَالْفَرْعِ السَّابِقِ.
فَرْعٌ:
وَكَذَلِكَ لَوْ شَهِدَ شَاهِدَانِ أَنَّ أَحَدَ الْخَصْمَيْنِ اشْتَرَاهُ مِنْ الْآخَرِ فَقَدْ حَصَلَ زَوَالُ مِلْكِ الْبَائِعِ عَنْ الْمَبِيعِ.
فَرْعٌ:
لَوْ شَهِدَ شَاهِدَانِ أَنَّهُ كَانَ فِي يَدِ الْمُدَّعِي أَمْسِ لَمْ يَأْخُذْهُ مَنْ شَهِدَ لَهُ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّ كَوْنَهُ فِي يَدِهِ لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ مِلْكُهُ وَلَا أَنَّهُ مُسْتَحِقٌّ لَهُ بِوَضْعِ يَدِهِ عَلَيْهِ.
فَرْعٌ:
وَلَوْ شَهِدَ شَاهِدَانِ أَنَّ أَحَدَ الْخَصْمَيْنِ غَلَبَ الْآخَرَ عَلَى مَا فِي يَدَيْهِ، فَإِنَّهُ يُحْكَمُ عَلَى هَذَا الْغَالِبِ بِأَنْ يَرُدَّهُ إلَى الْمَغْلُوبِ عَلَيْهِ، وَيَكُونُ هَذَا الْمَرْدُودُ إلَيْهِ صَاحِبَ يَدٍ، وَهُوَ أَعَمُّ مِنْ الْمِلْكِ وَلَا يَشْهَدُونَ بِأَنَّهُ مِلْكٌ.
فَرْعٌ:
وَلَوْ شَهِدَتْ إحْدَاهُمَا بِالْمِلْكِ وَشَهِدَتْ الْأُخْرَى بِالْحَوْزِ، قُدِّمَتْ بَيِّنَةُ الْمِلْكِ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ أَقْوَى، وَالْحَوْزُ قَدْ يَكُونُ لِغَيْرِ مِلْكٍ فَيُقْضَى بِبَيِّنَةِ الْمِلْكِ، وَإِنْ كَانَ تَارِيخُ الْحَوْزِ مُتَقَدِّمًا.
فَرْعٌ:
وَتُقَدَّمُ الْبَيِّنَةُ النَّاقِلَةُ عَلَى الْمُسْتَصْحَبَةِ وَمِثَالُهَا أَنْ تَشْهَدَ بَيِّنَةُ الْمِلْكِ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ أَقْوَى، وَالْحَوْزُ قَدْ يَكُونُ لِغَيْرِ مِلْكٍ فَيُقْضَى بِبَيِّنَةِ الْمِلْكِ، وَإِنْ كَانَ تَارِيخُ الْحَوْزِ مُتَقَدِّمًا.
فَرْعٌ:
وَتُقَدَّمُ الْبَيِّنَةُ النَّاقِلَةُ عَلَى الْمُسْتَصْحَبَةِ وَمِثَالُهَا أَنْ تَشْهَدَ بَيِّنَةٌ أَنَّ هَذِهِ الدَّارَ لِزَيْدٍ بَنَاهَا مُنْذُ مُدَّةٍ، وَلَا يَعْلَمُونَهَا خَرَجَتْ عَنْ مِلْكِهِ إلَى الْآنِ، وَتَشْهَدُ الْبَيِّنَةُ الْأُخْرَى أَنَّ هَذَا اشْتَرَاهَا مِنْهُ بَعْدَ ذَلِكَ فَالْبَيِّنَةُ النَّاقِلَةُ عَلِمَتْ وَالْمُسْتَصْحَبَةُ لَمْ تَعْلَمْ، فَلَا تَعَارُضَ بَيْنَ الشَّهَادَتَيْنِ.

.فَصْلٌ لَمْ يُمْكِنْ التَّرْجِيحُ بَيْنَ بَيِّنَتَيْنِ مُتَعَرِّضَتَيْنِ:

فَصْلٌ: وَإِذَا لَمْ يُمْكِنْ التَّرْجِيحُ بَيْنَ الْبَيِّنَتَيْنِ سَقَطَتَا وَبَقِيَ الْمُدَّعَى فِيهِ بِيَدِ حَائِزِهِ مَعَ يَمِينِهِ، فَإِنْ كَانَ بِيَدِ غَيْرِهِمَا فَقِيلَ يَبْقَى بِيَدِهِ وَقِيلَ يُقْسَمُ بَيْنَ مُقِيمِي الْبَيِّنَتَيْنِ لِاتِّفَاقِ الْبَيِّنَتَيْنِ عَلَى إسْقَاطِ مِلْكِ الْحَائِزِ وَإِقْرَارِ مَنْ هُوَ بِيَدِهِ لِأَحَدِهِمَا فَيُنَزَّلُ مَنْزِلَةَ الْيَدِ لِلْمُقَرِّ لَهُ.

.الْبَابُ الْخَامِسُ وَالْعِشْرُونَ فِي الْقَضَاءِ بِقَوْلِ الْمُدَّعِي:

لِرُجْحَانِهِ بِالْعَوَائِدِ وَقَرَائِنِ الْأَحْوَالِ أَوْ لِاتِّصَافِهِ بِالْأَمَانَةِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ وُجُوهِ التَّرْجِيحِ وَنَذْكُرُ فِي هَذَا الْبَابِ نُبْذَةً يَسِيرَةً عَلَى وَجْهِ الْمِثَالِ:
مَسْأَلَةٌ:
يُقْبَلُ قَوْلُ الْمَرْأَةِ فِي الْإِصَابَةِ إذَا خَلَا بِهَا خَلْوَةَ اهْتِدَاءٍ. وَيُحْكَمُ عَلَيْهِ بِالصَّدَاقِ، وَإِنْ كَانَ مُنْكِرًا لِلْوَطْءِ؛ لِأَنَّ الْخَلْوَةَ بِهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ يَشْهَدُ الْعُرْفُ وَالْعَادَةُ أَنَّ الرَّجُلَ لَا يُفَارِقُ الْمَرْأَةَ حَتَّى يَصِلَ إلَيْهَا، وَهَلْ يَلْزَمُهَا يَمِينٌ أَمْ لَا قَوْلَانِ، وَفِي خَلْوَةِ الزِّيَارَةِ خِلَافٌ، قِيلَ الْقَوْلُ قَوْلُهَا، قَالَ ابْنُ أَبِي زَيْدٍ: وَهُوَ الْأَشْبَهُ، وَقِيلَ قَوْلُ الزَّائِرِ مِنْهُمَا وَهُوَ الْمَشْهُورُ، وَقِيلَ الْقَوْلُ قَوْلُ الثَّيِّبِ وَيَنْظُرُ النِّسَاءُ الْبِكْرَ.
مَسْأَلَةٌ:
إذَا أَقَرَّ الْوَصِيُّ أَنَّهُ قَبَضَ مِنْ الْغُرَمَاءِ مَا عَلَيْهِمْ وَضَاعَ صُدِّقَ، وَإِنْ لَمْ تَقُمْ لَهُ بَيِّنَةٌ عَلَى الدَّفْعِ لِكَوْنِهِ قَائِمًا مَقَامَ أَبِيهِمْ فِي الشَّفَقَةِ وَالْأَمَانَةِ.
مَسْأَلَةٌ:
وَإِذَا أَقَرَّ الْأَبُ أَنَّهُ قَبَضَ النَّقْدَ مِنْ صَدَاقِ ابْنَتِهِ مِنْ الزَّوْجِ وَادَّعَى تَلَفَهُ، فَرَوَى أَصْبَغُ عَنْ ابْنِ الْقَاسِمِ أَنَّ الْأَبَ مُصَدَّقٌ، وَإِنْ كَانَ قَبَضَهُ بِغَيْرِ مُعَايَنَةِ الْبَيِّنَةِ يَبْرَأُ الزَّوْجُ وَيَدْخُلُ بِزَوْجَتِهِ، وَكَذَا الْوَصِيُّ قَالَ ابْنُ الْعَطَّارِ وَغَيْرُهُ: وَيَلْزَمُ الْأَبَ الْيَمِينُ لِحَقِّ الزَّوْجِ فِي تَجْهِيزِ زَوْجَتِهِ بِهِ.
مَسْأَلَةٌ:
إذَا ادَّعَى الْمُعْتَرِضُ أَنَّهُ وَطِئَ زَوْجَتَهُ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ، وَقِيلَ بِغَيْرِ يَمِينٍ قَالَهُ مَالِكٌ فِي الْوَاضِحَةِ. وَقِيلَ يَنْظُرُ النِّسَاءُ الْبِكْرَ وَالْأَوَّلُ هُوَ الْمَشْهُورُ.
مَسْأَلَةٌ:
إذَا ادَّعَتْ الْمَرْأَةُ أَنَّهَا وَلَدَتْ هَذَا الْوَلَدَ فَالْقَوْلُ قَوْلُهَا بِخِلَافِ الْأَمَةِ.
مَسْأَلَةٌ:
يُقْبَلُ قَوْلُ الْوَصِيِّ فِيمَا أَنْفَقَ عَلَى الْيَتِيمِ إذَا أَشْبَهَ قَوْلُهُ الصِّدْقَ، وَقِيلَ: يُقْبَلُ قَوْلُهُ فِيمَا أَنْفَقَ فِي عِمَارَةِ رَبْعِهِ وَبُسْتَانِهِ إذَا أَشْبَهَ الصِّدْقَ.
مَسْأَلَةٌ:
يُقْبَلُ قَوْلُ الزَّوْجِ أَنَّهُ أَنْفَقَ عَلَى زَوْجَتِهِ إذَا كَانَ مُقِيمًا مَعَهَا وَادَّعَتْ أَنَّهُ لَمْ يُنْفِقْ عَلَيْهَا لِشَهَادَةِ الْعُرْفِ لَهُ.
مَسْأَلَةٌ:
يُقْبَلُ قَوْلُ الْمَرْأَةِ أَنَّهَا انْقَضَتْ عِدَّتُهَا وَلَا يَمِينَ عَلَيْهَا إذَا كَانَ الزَّمَنُ مُمْكِنًا، وَإِنْ كَانَ عَلَى خِلَافِ عَادَتِهَا.
مَسْأَلَةٌ:
إذَا ادَّعَتْ الْمَرْأَةُ أَنَّ عِدَّتَهَا انْقَضَتْ قَبْلَ قَوْلِهَا، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ بَعْدَ الطَّلَاقِ بِيَوْمٍ وَلَا يَمِينَ عَلَيْهَا، وَلَا يُلْتَفَتُ إلَى تَكْذِيبِ الْجِيرَانِ لَهَا.
مَسْأَلَةٌ:
يُقْبَلُ قَوْلُ الْأَمَةِ أَنَّ هَذَا الْوَلَدَ الَّذِي مَعَهَا وَلَدُهَا فَلَا تَجُوزُ التَّفْرِقَةُ بَيْنَهُمَا فِي الْبَيْعِ، وَلَا يُعْمَلُ بِقَوْلِهَا فِي الْمِيرَاثِ فَلَوْ عَتَقَا لَمْ يَتَوَارَثَا بِدَعْوَاهُمَا.
مَسْأَلَةٌ:
إذَا خِيفَ غَرَقُ الْمَرْكَبِ وَطُرِحَ مِنْهُ مَا يُرْجَى بِهِ سَلَامَتُهُ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمَطْرُوحِ مَتَاعُهُ فِيمَا يُشْبِهُ.
وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ هُوَ مُصَدَّقٌ مَعَ يَمِينِهِ فِي ثَمَنِ مَتَاعِهِ الْمَطْرُوحِ، مَا لَمْ يَأْتِ بِمَا يُسْتَنْكَرُ، قَالَ سَحْنُونٌ لَا يَمِينَ عَلَيْهِ إلَّا أَنْ يُتَّهَمَ فَيَحْلِفَ.
مَسْأَلَةٌ إذَا ادَّعَى الْمُسَاقِي أَنَّهُ دَفَعَ لِرَبِّ الْحَائِطِ الْجُزْءَ الَّذِي سَاقَاهُ عَلَيْهِ، وَقَالَ رَبُّ الْحَائِطِ بَعْدَ فَرَاغِ الْمُسَاقَاةِ: لَمْ يَدْفَعْ الْعَامِلُ لِي شَيْئًا، فَقَالَ مَالِكٌ: إنْ كَانَ قَدْ جَذَّ الثَّمَرَةَ فَلَا شَيْءَ لَهُ، وَعَلَى الْعَامِلِ الْيَمِينُ كَانَ بِقُرْبِ الْجِذَاذِ أَوْ بَعْدِهِ، وَكَذَلِكَ لَوْ جَذَّ بَعْضَهَا رُطَبًا وَالْبَاقِي تَمْرًا فَقَالَ قَبْلَ جِذَاذِ الثَّمَرَةِ لَمْ يَدْفَعْ لِي شَيْئًا مِنْ الرُّطَبِ وَلَا مِنْ ثَمَنِهِ، فَالْعَامِلُ مُصَدَّقٌ مَعَ يَمِينِهِ، قَالَ ابْنُ يُونُسَ: لِأَنَّ حَقَّهُ فِي عَيْنِ الثَّمَرَةِ لَا فِي ذِمَّةِ الْعَامِلِ؛ لِجَرَيَانِ الْعَادَةِ بِدَفْعِ ذَلِكَ بِغَيْرِ إشْهَادٍ.
مَسْأَلَةٌ:
مَنْ حَازَ شَيْئًا مُدَّةً تَكُونُ الْحِيَازَةُ فِيهِ مُعْتَبَرَةً وَالْمُدَّعِي حَاضِرٌ سَاكِتٌ، وَلَيْسَ لَهُ عُذْرٌ فِي سُكُوتِهِ، ثُمَّ يَقُومُ عَلَى الْحَائِزِ وَيَدَّعِي عَلَيْهِ، فَادَّعَى الْحَائِزُ الشِّرَاءَ كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ مَعَ يَمِينِهِ.
مَسْأَلَةٌ:
وَإِذَا ادَّعَى الْمُودَعُ رَدَّ الْوَدِيعَةِ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ وَهُوَ مُدَّعٍ، وَإِنَّمَا تَرَجَّحَ قَوْلُهُ؛ لِأَنَّهُ اسْتَأْمَنَهُ وَالْأَمِينُ مُصَدَّقٌ.
مَسْأَلَةٌ:
وَكَذَلِكَ لَوْ ادَّعَى الْبَائِعُ أَنَّهُ بَاعَ بِالدَّرَاهِمِ، وَقَالَ الْمُشْتَرِي بَلْ بِسِلْعَةٍ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْبَائِعِ لِقُوَّةِ قَرِينَةِ صِدْقِهِ؛ لِأَنَّ الدَّرَاهِمَ هِيَ الْأَثْمَانُ وَبِهَا يَقَعُ الْبَيْعُ.
مَسْأَلَةٌ:
إذَا بَاعَ السِّمْسَارُ سِلْعَةً فَوَجَدَ الْمُشْتَرِي بِهَا عَيْبًا فَسَأَلَ السِّمْسَارَ عَنْ رَبِّ السِّلْعَةِ، فَقَالَ لَا أَعْرِفُهُ حَلَفَ أَنَّهُ مَا يَعْرِفُهُ.
مَسْأَلَةٌ:
إذَا وُضِعَتْ الْجَارِيَةُ الْمُسْتَبْرَأَةُ عِنْدَ الْمُشْتَرِي وَاسْتَأْمَنَهُ عَلَيْهَا الْبَائِعُ، فَقَالَ: بَعْدَ شَهْرَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةٍ لَمْ تَحِضْ، أَوْ مَاتَتْ، صُدِّقَ فِي ذَلِكَ وَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ.
مَسْأَلَةٌ:
وَمَنْ دَفَعَ ثَوْبًا إلَى رَجُلٍ يَخِيطُهُ لَهُ بِلَا أُجْرَةٍ وَالرَّجُلُ لَيْسَ مِنْ الصُّنَّاعِ الَّذِينَ نَصَبُوا أَنْفُسَهُمْ لِلنَّاسِ بِالْأَجْرِ، فَادَّعَى ضَيَاعَ الثَّوْبِ مِنْ عِنْدِهِ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ وَعَلَيْهِ الْيَمِينُ أَنَّهُ ضَاعَ مِنْ غَيْرِ الزِّيَادَةِ.
مَسْأَلَةٌ:
إذَا ادَّعَى الْمَضْرُوبُ ذَهَابَ جَمِيعِ سَمْعِهِ أَوْ جَمِيعِ بَصَرِهِ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ بَعْدَ الِاخْتِبَارِ بِمَا يُمْكِنُ، وَيُصَدَّقُ مَعَ يَمِينِهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ التَّوَصُّلُ إلَى صِدْقِهِ إلَّا مِنْ قَوْلِهِ.
مَسْأَلَةٌ:
وَمَنْ ادَّعَى أَنَّهُ أَمَّنَ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ فَإِنَّهُ يُقْبَلُ قَوْلُهُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ بَيِّنَةٌ عَلَى تَأْمِينِهِ هَذَا قَوْلُ ابْنِ الْقَاسِمِ.
وَقَالَ سَحْنُونٌ: لَا يُقْبَلُ إلَّا بِبَيِّنَةٍ.
مَسْأَلَةٌ:
وَإِذَا ادَّعَتْ الْمَرْأَةُ الْغَرْبِيَّةُ الطَّارِئَةُ مِنْ بَلَدٍ بَعِيدٍ أَنَّهُ لَا زَوْجَ لَهَا فَالْقَوْلُ قَوْلُهَا وَيُزَوِّجُهَا الْحَاكِمُ إذَا لَمْ يَطْمَعْ فِي الْوُقُوفِ عَلَى حَقِيقَةِ دَعْوَاهَا.
مَسْأَلَةٌ:
وَإِذَا قَدِمَتْ امْرَأَةٌ مَبْتُوتَةٌ وَادَّعَتْ أَنَّهَا تَزَوَّجَتْ قُبِلَ قَوْلُهَا وَحَلَّ لِلَّذِي طَلَّقَهَا أَنْ يَتَزَوَّجَهَا.
مَسْأَلَةٌ:
إذَا ادَّعَى الْمَأْمُورُ أَنَّهُ تَصَرَّفَ كَمَا أَمَرَهُ الْمُوَكِّلُ فَقَالَ الْمُوَكِّلُ: لَمْ تَتَصَرَّفْ بَعْدُ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمَأْمُورِ؛ لِأَنَّهُ أَمِينٌ.
مَسْأَلَةٌ:
وَلَوْ قَالَ الْمَأْمُورُ بِعْت السِّلْعَةَ بِعَيْنٍ، وَقَالَ الْآمِرُ أَمَرْتُك أَنْ تَبِيعَهَا بِعَرَضٍ، فَالْمَأْمُورُ مُصَدَّقٌ؛ لِأَنَّ مَنْ بَاعَ بِعَيْنٍ فَالْأَصْلُ يَعْضُدُهُ؛ لِأَنَّهَا الْقِيَمَ الَّتِي يَتَبَايَعُ النَّاسُ بِهَا غَالِبًا.
مَسْأَلَةٌ:
وَكَذَلِكَ لَوْ أَمَرَهُ الْمُوَكِّلُ بِبَيْعِ سِلْعَةٍ أَوْ شِرَائِهَا وَادَّعَى الْمَأْمُورُ أَنَّهُ دَفَعَ ذَلِكَ إلَى الْآمِرِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمَأْمُورِ، وَكَذَلِكَ الْقَوْلُ قَوْلُ الْوَكِيلِ فِي ضَيَاعِ الثَّمَنِ.
مَسْأَلَةٌ:
وَإِذَا ادَّعَى الْمُسْتَأْجِرُ أَنَّهُ رَدَّ مَا اسْتَأْجَرَهُ مِنْ الْعَرُوضِ فَهُوَ مُصَدَّقٌ؛ لِأَنَّ يَدَهُ يَدُ أَمَانَةٍ قَبَضَ ذَلِكَ بِبَيِّنَةٍ أَوْ بِغَيْرِ بَيِّنَةٍ، رَوَاهُ أَصْبَغُ عَنْ ابْنِ الْقَاسِمِ.
مَسْأَلَةٌ:
إذَا ادَّعَى الْغَاصِبُ أَنَّهُ غَصَبَ الثَّوْبَ خَلَقًا، وَقَالَ رَبُّهُ بَلْ جَدِيدًا، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْغَاصِبِ مَعَ يَمِينِهِ، وَإِذَا حَلَفَ أَدَّى قِيمَتَهُ خَلَقًا.

.فَصْلٌ فِي تَصْدِيقِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ وَالرُّجُوعِ إلَى قَوْلِهِ:

مَسْأَلَةٌ:
إذَا اخْتَلَفَ الْمُبْتَاعُ وَالشَّفِيعُ فِي مُرُورِ السَّنَةِ وَانْقِضَائِهَا بَعْدَ الْبَيْعِ وَلَا بَيِّنَةَ فَالشَّفِيعُ مُصَدَّقٌ مَعَ يَمِينِهِ، وَهُوَ مُدَّعًى عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الشُّفْعَةَ قَدْ وُجِّهَتْ لَهُ وَالْمُشْتَرِي مُدَّعٍ لِتَارِيخٍ يُسْقِطُ مَا ثَبَتَ لَهُ مِنْهَا، فَلَا يُقْبَلُ قَوْلُ الْبَائِعِ فِي ذَلِكَ.
مَسْأَلَةٌ:
وَكَذَا مَنْ اشْتَرَى أَرْضًا، ثُمَّ قَامَ عَلَيْهِ فَطَلَبَهَا بِالشُّفْعَةِ، فَزَعَمَ الْمُشْتَرِي أَنَّهُ اشْتَرَى شَيْئًا مَقْسُومًا، وَقَالَ الشَّفِيعُ: إنَّهَا لَمْ تُقْسَمْ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ؛ لِأَنَّهُ مُدَّعًى عَلَيْهِ.
مَسْأَلَةٌ:
إذَا وَهَبَ رَجُلٌ رَجُلًا هِبَةً مُطْلَقَةً وَادَّعَى أَنَّهَا لِلثَّوَابِ. وَقَالَ الْمَوْهُوب لِغَيْرِ الثَّوَابِ حُكِمَ بِالْعُرْفِ مَعَ الْيَمِينِ، فَإِنْ أَشْكَلَ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْوَاهِبِ مَعَ يَمِينِهِ.
مَسْأَلَةٌ:
لَوْ بَاعَ الْوَكِيلُ السِّلْعَةَ، وَقَالَ بِذَلِكَ أَمَرْتنِي وَقَالَ رَبُّهَا إنَّمَا أَمَرْتُك بِرَهْنِهَا، فَالْقَوْلُ قَوْلُ رَبِّ السِّلْعَةِ فَاتَتْ أَوْ لَمْ تَفُتْ.
مَسْأَلَةٌ:
لَوْ اشْتَرَى الْمَأْمُورُ السِّلْعَةَ بِعِشْرِينَ فَقَالَ الْآمِرُ مَا أَمَرْتُك إلَّا بِعَشَرَةٍ، فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ، وَيَغْرَمُ الْوَكِيلُ الْعَشَرَةَ لِرَبِّ السِّلْعَةِ هَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ.
مَسْأَلَةٌ:
وَكَذَلِكَ لَوْ بَاعَ الْمَأْمُورُ السِّلْعَةَ بِعَشَرَةٍ، وَقَالَ الْآمِرُ: مَا أَمَرْتُك إلَّا بِاثْنَيْ عَشَرَ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْأَمْرِ مَعَ يَمِينِهِ، فَإِنْ نَكَلَ فَلَيْسَ لَهُ إلَّا الْعَشَرَةُ، وَلَا يَحْلِفُ الْمَأْمُورُ، وَقِيلَ يَحْلِفُ فَإِنْ نَكَلَ غَرِمَ.
مَسْأَلَةٌ:
إذَا اخْتَلَفَ الزَّوْجَانِ فِي عَدَدِ الصَّدَاقِ بَعْدَ الْبِنَاءِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الزَّوْجِ مَعَ يَمِينِهِ، قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ؛ لِأَنَّهَا مَكَّنَتْهُ مِنْ نَفْسِهَا فَصَارَتْ مُدَّعِيَةً عَلَيْهِ، وَهُوَ مُقِرٌّ لَهَا بِدَيْنٍ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ، وَإِنْ نَكَلَ فَالْقَوْلُ قَوْلُهَا مَعَ يَمِينِهَا هَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ.
مَسْأَلَةٌ:
إذَا ادَّعَتْ الْمَرْأَةُ أَنَّ بِزَوْجِهَا جُنُونًا وَأَنْكَرَهُ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ، وَعَلَيْهَا الْبَيِّنَةُ.
مَسْأَلَةٌ:
إذَا ادَّعَى الْمُشْتَرِي الْإِقَالَةَ فَأَقَرَّ لَهُ الْبَائِعُ بِذَلِكَ، وَزَعَمَ أَنَّهُ أَقَالَهُ عَلَى أَنْ يَرُدَّ عَلَيْهِ أَقَلَّ مِنْ الثَّمَنِ الَّذِي دَفَعَ إلَيْهِ فَلَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ إلَّا بِبَيِّنَةٍ، وَعَلَى الْمُشْتَرِي الْيَمِينُ أَنَّهُ مَا أَقَالَهُ إلَّا بِمِثْلِ الثَّمَنِ.
مَسْأَلَةٌ:
لَوْ قَالَ مَنْ بِيَدِهِ الدَّارِ أَعَرْتنِي هَذِهِ الدَّارَ وَقَالَ رَبُّهَا: بَلْ بِعْتُكَهَا فَالْقَوْلُ قَوْلُ مُدَّعِي الْعَارِيَّةِ مَعَ يَمِينِهِ.
مَسْأَلَةٌ:
إذَا تَدَاعَى رَجُلَانِ فِي عَقْدِ الْبَيْعِ هَلْ كَانَ أَوْ لَمْ يَكُنْ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ الْبَيْعَ أَوْ الشِّرَاءَ، وَلَا يَمِينَ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ إنْ كَانَتْ السِّلْعَةُ بِيَدِ صَاحِبِهَا.
مَسْأَلَةٌ:
إذَا أَشْهَدَ الْبَائِعُ بِقَبْضِ الثَّمَنِ ثُمَّ قَالَ: إنَّمَا فَعَلْت ذَلِكَ ثِقَةً بِالْمُبْتَاعِ لَمْ يُقْبَلْ مِنْهُ وَالْمُشْتَرِي مُدَّعًى عَلَيْهِ، فَإِنْ طَلَبَ يَمِينَ الْمُبْتَاعِ عَلَى دَفْعِ الثَّمَنِ لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ.
فَرْعٌ:
إذَا أَشْهَدَ الْمُبْتَاعُ عَلَى نَفْسِهِ بِأَنَّ لِفُلَانٍ فِي ذِمَّتِهِ كَذَا مِنْ ثَمَنِ كَذَا ثُمَّ قَامَ بَعْدَ ذَلِكَ يَطْلُبُ الْمَبِيعَ فَهُوَ مُدَّعٍ، وَإِشْهَادُهُ بِذَلِكَ مُقْتَضٍ لِلْقَبْضِ عُرْفًا وَالْبَائِعُ مُدَّعًى عَلَيْهِ، فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ عَلَى الْمَشْهُورِ، وَالشَّاذُّ أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الْمُبْتَاعِ عَمَلًا بِالْأَصْلِ، إلَّا أَنْ تَكُونَ عَادَةً فَرَجَعَ إلَيْهَا وَعَلَى الْمَشْهُورِ، فَلَوْ طَلَبَ الْمُشْتَرِي يَمِينَ الْبَائِعِ فَحَكَى ابْنُ حَبِيبٍ عَنْ مَالِكٍ وَأَصْحَابِهِ نَفْيَ الْيَمِينِ إلَّا أَنْ يَأْتِيَ بِمَا يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ قَوْلِهِ أَوْ يَتَّهِمَ الْبَائِعَ فَيَحْلِفَ.
مَسْأَلَةٌ:
وَإِذَا ادَّعَى الْبَائِعُ أَنَّهُ وَجَدَ الدَّرَاهِمَ زُيُوفًا فَإِنْ تَقَيَّدَ عَلَيْهِ أَنَّهَا طَيِّبَةٌ فَالْبَائِعُ مُدَّعٍ، وَالْمُشْتَرِي مُدَّعًى عَلَيْهِ فَلَيْسَ لِلْبَائِعِ تَحْلِيفُ الْمُبْتَاعِ لِإِقْرَارِهِ بِقَبْضِهَا مِنْ الْمُبْتَاعِ طَيِّبَةً جِيَادًا، وَإِنْ سَقَطَ هَذَا مِنْ الْعَقْدِ حَلَفَ لَهُ الْمُشْتَرِي، ثُمَّ إنْ قَالَ الْمُبْتَاعُ مَا عَلِمْتهَا مِنْ دَرَاهِمِي حَلَفَ لَقَدْ دَفَعْت لَهُ جِيَادًا فِي عِلْمِي، وَمَا عَلِمْت هَذِهِ مِنْ دَرَاهِمِي فَإِنْ حَقَّقَ أَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ دَرَاهِمِهِ حَلَفَ عَلَى الْبَتِّ.
فَإِنْ رَدَّ الْيَمِينَ عَلَى الْبَائِعِ حَلَفَ عَلَى الْبَتِّ أَنَّهَا دَرَاهِمُهُ وَمَا خَلَطَهَا بِسِوَاهَا وَلَزِمَهُ بَدَلُهَا، فَإِنْ كَانَتْ الدَّرَاهِمُ لَمْ يَدْفَعْهَا مَالِكُهَا وَإِنَّمَا دَفَعَهَا وَكِيلُهُ رُدَّتْ عَلَى الْوَكِيلِ فَإِنْ عَرَفَهَا الْوَكِيلُ لَزِمَتْ الْمُوَكِّلَ أَنْكَرَهَا أَمْ لَا؛ لِأَنَّهُ أَمِينُهُ، وَإِنْ لَمْ يَعْرِفْهَا الْوَكِيلُ وَقَبِلَهَا حَلَفَ الْمُوَكِّلُ أَنَّهُ مَا يَعْرِفُهَا مِنْ دَرَاهِمِهِ وَمَا أَعْطَاهُ إلَّا جِيَادًا فِي عِلْمِهِ وَيَبْرَأُ، وَلِلَّذِي يَرُدُّهَا أَنْ يُحَلِّفَ الْآمِرَ مَا يَعْرِفُهَا مِنْ دَرَاهِمِهِ وَمَا أَعْطَاهُ إلَّا جِيَادًا فِي عِلْمِهِ وَتَسْقُطُ دَعْوَى الرَّدِّ، وَهَلْ يَبْدَأُ بِيَمِينِ الْمُوَكِّلِ أَوْ بِيَمِينِ الْوَكِيلِ فِيهِ خِلَافٌ، وَاخْتَارَ بَعْضُ الشُّيُوخِ أَنَّ لَهُ أَنْ يَبْدَأَ بِمَنْ شَاءَ مِنْهُمَا.
فَرْعٌ:
وَدَعْوَى النَّقْصِ أَيْضًا كَذَلِكَ، إنْ تَقَيَّدَ عَلَى الْبَائِعِ أَنَّهُ قَبَضَهَا تَامَّةً، لَمْ يَحْلِفْ لَهُ الْمُشْتَرِي، وَلَوْ دَفَعَ لَهُ ذَلِكَ عَلَى التَّصْدِيقِ، فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْقَوْلُ قَوْلَ الْبَائِعِ.
فَرْعٌ:
لَوْ قَامَ لِلْمَيِّتِ شَاهِدٌ بِحَقٍّ وَوَارِثُهُ أَخْرَسُ لَا يَفْهَمُ وَلَا يُفْهَمُ عَنْهُ، فَقَالَ سَحْنُونٌ: يَحْلِفُ الْمَطْلُوبُ وَيَبْرَأُ، فَإِنْ نَكَلَ غَرِمَ. وَمَسَائِلُ هَذَا الْبَابِ يَخْرُجُ ذِكْرُهَا عَنْ الْمَقْصُودِ، وَقَدْ اسْتَقْصَيْت مِنْهَا جُمْلَةً نَافِعَةً وَأَفْرَدَتْهَا فِي تَأْلِيفٍ تَرْجَمَتُهُ بِبُرُوقِ الْأَنْوَارِ الْمُوَضِّحَةِ لِأَنْوَاعِ طَرِيقِ الدَّعْوَى.

.الْبَابُ السَّادِسُ وَالْعِشْرُونَ فِي الْقَضَاءِ بِشَهَادَةِ اللَّوْثِ وَأَيْمَانِ الْقَسَامَةِ:

اللَّوْثُ بِثَاءٍ مُثَلَّثَةٍ وَالْمُرَادُ بِهِ الْوُجُوهُ الَّتِي يَقَعُ بِهَا التَّلْوِيثُ وَالتَّلْطِيخُ فِي الدِّمَاءِ، وَهِيَ كَثِيرَةٌ، وَمَعَ كَثْرَتِهَا لَا يُتَوَصَّلُ بِهَا إلَى التَّمَكُّنِ مِنْ الدُّعَاءِ لِعِظَمِ خَطَرِهَا وَرَفِيعِ قَدْرِهَا، فَوَجَبَ الْإِعْرَاضُ عَنْهَا إلَّا أَنَّ فِيهَا مَا لَهُ قُوَّةٌ لِأَجْلِ مَا احْتَفَّ بِهِ مِنْ الْقَرَائِنِ الْحَامِلَةِ عَلَى صِدْقِ مُدَّعِيه، وَلِذَلِكَ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي تَعْيِينِ مَا يُقْبَلُ مِنْ ذَلِكَ، فَعِنْدَ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ أَنَّ اللَّوْثَ هُوَ الشَّاهِدُ الْعَدْلُ عَلَى مُعَايَنَةِ الْقَتْلِ، وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّهُ يُقَوِّي جِهَةَ الْمُدَّعِينَ، وَلَا تَأْثِيرَ فِي نَقْلِ الْيَمِينِ إلَى جِهَةِ الْمُدَّعِينَ، وَأَخَذَ ابْنُ الْقَاسِمِ بِمَا قَالَهُ مَالِكٌ وَوَافَقَهُ ابْنُ وَهْبٍ وَابْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ، وَذَكَرَ ابْنُ الْمَوَّازِ عَنْ ابْنِ الْقَاسِمِ أَنَّ شَهَادَةَ الْمَرْأَتَيْنِ لَوْثٌ يُوجِبُ الْقَسَامَةَ وَلَا يُوجِبُ ذَلِكَ شَهَادَةُ امْرَأَةٍ وَاحِدَةٍ، وَرَوَى ابْنُ الْمَوَّازِ وَأَشْهَبُ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ يُقْسِمُ مَعَ الشَّاهِدِ غَيْرِ الْعَدْلِ وَمَعَ الْمَرْأَةِ. قَالَ ابْنُ الْمَوَّازِ عَنْ أَشْهَبَ: وَلَمْ يَخْتَلِفْ قَوْلُ مَالِكٍ وَأَصْحَابِهِ أَنَّ الْعَبْدَ وَالصَّبِيَّ وَالذِّمِّيَّ لَيْسَ بِلَوْثٍ وَوَجْهُ رِوَايَةِ أَشْهَبَ وَهُوَ اخْتِيَارُهُ أَنَّهُ لَوْثٌ فَلَمْ تُعْتَبَرْ فِيهِ الْعَدَالَةُ، كَاَلَّذِي يَقُولُ دَمِي عِنْدَ فُلَانٍ، فَلَا يُشْتَرَطُ فِيهِ الْعَدَالَةُ، بَلْ يُقْبَلُ قَوْلُهُ فِي الْعَمْدِ وَالْخَطَأِ، وَلَوْ كَانَ فَاسِقًا.
وَفِي تَنْبِيهِ الْحُكَّامِ لِابْنِ الْمُنَاصِفِ: وَرَوَى أَشْهَبُ عَنْ مَالِكٍ أَنَّ الْقَسَامَةَ لَا تَجِبُ بِشَهَادَةِ امْرَأَةٍ وَاحِدَةٍ عَدْلٍ، وَقِيلَ يُقْسِمُ مَعَ جَمَاعَةِ النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ وَالْقَوْمِ لَيْسُوا بِعُدُولٍ. فَإِذَا وَقَعَتْ الْقَسَامَةُ بِشَيْءٍ مِنْ هَذَا عَلَى الْقَوْلِ فِيهِ بِالْجَوَازِ اسْتَحَقَّ أَوْلِيَاءُ الْمَقْتُولِ الدَّمَ، قَالَ: وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّ الْقَوَدَ إنَّمَا وَجَبَ بِمُجَرَّدِ الْقَسَامَةِ عِنْدَ مَالِكٍ، وَلَا حُكْمَ لِلشَّاهِدِ الْوَاحِدِ فِي ثُبُوتِ الْقَوَدِ، وَإِنْ كَانَ عَدْلًا؛ لِأَنَّهُ مِنْ حُقُوقِ الْأَبَدَانِ الَّتِي لَا تُسْتَحَقُّ بِالشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ، وَإِنَّمَا الْوَاحِدُ لَوْثٌ وَلَطْخٌ يُقَوِّي الدَّعْوَى فِي إبَاحَةِ الْقَسَامَةِ لَا عَلَى جِهَةِ الشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ الَّذِي فِي حُقُوقِ الْأَمْوَالِ، وَلِذَلِكَ لَا يُقْبَلُ فِي قَسَامَةِ الْعَمْدِ إلَّا رَجُلَانِ فَصَاعِدًا، وَلَا مَدْخَلَ فِيهَا لِلنِّسَاءِ، وَلَا حُكْمَ لِلْوَاحِدِ؛ لِأَنَّهُمَا أُقِيمَا فِي ثُبُوتِ الْحَقِّ بِإِثْبَاتِهِمَا مَقَامَ الشَّاهِدَيْنِ بِخِلَافِ الْقَسَامَةِ فِي الْخَطَأِ؛ لِأَنَّهُ مَالٌ.
فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ شَهَادَةَ الْوَاحِدِ فِي ذَلِكَ لَوْثٌ لَا نِصْفَ شَهَادَةٍ تَكْمُلُ بِالْيَمِينِ، فَكَذَلِكَ قَدْ يَكُونُ اللَّوْثُ بِغَيْرِ الْعَدْلِ وَبِاللَّفِيفِ مِنْ النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ؛ لِأَنَّهُ لَطْخٌ لَا شَهَادَةٌ.
وَالْقَسَامَةُ فِي هَذَا الْبَابِ أَصْلٌ مُخَصَّصٌ لِنَفْسِهِ لَا يُعْتَرَضُ عَلَيْهِ بِغَيْرِهِ عَلَى مَا وَرَدَتْ بِهِ السُّنَّةُ، بِخِلَافِ سَائِرِ الْحُقُوقِ، وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ لَا تَجِبُ الْقَسَامَةُ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، وَلَا يُرَاقُ دَمُ مُسْلِمٍ بِغَيْرِ الْعَدْلِ.
وَذَكَرَ الْقَاضِي أَبُو مُحَمَّدٍ فِي الْمَعُونَةِ أَنَّ مِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ يَجْعَلُ شَهَادَةَ الْعَبِيدِ وَالصِّبْيَانِ لَوْثًا، وَبِهِ قَالَ رَبِيعَةُ وَيَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ.
مَسْأَلَةٌ وَإِذَا قَالَ الْمَيِّتُ: دَمِي عِنْدَ فُلَانٍ، فَعِنْدَ مَالِكٍ أَنَّهَا شُبْهَةٌ يُقْسِمُ الْأَوْلِيَاءُ مَعَهَا.
قَالَ ابْنُ حَبِيبٍ: وَلَا يُقْسِمُ مَعَ قَوْلِ الصَّبِيِّ دَمِي عِنْدَ فُلَانٍ إلَّا أَنْ يَكُونَ قَدْ رَاهَقَ فَيُقْسِمُ مَعَ قَوْلِهِ.
وَقَالَ ابْنُ حَبِيبٍ سَأَلْت ابْنَ الْمَاجِشُونِ عَنْ الْعَبْدِ أَوْ الصَّبِيِّ يَقُولُ أَحَدُهُمَا عِنْدَ مَوْتِهِ دَمِي عِنْدَ فُلَانٍ قَتَلَنِي وَيُسَمِّي رَجُلًا حُرًّا، قَالَ أَرَى أَنْ يُسْجَنَ بِقَوْلِهِ حَتَّى يُسْتَبْرَأ أَمْرُهُ وَيُكْشَفَ عَنْهُ، فَإِنْ لَمْ يَثْبُتْ قِبَلَهُ شَيْءٌ حَلَفَ عَلَى دَعْوَى الْعَبْدِ يَمِينًا وَاحِدَةً، وَعَلَى دَعْوَى الصَّبِيِّ خَمْسِينَ يَمِينًا.
قَالَ ابْنُ حَبِيبٍ: وَسَأَلْت أَصْبَغَ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ: رَوَى أَشْهَبُ وَابْنُ كِنَانَةَ ذَلِكَ رِوَايَةً عَنْ مَالِكٍ وَلَسْت آخُذُ بِهَا، وَقَوْلُ الْعَبْدِ هَدَرٌ وَلَا ضَرْبَ فِيهِ وَلَا سِجْنَ وَلَا يَمِينَ لِلسَّيِّدِ وَلَا قِيمَةَ، إلَّا أَنِّي أَسْتَحْسِنُ أَنْ يَحْلِفَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ خَمْسِينَ يَمِينًا لِحُرْمَةِ الدَّمِ فَإِنْ حَلَفَ بَرِئَ وَإِنْ نَكَلَ سُجِنَ حَتَّى يُسْتَبْرَأَ أَمْرُهُ وَلَا يُضْرَبُ لِنُكُولِهِ عَنْ الْيَمِينِ؛ لِأَنَّهَا لَمْ تَجِبْ عَلَيْهِ وُجُوبًا تَامًّا، وَهَذَا فِيمَنْ لَمْ يُعْرَفْ بِالسُّوءِ، وَأَمَّا الْمُتَّهَمُ فَحُكْمُهُ مَذْكُورٌ فِي الْأَحْكَامِ الثَّانِيَةِ مِنْ هَذَا الْكِتَابِ مِنْ النَّوَادِرِ. تَنْبِيهٌ وَهَذَا الَّذِي تَقَدَّمَ حُكْمُ الْقَتْلِ عَلَى غَيْرِ وَجْهِ الْغِيلَةِ، فَأَمَّا قَتْلُ الْغِيلَةِ فَقَالَ ابْنُ الْمَوَّازِ إنْ شَهِدَ عَدْلٌ أَنَّهُ قَتَلَهُ غِيلَةً لَمْ يُقْسِمْ مَعَ شَهَادَتِهِ وَلَا يُقْبَلُ فِي هَذَا إلَّا شَاهِدَانِ، قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ رَأَيْت لِيَحْيَى بْنِ عُمَرَ أَنَّهُ يُقْسِمُ مَعَهُ. مِنْ الْمُنْتَقَى لِلْبَاجِيِّ.
مَسْأَلَةٌ:
وَإِذَا لَمْ يَكُنْ بِالْمُدْمَى أَثَرُ جَرْحٍ أَوْ ضَرْبٍ، أَوْ لَمْ يَعْرِفْ الضَّرْبَ الْمُدْمِي قَبْلَ ذَلِكَ، فَفِي الْعُتْبِيَّةِ مِنْ رِوَايَةِ عِيسَى عَنْ ابْنِ الْقَاسِمِ أَنَّهُ لَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ إلَّا بِالْبَيِّنَةِ عَلَى ذَلِكَ، أَوْ بِأَثَرٍ بَيِّنٍ.
وَقَالَ أَصَبْغُ: يُقْسِمُ مَعَ قَوْلِهِ كَانَ بِهِ أَثَرٌ أَوْ لَمْ يَكُنْ، قَالَ الْمُتَيْطِيُّ: وَبِمَا تَقَدَّمَ مِنْ قَوْلِ ابْنِ الْقَاسِمِ الْعَمَلُ وَبِهِ الْحُكْمُ.
تَنْبِيهٌ:
قَالَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ الْمُوَثَّقِينَ وَلَا يَجِبُ عَلَى الْمُدْمِي بِهَذِهِ التَّدْمِيَةِ سِجْنٌ وَلَا شَيْءٌ إذَا لَمْ يَكُنْ بِالْمُدْمَى أَثَرُ جَرْحٍ وَلَا ضَرْبٍ، إلَّا أَنْ يَمُوتَ الْمُدْمَى قَبْلَ أَنْ يَظْهَرَ بُرْؤُهُ فَيُسْجَنُ حِينَئِذٍ الْمُدْمَى عَلَيْهِ، قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْبَاجِيُّ فِي وَثَائِقِهِ: وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ الْعَدْلَ يُسْجَنُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ وَلَيْسَ بِهِ عَمَلٌ وَلَا قَضَاءٌ.
فَرْعٌ وَتَجِبُ الْقَسَامَةُ فِي قَوْلِ مَالِكٍ بِقَوْلِ الْمَقْتُولِ وَإِنْ لَمْ يَرَ الشُّهُودُ جِرَاحًا وَلَا أَثَرَ ضَرْبٍ، وَإِنَّمَا سَمِعُوا مِنْهُ قَوْلَهُ وَقَوْلُهُ مَقْبُولٌ، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ رِوَايَةَ ابْنِ الْقَاسِمِ بِهَا الْحُكْمُ وَعَلَيْهَا الْعَمَلُ. فَرْعٌ تَقَدَّمَ قَوْلُ ابْنِ حَبِيبٍ: أَنَّ الصَّبِيَّ إذَا كَانَ مُرَاهِقًا وُجِّهَتْ الْقَسَامَةُ مَعَ قَوْلِهِ دَمِي عِنْدَ فُلَانٍ.
وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ لَا يُقْسِمُ مَعَ قَوْلِهِ وَهُوَ قَوْلُ أَشْهَبَ.
مَسْأَلَةٌ:
وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي تَارِيخِهِ وَقَدْ كَانَ يَحْيَى بْنُ يَحْيَى يَرَى السَّجْنَ عَلَى مَنْ أَدْمَى عَلَيْهِ وَيُفْتِي بِهِ حَتَّى نَزَلَ ذَلِكَ بِهِ فَرَجَعَ عَنْ فَتْوَاهُ بِذَلِكَ.
وَفِي أَحْكَامِ ابْنِ سَهْلٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى قَالَ ذَكَرَ بَعْضُ مَنْ أَلَّفَ أَخْبَارَ فُقَهَاءِ الْأَنْدَلُسِ أَنَّ الشَّيْخَ أَبَا بَكْرِ بْنَ أَحْمَدَ اللُّؤْلُؤِيُّ شَيْخَ الْقَاضِي أَبِي بَكْرِ بْنِ زَرْبٍ وَشَيْخَ الْفَقِيهِ أَبِي زَمَنِينَ وَغَيْرِهِمَا كَانَ لَهُ حَقْلٌ يُجَاوِرُهُ حَقْلُ جَارِهِ، وَكَانَ حَرِيصًا أَنْ يُضِيفَ حَقْلَ جَارِهِ إلَى حَقْلِهِ فَاحْتَالَ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ بِكُلِّ حِيلَةٍ وَاسْتَعْمَلَ كُلَّ وَسِيلَةٍ فَأَبَى صَاحِبُهُ عَلَيْهِ وَلَمْ يُجِبْهُ إلَيْهِ، إلَى أَنْ اعْتَلَّ وَمَرِضَ فَجَاءَهُ اللُّؤْلُؤِيُّ زَائِرًا مُسْتَعْطِفًا مُحْتَفِيًا بِهِ فَأَظْهَرَ لَهُ الرَّجُلُ السُّرُورَ بِعِيَادَتِهِ وَالشُّكْرَ عَلَى مُشَارَكَتِهِ، وَأَظْهَرَ مِنْ ذَلِكَ مَا أَطْمَعَ اللُّؤْلُؤِيَّ فِي قَضَاءِ حَاجَتِهِ فِي ذَلِكَ الْحَقْلِ، فَكَلَّمَهُ فِيهِ وَرَغَّبَ إلَيْهِ فِي تَصْيِيرِهِ لَهُ بِمَا رَسَمَ مِنْ ثَمَنٍ أَوْ مُعَاوَضَةٍ فَأَظْهَرَ لَهُ الْإِسْعَافَ لَمَّا رَأَى مِنْهُ الْإِلْحَافَ.
وَقَالَ لَهُ أَشْهِدْ عَلَيَّ بِذَلِكَ مَنْ شِئْت مِنْ الْفُقَهَاءِ إلَى أَنْ أَسْتَقِلَّ فَتَبْلُغَ مَا تُحِبُّهُ فَسُرَّ اللُّؤْلُؤِيُّ بِذَلِكَ، وَجَاءَ بِعِدَّةٍ مِنْ الْفُقَهَاءِ أَصْحَابِهِ وَأَدْخَلَهُمْ عَلَيْهِ وَإِذَا بِهِ قَدْ أَظْهَرَ انْهِدَامَ الْقُوَّةِ وَضَعْفَ النُّطْقِ فَدَنَا الْفَقِيهُ وَقَالَ لَهُ يَا فُلَانُ أَشْهِدْ الْفُقَهَاءَ حَفِظَهُمْ اللَّهُ عَلَى بَيْعِك مِنِّي الْحَقْلَ فَقَالَ لَهُمْ أُشْهِدُكُمْ أَنَّ الْفَقِيهَ اللُّؤْلُؤِيَّ هَذَا قَتَلَنِي مُتَعَمِّدًا لِقَتْلِي وَأَنَّهُ الْمَأْخُوذُ بِدَمِي، فَإِنْ حَدَثَ بِي مَوْتٌ اسْتَقِيدُوا مِنْهُ لِي فَفِي عُنُقِهِ دَمِي، وَأَنْتُمْ رُهَنَاءُ بِالصِّدْقِ عَنِّي فَدَهِشَ الْفَقِيهُ وَمَنْ مَعَهُ وَأَقْبَلَ عَلَى الرَّجُلِ يَسْتَثْبِتُ ذِهْنَهُ وَيُذَكِّرُهُ مَا جَرَى بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ وَيُخَوِّفَهُ اللَّهَ تَعَالَى وَيَعِظُهُ وَسَلَكَ أَصْحَابُهُ سَبِيلَهُ فَلَمْ يَرْجِعْ عَنْ ذَلِكَ، فَخَرَجُوا عَنْهُ وَسَأَلَهُمْ اللُّؤْلُؤِيُّ أَنْ يَتَوَقَّفُوا عَلَيْهِ سَاعَةً بِالْبَابِ فَيَخْلُو بِهِ، فَفَعَلُوا وَتَفَرَّدَ وَعَذَلَهُ وَقَالَ لَهُ تَعْصِي اللَّهَ فِي أَمْرِي وَتَدَّعِي عَلَيَّ بِغَيْرِ حَقٍّ، فَقَالَ لَهُ وَهَلْ قُلْتُ إلَّا مَا فَعَلْتُ دَخَلْتَ عَلَيَّ وَأَنَا أَحْسِبُكَ عَائِدًا مُشْفِقًا فَسُرِرْتُ بِذَلِكَ وَإِذَا بِكَ بَاغِي فُرْصَةٍ فَلَمَّا مَسَّتْنِي فِي سُوَيْدَاءِ قَلْبِي فِي أَمْرِ هَذَا الْحَقْلِ الْمَشْئُومِ بِمَا تَعْلَمُ كَرَاهِيَتَهُ إلَيَّ فَهَلْ أَرَدْتَ إلَّا قَتْلِي إذْ طَلَبْتَ أَخْذَ كَرِيمَةَ مَالِي، فَاعْتَذَرَ إلَيْهِ اللُّؤْلُؤِيُّ وَقَالَ أَنَا تَائِبٌ مُعْتَرِفٌ بِخَطَئِي. فَاتَّقِ اللَّهَ وَرَاجِعْ عَقْلَكَ، وَارْجِعْ عَمَّا عَقَدْتَهُ، فَمَا تَدْرِي مَا يَئُولُ حَالُكَ إلَيْهِ، فَعِنْدَ ذَلِكَ أَجَابَهُ إلَى ذَلِكَ وَقَالَ أَمَا وَقَدْ صِرْتَ إلَى هَذِهِ الْإِنَابَةِ فَاحْلِفْ بِالْأَيْمَانِ اللَّازِمَةِ أَنَّك لَا تَلْتَمِسُ هَذَا الْحَقْلَ فِي حَيَاتِي وَلَا بَعْدَ مَمَاتِي، وَلَا تَسْعَى لِمِلْكِهِ وَلَا تُصَيِّرُهُ إلَيْك بِبَيْعٍ وَلَا غَيْرِهِ، وَأَنْ تُحَرِّمَهُ عَلَى نَفْسِك وَلَوْ صَارَ إلَيْك بِالْمِيرَاثِ أَوْ غَيْرِهِ، وَأَنَّك لَا تَهُمُّ مَعَ ذَلِكَ بِمَسَاءَةٍ وَلَا تَحْقِدُ عَلَيَّ ذَلِكَ وَلَا عَلَى ذُرِّيَّتِي، فَحَلَفَ لَهُ عَلَى ذَلِكَ وَتَوَثَّقَ مِنْهُ فِيهِ فَعِنْدَ ذَلِكَ أَذِنَ لَهُ بِإِدْخَالِ الشُّهُودِ الْفُقَهَاءِ عَلَيْهِ، فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ أَشْهَدَهُمْ أَنَّهُ قَدْ عَفَا عَنْهُ لِلَّهِ تَعَالَى وَأَهْدَرَ عَنْهُ تَبِعَةَ دَمِهِ لِلَّهِ تَعَالَى، فَقَالَ لَهُ اللُّؤْلُؤِيُّ إنَّمَا أُرِيدُ أَنْ تُكَذِّبَ نَفْسَك وَتَعُودَ إلَى الْحَقِّ فَقَالَ لَهُ هَذَا هُوَ الْحَقُّ فَإِنْ أَقْنَعَك هَذَا وَإِلَّا فَأَنَا عَلَى مَا عُقْدَتُهُ عَلَيْك، فَرَضِيَ مِنْهُ اللُّؤْلُؤِيُّ بِذَلِكَ، وَتَوَثَّقَ مِنْهُ بِالْإِشْهَادِ عَلَيْهِ وَاِتَّخَذَ حَدِيثَهُ مَوْعِظَةً اعْتَقَدَ بِهَا أَنْ لَا يُفْتِيَ بِتَدْمِيَةٍ بَعْدَهَا.
فَرْعٌ:
وَفِي (الْمُتَيْطِيَّةِ) وَالتَّدْمِيَةُ عَلَى عَيْنِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ أَتَمُّ، فَإِنْ لَمْ يَحْضُرْ وَكَانَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ مَعْرُوفَ الْعَيْنِ مَشْهُورًا أَوْ عَرَفَهُ شُهُودُ التَّدْمِيَةِ فَذَلِكَ أَيْضًا تَامٌّ.
فَرْعٌ:
وَإِذَا ثَبَتَتْ التَّدْمِيَةُ وَلَمْ يَبْرَأْ مِمَّا بِهِ فِي عِلْمِ الشُّهُودِ وَأَثْبَتَ الْقَائِمُ بِالتَّدْمِيَةِ وَكَالَةَ الْمُدْمِي، وَشَهِدَ عَلَى عَيْنِ الْمُدْمَى عَلَيْهِ لِمَعْرِفَتِهِمْ بِهِ أَوْ بِتَعْرِيفِ الْمُدْمَى لَهُمْ بِهِ فِي التَّدْمِيَةِ عَلَيْهِ عَلَى عَيْنِهِ، وَجَبَ سَجْنُ الْمُدْمَى عَلَيْهِ عَلَى الْقَوْلِ الْمَشْهُورِ الْمَعْمُولِ بِهِ حَتَّى يَبْرَأَ الْمُدْمَى فَيُطْلَقُ، أَوْ يَمُوتُ الْمُدْمَى عَلَى تِلْكَ الْحَالِ قَبْلَ أَنْ يَصِحَّ صِحَّةً بَيِّنَةً فَيُقْسِمُ الْوَرَثَةُ وَيَسْتَقِيدُوا بَعْدَ ثُبُوتِ التَّدْمِيَةِ وَمَوْتِهِ وَعِدَّةِ وَرَثَتِهِ.
فَرْعٌ وَإِذَا اضْطَرَبَ قَوْلُ الْجَرِيحِ فَرَمَى رَجُلًا ثُمًّ بَرَّأَهُ وَرَمَى آخَرَ، فَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ وَأَصْبَغُ وَأَشْهَبُ: لَا يُقْبَلُ مِنْهُ فِي الْأَوَّلِ وَلَا فِي الْآخِرِ، وَبِهَذَا جَرَى الْحُكْمُ وَعَلَيْهِ الْفُتْيَا.
وَقَالَ ابْنُ الْمَاجِشُونِ: يُقْبَلُ قَوْلُهُ، وَيُؤْخَذُ بِآخِرِ قَوْلَيْهِ، وَإِنْ رَجَعَ إلَى طَلَبِ الْأَوَّلِ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ.
فَرْعٌ قَالَ أَصَبْغُ: فَإِنْ قَالَ بِي فُلَانٌ لَيْسَ بِي غَيْرُهُ فَلَا سَبِيلَ إلَى مَنْ رَمَاهُ بَعْدَهُ، وَإِنْ لَمْ يَقُلْ لَيْسَ بِي غَيْرُهُ فَالْأَوَّلُ وَالْآخِرُ سَوَاءٌ، يُقْسِمُ وُلَاةُ الدَّمِ عَلَى أَحَدِهِمَا إنْ شَاءُوا، فَيُقْتَلُ وَيُجْلَدُ الْآخَرُ مِائَةً وَيُحْبَسُ سَنَةً، قَالَ ابْنُ حَبِيبٍ وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ أَحَبُّ إلَيَّ.
فَرْعٌ فَإِنْ ادَّعَى عَلَى رَجُلٍ وَشَهِدَتْ الْبَيِّنَةُ أَنَّهُ كَانَ ذَلِكَ الْيَوْمَ بِبَلَدٍ بَعِيدٍ لَا يَصِلُ مِنْهُ فِي تِلْكَ الْمُدَّةِ إلَى مَوْضِعِ الْمُدْمَى سَقَطَتْ التَّدْمِيَةُ، وَتَبَيَّنَ كَذِبُ الْمُدَّعِي، وَكَانَتْ الشَّهَادَةُ أَعْمَلَ، قَالَهُ ابْنُ الْقَاسِمِ وَعَبْدُ الْمَلِكِ وَغَيْرُهُمَا.
مَسْأَلَةٌ وَمِنْ اللَّوْثِ الَّذِي يُوجِبُ الْقِصَاصَ لَوْ شَهِدَ شَاهِدَانِ أَنَّهُمَا رَأَيَا رَجُلًا خَرَجَ مُسْتَتِرًا مِنْ دَارٍ فِي حَالٍ رَثَّةٍ فَاسْتَنْكَرَا ذَلِكَ، فَدَخَلَ الْعُدُولُ مِنْ سَاعَتِهِمْ الدَّارَ فَوَجَدُوا قَتِيلًا يَسِيلُ دَمُهُ وَلَا أَحَدَ فِي الدَّارِ غَيْرَهُ وَغَيْرَ الْخَارِجِ، فَهَذِهِ شَهَادَةٌ جَائِزَةٌ يُقْطَعُ الْحُكْمُ بِهَا، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ عَلَى الْمُعَايَنَةِ.
قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: لَوْ رَأَى الْعُدُولُ الْمُتَّهَمَ يُجَرِّدُ الْمَقْتُولَ وَيُعَرِّيهِ وَإِنْ لَمْ يَرَوْهُ حِينَ صَابَهُ فَإِنَّ هَذَا لَوْثٌ تَجِبُ مَعَهُ الْقَسَامَةُ.
مَسْأَلَةٌ وَفِي (الْجَلَّابِ) وَإِذَا وُجِدَ رَجُلٌ مَقْتُولٌ وَوُجِدَ رَجُلٌ بِقُرْبِهِ مَعَهُ سَيْفٌ أَوْ فِي يَدِهِ شَيْءٌ مِنْ آلَةِ الْقَتْلِ وَعَلَيْهِ آثَارُ الْقَتْلِ، فَذَلِكَ لَوْثٌ يُوجِبُ الْقَسَامَةَ لِوُلَاتِهِ.

.فَصْلٌ فِي الْقَسَامَةِ:

قَالَ ابْنُ رَاشِدٍ: وَالْقَسَامَةُ مُوجِبَةٌ مَعَ اللَّوْثِ لِلْقَتْلِ فِي الْعَمَدِ وَالدِّيَةِ فِي الْخَطَأِ، وَلَا قَسَامَةَ فِي الْأَطْرَافِ وَلَا فِي الْجِرَاحِ وَلَا فِي الْعَبِيدِ وَلَا فِي الْكُفَّارِ، وَصِفَةُ الْقَسَامَةِ أَنْ يَحْلِفَ الْأَوْلِيَاءُ خَمْسِينَ يَمِينًا أَنَّ فُلَانًا قَتَلَ وَلِيَّنَا فُلَانًا أَوْ أَنَّهُ ضَرَبَهُ وَمِنْ ضَرْبِهِ مَاتَ إنْ كَانَ قَدْ عَاشَ بَعْدَ ذَلِكَ وَيُقْتَصَرُ عَلَى قَوْلِهِ بِاَللَّهِ الَّذِي لَا إلَه إلَّا هُوَ.
وَقَالَ الْمُغِيرَةُ يَزِيدُ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ وَيَحْلِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ النَّبَوِيَّةِ عِنْدَ الْمِنْبَرِ وَفِي غَيْرِهَا بِالْجَامِعِ قِيَامًا دُبُرَ الصَّلَاةِ بِمَحْضَرِ النَّاسِ، وَيُؤْتَى إلَى الْمَسَاجِدِ الثَّلَاثَةِ مِنْ مَسِيرَةِ عَشَرَةِ أَيَّامٍ وَإِلَى سَائِرِ الْأَمْصَارِ مِنْ مَسِيرَةِ عَشَرَةِ أَمْيَالٍ.
مَسْأَلَةٌ وَيَحْلِفُ فِي الْعَمْدِ مَنْ لَهُ الْقِصَاصُ مِنْ الرِّجَالِ الْمُكَلَّفِينَ وَيَحْلِفُ فِي الْخَطَأِ الْمُكَلَّفُونَ مِنْ الْوَرَثَةِ رِجَالًا وَنِسَاءً عَلَى قَدْرِ مِيرَاثِهِمْ.
فَرْعٌ وَلَا قَسَامَةَ فِيمَنْ لَيْسَ لَهُ وَارِثٌ إذْ تَحْلِيفُ بَيْتِ الْمَالِ غَيْرُ مُمْكِنٍ.
مَسْأَلَةٌ وَلَا قَسَامَةَ إلَّا بِنَسَبٍ أَوْ وَلَاءٍ، وَلَا يُقْسِمُ مِنْ الْقَبِيلَةِ إلَّا مَنْ الْتَقَى مَعَهُ فِي نَسَبٍ ثَابِتٍ.
فَرْعٌ وَلَا يُقْسِمُ الْمَوْلَى الْأَسْفَلُ، وَلَكِنْ تُرَدُّ الْأَيْمَانُ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فَيَحْلِفُ خَمْسِينَ يَمِينًا فَإِنْ نَكَلَ سُجِنَ أَبَدًا حَتَّى يَحْلِفَ أَوْ يَمُوتَ.
مَسْأَلَةٌ:
إذَا كَانَ الْقَتْلُ خَطَأً وَكَانَ الْوَارِثُ وَاحِدًا حَلَفَ خَمْسِينَ يَمِينًا مُتَوَالِيَةً وَاسْتَحَقَّ الدِّيَةَ كَانَ ذَكَرًا، أَوْ نِصْفَهَا إنْ كَانَتْ أُنْثَى، أَوْ ثُلُثَيْهَا إنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ، وَإِنْ كَانُوا جَمَاعَةً وُزِّعَتْ عَلَيْهِمْ عَلَى قَدْرِ مَوَارِيثِهِمْ، فَإِنْ تَرَكَ ذَكَرًا وَأُنْثَى حَلَفَ الذَّكَرُ ثُلُثَيْ الْخَمْسِينَ وَالْأُنْثَى ثُلُثَهَا فَإِنْ تَرَكَ ابْنَةً وَعَصَبَةً حَلَفَتْ الْبِنْتُ نِصْفَهَا وَالْعَصَبَةُ نِصْفَهَا فَإِنْ غَابَ الْوَلَدُ أَوْ الْعَصَبَةُ لَمْ تَأْخُذْ الِابْنَةُ حَظَّهَا إلَّا بَعْدَ أَنْ تَحْلِفَ خَمْسِينَ يَمِينًا، فَإِذَا قَدِمَ الْغَائِبُ حَلَفَ مَا يَخُصُّهُ أَوْ لَوْ كَانَ حَاضِرًا أَوْ أَخَذَ نَصِيبَهُ.
مَسْأَلَةٌ وَإِذَا وُزِّعَتْ الْأَيْمَانُ فَبَقِيَ كَسْرٌ جُبِرَ عَلَى أَكْثَرِهِمْ حَظًّا مِنْهُ وَقِيلَ عَلَى أَكْثَرِهِمْ حَظًّا مِنْ الْأَيْمَانِ.
مِثَالُ ذَلِكَ أَنْ يَتْرُكَ زَوْجَاتٍ وَبَنَاتٍ وَأَخَوَاتٍ فَعَلَى الزَّوْجَاتِ سِتَّةُ أَيْمَانٍ وَرُبْعُ يَمِينٍ، وَعَلَى الْبَنَاتِ ثَلَاثٌ وَثَلَاثُونَ وَثُلُثٌ، وَعَلَى الْأَخَوَاتِ عَشَرَةُ أَيْمَانٍ وَثَلَاثَةُ أَثْمَانٍ وَثُلُثُ ثُمُنٍ.
فَهَلْ تُجْبَرُ الْيَمِينُ الْمُنْكَسِرَةُ عَلَى الْأَخَوَاتِ؛ لِأَنَّ حَظَّهُنَّ مِنْ الْكَسْرِ أَكْثَرُ، أَوْ عَلَى الْبَنَاتِ؛ لِأَنَّ حَظَّهُنَّ مِنْ الْأَيْمَانِ أَكْثَرُ، اُخْتُلِفَ فِي ذَلِكَ فَيَبْقَى عَلَى الزَّوْجَاتِ سِتَّةٌ، فَإِنْ كُنَّ أَرْبَعًا حَلَفْنَ يَمِينَيْنِ عَلَى مَذْهَبِ ابْنِ الْقَاسِمِ، وَعَلَى مَذْهَبِ أَشْهَبَ يَمِينًا يَمِينًا، ثُمَّ يَحْلِفُ اثْنَتَانِ مِنْهُنَّ يَمِينًا يَمِينًا، وَيَبْقَى عَلَى الْبَنَاتِ ثَلَاثٌ وَثَلَاثُونَ إنْ قُلْنَا إنَّ الْأَخَوَاتِ يَجْبُرْنَ الْكَسْرَ.
فَإِنْ كَانَتْ الْبَنَاتُ عَشْرًا حَلَفْنَ ثَلَاثًا ثَلَاثًا ثُمَّ يَحْلِفُ ثَلَاثٌ مِنْهُنَّ يَمِينًا يَمِينًا عَلَى مَذْهَبِ أَشْهَبَ، وَعَلَى مَذْهَبِ ابْنِ الْقَاسِمِ يَحْلِفْنَ أَرْبَعًا أَرْبَعًا، وَيَكُونُ عَلَى الْأَخَوَاتِ إحْدَى عَشَرَةَ إنْ جُبِرَتْ الْيَمِينُ الْمُنْكَسِرَةُ عَلَيْهِنَّ، فَإِنْ كُنَّ عَشَرًا فَعَلَى مَذْهَبِ ابْنِ الْقَاسِمِ يَحْلِفْنَ يَمِينَيْنِ يَمِينَيْنِ، وَعَلَى مَذْهَبِ أَشْهَبَ يَمِينًا يَمِينًا، وَتَحْلِفُ وَاحِدَةٌ يَمِينًا، فَإِنْ وَقَعَ تَشَاحٌّ فِيمَنْ يَحْلِفُ الْيَمِينَ الزَّائِدَةَ فَقَالَ ابْنُ كِنَانَةَ لَا يَجْبُرُ الْإِمَامُ عَلَيْهَا أَحَدًا، وَيُقَالُ لَهُنَّ لَا نُعْطِي وَاحِدَةً مِنْكُنَّ شَيْئًا إلَّا أَنْ تَحْلِفُوا بَقِيَّةَ الْأَيْمَانِ، وَيُشْبِهُ أَنْ يَقُولَ أَشْهَبُ مِثْلَ ذَلِكَ وَيُشْبِهُ أَنْ يُقْرَعَ بَيْنَهُنَّ.
فَرْعٌ وَلَوْ كَانَ عَدَدُهُمْ أَكْثَرَ مِنْ خَمْسِينَ اُجْتُزِئَ مِنْهُمْ بِخَمْسِينَ عَلَى مَذْهَبِ ابْنِ الْقَاسِمِ وَأَشْهَبَ، وَعَنْ ابْنِ الْمَاجِشُونِ أَنَّهُمْ يَحْلِفُونَ كُلَّهُمْ يَمِينًا يَمِينًا.
مَسْأَلَةٌ وَلَا قَسَامَةَ لِأَهْلِ الذِّمَّةِ وَإِنْ تَحَاكَمُوا إلَيْنَا وَلَا يَقْسِمُ مَعَ قَوْلِ النَّصْرَانِيِّ دَمِي عِنْدَ فُلَانٍ، قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ لَا يُقْبَلُ قَوْلُ ذِمِّيٍّ عَلَى ذِمِّيٍّ وَعَلَى غَيْرِهِ، وَلَا عَبْدٍ عَلَى عَبْدٍ وَلَا عَلَى غَيْرِهِ، وَلَا صَبِيٍّ عَلَى صَبِيٍّ وَلَا عَلَى كَبِيرٍ، كَمَا لَيْسَ لِلْوَاحِدِ مِنْهُمْ قَسَامَةٌ، وَعِنْدَ ابْنِ حَبِيبٍ يُقْسِمُ مَعَ قَوْلِ الصَّبِيِّ الْمُرَاهِقِ وَرَوَاهُ مَالِكٌ.
فَرْعٌ وَإِنْ قَالَ الْعَبْدُ دَمِي عِنْدَ فُلَانٍ الْحُرِّ، فَلَا يَحْلِفُ سَيِّدُهُ لِيَسْتَحِقَّ دَمَهُ، وَاسْتُحْسِنَ أَنْ يَحْلِفَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ إنْ كَانَ حُرًّا، قَالَ أَشْهَبُ يَحْلِفُ خَمْسِينَ يَمِينًا وَيَبْرَأُ، وَيُضْرَبُ مِائَةً وَيُسْجَنُ سَنَةً، فَإِنْ نَكَلَ حَلَفَ سَيِّدُ الْعَبْدِ يَمِينًا وَاحِدًا، وَاسْتَحَقَّ قِيمَةَ عَبْدِهِ مَعَ ضَرْبِ مِائَةٍ وَسَجْنِ سَنَةٍ.
وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ يَحْلِفُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ يَمِينًا وَاحِدَةً وَلَا قِيمَةَ عَلَيْهِ، وَلَا يُضْرَبُ وَلَا يُسْجَنُ، فَإِنْ نَكَلَ غَرِمَ الْقِيمَةَ وَضُرِبَ مِائَةً وَسُجِنَ سَنَةً.
مَسْأَلَةٌ وَإِنْ كَانَ الْقَتْلُ عَمْدًا، حَلَفَ أَوْلِيَاءُ الدَّمِ إنْ كَانُوا اثْنَيْنِ فَصَاعِدًا خَمْسِينَ يَمِينًا مُتَوَالِيَةً عَلَى الْبَتِّ فِي الْمَسْجِدِ الْجَامِعِ، أَوْ عِنْدَ الْمِنْبَرِ كَمَا تَقَدَّمَ، وَلَا مَدْخَلَ لِلنِّسَاءِ فِي الْعَمْدِ، وَتَوْزِيعُ الْأَيْمَانِ عَلَيْهِمْ عَلَى عَدَدِ رُءُوسِهِمْ وَيَسْتَحِقُّونَ الدَّمَ، فَإِنْ شَاءُوا قَتَلُوا وَإِنْ شَاءُوا عَفَوْا.
فَرْعٌ وَيَبْدَأُ أَوْلِيَاءُ الدَّمِ بِالْيَمِينِ، وَلَهُمْ أَنْ يَسْتَعِينُوا مِنْ عَصَبَةِ الْمَيِّتِ بِمَنْ يَحْلِفُ مَعَهُمْ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَهُمْ وِلَايَةٌ فِي الدَّمِ، مِثْلَ أَنْ يَتْرُكَ الْمَيِّتُ بَنِينَ وَإِخْوَةً وَعُمُومَةً فَالْوِلَايَةُ لِلْبَنِينَ، فَإِنْ شَاءُوا حَلَفُوا وَإِنْ شَاءُوا أَدْخَلُوا مَعَهُمْ إخْوَةَ الْمَيِّتِ وَعُمُومَتَهُ، فَحَلَفُوا عَنْهُمْ أَوْ حَلَفُوا مَعَهُمْ.
فَرْعٌ:
وَإِنْ كَانَ وَلِيُّ الدَّمِ وَاحِدًا لَمْ يَحْلِفْ وَحْدَهُ فِي الْعَمْدِ، وَلَكِنْ يَسْتَعِينُ مِنْ عَصَبَةِ الْمَيِّتِ بِمَنْ يَحْلِفُ مَعَهُ.
فَرْعٌ وَفِي الرَّابِعِ مِنْ أَحْكَامِ الدِّمَاءِ مِنْ النَّوَادِرِ أَنَّ أَيْمَانَ الْقَسَامَةِ تُرَدُّ فِي الْعَمْدِ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، وَكَذَلِكَ فِي الْخَطَأِ.
وَقَالَ ابْنُ الْمَاجِشُونِ لَا تُرَدُّ الْقَسَامَةُ فِي الْخَطَأِ عَلَى أَحَدٍ؛ لِأَنَّهَا لَا تُرَدُّ عَلَى مَعْرُوفِينَ وَلَا عَلَى مَنْ حَقَّ عَلَيْهِمْ حَقٌّ؛ لِأَنَّ الدِّيَةَ إنَّمَا تَجِبُ يَوْمَ تُعْرَضُ، قَالَ ابْنُ الْمَوَّازِ وَقَوْلُ ابْنِ الْقَاسِمِ بِالرَّدِّ أَحَبُّ إلَيَّ، فَكَمَا طَلَبُوا لِيَغْرَمُوا كَذَلِكَ يُطْلَبُونَ لِيَحْلِفُوا، وَرَوَى ابْنُ وَهْبٍ أَنَّهَا تُرَدُّ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، فَإِنْ نَكَلَ لَمْ يَلْزَمْ عَاقِلَتَهُ شَيْءٌ بِنُكُولِهِ قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ وَمَنْ حَلَفَ مِنْ الْعَاقِلَةِ بَرِئَ، وَمَنْ نَكَلَ غَرِمَ قَدْرَ مَا يُصِيبُهُ، وَمَسَائِلُ الْقَسَامَةِ مَحَلُّهَا كُتُبُ الْفِقْهِ.

.الْبَابُ السَّابِعُ وَالْعِشْرُونَ فِي الْقَضَاءِ بِأَيْمَانِ اللِّعَانِ:

حَقِيقَةُ اللِّعَانِ: يَمِينُ الزَّوْجِ عَلَى زَوْجَتِهِ بِزِنًا أَوْ نَفْيِ حَمْلِهَا أَوْ وَلَدِهَا، وَيَمِينُ الزَّوْجَةِ عَلَى تَكْذِيبِهِ وَسُمِّيَتْ أَيْمَانُهَا لِعَانًا؛ لِأَنَّ فِيهَا ذِكْرُ اللَّعْنِ، وَلِكَوْنِهَا سَبَبًا فِي بُعْدِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ صَاحِبِهِ.
وَصِفَتُهَا: أَنْ يَقُولَ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ أَشْهَدُ بِاَللَّهِ.
وَقَالَ مُحَمَّدٌ يَزِيدُ الَّذِي لَا إلَهَ إلَّا هُوَ، فَإِنْ كَانَ ادَّعَى الرُّؤْيَةَ فَلْيَقُلْ أَشْهَدُ بِاَللَّهِ الَّذِي لَا إلَهَ إلَّا هُوَ، إنِّي لِمَنْ الصَّادِقِينَ لَرَأَيْتهَا تَزْنِي زِنًا كَالْمِرْوَدِ فِي الْمُكْحُلَةِ، يَقُولُ ذَلِكَ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ، ثُمَّ يَقُولُ فِي الْخَامِسَةِ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَيْهِ إنْ كَانَ مِنْ الْكَاذِبِينَ، ثُمَّ تَقُولُ الْمَرْأَةُ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ: أَشْهَدُ بِاَللَّهِ الَّذِي لَا إلَهَ إلَّا هُوَ إنَّهُ لِمَنْ الْكَاذِبِينَ، وَمَا رَآنِي أَزْنِي، ثُمَّ تَقُولُ فِي الْخَامِسَةِ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إنْ كَانَ مِنْ الصَّادِقِينَ.
فَرْعٌ:
فَإِنْ لَاعَنَ لِنَفْيِ الْحَمْلِ، وَاعْتَمَدَ عَلَى الرُّؤْيَةِ وَحْدَهَا عَلَى أَحَدِ الْأَقْوَالِ زَادَ فِي الْأَرْبَعِ وَمَا هَذَا الْحَمْلُ مِنِّي، وَتَزِيدُ الْمَرْأَةُ وَأَنَّ الْحَمْلَ مِنْهُ.
فَرْعٌ:
وَيَقُولُ فِي اللِّعَانِ إذَا اعْتَمَدَ عَلَى الِاسْتِبْرَاءِ وَحْدَهُ عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ إنِّي لِمَنْ الصَّادِقِينَ، لَقَدْ اسْتَبْرَأْتهَا مِنْ كَذَا، فَإِنْ اعْتَمَدَ عَلَيْهِمَا مَعًا ذَكَرَهُمَا مَعًا فِي الْأَرْبَعِ الْأَيْمَانِ.
فَرْعٌ وَإِذَا لَاعَنَ مِنْ دَعْوَى الْغَضَبِ، قَالَ أَشْهَدُ بِاَللَّهِ الَّذِي لَا إلَهَ إلَّا هُوَ، مَا هَذَا الْحَمْلُ مِنِّي وَإِنِّي لِمَنْ الصَّادِقِينَ.
وَقَالَ فِي الْخَامِسَةِ وَأَنَّ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَيْهِ إنْ كَانَ مِنْ الْكَاذِبِينَ، وَتَقُولُ الْمُغْتَصَبَةُ إذَا الْتَعَنَتْ لِنَفْيِ الْوَلَدِ: أَشْهَدُ بِاَللَّهِ الَّذِي لَا إلَهَ إلَّا هُوَ، مَا زَنَيْت وَلَا أَطَعْت، وَتَقُولُ فِي الْخَامِسَةِ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إنْ كَانَ مِنْ الصَّادِقِينَ.
فَرْعٌ:
وَيَتَعَيَّنُ لَفْظُ الشَّهَادَةِ وَلَفْظُ اللَّعْنِ وَالْغَضَبِ بَعْدَهَا.
فَرْعٌ:
وَفِي مَعِينِ الْحُكَّامِ: وَالْحُرَّةُ الْمُسْلِمَةُ الَّتِي لَمْ تَبْلُغْ الْمَحِيضَ، وَقَدْ جُومِعَتْ تُلَاعِنُ زَوْجَهَا؛ لِأَنَّ مَنْ قَذَفَهَا يُحَدُّ.
فَرْعٌ:
فَلَوْ بَدَأَتْ الْمَرْأَةُ بِاللِّعَانِ، فَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ لَا تُعَادُ وَقَالَ أَشْهَبُ تُعَادُ.
فَرْعٌ:
وَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ فِي أَشْرَفِ أَمْكِنَةِ الْبَلَدِ عِنْدَ الْمِنْبَرِ فِي الْمَدِينَةِ وَعِنْدَ الرُّكْنِ فِي مَكَّةَ، وَعِنْدَ الْمِحْرَابِ فِي غَيْرِهِمَا فِي الْجَامِعِ الْأَعْظَمِ، وَيَكُونُ ذَلِكَ بِحُضُورِ جَمَاعَةٍ أَقَلُّهَا أَرْبَعَةٌ، وَهَلْ يَكُونُ فِي إثْرِ صَلَاةٍ قَوْلَانِ وَالْمُخْتَارُ أَنْ يَكُونَ بَعْدَ صَلَاةِ الْعَصْرِ.
فَرْعٌ:
وَلَا يُحْكَمُ بِاللِّعَانِ إلَّا بَعْدَ ثُبُوتِ الْحَمْلِ، بِشَهَادَةِ امْرَأَتَيْنِ وَثُبُوتِ الزَّوْجِيَّةِ، إنْ كَانَا مِنْ أَهْلِ الْمِصْرِ، فَإِنْ لَمْ يَثْبُتْ ذَلِكَ عِنْدَ الْحَاكِمِ حُدَّ، وَإِنْ لَمْ يَكُونَا مِنْ أَهْلِ الْمِصْرِ مَكَّنَّهُ مِنْ اللِّعَانِ.
فَرْعٌ:
وَتَحْلِفُ الذِّمِّيَّةُ فِي كَنِيسَتِهَا لَا فِي الْمَسْجِدِ.
فَرْعٌ:
وَيَحْلِفُ الْمَرِيضُ بِمَوْضِعِهِ بِمَحْضَرِ عُدُولٍ يَبْعَثُهُمْ الْحَاكِمُ.
فَرْعٌ:
وَتُؤَخَّرُ الْحَائِضُ بَعْدَ لِعَانِ زَوْجِهَا حَتَّى تَطْهُرَ.
تَنْبِيهٌ:
وَلَا يَكُونُ اللِّعَانُ إلَّا بِمَجْلِسِ الْحَاكِمِ أَوْ فِي مَجْلِسِ رَجُلٍ مِنْ الْفُقَهَاءِ بِأَمْرِ الْحَاكِمِ.
مَسْأَلَةٌ:
وَتَقَعُ الْفُرْقَةُ بَيْنَهُمَا بِتَمَامِ التَّحَالُفِ دُونَ حُكْمِ حَاكِمٍ، قَالَهُ مَالِكٌ وَابْنُ الْقَاسِمِ وَقَالَ ابْنُ حَبِيبٍ لَا تَقَعُ حَتَّى يُفَرِّقَ الْإِمَامُ بَيْنَهُمَا وَقَالَ ابْنُ نَافِعٍ يُسْتَحَبُّ لَهُ أَنْ يُطَلِّقَهَا ثَلَاثًا عِنْدَ فَرَاغِهِ مِنْ اللِّعَانِ، فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ أَجْرَيَا عَلَى سُنَّةِ الْمُتَلَاعِنَيْنِ أَنَّهُمَا لَا يَتَنَاكَحَانِ أَبَدًا.
وَقَالَ ابْنُ لُبَابَةَ: إنْ لَمْ يَفْعَلْ طَلَّقَهَا الْإِمَامُ عَلَيْهِ ثَلَاثًا، وَلَمْ يَمْنَعْهُ مِنْ مُرَاجَعَتِهَا بَعْدَ زَوْجٍ.
وَفِي كِتَابِ ابْنِ شَعْبَانَ: وَفُرْقَةُ الْمُتَلَاعِنَيْنِ ثَلَاثٌ، وَيَتَزَوَّجُهَا بَعْدَ زَوْجٍ آخَرَ وَفِي الْجَلَّابِ فُرْقَةُ الْمُتَلَاعِنَيْنِ فَسْخٌ بِغَيْرِ طَلَاقٍ وَالْمَشْهُورُ مَا قَدَّمْنَا عَنْ مَالِكٍ وَابْنِ الْقَاسِمِ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ.

.الْبَابُ الثَّامِنُ وَالْعِشْرُونَ فِي الْقَضَاءِ بِالِاتِّهَامِ وَأَيْمَانِ التُّهْمَةِ:

مَسْأَلَةٌ:
وَفِي الطُّرَرِ، لَا يَجُوزُ لِلْمُرْتَهِنِ أَنْ يُكْرِيَ الرَّهْنَ مِنْ قَرِيبِ الرَّاهِنِ، وَلَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ سَبَبِهِ، وَلَا لِصَدِيقِهِ الْمُلَاطِفِ، وَلَا لِأَحَدٍ يُتَّهَمُ أَنْ يَكُونَ اكْتَرَى ذَلِكَ لِرَبِّ الدَّارِ، فَإِنْ أَكْرَاهُ مِنْ أَحَدٍ مِنْ هَؤُلَاءِ، ثُمَّ أَكْرَاهُ مِنْ صَاحِبِ الدَّارِ خَرَجَ الرَّهْنُ مِنْ أَنْ يَكُونَ رَهْنًا لِلتُّهْمَةِ الدَّاخِلَةِ فِيهِ مِنْ إجَارَتِهِ مِمَّنْ يُتَّهَمُ عَلَيْهِ وَنَحْوُهُ فِي كِتَابِ الرَّهْنِ مِنْ الْمُخْتَلِطَةِ.
مَسْأَلَةٌ:
وَفِي أَحْكَامِ ابْنِ سَهْلٍ فِيمَنْ أَشْهَدَ وَهُوَ صَحِيحٌ، أَنَّهُ اشْتَرَى لِابْنِهِ هَذِهِ الدَّارَ بِأَلْفِ دِينَارٍ مِنْ ابْنِهِ فِي زَعْمِهِ، وَأَشْهَد أَنَّهُ إنَّمَا يُكْرِيهَا وَيَغْتَلُّهَا لَهُ وَبِاسْمِهِ، ثُمَّ يَمُوتُ عَلَى ذَلِكَ وَهُوَ صَغِيرٌ فِي حِجْرِهِ، وَلَا يُعْلَمُ لِابْنِهِ مَالٌ مِنْ وَجْهٍ مِنْ الْوُجُوهِ، فَهُوَ تَوْلِيجٌ وَهِيَ مِيرَاثٌ بَيْنَ الْوَرَثَةِ.
فَرْعٌ:
قَالَ وَكَذَلِكَ لَوْ أَقَرَّ عِنْدَ مَوْتِهِ أَنَّ هَذَا لِابْنِهِ مِمَّا وِرْثَهُ عَنْ أُمِّهِ وَلَا بَيِّنَةَ فِيهِ، قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: فَإِنْ كَانَ يُعْرَفُ لَهَا مَالٌ أَوْ عَرْضٌ وَكَانَ أَمْرًا بَيِّنًا قُبِلَ قَوْلُهُ وَإِلَّا لَمْ يُجْزِهِ.
مَسْأَلَةٌ:
وَمَنْ أَشْهَدَ فِي صِحَّتِهِ أَنِّي بِعْت مَنْزِلِي هَذَا مِنْ امْرَأَتِي أَوْ ابْنِي بِمَالٍ عَظِيمٍ، وَلَمْ يَرَ أَحَدٌ مِنْ الشُّهُودِ الثَّمَنَ، وَلَمْ تَزَلْ الدَّارُ بِيَدِ الْبَائِعِ إلَى أَنْ مَاتَ، قَالَ لَا يَجُوزُ هَذَا، وَلَيْسَ هَذَا بَيْعًا، وَإِنَّمَا هُوَ تَوْلِيجٌ وَخَدِيعَةٌ وَوَصِيَّةٌ لِوَارِثٍ.
قَالَ ابْنُ رَاشِدٍ وَقَدْ قَالُوا فِي الْأَبِ يَبِيعُ مِنْ بَعْضِ وَلَدِهِ مِلْكًا، ثُمَّ يَقُومُ إخْوَتُهُ بَعْدَ مَوْتِ أَبِيهِمْ يَدَّعُونَ أَنَّهُ تَوْلِيجٌ مِنْ أَبِيهِمْ، إنْ كَتَبَ فِي الْوَثِيقَةِ قَبَضَ الثَّمَنَ بِالْمُعَايَنَةِ فَلَا يَمِينَ عَلَى الِابْنِ، وَإِلَّا فَفِي الْيَمِينِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ. ثَالِثُهَا: إنْ أَثْبَتُوا مَيْلَ أَبِيهِمْ إلَيْهِ دُونَهُمْ حَلَفَ وَإِلَّا فَلَا.
وَصِفَةُ الشَّهَادَةِ بِالتَّوْلِيجِ أَنْ يَقُولَ الشُّهُودُ حَضَرْنَا وَقْتَ الْعَقْدِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْأَبِ، وَإِنَّمَا أَظْهَرَ الْبَيْعَ وَأَضْمَرَ الْوَلِيجَةَ، وَلَا يَثْبُتُ التَّوْلِيجُ إلَّا بِإِقْرَارِ الْمُولَجِ إلَيْهِ، وَأَمَّا إنْ شَهِدُوا عَلَى إقْرَارِ الْأَبِ فَلَا يَلْزَمُ الْوَلَدَ إلَّا الْيَمِينُ.
فَرْعٌ:
وَقَالَ ابْنُ حَبِيبٍ عَنْ مُطَرِّفٍ وَابْنِ الْمَاجِشُونِ فِيمَنْ بَاعَ وَلَدَهُ الصَّغِيرَ أَوْ الْكَبِيرَ أَوْ أَجْنَبِيًّا دَارِهِ الَّتِي يَسْكُنُ بِثَمَنٍ ضَعِيفٍ مِثْلَ أَنْ يَبِيعَهَا بِعَشَرَةٍ وَهِيَ ثَمَانُمِائَةٍ، وَلَا تَزَالُ فِي يَدِهِ حَتَّى يَمُوتَ، قَالَ لَيْسَ هَذَا بَيْعًا وَهُوَ مِنْ بَابِ الْعَطِيَّةِ الَّتِي لَمْ تُقْبَضْ وَهِيَ بَاطِلَةٌ، وَتُرَدُّ الدَّنَانِيرُ إلَى رَبِّهَا وَهُوَ فِي الْأَجْنَبِيِّ أَبْعَدُ تُهْمَةً إلَّا أَنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ لَا يَجُوزُ وَهُوَ مَرْدُودٌ مَا لَمْ يُشْبِهْ أَنْ يَكُونَ ثَمَنًا أَوْ مُقَارِبًا، أَوْ مُشْكِلًا فَيَمْضِي عَلَى جِهَةِ الْبَيْعِ.
فَرْعٌ:
وَعَنْ سَحْنُونٍ فِي كِتَابٍ كَتَبَهُ إلَيْهِ شُرَيْحٌ الْقَاضِي، فِيمَنْ بَاعَ أَرْبَعَةَ نَفَرٍ مِنْ بَعْضِ وَرَثَتِهِ شَيْئًا بِمِائَةِ دِينَارٍ، وَقَبَضَ خَمْسَةَ دَنَانِيرَ بِمَحْضَرِ الْبَيِّنَةِ، وَشَهِدَ أَنَّهُ قَبَضَ الْجَمِيعَ، أَوْ كَانَ الْمُشْتَرِي أَجْنَبِيًّا فَكَتَبَ إلَيْهِ سَحْنُونٌ يَنْظُرُ الْحَاكِمُ فَإِنْ اسْتَرَابَ أَمْرًا وَخَافَ أَنْ يَكُونَ عَمِلَ عَلَى مَا لَا يَنْبَغِي نَظَرَ فِيهِ، وَكَشَفَ وَسَأَلَ وَالْفِعْلُ فِي الْمَرَضِ أَضْعَفُ، فَلَمَّا أَنْ صَحَّ الْآمِرُ وَلَمْ يَكُنْ الدَّافِعُ مَعْرُوفًا، وَلَا عَرَفَتْ الْبَيِّنَةُ إلَّا أَنَّهُ مَحْدُودٌ فِي كِتَابِ الشِّرَاءِ، فَلَا يَجُوزُ الْبَيْعُ إلَّا أَنْ يَكُونَ فِي الْكِتَابِ إبْرَارُ الْمُشْتَرِي بِالْقَبْضِ وَالْمَعْرِفَةِ، فَيَنْظُرُ فِيهِ مِنْ ابْنِ سَهْلٍ.
مَسْأَلَةٌ:
وَإِذَا أَقَرَّ الرَّجُلُ لِزَوْجَتِهِ فِي صِحَّتِهِ عِنْدَ الْإِشْهَادِ، فَفِي الطُّرَرِ أَنَّ إقْرَارَهُ وَإِشْهَادَهُ وَعَدَمَ إشْهَادِهِ سَوَاءٌ، وَهُوَ فِي الْعُتْبِيَّةِ مِنْ سَمَاعِ أَشْهَبَ.
وَقَالَ ابْنُ زَرْبٍ ذَلِكَ لَهَا وَتَصِحُّ الشَّهَادَةُ لَهَا بِذَلِكَ ولابد لَهَا مِنْ الْيَمِينِ، وَحُكِيَ أَنَّ بَعْضَ الشُّيُوخِ كَانَ يُفْتِي أَنَّهُ لَا يَمِينَ عَلَيْهَا، إلَّا أَنْ يُحَقِّقَ الْوَرَثَةُ عَلَيْهَا مَا تَجِبُ بِهِ عَلَيْهَا الْيَمِينُ، وَضَعَّفَهُ ابْنُ زَرْبٍ وَقَالَ: لابد مِنْ الْيَمِينِ، وَهَذَا كُلُّهُ كَمَا تَقَدَّمَ إذَا كَانَ فِي صِحَّتِهِ حِينَ الْإِشْهَادِ، وَأَمَّا إنْ أَشْهَدَ وَهُوَ مَرِيضٌ، فَلَا خِلَافَ بَيْنَهُمْ أَنَّهُ لَا يَنْفُذُ الْإِشْهَادُ فَتَأَمَّلْ ذَلِكَ، وَأَفْتَى ابْنُ زَرْبٍ فِي ذَلِكَ فَقَالَ: أَمَّا مَا كَانَ مِنْ زِيِّهَا فَإِنَّهَا تَأْخُذُهُ بِلَا يَمِينٍ، وَأَمَّا مَا كَانَ مِنْ زِيِّهِ أَوْ مِنْ زِيِّهِمَا فَلَا تَأْخُذُهُ إلَّا بَعْدَ يَمِينِهَا.
وَأَفْتَى ابْنُ وَضَّاحٍ فِي ذَلِكَ أَنَّ ذَلِكَ عَامِلٌ إلَّا فِي ذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ دَنَانِيرَ أَوْ دَرَاهِمَ، وَمَا كَانَ مِنْ ثِيَابِهِ أَوْ زِيِّهِ أَوْ عُرُوضٍ أَوْ طَعَامٍ فَهُوَ مَوْرُوثٌ، إلَّا أَنْ يُعَيِّنَ ذَلِكَ فِي صِحَّتِهِ، وَيُعَايِنَ الشُّهُودُ ذَلِكَ.
وَفِي مَوْضِعٍ آخَرَ مِنْ الطُّرَرِ، إذَا حَضَرَتْ الرَّجُلَ الْوَفَاةُ وَكَانَ لَهُ مَالٌ كَثِيرٌ عَرِيضٌ، فَذَكَرَ أَنَّ جَمِيعَ ذَلِكَ لِامْرَأَتِهِ مِنْ مَالِهَا، فَإِنْ كَانَ لَا يُتَّهَمُ صُدِّقَ وَإِنْ كَانَ يُتَّهَمُ عَلَى ذَلِكَ نُظِرَ فِيهِ؛ لِأَنَّ إقْرَارَهُ لِمَنْ يُتَّهَمُ عَلَيْهِ وَصِيَّةٌ مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا عَلِمَ أَنَّ وَصِيَّتَهُ لَا تَجُوزُ جَعَلَهَا إقْرَارًا.
مَسْأَلَةٌ:
وَفِي أَحْكَامِ ابْنِ زِيَادٍ فِي رَجُلٍ تَرَدَّدَ عَلَى الْقَاضِي مُشْتَكِيًا بِرَجُلَيْنِ عَدْلَيْنِ حِينًا، ثُمَّ قَامَ رَجُلٌ يَدَّعِي عَلَى الْمُشْتَكِي بِالرَّجُلَيْنِ دَعْوَى، فَسَأَلَهُ الْقَاضِي بَيِّنَةً عَلَى دَعْوَاهُ، فَسَمَّى الرَّجُلَيْنِ اللَّذَيْنِ اشْتَكَى بِهِمَا الْمَطْلُوبُ، فَقَالَ لَهُ الْقَاضِي: هَلْ لَك غَيْرُهُمَا؟ فَقَالَ لَا فَاسْتَرَابَ الْقَاضِي مِنْ ذَلِكَ وَسَأَلَ الْفُقَهَاءَ فَأَجَابُوهُ بِأَنَّ التَّثْبِيتَ فِي الشُّهُودِ مِنْ أَوْلَى الْأَشْيَاءِ وَأَحَقِّهَا، لِمَا ظَهَرَ مِنْ كَثِيرٍ مِنْ النَّاسِ مِنْ الشَّهَادَةِ بِغَيْرِ الْحَقِّ، وَاَلَّذِي اسْتَرَابَ الْقَاضِي مِنْهُ مَحَلُّ رِيبَةٍ إلَّا فِي الْعُدُولِ الْمُبَرَّزِينَ فِي الْعَدَالَةِ الْمَعْرُوفِينَ بِالْفَضْلِ وَالْخَيْرِ وَاسْتِقَامَةِ الطَّرِيقَةِ عَلَى طُولِ الْأَيَّامِ، وَمِنْ الْمُدَوَّنَةِ أَنَّ شَهَادَةَ مِثْلِ هَؤُلَاءِ لَا يُسْقِطُهَا إلَّا التَّجْرِيحُ بِالْعَدَاوَةِ اُنْظُرْ أَحْكَامَ ابْنِ سَهْلٍ.
مَسْأَلَةٌ:
وَمَنْ أَقَرَّ بِقَتْلٍ خَطَأٍ فَإِنْ اُتُّهِمَ أَنَّهُ أَرَادَ غِنَاءَ وَلَدِ الْمَقْتُولِ، كَالْأَخِ وَالصِّدِّيقِ لَمْ يُصَدَّقْ، وَإِنْ كَانَ مِنْ الْأَبَاعِدِ صُدِّقَ إنْ كَانَ ثِقَةً مَأْمُونًا، وَلَمْ يُخَفْ أَنْ يُرْشَى عَلَى ذَلِكَ.
مَسْأَلَةٌ:
وَلَوْ كَانَ تَحْتَ يَدِ الْأَبِ لِوَلَدِهِ أَوْ الْوَصِيِّ لِمَحْجُورِهِ مَالٌ، وَعَلَى الْيَتِيمِ دَيْنٌ فَادَّعَى الْأَبُ أَوْ الْوَصِيُّ نَفَادَ الْمَالِ الَّذِي تَحْت يَدِهِ، وَلَمْ يُعْلَمْ نَفَادُهُ وَاتُّهِمَ عَلَى كَتْمِهِ فَإِنَّهُ لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ، وَيُحْبَسُ حَتَّى يَتَبَيَّنَ صِدْقُهُ.
مَسْأَلَةٌ:
لَوْ أَقَرَّ لِوَلَدِهِ بِدَيْنٍ لَا يُعْرَفُ سَبَبُهُ لَمْ يَجُزْ لَهُ، قَالَ ابْنُ حَبِيبٍ وَهُوَ قَوْلُ عُلَمَائِنَا، وَلَوْ قَالَ اشْهَدُوا أَنَّ لِوَلَدِي عَلَيَّ مِائَةُ دِينَارٍ مِنْ كَذَا وَكَذَا وَلَا يُعْرَفُ ذَلِكَ، فَلَا يَجُوزُ إلَّا أَنْ يَأْتِيَ بِأَمْرٍ يُعْرَفُ لَهُ بِهِ مَالٌ وَذَلِكَ لِأَجْلِ التُّهْمَةِ فِي ذَلِكَ.
تَنْبِيهٌ:
قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ فِي الْمُدَوَّنَةِ: إقْرَارُهُ بِدَيْنٍ لِوَارِثٍ فِي الصِّحَّةِ جَائِزٌ، وَإِنَّمَا يُتَّهَمُ فِي إقْرَارِهِ فِي الْمَرَضِ إلَّا فِي الزَّوْجَةِ إذَا كَانَ الَّذِي بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا مُتَفَاقِمًا، وَأَمَّا إقْرَارُهُ فِي الصِّحَّةِ لِوَارِثٍ فَرِوَايَةُ أَصْبَغَ جَوَازُهُ كَمَا فِي الْمُدَوَّنَةِ، قَالَ أَصْبَغُ إلَّا أَنْ يُقِرَّ لِوَلَدٍ لَهُ رَضِيعٍ، وَلَا يُعْرَفُ بِكَسْبٍ وَلَا فَائِدَةَ مِنْ مِيرَاثٍ دَخَلَ عَلَيْهِ صَارَ إلَى أَبِيهِ، أَوْ بِسَبَبٍ أَوْ هِبَةٍ مِنْ أَحَدٍ فَهُوَ حِينَئِذٍ تَوْلِيجٌ وَهَدَرٌ.
فَرْعٌ وَكَذَلِكَ إنْ أَقَرَّ لِكَبِيرٍ مِنْ الْمَالِ بِمَا لَا يُشْبِهُ وَلَا يُثْبِتُ أَسْبَابَ شَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الْوُجُوهِ فَإِنَّهُ يَبْطُلُ كُلُّهُ وَيَكُونُ تَوْلِيجًا.
مَسْأَلَةٌ:
وَفِي أَحْكَامِ ابْنِ سَهْلٍ، قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: مَنْ وَكَّلَ عَلَى قَبْضِ شُفْعَتِهِ فَأَقَرَّ الْوَكِيلُ أَنَّ مُوَكِّلَهُ قَدْ سَلَّمَ الشُّفْعَةَ فَهُوَ شَاهِدٌ، وَيَحْلِفُ الْمُشْتَرِي مَعَهُ وَتَبْطُلُ الشُّفْعَةُ، وَلَوْ كَانَ مَعَ إقْرَارِ الْوَكِيلِ شَاهِدٌ آخَرُ وَكَانَا عَدْلَيْنِ بَطَلَتْ الشُّفْعَةُ إلَّا أَنْ يَكُونَ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ غَائِبًا غَيْبَةً يُتَّهَمُ وَكِيلُهُ عَلَى الِانْتِفَاعِ بِالْمَالِ، وَلِلْمَالِ بَالٌ فَلَا تَبْطُلُ الشُّفْعَةُ بِشَهَادَتِهِ.
مَسْأَلَةٌ:
وَفِي مَعِينِ الْحُكَّامِ وَإِذَا أَقَرَّ الْأَبُ فِي مَرَضِهِ بِقَبْضِ صَدَاقِ ابْنَتِهِ، أَوْ انْعَقَدَ ذَلِكَ عَلَيْهِ فِي الصَّدَاقِ، وَلَمْ تُعَايَنْ الْبَيِّنَةُ لِلْقَبْضِ لَحِقَتْهُ التُّهْمَةُ وَلَمْ يُصَدَّقْ، كَمَا لَوْ تَحَمَّلَ بِهِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ، قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ فِي الْوَاضِحَةِ.
وَقَالَ ابْنُ وَهْبٍ وَابْنُ الْمَاجِشُونِ وَأَشْهَبُ: إقْرَارُهُ بِقَبْضِهِ نَافِذٌ قَالَ أَشْهَبُ: فَإِنْ كَانَ الزَّوْجُ لَمْ يَدْخُلْ وَتَرَك الْأَبُ مَالًا أُخِذَ مِنْ مَالِهِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ تَرَكَ مَالًا، لَمْ يَكُنْ لِلزَّوْجِ إلَيْهَا سَبِيلٌ حَتَّى يُؤَدِّيَ الصَّدَاقَ وَيُتْبَعُ مَالُ الْمَيِّتِ.
مَسْأَلَةٌ:
إذَا دَخَلَ الزَّوْجُ بِزَوْجَتِهِ قَبْلَ الْإِشْهَادِ عَلَى النِّكَاحِ فُسِخَ بِطَلْقَةٍ بَائِنَةٍ.
وَقَالَ ابْنُ حَبِيبٍ: يُحَدَّانِ إنْ ثَبَتَ وَطْءٌ، عَالَمَيْنِ كَانَا أَوْ جَاهِلَيْنِ مَا لَمْ يَكُنْ أَمْرُهُمَا فَاشِيًا.
وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: إذَا لَمْ يُعْذَرْ بِالْجَهَالَةِ حُدَّا، وَشَهَادَةُ الْوَلِيِّ لَهُمَا بِالنِّكَاحِ لَا تُفِيدُ؛ لِأَنَّهُ يُتَّهَمُ أَنْ يُرِيدَ السَّتْرَ عَلَى وَلِيَّتِهِ.
مَسْأَلَةٌ وَفِي الْمُتَيْطِيَّةِ: وَسُئِلَ مَالِكٌ عَنْ الرَّجُلِ يَتَّهِمُ خَتَنَهُ، يَعْنِي زَوْجَ بِنْتِ امْرَأَتِهِ بِإِفْسَادِ أَهْلِهِ، فَيُرِيدُ أَنْ يَمْنَعَهَا مِنْ الدُّخُولِ عَلَيْهِ، أَوْ يَمْنَعَهُ مِنْ الدُّخُولِ عَلَيْهَا، قَالَ: يُنْظَرُ فِي ذَلِكَ، فَإِنْ كَانَتْ مُتَّهَمَةً مُنِعَتْ بَعْضَ الْمَنْعِ لَا كُلَّ ذَلِكَ، وَإِنْ كَانَتْ غَيْرَ مُتَّهَمَةٍ لَمْ تُمْنَعْ الدُّخُولَ عَلَى ابْنَتِهَا.
مَسْأَلَةٌ:
وَطَلَاقُ الْمَرِيضِ وَخُلْعُهُ جَائِزٌ، وَيَصِحُّ لَهُ مَا أَخَذَ مِنْ الزَّوْجَةِ، غَيْرَ أَنَّهُ إنْ مَاتَ مِنْ مَرَضِهِ قَبْلَ ظُهُورِ صِحَّتِهِ، وَرِثَتْهُ الْمَرْأَةُ بَائِنًا كَانَ الطَّلَاقُ أَوْ رَجْعِيًّا قَبْلَ الدُّخُولِ أَوْ بَعْدَهُ أَوْقَعَهُ هُوَ أَوْ الزَّوْجَةُ بِتَمْلِيكٍ أَوْ تَخْيِيرٍ، أَوْ كَانَتْ يَمِينًا فِي الصِّحَّةِ حَنِثَ بِهَا فِي الْمَرَضِ وَتَرِثُهُ أَبَدًا، وَإِنْ تَزَوَّجَتْ أَزْوَاجًا سِوَاهُ؛ لِأَنَّهُ يُتَّهَمُ أَنْ يَفِرَّ بِمِيرَاثِهِ مِنْهَا.
فَرْعٌ:
وَكَذَلِكَ لَوْ أَقَرَّ لَهُ فِي مَرَضِهِ أَنَّهُ طَلَّقَهَا أَلْبَتَّةَ فِي صِحَّتِهِ لَمْ يُصَدَّقْ، وَوَرِثَتْهُ؛ لِأَنَّهُ يُتَّهَمُ فِي إخْرَاجِهَا مِنْ الْوَرَثَةِ.
مَسْأَلَةٌ:
وَالشَّاهِدَانِ إذَا تَفَرَّدَا بِرُؤْيَةِ الْهِلَالِ فِي الصَّحْوِ فِي الْمِصْرِ الْكَبِيرِ، فَقِيلَ تُرَدُّ شَهَادَتُهُمَا؛ لِأَنَّ انْفِرَادَهُمَا رِيبَةٌ تُرَدُّ بِهَا شَهَادَتُهُمَا، وَقِيلَ تُقْبَلُ اُنْظُرْ ابْنَ بَشِيرٍ.
فَرْعٌ وَكَذَلِكَ لَوْ خَاصَمَ الشَّاهِدُ الْمَشْهُودَ عَلَيْهِ فِي حَقِّ الْمَشْهُودِ لَهُ، فَإِنَّهَا لَا تُقْبَلُ لِقِيَامِ الْقَرِينَةِ عَلَى تُهْمَتِهِ فَرْعٌ وَكَذَلِكَ الشَّهَادَةُ الَّتِي يَجُرُّ بِهَا أَوْ يَدْفَعُ، وَكَذَلِكَ أَكِيدُ الشَّفَقَةِ أَوْ السَّبَبِ يَمْنَعُ قَبُولَ الشَّهَادَةِ.
فَرْعٌ:
وَكَذَلِكَ الْعَدَاوَة الدُّنْيَوِيَّةُ تَمْنَعُ قَبُولَ الشَّهَادَةِ.
فَرْعٌ:
وَكَذَلِكَ الْحِرْصُ عَلَى زَوَالِ التَّعْبِيرِ وَذَلِكَ فِي صُورَتَيْنِ:
إحْدَاهُمَا: إظْهَارُ الْبَرَاءَةِ مِثْلَ أَنْ يَشْهَدَ فَتُرَدُّ شَهَادَتُهُ لِفِسْقِهِ، ثُمَّ يَشْهَدُ بِتِلْكَ الشَّهَادَةِ بَعْدَ أَنْ صَارَ عَدْلًا، فَتُرَدُّ شَهَادَتُهُ لِاتِّهَامِهِ عَلَى دَفْعِ عَارِ التَّكْذِيبِ، وَكَذَلِكَ إذَا رُدَّتْ لِكُفْرِهِ أَوْ صِبَاهُ أَوْ رِقِّهِ.
الثَّانِيَةُ: قَصْدُ التَّسَلِّي وَالتَّأَسِّي، كَشَهَادَةِ الْمَقْذُوفِ فِي الْقَذْفِ عَلَى الْمَشْهُورِ، وَكَشَهَادَةِ وَلَدِ الزِّنَا فِي الزِّنَا.
فَرْعٌ:
وَكَذَلِكَ الْحِرْصُ عَلَى الشَّهَادَةِ فِي التَّحَمُّلِ وَالْأَدَاءِ وَالْقَبُولِ، فَالتَّحَمُّلُ كَالْمُخْتَفِي فِي رِوَايَةٍ، وَالْمَشْهُورُ أَنَّ ذَلِكَ لَا يَضُرُّ، وَقَيَّدَهُ مُحَمَّدٌ بِمَا إذَا كَانَ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ غَيْرَ مَخْدُوعٍ وَلَا خَائِفٍ وَلَا ضَعِيفٍ.
وَأَمَّا الْحِرْصُ عَلَى الْأَدَاءِ، فَمِثْلُ أَنْ يَبْدَأَ بِالشَّهَادَةِ قَبْلَ طَلَبِ صَاحِبِهَا وَهُوَ حَاضِرٌ عَالَمٌ بِهَا وَالْحَقُّ مَالٌ، فَإِنْ أَدَّاهَا سَقَطَتْ، وَأَمَّا الْحِرْصُ عَلَى شَهَادَتِهِ إذَا شَهِدَ بِهَا، وَذَلِكَ قَادِحٌ فِيهَا؛ لِأَنَّ الْيَمِينَ دَالَّةٌ عَلَى التَّعَصُّبِ وَشِدَّةِ الْحِرْصِ عَلَى إنْفَاذِهَا.
مَسْأَلَةٌ:
وَلِأَجْلِ التُّهْمَةِ اشْتَرَطُوا التَّبْرِيزَ فِي سَبْعِ مَسَائِلَ، فَلَا تُقْبَلُ الشَّهَادَةُ فِيهَا عَلَى مَذْهَبِ ابْنِ الْقَاسِمِ إلَّا مِنْ الْعَدْلِ الْمُبَرَّزِ. شَهَادَةُ الْمَوْلَى لِمَنْ أَعْتَقَهُ، وَالصَّدِيقِ الْمُلَاطِفِ لِصَدِيقِهِ، وَالشَّرِيكِ الْمُفَاوِضِ لِشَرِيكِهِ، وَإِذَا زَادَ الشَّاهِدُ فِي شَهَادَتِهِ أَوْ نَقَصَ مِنْهَا بَعْدَ أَنْ شَهِدَ بِهَا، وَإِذَا سُئِلَ عَنْهَا فِي الْمَرَضِ فَقَالَ لَا أَعْرِفُهَا، ثُمَّ شَهِدَ بِهَا وَذَكَرَ الْمَانِعَ مِنْ شَهَادَتِهِ فِي مَرَضِهِ، وَشَهَادَةُ الْمُنْفَقِ عَلَيْهِ لِلْمُنْفِقِ؛ لِأَنَّ التُّهْمَةَ فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ قَوِيَّةٌ.
فَرْعٌ:
وَكَذَلِكَ الِاسْتِبْعَادُ سَبَبٌ فِي التُّهْمَةِ، مِنْ ذَلِكَ شَهَادَةُ الْبَدْوِيِّ عَلَى الْقَرَوِيِّ فِي الْحَاضِرَةِ فِي الْحُقُوقِ الْمَالِيَّةِ عَلَى مَا فِي الْمَسْأَلَةِ مِنْ التَّقْيِيدِ وَالتَّفْصِيلِ؛ لِأَنَّهُ يُتَّهَمُ فِي تَرْكِهِ أَهْلَ الْحَضَرِ وَيَشْهَدُ الْعَرَبُ، وَكَذَلِكَ شَهَادَةُ السُّؤَالِ فِي الْمَالِ الْكَثِيرِ، وَاَلَّذِي يُكْثِرُ مَسْأَلَةَ النَّاسِ وَهُوَ مَعْرُوفٌ بِذَلِكَ، لَا تَجُوزُ شَهَادَتُهُمَا لِلتُّهْمَةِ، وَكَذَلِكَ إذَا شَهِدَ أَهْلُ الْإِقْلَالِ وَالْحَاجَةِ فِي الْمَالِ، فَلْيَكْشِفْ الْقَاضِي عَنْ ذَلِكَ، وَعَمَّا شَهِدُوا بِهِ عِنْدَ مَنْ يُظَنُّ عِنْدَهُ عِلْمًا مِنْ ذَلِكَ وَلَا يَعْجَلُ بِالْحُكْمِ وَلْيَتَثَبَّتْ وَيَحْتَاطُ، وَكَذَلِكَ شَهَادَةُ أَحَدِ الزَّوْجَيْنِ لِصَاحِبِهِ، وَشَهَادَةُ الرَّجُلِ لِجَدِّهِ وَجَدَّتِهِ مِنْ قِبَلِ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ، وَشَهَادَةُ الْكَذَّابِ وَالنَّمَّامِ وَاَلَّذِي يَطْعَنُ عَلَى النَّاسِ، وَتَسْقُطُ بِالْخِيَانَةِ وَالرِّشْوَةِ وَبِالْعَصَبِيَّةِ، وَهُوَ أَنْ يَبْغَضَ الرَّجُلُ الرَّجُلَ؛ لِأَنَّهُ مِنْ بَنِي فُلَانٍ أَوْ مِنْ قَبِيلَةِ كَذَا، وَبِتَلْقِينِ الْخَصْمِ الْخُصُومَةَ، فَقِيهًا كَانَ أَوْ غَيْرَهُ، وَبِمُدَاوَمَةِ الْأَكْلِ عِنْدَ الْعُمَّالِ، وَبِإِتْيَانِهِ مَجْلِسَ الْقَاضِي ثَلَاثَ مَرَّاتٍ لِغَيْرِ حَاجَةٍ؛ لِأَنَّهُ يُتَّهَمُ أَنْ يَرَى النَّاسُ أَنَّهُ مِنْ خَوَاصِّ الْقَاضِي، وَبِسُكْنَى دَارٍ يُعْلَمُ أَنَّ أَصْلَهَا مَغْصُوبٌ، وَبِأَنْ يُسَاكِنَ وَلَدَهُ فِي دَارٍ وَاحِدَةٍ، وَهُوَ مِمَّنْ يَشْرَبُ الْخَمْرَ وَيَسْمَعُ الْغِنَاءَ، وَاسْتِيعَابُ هَذَا فِي بَابِ الشَّهَادَاتِ.

.فَصْلٌ فِي أَيْمَانِ التُّهَمِ:

قَالَ ابْنُ الْهِنْدِيِّ فِي وَثَائِقِهِ الْكُبْرَى: الْأَيْمَانُ الَّتِي فِيهَا التُّهَمُ وَالظُّنُونُ لَا تَجِبُ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، حَتَّى يُثْبِتَ الْمُدَّعِي أَنَّ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ مِمَّنْ تَلْحَقُهُ مِثْلُ هَذِهِ التُّهْمَةِ، فَإِذَا ثَبَتَ ذَلِكَ حَلَفَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ رَدُّ الْيَمِينِ.
مَسْأَلَةٌ:
قَالَ ابْنُ سَهْلٍ: وَإِذَا كَانَتْ الدَّعْوَى فِي تَعَدٍّ يَنْسُبُهُ أَحَدُهُمَا إلَى صَاحِبِهِ، فَإِنَّ الْيَمِينَ لَا تَجِبُ فِي هَذَا بِالْخُلْطَةِ، وَإِنَّمَا تَجِبُ فِي مِثْلِ هَذَا، إذَا كَانَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِالتَّعَدِّي مِمَّنْ يُتَّهَمُ بِذَلِكَ، وَيُنْسَبُ إلَيْهِ وَيَكُونُ مَعْرُوفًا بِهِ، زَادَ ابْنُ لُبَابَةَ سَوَاءٌ ثَبَتَ عَلَيْهِ الْغَصْبُ وَالتَّعَدِّي، أَوْ لَمْ يَثْبُتْ إلَّا أَنَّهُ ادَّعَى عَلَيْهِ بِهِ.
فَرْعٌ:
فَلَوْ احْتَجَّ الْمُدَّعِي وَاسْتَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ مِمَّنْ تَلْحَقُهُ التُّهْمَةُ، بِأَنْ قَالَ: قَدْ أَنْكَرَ صَدَاقَ ابْنَتِي وَأَثْبَتَهُ عَلَيْهِ بَعْدَ ذَلِكَ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ زَلَّتُهُ غَيْرَ هَذَا فَلَيْسَتْ بِزَلَّةٍ يَبْلُغُ بِهَا الرِّيَبَ الَّتِي تُلْزِمُهُ الْيَمِينَ بِالتُّهْمَةِ قَالَهُ ابْنُ لُبَابَةَ: فَإِنْ كَانَ الْقَاضِي لَا يَعْرِفُهُ، فَإِنَّهُ يَكْشِفُ عَنْهُ سِرًّا وَجَهْرًا حَتَّى يَتَحَقَّقَ أَمْرُهُ عِنْدَهُ.
مَسْأَلَةٌ:
اُخْتُلِفَ هَلْ تَجِبُ الْيَمِينُ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ مَعَ عَدَمِ تَحْقِيقِ الدَّعْوَى، أَوْ لَا تَجِبُ إلَّا بَعْدَ تَحْقِيقِ الدَّعْوَى وَنُقِلَ عَنْ أَبِي الْحَسَنِ الصَّغِيرِ أَنَّ مَشْهُورَ الْمَذْهَبِ أَنَّ الْيَمِينَ تَجِبُ بِمُجَرَّدِ التُّهْمَةِ، وَإِنْ لَمْ تَتَحَقَّقْ الدَّعْوَى، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ يُرِيدُ بَعْدَ إثْبَاتِ أَنَّ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ مِمَّنْ تَلْحَقُهُ التُّهْمَةُ فِيمَا ادَّعَى بِهِ عَلَيْهِ.
وَفِي الطُّرَرِ لِأَبِي إبْرَاهِيمَ الْأَعْرَجِ فِي بَابِ الزَّكَاةِ، أَنَّ الْمَشْهُورَ أَنْ لَا يَمِينَ فِي الشَّكِّ، يَعْنِي إذَا لَمْ تَكُنْ الدَّعْوَى مُحَقَّقَةً، اُنْظُرْهَا فِي مَسْأَلَةِ رَدِّ الدِّرْهَمِ الزَّائِفِ.
مَسْأَلَةٌ الْأَيْمَانُ فِي التُّهْمَةِ لَا تُرَدُّ؛ لِأَنَّ الدَّعْوَى لَا تَحْقِيقَ فِيهَا وَلَا قَطْعَ، بَلْ هِيَ ظَنٌّ، فَإِذَا تَوَجَّهَتْ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ وَامْتَنَعَ مِنْ الْيَمِينِ حُبِسَ حَتَّى يَحْلِفَ؛ لِأَنَّهُ حَابِسٌ نَفْسَهُ.
وَقَالَ الْمُتَيْطِيُّ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ مِنْ الْكِتَابِ، وَذُكِرَ عَنْ الشَّيْخِ أَبِي عِمْرَانَ أَنَّ أَيْمَانَ التُّهَمِ فِي رَدِّهَا اخْتِلَافٌ وَاَلَّذِي فِي الرِّوَايَةِ يُحْتَمَلُ، وَالصَّوَابُ أَنْ لَا تُرَدَّ وَقَدْ يُقَالُ إنَّهُ يَحْلِفُ مَعَ غَلَبَةِ الظَّنِّ، كَمَا إذَا قَامَ الصَّغِيرُ شَاهِدًا بِذِكْرِ حَقٍّ لِأَبِيهِ أَنَّهُ يَحْلِفُ مَعَ الشَّاهِدِ إذَا كَبِرَ.
تَنْبِيهٌ:
قَالَ ابْنُ لُبَابَةَ وَأَصْحَابُهُ: كُلُّ مَا كَانَ مِنْ دَعْوَى مَنْصُوصَةٍ قَطَعَ الْمُدَّعِي بِأَخْذِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، لِذَلِكَ كَانَ لِلْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِذَلِكَ رَدُّ الْيَمِينِ عَلَى الْمُدَّعِي، مَا لَمْ يَكُنْ مَنْصُوصًا مِنْ يَمِينِ تُهْمَةٍ حَلَفَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ عَلَى ذَلِكَ، فَإِنْ نَكَلَ شَدَّدَ الْقَاضِي عَلَيْهِ بِمَا يَرَاهُ مِنْ الْحَبْسِ أَوْ غَيْرِهِ.
تَنْبِيهٌ:
قَالَ ابْنُ سَهْلٍ: إذَا لَمْ يُحَقِّقْ الْمُدَّعِي دَعْوَاهُ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا اتَّهَمَهُ بِخِيَانَةٍ وَشَبَهِهَا وَلَمْ يَقْطَعْ عَلَيْهِ، فَلَا تَجِبُ الْيَمِينُ إلَّا أَنْ يَكُونَ مِمَّنْ يُتَّهَمَ فِي دِينِهِ بِاسْتِحْلَالِ مَا لَا يَحِلُّ.
تَنْبِيهٌ:
قَالَ ابْنُ لُبَابَةَ وَغَيْرُهُ وَالْمُسْلِمُونَ فِي دَعْوَى الْغَصْبِ وَالْعَدَاءِ مَحْمُولُونَ عَلَى الْعَافِيَةِ حَتَّى يَثْبُتَ خِلَافُهَا.
مَسْأَلَةٌ:
الْمُتَبَايِعَانِ عَلَى الْمَعْرِفَةِ حَتَّى يَثْبُتَ الْجَهْلُ، وَعَلَى الْمَلَاءِ حَتَّى يَثْبُتَ الْفَقْرُ، وَعَلَى الْحُرِّيَّةِ حَتَّى يَثْبُتَ الرِّقُّ، وَعَلَى الْإِسْلَامِ حَتَّى يَثْبُتَ الْكُفْرُ، وَعَلَى الْعَدَالَةِ حَتَّى تَثْبُتَ الْجُرْحَةُ وَقِيلَ عَكْسُهُ، وَالْغَالِبُ مَحْمُولٌ عَلَى الْحَيَاةِ حَتَّى يَثْبُتَ الْمَوْتُ، قَالَهُ ابْنُ سَهْلٍ. وَلَيْسَ هَذَا مِنْ الِاخْتِلَافِ الْمَذْكُورِ فِي بَابِ الشَّهَادَةِ، هَلْ الْمُسْلِمُونَ مَحْمُولُونَ عَلَى الْعَدَالَةِ حَتَّى يَثْبُتَ خِلَافُهَا؟ أَوْ عَلَى الْجُرْحَةِ حَتَّى تَثْبُتَ الْعَدَالَةُ؟ تَنْبِيهٌ وَأَمَّا الشَّهَادَةُ عَلَى الْمُتَبَايِعَيْنِ وَالْمُتَنَاكِحِينَ، فَالنَّاسُ مَحْمُولُونَ عَلَى الصِّحَّةِ وَجَوَازِ الْأَمْرِ وَلَيْسَ عَلَى الشُّهُودِ الْبَحْثُ هَلْ هُمَا فِي وِلَايَةٍ أَمْ لَا؟ مِنْ الْمُتَيْطِيَّةِ.
تَنْبِيهٌ:
وَالنَّاسُ عِنْدَ ابْنِ الْقَاسِمِ أَحْرَارٌ، فَلَا تَحْتَاجُ الْمَرْأَةُ عِنْدَ إرَادَةِ النِّكَاحِ أَنْ تُثْبِتَ أَنَّهَا حُرَّةٌ، وَعِنْدَ أَشْهَبَ وَغَيْرِهِ النَّاسُ حُرٌّ وَعَبْدٌ، فَيُحْتَاجُ لِإِثْبَاتِ ذَلِكَ.
تَنْبِيهٌ:
النَّاسُ فِيمَا اُدُّعِيَ عَلَيْهِمْ مَحْمُولُونَ عَلَى الْجَهْلِ، حَتَّى يَثْبُتَ عَلَيْهِمْ عِلْمُهُمْ بِذَلِكَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئًا} [النحل: 78]. فَجَهْلُ الْإِنْسَانِ سَابِقٌ لِعِلْمِهِ.
تَنْبِيهٌ:
النَّاسُ مَحْمُولُونَ عَلَى السَّفَهِ حَتَّى يَظْهَرَ مِنْهُمْ الرُّشْدُ قَالَهُ ابْنُ الْهِنْدِيِّ.
تَنْبِيهٌ:
النَّاسُ مَحْمُولُونَ عَلَى الْعَدَمِ حَتَّى يَثْبُتَ الْمَلَاءُ وَالْغِنَى، ذَكَرَهُ ابْنُ الْهِنْدِيِّ قَالَ: وَالْعَمَلُ عِنْدَ الْحُكَّامِ عَلَى أَنَّ مُدَّعِي الْعَدَمِ عَلَيْهِ الْإِثْبَاتُ لِعَدَمِهِ وَهُوَ الْأَصَحُّ.
مَسْأَلَةٌ:
إنْ شَرَطَ لِزَوْجَتِهِ أَنْ لَا يَتَسَرَّى عَلَيْهَا، ثُمَّ ادَّعَتْ عَلَيْهِ أَنَّهُ تَسَرَّى سِرًّا فَأَنْكَرَ فَطَلَبَتْ يَمِينَهُ عَلَى ذَلِكَ، فَإِنْ كَانَ مِمَّنْ يُتَّهَمُ حَلَفَ لَهَا، وَإِنْ كَانَ مِمَّنْ لَا تَلْحَقُهُ تُهْمَةٌ وَلَا ظِنَّةٌ، وَيَثْبُتُ عِنْدَ الْقَاضِي بِبَيِّنَةٍ أَنَّهُ مِمَّنْ لَا يَسْتَسْهِلُ ذَلِكَ فِي دِينِهِ وَلَا يَسْتَحِلُّهُ، فَإِنَّهُ يَسْقُطُ عَنْهُ الْيَمِينُ بَعْدَ أَنْ يُعْذَرَ إلَى الْمَرْأَةِ فِيمَنْ شَهِدَ لَهُ بِذَلِكَ، فَإِنْ ادَّعَتْ مِدْفَعًا أُجِّلَا فِي ذَلِكَ عَلَى قَدْرِ اجْتِهَادِهِ، فَإِنْ لَمْ تَأْتِ بِشَيْءٍ عَجَّزَهَا وَأَنْفَذَ ذَلِكَ عَلَيْهَا.
مَسْأَلَةٌ:
وَفِي وَثَائِقِ ابْنِ الْعَطَّارِ، وَفِي سَمَاعِ أَشْهَبَ سُئِلَ مَالِكٌ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ: عَنْ رَجُلَيْنِ ابْتَاعَا طَعَامًا فَحَمَلَ الْحَمَّالُونَ إلَيْهِمَا الطَّعَامَ، فَوَجَدَ أَحَدُهُمَا طَعَامَهُ يَنْقُصُ غَرَائِرَ، فَذَهَبَ إلَى الَّذِي كَانَ يَحْمِلُ إلَيْهِ الطَّعَامَ فَقَالَ لَهُ: اُنْظُرْ لَعَلَّهُ حُمِلَ إلَيْك مِنْ طَعَامِي شَيْءٌ، فَكَالَ طَعَامَهُ فَوَجَدَ فِيهِ زِيَادَةً فَرَدَّهَا، فَأَرَادَ الَّذِي ذَهَبَ طَعَامُهُ أَنْ يَسْتَحْلِفَهُ عَلَى بَاقِي مَا نَقَصَهُ مِنْ غَرَائِرَ، فَقَالَ لَهُ ذَلِكَ، وَإِنْ نَكَلَ حَقَّ عَلَيْهِ الْحَقُّ.
مَسْأَلَةٌ:
فَإِذَا أَبْرَأَ الرَّجُلُ بَعْضَ وَرَثَتِهِ مِنْ مَالِهِ، ثُمَّ تُوُفِّيَ وَقَامَ سَائِرُ الْوَرَثَةِ يُرِيدُونَ تَحْلِيفَ الْمُبْرَأِ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَخْلُفْ عِنْدَهُ شَيْئًا، فَلَا يَمِينَ لَهُمْ عَلَيْهِ، وَإِنْ ادَّعَوْا أَنَّ الْمُتَوَفَّى أَفَادَ مَالًا بَعْدَ الْإِقْرَارِ وَخَلَفَهُ عِنْدَهُ، فَلَهُمْ عَلَيْهِ الْيَمِينُ فِي ذَلِكَ، وَلِلْمُبْرَأِ رَدُّهَا عَلَيْهِمْ.
مَسْأَلَةٌ:
وَفِي الْمُقْنِعِ فِي بَابِ جَامِعِ الْأَيْمَانِ قَالَ ابْنُ الْمَوَّازِ وَمَرْوِيُّ أَشْهَبَ عَنْ مَالِكٍ فِي شَرِيكَيْنِ فِي زَرْعٍ اشْتَغَلَ أَحَدُهُمَا أَوْ مَرِضَ فَحَصَدَ الْآخَرُ وَأَنْفَقَ، فَلَمَّا صَحَّ شَرِيكُهُ قَالَ لَهُ الْمُتَوَلِّي: هَذَا الَّذِي خَرَجَ مِنْ الزَّرْعِ وَقَدْ أَنْفَقْت كَذَا وَكَذَا، فَقَالَ لَهُ احْلِفْ لِي أَنَّهُ مَا خَرَجَ مِنْ الزَّرْعِ إلَّا هَذَا، وَأَنَّ النَّفَقَةَ عَلَى مَا قُلْت، فَقَالَ إنَّمَا أَحْلِفُ أَنَّهُ الَّذِي دَفَعَ إلَيَّ وُكَلَائِي، فَقَالَ يَحْلِفُ مَا دَفَعَ إلَيْهِ الْقَوْمُ إلَّا ذَلِكَ، وَلَيْسَ عَلَيْهِ غَيْرُ ذَلِكَ، وَيَحْلِفُ عَلَى عِلْمِهِ إذَا كَانَ عَنْهُ غَائِبًا، وَلَوْ كَانَ حَاضِرًا مَا حَلَفَ إلَّا عَلَى عِلْمِهِ، لَعَلَّهُ ذَهَبَ مِنْهُ مَا لَا يَعْلَمُهُ.
مَسْأَلَةٌ:
وَفِي الْمُقْنِعِ أَيْضًا فِي الْمُودَعِ يَدَّعِي ضَيَاعَ الْوَدِيعَةِ، فَإِنْ كَذَّبَهُ رَبُّهَا وَقَالَ أَكَلْتهَا، فَالْمُودِعُ مُصَدَّقٌ إلَّا أَنْ يُتَّهَمَ فَيَحْلِفُ، قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ فَإِنْ نَكَلَ ضَمِنَ وَلَا تُرَدُّ الْيَمِينُ هَا هُنَا عَلَى رَبِّهَا؛ لِأَنَّهُ لَا تَحْقِيقَ عِنْدَهُ وَإِنَّمَا هُوَ ظَنٌّ.
تَنْبِيهٌ:
قَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ أَيْمَانَ التُّهَمِ لَا تُرَدُّ، فَإِذَا ادَّعَى عَلَيْهِ بِتُهْمَةٍ وَغَيْرِهَا، مِثْلَ أَنْ يَدَّعِيَ عَلَيْهِ أَنَّهُ فَتْحَ تَابُوتَه وَأَخَذَ مِنْهُ وَثَائِقَ وَأَنَّهُ اسْتَعَارَ مِنْهُ ثَوْبًا وَأَسْلَفَهُ دَنَانِيرَ، وَلَمْ تَقُمْ بَيِّنَةٌ وَأَلْزَمَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِالْيَمِينِ، فَلَهُ أَنْ يَرُدَّ الْيَمِينَ عَلَى الْمُدَّعِي فِي الثَّوْبِ وَالدَّنَانِيرِ أَوْ فِي أَحَدِهِمَا، وَلَا يَرُدُّهَا عَلَيْهِ فِي فَتْحِ التَّابُوتِ، اُنْظُرْ الْجُزْءَ الْأَوَّلَ مِنْ أَحْكَامِ ابْنِ سَهْلٍ فِي رَسْمِ دَعْوَى وَتُهْمَةٍ.
مَسْأَلَةٌ:
وَفِي مَسَائِلِ ابْنِ زَرْبٍ كَانَ ابْنُ زَرْبٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ إذَا قَامَ رَجُلٌ عَلَى آخَرَ بِدَعْوَى بِتُهْمَةٍ فِيهَا فَوَجَبَتْ الْيَمِينُ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فَلَيْسَ لَهُ رَدُّهَا، وَلَا يَحْلِفُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ إذَا كَانَ مِمَّنْ تَأْخُذُهُ الْيَمِينُ عَلَى التُّهْمَةِ، حَتَّى يَحْلِفَ الْمُدَّعِي لَقَدْ ضَاعَ لَهُ مَا ادَّعَاهُ عَلَى الْمُقَوَّمِ عَلَيْهِ، وَحِينَئِذٍ يَحْلِفُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، إذَا قَالَ لِلْمُدَّعِي لَمْ يَضِعْ الشَّيْءُ، وَإِنَّمَا تُرِيدُ أَنْ تُحْرِجَنِي بِالْيَمِينِ، وَبِهَذَا كَانَ يَحْكُمُ وَكَانَ يُغْرِبُ بِهَا، وَيَقُولُ إنَّهَا مِنْ دَقِيقِ الْمَسَائِلِ.
مَسْأَلَةٌ:
وَالْمَشْهُورُ عَنْ مَالِكٍ يَمِينُ التُّهْمَةِ لَا تُرَدُّ، فَإِنْ أَبَى الْمُتَّهَمُ وَنَكَلَ عَنْهَا حُبِسَ أَبَدًا حَتَّى يَحْلِفَ مِنْ مَجْمُوعِ الْفَتَاوَى.
وَفِي رِسَالَةِ الْقَضَاءِ مِمَّا نَقَلَهُ مِنْ كِتَابِ ابْنِ حَبِيبٍ قَالَ: وَقَدْ ذَكَرَ لِي بَعْضُ أَصْحَابِنَا أَنَّهُ رَأَى لِأَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّهُ إنْ أَبَى أَنْ يَحْلِفَ غَرِمَ مَا ادَّعَى بِهِ عَلَيْهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ نَحْوُهُ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَكَمِ.
فَرْعٌ:
وَفِي الْعُتْبِيَّةِ لِابْنِ الْقَاسِمِ فِي الْغَرِيمِ يُرِيدُ سَفَرًا فَيَتَعَلَّقُ بِهِ صَاحِبُ الْحَقِّ، وَيَقُولُ إنَّك تُرِيدُ سَفَرًا وَأَنَا أَخَافُ أَنْ يَحِلَّ أَجَلُ دَيْنِي وَأَنْت غَائِبٌ، وَلَكِنْ اعْطِنِي حَمِيلًا إنْ غِبْت عَنِّي يَقُومُ لِي بِحَقِّي، فَقَالَ يَنْظُرُ فِي ذَلِكَ السُّلْطَانُ، فَإِنْ رَأَى أَنَّ الْأَجَلَ يَحِلُّ قَبْلَ أَنْ يَنْقَضِيَ سَفَرُهُ، لِبُعْدِ الْمَكَانِ الَّذِي يُرِيدُ، كَانَ عَلَيْهِ أَنْ يَجْعَلَ لَهُ حَمِيلًا، وَإِلَّا لَمْ يَكُنْ لَهُ عَلَيْهِ حَمِيلٌ، وَأَحْلَفَ بِاَللَّهِ مَا يُرِيدُ إلَّا سَفَرَ مَا يَخْرُجُ النَّاسُ إلَيْهِ مِنْ التِّجَارَةِ، وَطَلَبِ التِّجَارَةِ، وَطَلَبِ الْحَوَائِجِ الْقَرِيبَةِ مِمَّا يَأْتِي فِي مِثْلِهِ وَيَجْلِبُهُ، وَلَمْ يَذْكُرْ فِي الْمُدَوَّنَةِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ يَمِينَهُ.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي زَيْدٍ فِيهَا فِي اخْتِصَارِ الْمُدَوَّنَةِ يُرِيدُ وَيَحْلِفُ.
فَرْعٌ:
وَكَذَلِكَ الزَّوْجُ يُرِيدُ سَفَرًا، فَتَقُومُ عَلَيْهِ زَوْجَتُهُ تَطْلُبُهُ أَنْ يُقِيمَ لَهَا حَمِيلًا بِنَفَقَتِهَا، فَإِنَّ السُّلْطَانَ يَنْظُرُ إلَى سَفَرِهِ الَّذِي يُرِيدُ، فَيَفْرِضُ لِزَوْجَتِهِ قَدْرَ ذَلِكَ فَيَدْفَعُهُ إلَيْهَا، أَوْ يَأْتِيهَا بِحَمِيلٍ يُجْرِيه عَلَيْهَا، وَمَعْنَاهُ بَعْدَ يَمِينِهِ إنْ زَعَمَتْ أَنَّهُ يُرِيدُ سَفَرًا إلَى مَا هُوَ أَبْعَدُ مِنْ ذَلِكَ، قَالَ الْمُتَيْطِيُّ: وَالْيَمِينُ فِي هَذَا يَمِينُ تُهْمَةٍ، فَفِيهَا الْخِلَافُ السَّابِقُ هَلْ تَلْحَقُهُ أَمْ لَا؟ فَرْعٌ وَكَذَلِكَ حَمِيلُ الْوَجْهِ، إذَا اشْتَرَطَ أَنَّهُ لَيْسَ عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ ضَمَانِ الْمَالِ، فَإِنَّمَا عَلَيْهِ إحْضَارُهُ وَالْجَمْعُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَرِيمِهِ، فَإِنْ غَابَ الْغَرِيمُ أُجِّلَ الْحَمِيلُ فِي طَلَبِهِ آجَالًا كَثِيرَةً، قَالَ مَالِكٌ وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ غَيْرَ طَلَبِهِ، فَإِذَا لَمْ يَظْهَرْ مِنْهُ تَقْصِيرٌ وَعَجَزَ عَنْ إحْضَارِهِ بَرِئَ، وَيَحْلِفُ أَنَّهُ مَا قَصَّرَ فِي طَلَبِهِ وَلَا دَلَّسَ وَلَا يَعْرِفُ لَهُ مُسْتَقَرًّا، وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ الْقَاسِمِ فِي الْعُتْبِيَّةِ.
فَرْعٌ:
وَكَذَلِكَ إذَا خِيفَ غَرَقُ الْمَرْكَبِ وَطَرْحُ مَالِ التِّجَارَةِ وُزِّعَ الْمَطْرُوحُ عَلَى مَالِ التِّجَارَةِ الْمَطْرُوحِ وَالسَّالِمِ وَيُقْبَلُ قَوْلُ الْمَطْرُوحِ مَتَاعُهُ فِي قِيمَتِهِ، فَإِنْ اُتُّهِمَ حَلَفَ.
فَرْعٌ:
وَإِذَا قَامَ عَلَى الرَّجُلِ غُرَمَاؤُهُ فَأَقَرَّ أَنَّ هَذِهِ السِّلْعَةَ وَدِيعَةٌ عِنْدِي لِفُلَانٍ، وَالْمُقَرُّ لَهُ حَاضِرٌ يَدَّعِيهَا فَإِنَّهُ يَحْلِفُ الْمُقَرُّ لَهُ وَيَأْخُذُهَا؛ لِأَنَّ الْمُقِرَّ يُتَّهَمُ أَنَّهُ يُحَابِيه بِإِقْرَارِهِ، قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وَلَيْسَتْ يَمِينُهُ مِنْ بَابِ الْيَمِينِ مَعَ الشَّاهِدِ؛ لِأَنَّ هَذَا مُقِرٌّ وَلَيْسَ بِشَاهِدٍ، وَلَا تُشْتَرَطُ فِيهِ الْعَدَالَةُ الَّتِي تُشْتَرَطُ فِي الشَّاهِدِ، وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ بَابِ الْإِقْرَارِ وَالْيَمِينُ لِلتُّهْمَةِ.
تَنْبِيهٌ:
وَفِي الْجُزْءِ الثَّانِي مِنْ أَحْكَامِ ابْنِ سَهْلٍ: أَنَّ يَمِينَ التُّهْمَةِ يَحْلِفُ فِيهَا فِي الْقَطْعِ الْحَقِّ، ذَكَرَهُ فِي تَرْجَمَةِ دَعْوَى وَيَمِينِ تُهْمَةٍ فِي الْمُدَّعِي، وَذَكَرَهَا أَيْضًا فِي الْجُزْءِ الْأَوَّلِ، فِي بَابِ الْمَقَالَاتِ وَالشَّهَادَاتِ، أَنَّ الْمُتَّهَمَ إذَا طَالَ حَبْسُهُ وَدَامَ عَلَى إنْكَارِهِ، أَنَّهُ يَحْلِفُ فِي مَقْطَعِ الْحَقِّ أَنَّهُ مَا أَخَذَ شَيْئًا.
فَرْعٌ:
وَمَنْ اُدْعِي عَلَيْهِ بِغَصْبٍ أَوْ سَرِقَةٍ، لَا تَجِبُ عَلَيْهِ الْيَمِينُ إلَّا أَنْ يَكُونَ مُتَّهَمًا فَيَحْلِفَ، فَإِنْ امْتَنَعَ حُبِسَ عَلَى مَا هُوَ مَذْكُورٌ فِي بَابِ الْقَضَاءِ بِالسِّيَاسَةِ.
فَرْعٌ:
وَفِي التَّنْبِيهَاتِ لِلْقَاضِي عِيَاضٌ: أَنَّهُ لَا ضَمَانَ عَلَى السِّمْسَارِ فِي دَعْوَى ضَيَاعِ الْمَتَاعِ وَلَا فِيمَا حَدَثَ فِيهِ فِي يَدَيْهِ مِنْ عَيْبٍ، وَيَحْلِفُ أَنْ اُتُّهِمَ.
فَرْعٌ:
وَإِذَا ادَّعَى الْأَبُ بَعْدَ أَنْ شَهِدَ عَلَى نَفْسِهِ فِي صَدَاقِ ابْنَتِهِ، أَنَّهُ قَبَضَ نَقْدَ ابْنَتِهِ مِنْ الزَّوْجِ أَنَّهُ لَمْ يَقْبِضْ شَيْئًا، وَأَنَّهُ أَشْهَدَ قَبْلَ الْقَبْضِ وَأَنْكَرَ الزَّوْجُ ذَلِكَ، فَعَلَى الزَّوْجِ الْيَمِينُ إنْ كَانَ مُتَّهَمًا، وَالْأَبُ لَا يُظَنُّ بِهِ دَعْوَى الْبَاطِلِ، وَبَسَطَهَا فِي بَابِ الْقَضَاءِ بِالْأَيْمَانِ فِي الدَّعْوَى.
فَرْعٌ:
وَفِي الْمُتَيْطِيَّةِ قَالَ ابْنُ حَبِيبٍ: وَلِلزَّوْجِ أَنْ يَسْأَلَ الْوَلِيَّ فِيمَا صَرَفَ النَّقْدَ فِيهِ مِنْ الْجِهَازِ وَعَلَى الْوَلِيِّ أَنْ يُفَسِّرَ ذَلِكَ، وَيَحْلِفَ عَلَيْهِ إنْ اتَّهَمَهُ.
فَرْعٌ:
وَفِي الْمُتَيْطِيَّةِ: سُئِلَ مَالِكٌ عَمَّنْ رَدَّ جَارِيَةً بِعَيْبٍ عَلَى بَائِعِهَا مِنْهُ، فَأَرَادَ الْبَائِعُ أَنْ يَسْتَحْلِفَهُ أَنَّهُ مَا وَطِئَهَا مُنْذُ رَأَى الْعَيْبَ بِهَا، فَقَالَ لَا يَمِينَ عَلَيْهِ.
وَقَالَ سَحْنُونٌ نَحْوَهُ.
وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ فِي سَمَاعِ عِيسَى: إنْ كَانَ مُتَّهَمًا حَلَفَ وَإِلَّا فَلَا.
فَرْعٌ:
وَمِنْهَا قَالَ بَعْضُ الْمُوَثَّقِينَ: إذَا اشْتَرَطَ الْبَائِعُ عَلَى الْمُبْتَاعِ سُقُوطَ الْيَمِينِ فِي بَيْعِ الْبَرَاءَةِ مِنْ الْعُيُوبِ، فَإِنْ كَانَ مِمَّنْ لَا يُتَّهَمُ فَلَهُ شَرْطُهُ، وَإِنْ كَانَ مِمَّنْ يُتَّهَمُ لَمْ يَنْفَعْهُ الشَّرْطُ وَحَلَفَ.
فَرْعٌ:
إذَا كَانَ الْإِيدَاعُ بِغَيْرِ بَيِّنَةٍ فَادَّعَى الْمُودَعُ الرَّدَّ كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ، وَيَحْلِفُ مَأْمُونًا كَانَ أَوْ غَيْرَ مَأْمُونٍ، وَهُوَ خِلَافُ دَعْوَى التَّلَفِ وَلَهُ رَدُّ الْيَمِينِ عَلَى رَبِّهَا، فَإِنْ رَدَّهَا عَلَيْهِ حَلَفَ وَغَرِمَ الْمُودِعُ عِنْدَهُ، وَنَحْوُهُ فِي كِتَابِ عَبْدِ الْحَقِّ وَاللَّخْمِيِّ وَهُوَ خِلَافُ مَا وَقَعَ فِي كِتَابِ الْوَكَالَاتِ مِنْ مُخْتَصَرِ ابْنِ أَبِي زَيْدٍ، أَنَّهُ لَا يَحْلِفُ إلَّا أَنْ يُتَّهَمَ، قَالَ الْمُتَيْطِيُّ: وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ مَذْهَبُ ابْنِ الْمَاجِشُونِ وَنَحْوُهُ فِي كِتَابِ مُحَمَّدٍ، وَلَيْسَ هُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَابْنِ الْقَاسِمِ، وَقَوْلُ مَالِكٍ: أَنَّ مَنْ يُقْبَلُ قَوْلُهُ فِي التَّلَفِ يُقْبَلُ قَوْلُهُ فِي الرَّدِّ إذَا أُخِذَ فِيهِ بِغَيْرِ بَيِّنَةٍ، قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ وَلَا يَحْلِفُ إلَّا أَنْ يُتَّهَمَ، وَإِذَا ادَّعَى الْمُودَعُ عِنْدَهُ تَلَفَ الْوَدِيعَةِ كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ، وَسَوَاءٌ أَخَذَهَا بِبَيِّنَةٍ أَوْ غَيْرِ بَيِّنَةٍ، وَاخْتُلِفَ فِي يَمِينِهِ فَقِيلَ: إنْ كَانَ مُتَّهَمًا حَلَفَ. لَقَدْ تَلْفِت مِنْهُ مِنْ غَيْرِ تَفْرِيطٍ وَلَا تَضْيِيعٍ وَلَا تَدْلِيسٍ وَيَبْرَأُ مِنْهَا، وَإِنْ كَانَ مَأْمُونًا فَلَا يَمِينَ عَلَيْهِ وَلَا ضَمَانَ قَالَهُ أَبُو مُحَمَّدٍ.
وَقَالَهُ أَصْحَابُ مَالِكٍ، وَكَذَلِكَ قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ فِي كِتَابِ الْوَكَالَاتِ مِنْ الْمُدَوَّنَةِ، فِيمَنْ أَمَرَ رَجُلًا يَشْتَرِي لَهُ سِلْعَةً وَيَنْقُدُ عَنْهُ، وَقِيلَ لَا يَمِينَ عَلَيْهِ أَصْلًا؛ لِأَنَّهَا يَمِينُ تُهْمَةٍ وَهُوَ أَمِينُهُ.
وَقَالَ ابْنُ نَافِعٍ يَحْلِفُ وَإِنْ كَانَ مِمَّنْ لَا يُتَّهَمُ، وَرَوَاهُ عَنْ مَالِكٍ، وَكَذَا قَالَ مَالِكٌ فِي الْمَبْسُوطِ: أَنَّهُ يَحْلِفُ مُتَّهَمًا كَانَ أَوْ غَيْرَ مُتَّهَمٍ، وَرَأَى النَّاسَ قَدْ اسْتَحَقُّوا التُّهَمَ وَتَغَيَّرَ حَالُهُمْ، فَجَعَلَ الْيَمِينَ حِمَايَةً إلَّا أَنْ يَتَبَيَّنَ رَجُلٌ بِالصَّلَاحِ وَالْخَيْرِ، فَلَا يَمِينَ عَلَيْهِ اُنْظُرْ الْمُتَيْطِيَّةَ.

.الْبَابُ التَّاسِعُ وَالْعِشْرُونَ فِي الْقَضَاءِ بِشَرْطِ التَّصْدِيقِ:

وَفِي الْمُتَيْطِيَّةِ فِي بَابِ الشُّرُوطِ فِي النِّكَاحِ: اُخْتُلِفَ فِي شَرْطِ التَّصْدِيقِ، هَلْ يَنْتَفِعُ بِهِ مُشْتَرِطُهُ أَمْ لَا؟ فَقِيلَ يَنْفَعُهُ، وَقِيلَ لَا يَنْفَعُهُ.
وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: إنْ كَانَ مُشْتَرِطُهُ مَأْمُونًا يَعْرِفُهُ بِالْحَالَةِ الْحَسَنَةِ نَفَعَهُ الشَّرْطُ، وَإِلَّا لَمْ يَنْفَعْهُ.
مَسْأَلَةٌ:
وَمِنْ هَذَا الْمَعْنَى مَا يَجْرِي بَيْنَ النَّاسِ فِي مُعَامَلَاتِهِمْ بِالدَّيْنِ، فَيَشْتَرِطُ الْبَائِعُ عَلَى الْمُشْتَرِي فِي أَصْلِ الْمُعَامَلَةِ أَنَّهُ مُصَدَّقٌ فِي دَعْوَى الْقَضَاءِ دُونَ يَمِينٍ تَلْزَمُهُ، ثُمَّ يَدَّعِي الَّذِي عَلَيْهِ الدَّيْنُ بَعْدَ ذَلِكَ أَنَّهُ قَدْ رَهَنَهُ بِالدَّيْنِ رَهْنًا، أَوْ وَهَبَهُ إيَّاهُ، أَوْ أَنْظَرَهُ بِهِ، أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ مِنْ الْوُجُوهِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِتِلْكَ الْمُعَامَلَةِ، أَوْ تَغَيَّبَ الَّذِي عَلَيْهِ الدَّيْنُ أَوْ يَمُوتَ، فَيُكَلِّفُ الْقَاضِي صَاحِبَ الدَّيْنِ يَمِينَ الِاسْتِبْرَاءِ أَنَّهُ مَا وَهَبَهُ وَلَا تَصَدَّقَ، وَلَا ارْتَهَنَ بِهِ مِنْهُ رَهْنًا، وَلَا اسْتَحَالَ بِهِ عَلَى أَحَدٍ، وَلَا أَحَالَ بِهِ عَلَيْهِ أَحَدًا، فلابد أَنْ يَحْلِفَ فِي هَذِهِ الْمَعَانِي، إلَّا أَنْ يَقُولَ فِي الشَّرْطِ أَنَّهُ مُصَدَّقٌ فِي الِاقْتِضَاءِ وَفِي جَمِيعِ أَسْبَابِ هَذِهِ الْمُعَامَلَةِ، دُونَ يَمِينٍ تَلْزَمُهُ، فَتَسْقُطُ عَنْهُ الْيَمِينُ وَنَحْوُ ذَلِكَ لِابْنِ الْعَطَّارِ، قَالَ: إذَا قَامَ الرَّجُلُ عَلَى صَاحِبِ دَيْنِهِ وَهُوَ غَائِبٌ فَوَجَبَ لَهُ قَبْضُ حَقِّهِ، فَلَا يَمِينَ عَلَيْهِ إنْ كَانَ شَرَطَ لِنَفْسِهِ أَنَّهُ مُصَدَّقٌ فِي الِاقْتِضَاءِ دُونَ يَمِينٍ تَلْزَمُهُ.
تَنْبِيهٌ:
قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ الْفَخَّارِ فِي انْتِقَادِهِ عَلَى ابْنِ الْعَطَّارِ، وَهَذَا غَلَطٌ؛ لِأَنَّ الْغَرِيمَ إذَا غَابَ، وَجَبَ عَلَى الْحَاكِمِ أَنْ يَسْتَقْصِيَ حُقُوقَهُ، وَلَوْ كَانَ حَاضِرًا مَا كَانَ يَدْرِي مَا يَدْرَأُ بِهِ عَنْ نَفْسِهِ فِي شَرْطِ تَصْدِيقِ الِاقْتِضَاءِ، إذْ يَقُولُ شَرَطَتْهُ لِأَجَلْ كَذَا لَا أَنَّك مِنْ أَهْلِهِ، فلابد مِنْ قَطْعِ جَمِيعِ مَا يُتَوَهَّمُ وَهِيَ يَمِينُ الِاسْتِظْهَارِ مِنْ السُّلْطَانِ، لَا يَجُوزُ لِلْحَاكِمِ إسْقَاطُهَا، وَلَا يُحْكَمُ عَلَى غَائِبٍ حَتَّى يَسْتَوْفِيَ جَمِيعَ حُقُوقِهِ، وَلَا يَأْمَنُ أَنْ يَأْتِيَ غَرِيمٌ آخَرُ يَسْتَحِقُّ مُخَاصَمَةَ هَذَا الْغَرِيمِ فِيمَا أَخَذَ أَوْ يَسْتَحِقُّهُ دُونَهُ، إذْ لَعَلَّهُ قَدْ اسْتَحَالَ بِدَيْنِهِ عَلَى غَيْرِ غَرِيمِهِ وَلَمْ يَشْهَدْ عَلَيْهِ، أَوْ قَدْ أَشْهَدَ عَلَيْهِ مَنْ يَعْلَمُهُ الْغَائِبُ وَلَا يَعْلَمُهُ غُرَمَاؤُهُ، فَهَذَا الْغَرِيمُ الطَّارِئُ لَمْ يُصَدِّقْ الْغَرِيمَ الْأَوَّلَ الْمَحْكُومَ لَهُ بِدِينِهِ، فَكُلُّ مَنْ جَاءَ مِنْ هَؤُلَاءِ يَقُولُ لِلْحَاكِمِ لِمَ لَمْ تَسْتَقْصِ قَبْلَ أَنْ تَحْكُمَ؟ فَلِذَلِكَ وَجَبَ فِي الْغَائِبِ مَا لَمْ يَجِبُ فِي الْحَاضِرِ.
فَرْعٌ:
وَفِي الْمُتَيْطِيَّةِ وَاخْتُلِفَ أَيْضًا إذَا قَالَ الْعَاقِدُ فِي شَرْطِ التَّصْدِيقِ بَعْدَ أَنْ عَرَفَ بِاخْتِلَافِ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي وُجُوبِ الْيَمِينِ وَسُقُوطِهَا، فَأَخَذَ بِقَوْلِ مَنْ يَرَى مِنْهُمْ سُقُوطَهَا، هَلْ يَنْفَعُ ذَلِكَ رَبُّ الدَّيْنِ وَيَخْرُجُ بِهِ مِنْ الْخِلَافِ؟ فَقِيلَ: يَنْفَعُهُ وَتَسْقُطُ عَنْهُ الْيَمِينُ، وَقِيلَ لابد مِنْ الْيَمِينِ، وَلَيْسَ لِلْغَرِيمِ أَنْ يَتَخَيَّرَ عَلَى الْحَاكِمِ وَيَحْكُمَ لِنَفْسِهِ، بِقَوْلِ قَائِلٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ بَلْ يَحْكُمُ الْحَاكِمُ بِمَا ظَهَرَ لَهُ.
قَالَ وَلَوْ زَادَ الْعَاقِدُ بَعْدَ قَوْلِهِ، فَآخُذُ بِقَوْلِ مَنْ يَرَى مِنْهُمْ سُقُوطَهُمَا ثِقَةً بِرَبِّ الدَّيْنِ وَأَمَانَتِهِ، لَسَقَطَتْ الْيَمِينُ بِلَا خِلَافٍ فِي ذَلِكَ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
مَسْأَلَةٌ:
قَالَ ابْنُ الْعَطَّارِ: وَلَا يَجُوزُ فِي الْقَرْضِ اشْتِرَاطُ إسْقَاطِ الْيَمِينِ؛ لِأَنَّهُ يَدْخُلُهُ سَلَفٌ جَرَّ مَنْفَعَةً، قَالَ ابْنُ الْفَخَّارِ وَصَدَقَ رَحِمَهُ اللَّهُ قَالَ ابْنُ الْعَطَّارِ وَإِنْ طَاعَ لَهُ الْمُتَسَلِّفُ بَعْدَ عَقْدِ السَّلَفِ بِإِسْقَاطِ الْيَمِينِ فِي دَعْوَى الْقَضَاءِ، لَزِمَهُ التَّصْدِيقُ حِينَئِذٍ وَصَحَّ السَّلَفُ.
تَنْبِيهٌ:
قَالَ ابْنُ الْفَخَّارِ: وَهَذَا غَلَطٌ؛ لِأَنَّهُ بَعْدَ عَقْدِ السَّلَفِ هَدِيَّةُ الْمِدْيَانِ، وَإِنْ كَانَ يَجُوزُ فِي عَقْدِ صَفْقَةِ الْبَيْعِ، كَالرَّهْنِ الَّذِي يَجُوزُ اشْتِرَاطُ الِانْتِفَاعِ بِهِ فِي عَقْدِ الْبَيْعِ، يُرِيدُ لِأَنَّهُ بَيْعٌ وَإِجَارَةٌ، وَلَا يَجُوزُ لِلرَّاهِنِ أَنْ يَتَطَوَّعَ بِهِ بَعْدَ الْعَقْدِ، وَأَنْ يُبِيحَ لِلْمُرْتَهِنِ الِانْتِفَاعَ بِالرَّهْنِ إذْ هُوَ مِنْ هَدِيَّةِ الْمِدْيَانِ، وَلَمْ يَخْتَلِفْ فِيهِ قَوْلُهُمْ إنَّهُ مَكْرُوهٌ بَعْدَ عَقْدِ الْبَيْعِ، فَكَذَلِكَ إسْقَاطُ الْيَمِينِ بَعْدَ عَقْدِ السَّلَفِ إذْ هُوَ هَدِيَّةُ الْمِدْيَانِ.
مَسْأَلَةٌ:
وَفِي وَثَائِقِ ابْنِ الْهِنْدِيِّ: شَرْطُ التَّصْدِيقِ لَا يُوَرَّثُ، وَالْيَمِينُ تَلْزَمُ وَرَثَةَ مَنْ كَانَ الْمِدْيَانُ شَرَطَ لَهُ أَنَّهُ مُصَدَّقٌ؛ لِأَنَّ مِنْ حُجَّةِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ أَنْ يَقُولَ: إنَّمَا الْتَزَمْتُ تَصْدِيقَ الْمُتَوَفَّى لِعِلْمِي بِدِينِهِ وَثِقَتِي بِصِدْقِهِ، فَإِذَا ادَّعَى أَنَّهُ قَضَى وَرَثَتَهُ بَعْدَهُ لَزِمَتْهُمْ الْيَمِينُ.
مَسْأَلَةٌ:
قَالَ ابْنُ الْعَطَّارِ: فَإِنْ كَانَ الْغَرِيمُ الْمُفْلِسُ صَدَّقَ غُرَمَاءَهُ فِي الِاقْتِضَاءِ، وَقَامُوا بِتَفْلِيسِهِ وَاقْتَسَمُوا مَالَهُ بِحُكْمِ السُّلْطَانِ، انْتَفَعُوا بِالتَّصْدِيقِ وَلَمْ يَحْلِفُوا.
تَنْبِيهٌ:
قَالَ ابْنُ الْفَخَّارِ: وَهَذَا أَيْضًا غَلَطٌ وَلَا يَجُوزُ لِلسُّلْطَانِ أَنْ يَقْضِيَ لَهُمْ إلَّا بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ، إذْ قَدْ يَطْرَأُ مَنْ تَجِبُ لَهُ مُخَاصَمَتُهُمْ أَوْ يَسْتَحِقُّ ذَلِكَ دُونَهُمْ كَمَا تَقَدَّمَ قَبْلَ هَذَا.
مَسْأَلَةٌ:
وَإِذَا شَرَطَ الرَّجُلُ لِزَوْجَتِهِ أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُهَا فِي الْمَغِيبِ عَنْهَا، وَأَنَّهَا مُصَدَّقَةٌ فِي انْقِضَاءِ الْأَجَلِ الْمَضْرُوبِ فِي ذَلِكَ، فَإِنَّهُ يَسْقُطُ عَنْهَا بِهَذَا التَّصْدِيقِ مُؤْنَةُ إثْبَاتِ الْمَغِيبِ عِنْدَ الْحَاكِمِ، وَإِنَّمَا عَلَيْهَا أَنْ تُثْبِتَ الزَّوْجِيَّةَ عِنْدَهُ وَالشَّرْطَ، ثُمَّ يَأْمُرَهَا بِالْحَلِفِ فِي بَيْتِهَا إنْ كَانَ ذَلِكَ فِي شَرْطِهَا، أَوْ فِي أَقْرَبِ الْجَوَامِعِ إلَيْهَا، إنْ لَمْ تَشْتَرِطْ الْيَمِينَ فِي بَيْتِهَا، فَإِنْ كَانَتْ مِمَّنْ تَخْرُجُ نَهَارًا أُخْرِجَتْ وَحَلَفَتْ، وَإِلَّا حَلَفَتْ لَيْلًا، ثُمَّ يُبِيحُ لَهَا تَطْلِيقَ نَفْسِهَا.
تَنْبِيهٌ:
وَالْيَمِينُ فِي ذَلِكَ: أَنْ تَحْلِفَ بِاَللَّهِ تَعَالَى، أَنَّهُ قَدْ غَابَ عَنْهَا أَكْثَرَ مِمَّا شَرَطَهُ لَهَا، وَأَنَّهُ لَمْ يَقْدُمْ إلَيْهَا سِرًّا وَلَا جَهْرًا، وَلَا أَسْقَطَتْ عَنْهُ شَرْطَهَا، وَلَا كَانَ سُكُوتُهَا وَتَلَوُّمُهَا تَرْكًا مِنْهَا لِشَرْطِهَا، قَالَ ابْنُ الْعَطَّارِ وَتَحْلِفُ عَلَى ذَلِكَ فِي بَيْتِهَا، إنْ كَانَ فِي شَرْطِهَا أَنَّهَا تَحْلِفُ فِي بَيْتِهَا، فِي الْمُنْقَضِي مِنْ أَجَلِهَا، وَانْتَقَدَ ذَلِكَ ابْنُ الْفَخَّارِ.
وَقَالَ: كَيْفَ تَحْلِفُ فِي بَيْتِهَا فِي جَمِيعِ ذَلِكَ؟ وَإِنَّمَا شَرَطَ لَهَا أَنْ تَحْلِفَ فِي بَيْتِهَا فِي الْمُنْقَضِي مِنْ أَجَلِهَا، ثُمَّ خَرَجَتْ إلَى الْجَامِعِ وَحَلَفَتْ فِي سَائِرِ ذَلِكَ.
فَرْعٌ:
إذَا شَرَطَ الزَّوْجُ لِزَوْجَتِهِ أَنَّهَا مُصَدَّقَةٌ فِي دَعْوَى إضْرَارِهِ بِهَا دُونَ يَمِينٍ تَلْزَمُهَا فَذَلِكَ لَهَا، فَإِذَا شَكَتْ إضْرَارَهُ بِهَا وَثَبَتَ الشَّرْطُ طَلَّقَتْ نَفْسَهَا دُونَ يَمِينٍ.
وَقَالَ أَبُو الْقَاسِمِ الْجَزِيرِيُّ فِي وَثَائِقِهِ: إذَا طَاعَ بِتَصْدِيقِهَا فِي الضَّرَرِ لَزِمَهُ وَيُكْرَهُ عَقْدُهُ، فَإِنْ قَيَّدَهُ بِيَمِينِهَا فِيهِ حَلَفَتْ حَيْثُ تَجِبُ، إلَّا أَنْ يَقُولَ فِيهِ دُونَ يَمِينٍ مَا لَمْ تُمَكِّنْهُ مِنْ نَفْسِهَا، فَإِنْ تَلَذَّذَ مِنْهَا بِشَيْءٍ سَقَطَ شَرْطُهَا، وَإِنْ ادَّعَى التَّلَذُّذَ وَأَنْكَرَتْهُ، حَلَفَتْ وَلَهَا رَدُّ الْيَمِينِ.
تَنْبِيهٌ:
قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْعَطَّارِ: وَإِنَّمَا يَجُوزُ لِلْمُرْتَهِنِ بَيْعُ الرَّهْنِ، إذَا كَانَ فِي وَثِيقَةِ الدَّيْنِ تَصْدِيقُ صَاحِبِهِ فِي اقْتِضَاءِ دَيْنِهِ دُونَ يَمِينٍ، وَكَانَ مَعَ ذَلِكَ مَأْمُونًا، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ شَرَطَ التَّصْدِيقَ أَوْ شَرَطَهُ وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ غَيْرُ مَأْمُونٍ، فَلَا يَجُوزُ لَهُ بَيْعُ الرَّهْنِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَصِلُ إلَى ذَلِكَ إلَّا بَعْدَ يَمِينٍ وَحُكْمٍ.
وَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو الْوَلِيدِ مُحَمَّدُ عَبْدُ اللَّهِ: يَجُوزُ بَيْعُهُ دُونَ الْحَاكِمِ، إذَا أَصَابَ وَجْهَ الْبَيْعِ سَوَاءٌ كَانَ فِي الْوَثِيقَةِ شَرَطَ التَّصْدِيقَ أَوْ لَمْ يَكُنْ.
مَسْأَلَةٌ:
إذَا شَرَطَ الْمُسْلَمُ إلَيْهِ أَنَّ الْمُسْلِمَ مُصَدَّقٌ فِي اقْتِضَاءِ السَّلَمِ دُونَ يَمِينٍ، لَمْ يَنْتَفِعْ بِذَلِكَ الْمُسْلِمُ فِي الدَّعَاوَى فِي تِلْكَ الْمُعَامَلَةِ، إنْ زَعَمَ الْمُسْلَمُ إلَيْهِ أَنَّهُ أَقَالَهُ أَوْ أَنْظَرَهُ بِالسَّلَمِ بَعْدَ حُلُولِهِ، أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ مِنْ الدَّعَاوَى الْمُوجِبَةِ لِلْيَمِينِ، فَإِنْ قَالَ إنَّهُ مُصَدَّقٌ فِي الِاقْتِضَاءِ أَوْ فِي جَمِيعِ أَسْبَابِ السَّلَمِ دُونَ يَمِينٍ، نَفَعَهُ ذَلِكَ.
قَالَ الْبَاجِيُّ فِي وَثَائِقِهِ: وَالْأَحْسَنُ فِي ذَلِكَ، أَنْ يَذْكُرَ أَنَّ التَّصْدِيقَ عَلَى الطَّوْعِ؛ لِأَنَّك إذَا ذَكَرْت أَنَّ التَّصْدِيقَ انْعَقَدَ فِي أَصْلِ السَّلَمِ كَانَ فِيهِ اخْتِلَافٌ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ، فَقِيلَ يَلْزَمُهُ الشَّرْطُ وَقِيلَ لَا يَلْزَمُهُ، فَإِنْ لَمْ يَذْكُرْ فِي الْعَقْدِ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ عَلَى الطَّوْعِ، فَلَا تَغْفُلُ أَنْ تَقُولَ بَعْدَ أَنْ عَرَفَ بِاخْتِلَافِ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي ذَلِكَ، فَأَلْزَمَ نَفْسَهُ قَوْلَ مَنْ يَرَى سُقُوطَهَا ثِقَةً مِنْهُ بِالْمُسْلِمِ وَرِضًى بِدِينِهِ وَأَمَانَتِهِ، وَقَدْ ذَكَرَ هَذَا أَحْمَدُ بْنُ سَعِيدِ بْنِ الْمُنْذِرِ وَقَوَّاهُ، وَضَعَّفَهُ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْعَطَّارِ.
وَقَالَ: هَذَا لَيْسَ بِشَيْءٍ؛ لِأَنَّ الْمُسْلَمَ إلَيْهِ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَخْتَارَ قَوْلَ عَالِمٍ عَلَى عَالِمٍ، وَإِنَّمَا ذَلِكَ إلَى الْحَاكِمِ يَخْتَارُ مِنْ ذَلِكَ مَا رَآهُ، قَالَ ابْنُ بَشِيرٍ فِي نَوَازِلِ الْأَحْكَامِ وَالصَّوَابُ مَا ذَكَرَهُ؛ لِأَنَّهُ قَدْ قَضَى عَلَى نَفْسِهِ بِشَيْءٍ لَزِمَهُ، وَجَازَ لِلْحَاكِمِ أَنْ يَحْكُمَ عَلَيْهِ بِمَا حَكَمَ بِهِ عَلَى نَفْسِهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَعْضُ هَذَا.
فَرْعٌ:
قَالَ الْبَاجِيُّ فِي وَثَائِقِهِ: وَخَاطَبْت أَحْمَدَ بْنَ عَبْدِ الْمَلِكِ، وَسَأَلْته عَنْ اشْتِرَاطِ التَّصْدِيقِ فِي عَقْدِ السَّلَفِ وَعَنْ وُقُوعِهِ بَعْدَ الْعَقْدِ عَلَى الطَّوْعِ، هَلْ هُمَا سَوَاءٌ فِي اخْتِلَافِ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي ذَلِكَ؟ أَمْ لَيْسَ فِي ذِكْرِهِ عَلَى الطَّوْعِ اخْتِلَافٌ وَأَنَّهُ جَائِزٌ، فَكَتَبَ إلَيَّ أَنَّ الِاخْتِلَافَ الْمَذْكُورَ، يَدْخُلُ فِي شَرْطِ التَّصْدِيقِ فِي عَقْدِ السَّلَفِ وَفِي الطَّوْعِ بِهِ.
وَقَالَ لِي أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ: وَإِنَّمَا الِاخْتِلَافُ إذَا وَقَعَ فِي أَصْلِ الْعَقْدِ، وَأَمَّا إذَا وَقَعَ عَلَى الطَّوْعِ فَلَا اخْتِلَافَ فِيهِ.
تَنْبِيهٌ:
وَاَلَّذِي يَنْفَعُ مِنْ التَّصْدِيقِ أَنْ يَقُولَ يُصَدَّقُ بِلَا يَمِينٍ، فَلَوْ قَالَ يُصَدَّقُ وَلَمْ يَقُلْ بِلَا يَمِينٍ، فَفِيهِ اخْتِلَافٌ مِنْ قَوْلِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ، فَمَرَّةً قَالَ يُصَدَّقُ وَيَحْلِفُ، وَقَالَ مَرَّةً يُصَدَّقُ وَلَا يَحْلِفُ.
وَقَالَ سَحْنُونٌ لَمْ يُصَدَّقْ إذَا حَلَّفَهُ.
مَسْأَلَةٌ:
وَإِنْ ذَهَبَ الْمُوصِي إلَى أَنْ يَكُونَ الْوَصِيُّ مُصَدَّقًا فِي تَنْفِيذِ الْوَصِيَّةِ بِلَا بَيِّنَةٍ يُقِيمُهَا عَلَى التَّنْفِيذِ، فَلَهُ شَرْطُهُ إذَا كَانَ الْوَصِيُّ ثِقَةً مَأْمُونًا مَشْهُورًا بِالصَّلَاحِ، قَالَ ابْنُ الْهِنْدِيِّ: إلَّا أَنْ يَكُونَ الْوَصِيُّ مِنْ الْوَرَثَةِ، فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يَنْفَعُهُ، وَلَا يَنْفُذُ فِيهِ شَرْطُهُ وَعَلَيْهِ الْبَيِّنَةُ، أَوْ يَحْضُرَ التَّنْفِيذَ جَمِيعُ مَنْ يَرِثُ مَعَهُ، أَوْ يُقِرُّونَ لَهُ بِذَلِكَ فَيَبْرَأُ.
مَسْأَلَةٌ:
لَوْ اشْتَرَى رَجُلٌ أَمَةً مِنْ سَيِّدِهَا، ثُمَّ بَعْدَ تَمَامِ الْعَقْدِ وَانْبِرَامِهِ، قَالَ الْمُشْتَرِي لِلْبَائِعِ: أَغْلَيْتَهَا عَلَيَّ وَمَا أَحْسِبُنِي أَتَخَلَّصُ فِيهَا، فَقَالَ لَهُ الْبَائِعُ: بِعْ وَلَا نُقْصَانَ عَلَيْك وَلَا خُسْرَانَ، وَأَنْت مُصَدَّقٌ فِيمَا تَزْعُمُ أَنَّك بِعْتَهَا بِهِ دُونَ يَمِينٍ تَلْزَمُك، فَذَلِكَ جَائِزٌ لَازِمٌ لِلْبَائِعِ.
تَنْبِيهٌ:
وَهَذَا الِالْتِزَامُ مِنْ الْبَائِعِ بَعْدَ الْعَقْدِ لَازِمٌ لَهُ، بِخِلَافِ مَا لَوْ كَانَ ذَلِكَ فِي أَصْلِ الْعَقْدِ فَإِنَّهُ عَقْدٌ فَاسِدٌ اُنْظُرْ الْمُتَيْطِيَّةَ.
مَسْأَلَةٌ:
إذَا شَرَطَ أَنَّهُ مُصَدَّقٌ فِي اقْتِضَاءِ السَّلَفِ دُونَ يَمِينٍ ثُمَّ ادَّعَى أَنَّهُ رَهَنَهُ بِهِ رَهْنًا، فَإِنَّ الْيَمِينَ تَجِبُ فِي ذَلِكَ، حَتَّى وَإِنْ اشْتَرَطَ فِي تَصْدِيقِهِ بِأَيِّ وَجْهٍ ادَّعَى بِهِ عَلَيْهِ، فلابد مِنْ الْيَمِينِ فِي دَعْوَى الرَّهْنِ: أَوْ الْإِحَالَةِ، قَالَهُ ابْنُ عَبْدِ الْغَفُورِ.
وَقَالَهُ بَعْضُ الشُّيُوخِ الْمُفْتِينَ، وَقَدْ تَقَدَّمَتْ أَوَّلُ الْبَابِ مِنْ الطُّرَرِ لِابْنِ عَاتٍ.
مَسْأَلَةٌ:
وَفِي الْمُتَيْطِيَّةِ: وَإِذَا اشْتَرَطَ الْمُسْتَعِيرُ أَنَّهُ مُصَدَّقٌ فِي تَلَفِ مَا يُغَابُ عَلَيْهِ، أَوْ اشْتَرَطَ أَنَّهُ مُصَدَّقٌ فِي تَلَفِ مَا لَا يُغَابُ عَلَيْهِ، فَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ وَأَشْهَبُ لَهُ شَرْطُهُ وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ.
مَسْأَلَةٌ:
وَفِي الْمُتَيْطِيَّةِ: وَإِذَا لَمْ يَشْتَرِطْ السَّيِّدُ فِي الْكِتَابَةِ التَّصْدِيقَ فِي الِاقْتِضَاءِ دُونَ يَمِينٍ تَلْزَمُهُ، وَادَّعَى الْمُكَاتَبُ الْأَدَاءَ إلَيْهِ، وَأَنْكَرَهُ السَّيِّدُ فَإِنَّ الْيَمِينَ تَجِبُ عَلَى السَّيِّدِ فِي ذَلِكَ، وَلَهُ رَدُّهَا عَلَى الْمُكَاتَبِ، وَكَذَلِكَ إنْ لَمْ يَشْتَرِطْ عَلَيْهِ أَنَّهُ مُصَدَّقٌ فِي جَمِيعِ أَسْبَابِ هَذِهِ الْكِتَابَةِ، وَادَّعَى السَّيِّدُ أَنَّهُ قَدْ حَلَّ نَجْمٌ وَأَكْذَبَهُ الْمُكَاتَبُ يُصَدَّقُ الْمُكَاتَبُ، وَبِاشْتِرَاطِ التَّصْدِيقِ يَكُونُ الْقَوْلُ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ قَوْلُ السَّيِّدِ بِغَيْرِ يَمِينٍ، وَقَالَ أَشْهَبُ بِيَمِينٍ.
مَسْأَلَةٌ:
وَفِي أَحْكَامِ ابْنِ سَهْلٍ فِي مَرِيضٍ أَقَرَّ لِرَجُلٍ بِمِائَتِي مِثْقَالٍ، وَعَهِدَ أَنْ يُصَدَّقَ فِيهَا دُونَ يَمِينٍ تَلْزَمُهُ، وَأَنْ تُدْفَعَ إلَيْهِ بِلَا يَمِينٍ، فَأَفْتَى فِيهَا ابْنُ الْقَطَّانِ بِسُقُوطِ الْيَمِينِ، وَاسْتَدَلَّ عَلَى ذَلِكَ بِمَا وَقَعَ فِي سَمَاعِ ابْنِ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ، فِي الرَّجُلِ يُوصِي بِدَيْنٍ عَلَيْهِ فَيَقُولُ: كُنْت أُدَايِنُ فُلَانًا وَفُلَانًا، فَمَا ادَّعَوْا قَبْلِي فَهُمْ مُصَدَّقُونَ، أَنَّ ذَلِكَ لَهُمْ بِلَا يَمِينٍ عَلَى مَا ادَّعَوْا، قَالَ وَمَسْأَلَةُ الْإِقْرَارِ أَقْوَى فِي سُقُوطِ الْيَمِينِ مِنْ مَسْأَلَةِ السَّمَاعِ؛ لِأَنَّ الْمُقِرَّ فِي مَرَضِهِ قَدْ حَدَّ الدَّيْنَ فِيهَا، وَلَمْ يَجِدْ الدِّينَ فِي الْمَسْأَلَةِ الَّتِي وَقَعَتْ فِي السَّمَاعِ، وَأَفْتَى فِيهَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَتَّابٍ بِلُزُومِ الْيَمِينِ، وَقَالَ إنَّ الْمَالَ صَارَ لِغَيْرِ الْمَيِّتِ وَانْتَقَلَ لِوَارِثِهِ، فَالْحَقُّ لَهُمْ وَالْيَمِينُ لَازِمَةٌ، قَالَ: وَقَدْ اخْتَلَفَ قَوْلُ مَالِكٍ فِي شَرْطِ التَّصْدِيقِ فِي الَّذِي يُلْزِمُ نَفْسَهُ التَّصْدِيقُ، فَلَهُ فِي ذَلِكَ أَقْوَالٌ: مِنْهَا: أَنَّ الشَّرْطَ سَاقِطٌ، فَإِذَا قَالَ مَالِكٌ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ بِسُقُوطِهِ فِي حَقِّ الَّذِي يُوجِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ وَهُوَ بِالْحَيَاةِ فَهُوَ أَوْلَى بِالسُّقُوطِ فِيمَنْ يُرِيدُ أَنْ يُلْزِمَهُ وَرَثَتَهُ، وَمَسْأَلَةُ ابْنِ الْقَاسِمِ الْمُتَقَدِّمَةِ يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ مِنْ غَيْرِ هَذَا الْأَصْلِ، وَأَنْ يَكُونَ الْمَيِّتُ كَانَتْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَنْ أَوْصَى بِتَصْدِيقِهِ مُلَابَسَةٌ عَلَى أَنْ لَا يَقِفَ عَلَى مَبْلَغِهَا، فَأَرَادَ التَّخَلُّصَ مِنْهَا بِتَصْدِيقِهِمْ فِيهَا وَهَذَا أَصْلٌ آخَرُ اخْتَلَفَ فِيهِ أَصْحَابُ مَالِكٍ فَاعْلَمْهُ، قَالَ: وَبِهَذِهِ الرِّوَايَةِ الْأَخِيرَةِ جَرَى الْعَمَلُ عِنْدَنَا، قَالَ ابْنُ سَهْلٍ: وَكَانَ مِنْ طَرِيقِ الْإِنْصَافِ أَنْ يَذْكُرَ ابْنُ الْقَطَّانِ مَا فِي الْمَسْأَلَةِ مِنْ الرِّوَايَةِ الثَّانِيَةِ، إلَّا أَنْ لَا يَكُونَ لَهُ بِهَا عِلْمٌ فَيُعْذَرُ، وَنَقَلَ الْقَاضِي ابْنُ زَرْبٍ الْحُكْمَ فِي الْمَسْأَلَةِ بِمَا أَفْتَى بِهِ ابْنُ عَتَّابٍ، وَكَتَبَ بِالْمَسْأَلَةِ ابْنُ سَهْلٍ إلَى أَحْمَدَ بْنِ رَشِيقٍ فَقِيهِ الْمِرْيَةِ، فَأَفْتَى بِأَنْ لَا يَمِينَ عَلَى الْمُقِرِّ لَهُ، إذَا لَمْ يَكُنْ ثَمَّ تُهْمَةٌ فِي إقْرَارِ الْمُقِرِّ وَلَا صَحَّتْ عَلَيْهِ رِيبَةٌ.
مَسْأَلَةٌ:
وَسُئِلَ مَالِكٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَمَّنْ أَوْصَى فِي مَرَضِهِ، أَنَّ لِفُلَانٍ أَرْبَعِينَ دِينَارًا، وَأَوْصَى مَعَ ذَلِكَ أَنَّهُ مُصَدَّقٌ فِيمَا قَالَ، فَادَّعَى الرَّجُلُ أَنَّ لَهُ عَلَيْهِ خَمْسِينَ دِينَارًا، قَالَ أَرَى أَنْ يَحْلِفَ وَيَأْخُذَ خَمْسِينَ، وَبِهَذِهِ مِثْلُهَا اسْتَدَلَّ ابْنُ عَتَّابٍ فِي الْمَسْأَلَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ.
مَسْأَلَةٌ:
وَفِي سَمَاعِ أَصْبَغَ قِيلَ لِابْنِ الْقَاسِمِ: فَإِنْ أَوْصَى فَقَالَ قَدْ كَانَتْ بَيْنِي وَبَيْنَ فُلَانٍ مُعَامَلَةٌ، فَمَا ادَّعَى مِنْ شَيْءٍ فَأَعْطَوْهُ وَهُوَ فِيهِ مُصَدَّقٌ، فَقَالَ إنْ ادَّعَى مَا يُشْبِهُ مُعَامَلَةَ مِثْلِهِ لِمِثْلِهِ أُعْطِيه، وَأَحْسِبُهُ رَوَاهُ عَنْ مَالِكٍ، قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ وَيَكُونُ ذَلِكَ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ، وَلَيْسَ كُلُّ النَّاسِ فِي قِلَّةِ الْمَالِ وَكَثْرَتِهِ سَوَاءً. قَالَ: وَإِنْ ادَّعَى مَالًا يُشْبِهُ بَطَلَ ذَلِكَ، وَلَمْ يَكُنْ فِي رَأْسِ الْمَالِ وَلَا فِي الثُّلُثِ، قَالَ أَصْبَغُ يُرِيدُ إنَّمَا تَبْطُلُ الزِّيَادَةُ عَلَى مَا يُشْبِهْ وَلَا يَبْطُلُ الْجَمِيعُ، بَلْ يُعْطَى مَا يُشْبِهُ مِمَّا لَا يَتَبَيَّنُ فِيهِ كَذِبُهُ، وَيُحْمَلُ ذَلِكَ يَعْنِي الْأَشْبَهُ مَحْمَلَ الشَّهَادَةِ لَهُ وَعَلَيْهِ.
مَسْأَلَةٌ:
وَفِي سَمَاعِ عِيسَى فِي كِتَابِ الشَّهَادَاتِ عَنْ ابْنِ الْقَاسِمِ: فِيمَنْ حَضَرَهُ الْمَوْتُ فَقَالَ: مَا شَهِدَ بِهِ ابْنِي عَلَيَّ مِنْ دَيْنٍ أَوْ ابْنَتِي فَهُوَ مُصَدَّقٌ، مِنْ دِينَارٍ إلَى مِائَةٍ، أَوْ لَمْ يُوَقِّتْ عَدَدًا ثُمَّ مَاتَ، فَشَهِدَ ابْنُهُ ذَلِكَ لِقَوْمٍ بِدُيُونٍ، وَشَهِدَ أَيْضًا لِبَعْضِ الْوَرَثَةِ بِدَيْنٍ، فَقَالَ لَا يَثْبُتُ ذَلِكَ عِنْدِي إلَّا بِيَمِينٍ، وَإِنْ كَانَ عَدْلًا، وَمَذْهَبُهُ عِنْدِي مَذْهَبُ الْقَضَاءِ، يَعْنِي حُكْمُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ حُكْمُ قَضَاءِ الدَّيْنِ عَنْ الْمَيِّتِ، لابد فِيهِ مِنْ يَمِينِ الْقَضَاءِ، قَالَ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَدْلًا، أَوْ نَكَلَ الْمَشْهُودُ لَهُ عَنْ الْيَمِينِ، لَزِمَ الشَّاهِدَ مِنْ ذَلِكَ قَدْرُ مِيرَاثِهِ، وَإِنْ كَانَ سَفِيهًا لَمْ يَجُزْ إقْرَارُهُ فِي مِيرَاثِهِ وَلَمْ يَحْلِفْ، طَالِبُ الْحَقِّ.
مَسْأَلَةٌ:
وَفِي كِتَابِ ابْنِ حَبِيبٍ قُلْت لِأَصْبَغَ مَنْ قَالَ عِنْدَ مَوْتِهِ عَلَيَّ دُيُونٌ، وَفُلَانٌ مَوْلَايَ أَوْ ابْنِي يَعْلَمُ أَمْرَ أَهْلِهَا، فَمَنْ بَيَّنَّا أَنَّ لَهُ عَلَيَّ شَيْئًا فَأَعْطَوْهُ فَإِنَّهُ كَانَ عِنْدَنَا مِنْ قَوْلِ ابْنِ الْقَاسِمِ: أَنَّهُ كَالشَّاهِدِ، إنْ كَانَ عَدْلًا حَلَفَ مَعَهُ الْمُدَّعِي وَأَخَذَ مَا قَالَ، قَالَ أَصْبَغُ: مَا هَذَا بِشَيْءٍ وَلَا أَعْرِفُهُ مِنْ قَوْلِهِ، وَلَكِنْ يُصَدَّقُ مَنْ جَعَلَ الْمَيِّتُ التَّصْدِيقَ إلَيْهِ كَانَ عَدْلًا أَوْ غَيْرَ عَدْلٍ، كَقَوْلِ مَالِكٍ فِيمَنْ قَالَ: وَصِيَّتِي عِنْدَ فُلَانٍ، فَمَا أَخْرَجَ فَأَنْفِذُوهُ، أَنَّ ذَلِكَ نَافِذٌ، وَمَا اسْتَثْنَى مَالِكٌ عَدْلًا مِنْ غَيْرِ عَدْلٍ، وَذَلِكَ سَوَاءٌ مَا لَمْ يُسَمِّ مَنْ يُتَّهَمُ عَلَيْهِ تُهْمَةً بِبَيِّنَةٍ مِنْ أَقَارِبِهِ مِمَّنْ هُوَ كَنَفْسِهِ، قَالَ فَضْلُ بْنُ سَلَمَةَ كَأَنَّهُ يَقُولُ: لَوْ لَمْ يَقُلْ فَمَا أَخْرَجَ مِنْهَا فَأَنْفَذُوهُ، وَلَكِنْ قَالَ وَصِيَّتِي عِنْدَ فُلَانٍ وَسَكَتَ، فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ شَيْئًا حَتَّى يَقُولَ فَأَنْفِذُوا مَا فِيهَا.
وَفِي الْمَسْأَلَةِ طُولٌ وَبَحْثٌ مَعَ أَصْبَغَ، ذَكَرَهُ ابْنُ سَهْلٍ حَاصِلُهُ: أَنَّهُ لابد مِنْ اعْتِبَارِ الْعَدَالَةِ فِيمَنْ أَسْنَدَ الْمَيِّتُ إلَيْهِ ذَلِكَ، وَذَكَرَهُ فِي الْعُتْبِيَّةِ عَنْ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ.
مَسْأَلَةٌ:
وَفِي الْأَوَّلِ مِنْ وَصَايَا النَّوَادِرِ، قَالَ يَحْيَى بْنُ يَحْيَى قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: وَلَوْ قَالَ: كُنْت أُعَامِلُ فُلَانًا وَفُلَانًا، فَمَا ادَّعَوْا فَصَدِّقُوهُمَا، قَالَ فَلْيُعْطَوْا مَا ادَّعَوْا بِلَا يَمِينٍ.
مَسْأَلَةٌ:
وَفِي مُخْتَصَرِ الْوَاضِحَةِ قَالَ أَصْبَغُ: وَلَوْ أَوْصَى فَقَالَ: مَنْ ادَّعَى عَلَيَّ دَيْنًا فَأَحْلِفُوهُ عَلَيْهِ، وَاقْضُوهُ بِغَيْرِ بَيِّنَةٍ، أَوْ قَالَ اقْضُوهُ إيَّاهُ بِغَيْرِ بَيِّنَةٍ وَلَا يَمِينٍ، وَلَوْ لَمْ يُوَقِّتْ لِلدَّيْنِ وَقْتًا، فَأَرَى ذَلِكَ جَائِزًا فِي ثُلُثِهِ، وَلَا أَرَى ذَلِكَ يَجُوزُ فِي ثُلُثَيْ الْوَرَثَةِ، وَأَرَاهُ كَالْوَصِيَّةِ، وَأَمَّا الَّذِي وَقَّتَ الدَّيْنَ وَسَمَّاهُ، فَهُوَ كَرَجُلٍ أَقَرَّ بِدَيْنٍ وَسَمَّاهُ إلَّا أَنَّهُ لَمْ يَعْرِفْ صَاحِبَهُ وَلَا أَصْلَهُ، فَقَالَ مَنْ جَاءَ يَدَّعِيه فَاقْضُوهُ إيَّاهُ، فَذَلِكَ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ، وَإِذَا اجْتَمَعَ عَلَيْهِ اثْنَانِ أَوْ جَمَاعَةٌ، كُلُّ وَاحِدٍ يَدَّعِيه لِنَفْسِهِ تَحَاصُّوا فِيهِ.
مَسْأَلَةٌ:
قَالَ ابْنُ حَبِيبٍ: قَالَ أَصْبَغُ عَنْ ابْنِ وَهْبٍ فِي رَجُلٍ أَوْصَى أَنَّ مَا ادَّعَى بَنُو فُلَانٍ قِبَلِي فَأَعْطَوْهُمْ إيَّاهُ، وَمَا أَقَرُّوا بِهِ لِي قِبَلَهُمْ فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُمْ غَيْرَهُ، وَلَا تَسْتَحْلِفُوا مِنْهُمْ أَحَدًا، فَإِنَّهُ قَدْ كَانَتْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ أَشْيَاءُ وَحِسَابٌ، فَقَضَى ابْنُ وَهْبٍ أَنْ يُجِيزُوا قَوْلَهُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الثُّلُثِ، وَمَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ كَانَتْ فِيهِ الْبَيِّنَاتُ وَالْأَيْمَانُ.
وَقَالَ مُطَّرِفٌ وَابْنُ الْمَاجِشُونِ مِثْلَهُ.
[الْبَابُ الثَّلَاثُونَ فِي الْقَضَاءِ بِشَهَادَةِ بَعْضِ أَصْحَابِ الْحَقِّ]
مَسْأَلَةٌ:
قَالَ ابْنُ سَهْلٍ وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ فِي آخِرِ كِتَابِ الِاسْتِحْقَاقِ مِنْ الْعُتْبِيَّةِ، وَأَرَاهَا مِنْ سَمَاعِ أَصْبَغَ قُلْتُ أَرَأَيْت الْقَاضِيَ إذَا قَضَى بِشَيْءٍ لِلْعَامَّةِ كَالطَّرِيقِ أَوْ الْخَاصَّةِ أَوْ الْمُورَدَةِ وَنَحْوِهَا مَنْ يَشْهَدُ عَلَيْهِ؟ قَالَ عُدُولٌ مِنْ الْعَامَّةِ، قُلْت: وَكَيْفَ تَجُوزُ شَهَادَتُهُمْ وَلَهُمْ فِي ذَلِكَ سَهْمٌ؟ قَالَ هَذَا مَا لابد مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ لَا يُوجَدُ أَحَدٌ لَيْسَ لَهُ سَهْمٌ يَشْهَدُ عَلَيْهِ، قَالَ لِي: وَلَيْسَ هَذَا سَهْمًا أَيْضًا، وَلَوْ كَانَ سَهْمًا مَا قُطِعَ مَنْ سَرَقَ فِي بَيْتِ الْمَالِ، وَلَا حُدَّ مَنْ زَنَى بِجَارِيَةٍ مِنْ الْمَغْنَمِ وَهَذَا مِثْلُهُ، قَالَ: وَقَدْ قَالَ مَالِكٌ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ: فِي الْقَوْمِ تَعْرِضُ لَهُمْ اللُّصُوصُ، فَيَأْخُذُهُمْ الْقَوْمُ فَيَأْتُونَ بِهِمْ الْإِمَامَ وَيَشْهَدُونَ أَنَّهُمْ تَعَرَّضُوا لَنَا، وَتَلَصَّصُوا أَنَّ الْإِمَامَ يَحْكُمُ فِيهِمْ بِحُكْمِ الْمُحَارِبِينَ بِشَهَادَتِهِمْ، قَالَ مَالِكٌ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ، وَمَنْ يَشْهَدُ عَلَيْهِمْ إلَّا هُمْ وَهَذَا مِثْلُهُ، وَفِي ذَلِكَ تَفْصِيلٌ يَأْتِي إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
مَسْأَلَةٌ:
وَفِي الْمُقْنِعِ فِي الْمَسْلُوبِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ هَؤُلَاءِ سَلَبُونَا هَذَا الْمَتَاعَ وَهَذِهِ الدَّوَابَّ، وَذَلِكَ بِأَيْدِي اللُّصُوصِ، قَالَ مُطَّرِفٌ: فَشَهَادَةُ عَدْلَيْنِ مِنْهُمْ جَائِزَةٌ فِي الْقَطْعِ وَفِي أَمْوَالِهِمْ وَأَمْوَالِ غَيْرِهِمْ، وَلَوْ لَمْ تَجُزْ فِي الْمَالِ لَمْ تَجُزْ فِي الْقَطْعِ.
وَقَالَ مَالِكٌ: لَا يُقْبَلُ بَعْضُ الشَّهَادَةِ وَيُرَدُّ بَعْضُهَا.
وَقَالَ أَصْبَغُ: قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: يَجُوزُ عَدْلَانِ مِنْهُمْ.
وَفِي الْقَطْعِ وَفِي أَمْوَالِ الرُّفْقَةِ غَيْرِ أَمْوَالِهِمَا، إلَّا أَنْ يَكُونَ مَالُهَا يَسِيرًا فَتَجُوزُ لَهُمْ وَلِغَيْرِهِمْ.
وَقَالَ أَصْبَغُ لَا تَجُوزُ فِي الْقَطْعِ وَلَا لَهُمَا وَلَا لِغَيْرِهِمَا إنْ كَثُرَ مَا كَانَ لَهُمَا، فَإِذَا اُتُّهِمُوا فِي بَعْضِ الشَّهَادَةِ سَقَطَتْ كُلُّهَا، قَالَ ابْنُ الْمَاجِشُونِ فِي الْمَجْمُوعَةِ، وَيُقَامُ عَلَيْهِمْ بِشَهَادَتِهِمْ إذَا كَانُوا كَثِيرًا، وَأَقَلُّ الْكَثِيرِ أَرْبَعَةٌ، وَالْأَرْبَعَةُ قَوْلُ مَالِكٍ، قَالَ أَشْهَبُ وَابْنُ الْمَاجِشُونِ: وَلَا يُعْطَوْا الْأَمْوَالَ بِشَهَادَةِ كُلِّ وَاحِدٍ لِنَفْسِهِ، وَلَكِنْ يُعْطَوْنَ بِشَهَادَةِ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ، وَلَا يَكُونُونَ أَظِنَّاءُ بِمَا لِأَنْفُسِهِمْ وَإِنْ قَالَ اللُّصُوصُ لَمَّا قَطَعْنَا عَلَيْكُمْ زَالَتْ الظِّنَّةُ وَجَازَتْ الشَّهَادَةُ وَإِنْ قَالُوا قَطَعْنَا عَلَيْكُمْ فَقَدْ أَقَرُّوا بِشَهَادَتِهِمْ، وَلَا شَهَادَةَ لَهُمْ عَلَيْهِمْ فِي غَيْرِ ذَلِكَ.
مَسْأَلَةٌ:
وَفِي التَّهْذِيبِ قَالَ مَالِكٌ فِيمَنْ شَهِدَ عَلَى وَصِيَّةٍ لَهُ فِيهَا شَيْءٌ تَافِهٌ لَا يُتَّهَمُ فِيهِ، جَازَتْ لَهُ وَلِغَيْرِهِ، إذْ لَا يَصِحُّ بَعْضُ الشَّهَادَةِ وَيُرَدُّ بَعْضُهَا.
وَقَالَ يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ: إنْ كَانَ مَعَهُ شَاهِدٌ غَيْرُهُ جَازَتْ شَهَادَتُهُ لَهُ وَلِغَيْرِهِ، وَإِنْ كَانَ وَحْدَهُ جَازَتْ لِغَيْرِهِ وَلَمْ تَجُزْ لَهُ، وَرَوَى ابْنُ وَهْبٍ عَنْ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ أَنَّهَا لَا تَجُوزُ لَهُ وَلَا لِغَيْرِهِ، فَهَذِهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ.
تنبيه:
وَعَلَى قَوْلِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ الْأَوَّلِ تَجُوزُ لَهُ بِغَيْرِ يَمِينٍ؛ لِأَنَّهُ فِي حُكْمِ التَّبَعِ وَالتَّافِهِ ثُلُثُ الْوَصِيَّةِ.
وَفِي الطُّرَرِ لِلطَّنْجِيِّ قَالَ الشَّيْخُ أَبُو الْحَسَنِ الصَّغِيرِ: إنْ كَانَ مَعَ الشَّاهِدِ غَيْرُهُ وَكَانَ لَهُ فِيهَا شَيْءٌ أَمْ لَا، فَإِنَّ الثَّالِثَ الَّذِي لَمْ يَشْهَدْ يَأْخُذُ نَصِيبَهُ بِلَا يَمِينٍ؛ لِأَنَّهُ يَأْخُذُهُ بِشَاهِدَيْنِ، وَالشَّاهِدَانِ يَحْلِفُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَعَ صَاحِبِهِ، وَيَأْخُذُ بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ وَحْدَهُ؛ لِأَنَّهُ تَبَعٌ وَغَيْرُهُ قَدْ حَلَفَ.
وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ عَنْ الشَّيْخِ أَبِي الْحَسَنِ أَيْضًا قَالَ: لَا يَخْلُو حَالُ هَذَا الشَّاهِدِ مِنْ وَجْهَيْنِ، إمَّا أَنْ يَشْهَدَ مَعَهُ غَيْرُهُ أَوْ يَنْفَرِدَ بِالشَّهَادَةِ، فَإِنْ كَانَ مَعَهُ غَيْرُهُ شَاهِدًا جَازَتْ فِي حَقِّ الْغَيْرِ بِغَيْرِ يَمِينٍ، وَفِي حَقِّهِ بِيَمِينٍ، وَإِنْ انْفَرَدَ فَلَا يَخْلُو مَا شَهِدَ فِيهِ، إمَّا أَنْ يَكُونَ كَثِيرًا فَيَمْتَنِعُ فِي حَقِّهِ وَفِي حَقِّ الْغَيْرِ قَوْلَانِ، أَوْ يَكُونَ يَسِيرًا فَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ، قَوْلُ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ.
الْأَوَّلُ: يَجُوزُ لَهُ وَلِغَيْرِهِ، وَقَوْلُ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، وَرِوَايَةُ ابْنِ وَهْبٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُمَا.
مَسْأَلَةٌ:
وَفِي الْمُقْنِعِ: قَالَ أَصْبَغُ فِي الْمُسْتَخْرَجَةِ فِي رَجُلَيْنِ شَهِدَا عَلَى وَصِيَّةٍ رَجُلٍ، فَشَهِدَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِصَاحِبِهِ، أَنَّ الْمَيِّتَ أَوْصَى لَهُ بِكَذَا، فَإِنْ كَانَ عَلَى كِتَابٍ وَاحِدٍ فِيهِ ذَلِكَ لَهُمَا فَالشَّهَادَةُ بَاطِلَةٌ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَشْهَدُ لِنَفْسِهِ وَلِغَيْرِهِ، وَأَمَّا لَوْ شَهِدَ عَلَى غَيْرِ كِتَابٍ مَكْتُوبٍ فِيهِ الْوَصِيَّةُ، فَشَهِدَ أَحَدُهُمَا أَنَّ الْمَيِّتَ أَوْصَى لِفُلَانٍ بِكَذَا، ثُمَّ قَالَ الْمَشْهُودُ لَهُ بِالْوَصِيَّةِ: اشْهَدْ عِنْدَ الْقَاضِي أَنَّ فُلَانًا الْمَيِّتَ أَوْصَى لِفُلَانٍ بِكَذَا، يَعْنِي الَّذِي شَهِدَ لَهُ بِالْوَصِيَّةِ فَهِيَ جَائِزَةٌ لَهُمَا، وَيَحْلِفُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَعَ شَهَادَةِ الْآخَرِ.
مَسْأَلَةٌ:
وَلِابْنِ رُشْدٍ فِي الْمُقَدَّمَاتِ، عَلَى مَسْأَلَةِ التَّهْذِيبِ الْمُتَقَدِّمَةِ وَمَا بَعْدَهَا كَلَامٌ فِيهِ جَمْعٌ وَتَفْصِيلٌ، رَأَيْت إثْبَاتَهُ هُنَا، قَالَ: وَأَمَّا التُّهْمَةُ الْحَاصِلَةُ فِي بَعْضِ الشَّهَادَةِ، فَإِنَّهَا تُبْطِلُ جُمْلَةَ الشَّهَادَةِ عَلَى الْمَشْهُورِ الْمَعْلُومِ فِي الْمَذْهَبِ، مِثْل أَنْ يَشْهَدَ رَجُلٌ أَنَّ لَهُ أَوْ لِأَبِيهِ وَلِرَجُلٍ أَجْنَبِيٍّ عَلَى فُلَانٍ أَلْفَ دِرْهَمٍ مِنْ مُعَامَلَةٍ أَوْ سَلَفٍ أَوْ مَا أَشْبَهَ ذَلِكَ، وَقَدْ وَقَعَ فِي الْمُدَوَّنَةِ وَغَيْرِهَا فِي شَهَادَةِ الشَّاهِدِ يَشْهَدُ أَنَّ رَجُلًا أَوْصَى لَهُ وَلِغَيْرِهِ بِوَصِيَّةِ مَالٍ اخْتِلَافٌ كَثِيرٌ، يَفْتَقِرُ تَحْصِيلُهُ إلَى تَفْصِيلٍ وَتَقْسِيمٍ وَذَلِكَ أَنَّهَا مَسْأَلَةٌ تَنْقَسِمُ عَلَى قِسْمَيْنِ، كُلُّ قِسْمٍ مِنْهُمَا لَا يَخْلُو مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُ الْقِسْمَيْنِ: أَنْ يَكُونَ الْمُوصِي أَشْهَدَ عَلَى وَصِيَّةٍ مَكْتُوبَةٍ، وَقَدْ أَوْصَى فِيهَا لِلشَّاهِدِ بِوَصِيَّةٍ. وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ عَلَى لَفْظٍ بِغَيْرِ كِتَابٍ، فَيَقُولَ لِفُلَانٍ كَذَا وَلِفُلَانٍ كَذَا لِأَحَدِ الشُّهُودِ.
فَأَمَّا الْقِسْمُ الْأَوَّلُ: وَهُوَ أَنْ يُشْهِدَ الْمُوصِي عَلَى وَصِيَّتِهِ، وَقَدْ أَوْصَى فِيهَا لِلشَّاهِدِ بِوَصِيَّةٍ، فَلَا يَخْلُو أَنْ يَكُونَ مَا سَمَّى الشَّاهِدُ فِيهَا يَسِيرًا أَوْ كَثِيرًا، فَإِنْ كَانَ يَسِيرًا فَفِي ذَلِكَ أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ: أَحَدُهَا أَنَّ شَهَادَةَ الْمُوصِي لَهُ لَا تَجُوزُ لِنَفْسِهِ وَلَا لِغَيْرِهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُتَّهَمُ فِي الْيَسِيرِ، كَذَا يُتَّهَمُ فِي غَيْرِ الْوَصِيَّةِ، وَهِيَ رِوَايَةُ ابْنِ وَهْبٍ عَنْ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ فِي الْمُدَوَّنَةِ.
وَالثَّانِي أَنَّ شَهَادَتَهُ تَجُوزُ لِنَفْسِهِ وَلِغَيْرِهِ، فَإِنْ كَانَ وَحْدَهُ حَلَفَ الْمُوصِي لَهُمْ مَعَ شَهَادَتِهِ، أَنَّ مَا شَهِدَ بِهِ مِنْ الْوَصِيَّةِ حَقٌّ، وَأَخَذَ مَالَهُ فِيهَا بِشَهَادَتِهِ مَعَ أَيْمَانِهِمْ؛ لِأَنَّهُ فِي حُكْمِ التَّبَعِ لِجُمْلَةِ الْوَصِيَّةِ، وَإِنْ كَانَ مَعَهُ غَيْرُهُ مِمَّنْ أَوْصَى لَهُ أَيْضًا بِيَسِيرٍ، ثَبَتَتْ الْوَصِيَّةُ أَيْضًا بِشَهَادَتِهِمَا، وَأَخَذَ هُوَ مَا لَهُ فِيهَا بِغَيْرِ يَمِينٍ، وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ الْقَاسِمِ فِي الْمُدَوَّنَةِ، وَرِوَايَةُ مُطَّرِفٍ عَنْ مَالِكٍ فِي الْوَاضِحَةِ.
وَالثَّالِثُ: أَنَّ شَهَادَتَهُ تَجُوزُ لِغَيْرِهِ وَلَا تَجُوزُ لِنَفْسِهِ، وَإِنْ كَانَ وَحْدَهُ حَلَفَ الْمُوصَى لَهُمْ مَعَ شَهَادَتِهِ، وَاسْتَحَقُّوا وَصَايَاهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَيْءٌ، وَإِنْ كَانَ مَعَهُ غَيْرُهُ مِمَّنْ أَوْصَى لَهُ فِيهَا بِشَيْءٍ يَسِيرٍ أَيْضًا، ثَبَتَتْ الْوَصِيَّةُ بِشَهَادَتِهِمَا لِمَنْ سِوَاهُمَا، وَأَخَذُوا وَصَايَاهُمْ بِغَيْرِ يَمِينٍ، وَحَلَفَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَعَ شَهَادَةِ صَاحِبِهِ فَاسْتَحَقَّ وَصِيَّتَهُ، وَإِنْ كَانَ مَعَهُ مَنْ لَمْ يُوصِ لَهُ فِيهَا بِشَيْءٍ، ثَبَتَتْ الْوَصِيَّةُ بِشَهَادَتِهِمَا لِمَنْ سِوَاهُ، وَحَلَفَ مَعَ شَهَادَةِ صَاحِبِهِ فَاسْتَحَقَّ وَصِيَّتَهُ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ الْمَاجِشُونِ فِي الْوَاضِحَةِ.
وَالرَّابِعُ: أَنَّ شَهَادَتَهُ تَجُوزُ لَهُ وَلِغَيْرِهِ إنْ كَانَ مَعَهُ شَاهِدٌ غَيْرُهُ، فَتَثْبُتُ الْوَصِيَّةُ بِشَهَادَتِهِمَا، وَيَأْخُذُ مَا لَهُ فِيهَا بِغَيْرِ يَمِينٍ، وَكَذَلِكَ صَاحِبُهُ أَيْضًا إنْ كَانَ لَهُ فِيهَا شَيْءٌ، وَيَأْخُذُ مَا لَهُ فِيهَا بِغَيْرِ يَمِينٍ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ شَاهِدٌ غَيْرَهُ فَإِنَّهَا تَجُوزُ لِغَيْرِهِ، وَلَا تَجُوزُ لِنَفْسِهِ وَيَحْلِفُ غَيْرُهُ مَعَ شَهَادَتِهِ، وَيَسْتَحِقُّ وَصِيَّتَهُ وَلَا يَكُونُ لَهُ هُوَ شَيْءٌ، وَهُوَ قَوْلُ يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ فِي الْمُدَوَّنَةِ وَإِنْ كَانَ الَّذِي أَوْصَى بِهِ لِلشَّاهِدِ كَثِيرًا فَلَا تَجُوزُ شَهَادَتُهُ لَهُ وَلَا لِغَيْرِهِ فِي الْمَشْهُورِ مِنْ الْأَقْوَالِ، وَقِيلَ تَجُوزُ شَهَادَتُهُ لِغَيْرِهِ، وَلَا تَجُوزُ لِنَفْسِهِ عَلَى قِيَاسِ أَصْبَغَ فِي نَوَازِلِهِ مِنْ كِتَابِ الشَّهَادَاتِ، فِي الْعَبْدَيْنِ يَشْهَدَانِ بَعْدَ عِتْقِهِمَا، أَنَّ الَّذِي أَعْتَقَهُمَا غَصَبَهُمَا مِنْ رَجُلٍ مَعَ مِائَةِ دِينَارٍ، أَنَّ شَهَادَتَهُمَا تَجُوزُ فِي الْمِائَةِ دِينَارٍ، وَلَا تَجُوزُ فِي غَصْبِ رِقَابِهِمَا؛ لِأَنَّهُمَا يُتَّهَمَانِ أَنْ يُرِيدَا إرْقَاقَ أَنْفُسِهِمَا، وَلَا يَجُوزُ لِحُرٍّ أَنْ يُرِقَّ نَفْسَهُ. وَيَقُومُ مِنْ قَوْلِهِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ الشَّهَادَةَ إذَا رُدَّ بَعْضُهَا لِتُهْمَةٍ جَازَ مِنْهَا مَا لَا تُهْمَةَ فِيهِ، وَهُوَ خِلَافُ الْمَشْهُورِ الْمَعْلُومِ.
وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي: وَهُوَ أَنْ يُشْهِدَ الْمُوصِي عَلَى وَصِيَّتِهِ لَفْظًا بِغَيْرِ كِتَابٍ، فَيَقُولَ لِفُلَانٍ كَذَا وَلِفُلَانٍ كَذَا وَلِفُلَانٍ كَذَا، لِأَحَدِ الشُّهُودِ، فَلَا يَخْلُو أَيْضًا مِنْ أَنْ يَكُونَ الَّذِي أَوْصَى بِهِ لِأَحَدِ الشُّهُودِ كَثِيرًا أَوْ يَسِيرًا، فَإِنْ كَانَ كَثِيرًا، فَلَا تَجُوزُ شَهَادَتُهُ لِنَفْسِهِ بِاتِّفَاقٍ وَتَجُوزُ لِغَيْرِهِ، فَإِنْ كَانَ وَحْدَهُ حَلَفَ الْمُوصَى لَهُمْ مَعَ شَهَادَتِهِ، وَاسْتَحَقُّوا وَصَايَاهُمْ، وَإِنْ كَانَ مَعَهُ غَيْرُهُ مِمَّنْ يَشْهَدُ لِنَفْسِهِ، يَسِيرًا أَيْضًا حَلَفَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَعَ شَهَادَةِ صَاحِبِهِ، وَاسْتَحَقَّ وَصِيَّتَهُ وَأَخَذَ مَنْ سِوَاهُمَا وَصَايَاهُمْ بِشَهَادَتِهِمَا دُونَ يَمِينٍ، وَإِنْ كَانَ مَعَهُ غَيْرُهُ مِمَّنْ لَمْ يَشْهَدْ لِنَفْسِهِ بِشَيْءٍ حَلَفَ هُوَ مَعَهُ، وَاسْتَحَقَّ وَصِيَّتَهُ وَأَخَذَ مَنْ سِوَاهُ وَصِيَّتَهُ بِشَهَادَتِهِمَا دُونَ يَمِينٍ، وَقَدْ يُقَالُ: إنَّهُ لَا تَجُوزُ شَهَادَتُهُ لِنَفْسِهِ بِاتِّفَاقٍ، وَتَجُوزُ لِغَيْرِهِ عَلَى قَوْلِ مُطَّرِفٍ وَابْنِ الْمَاجِشُونِ، وَلَا تَجُوزُ عَلَى مَا فِي سَمَاعِ أَشْهَبَ مِنْ كِتَابِ الشَّهَادَاتِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ غَيْرُهُ عَلَى مَذْهَبِ ابْنِ الْمَاجِشُونِ وَمُطَّرِفٍ حَلَفَ الْمُوصَى لَهُمْ وَاسْتَحَقُّوا وَصَايَاهُمْ بِأَيْمَانِهِمْ مَعَ شَهَادَتِهِ، وَإِنْ كَانَ مَعَهُ غَيْرُهُ مِمَّنْ يَشْهَدُ لِنَفْسِهِ، حَلَفَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَعَ شَهَادَةِ صَاحِبِهِ فَاسْتَحَقَّ وَصِيَّتَهُ، إنْ لَمْ تَكُنْ شَهَادَةُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِصَاحِبِهِ فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ عَلَى مَذْهَبِهِمَا فِي الشُّهُودِ، يَشْهَدُ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ أَنَّ شَهَادَتَهُمْ لَا تَجُوزُ إنْ كَانَتْ عَلَى رَجُلٍ وَاحِدٍ فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ، وَأَخَذَ مَنْ سِوَاهُمَا وَصِيَّتَهُ بِشَهَادَتِهِمَا دُونَ يَمِينٍ، وَلَمْ يُنْقَلْ فِي النُّسْخَةِ الَّتِي نَقَلْت مِنْهَا حُكْمُ الْيَسِيرِ، فَانْظُرْهُ فِي بَابِ الشَّهَادَاتِ مِنْهَا.
مَسْأَلَةٌ:
قَالَ سَحْنُونٌ: فِي الْمُتَكَارِيَيْنِ السَّفِينَةَ، وَقَدْ نَقَدُوا الْكِرَاءَ فَعَطِبَتْ قَبْلَ الْبَلَاغِ، وَأَنْكَرَ قَبْضَ الْكِرَاءِ، قَالَ شَهَادَةُ بَعْضِهِمْ جَائِزَةٌ وَيَرْجِعُونَ عَلَيْهِ، ثُمَّ رَجَعَ فَقَالَ لَا تَجُوزُ إذْ لَيْسَتْ بِمَوْضِعِ ضَرُورَةٍ، وَقَدْ كَانُوا يَجِدُونَ مَنْ يَشْهَدُ سِوَاهُمْ إذَا أَرَادُوا أَنْ يَنْقُدُوهُ بِالْكِرَاءِ.
مَسْأَلَةٌ:
وَفِي الْمُقْنِعِ إنْ شَهِدَ شَاهِدَانِ عَلَى وَصِيَّتَيْنِ مُخْتَلِفَتَيْنِ، وَلَهُمَا فِي وَاحِدَةِ مِنْهُمَا شَيْءٌ إنْ كَانَ يَسِيرًا أَجَازَتْ وَإِلَّا لَمْ تَجُزْ فِيهِمَا جَمِيعًا.
مَسْأَلَةٌ:
قَالَ ابْنُ نَافِعٍ عَنْ مَالِكٍ: وَإِذَا شَهِدَ عَلَى وَصِيَّةٍ لَهُ فِيهَا شَيْءٌ وَلِغَيْرِهِ وَمُعَيَّنَيْنِ لَيْسَ لَهُ فِيهَا شَيْءٌ، فَإِنْ كَانَ مَا لِلشَّاهِدِ فِيهَا تَافِهًا لَا يُتَّهَمُ فِيهِ جَازَتْ لَهُ وَلِغَيْرِهِ، وَلَا يَمِينَ لَهُ مَعَ الشَّاهِدِ الْآخَرِ، وَإِنْ كَانَ شَيْئًا لَهُ بَالٌ لَمْ تَجُزْ لَهُ وَلَا لِغَيْرِهِ، وَقَدْ كُنْت لَا أَرَى أَنْ تَجُوزَ فِي قَلِيلٍ وَلَا كَثِيرٍ ثُمَّ رَأَيْت هَذَا.
مَسْأَلَةٌ:
قَالَ عِنْدَ ابْنِ الْقَاسِمِ فِيمَنْ أَوْصَى فِي مَرَضِهِ إلَى امْرَأَتِهِ، وَإِلَى ثَلَاثَةِ نَفَرٍ أَحَدُهُمْ غَائِبٌ، وَقَدْ أَوْصَى لَهُمْ فِيهَا بِشَيْءٍ، وَلَا يَشْهَدُ عَلَيْهَا غَيْرُهُمْ، فَيَشْهَدُ الْحَاضِرَانِ عَلَى ذَلِكَ، قَالَ إنْ كَانَ مَا أَوْصَى لَهُمَا بِهِ يَسِيرًا لَا يُتَّهَمَانِ فِيهِ جَازَتْ شَهَادَتُهُمَا، قَالَ سَحْنُونٌ لَا أَعْرِفُ هَذَا، وَلَا تَجُوزُ شَهَادَتُهُمَا بِحَالٍ؛ لِأَنَّهُمَا يُتَّهَمَانِ عَلَى مَا يَلِيَانِ لِلْيَتَامَى.
مَسْأَلَةٌ:
وَقَالَ ابْنُ الْمَوَّازِ فِي كِتَابِهِ عَنْ مَالِكٍ فِي شَاهِدَيْنِ أَوْصَى رَجُلٌ إلَيْهِمَا وَأَشْهَدَهُمَا فِي ثُلُثِهِ: إنَّ ثُلُثَ مَالَهُ ثُلُثُهُ لِلْمَسَاكِينِ وَثُلُثُهُ لِفُلَانٍ وَثُلُثُهُ لَهُمَا، قَالَ هَذَا يَسِيرٌ وَتَجُوزُ لَهُمَا وَلِغَيْرِهِمَا، وَلَوْ كَانَ شَيْئًا لَهُ بَالٌ لَمْ تَجُزْ لَهُمَا وَلَا لِغَيْرِهِمَا، وَقَدْ قِيلَ لَا تَجُوزُ أَصْلًا قَلَّ أَمْ كَثُرَ، وَبِهَذَا أَخَذَ ابْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ.
مَسْأَلَةٌ:
وَفِي الْمَجْمُوعَةِ عَنْ الْمُغِيرَةِ: فِيمَنْ افْتَرَى عَلَى جَمَاعَةٍ مِنْ النَّاسِ، هَلْ تَجُوزُ شَهَادَةُ أَحَدٍ مِنْهُمْ فِي ذَلِكَ لِمَنْ قَامَ بِهِ؟ وَكَيْفَ إنْ قَالَ الشُّهُودُ نَحْنُ لَا نَطْلُبُهُ؟ فَقَالَ إنْ كَانَ قَالَهُ لِجَمَاعَةٍ عَظِيمَةٍ، مِثْلَ أَهْلِ مِصْرَ أَوْ الشَّامِ أَوْ أَهْلِ مَكَّةَ جَازَتْ شَهَادَةُ مَنْ شَهِدَ مِنْهُمْ لِبُعْدِ الْحَمِيَّةِ وَالتَّعَصُّبِ مِنْ هَذَا، وَإِنْ قَالَهُ لِبَطْنٍ أَوْ فَخْذٍ مِثْلَ زَهْرَةَ وَمَخْزُومٍ أَوْ جِيرَانِهِ، وَجِيرَانُهُ غَيْرُ كَثِيرٍ، فَلَا تَجُوزُ شَهَادَةُ بَعْضِهِمْ فِيهِ مِمَّنْ عَنِيَ بِالْقَوْلِ لِلتُّهْمَةِ.
مَسْأَلَةٌ:
وَأَجَازَ سَحْنُونٌ شَهَادَةَ مَنْ شَهِدَ عَلَى رَجُلٍ أَنَّهُ قَطَعَ مِنْ طَرِيقِ الْعَامَّةِ، وَإِنْ كَانَ هُوَ طَرِيقُهُ الَّذِي يَمُرُّ فِيهِ إذَا لَمْ يَلِ هُوَ الْخُصُومَةَ بِذَلِكَ.
مَسْأَلَةٌ:
قَالَ عِيسَى فِي الْمُسْتَخْرَجَةِ فِيمَنْ اُحْتُضِرَ وَوَرَثَتُهُ أَخَوَاهُ شَاهِدَانِ فِي حَقٍّ لَهُ، فَقَالَ لَهُمَا: اُتْرُكَا مِنْهُ مَوْرُوثَكُمَا، أَوْ يَتْرُكُهُ أَحَدُكُمَا فَتَجُوزُ شَهَادَتُهُ، فِيهِ فَفَعَلَا أَوْ فَعَلَ، قَالَ: لَا تَجُوزُ شَهَادَتُهُ.
مَسْأَلَةٌ:
وَفِي الْمُسْتَخْرَجَةِ عَنْ أَصْبَغَ فِيمَنْ تَرِثُهُ ابْنَتُهُ وَأَخَوَاهُ، فَتَرَكَا مِيرَاثَهُمَا مِنْهُ قَبْلَ مَوْتِهِ، فَلَمَّا مَاتَ وَجَدَتْ الِابْنَةُ ذِكْرَ حَقٍّ لَهُ بِشَهَادَتِهِمَا، قَالَ هِيَ جَائِزَةٌ إذْ لَا يَجُرَّانِ إلَى أَنْفُسِهِمَا شَيْئًا.
مَسْأَلَةٌ:
وَمَنْ أَوْصَى لَهُ بِعَبْدٍ مُبْدَأٍ، وَبِوَصَايَا لِقَوْمٍ فَشَهِدَ الْمُوصَى لَهُمْ أَنَّ الْمُوصَى لَهُ بِالْعَبْدِ مَاتَ قَبْلَ الْمُوصِي، جَازَتْ شَهَادَتُهُمْ إذْ لَا نَفْعَ لَهُمْ بِهَا؛ لِأَنَّ الْوَرَثَةَ يَقُومُونَ مَقَامَ الْمُبْدَأِ، وَلَيْسَ لِلْمُوصَى لَهُمْ شَيْءٌ مِمَّا بُدِئَ بِهِ الْمَشْهُودُ لَهُ بِالْعَبْدِ.
مَسْأَلَةٌ:
وَقَالَ عِيسَى فِيمَنْ اُحْتُضِرَ، فَقَالَ مَا شَهِدَ عَلَيَّ بِهِ أَبِي مِنْ دَيْنٍ أَوْ شَيْءٍ فَهُوَ مُصَدَّقٌ إلَى مِائَةِ دِينَارٍ، وَلَمْ يُوَقِّتْ وَقْتًا ثُمَّ مَاتَ فَشَهِدَ فِيهِ الْقَوْمُ بِدُيُونٍ، وَشَهِدَ لِبَعْضِ الْوَرَثَةِ بِدَيْنٍ، فَلَا يَثْبُتُ إلَّا بِيَمِينٍ، إنْ كَانَ الشَّاهِدُ عَدْلًا كَالْقَضَاءِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَدْلًا أَوْ نَكَلَ الْمَشْهُودُ لَهُ عَنْ الْيَمِينِ، لَزِمَ الشَّاهِدَ قَدْرُ مِيرَاثِهِ مِنْ هَذَا الدَّيْنِ، وَإِنْ كَانَ سَفِيهًا لَمْ يَجُزْ إقْرَارُهُ فِي مِيرَاثِهِ، قَالَ مَالِكٌ: وَلَمْ يَحْلِفْ الطَّالِبُ.
مَسْأَلَةٌ:
قَالَ الْمُغِيرَةُ فِي الَّتِي مَاتَتْ وَلَيْسَ لَهَا وَارِثٌ إلَّا بَنَاتٌ فَشَهِدَ أَخُوهَا وَزَوْجُهَا أَنَّهَا حَنِثَتْ فِي رَقِيقٍ لَهَا فَلَا تَجُوزُ شَهَادَتُهُمَا، وَيُعْتَقُ عَلَيْهِمَا حُظُوظُهُمَا مِنْ الرَّقِيقِ، وَلَا يُقَوَّمُ عَلَيْهِمَا مَا بَقِيَ.
وَفِي الْمُقْنِعِ لِابْنِ بَطَّالٍ كَثِيرٌ مِنْ مَسَائِلِ هَذَا الْبَابِ.

.الْبَابُ الْحَادِي وَالثَّلَاثُونَ فِي الْقَضَاءِ بِالشَّهَادَاتِ الْمُخْتَلِفَةِ:

وَفِي مُخْتَصَرِ الْوَاضِحَةِ، قَالَ ابْنُ حَبِيبٍ وَكَانَ ابْنُ الْقَاسِمِ يَقُولُ فِي أَرْبَعَةِ نَفَرٍ شَهِدُوا عَلَى رَجُلٍ أَنَّهُ تَكَلَّمَ بِكَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ لَمْ يَلْفِظْ بِغَيْرِهَا، فَقَالَ الِاثْنَانِ مِنْهُمْ: نَشْهَدُ أَنَّهُ قَالَ إنَّ امْرَأَتِي طَالِقٌ، وَقَالَ الْآخَرَانِ بَلْ إنَّمَا قَالَ غُلَامِي حُرٌّ، أَوْ قَالَ الِاثْنَانِ مِنْهُمْ نَشْهَدُ أَنَّهُ قَالَ امْرَأَتِي فُلَانَةُ الْمُسْلِمَةُ طَالِقٌ، لَمْ يَلْفِظْ بِغَيْرِهَا.
وَقَالَ الْآخَرَانِ لَا بَلْ قَالَ: امْرَأَتِي النَّصْرَانِيَّةُ طَالِقٌ، أَوْ شَهِدَ الِاثْنَانِ بِطَلَاقِ الْحُرَّةِ، وَالْآخَرَانِ بِطَلَاقِ الْأَمَةِ، أَوْ قَالَ الِاثْنَانِ إنَّمَا أَعْتَقَ غُلَامَهُ مَيْمُونًا، وَقَالَ الْآخَرَانِ بَلْ مَرْزُوقًا، فَإِنَّهُ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ فِي هَذَا كُلِّهِ إذَا كَانَ مُنْكِرًا؛ لِأَنَّ الشَّهَادَةَ قَدْ اخْتَلَفَتْ، وَأَكْذَبَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، وَأَمَّا مُطَرِّفٌ وَابْنُ الْمَاجِشُونِ فَقَالَا شَهَادَةُ الْفَرِيقَيْنِ مِنْ الشُّهُودِ جَائِزَةٌ إذَا كَانُوا عُدُولًا؛ لِأَنَّ كُلًّا شَهِدَ بِغَيْرِ مَا شَهِدَ بِهِ الْفَرِيقُ الْآخَرُ، فَهَذِهِ شَهَادَةٌ وَهَذِهِ شَهَادَةٌ يُقَامَانِ عَلَيْهِ جَمِيعًا، وَهَكَذَا سَمِعْنَا مَالِكًا يَقُولُ وَجَمِيعَ أَصْحَابِنَا وَهُوَ الَّذِي عَلَيْهِ حُكْمُ حُكَّامِنَا، وَقَوْلُ عُلَمَائِنَا لَا نَعْلَمُ خِلَافَهُ، قَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ وَبِهِ نَقُولُ.
فرع:
قَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ قَالَ لِي مُطَرِّفٌ: وَلَوْ شَهِدَ هَؤُلَاءِ الْأَرْبَعَةِ عَلَيْهِ بِلَفْظَةٍ وَاحِدَةٍ فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ، فَشَهِدَ اثْنَانِ أَنَّهُ قَالَ امْرَأَتُهُ طَالِقٌ ثَلَاثًا، وَقَالَ الْآخَرَانِ بَلْ إنَّمَا قَالَ طَالِقٌ وَاحِدَةً، أُخِذَ بِقَوْلِ الَّذِينَ شَهِدُوا عَلَى الثَّلَاثِ، وَلَا يُلْتَفَتُ إلَى خِلَافِهِمْ، إذَا كَانَا عَدْلَيْنِ.
فرع:
وَكَذَلِكَ لَوْ شَهِدُوا أَنَّهُ أَقَرَّ لِرَجُلٍ بِمِائَةٍ، وَقَالَ الْآخَرُ بَلْ إنَّمَا أَقَرَّ بِخَمْسِينَ، قَضَى بِشَهَادَةِ الَّذِينَ شَهِدُوا عَلَى الْأَكْثَرِ.
وَقَالَهُ ابْنُ الْقَاسِمِ وَأَصْبَغُ.
وَقَالَ ابْنُ الْمَاجِشُونِ يُؤْخَذُ بِاَلَّذِي اجْتَمَعُوا عَلَيْهِ مِنْ عَدَدِ الطَّلَاقِ أَوْ عَدَدِ الدَّنَانِيرِ، ثُمَّ أَحَلَفَ الْمَشْهُودَ عَلَيْهِ فِيمَا زَادَ أَنَّهُ بَاطِلٌ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ شَهِدَ بِذَلِكَ شَاهِدٌ؛ لِأَنَّهُمْ قَدْ تَكَاذَبُوا فِيمَا نَافٍ عَلَى مَا اجْتَمَعُوا عَلَيْهِ، وَلَا يُشْبِهُ هَذَا الْأَوَّلَ؛ لِأَنَّ هَذَا أَمْرٌ وَاحِدٌ وَاخْتَلَفُوا فِيهِ، وَلَوْ زَعَمَ الشَّاهِدَانِ الْآخَرَانِ أَنَّهُ صَمَتَ وَلَمْ يَتَكَلَّمْ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ لَمْ يُلْتَفَتْ إلَيْهِمَا، قَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ وَقَوْلُ أَصْبَغَ وَابْنَ الْقَاسِمِ أَحَبُّ إلَيَّ وَبِهِ أَقُولُ.
مَسْأَلَةٌ:
وَقَالَ لِي مُطَرِّفٌ وَابْنُ الْمَاجِشُونِ وَأَصْبَغُ فِي شُهُودٍ شَهِدُوا أَنَّ كِتَابًا فِيهِ حُكْمٌ قُرِئَ عَلَى الْقَاضِي فَجَوَّزَهُ، أَشْهَدَ عَلَى تَجْوِيزِهِ، وَشَهِدَ أَخَّرُونِ أَنَّهُ قُرِئَ عَلَيْهِ وَلَمْ يُسْمَعْ لَهُ تَجْوِيزٌ، أَوْ قَالُوا لَمْ يُجَوِّزهُ أَصْلًا، فَإِنَّهُ يُؤْخَذُ بِقَوْلِ الَّذِينَ شَهِدُوا أَنَّ ذَلِكَ تَمَّ، وَلَا يُلْتَفَتُ إلَى قَوْلِ الْآخَرِينَ الَّذِينَ قَالُوا لَمْ يَتِمَّ أَصْلًا، أَوْ لَمْ نَسْمَعْ لَهُ إتْمَامًا كَانُوا فِي مَحْضَرٍ وَاحِدٍ أَوْ فِي غَيْرِ مَحْضَرٍ وَاحِدٍ، تَكَافَئُوا فِي الْعَدَالَةِ أَوْ لَمْ يَتَكَافَئُوا فِيهَا، بَعْدَ أَنْ يَكُونَ الَّذِينَ شَهِدُوا عَلَى التَّمَامِ عُدُولًا، وَكَذَا لَوْ كَانَ الَّذِي شَهِدُوا فِيهِ صُلْحًا أَوْ بَيْعًا، فَشَهِدَ بَعْضُهُمْ أَنَّهُ تَمَّ، وَشَهِدَ آخَرُونَ أَنَّهُ لَمْ يَتِمَّ، هُوَ عَلَى مَا فَسَّرْت لَك.
مَسْأَلَةٌ:
قَالَ مُطَرِّفٌ وَابْنُ الْمَاجِشُونِ: وَلَوْ شَهِدَ شَاهِدٌ عَلَى رَجُلٍ أَنَّهُ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ أَلْبَتَّةَ وَشَهِدَ آخَرُ أَنَّهُ طَلَّقَهَا ثَلَاثًا، مَضَتْ الشَّهَادَةُ وَلَمْ تَكُنْ مِنْ بَابِ شَهَادَةِ الْأَبْدَادِ؛ لِأَنَّهُمَا اجْتَمَعَا عَلَى التَّحْرِيمِ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ شَهِدَ شَاهِدٌ عَلَى رَجُلٍ أَنَّهُ سَكِرَ مِنْ خَمْرٍ، وَشَهِدَ آخَرُ أَنَّهُ سَكِرَ مِنْ سُكَّرٍ، تَمَّتْ الشَّهَادَةُ وَوَجَبَ الْحَدُّ؛ لِأَنَّهُمَا اجْتَمَعَا عَلَى السُّكْرِ وَفِيهِ الْحَدُّ.
وَقَالَ أَصْبَغُ مِثْلَهُ، وَكَذَا لَوْ شَهِدَ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ قَالَ: هِيَ حَرَامٌ، وَشَهِدَ آخَرُ أَنَّهُ قَالَ: هِيَ الْبَتَّةُ، أَوْ شَهِدَ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ قَالَ: هِيَ خَلِيَّةٌ، وَشَهِدَ الْآخَرُ أَنَّهُ قَالَ: هِيَ بَائِنٌ، فَشَهَادَتُهُمَا فِي هَذَا كُلِّهِ تَامَّةٌ؛ لِأَنَّ مَعْنَاهَا عَلَى الْبَتَاتِ، وَإِنْ اخْتَلَفَ اللَّفْظُ وَكَذَلِكَ قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ.
مَسْأَلَةٌ:
قَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ: وَإِذَا اخْتَلَفَ فِي الشَّهَادَةِ عَلَى الرَّائِحَةِ تُوجَدُ مِنْ الرِّجَالِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ هِيَ رَائِحَةُ مُسْكِرٍ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ لَيْسَتْ بِرَائِحَةِ مُسْكِرٍ، فَإِنَّهُ اجْتَمَعَ عَدْلَانِ عَلَى أَنَّهَا رَائِحَةُ مُسْكِرٍ أُخِذَ بِشَهَادَتِهِمَا، وَلَمْ يُلْتَفَتْ إلَى الْآخَرِينَ إنْ كَانُوا عُدُولًا.
مَسْأَلَةٌ:
وَقَالَ ابْنُ الْمَاجِشُونِ: فِي الْقَوْمِ يَشْهَدُونَ عَلَى الرَّجُلِ بِالزِّنَا، وَيَتَّفِقُونَ فِي شَهَادَتِهِمَا عَلَى الرُّؤْيَةِ، غَيْرَ أَنَّهُمْ اخْتَلَفُوا فِي الْأَيَّامِ وَالْمَوَاطِنِ أَنَّ شَهَادَتَهُمْ تَامَّةٌ؛ لِأَنَّهُمْ اخْتَلَفُوا فِيمَا لَوْ سَكَتُوا عَنْهُ كَانَتْ تَامَّةً وَلَمْ يَكُنْ عَلَى الْحَاكِمِ أَنْ يَقُولَ لَهُمْ فِي أَيِّ مَوْضِعٍ كَانَ وَلَا فِي أَيِّ يَوْمٍ، فَلِذَلِكَ لَا يَضُرُّ شَهَادَتَهُمْ اخْتِلَافُهُمْ فِيهَا، قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ وَأَصْبَغُ: أَخْبَرَنَا ابْنُ الْقَاسِمِ أَنَّ مَالِكًا كَانَ يُسْقِطُ الشَّهَادَةَ فِي الزِّنَا وَالسَّرِقَةِ، إذَا اخْتَلَفُوا فِي الْأَيَّامِ وَالْأَشْهُرِ وَالْمَوَاضِعِ، وَأَجَازَ ذَلِكَ فِي الْقَذْفِ وَالْخَمْرِ وَأَقَامَ بِهِ الْحَدَّ.
مَسْأَلَةٌ:
قَالَ مُطَرِّفٌ وَابْنُ الْمَاجِشُونِ: وَإِذَا شَهِدَ الْوَاحِدُ عَلَى رَجُلٍ أَنَّهُ أَقَرَّ لِرَجُلٍ بِمِائَةٍ، وَقَالَ الْآخَرُ لَا بَلْ بِخَمْسِينَ، وَقَدْ اجْتَمَعَا عَلَى أَنَّ ذَلِكَ كَانَ إقْرَارًا وَاحِدًا، خُيِّرَ الْمَشْهُودُ لَهُ، فَإِنْ شَاءَ أَخَذَ الْخَمْسِينَ بِغَيْرِ يَمِينٍ؛ لِأَنَّهُمَا قَدْ اجْتَمَعَا عَلَيْهِ فِي شَهَادَتِهِمَا، وَإِنْ شَاءَ حَلَفَ مَعَ الشَّاهِدِ الَّذِي شَهِدَ عَلَى الْمِائَةِ وَأَخَذَ الْمِائَةَ، وَلَوْ لَمْ يَقُولَا ذَلِكَ كَانَ إقْرَارًا وَاحِدًا، وَإِنَّمَا شَهِدَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِمَا سَمِعَ مِنْ إقْرَارِهِ عَلَى حِدَةٍ، أَوْ بِمَا أَشْهَدَهُ بِهِ عَلَى يَدِ حَاكِمٍ، وَقَالَ الطَّالِبُ هُمَا حَقَّانِ اثْنَانِ، وَقَالَ الْمَطْلُوبُ إنَّمَا هُوَ حَقٌّ دَخَلَ قَلِيلُهُ فِي كَثِيرِهِ، فَالطَّالِبُ يَحْلِفُ مَعَ كُلِّ شَاهِدٍ مِنْهُمَا وَيَأْخُذُ الْحَقَّيْنِ.
مَسْأَلَةٌ:
وَفِي الْمُقْنِعِ: وَلَوْ شَهِدَ شَاهِدٌ أَنَّهُ أَقَرَّ لِفُلَانٍ يَوْمَ عَرَفَةَ بِمَكَّةَ مِنْ سَنَةِ كَذَا بِمِائَةِ إرْدَبٍّ، وَشَهِدَ آخَرُ أَنَّهُ أَقَرَّ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ بِعَيْنِهِ بِمِصْرَ لِآخَرَ بِمِائَةِ إرْدَبٍّ مِنْ قَمْحٍ، وَشَهِدَ آخَرُ أَنَّهُ أَقَرَّ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ بِعَيْنِهِ فِي الشَّامِ بِمِائَةِ إرْدَبِّ شَعِيرٍ لِثَالِثٍ، فَإِنْ كَانُوا فِي الْعَدَالَةِ سَوَاءٌ سَقَطَتْ الشَّهَادَاتُ كُلُّهَا، وَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ وَالثَّانِي سَوَاءً، وَالْآخَرُ دُونَهُمَا سَقَطَتْ الشَّهَادَاتُ أَيْضًا؛ لِأَنَّ الْعَدْلَيْنِ يُسْقِطُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا صَاحِبَهُ، وَهُمَا جَمِيعًا يُسْقِطَانِ الَّذِي دُونَهُمَا، وَإِنْ كَانَ وَاحِدًا عَدَلَ الثَّلَاثَةَ حَلَفَ مَعَهُ الْمُدَّعِي، وَأَخَذَ ذَلِكَ دُونَ غَيْرِهِ.

.الْبَابُ الثَّانِي وَالثَّلَاثُونَ فِي الْقَضَاءِ بِشَهَادَةِ السَّمَاعِ:

قَالَ ابْنُ رُشْدٍ: شَهَادَةُ السَّمَاعِ لَهَا ثَلَاثُ مَرَاتِبَ.
الْمَرْتَبَةُ الْأُولَى: تُفِيدُ الْعِلْمَ وَهِيَ الْمُعَبَّرُ عَنْهَا بِالتَّوَاتُرِ، كَالسَّمَاعِ بِأَنَّ مَكَّةَ مَوْجُودَةٌ وَمِصْرَ وَنَحْوِ ذَلِكَ، فَهَذِهِ إذَا حَصَلَتْ كَانَتْ بِمَنْزِلَةِ الشَّهَادَةِ بِالرُّؤْيَةِ وَغَيْرِهَا مِمَّا يُفِيدُ الْعِلْمَ.
الْمَرْتَبَةُ الثَّانِيَةُ: شَهَادَةُ الِاسْتِفَاضَةِ: وَهِيَ تُفِيدُ ظَنَّا قَوِيًّا، يَقْرُبُ مِنْ الْقَطْعِ وَيَرْتَفِعُ عَنْ شَهَادَةِ السَّمَاعِ، مِثْلَ أَنْ يَشْهَدَ أَنَّ نَافِعًا مَوْلَى ابْنِ عُمَرَ، وَأَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ الْقَاسِمِ مِنْ أَوْثَقِ مَنْ أَخَذَ عَنْ الْإِمَامِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَيَجُوزُ الِاسْتِنَادُ إلَيْهَا.
وَمِنْهَا إذَا رُئِيَ الْهِلَالُ رُؤْيَةً مُسْتَفِيضَةً، وَرَآهُ الْجَمُّ الْغَفِيرُ مِنْ أَهْلِ الْبَلَدِ وَشَاعَ أَمْرُهُ فِيهِمْ، لَزِمَ الصَّوْمُ أَوْ الْفِطْرُ مَنْ رَآهُ وَمَنْ لَمْ يَرَهُ، وَحُكْمُهُ حُكْمُ الْخَبَرِ الْمُسْتَفِيضِ، لَا يَحْتَاجُ فِيهِ إلَى شَهَادَةٍ عِنْدَ الْحَاكِمِ وَلَا تَعْدِيلٍ، قَالَهُ الطُّرْطُوشِيُّ فِي تَعْلِيقِهِ الْخِلَافَ.
وَمِنْهَا اسْتِفَاضَةُ التَّعْدِيلِ وَالتَّجْرِيحِ وَمَا يَسْتَفِيضُ عِنْدَ الْحَاكِمِ مِنْ ذَلِكَ، قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ مِنْ النَّاسِ مَنْ لَا يَحْتَاجُ أَنْ يَسْأَلَ عَنْهُ الْحَاكِمُ لِاشْتِهَارِ عَدَالَتِهِ. وَمِنْهُمْ: مَنْ لَا يَسْأَلُ عَنْهُ لِاشْتِهَارِ جُرْحَتِهِ، وَإِنَّمَا يَكْشِفُ عَمَّنْ أَشْكَلَ، وَقَدْ شَهِدَ ابْنُ أَبِي حَازِمٍ عِنْدَ قَاضِي الْمَدِينَةِ أَوْ عَامِلِهَا، فَقَالَ: أَمَّا الِاسْمُ فَاسْمُ عَدْلٍ، وَلَكِنْ مَنْ يَعْرِفُ أَنَّك ابْنَ أَبِي حَازِمٍ؟ فَدَلَّ هَذَا عَلَى أَنَّ عَدَالَةَ ابْنِ أَبِي حَازِمٍ لَا تَجْتَرِحُ أَنْ يُسْأَلَ عَنْهَا، وَهُوَ لَا يَعْرِفُ شَخْصَهُ لِشُهْرَتِهِ بِالْعَدَالَةِ، بَلْ سَأَلَ أَنْ يَشْهَدَ عِنْدَهُ عَلَى عَيْنِ ابْنِ أَبِي حَازِمٍ أَنَّهُ هُوَ.
وَمِنْ الْقَسَامَةِ بِالسَّمَاعِ بِالِاسْتِفَاضَةِ قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: مِثْلَ أَنْ يَعْدُو رَجُلٌ عَلَى رَجُلٍ فِي سُوقٍ مِثْلِ سُوقِ الْأَحَدِ وَمَا أَشْبَهَهُ مِنْ كَثْرَةِ النَّاسِ، فَيَقْطَعُ كُلُّ وَاحِدٍ مِمَّنْ حَضَرَ عَلَيْهِ بِالشَّهَادَةِ، فَرَأَى مَنْ أَرْضَى مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّ ذَلِكَ إذَا كَثُرَ هَكَذَا وَتَظَاهَرَ بِمَنْزِلَةِ اللَّوْثِ، تَكُونُ فِيهِ الْقَسَامَةُ. مِنْ مَعِينِ الْحُكَّامِ.
وَمِنْهَا: قَالَ أَبُو الْوَلِيدِ الْبَاجِيُّ: وَإِذَا بَلَغَ مِنْ شُهْرَةِ الْمُحَارِبِ بِاسْمِهِ مَا أَكَّدَ تَوَاتُرَهُ بِاسْمِهِ، فَأَتَى مَنْ يَشْهَدُ أَنَّ فُلَانًا هَذَا، وَقَالُوا: لَمْ نُشَاهِدُ قَطْعَهُ الطَّرِيقَ إلَّا أَنَّا نَعْرِفُهُ بِعَيْنِهِ، وَقَدْ اسْتَفَاضَ عِنْدَنَا وَاشْتَهَرَ قَطْعُهُ لِلطَّرِيقِ، وَمَا شُهِرَ بِهِ مِنْ الْقَتْلِ وَأَخْذِ الْمَالِ وَالْفَسَادِ، فَإِنَّ لِلْإِمَامِ أَنْ يَقْتُلَهُ بِهَذِهِ الشَّهَادَةِ، وَهَذَا أَكْثَرُ مِنْ شَاهِدَيْنِ عَلَى الْعِيَانِ.
فرع:
وَإِذَا كَانَ الَّذِينَ قَطَعَ عَلَيْهِمْ الطَّرِيقَ غَيْرَ عُدُولٍ، أَوْ كَانُوا عَبِيدًا أَوْ نَصَارَى، لَمْ تَجُزْ شَهَادَتُهُمْ عَلَى اللُّصُوصِ، وَلَكِنْ إذَا اسْتَفَاضَ ذَلِكَ مِنْ الذِّكْرِ وَكَثْرَةِ الْقَوْلِ، أَدَّبَهُمْ الْإِمَامُ وَنَفَاهُمْ. مِنْ الْمُنْتَقَى.
الْمَرْتَبَةُ الثَّالِثَةُ: شَهَادَةُ السَّمَاعِ: وَهِيَ الَّتِي يَقْصِدُ الْفُقَهَاءُ الْكَلَامَ عَلَيْهَا، وَيَتَعَلَّقُ النَّظَرُ بِصِفَتِهَا وَشُرُوطِهَا وَمَحَلِّهَا.
فَأَمَّا صِفَتُهَا فَأَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا سَمَاعًا فَاشِيًّا مِنْ أَهْلِ الْعَدْلِ وَغَيْرِهِمْ.
وَقَالَ مُحَمَّدٌ يَقُولُونَ: إنَّا لَمْ نَزَلْ نَسْمَعُ مِنْ الثِّقَاتِ.
وَقَالَ مُطَرِّفٌ وَابْنُ الْمَاجِشُونِ يَقُولُونَ سَمَاعًا فَاشِيًّا مِنْ أَهْلِ الْعَدْلِ، وَهَذِهِ الشَّهَادَةُ تُفِيدُ ظَنًّا دُونَ شَهَادَةِ الِاسْتِفَاضَةِ، وَأُجِيزَتْ لِلضَّرُورَةِ.
وَفِي مُفِيدِ الْحُكَّامِ: وَتَفْسِيرُ شَهَادَةِ السَّمَاعِ: أَنْ يَشْهَدَ شَاهِدَانِ أَوْ أَرْبَعَةٌ عَلَى الِاخْتِلَافِ فِي ذَلِكَ، أَنَّهُمْ لَمْ يَزَالُوا يَسْمَعُونَ أَنَّ هَذِهِ الدَّارَ صَدَقَةٌ عَلَى بَنِي فُلَانٍ، أَوْ أَنَّ فُلَانًا مَوْلَى فُلَانٍ، قَدْ تَوَاطَئُوا عَلَى ذَلِكَ عِنْدَهُمْ، وَكَثُرَ سَمَاعُهُمْ لَهُ وَفَشَا حَتَّى لَا يَدْرُونَ وَلَا يَحْفَظُونَ مِمَّنْ سَمِعُوهُ، مِنْ كَثْرَةِ مَا سَمِعُوا بِهِ مِنْ النَّاسِ مِنْ أَهْلِ الْعَدْلِ وَغَيْرِهِمْ، وَلَا يَكُونُ السَّمَاعُ بِأَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا مِنْ أَقْوَامٍ بِأَعْيَانِهِمْ يُسَمُّونَهُمْ أَوْ يَعْرِفُونَهُمْ، إذْ لَيْسَتْ حِينَئِذٍ شَهَادَةُ سَمَاعٍ، بَلْ هِيَ شَهَادَةٌ عَلَى شَهَادَةٍ، فَتَخْرُجُ عَنْ حَدِّ شَهَادَةِ السَّمَاعِ.
وَأَمَّا شُرُوطُهَا فَسَبْعَةٌ:
الْأَوَّلُ: أَنَّهُ لَا يُسْتَخْرَجُ بِهَا مِنْ يَدِ حَائِزٍ، وَإِنَّمَا يُشْهَدُ بِهَا لِمَنْ كَانَ الشَّيْءُ بِيَدِهِ فَتُصَحَّحُ حِيَازَتُهُ. قَالَ ابْنُ الْمَوَّازِ: مِثْلَ أَنْ يَكُونَ رَجُلٌ حَائِزٌ دَارًا، فَيُثْبِتُ رَجُلٌ أَنَّهَا لِأَبِيهِ أَوْ لِجَدِّهِ، وَهَذَا الرَّجُلُ الْمُدَّعِي كَانَ غَائِبًا، فَيُقِيمُ الْحَائِزُ بَيِّنَةً بِالسَّمَاعِ فِي تَطَاوُلِ الزَّمَانِ أَنَّهُ اشْتَرَاهَا مِنْ أَبِي هَذَا الْقَائِمِ أَوْ مِنْ جَدِّهِ أَوْ مِمَّنْ صَارَتْ إلَيْهِ مِنْهُ، فَيُحْكَمُ لَهُ بِبَقَائِهَا فِي يَدِهِ بِهَذِهِ الشَّهَادَةِ، وَحَكَى ابْنُ حَبِيبٍ عَنْ مُطَرِّفٍ وَابْنِ الْمَاجِشُونِ وَابْنِ الْقَاسِمِ، وَأَصْبَغَ مَا يَقْتَضِي أَنَّهُ يُسْتَخْرَجُ بِهَا مِنْ يَدِ الْحَائِزِ.
فرع:
وَاشْتَرَطَ فِي الْمُدَوَّنَةِ فِي قَبُولِ شَهَادَةِ السَّمَاعِ لِتَقْرِيرِ الدَّارِ فِي يَدِ الْحَائِزِ أَنْ تَقُولَ الشُّهُودُ سَمِعْنَا أَنَّهُ اشْتَرَاهَا هُوَ أَوْ أَبُوهُ أَوْ جَدُّهُ مِنْ هَذَا الْقَائِمِ فِيهَا، أَوْ مِنْ أَبِيهِ أَوْ مِنْ جَدِّهِ، وَلَوْ قَالُوا: سَمِعْنَا أَنَّهُ اشْتَرَاهَا وَلَا نَدْرِي مِمَّنْ لَمْ تَنْفَعْ الشَّهَادَةُ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ اشْتَرَاهَا مِنْ غَاصِبٍ.
فرع:
وَكَذَلِكَ السَّمَاعُ فِي الْأَحْبَاسِ، إذَا شَهِدَتْ بَيِّنَةٌ بِالسَّمَاعِ أَنَّهُ حَبَسَ عَلَى الْحَائِزِينَ لَهُ وَهُوَ تَحْتَ أَيْدِيهمْ، أَوْ يَكُونُ لَا يَدَ لِأَحَدٍ عَلَيْهِ، فَتَشْهَدُ بَيِّنَةٌ بِالسَّمَاعِ أَنَّهُ حَبَسَ عَلَى بَنِي فُلَانٍ، أَوْ لِلَّهِ تَعَالَى مَا بَقِيَتْ الدُّنْيَا، فَهَذَا الَّذِي تَصِحُّ فِيهِ شَهَادَةُ السَّمَاعِ إذَا تَطَاوَلَ الزَّمَانُ.
الثَّانِي الزَّمَانُ: قَالَ مَالِكٌ لَا تَجُوزُ شَهَادَةُ السَّمَاعِ فِي مِلْكِ الدَّارِ خَمْسَ سِنِينَ. قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: وَإِنَّمَا تَجُوزُ فِيمَا أَتَتْ عَلَيْهِ أَرْبَعُونَ أَوْ خَمْسُونَ سَنَةً، حَكَاهُ ابْنُ هِشَامٍ فِي مُفِيدِ الْحُكَّامِ، وَلَمْ يَرَ خَمْسَةَ عَشَرَ فِي كِتَابِ مُحَمَّدٍ طُولًا، وَعَدَّهَا طُولًا فِي كِتَابِ ابْنِ حَبِيبٍ. قَالَ ابْنُ الْهِنْدِيِّ وَرُوِيَ أَنَّهَا تَجُوزُ فِي الْعِشْرِينَ؛ لِأَنَّ الشُّهُودَ تَبِيدُ فِي ذَلِكَ لِقَصْرِ الْأَعْمَارِ. وَقِيلَ إنْ كَانَ وَبَاءٌ فَهِيَ طُولٌ وَإِلَّا فَلَا، يُغْنِي الْخَمْسَةَ عَشَرَ؛ لِأَنَّ فِي الْوَبَاءِ تَمُوتُ الشُّهُودُ فَتُفِيدُ حِينَئِذٍ شَهَادَةُ السَّمَاعِ.
الشَّرْطُ الثَّالِثُ: السَّلَامَةُ مِنْ الرَّيْبِ، فَإِنْ شَهِدَ اثْنَانِ بِالسَّمَاعِ، وَفِي الْقَبِيلَةِ مِائَةٌ مِنْ أَسْنَانِهِمَا لَا يَعْرِفُونَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ، لَمْ تُقْبَلْ شَهَادَتُهُمَا إلَّا أَنْ يَكُونَ عِلْمُ ذَلِكَ فَاشِيًا فِيهِمْ، قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: فَإِنْ شَهِدَ بِذَلِكَ شَيْخَانِ كَبِيرَانِ قَدْ بَادَ جِيلُهُمَا قُبِلَتْ شَهَادَتُهُمَا، وَإِنْ لَمْ يَشْهَدْ بِذَلِكَ غَيْرُهُمَا، قَالَ ابْنُ الْهِنْدِيِّ: إذَا كَانَا عَدْلَيْنِ.
وَفِي تَنْبِيهِ الْحُكَّامِ: وَمِثْلُ ذَلِكَ لَوْ كَانَا طَارِئَيْنِ فَشَهِدَا بِاسْتِفَاضَةِ مَوْتٍ أَوْ نَحْوِهِ بِبَلَدِهِمَا، وَلَيْسَ مَعَهُمَا مِنْ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ غَيْرُهُمَا فَشَهَادَتُهُمَا جَائِزَةٌ.
الشَّرْطُ الرَّابِعُ: أَنْ يَحْلِفَ الْمَشْهُودُ لَهُ، قَالَ ابْنُ مُحْرِزٍ: وَلَا يُقْضَى لِأَحَدٍ بِشَهَادَةِ السَّمَاعِ إلَّا بَعْدَ يَمِينِهِ، لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ أَصْلُ السَّمَاعِ مِنْ شَاهِدٍ وَاحِدٍ، وَالشَّاهِدُ الْوَاحِدُ لابد مَعَهُ مِنْ الْيَمِينِ.
الشَّرْطُ الْخَامِسُ: أَنْ لَا يَسْمَعُوا الْمَسْمُوعَ مِنْهُمْ، وَإِلَّا كَانَ نَقْلُ شَهَادَةٍ فَلَا تُقْبَلُ إذَا كَانَ الْمَنْقُولُ عَنْهُمْ غَيْرَ عُدُولٍ.
وَقَالَ بَعْضُ الشُّيُوخِ شَهَادَةُ السَّمَاعِ إذَا كَانَ يُنْتَزَعُ بِهَا فَلَا تَجُوزُ إلَّا عَلَى السَّمَاعِ مِنْ الْعُدُولِ، وَإِنْ كَانَتْ لِيُقِرَّ بِهَا فِي يَدِ الْحَائِزِ فَهَذِهِ مُخْتَلَفٌ فِي اشْتِرَاطِ الْعَدَالَةِ فِيهَا.
تنبيه:
قَالَ ابْنُ الْهِنْدِيِّ: إنْ سَقَطَ مِنْ أَهْلِ الشَّهَادَةِ فَلَيْسَتْ شَهَادَتُهُ تَامَّةً، وَزَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّهُمْ إذَا قَالُوا فِي شَهَادَتِهِمْ مِنْ أَهْلِ الْعَدْلِ أَنَّهَا لَيْسَتْ شَهَادَةً عَلَى السَّمَاعِ، وَإِنَّمَا هِيَ شَهَادَةٌ عَلَى شَهَادَةٍ، فلابد لَهُمْ مِنْ تَسْمِيَةِ الْعُدُولِ الَّذِينَ شَهِدُوا عَلَى شَهَادَتِهِمْ، وَيَرَى الْقَائِلُ بِذَلِكَ أَنَّ شَهَادَةَ السَّمَاعِ تَنْعَقِدُ بِقَوْلِهِمْ: لَمْ يَزَالُوا يَسْمَعُونَ سَمَاعًا فَاشِيًا، وَسَقَطَ مِنْ الشَّهَادَةِ مِنْ أَهْلِ الْعَدْلِ وَمِنْ الدَّلِيلِ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ كَمَا قَالَ: أَنَّ الشَّهَادَةَ بِالسَّمَاعِ الْفَاشِي إذَا سَقَطَ مِنْهَا أَهْلُ الْعَدْلِ، فَلَا تَعْمَلُ الشَّهَادَةُ وَلَا تُفِيدُ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يُسْمَعُ ذَلِكَ مِنْ اللَّفِيفِ وَغَيْرِ الْعُدُولِ، وَلَا تُقْبَلُ الشَّهَادَةُ وَلَا تَعْمَلُ شَيْئًا، فَالشَّهَادَةُ فِي السَّمَاعِ لَا تَكْمُلُ إلَّا بِأَنْ يَضْمَنَ فِيهَا أَهْلُ الْعَدْلِ وَغَيْرُهُمْ، وَلَا تَكُونُ الشَّهَادَةُ بِذَلِكَ شَهَادَةً عَلَى قَوْمٍ مُسَمِّينَ بِأَعْيَانِهِمْ، كَمَا ظَهَرَ لِلْقَائِلِ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَنْسَى السَّامِعُونَ الْعُدُولُ الَّذِينَ سَمِعُوا ذَلِكَ مِنْهُمْ، وَهُمْ قَدْ أَيْقَنُوا أَنَّهُمْ سَمِعُوا ذَلِكَ سَمَاعًا فَاشِيًا مُتَّصِلًا مِنْ أَهْلِ الْعَدْلِ وَغَيْرِهِمْ، وَعَلَى تَجْوِيزِ ذَلِكَ وَعَقْدِهِ فِي الْمَكَاتِبِ مَضَى النَّاسُ وَأَثْبَتَتْ السِّجِلَّاتُ وَالْأَحْكَامُ وَلَمْ يَأْتِ آخِرُ هَذِهِ الْأُمَّةِ بِأَفْضَلَ مِمَّا جَاءَ بِهِ أَوَّلُهَا.
الشَّرْطُ السَّادِسُ: أَنْ يَشْهَدَ بِذَلِكَ اثْنَانِ فَصَاعِدًا، وَيُكْتَفَى بِهِمَا عَلَى الْمَشْهُورِ، وَقَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ وَابْنُ الْمَاجِشُونِ أَرْبَعَةٌ.
الشَّرْطُ السَّابِعُ: أَنْ يَكُونَ السَّمَاعُ فَاشِيًا مِنْ الثِّقَاتِ. قَالَ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ: أَمَّا كَوْنُهُ فَاشِيًا فَمُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَأَمَّا كَوْنُهُ مِنْ الثِّقَاتِ فَمِنْهُمْ مَنْ شَرَطَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ يَشْتَرِطْهُ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ أَنْ يَحْصُلَ لِلشَّاهِدِ عِلْمٌ أَوْ ظَنٌّ يُقَارِبُهُ، وَرُبَّمَا كَانَ خَبَرُ الْعَدْلِ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ مُفِيدًا، لِمَا يُفِيدُهُ خَبَرُ الْعَدْلِ لِقَرَائِنَ تَحْتَفُّ بِهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ رَأَى أَنَّهُ لابد مِنْ السَّمَاعِ مِنْ غَيْرِ الْعَدْلِ وَمِنْ الْعَدْلِ، وَأَنَّ كَوْنَ السَّمَاعِ مَقْصُورًا عَلَى أَهْلِ الْعَدْلِ يُخْرِجُهُ إلَى نَقْلِ الشَّهَادَةِ عَنْ الْمُعَيَّنِينَ، وَذَلِكَ بَابٌ آخَرُ.
وَأَمَّا مَحَلُّ شَهَادَةِ السَّمَاعِ، فَقَدْ ذَكَرَ الْقَاضِي أَبُو الْوَلِيدِ بْنُ رُشْدٍ مِنْ الْمَوَاطِنِ الَّتِي يُشْهَدُ فِيهَا بِالسَّمَاعِ أَحَدًا وَعِشْرِينَ مَوْطِنًا، وَقَدْ نَظَمْتهَا فِي هَذِهِ الْأَبْيَاتِ:
أَيَا سَائِلِي عَمَّا يَنْفُذُ حُكْمُهُ ** وَيُثْبِتُ سَمْعًا دُونَ عِلْمٍ بِأَصْلِهِ

فَفِي الْعَزْلِ وَالتَّجْرِيحِ وَالْكُفْرِ بَعْدَهُ ** وَفِي سَفَهٍ أَوْ ضِدَّ ذَلِكَ كُلِّهِ

وَفِي الْبَيْعِ وَالْأَحْبَاسِ وَالصَّدَقَاتِ مَعَ ** رَضَاعٍ وَخُلْعٍ وَنِكَاحٍ وَحَلِّهِ

وَفِي قِسْمَةٍ أَوْ نِسْبَةٍ وَوِلَادَةٍ ** وَمَوْتٍ وَحَمْلٍ وَالْمُضِرِّ بِأَهْلِهِ

فَقَدْ كَمُلَتْ عِشْرِينَ مِنْ بَعْدِ وَاحِدٍ ** تَدُلُّ عَلَى حِفْظِ الْفَقِيهِ وَنُبْلِهِ

وَزَادَ عَلَيْهِ وَلَدُهُ سِتَّةً نَظَمَهَا أَيْضًا فِي هَذِهِ الْأَبْيَاتِ:
وَمِنْهَا هِبَاتٌ وَالْوَصِيَّةُ فَاعْلَمْنَ ** وَمِلْكٌ قَدِيمٌ قَدْ يُظَنُّ بِمِثْلِهِ

وَمِنْهَا وِلَادَاتٌ وَمِنْهَا حِرَابَةٌ ** وَمِنْهَا إبَاقٌ فَلْيُضَمَّ لِشَكْلِهِ

أَبِي نَظَمَ الْعِشْرِينَ مِنْ بَعْدِ وَاحِدٍ ** وَأَتْبَعْتهَا سِتًّا تَمَامًا لِفِعْلِهِ

قَالَ ابْنُ رَاشِدٍ قَوْلُهُ فِي النَّظْمِ أَوْ ضِدَّ ذَلِكَ كُلِّهِ، يَعْنِي الْوِلَايَةَ وَالتَّعْدِيلَ وَالْإِسْلَامَ وَالرُّشْدَ، وَقَوْلُهُ: وَالْوَصِيَّةُ يُرِيدُ مَا حَكَاهُ أَبُو عُمَرَ فِي الْكَافِي إذَا شَهِدُوا أَنَّهُمْ لَمْ يَزَالُوا يَسْمَعُونَ أَنَّ فُلَانًا كَانَ فِي وِلَايَةِ فُلَانٍ، وَأَنَّهُ كَانَ يَتَوَلَّى النَّظَرَ لَهُ وَالْإِنْفَاقَ عَلَيْهِ بِإِيصَاءِ أَبِيهِ بِهِ إلَيْهِ، أَوْ بِتَقْدِيمِ قَاضٍ عَلَيْهِ، وَإِنْ لَمْ يُشْهِدْهُمْ أَبُوهُ بِالْإِيصَاءِ وَلَا الْقَاضِي بِالتَّقْدِيمِ، وَلَكِنَّهُ عَلِمَ ذَلِكَ بِالِاسْتِفَاضَةِ مِنْ أَهْلِ الْعَدْلِ وَغَيْرِهِمْ، فَإِنَّ ذَلِكَ جَائِزٌ، وَتَصِحُّ الْوَصِيَّةُ إذَا شَهِدَ بِذَلِكَ شَاهِدَانِ، وَفِيهَا بَيْنَ أَصْحَابِ مَالِكٍ اخْتِلَافٌ.
قَالَ ابْنُ رَاشِدٍ: وَسُئِلَ ابْنُ زَرْبٍ عَنْ وَصِيٍّ قَامَتْ لَهُ بَيِّنَةٌ بَعْدَ ثَلَاثِينَ سَنَةً، بِالسَّمَاعِ عَلَى تَنْفِيذِ وَصِيَّةٍ أُسْنِدَتْ إلَيْهِ، فَقَالَ شَهَادَتُهُمْ جَائِزَةٌ.
وَفِي الْمُتَيْطِيَّةِ: عَنْ ابْنِ عَتَّابٍ: شَهَادَةُ السَّمَاعِ جَائِزَةٌ فِي خُطُوطِ الشُّهُودِ الْأَمْوَاتِ، مِثْلَ أَنْ يَقُولَ سَمِعْتُ مِنْ أَهْلِ الْعَدْلِ: أَنَّ هَذِهِ الشَّهَادَةَ شَهَادَةُ فُلَانٍ بِخَطِّ يَدِهِ. قَالَ الْمُتَيْطِيُّ عَنْ ابْنِ عَتَّابٍ وَتَجُوزُ فِي جَائِحَةِ الْأَحْبَاسِ.
قَالَ ابْنُ الطَّلَّاعِ: وَكَذَلِكَ الثِّقَةُ وَخَالَفَهُ فِي ذَلِكَ ابْنُ سَهْلٍ. قَالَ الْقَرَافِيُّ فِي الْفَرْقِ السَّادِسِ وَالْعِشْرِينَ وَالْمِائَتَيْنِ، وَزَادَ بَعْضُهُمْ الْبُنُوَّةَ وَالْأُخُوَّةَ، وَزَادَ الْعَبْدِيُّ الْحُرِّيَّةَ وَالْقَسَامَةَ، وَصُورَتُهَا مَا تَقَدَّمَ فِي أَوَّلِ هَذَا الْبَابِ فِي الْمَرْتَبَةِ الثَّانِيَةِ، فِيمَنْ قَتَلَ قَتِيلًا فِي مِثْلِ سُوقِ الْأَحَدِ.
وَفِي الطُّرَرِ عَنْ الْمَقَالَاتِ لِابْنِ مُغِيثٍ، أَنَّ شَهَادَةَ السَّمَاعِ تَعْمَلُ فِي دَفْعِ النَّقْدِ مِنْ الصَّدَاقِ، وَنَصُّهُ: إذَا شَهِدَ لِلزَّوْجِ بِالسَّمَاعِ عَلَى أَلْسِنَةِ أَهْلِ الْعَدْلِ وَغَيْرِهِمْ أَنَّهُ تَزَوَّجَهَا بِنَقْدٍ، وَكَالِئٍ مَبْلَغُهُ كَذَا إلَى أَجَلِ كَذَا بِرِضَا وَلِيِّهَا فُلَانٍ، وَأَنَّهُ دَفَعَ إلَيْهَا النَّقْدَ، فَإِنَّ زَوْجِيَّتَهُمَا ثَابِتَةٌ، وَالْقَوْلُ قَوْلُهُ فِي دَفْعِ النَّقْدِ مَعَ يَمِينِهِ، فَقَدْ أَعْمَلَ شَهَادَةَ السَّمَاعِ فِي دَفْعِ النَّقْدِ.
وَذُكِرَ عَنْ ابْنِ مُغِيثٍ: أَنَّ شَهَادَةَ السَّمَاعِ فِي النَّقْدِ غَيْرُ عَامِلَةٍ وَهُوَ أَصَحُّ.
وَفِي مُخْتَصَرِ الْوَاضِحَةِ، أَنَّ شَهَادَةَ السَّمَاعِ جَائِزَةٌ فِي الْحِيَازَاتِ، فَهَذِهِ سَبْعَةٌ وَثَلَاثُونَ مَوْطِنًا، رَأَى الْأَصْحَابُ أَنَّهَا مَوَاطِنَ ضَرُورَةٍ تَجُوزُ فِيهَا شَهَادَةُ السَّمَاعِ، وَيَجُوزُ تَحَمُّلُ الشَّهَادَةُ فِيهَا بِالظَّنِّ الْغَالِبِ.
فُرُوعٌ الْأَوَّلُ قَوْلُهُمْ تَجُوزُ شَهَادَةُ السَّمَاعِ فِي الْعَدَالَةِ وَالْجُرْحَةِ. قَالَ الْقَرَافِيُّ: قَالَ عُلَمَاؤُنَا إنَّمَا ذَلِكَ إذْ لَمْ يُدْرِكْ زَمَانَ الْمَجْرُوحِ وَالْمُعَدَّلِ فَإِنْ أَدْرَكَ زَمَانَهُمْ فلابد أَنْ تَكُونَ الشَّهَادَةُ عَلَى الْعِلْمِ، وَمَنَعَ سَحْنُونٌ الشَّهَادَةَ عَلَى السَّمَاعِ فِيهَا. قَالَ ابْنُ سَحْنُونٍ لَا تَجُوزُ الْجُرْحَةُ عَلَى السَّمَاعِ، وَهُوَ أَنْ يَقُولَ إنَّهُ سَمِعَ فُلَانًا وَفُلَانًا يَقُولَانِ هُوَ عِنْدَنَا غَيْرُ عَدْلٍ. مِنْ مُفِيدِ الْحُكَّامِ.
الثَّانِي لابد فِي شَهَادَةِ السَّمَاعِ عَلَى الْمَوْتِ، أَنْ يَقُولَ الشُّهُودُ أَنَّهُمْ سَمِعُوا سَمَاعًا فَاشِيًا مُسْتَفِيضًا مِنْ أَهْلِ الْعَدْلِ وَغَيْرِهِمْ، أَنَّ فُلَانًا ابْنَ فُلَانٍ الْفُلَانِيِّ الَّذِي يَعْرِفُونَهُ بِعَيْنِهِ وَاسْمِهِ، تُوُفِّيَ يَوْمَ كَذَا مِنْ شَهْرِ كَذَا مِنْ شُهُورِ كَذَا فِي وَقْتِ كَذَا، وَلَا يُسْتَغْنَى عَنْ تَارِيخِ الْيَوْمِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ مِنْ جِهَةِ مَنْ يُوَارِثُهُ، لِيَعْرِفَ بِذَلِكَ مَنْ مَاتَ قَبْلَهُ وَمَنْ مَاتَ بَعْدَهُ، مِنْ وَثَائِقِ الْجَزِيرِيِّ.
الثَّالِثُ قَالَ ابْنُ الْهِنْدِيِّ وَأَمَّا شَهَادَةُ السَّمَاعِ عَلَى النَّسَبِ، فَصُورَةُ الشَّهَادَةِ فِيهَا: أَنَّهُمْ يَشْهَدُونَ أَنَّهُمْ لَمْ يَزَالُوا يَسْمَعُونَ عَلَى قَدِيمِ الْأَيَّامِ وَمُرُورِ الشُّهُورِ وَالْأَعْوَامِ، سَمَاعًا فَاشِيًا مُنْتَشِرًا مِنْ أَهْلِ الْعَدْلِ وَغَيْرِهِمْ، أَنَّ فُلَانًا بْنَ فُلَانٍ قُرَشِيٌّ، مِنْ فَخْذِ كَذَا، وَيَعْرِفُونَهُ وَأَبَاهُ مِنْ قَبْلِهِ قَدْ جَازَ هَذَا النَّسَبُ، وَبَيَّنَاهُ فِي شَهَادَتِهِمَا لَا يَعْلَمُونَ أَحَدًا يَطْعَنُ عَلَيْهِمَا فِيهِ، إلَى حِينِ تَارِيخِ إيقَاعِ هَذِهِ الشَّهَادَةِ، فَإِذَا شَهِدُوا بِذَلِكَ فَمَنْ نَفَاهُ عَنْ ذَلِكَ النَّسَبِ حُدَّ لَهُ.
وَفِي مُفِيدِ الْحُكَّامِ أَنَّ شَهَادَةَ السَّمَاعِ لَا تُفِيدُ فِي النَّسَبِ، إلَّا أَنْ يَكُونَ سَمَاعًا فَاشِيًا مُسْتَفِيضًا يَقَعُ بِهِ الْعِلْمُ، فَيَرْتَفِعُ عَنْ شَهَادَةِ السَّمَاعِ وَيَصِيرُ مِنْ بَابِ الِاسْتِفَاضَةِ وَالضَّرُورَةِ، وَهَذَا مِثْلُ الشَّهَادَةِ بِأَنَّ نَافِعًا مَوْلَى ابْنِ عُمَرَ، وَأَنَّ مَالِكًا ابْنُ أَنَسٍ، وَإِنْ لَمْ يُعَايِنْ الشَّاهِدُ بِذَلِكَ أَصْلَهُ، وَأَمَّا إنْ قَصَّرَ عَنْ هَذَا الْحَدِّ فَإِنَّمَا يَسْتَحِقُّ بِالشَّهَادَةِ الْمَالَ دُونَ الْوَلَاءِ وَالنَّسَبِ، وَذَلِكَ مَا لَمْ يَكُنْ لِلْمَالِ وَارِثٌ مُسْتَحِقٌّ.
الرَّابِعُ وَأَمَّا شَهَادَةُ السَّمَاعِ عَلَى الْوَلَاءِ، فَصِفَتُهَا أَنَّهُمْ لَمْ يَزَالُوا يَسْمَعُونَ سَمَاعًا فَاشِيًا مُسْتَفِيضًا عَلَى أَلْسِنَةِ أَهْلِ الْعَدْلِ وَغَيْرِهِمْ أَنَّ فُلَانَ ابْنَ فُلَانٍ مَوْلًى لِفُلَانِ ابْنِ فُلَانٍ بِوَلَاءِ الْعَتَاقَةِ، أَوْ أَنَّ جَدَّهُ فُلَانٌ لِأَبِيهِ، قَدْ أَعْتَقَ جَدَّ الْمَوْلَى فُلَانٍ لِأَبِيهِ، وَيَحْتَاجُ الشُّهُودُ لَهُ إذَا تُوُفِّيَ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ بِالْوَلَاءِ، أَنْ يُثْبِتَ الْمَوْتَ وَالْوِرَاثَاتِ حَتَّى يَبْلُغَ إلَى مَوْتِ الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ، إلَّا أَنْ يَكُونَ مَوْتُ الْأَوَّلِ وَمَا بَعْدَهُ قَدْ بَعُدَ فَيَسْقُطُ الْإِثْبَاتُ لِذَلِكَ، وَيَسْتَحِقُّ بِهَذِهِ فِي رِوَايَةِ ابْنِ الْقَاسِمِ الْمَالَ مَعَ يَمِينِهِ، وَلَا يَثْبُتُ الْوَلَاءُ وَيَسْتَحِقُّ فِي قَوْلِ أَشْهَبَ الْوَلَاءَ وَالْمَالَ فِي وَثَائِقِ أَبِي الْقَاسِمِ الْجَزِيرِيِّ، وَبِقَوْلِ ابْنِ الْقَاسِمِ الْقَضَاءَ.
فرع:
وَفِي تَنْبِيهِ الْحُكَّامِ، الشَّهَادَةُ عَلَى السَّمَاعِ فِي الْوَلَاءِ وَالنَّسَبِ لَا يُحْكَمُ لِلْمَشْهُودِ لَهُ بِهِ إلَّا بَعْدَ يَمِينِهِ؛ لِأَنَّهَا عِنْدَهُ لَيْسَتْ بِشَهَادَةٍ قَاطِعَةٍ، ثُمَّ لَا يَسْتَحِقُّ بَعْدَ الْيَمِينِ حُكْمَ الْوَلَاءِ وَالنَّسَبِ، وَإِنَّمَا يَسْتَحِقُّ ذَلِكَ الْمِيرَاثَ الْحَاضِرَ، وَإِنْ تَوَجَّهَ لَهُ مِيرَاثٌ آخَرُ يَسْتَحِقُّهُ، بِذَلِكَ الْوَلَاءِ وَالنَّسَبِ، كَمَا لَوْ مَاتَ مَوْلَى الْمُتَوَفَّى الْأَوَّلِ أَوْ بِنْتُهُ لَمْ يَسْتَحِقَّهُ بِالشَّهَادَةِ الْأُولَى، حَتَّى تَكُونَ الشَّهَادَةُ بِالسَّمَاعِ فِي اسْتِحْقَاقِ وَلَاءِ هَذَا الْمَيِّتِ، وَيَحْلِفُ أَيْضًا كَمَا فَعَلَ فِي الْأَوَّلِ، وَقَالَ أَشْهَبُ يَسْتَحِقُّ الْوَلَاءَ وَالنَّسَبَ بِشَهَادَةِ السَّمَاعِ دُونَ يَمِينٍ.
الْخَامِسُ وَأَمَّا شَهَادَةُ السَّمَاعِ فِي النِّكَاحِ، فَإِذَا ادَّعَى أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ النِّكَاحَ وَأَنْكَرَهُ الْآخَرُ، فَأَتَى الْمُدَّعِي بِبَيِّنَةِ سَمَاعٍ فَاشٍ مِنْ أَهْلِ الْعَدْلِ وَغَيْرِهِمْ عَلَى النِّكَاحِ، وَاشْتِهَارِهِ بِالدُّفِّ وَالدُّخَانِ، ثَبَتَ النِّكَاحُ بَيْنَهُمَا، هَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ الْمَعْمُولُ بِهِ.
وَقَالَ أَبُو عِمْرَانَ إنَّمَا تَجُوزُ شَهَادَةُ السَّمَاعِ فِي النِّكَاحِ، إذَا اتَّفَقَ الزَّوْجَانِ عَلَى ذَلِكَ، وَأَمَّا إذَا ادَّعَاهُ أَحَدُهُمَا وَأَنْكَرَهُ الْآخَرُ فلابد مِنْ الْمُتَيْطِيَّةِ.
السَّادِسُ وَأَمَّا الشَّهَادَةُ عَلَى السَّمَاعِ فِي الْحَبْسِ، فلابد أَنْ يَشْهَدَ الشُّهُودُ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ يُحَازُ بِمَا تُحَازُ بِهِ الْأَحْبَاسُ، وَيُحْتَرَمُ بِحُرْمَتِهَا، وَأَنَّهَا كَانَتْ مِلْكًا لِمَنْ بَتَلَ فِيهَا الْحَبْسَ الْمَذْكُورَ، وَيُجَاوِزُونَهَا بِالْوُقُوفِ عَلَيْهَا، وَإِنْ لَمْ يَشْهَدُوا بِأَنَّهَا تُحَازُ بِمَا تُحَازُ بِهِ الْأَحْبَاسُ، وَتُحْتَرَمُ بِحُرْمَتِهَا سَقَطَتْ الشَّهَادَةُ.
وَقَالَ بَعْضُ الْأَنْدَلُسِيِّينَ: لَوْ شَهِدُوا عَلَى أَصْلِ الْمُحْبَسِ بِعَيْنِهِ لَمْ يَكُنْ حَبْسًا، حَتَّى يَشْهَدُوا بِالْمِلْكِ لِلْمُحْبِسِ يَوْمَ حُبِسَ.
فرع:
قَالَ ابْنُ الْهِنْدِيِّ: إذَا ذَكَرُوا فِي وَثِيقَةِ الشَّهَادَةِ عَلَى السَّمَاعِ فِي الْحَبْسِ اسْمَ الْمُحْبِسِ، وَكَانَ قَدْ تُوُفِّيَ فلابد مِنْ إثْبَاتِ مَوْتِهِ، وَعِدَّةُ وَرَثَتِهِ عَلَى تَنَاسُخِ الْوِرَاثَاتِ، ثُمَّ يُعْذَرُ فِي ذَلِكَ إلَى وَرَثَتِهِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِدْفَعٌ نَفَذَ ذَلِكَ، وَقَدْ قِيلَ: إنَّهُ إذَا بَعُدَ عَهْدُ مَوْتِ الْمُحْبَسِ وَتَعَذَّرَ إثْبَاتُهُ وَإِثْبَاتُ وَرَثَتِهِ أَنَّ ذَلِكَ سَاقِطٌ وَأَنَّهُ لَا يَلْزَمُ إثْبَاتُ ذَلِكَ، وَالْقَائِلُ بِذَلِكَ يُحَدِّدُ بِنَحْوِ الْخَمْسِينَ وَالسِّتِّينَ سَنَةً، وَكَذَلِكَ يَسْقُطُ مَعَ الْقِدَمِ إثْبَاتُ الْمِلْكِ، وَإِنْ قَالَ الشُّهُودُ سَمِعْنَا أَنَّهَا حَبْسٌ، وَلَمْ نَسْمَعْ عَنْ الْمُحْبَسِ مَنْ هُوَ، لَمْ يَضُرَّ ذَلِكَ الشَّهَادَةَ وَهِيَ تَامَّةٌ.
فرع:
وَهَلْ يَلْزَمُ ذِكْرُ الْمُدَّةِ الَّتِي سَمِعُوا فِيهَا؟ وَيَذْكُرُونَ ذَلِكَ فِي الْوَثِيقَةِ، قَالَ الْمُتَيْطِيُّ: أَمَّا إسْقَاطُ مُدَّةِ السَّمَاعِ، فَهُوَ الَّذِي جَرَى بِهِ الْعَمَلُ.
وَقَالَ ابْنُ الْمُكْرِي وَغَيْرُهُ مِنْ فُقَهَاءِ الْأَنْدَلُسِ: لابد أَنْ يَذْكُرَ فِي الْوَثِيقَةِ مُدَّةَ السَّمَاعِ لِذَلِكَ لِمَا وَقَعَ مِنْ الْخِلَافِ فِي قَدْرِ الْمُدَّةِ الَّتِي تَجُوزُ فِيهَا شَهَادَةُ السَّمَاعِ.
السَّابِعُ وَأَمَّا الشَّهَادَةُ بِالسَّمَاعِ عَلَى الضَّرَرِ فَإِذَا شَهِدَ بِهِ بِالسَّمَاعِ الْفَاشِي مِنْ قَوْلِ النِّسَاءِ وَغَيْرِهِنَّ مِنْ الرِّجَالِ جَازَ، وَكَذَلِكَ إنْ شَهِدَ لَهَا شَاهِدٌ وَاحِدٌ بِمَعْرِفَةِ الضَّرَرِ، وَشَهِدَ لَهَا السَّمَاعَ مَعَ الشَّهَادَةِ بَعْدَ ذَلِكَ، إذَا لَمْ يَكُنْ عِنْدَ الزَّوْجِ فِيهِ مِدْفَعٌ وَلَا يَمِينَ عَلَيْهَا، قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ سَأَلْت مَالِكًا عَنْ شَهَادَةِ السَّمَاعِ فِي ذَلِكَ فَقَالَ: لَا أَرَى ذَلِكَ يَخْفَى عَلَى جِيرَانِهِمَا، فَإِذَا كَانَ إضْرَارُهُ بِهَا مَشْهُورًا مَعْرُوفًا حَتَّى تَوَاطَأَ سَمَاعُهُمْ عَلَى ظُلْمِهِ لَهَا فِي إسَاءَةِ عِشْرَتِهَا فِي غَيْرِ ذَنْبٍ مِنْهَا تَسْتَوْجِبُ بِهِ مِثْلَ ذَلِكَ، وَشَهِدَ عَلَى ذَلِكَ النِّسَاءُ الْعُدُولُ، أَوْ غَيْرُهُنَّ مِنْ الرِّجَالِ عَلَى سَمَاعِهِمْ مِنْ النِّسَاءِ، طَلَّقَهَا عَلَيْهِ السُّلْطَانُ، وَقَدْ تَسْتَحِقُّ الْمَرْأَةُ الضَّرْبَ الْوَجِيعَ بِالذَّنْبِ تَرْتَكِبُهُ، وَقَدْ شَجَّ ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا زَوْجَتَهُ، انْتَهَى مِنْ مُفِيدِ الْحُكَّامِ.
الثَّامِنُ وَأَمَّا الشَّهَادَةُ بِالسَّمَاعِ فِي الْمِلْكِ الْقَدِيمِ، فَمِثَالُ ذَلِكَ رَجُلٌ فِي يَدَيْهِ دَارٌ تُعْرَفُ بِهِ وَبِآبَائِهِ مِنْ قَبْلِهِ، فَيَأْتِي رَجُلٌ بِبَيِّنَةٍ تَشْهَدُ لَهُ أَنَّهَا مِلْكُهُ قَدِيمًا، فَيَأْتِي الَّذِي هِيَ فِي يَدِهِ بِمَنْ يَشْهَدُ لَهُ عَلَى السَّمَاعِ الْفَاشِي، أَنَّا لَمْ نَزَلْ نَسْمَعُ بِانْتِقَالِهَا إلَى الَّذِي هِيَ فِي يَدِهِ مِنْ قِبَلِ آبَائِهِ، بِالشِّرَاءِ أَوْ بِالصَّدَقَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَهِيَ شَهَادَةٌ تُوجِبُ عِنْدَ مَالِكٍ وَأَصْحَابِهِ الدَّارَ لِلَّذِي هِيَ فِي يَدِهِ، دُونَ الَّذِي يَشْهَدُ لَهُ أَنَّهَا مِلْكَهُ قَدِيمًا، فَهَذَا وَمِثْلَهُ مِمَّا تَجُوزُ فِيهِ شَهَادَةُ السَّمَاعِ إذَا كَانَ شَيْئًا مُتَقَادِمًا، وَلَا تَجُوزُ شَهَادَةُ السَّمَاعِ الْفَاشِي لِلْمُدَّعِي الطَّالِبِ، وَإِنَّمَا تَجُوزُ لِلَّذِي هِيَ فِي يَدَيْهِ حَائِزٌ لَهَا، بِتَقَادُمِ الْعَهْدِ وَمُضِيِّ الزَّمَانِ، وَلَا تُسْمَعُ شَهَادَةُ السَّمَاعِ إذَا قَامَ بِهَا مَنْ لَيْسَ الرِّيعُ فِي يَدِهِ، يُرِيدُ إخْرَاجَ ذَلِكَ مِنْ يَدِ حَائِزِهِ عَلَى الْمَشْهُورِ، وَاخْتُلِفَ هَلْ يُؤْخَذُ بِهَا مَا لَيْسَ عَلَيْهِ يَدٌ؟ كَعَفْوِ الْأَرْضِ.
الْفَرْعُ التَّاسِعُ شَهَادَةُ السَّمَاعِ بِالْوَصِيَّةِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُهُ عَقِبَ الْأَبْيَاتِ مِنْ كَلَامِ ابْنِ رَاشِدٍ.

.الْبَابُ الثَّالِثُ وَالثَّلَاثُونَ فِي الْقَضَاءِ بِالشَّهَادَةِ عَلَى الشَّهَادَةِ:

قَالَ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ: وَقَدْ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي الْحُكْمِ بِالشَّهَادَةِ عَلَى الشَّهَادَةِ، فَمَذْهَبُ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: قَبُولُهَا وَإِعْمَالُهَا فِي سَائِرِ الْأُمُورِ، مَالًا كَانَ أَوْ عُقُوبَةً، وَشَرْطُ صِحَّةِ تَحَمُّلِهَا الْمُوجِبِ لِقَبُولِهَا، أَنْ يَقُولَ شَاهِدُ الْأَصْلِ لِشَاهِدِ الْفَرْعِ:
اشْهَدْ عَلَى شَهَادَتِي، أَوْ عَلَى أَنَّ فُلَانًا أَشْهَدَنِي بِكَذَا.
وَفِي تَنْبِيهِ الْحُكَّامِ: يُشْتَرَطُ فِي اسْتِبَاحَةِ نَقْلِ الشَّهَادَةِ إذْنُ الْمَنْقُولِ عَنْهُ فِي شَهَادَةِ النَّاقِلِينَ عَلَى شَهَادَتِهِ؛ لِأَنَّهُ أَدَاءٌ لِتِلْكَ الشَّهَادَةِ اسْتَحْلَفَهُمَا عَلَى الْقِيَامِ بِهِ عِنْدَ الضَّرُورَةِ.
فرع:
فَإِنْ سَمِعَهُ يُخْبِرُ بِأَنَّ فُلَانًا أَشْهَدَهُ، وَلَمْ يَقُلْ اشْهَدْ عَلَيَّ أَوْ اُنْقُلْ عَنِّي هَذِهِ الشَّهَادَةَ وَشِبْهَ ذَلِكَ، لَمْ يُنْقَلْ لِمَا عُلِمَ مِنْ عَوَائِدِ النَّاسِ أَنَّ تَحَرُّزَهُمْ فِي الْإِشْهَادِ وَالشَّهَادَةِ أَقْوَى مِنْ تَحَرُّزِهِمْ فِي الْأَخْبَارِ، وَلَوْ كَانَ الْمُتَكَلَّمُ فِي غَايَةِ الْوَرَعِ.
وَفِي الشَّهَادَةِ لَا يَشْهَدُ إلَّا بِمَا سَمِعَ مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ وَلَا نَقْصٍ.
فرع:
فَإِنْ فَاتَ هَذَا الشَّرْطُ بِخُصُوصِهِ، فَهَلْ يَقُومُ مَقَامَهُ سَمَاعُ شَاهِدَيْنِ يُؤَدِّيَانِ شَهَادَتَهُمَا عِنْدَ الْقَاضِي ثُمَّ يَمُوتُ هَذَانِ الشَّاهِدَانِ أَوْ يُعْزَلُ الْقَاضِي؟ قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: لَا بَأْسَ لِلشُّهُودِ الَّذِينَ سَمِعُوا أَنْ يَشْهَدُوا بِهَا وَهِيَ شَهَادَةٌ تَامَّةٌ، وَمَنَعَ ذَلِكَ أَشْهَبُ مِنْ الْمُتَيْطِيَّةِ، قَالَ ابْنُ رَاشِدٍ: وَمَنَعَ مِنْ ذَلِكَ ابْنُ الْمَوَّازِ، وَفِيهِ بُعْدٌ لِحُصُولِ الْمُسَاوَاةِ بَيْنَ الصُّورَتَيْنِ قَطْعًا فِيمَا يَجِبُ التَّحَرُّزُ مِنْهُ وَمَا لَا يَجِبُ.
فرع:
وَكَذَلِكَ اخْتَلَفُوا إذَا سَمِعَهُ يُشْهِدُ غَيْرَهُ، فَهَلْ يُشْهِدُ هَذَا السَّامِعَ؟ وَإِنْ لَمْ يُشْهِدْهُ فِي ذَلِكَ قَوْلَانِ.
فرع:
قَالَ ابْنُ رَاشِدٍ فِي مُنْتَقَى الْأَحْكَامِ عَنْ ابْنِ الْقَاسِمِ: وَمَنْ سَمِعْته يَقُولُ: أَشْهَدُ أَنَّ لِفُلَانٍ عَلَى فُلَانٍ مِائَةُ دِينَارٍ، وَلَمْ يُشْهِدْك فَاشْهَدْ بِمَا سَمِعْت إنْ كُنْت سَمِعْته يُؤَدِّيهَا عِنْدَ الْحَاكِمِ لِيَحْكُمَ بِهَا، وَإِلَّا فَلَا حَتَّى يُشْهِدَك، إذْ لَعَلَّهُ لَوْ عَلِمَ أَنَّك تَنْقُلُهَا عَنْهُ لَزَادَ أَوْ نَقَصَ، وَإِنَّمَا تَشْهَدُ بِمَا سَمِعْت مِنْ قَذْفٍ وَعِتْقٍ وَطَلَاقٍ، بِخِلَافِ الْحُقُوقِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ كَلَامٌ مُسْتَقْصًى.
فرع:
وَلَا تَشْهَدْ بِقَوْلِ الْقَاضِي ثَبَتَ عِنْدِي لِفُلَانٍ كَذَا حَتَّى يُشْهِدَك، قَالَهُ ابْنُ هِشَامٍ فِي مُفِيدِ الْحُكَّامِ.
فرع:
فَلَوْ قَالَ الْقَاضِي بَعْدَ عَزْلِهِ: أَنَّ فُلَانًا شَهِدَ عِنْدِي وَشَهِدَ مَعَهُ غَيْرُهُ فَهِيَ شَهَادَةٌ جَائِزَةٌ مِنْ الْمُتَيْطِيَّةِ.
مَسْأَلَةٌ:
اُخْتُلِفَ فِي شَهَادَةِ الْأَبِ عَلَى شَهَادَةِ ابْنِهِ، وَشَهَادَةِ الِابْنِ عَلَى شَهَادَةِ أَبِيهِ، فَفِي الْوَاضِحَةِ جَوَازُ ذَلِكَ وَهُوَ قَوْلُ مُطَرِّفٍ، وَقِيلَ: إنَّ ذَلِكَ لَا يَجُوزُ وَهُوَ قَوْلُ أَصْبَغَ. وَفَرَّقَ ابْنُ الْمَاجِشُونِ بَيْنَ شَهَادَةِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَعَ صَاحِبِهِ، وَشَهَادَتِهِ عَلَى شَهَادَتِهِ وَبَيْنَ شَهَادَتِهِ عَلَى حُكْمِهِ بَعْدَ عَزْلِهِ فَأَجَازَ ذَلِكَ فِي الصُّورَتَيْنِ الْأُولَيَيْنِ، اُنْظُرْ الْبَيَانَ فِي الْأَقْضِيَةِ.

.فَصْلٌ فِي الشَّهَادَة عَلَى الشَّهَادَةِ:

فَصْلٌ: اعْلَمْ أَنَّ الشَّهَادَةَ عَلَى الشَّهَادَةِ لَا تُسْمَعُ إلَّا بِمَوْتِ الْأَصْلِ أَوْ مَرَضِهِ أَوْ غِيبَتِهِ بِمَكَانِ لَا يَلْزَمُ الْأَدَاءُ مِنْهُ؛ لِأَنَّ النَّقْلَ إنَّمَا أُبِيحَ مَعَ الضَّرُورَةِ وَلَا يُبَاحُ مَعَ غَيْرِهَا؛ لِأَنَّ النَّقْلَ عَنْهُمْ مَعَ حُضُورِهِمْ مُشْعِرٌ بِرِيبَةٍ، وَيَقَعُ الشَّكُّ فِي صِدْقِهِمْ، لِإِمْكَانِ أَنْ يَكُونُوا إنَّمَا تَأَخَّرُوا عَنْ أَدَاءِ الشَّهَادَةِ، خَشْيَةَ أَنْ يَسْتَفْسِرَهُمْ الْحَاكِمُ اسْتِفْسَارًا يَتَخَيَّرُونَ فِي الْجَوَابِ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يُتَّقَى، وَأَيْضًا فَإِنَّ الظَّنَّ الْحَاصِلَ لِلْقَاضِي مِنْ سَمَاعِ شَهَادَةِ الْأَصْلِ، أَقْوَى مِنْ الظَّنِّ الْحَاصِلِ لَهُ مِنْ شَهَادَةِ الْفَرْعِ، فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَقْتَصِرَ عَلَى الْأَضْعَفِ مَعَ قُدْرَتِهِ عَلَى الْأَقْوَى.
تنبيه:
قَالَ ابْنُ سَهْلٍ: وَصُورَةُ نَقْلِ الشَّهَادَةِ عَنْ الْمَرِيضِ، أَنْ يَكْتُبَ شَهِدَ عِنْدَ الْقَاضِي فُلَانٌ بْنُ فُلَانٍ وَفُلَانٌ بْنُ فُلَانٍ، أَنَّ فُلَانًا أَشْهَدَهُمَا لِمَرَضِهِ الْمَانِعِ لَهُ مِنْ الْخُرُوجِ أَنَّ شَهَادَتَهُ الْوَاقِعَةَ فِي هَذَا الْكِتَابِ حَقٌّ حَسَبَ وُقُوعِهَا فِيهِ، قَالَ وَمَا يَكْتُبُ النَّاسُ الْيَوْمَ وَسُؤَالُهُمَا نَقْلَهَا عَنْهُ جَهْلٌ لَا يَجِبُ عَمَلُهُ.
فرع:
قَالَ ابْنُ الْمَوَّازِ: وَلَا يُنْقَلُ فِي الْحُدُودِ إلَّا فِي غَيْبَةٍ بَعِيدَةٍ، فَأَمَّا الْيَوْمَانِ وَالثَّلَاثَةِ فَلَا قَالَ ابْنُ عَبْدُ السَّلَامِ: يَعْنِي إذَا غَابَ عَنْ مَوْضِعِهِ هَذَا الْقَدْرَ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَعُودُ عَنْ قُرْبٍ، قَالَ ابْنُ الْمَوَّازِ: فَأَمَّا مَنْ كَانَ مَوْضِعُهُ عَلَى مَسِيرَةِ يَوْمَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةٍ، فَلَا يُشَخِّصُ وَيَجُوزُ نَقْلُهَا عَنْهُ، وَيَجُوزُ ذَلِكَ فِي غَيْرِ الْحُدُودِ.
وَقَالَ سَحْنُونٌ: إنْ كَانَتْ الْمَسَافَةُ يُقْصَرُ فِي مِثْلِهَا الصَّلَاةُ أَوْ السِّتِّينَ مِيلًا، كَتَبَ الْقَاضِي إلَى رَجُلٍ تَشْهَدُ عِنْدَهُ الْبَيِّنَةُ، وَلَمْ يُفَرَّقْ بَيْنَ حَدٍّ وَلَا غَيْرِهِ.
فرع:
أَمَّا الْمَرْأَةُ، فَإِنَّهُ يُنْقَلُ عَنْهَا مَعَ حُضُورِهَا فِي الْبَلَدِ لِمَا يَنَالُهَا مِنْ الْكَشْفِ وَالْمَشَقَّةِ، قَالَ مُطَرِّفٌ: لَمْ أَرَ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَةً قَطُّ أَدَّتْ وَلَكِنْ يُحْمَلُ عَنْهَا وَهُوَ صَوَابٌ، وَأَبَى مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ أَشْهَبُ وَعَبْدُ الْمَلِكِ، وَلَمْ يَرَيَا لِلنِّسَاءِ مَدْخَلًا فِي النَّقْلِ، وَإِنْ كَانَ عَلَى شَهَادَةٍ بِمَالٍ؛ لِأَنَّ النَّقْلَ غَيْرُ الْمَالِ، وَاسْتَحْسَنَهُ سَحْنُونٌ.
فرع:
فَلَوْ تَغَيَّرَتْ حَالُ شَاهِدِ الْأَصْلِ بَعْدَ الْإِذْنِ، مِثْل أَنْ يَطْرَأَ عَلَيْهِ فِسْقٌ أَوْ تَحْدُثَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ عَدَاوَةٌ امْتَنَعَتْ الشَّهَادَةُ؛ لِأَنَّ حُدُوثَ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ يَدُلُّ عَلَى سَبْقِيَّةِ مُقَدِّمَتِهَا قَبْلَ ذَلِكَ، فَلَوْ تَغَيَّرَتْ حَالُ الْأَصْلِ بَعْدَ ذَلِكَ إلَى الْعَدَالَةِ، فَهَلْ لِلشَّاهِدِ الْفَرْعِ أَنْ يَنْقُلَ عَنْهُ الْآنَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُجَدِّدَ لَهُ شَاهِدُ الْأَصْلِ الْإِذْنَ فِي الشَّهَادَةِ وَالنَّقْلِ عَنْهُ؟ قَالَ الْمَازِرِيُّ: فِي ذَلِكَ خِلَافٌ بَيْنَ النَّاسِ، وَلَمْ يُصَرِّحْ بِأَنَّ هَذَا الْخِلَافَ فِي الْمَذْهَبِ أَوْ خَارِجَ الْمَذْهَبِ.
فرع:
وَلَيْسَ عَلَى شُهُودِ النَّقْلِ تَزْكِيَةُ شُهُودِ الْأَصْلِ، لَكِنْ إنْ زَكَّوْهُمْ صَحَّتْ.
مَسْأَلَةٌ:
إذَا دُعِيتَ أَنْ تَشْهَدَ عَلَى شَهَادَتِك فَلَكَ أَنْ لَا تَفْعَلَ، فَإِنْ كَانَتْ فِي حَبْسٍ أَوْ مَا فِي مَعْنَاهُ مِمَّا يُرَادُ تَأْبِيدُهُ، فَيَنْبَغِي أَنْ تَشْهَدَ عَلَى شَهَادَتِك، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ بِدَيْنٍ مُنَجَّمٍ سِنِينَ كَثِيرَةً.
مَسْأَلَةٌ:
وَإِذَا أَشْهَدْت عَلَى شَهَادَتِك، فَلَكَ أَنْ تُشْهِدَ مُعَدَّلًا وَغَيْرَ مُعَدَّلٍ، فَإِذَا صَارَتْ فِيهِ أَوْصَافُ الْعَدَالَةِ نَفَذَتْ، وَقَدْ كَانَ فِيمَا تَقَدَّمَ يَشْهَدُ فِي الْأَحْبَاسِ، وَشَبَهِهَا صِبْيَانُ الْمُكَاتَبِ الَّذِينَ يَعْقِلُونَ مَا يَكْتُبُونَ.
فرع:
وَتَجُوزُ شَهَادَةُ النِّسَاءِ عَلَى شَهَادَةِ غَيْرِهِنَّ فِيمَا يَجُوزُ فِيهِ شَهَادَتُهُنَّ وَلِيَكُنْ مَعَهُنَّ رَجُلٌ، وَمَنَعَ مِنْ ذَلِكَ أَشْهَبُ وَعَبْدُ الْمَلِكِ مُطْلَقًا، وَأَجَازَ أَصْبَغُ نَقَلَ امْرَأَتَيْنِ عَنْ امْرَأَتَيْنِ فِيمَا يَنْفَرِدْنَ بِهِ، قَالَ ابْنُ رَاشِدٍ.
وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: لَا يُجْزِئُ فِي ذَلِكَ إلَّا رَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ وَلَا تُجْزِئُ فِيهِ النِّسَاءُ إلَّا بِهِ.
فرع:
وَإِذَا شَهِدَ الشُّهُودُ عَلَى شَهَادَةِ غَيْرِهِمْ فِي عَقْدٍ، سَقَطَتْ مِنْهُ مَعْرِفَةُ الْمُشْهَدِ عَلَى نَفْسِهِ فَذَلِكَ تَامٌّ؛ لِأَنَّ الْمُشْهَدَ عَلَى شَهَادَتِهِ يُحْمَلُ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَشْهَدْ عَلَى شَهَادَتِهِ إلَّا وَقَدْ عَرَفَ الْمُشْهَدُ عَلَى نَفْسِهِ.
فرع:
وَإِذَا شَهِدَ شُهُودٌ عَلَى شَهَادَةِ قَوْمٍ لَا يَعْرِفُونَهُمْ، فَشَهَادَتُهُمْ مَرْدُودَةٌ، وَإِنْ كَانَ الْمَشْهُودُ عَلَى شَهَادَتِهِمْ عُدُولًا، اُنْظُرْ الْبَيَانَ.
وَقَالَ ابْنُ لُبَابَةَ وَغَيْرُهُ مِنْ الشُّيُوخِ: فِي شَهَادَةِ رَجُلَيْنِ شَهِدَا عَلَى شَهَادَةِ رَجُلٍ، أَنَّ فُلَانَةَ بِنْتَ فُلَانٍ أَشْهَدَتْنِي، وَلَمْ يَذْكُرْ فِي شَهَادَتِهِ أَنَّهُ يَعْرِفُهَا بِالْعَيْنِ وَالِاسْمِ أَنَّ الشَّهَادَةَ تَامَّةٌ، وَقَوْلُهُ: أَشْهَدَتْنِي فُلَانَةُ مَعْرِفَةٌ لَا مَحَالَةَ فِيهَا.
فرع:
وَلَا تَجُوزُ شَهَادَةُ النِّسَاءِ عَلَى شَهَادَةِ رَجُلٍ، وَلَوْ كُنَّ أَلْفًا إلَّا مَعَ رَجُلٍ؛ لِأَنَّ الشَّهَادَةَ لَا تَثْبُتُ إلَّا بِرَجُلَيْنِ أَوْ رَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ.
فرع:
فَإِذَا أَشْهَدَ الْأَصْلُ شَاهِدَيْ الْفَرْعِ عَلَى شَهَادَتِهِمَا، وَكَانَ تَارِيخُهَا قَدِيمًا أَقْدَمُ مِنْ وَقْتِ إشْهَادِهِمَا، فَلَا تَحْتَاجُ شُهُودُ الْفَرْعِ أَنْ يُؤَرِّخُوا شَهَادَتَهُمْ وَتَرْكُ التَّارِيخِ لَا يَضُرُّ وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ ابْنُ عَتَّابٍ وَأَبُو مُحَمَّدٍ الْمُعَيْطِيُّ وَأَبُو مُحَمَّدِ بْنِ الدَّبَّاغِ وَابْنُ الْقَطَّانِ قَالَ ابْنُ سَهْلٍ وَكَذَا رَأَيْت الْعَمَلَ بِقُرْطُبَةَ، وَلَا يَزِيدُونَ عَلَى قَوْلِهِمْ، وَشَهِدَ عَلَى إشْهَادِهِمَا بِذَلِكَ فُلَانٌ وَفُلَانٌ، وَرَأَيْتُ أَهْلَ إشْبِيلِيَّةَ يُؤَرِّخُونَ وَقْتَ إشْهَادِ الشُّهُودِ عَلَى شَهَادَتِهِمْ، وَالْأَمْرُ فِي ذَلِكَ وَاسِعٌ.
وَفِي وَثَائِقِ الْغَرْنَاطِيِّ قِيلَ: لابد لِلشَّاهِدِ مِنْ أَنْ يُؤَرِّخَ شَهَادَتَهُ إلَّا فِي مَوْضِعَيْنِ: أَحَدُهُمَا مَا أَشْهَدَ فِيهِ الْقَضَاءُ وَالْحُكَّامُ مِنْ تَسْجِيلِهِمْ. وَالثَّانِي إشْهَادُ الشُّهُودِ عَلَى شَهَادَتِهِمْ عَلَى خِلَافٍ.
مَسْأَلَةٌ:
وَيَكْفِي فِي صِحَّةِ نَقْلِ الشَّهَادَةِ- فِيمَا عَدَا الزِّنَا- أَنْ يَكُونَ النَّاقِلَانِ اثْنَيْنِ بِشَرْطِ أَنْ لَا يَكُونَ أَحَدُهُمَا أَحَدَ شَاهِدَيْ الْأَصْلِ؛ لِأَنَّهُ إذَا كَانَ أَحَدُ النَّاقِلَيْنِ صَارَ الْحَقُّ، إنَّمَا ثَبَتَ بِشَاهِدٍ وَاحِدٍ.
مِثَالُ ذَلِكَ: إذَا شَهِدَ رَجُلٌ عَلَى عِلْمِهِ فِي حَقٍّ، وَشَهِدَ هُوَ وَآخَرُ عَلَى رَجُلٍ يَنْقُلَانِ فِي ذَلِكَ الْحَقَّ فَلَا تَجُوزُ؛ لِأَنَّ وَاحِدًا أَحْيَا الشَّهَادَةَ، وَتَجُوزُ الشَّهَادَةُ عَلَى عِلْمِ نَفْسِهِ، وَلَا يَجُوزُ نَقْلُهُ عَنْ الْآخَرِ، وَكَذَلِكَ إذَا شَهِدَ رَجُلَانِ عَلَى شَهَادَةِ رَجُلٍ، وَشَهِدَ أَحَدُهُمَا وَثَالِثٌ عَلَى شَهَادَةِ الْآخَرِ فِي ذَلِكَ الْحَقِّ فَلَا تَجُوزُ؛ لِأَنَّ وَاحِدًا أَحْيَا شَهَادَتَهُمَا.
وَقَالَ ابْنُ الْمَوَّازِ: ذَلِكَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّ الْوَاحِدَ جَمَعَ الِاثْنَيْنِ، فَلَوْ كَانَ مَعَهُ آخَرُ يَنْقُلُ مَعَهُمَا لَجَازَ، فَكَيْفَ وَهُوَ مَعَ رَجُلَيْنِ كُلُّ وَاحِدٍ يَنْقُلُ عَنْ رَجُلٍ؟ فَهَذَا أَقْوَى، ثُمَّ هَذَانِ الشَّاهِدَانِ اللَّذَانِ نَقْلَا عَنْ وَاحِدٍ، يَصِحُّ نَقْلُهُمَا عَنْ الشَّاهِدِ الثَّانِي مِنْ شَاهِدَيْ الْأَصْلِ عَلَى الْمَشْهُورِ، وَقِيلَ لابد مِنْ آخَرَيْنِ.
مَسْأَلَةٌ:
وَكَذَلِكَ يَنْقُلُ اثْنَانِ كِلَاهُمَا عَنْ رَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ فِي الْأَمْوَالِ، وَمَا يَئُولُ إلَيْهِ فَيَثْبُتُ الْحَقُّ، وَيَنْقُلَانِ أَيْضًا عَنْ رَجُلٍ فَقَطْ، وَيَثْبُتُ الْحَقُّ مَعَ يَمِينِ الْمُسْتَحِقِّ، أَوْ قِيَامِ شَاهِدٍ آخَرَ عَلَى الْأَصْلِ، وَيَجُوزُ نَقْلُ رَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ، وَأَمَّا فِي الزِّنَا فَيُكْتَفَى بِأَرْبَعَةِ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْأَرْبَعَةِ، وَرَوَى مُطَرِّفٌ: أَنَّهُ لابد مِنْ سِتَّةَ عَشَرَ، أَرْبَعَةٌ عَنْ كُلِّ وَاحِدٍ، وَبِالْأَوَّلِ قَالَ ابْنُ الْمَاجِشُونِ.
وَقَالَ: أَمَّا إنْ تَفَرَّقُوا فَثَمَانِيَةٌ عَنْ كُلِّ وَاحِدٍ اثْنَانِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَعْضُ هَذَا.

.الْبَابُ الرَّابِعُ وَالثَّلَاثُونَ فِي الْقَضَاءِ بِالشَّهَادَةِ عَلَى الْخَطِّ:

وَفِي الطُّرَرِ لِابْنِ عَاتٍ الْخَطُّ عِنْدَنَا شَخْصٌ قَائِمٌ، وَمِثَالٌ مُمَاثِلٌ تَقَعُ الْعَيْنُ عَلَيْهِ، وَيُمَيِّزُهُ الْعَقْلُ كَمَا يُمَيِّزُ سَائِرَ الْأَشْخَاصِ وَالصُّوَرِ، فَالشَّهَادَةُ عَلَى الْخَطِّ جَائِزَةٌ لِمَا ذَكَرْنَاهُ، وَكَذَلِكَ حَكَى الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ فِي كِتَابِهِ عَنْ مَالِكٍ وَغَيْرِهِ مِنْ أَصْحَابِهِ، أَنَّ الْخَطَّ شَخْصٌ يُمَيِّزُهُ الْعَقْلُ كَمَا يُمَيِّزُ الْأَشْخَاصَ، مَعَ جَوَازِ الِاشْتِبَاهِ فِيهَا، فَلِذَلِكَ تَجُوز فِي الْخُطُوطِ، وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ اعْتِبَارُ الشَّبَهِ فِي الْقَافَةِ وَإِلْحَاقُ النَّسَبِ بِسَبَبِ الشَّبَهِ وَالْحُكْمُ بِذَلِكَ، فَالْخَطُّ مِنْ هَذَا الْبَابِ، قَالَ الْأَبْهَرِيُّ تَجُوزُ الشَّهَادَةُ عَلَى الصُّوَرِ، وَإِنْ كَانَ يُشْبِهُ بَعْضُهَا بَعْضًا، وَلَيْسَ لَك الْأَغْلَبُ يَعْنِي الِاشْتِبَاهَ، وَكَذَلِكَ الْخُطُوطُ تَجُوزُ الشَّهَادَةُ عَلَيْهَا، وَإِنْ كَانَ يُشْبِهُ بَعْضُهَا بَعْضًا إذْ الِاخْتِلَافُ فِيهَا أَغْلَبُ.
وَقَالَ ابْنُ رَاشِدٍ الشَّهَادَةُ عَلَى الْخَطِّ حَصَلَ فِيهَا حَاسَّةُ الْبَصَرِ وَحَاسَّةُ الْعَقْلِ، فَالْبَصَرُ رَأَى خَطًّا فَانْطَبَعَ فِي الْحَاسَّةِ الْخَيَالِيَّةِ، وَالْعَقْلُ قَابَلَ صُورَتَهُ بِصُورَةِ ذَلِكَ الْخَطِّ، يَعْنِي خَطَّ الرَّجُلِ الَّذِي رَآهُ يَكْتُبُ غَيْرَ مَرَّةٍ، حَتَّى انْطَبَعَتْ صُورَةُ خَطِّهِ فِي مِرْآتِهِ، فَإِذَا قَابَلَ الْعَقْلُ تِلْكَ الصُّورَةِ بِالصُّورَةِ الَّتِي رَآهُ يَكْتُبُهَا، قَالَ هَذَا خَطُّ فُلَانٍ، بَقِيَ النَّظَرُ هَا هُنَا، هَلْ يُقَالُ إنَّ الْخُطُوطَ تَشَابَهُ؟ فَيَحْصُلُ الْغَلَطُ لِلْعُقَلَاءِ، وَيُقَالُ التَّشَابُهُ نَادِرٌ وَالِاعْتِمَادُ عَلَى مَا يَحْصُلُ عِنْدَ الْعَقْلِ، فَهَذَا هُوَ سَبَبُ الْخِلَافِ، فَيَخْرُجُ مِنْ هَذَا قَوْلَانِ بِالْجَوَازِ، وَهُوَ الصَّحِيحُ الْمَعْمُولُ بِهِ لِمَا قُلْنَاهُ، وَالْمَنْعُ خَوْفَ التَّشَابُهِ.
وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ: مَنْ عَرَفَ خَطَّ الشَّاهِدِ بِكَثْرَةِ رُؤْيَتِهِ لِكِتَابَتِهِ، ثُمَّ أَتَى بِشَيْءٍ مِمَّا كَتَبَهُ ذَلِكَ الْإِنْسَانُ لِيَشْهَدَ بِأَنَّهُ خَطُّهُ، فَالشَّاهِدُ لَمْ يَرَ هَذَا الْخَطَّ حِينَ كَتَبَهُ كَاتِبُهُ، فَاعْتِمَادُهُ فِي الشَّهَادَةِ إنَّمَا هُوَ عَلَى ظَنٍّ حَصَلَ فِي ذِهْنِهِ، أَنَّ الَّذِي رَآهُ الْآنَ هُوَ مِنْ نَوْعِ الَّذِي كَانَ رَأَى ذَلِكَ الْكَاتِبَ يَكْتُبُهُ، وَجَعَلَ هَذَا مُدْرِكًا لِلشَّهَادَةِ فِي غَايَةِ الضَّعْفِ، وَأَحْرَى إذَا شَهِدَ عَلَى خَطِّ مَنْ لَمْ يَرَهُ يَكْتُبُ وَلَمْ يَجْمَعُهُ وَإِيَّاهُ زَمَانٌ وَلَا مَكَانٌ مُعْتَمِدًا عَلَى كَثْرَةِ مَا رَأَى مِنْ خَطِّهِ، الَّذِي يُنْسَبُ إلَيْهِ، وَالصَّحِيحُ مَا تَقَدَّمَ، وَتَقَدَّمَ فِي بَابِ الشَّهَادَةِ عَلَى السَّمَاعِ أَنَّ شَهَادَةَ السَّمَاعِ فِي خُطُوطِ الشُّهُودِ الْأَمْوَاتِ جَائِزَةٌ فَانْظُرْهُ، وَفِي الْمُتَيْطِيَّةِ وَقَوْلُ ابْنِ الْقَاسِمِ: فِي مَعْرِفَةِ الْخَطِّ، أَنَّهَا كَمَعْرِفَةِ الشُّهُودِ الثِّيَابَ وَالدَّوَابَّ وَسَائِرَ الْأَشْيَاءِ لَا فَرْقَ بَيْنَ ذَلِكَ.
قَالَ بَعْضُ الشُّيُوخِ: وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الشَّهَادَةَ عَلَى الْخَطِّ إنَّمَا تَكُونُ عَلَى الْقَطْعِ، وَفِي كِتَابِ الْقَرَوِيِّ أَنَّ الشَّهَادَةَ فِي ذَلِكَ إنَّمَا هِيَ عَلَى الْعِلْمِ.

.فَصْلٌ الْخُطُوطُ فِي الشَّهَادَةِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ:

فَصْلٌ: وَالْخُطُوطُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: الْقِسْمُ الْأَوَّلُ: خَطُّ الشَّاهِدِ الَّذِي يَتَعَذَّرُ حُضُورُهُ عِنْدَ الْقَاضِي لِمَوْتِهِ أَوْ غَيْبَتِهِ، وَالْمَشْهُورُ مِنْ الْمَذْهَبِ أَنَّهَا جَائِزَةٌ، وَرَوَاهُ ابْنُ وَهْبٍ وَمُطَرِّفُ عَنْ مَالِكٍ، وَهَذَا مَا لَمْ يَسْتَنْكِرْ الشَّاهِدُ شَيْئًا، وَرُوِيَ عَنْ مَالِكٍ أَيْضًا: أَنَّهَا لَا تَجُوزُ. قَالَ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ: قَالَ الْبَاجِيُّ مَشْهُورُ قَوْلِ مَالِكٍ أَنَّ الشَّهَادَةَ عَلَى خَطِّ الشَّاهِدِ لَا تَجُوزُ، وَبِالْجَوَازِ قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ وَابْنُ وَهْبٍ وَسَحْنُونٌ.
وَقَالَ ابْنُ رَاشِدٍ: قَالَ الشَّيْخُ أَبُو الْوَلِيدِ بْنُ رُشْدٍ: لَمْ يَخْتَلِفْ قَوْلُ مَالِكٍ فِي الْأُمَّهَاتِ الْمَشْهُورَةِ فِي إجَازَتِهَا وَإِعْمَالِهَا، وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهَا لَا تَجُوزُ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ مُحَمَّدٌ وَجَعَلَ عِلَّةَ الشَّهَادَةِ عَلَى خَطِّهِ، كَالشَّهَادَةِ عَلَى شَهَادَتِهِ إذَا سَمِعَهَا مِنْهُ وَلَمْ يُشْهِدْهُ عَلَيْهَا، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَتَحَمَّلَهَا عَنْهُ، قَالَ وَقَدْ يَكْتُبُ بِخَطِّهِ فِيمَا يَسْتَرِيبُ فِيهِ وَقْتَ الْأَدَاءِ، وَقَدْ يَكْتُبُ عَلَى مَنْ لَا يُعْرَفُ بِعَيْنِهِ وَلَا بِاسْمِهِ انْتَهَى.
وَقَدْ يَكْتُبُ شَهَادَتَهُ عَلَى نَوْعٍ مِنْ الْإِكْرَاهِ، وَشَاهَدْت هَذَا فِي حُكُومَةٍ رُفِعَتْ إلَى حَاكِمٍ تَتَضَمَّنُ هِبَةً لِوَجْهِ اللَّهِ تَعَالَى، وَأَنَّهُ وَهَبَ ذَلِكَ فِي حَالِ صِحَّته وَجَوَازِ تَصَرُّفِهِ طَائِعًا مُخْتَارًا وَأَنَّهُ أَجَازَ ذَلِكَ، وَفِي الْهِبَةِ خَطُّ بَعْضِ أَهْلِ الْعِلْمِ وَغَيْرِهِمْ مِنْ الْعُدُولِ، وَكَانَتْ الْهِبَةُ عَلَى سَبِيلِ الْإِكْرَاهِ، وَكِتَابَةُ الشُّهُودِ عَلَى نَوْعٍ مِنْ ذَلِكَ، وَكَانَ الْحَاكِمُ يَعْرِفُ بَاطِنَ الْقَضِيَّةِ فَصَرَفَهَا عَنْ نَفْسِهِ، وَذَهَبَ ابْنُ لُبَابَةَ إلَى مَا ذَهَبَ إلَيْهِ مُحَمَّدُ بْنُ الْمَوَّازِ، مِنْ مَنْعِ الْعَمَلِ بِهَا فِي الْأَحْبَاسِ وَغَيْرِهَا، وَهُوَ الِاحْتِيَاطُ لِمَا كَثُرَ مِنْ الْفَسَادِ وَالتَّلْبِيسِ، وَرُبَّمَا كَانَ أَصْلُ الْمَكْتُوبِ عَلَى وَجْهِ التَّقِيَّةِ، وَشُهُودُهُ لَوْ كَانُوا أَحْيَاءً أَخْبَرُوا بِذَلِكَ، فَيُعْمَلُ بِالشَّهَادَةِ عَلَى خُطُوطِهِمْ فِيمَا لَا يَشْهَدُونَ بِهِ لَوْ حَضَرُوا.
وَقَالَ ابْنُ الْمَوَّازِ مَا عَلِمْت مَنْ حُكْمٍ بِهَا.
فرع:
قَالَ ابْنُ زَرْبٍ: لَا تَجُوزُ الشَّهَادَةُ عَلَى خَطِّ الشَّاهِدِ، حَتَّى يَشْهَدَ هَذَا الشَّاهِدُ أَنَّ صَاحِبَ هَذَا الْخَطِّ كَانَ يَعْرِفُ مَنْ أَشْهَدَهُ مَعْرِفَةَ عَيْنٍ.
قَالَ بَعْضُ الشُّيُوخِ: وَذَلِكَ صَحِيحٌ لَا يَنْبَغِي أَنْ يُخْتَلَفَ فِيهِ، لَمَّا قَدْ تَسَاهَلَ النَّاسُ فِي وَضْعِ شَهَادَاتِهِمْ عَلَى مَنْ لَا يَعْرِفُونَ.
قَالَ ابْنُ رَاشِدٍ: وَهَذَا فِيهِ تَضْيِيقٌ، وَظَاهِرُ كَلَامِ الْمُتَقَدِّمِينَ أَنَّهُ لَا يَحْتَاجُ إلَى ذَلِكَ، وَيَحْمِلُ الْعَدْلَ أَنَّهُ لَا يَضَعُ شَهَادَتَهُ حَتَّى يَعْلَمَ أَنَّهُ يَشْهَدُ عَلَى خَطِّهِ وَأَنَّهُ لَا يَضَعُهَا إلَّا عَنْ مَعْرِفَةٍ، وَإِلَّا كَانَ شَاهِدًا بِزُورٍ، وَالْفَرْضُ أَنَّهُ عَدْلٌ، وَبِهَذَا جَرَى الْعَمَلُ عِنْدَنَا بِنَقْضِهِ وَهُوَ الصَّوَابُ.
وَفِي الطُّرَرِ: وَإِنَّمَا أَرَادَ ابْنُ زَرْبٍ إذَا لَمْ يَكُنْ فِي الْوَثِيقَةِ الَّتِي فِيهَا شَهَادَةُ الْمَشْهُودِ عَلَى خَطِّهِ، أَنَّهُ يَعْرِفُ الْمَشْهُودَ عَلَيْهِ مَعْرِفَةَ الْعَيْنِ، فَإِنْ كَانَ فِيهَا وَيَعْرِفُهُمَا بِأَعْيَانِهِمَا فَهِيَ شَهَادَةٌ تَامَّةٌ؛ لِأَنَّهُ عَلَى ذَلِكَ كَتَبَ شَهَادَتَهُ وَنَسَبَهُ إلَى مُخْتَصَرِ الثَّمَانِيَةِ.
وَفِي الْمُتَيْطِيَّةِ: وَإِذَا اُحْتِيجَ إلَى الشَّهَادَةِ عَلَى مَعْرِفَةِ خُطُوطِ الشُّهُودِ فِي وَثِيقَةٍ قَدْ سَقَطَ مِنْ عَقْدِهَا مَعْرِفَةُ عَيْنِ الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ، وَكَانَ الْأَمْرُ مُشْكِلًا لَا يُدْرَى إنْ كَانَ الشُّهُودُ الْمَشْهُودُ عَلَى خُطُوطِهِمْ كَانُوا يَعْرِفُونَ الْمَشْهُودَ عَلَيْهِ أَمْ لَا، فَمَنْ أَجَازَ الشَّهَادَةَ عَلَى الْخَطِّ قَالَ لَا يَحْتَاجُ الشُّهُودُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ عَلَى مَعْرِفَةِ خُطُوطِ الشُّهُودِ أَنْ يَكْتُبُوا شَهَادَتَهُمْ أَنَّ الْمَشْهُودَ عَلَى خُطُوطِهِمْ كَانُوا يَعْرِفُونَ الْمُشْهِدَ عَلَى نَفْسِهِ فِي الْعَقْدِ، وَيَشْهَدُ بِذَلِكَ غَيْرُ مَنْ يَشْهَدُ عَلَى مَعْرِفَةِ الْخَطِّ، وَإِلَّا فَالشَّهَادَةُ عَلَى مَعْرِفَةِ الْخَطِّ نَاقِصَةٌ.
فرع:
وَفِي الطُّرَرِ: وَإِذَا كَتَبَ الرَّجُلُ ذِكْرَ حَقٍّ عَلَى مَنْ لَا يَعْرِفُهُ الشُّهُودُ، فَالْأَحْسَنُ أَنْ يَكْتُبَ نَعْتَهُ وَصِفَتَهُ، وَيَشْهَدَ الشُّهُودُ عَلَى الصِّفَةِ حَيًّا أَوْ مَاتَ أَوْ غَابَ، وَقَدْ قَالَ: بَعْضُهُمْ يَكْتُبُ اسْمَهُ وَقَرْيَتَهُ وَمَسْكَنَهُ، وَيُجْتَزَى بِذَلِكَ، قَالَ: وَالْأَوَّلُ أَحْسَنُ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَتَسَمَّى الرَّجُلُ بِغَيْرِ اسْمِهِ وَغَيْرِ مَسْكَنِهِ وَغَيْرِ مَوْضِعِهِ، فَإِذَا لَمْ يُعَرِّفْهُ الشُّهُودُ بِعَيْنِهِ وَلَا وَصَفُوهُ بِصِفَتِهِ دَخَلَهُ مَا ذَكَرْنَا.
فرع:
وَفِي مُخْتَصَرِ الْوَاضِحَةِ قَالَ ابْنُ حَبِيبٍ: وَقَالَ لِي مُطَرِّفٌ وَأَصْبَغُ فِي إيقَاعِ الشَّهَادَةِ فِي الصَّحِيفَةِ بِأَمْرِ الَّذِي كُتِبَتْ عَلَيْهِ، وَهُمْ لَمْ يَقْرَءُوهَا وَلَمْ تُقْرَأْ عَلَيْهِ، إذَا كَانَ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ مِمَّنْ لَا يَشُكُّ الشَّاهِدُ أَنَّهُ قَدْ أَحَاطَ بِمَا فِيهَا عِلْمًا، فَأَوْقِعْ شَهَادَتَك إذَا قَالَ لَك مَا فِيهَا حَقٌّ، وَإِنْ كَانَ أُمِّيًّا وَإِنْ لَمْ تَقْرَأْ عَلَيْهِ، إنْ كَانَ مِمَّنْ يَظُنُّ أَنَّهُ لَمْ يُحِطْ بِهَا عِلْمًا، وَمِمَّنْ يُخْشَى أَنْ يَكُونَ مَخْدُوعًا فَلَا تُوقِعْ شَهَادَتَكَ فِيهَا حَتَّى تَقْرَأَهَا عَلَيْهِ، وَإِنْ قَالَ لَك مَا فِيهَا حَقٌّ أُمِّيًّا كَانَ أَوْ قَارِئًا.
فرع:
وَقَالَ ابْنُ حَبِيبٍ وَقَالَ لِي مُطَرِّفٌ عَنْ مَالِكٍ: لَا يُوقِعُ الرَّجُلُ شَهَادَتَهُ عَلَى مَنْ لَا يَعْرِفُ، حَتَّى يَكُونَ مَعَهُ مَنْ يُعَرِّفُهُ بِهِ.
وَقَالَ لِي ابْنُ الْمَاجِشُونِ وَأَصْبَغُ وَابْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ مِثْلَهُ، وَأَخْبَرَ بِهِ أَصْبَغُ عَنْ ابْنِ الْقَاسِمِ، وَذَلِكَ خِيفَةَ أَنْ يَأْتِيَ رَجُلٌ فَيَتَسَمَّى بِاسْمِ رَجُلٍ غَيْرِهِ، وَيَشْهَدُ أَنَّهُ بَاعَ دَارِهِ بِمَوْضِعِ كَذَا، أَوْ عَبْدَهُ فُلَانًا مِنْ فُلَانٍ، وَتِلْكَ الدَّارَ لِغَيْرِهِ، فَيُوقِعُ الشَّاهِدُ شَهَادَتَهُ عَلَى مَنْ لَا يَعْرِفُ، ثُمَّ يَمُوتُ الشَّاهِدُ فَيَشْهَدُ عَلَى خَطِّهِ فَتَجُوزُ الشَّهَادَةُ فَيُخْرَجُ صَاحِبُ الدَّارِ مِنْ دَارِهِ، وَيُخْرَجُ الْعَبْدُ مِنْ مِلْكِهِ، قَالَ مُطَرِّفٌ وَابْنُ الْمَاجِشُونِ: وَقَدْ فُعِلَ شِبْهُ هَذَا عِنْدَنَا، وَهَذَا مِنْ عُيُوبِ الشَّهَادَةِ عَلَى الْخَطِّ.
مَسْأَلَةٌ:
وَإِذَا قُلْنَا بِجَوَازِ الشَّهَادَةِ عَلَى الْخَطِّ، فَإِنَّهُ يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ الشَّاهِدُ عَلَى الْخَطِّ مِنْ أَهْلِ الْيَقَظَةِ وَالْفِطْنَةِ وَالْمَعْرِفَةِ التَّامَّةِ وَحُسْنِ التَّمْيِيزِ.
فرع:
قَالَ أَصْبَغُ: الشَّهَادَةُ عَلَى خَطِّ الشَّاهِدِ فِي غَيْبَتِهِ أَوْ مَوْتِهِ، لَا يُعَجِّلُ الْحَاكِمُ الْحُكْمَ بِهَا وَلْيَتَثَبَّتْ.
مَسْأَلَةٌ:
اخْتَلَفَ الْمَذْهَبُ فِيمَا تَجُوزُ فِيهِ الشَّهَادَةُ عَلَى الْخَطِّ، فَفِي الْوَاضِحَةِ عَنْ مُطَرِّفٍ وَابْنِ الْمَاجِشُونِ وَأَصْبَغَ: أَنَّ الشَّهَادَةَ عَلَى الْخَطِّ لَا تَجُوزُ فِي طَلَاقٍ وَلَا عَتَاقٍ وَلَا نِكَاحٍ، وَلَا حَدٍّ مِنْ الْحُدُودِ، وَلَا فِي كِتَابِ الْقَاضِي إلَى الْقَاضِي بِالْحُكْمِ، وَلَا تَجُوزُ إلَّا فِي الْأَمْوَالِ خَاصَّةً، وَحَيْثُ لَا تَجُوزُ شَهَادَةُ النِّسَاءِ وَلَا الْيَمِينُ مَعَ الشَّاهِدِ، لَا تَجُوزُ الشَّهَادَةُ عَلَى الْخَطِّ، وَحَيْثُ يَجُوزُ هَذَا يَجُوزُ هَذَا، قَالَ ابْنُ رَاشِدٍ: وَهَذِهِ التَّفْرِقَةُ لَا مَعْنَى لَهَا، إلَّا أَنْ يَرَوْا أَنَّ الْأَمْوَالَ أَخَفُّ لِكَوْنِهَا يُقْضَى فِيهَا بِالشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ، وَيُقْبَلُ فِيهَا شَهَادَةُ النِّسَاءِ، وَلَيْسَ بِذَلِكَ يَعْنِي فِي الْقُوَّةِ، قَالَ وَالصَّوَابُ الْجَوَازُ فِي الْجَمِيعِ.
وَقَالَ ابْنُ الْهِنْدِيِّ: وَيَلْزَمُ مَنْ أَجَازَهُ فِي الْأَحْبَاسِ الْقَدِيمَةِ أَنْ يُجِيزَهُ فِي غَيْرِهَا؛ لِأَنَّ مَنْ أَخَذَ بِقَوْلِ مَنْ أَجَازَهُ لَزِمَهُ أَنْ يُجِيزَهُ فِي كُلِّ شَيْءٍ مُطْلَقًا؛ لِأَنَّ الْحُقُوقَ كُلَّهَا عِنْدَ اللَّهِ سَوَاءٌ، وَمَنْ أَخَذَ بِقَوْلِ مَنْ لَمْ يُجِزْهُ أَسْقَطَهُ فِي جَمِيعِ الْأَشْيَاءِ، قَالَ وَالْأَحْوَطُ أَنْ لَا تَجُوزَ الشَّهَادَةُ عَلَيْهِ بِحَوَالَةِ الزَّمَانِ وَفَسَادِ أَهْلِهِ.
وَمِنْ الْحُجَّةِ لِجَوَازِ شَهَادَةِ الْخَطِّ وَقُوَّتِهِ، أَنَّ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ وَعَلِيًّا بْنَ أَبِي طَالِبٍ وَطَلْحَةَ وَالزُّبَيْرَ وَغَيْرَهُمْ، رِضْوَانُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ، قَدْ شَهِدُوا فِي كِتَابِ مَرْوَانَ بْنِ الْحَكَمِ، الَّذِي كَتَبَهُ عَلَى لِسَانِ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ، فِي مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ، أَنَّهُ بِخَطِّ مَرْوَانَ، وَمِنْ ذَلِكَ تَوَلَّدَ عَلَى عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ مَا تَوَلَّدَ، وَهُوَ أَوَّلُ حَادِثٍ حَدَثَ مِنْ جِهَةِ الشَّهَادَةِ عَلَى الْخَطِّ، فَلَوْ كَانَتْ الشَّهَادَةُ لَا تَجُوزُ عَلَيْهِ، لَمْ يَشْهَدْ بِهَا أَصْحَابُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لاسيما فِي التَّبَطُّنِ فِي الدِّمَاءِ.
وَمِنْ الْحُجَّةِ أَيْضًا أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، كَتَبَ بِبَيْعَتِهِ إلَى عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ الْخَطُّ كَافِيًا، لَمْ يَكْتَفِ عَبْدُ الْمَلِكِ مِنْ ابْنِ عُمَرَ بِالْخَطِّ فِي هَذَا الْأَمْرِ الْعَظِيمِ، وَقَدْ أَدْخَلَ مَالِكٌ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ بَيْعَةَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ لِعَبْدِ الْمَلِكِ فِي الْمُوَطَّأِ، وَلَمْ يَذْكُرْ أَنَّهُ أَشْهَدَ عَلَى ذَلِكَ، وَفِي أَحْكَامِ ابْن سَهْلٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْن فَرَجٍ مَوْلَى ابْنِ الطَّلَّاعِ، قَالَ: الْأَصْلُ فِي الشَّهَادَةِ عَلَى الْخُطُوطِ قَوْلُ مَالِكٍ، وَأَكْثَرُ أَصْحَابِنَا أَنَّهَا تَجُوزُ فِي الْحُقُوقِ وَالطَّلَاقِ وَالْأَحْبَاسِ وَغَيْرِهَا، إلَّا أَنَّ الَّذِي جَرَى بِهِ الْعَمَلُ عِنْدَ الشُّيُوخِ، أَنَّهَا تَجُوزُ فِي الْأَحْبَاسِ، وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهَا.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي زَمَنِينَ الَّذِي جَرَى بِهِ الْعَمَلُ فِي وَقْتِنَا، أَنَّ الشَّهَادَةَ عَلَى الْخَطِّ لَا تَجُوزُ إلَّا فِي الْأَحْبَاسِ خَاصَّةً لِمَا اُشْتُهِرَ مِنْ الضَّرْبِ عَلَى الْخُطُوطِ، وَلَا يَشْهَدُ فِي الْأَحْبَاسِ حَتَّى يَشْهَدَ الشُّهُودُ أَنَّهُمْ لَمْ يَزَالُوا يَسْمَعُونَ أَنَّ الَّذِي شَهِدُوا بِهِ حَبْسٌ، وَأَنَّهُ قَدْ كَانَ مُحَازًا بِمَا تُحَازُ بِهِ الْأَحْبَاسُ، قَالَ ابْنُ سَهْلٍ، الصَّحِيحُ عِنْدِي الَّذِي لَا أَقُولُ بِغَيْرِهِ وَلَا أَعْتَقِدُ سِوَاهُ أَنَّهُ لَا تَجُوزُ الشَّهَادَةُ عَلَى الْخَطِّ، وَلَكِنِّي أَذْهَبُ إلَى جَوَازِ ذَلِكَ فِي الْأَحْبَاسِ خَاصَّةً، عَلَى مَا اتَّفَقَ عَلَيْهِ شُيُوخُنَا رَحِمَهُمُ اللَّهُ إتْبَاعًا لَهُمْ وَاقْتِدَاءً بِهِمْ وَاسْتِحْسَانًا لِمَا دَرَجَتْ عَلَيْهِ جَمَاعَتُهُمْ، وَقَضَى بِهِ قُضَاتُهُمْ وَانْعَقَدَتْ عَلَيْهِ سِجِلَّاتُهُمْ، وَإِنْ كَانَ ابْنُ لُبَابَةَ قَدْ سَاقَ أَصْلَهُ أَنْ لَا تَجُوزَ فِي حَبْسٍ وَلَا غَيْرِهِ، وَقَدْ ذَهَبَ إلَى ذَلِكَ غَيْرُهُ مِمَّنْ لَا يُلْتَفَتُ إلَيْهِ، وَالْجُمْهُورُ أَوْلَى بِالِاتِّبَاعِ، وَمَا أَجْمَعُوا عَلَى ذَلِكَ فِي الْأَحْبَاسِ إلَّا حَيْطَةً عَلَيْهَا وَتَحْصِينًا لَهَا، مِنْ أَنْ تُحَالَ عَنْ أَحْوَالِهَا وَتُغَيَّرَ عَنْ سَبِيلِهَا، وَاتِّبَاعًا لِمَالِكٍ فِي الْمَنْعِ مِنْ بَيْعِهَا وَالْمُنَاقَلَةِ بِهَا وَإِنْ خَرِبَتْ.
وَقَدْ ذَكَرَ بَعْضُ مَنْ تَأَخَّرَ مِنْ الشُّيُوخِ، أَنَّ اخْتِيَارَهُمْ فِي تَجْوِيزِ الشَّهَادَةِ عَلَى الْخُطُوطِ فِي الْأَحْبَاسِ إنَّمَا كَانَ لِأَنَّهَا لابد أَنْ يَقْتَرِنَ بِهَا سَمَاعٌ بِالتَّحْبِيسِ، وَفُشُوٌّ عِنْدَ النَّاسِ فَقَوِيَتْ بِذَلِكَ الشَّهَادَةُ عَلَى الْخَطِّ فِيهَا، وَهُوَ مَعْنًى مَعْدُومٌ فِي غَيْرِهَا فِي الْغَالِبِ، قَالَ ابْنُ رَاشِدٍ: وَاَلَّذِي جَرَى بِهِ الْعَمَلُ عِنْدَنَا عَلَى مَا اخْتَارَهُ الشُّيُوخُ إجَازَتُهَا فِي الْأَحْبَاسِ، وَمَا جَرَى مَجْرَاهَا مِمَّا هُوَ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى، وَلَيْسَ بِحَدٍّ مِنْ الْحُدُودِ، وَاَلَّذِي جَرَى بِهِ الْعَمَلُ بِأَفْرِيقِيَّةَ فِي زَمَانِنَا الشَّهَادَةُ عَلَى الْخَطِّ.
تنبيه:
قَالَ ابْنُ رَاشِدٍ: جَرَتْ عَادَةُ الْقُضَاةِ أَنْ يَأْمُرُوا الشُّهُودَ أَنْ يَكْتُبُوا فِي الشَّهَادَةِ عَلَى الْخَطِّ، وَأَنَّهُ كَانَ فِي حِينِ إيقَاعِ الشَّهَادَةِ بِرَسْمِ الْعَدَالَةِ وَقَبُولِ الشَّهَادَةِ، إلَى أَنْ تُوُفِّيَ عَلَى ذَلِكَ، وَذَلِكَ حَسَنٌ إذَا لَمْ يَكُنْ الْقَاضِي يَعْرِفُ عَدَالَةَ الْمَشْهُودِ عَلَى خَطِّهِ، أَمَّا إذَا كَانَ يَعْلَمُ عَدَالَتَهُ أَوْ كَانَ يَشْهَدُ بَيْنَ النَّاسِ إلَى أَنْ تُوُفِّيَ أَوْ غَابَ، فَيُكْتَفَى بِأَنْ يَشْهَدَ عِنْدَهُ أَنَّ هَذَا خَطُّ فُلَانٍ، وَكَذَلِكَ رَأَيْته فِي بَعْضِ الْكُتُبِ، وَفَاوَضْت فِيهِ بَعْضَ الْجَمَاعَةِ فَقَالَ بِهِ.
تنبيه:
وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ ابْنُ رَاشِدٍ أَنَّهُ مَا جَرَتْ بِهِ عَادَةُ الْقُضَاةِ، ذَكَرَ الْمُتَيْطِيُّ: أَنَّهُ رُوِيَ عَنْ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ وَأَنَّهُ قَالَ: لَا تَجُوزُ الشَّهَادَةُ عَلَى خَطِّ الشَّاهِدِ وَمَعْرِفَةِ عَدَالَتِهِ، حَتَّى يَقُولَ الشُّهُودُ إنَّهُ كَانَ فِي تَارِيخِ الشَّهَادَةِ عَدْلًا، وَلَمْ يَزَلْ عَلَى ذَلِكَ حَتَّى تُوُفِّيَ، احْتِيَاطًا أَنْ تَكُونَ شَهَادَتُهُ قَدْ سَقَطَتْ بِجُرْحَةٍ أَوْ غَيْرِهَا، أَوْ كَانَ غَيْرَ مَقْبُولِ الشَّهَادَةِ، قَالَ الْمُتَيْطِيُّ: وَإِنْ زِدْتَ فِي التَّقْيِيدِ مِمَّنْ يَعْرِفُ أَنَّ الشَّاهِدَ الْمَذْكُورَ كَانَ يَعْرِفُ الْمَشْهُودَ عَلَيْهِ بِعَيْنِهِ وَاسْمِهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي عَقْدِ الشَّهَادَةِ مَعْرِفَتُهُ بِالْعَيْنِ وَالِاسْمِ، كَانَ أَكْمَلَ لِلشَّهَادَةِ وَأَتَمَّ لِلتَّقْيِيدِ، قَالَ وَهِيَ نُكْتَةٌ حَسَنَةٌ قَلَّ مَنْ يَعْرِفُهَا أَوْ يَهْتَدِي إلَيْهَا، هَذِهِ الزِّيَادَةُ هِيَ الَّتِي تَقَدَّمَ ذِكْرُهَا عَنْ ابْنِ زَرْبٍ، وَلَكِنْ أَعَدْنَاهَا هُنَا لِكَوْنِهَا أَحْسَنَ فِي السِّيَاقِ.

.فَصْلٌ تَقْيِيدَ الشَّهَادَةِ عَلَى خَطِّ الشَّاهِدِ الْمَيِّتِ:

فَصْلٌ: وَفِي الْمُتَيْطِيَّةِ: وَإِذَا أَرَدْت تَقْيِيدَ الشَّهَادَةِ عَلَى خَطِّ الشَّاهِدِ الْمَيِّتِ، كَتَبْت فِي ذَلِكَ وَقَفَ مَنْ يُوَقِّعُ اسْمَهُ بَعْدَ هَذَا مِنْ الشُّهَدَاءِ عَلَى خَطِّ الشَّاهِدِ فُلَانِ ابْنِ فُلَانٍ، الْوَاقِعَةِ شَهَادَتُهُ فِي أَسْفَلِ هَذَا الْعَقْدِ فِي الْبَيَاضِ الَّذِي فِي أَوَّلِهِ بَعْدَ سَطْرِ افْتِتَاحِهِ، كَذَا وَتَأَمَّلُوهُ وَأَتْقِنُوا النَّظَرَ فِيهِ، فَتَبَيَّنَ لَهُمْ وَتَحَقَّقَ عِنْدَهُمْ أَنَّ شَهَادَتَهُ الْمَذْكُورَةَ بِخَطِّ يَدِهِ الْمَعْهُودِ عَنْهُ، لَا يَشُكُّونَ فِي ذَلِكَ وَلَا يَمْتَرُونَ فِيهِ لِرُؤْيَتِهِمْ لَهُ، يَكْتُبُ الْمَرَّةَ بَعْدَ الْمَرَّةِ، وَيَعْرِفُونَ مَعَ ذَلِكَ أَنَّهُ كَانَ بِرَسْمِ الْعَدَالَةِ، وَقَبُولِ الشَّهَادَةِ فِي تَارِيخِ الشَّهَادَةِ الْمَذْكُورَةِ وَبَعْدَهَا إلَى أَنْ تُوُفِّيَ، وَإِنْ كَانَ غَائِبًا قُلْت: إلَى أَنْ غَابَ شَهِدَ بِذَلِكَ كُلِّهِ مَنْ عَرَفَهُ، حَسَبُ نَصِّهِ وَتَحَقُّقِهِ عَلَى حَالِ وَصْفِهِ، وَأَوْقَعَ بِهِ شَهَادَتَهُ إذْ سُئِلَهَا فِي تَارِيخِ كَذَا.
فرع:
إذَا قُلْنَا بِجَوَازِ الشَّهَادَةِ عَلَى خَطِّ الْغَائِبِ، فَقَدْ قَالَ ابْنُ رَاشِدٍ الْغَيْبَةُ الَّتِي تَجُوزُ الشَّهَادَةُ فِيهَا عَلَى الْخَطِّ عِنْدَ مَنْ يُجِيزُهَا، غَيْرُ مَحْدُودٍ عِنْدَ سَحْنُونٍ، وَإِنَّمَا قَالَ: الْغَيْبَةُ الْبَعِيدَةُ.
وَقَالَ ابْنُ الْمَاجِشُونِ: قَدْرُ مَا تُقْصَرُ فِيهِ الصَّلَاةُ.
وَقَالَ أَصْبَغُ: مِثْلَ مِصْرَ مِنْ أَفْرِيقِيَّةَ، وَمَكَّةَ مِنْ الْعِرَاقِ، وَهَذِهِ الْغَيْبَةُ مُعْتَبَرَةٌ فِي خَطِّ الْمُقِرِّ وَخَطِّ الشَّاهِدِ الْغَائِبِ.
الْقِسْمُ الثَّانِي خَطُّ الْمُقِرِّ قَالَ ابْنُ الْمَوَّازِ: لَمْ يَخْتَلِفْ مَالِكٌ وَأَصْحَابُهُ فِي جَوَازِ الشَّهَادَةِ عَلَى خَطِّ الْمُقِرِّ، وَالِاتِّفَاقُ حَكَاهُ أَيْضًا ابْنُ هِشَامٍ فِي مُفِيدِ الْحُكَّامِ.
وَفِي الْجَلَّابِ رِوَايَةٌ بِالْمَنْعِ وَهَلْ عَلَيْهِ يَمِينٌ مَعَ الشَّاهِدَيْنِ أَمْ لَا؟ رِوَايَتَانِ وَالْأَصَحُّ عَدَمُ اللُّزُومِ، وَهَذَا الْخِلَافُ فِي الْيَمِينِ إنَّمَا هُوَ عِنْدَ مَنْ يَرَى الْخِلَافَ فِي جَوَازِ الشَّهَادَةِ، وَأَمَّا مَنْ يَحْكِي الِاتِّفَاقَ فَلَا يَحْتَاجُ عِنْدَهُمْ إلَى زِيَادَةِ الْيَمِينِ، اُنْظُرْ ابْنَ عَبْدِ السَّلَامِ، وَهَذَا إذَا شَهِدَ لَهُ عَلَى الْخَطِّ شَاهِدَانِ، فَإِنْ قَامَ لَهُ شَاهِدٌ عَلَى الْخَطِّ فَهَلْ يَحْلِفُ مَعَهُ؟ رِوَايَتَانِ أَيْضًا عَنْ مَالِكٍ.
وَفِي الطُّرَرِ لِابْنِ عَاتٍ: وَالصَّوَابُ عَدَمُ الْحُكْمِ، قَالَ ابْنُ رَاشِدٍ.
وَفِي شَرْحِ الْجَلَّابِ لِلشَّرْمَسَاحِيِّ، أَنَّهُ يَحْلِفُ يَمِينَيْنِ يَمِينًا مَعَ شَاهِدٍ عَلَى الْخَطِّ، وَيَمِينًا أُخْرَى لِيُكَمِّلَ بِهَا السَّبَبَ، قَالَ فَصَحَّ أَنْ يَحْلِفَ يَمِينَيْنِ فِي حَقٍّ وَاحِدٍ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ عَلَى جِهَتَيْنِ مُخْتَلِفَتَيْنِ، لَا عَلَى جِهَةٍ وَاحِدَةٍ.
فرع:
وَفِي التَّنْبِيهِ لِابْنِ الْمُنَاصِفِ فِي الشَّهَادَةِ عَلَى خَطِّ الْمُقِرِّ قَالَ فَإِذَا تَحَقَّقَ الشُّهُودُ أَنَّ ذَلِكَ خَطُّ الشَّاهِدِ، وَلَمْ يُدَاخِلْهُمْ فِي ذَلِكَ شَكٌّ وَلَا غَلَبَةُ ظَنٍّ، فَلْيُعَرِّفَا عَلَى الشَّهَادَةِ، فَإِذَا ثَبَتَ ذَلِكَ عَلَى وَجْهِهِ حَلَفَ الطَّالِبُ حِينَئِذٍ وَاسْتَحَقَّ حَقَّهُ؛ لِأَنَّهَا شَهَادَةٌ نَاقِصَةٌ، وَلِذَلِكَ قَالَ مُطَرِّفٌ وَابْنُ الْمَاجِشُونِ أَنَّ الشَّهَادَةَ عَلَى الْخَطِّ لَا تَجُوزُ إلَّا فِيمَا كَانَ مَالًا، خَاصَّةً حَيْثُ تَجُوزُ الْيَمِينُ مَعَ الشَّاهِدِ.
فرع:
وَفِي الطُّرَرِ لِابْنِ عَاتٍ: مِمَّا نَقَلَهُ عَنْ الْكَافِي، مَنْ شَهِدَ لَهُ شَاهِدَانِ عَلَى الْخَطِّ غَرِيمُهُ بِمَا ادَّعَاهُ عَلَيْهِ وَهُوَ جَاحِدٌ، أَنَّهُ لَا يَحْكُمُ لَهُ بِمُجَرَّدِ الشَّهَادَةِ عَلَى خَطِّهِ حَتَّى يَحْلِفَ مَعَهَا، فَإِذَا حَلَفَ أَنَّهُ لَحَقٌّ وَمَا اقْتَضَيْت مِنْهُ شَيْئًا مِمَّا كَتَبَ بِخَطِّهِ، أُعْطِيَ حَقَّهُ، فَإِنْ كَانَ طَالِبُ الْحَقِّ مَيِّتًا، حَلَفَ وَرَثَتُهُ عَلَى الْبَتِّ أَيْضًا أَنَّهُ لَحَقٌّ وَمَا عَلِمْنَاهُ اقْتَضَى مِنْهُ شَيْئًا، وَهَذَا كُلُّهُ رَوَاهُ ابْنُ وَهْبٍ عَنْ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ، قَالَ الْمَازِرِيُّ: وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ ابْنُ الْجَلَّابِ مِنْ الْقَوْلِ بِالتَّحْلِيفِ مَعَ الشَّاهِدَيْنِ، قَدْ يَقَعُ فِي النَّفْسِ اسْتِنْكَارُهُ عَلَى أَصْلِ الْمَذْهَبِ، إذْ لَا يَقُولُ بِالتَّحْلِيفِ مَعَ شَهَادَةِ عَدْلَيْنِ شَهِدَا فِي حَقِّ أَحَدٍ مِنْ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ سِوَى ابْنَ أَبِي لَيْلَى، وَيَذْكُرُ ذَلِكَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ، لَكِنَّ بَعْضَ أَشْيَاخِي يَعْتَذِرُ عَنْ هَذَا، بِأَنَّ خَطَّ الْمُقِرِّ أُقِيمَ مَقَامَ شَاهِدٍ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الشَّاهِدَيْنِ عَلَى خَطِّهِ لَمْ يَشْهَدَا عَلَى لَفْظِهِ، وَإِنَّمَا شَهِدَا بِمَا يَدُلُّ عَلَى لَفْظِهِ، فَصَارَ خَطُّهُ كَشَاهِدٍ قَامَ عَلَيْهِ، فَنَقَلَ عَنْهُ هَذِهِ الشَّهَادَةَ شَاهِدَانِ، فلابد مِنْ الْيَمِينِ لِأَجْلِ الْمَنْقُولِ عَنْهُ الَّذِي هُوَ كَشَاهِدٍ وَاحِدٍ، وَلِأَجْلِ هَذَا التَّعْلِيلِ جَاءَ الْخِلَافُ فِي قَبُولِ شَاهِدٍ وَاحِدٍ عَلَى هَذَا الْخَطِّ؛ لِأَنَّا إذَا جَعَلْنَا الْمُقِرَّ قَائِمًا مَقَامَ شَاهِدٍ، فَإِنَّهُ لَا يَقْبَلُ نَقْلَ شَاهِدٍ وَاحِدٍ عَنْ شَاهِدٍ، وَإِذَا قُلْنَا إنَّ خَطَّهُ كَلَفْظِهِ، فَشَاهِدٌ وَاحِدٌ مَعَ الْيَمِينِ يُقْضَى بِهِ عَلَيْهِ.
فرع:
وَفِي الطُّرَرِ أَيْضًا: وَإِنْ كُتِبَتْ الْوَثِيقَةُ بِخَطِّ يَدِهِ وَشَهَادَتُهُ فِيهَا نَفَذَتْ؛ لِأَنَّهُ قَلِيلُ مَا يُضْرَبُ عَلَى جَمِيعِ ذَلِكَ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهَا شَهَادَتُهُ لَمْ تَنْفُذْ؛ لِأَنَّهُ رُبَّمَا كَتَبَ ثُمَّ لَا يَتِمُّ الْأَمْرُ بَيْنَهُمَا.
فرع:
وَإِنْ قَالَ: لِفُلَانٍ عِنْدِي أَوْ قِبَلِي كَذَا وَكَذَا بِخَطِّ يَدِهِ قَضَى عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ خَرَجَ مَخْرَجَ الْإِقْرَارِ بِالْحُقُوقِ، وَإِنْ كَتَبَ لِفُلَانٍ عَلَى فُلَانٍ إلَى آخِرِ الْوَثِيقَةِ، وَشَهَادَتُهُ فِيهَا لَمْ تَجُزْ إلَّا بِبَيِّنَةٍ سَوَاءٌ؛ لِأَنَّهُ أَخْرَجَهَا مَخْرَجَ الْوَثَائِقِ، وَجَرَتْ مَجْرَى الْحُقُوقِ، وَلَمْ تَجُزْ الشَّهَادَةُ فِيهَا عَلَى خَطِّهِ وَهُوَ تَفْسِيرٌ جَيِّدٌ، وَهِيَ مَسْأَلَةٌ فِيهَا اخْتِلَافٌ.
فرع:
وَفِي أَحْكَامِ ابْنِ بَطَّالٍ قَالَ مَالِكٌ: فِيمَنْ أَوْصَى أَنْ تُقْبَضَ دُيُونُهُ، وَأَنْ يُقْضَى مَا عَلَيْهِ فَوُجِدَ صَكٌّ بِأَرْبَعَةِ عَشَرَ دِينَارًا، وَفِي أَسْفَلِهِ بِخَطِّ الْمَيِّتِ قَبَضْت مِنْهَا ثَمَانِيَةَ دَنَانِيرَ مِمَّا فِي بَطْنِ هَذَا الْكِتَابِ، هَلْ يَحْلِفُ الْمَطْلُوبُ وَيَبْرَأُ مِنْ الثَّمَانِيَةِ؟ قَالَ: يَبْرَأُ مِنْهَا بِلَا يَمِينٍ وَيُؤْخَذُ مِنْهُ مَا بَقِيَ.
فرع:
وَفِي الطُّرَرِ لِابْنِ عَاتٍ: وَأَمَّا مَنْ أَسْلَمَ وَمُنِعَ مِنْ الْكَلَامِ وَأَشَارَ إشَارَةً مُفْهِمَةً أَوْ كَتَبَ بِخَطِّ يَدِهِ فَفِيهَا قَوْلَانِ، وَالْأَحْسَنُ أَنْ يَكُونَ مِيرَاثُهُ لِوَرَثَتِهِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ، وَكَذَلِكَ تَجُوزُ وَصِيَّتُهُ مِنْ الزَّاهِي لِابْنِ شَعْبَانَ.
فرع:
إذَا ادَّعَى رَجُلٌ عَلَى رَجُلٍ بِمَالٍ فَجَحَدَهُ، فَأَخْرَجَ الْمُدَّعِي صَحِيفَةً مَكْتُوبًا فِيهَا خَطَّ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ وَإِقْرَارَهُ بِمَا ادَّعَى عَلَيْهِ، وَزَعَمَ الْمُدَّعِي أَنَّهَا بِخَطِّ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، فَأَنْكَرَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ ذَلِكَ، وَلَيْسَ بَيْنَهُمَا بَيِّنَةٌ، فَطَلَب الْمُدَّعِي أَنْ يُجْبَرَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ عَلَى أَنْ يَكْتُبَ بِحَضْرَةِ الْعُدُولِ، وَيُقَابِلَ مَا كَتَبَهُ بِمَا أَظْهَرَهُ الْمُدَّعِي، فَأَفْتَى أَبُو الْحَسَنِ اللَّخْمِيُّ بِأَنَّهُ يُجْبَرُ عَلَى ذَلِكَ وَعَلَى أَنْ يُطَوِّلَ فِيمَا يَكْتُبُ تَطْوِيلًا لَا يُمْكِنُ مَعَهُ أَنْ يَسْتَعْمِلَ خَطًّا غَيْرَ خَطِّهِ وَأَفْتَى عَبْدُ الْحَمِيدِ الصَّائِغِ بِأَنَّ ذَلِكَ لَا يَلْزَمُهُ إذْ لَا يَلْزَمُهُ إحْضَارُ بَيِّنَةٍ تَشْهَدُ عَلَيْهِ، وَفَرَّقَ اللَّخْمِيُّ بَيْنَهُمَا، بِأَنَّ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ يَقْطَعُ بِتَكْذِيبِ الْبَيِّنَةِ الَّتِي تَشْهَدُ عَلَيْهِ، فَلَا يَلْزَمُهُ أَنْ يَسْعَى فِي أَمْرٍ يُقْطَعُ بِبُطْلَانِهِ.
وَأَمَّا خَطُّهُ فَإِنَّهُ صَادِرٌ عَنْهُ بِإِقْرَارِهِ، وَالْعُدُولُ يُقَابِلُونَ مَا يَكْتُبُهُ الْآنَ بِمَا أَحْضَرَهُ الْمُدَّعِي، وَيَشْهَدُونَ بِمُوَافَقَتِهِ لَهُ أَوْ مُخَالَفَتِهِ، وَرَجَّحَ أَكْثَرُ الشُّيُوخِ مَا أَفْتَى بِهِ اللَّخْمِيُّ.

.فَصْلٌ الشَّهَادَةُ عَلَى خَطِّ الْمُوصِي:

فَصْلٌ: وَمِنْ ذَلِكَ الشَّهَادَةُ عَلَى خَطِّ الْمُوصِي، قَالَ ابْنُ سَهْلٍ: سُئِلَ ابْنُ زَرْبٍ عَمَّنْ كَتَبَ وَصِيَّتَهُ وَأَشْهَدَ عَلَيْهَا، ثُمَّ كَتَبَ فِي أَسْفَلِهَا بِخَطِّ يَدِهِ: هَذِهِ الْوَصِيَّةُ قَدْ أَبْطَلْتهَا إلَّا كَذَا وَكَذَا مِنْهَا فَيَخْرُجُ عَنِّي، وَشَهِدَتْ بَيِّنَةٌ أَنَّهُ خَطَّهُ، فَقَالَ لَا تُرَدُّ بِهَذَا وَصِيَّتُهُ الَّتِي أَشْهَدَ عَلَيْهَا، وَهَذَا الَّذِي كَتَبَهُ كَمَنْ كَتَبَ وَصِيَّتَهُ بِخَطِّ يَدِهِ، وَلَمْ يُشْهِدْ عَلَيْهَا حَتَّى مَاتَ وَشَهِدَ عَلَى خَطِّهِ، فَإِنَّ وَصِيَّتَهُ لَا تَنْفُذُ، يُرِيدُ فَكَذَلِكَ مَا كَتَبَهُ فِي أَسْفَلِ هَذِهِ الْوَصِيَّةِ لَا يُلْتَفَتُ إلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُشْهِدْ عَلَيْهِ حَتَّى مَاتَ، اُنْظُرْهَا فِي أَحْكَامِ ابْنِ سَهْلٍ فِي رَسْمِ الشَّهَادَةِ عَلَى الْخَطِّ فِي الْحَبْسِ.

.فَصْلٌ الشَّهَادَةُ عَلَى قَضَاءِ الْقَاضِي:

فَصْلٌ: وَمِنْ ذَلِكَ الشَّهَادَةُ عَلَى قَضَاءِ الْقَاضِي، قَالَ فَضْلُ بْنُ سَلَمَةَ وَقَدْ حَكَى ابْنُ حَبِيبٍ عَنْ مُطَرِّفٍ وَأَصْبَغَ، أَنَّ قَضَاءَ الْقَاضِي يَثْبُتُ بِشَاهِدٍ وَاحِدٍ، وَيَحْلِفُ مَعَهُ الطَّالِبُ وَيَثْبُتُ لَهُ الْقَضَاءُ، قَالَ فَضْلٌ: وَهَذَا يُرِيدُ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ عَنْ مُطَرِّفٍ وَأَصْبَغَ فِي كِتَابِ الْقَاضِي، وَحُكْمُهُ أَنَّهُ لَا تَجُوزُ الشَّهَادَةُ عَلَى الْخَطِّ فِي كِتَابِ الْقَاضِي وَلَا حُكْمِهِ، وَمَذْهَبُ عَبْدِ الْمَلِكِ أَنَّهُ لَا تُقْبَلُ الشَّهَادَةُ عَلَى الْخَطِّ فِي حُكْمِ الْقَاضِي.
وَقَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ: وَفِي كِتَابِ مُحَمَّدِ عَنْ أَشْهَبَ جَوَابُ الشَّهَادَةِ عَلَى الْخَطِّ فِي حُكْمِ الْقَاضِي، وَمَنَعَ ابْنُ الْقَاسِمِ وَعَبْدُ الْمَلِكِ بْنِ الْمَاجِشُونِ وَابْنُ حَبِيبٍ ثُبُوتَ الْحُكْمِ بِشَاهِدٍ وَيَمِينٍ.
فرع:
وَإِذَا قَدِمَ رَجُلٌ إلَى وَكِيلِ رَجُلٍ بِكِتَابِ مُوَكِّلِهِ أَنْ يَدْفَعَ لَهُ سِلْعَةً أَوْ غَيْرَهَا، فَعَرَفَ خَطَّ مُوَكِّلِهِ وَدَفَعَ ذَلِكَ لِلَّذِي قَدِمَ بِالْكِتَابِ، فَلَمَّا اجْتَمَعَ الْوَكِيلُ وَالْمُوَكِّلُ أَنْكَرَ الْمُوَكِّلُ أَنْ يَكُونَ كَتَبَ ذَلِكَ أَوْ أَرْسَلَ إلَيْهِ أَحَدًا، فَإِنَّهُ يَحْلِفُ عَلَى ذَلِكَ وَيَغْرَمُهُ الْوَكِيلُ انْتَهَى.
وَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَأْتِيَ فِيهَا مِنْ الْخِلَافِ مَا فِي الْمَسْأَلَةِ الَّتِي فَوْقَ هَذِهِ عَلَى مَا يَأْتِي ذِكْرُهُ، هَلْ يُجْبَرُ أَنْ يَكْتُبَ خَطَّهُ بِحَضْرَةِ الْعُدُولِ وَيُقَابِلُوهُ بِالْكِتَابِ الَّذِي قَدِمَ بِهِ الرَّسُولُ؟ أَوْ لَا يُجْبَرُ عَلَى ذَلِكَ.
فرع:
وَفِي الْمُتَيْطِيَّةِ: اُخْتُلِفَ، إذَا كَانَتْ شَهَادَةُ الشَّاهِدِ فِي ذِكْرِ حَقٍّ عَلَى أَبِيهِ، ثُمَّ مَاتَ أَبُوهُ وَهُوَ وَارِثُهُ، فَقَامَ صَاحِبُ الْحَقِّ عَلَيْهِ بِذِكْرِ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ شَهَادَتُهُ، فَأَقَرَّ بِالشَّهَادَةِ وَزَعَمَ أَنَّهُ كَتَبَهَا عَلَى غَيْرِ حَقٍّ، أَوْ أَنْكَرَهَا فَشَهِدَ عَلَى خَطِّهِ، فَقَالَ أَصْبَغُ وَمُطَرِّفٌ: يُؤْخَذُ الْحَقُّ مِنْهُ؛ لِأَنَّ الْمَالَ صَارَ إلَيْهِ فَكَأَنَّهُ شَهِدَ عَلَى نَفْسِهِ.
وَقَالَ ابْنُ الْمَاجِشُونِ: لَيْسَ مِثْلَهُ وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهُ الْحَقُّ إلَّا بِإِقْرَارٍ سِوَى خَطِّهِ وَشَهَادَتِهِ.
وَقَالَ ابْنُ حَبِيبٍ بِقَوْلِ مُطَرِّفٍ.
الْقَسَمُ الثَّالِثُ شَهَادَةُ الشَّاهِدِ عَلَى خَطِّ نَفْسِهِ فِي الْوَثِيقَةِ إذَا عَلِمَ أَنَّهُ خَطُّهُ وَلَمْ يَذْكُرْ الْمَوْطِنَ وَالْمَرْوِيُّ عَنْ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ أَنَّهُ إذَا لَمْ يَشُكَّ فِي خَطِّهِ، وَلَمْ يَرَ فِي الْكِتَابِ مَحْوًا وَلَا إلْحَاقًا وَلَا شَيْئًا يَكْرَهُهُ فَلْيَشْهَدْ، وَبِهِ قَالَ ابْنُ الْمَاجِشُونِ وَالْمُغِيرَةُ وَابْنُ أَبِي حَازِمٍ وَابْنُ دِينَارٍ وَابْنُ وَهْبٍ وَابْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ وَسَحْنُونٌ، وَرَوَاهُ مُطَرِّفُ عَنْ مَالِكٍ، قَالَ مُطَرِّفٌ: ثُمَّ رَجَعَ فَقَالَ لَا يَشْهَدُ وَإِنْ عَرَفَ خَطَّهُ، حَتَّى يَذْكُرَ الشَّهَادَةَ أَوْ بَعْضَهَا أَوْ مَا يَدُلُّ مِنْهَا عَلَى أَكْثَرِهَا، وَبِهِ قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ وَأَصْبَغُ، قَالَ ابْنُ حَبِيبٍ: وَهُوَ أَحْوَطُ وَالْأَوَّلُ جَائِزٌ.
وَفِي الْمُدَوَّنَةِ لَا يَشْهَدُ حَتَّى يَسْتَيْقِنَ الشَّهَادَةَ وَيَذْكُرَهَا.
وَفِي سَمَاعِ أَبِي زَيْدٍ لَا يَشْهَدُ حَتَّى يَذْكُرَ مَا فِي الْكِتَابِ حَرْفًا بِحَرْفِ، وَقَالَ ابْنُ نَافِعٍ فِي الْمَجْمُوعَةِ عَنْ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: وَقَدْ أَثْبَتُّ غَيْرَ مَرَّةٍ بِخَطِّ يَدِي، وَلَمْ أُثْبِتْ الشَّهَادَةَ فَلَمْ أَشْهَدْ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا شَهِدْنَا إِلا بِمَا عَلِمْنَا} [يوسف: 81].
مَسْأَلَةٌ:
أَمَّا إذَا كَانَ كِتَابُ الْوَثِيقَةِ كُلُّهُ بِخَطِّ الشَّاهِدِ، وَشَهَادَتُهُ فِي أَسْفَلِهِ وَهُوَ يَعْرِفُ خَطَّهُ، وَلَمْ يَرْتَبْ غَيْرَ أَنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ الشَّهَادَةَ، فَحَكَى ابْنُ يُونُسَ الِاتِّفَاقَ فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ: عَلَى جَوَازِ الشَّهَادَةِ وَإِنْ لَمْ يَذْكُرْهَا.
وَفِي الْمُدَوَّنَةِ مَا يَدُلُّ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ، وَأَنَّهُ لَا يَشْهَدُ بِهِ. مِنْ التَّنْبِيهِ لِابْنِ الْمُنَاصِفِ.
مَسْأَلَةٌ:
وَفِي أَحْكَامِ ابْنِ سَهْلٍ فِي رَجُلٍ قَامَ بِكِتَابِ صَدَاقٍ، وَفِيهِ نَحْوُ سَطْرٍ مَمْحُوٍّ، وَفِي ذَلِكَ الْمَمْحُوِّ ذُكِرَ شَرْطُ الرَّحِيلِ، فَأَجَابَ ابْنُ لُبَابَةَ وَغَيْرُهُ: أَنَّ الْكِتَابَ يَصِحُّ كُلُّهُ غَيْرَ الشَّرْطِ، فَإِنَّهُ يَسْقُطُ إذْ قَدْ مُحِيَ إلَّا أَنْ تُثْبِتَهُ الْبَيِّنَةُ، فَإِنْ لَمْ تَشْهَدْ الْبَيِّنَةُ عَلَيْهِ حَلَفَ الزَّوْجُ بِاَللَّهِ مَا أَعْرِفُ هَذَا الشَّرْطَ وَلَا شَرَطْته عَلَى نَفْسِي وَيَرْحَلُ بِزَوْجَتِهِ.
فرع:
وَإِذَا قُلْنَا إنَّهُ يَشْهَدُ حَيْثُ يُوقِنُ أَنَّهُ خَطُّ يَدِهِ، وَإِنْ لَمْ يَذْكُرْ الشَّهَادَةَ فَيَشْهَدُ، وَلَا يُعْرَفُ لِلْحَاكِمِ أَنَّهُ لَمْ يَذْكُرْهَا، فَإِنْ عَرَفَ الْحَاكِمُ فَلَا يَقْبَلُهَا.
وَقَالَ سَحْنُونٌ: أَرَى أَنْ يُجِيزَ شَهَادَتَهُ، وَإِنْ ذَكَرَ لِلْحَاكِمِ أَنَّهُ لَمْ يَعْرِفْهَا إذَا لَمْ يَرْتَبْ الشَّاهِدُ فِي شَيْءٍ مِنْهَا، وَأَمَّا إنْ شَكَّ فِي شَيْءٍ مِنْهَا.
لَمْ تَجُزْ لَهُ شَهَادَةٌ بِهَا. مِنْ التَّنْبِيهِ لِابْنِ الْمُنَاصِفِ. وَأَمَّا عَلَى الْقَوْلِ الَّذِي رَجَعَ إلَيْهِ مَالِكٌ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ، فَفِي التَّنْبِيهِ أَنَّهُ لَا يُؤَدِّيهَا؛ لِأَنَّهُ لَا فَائِدَةَ فِي أَدَائِهَا إذَا لَمْ يَحْكُمْ الْحَاكِمُ بِهَا، قَالَ غَيْرُهُ وَقِيلَ: يُؤَدِّيهَا وَيُعَرِّفُ الْحَاكِمَ، وَلَا يَقْبَلُهَا الْحَاكِمُ إلَّا أَنْ يَكُونَ يَرَى بِالْقَوْلِ الْأَوَّلِ فَيَقْبَلُهَا، وَلِهَذَا وَجَبَ عَلَى الشَّاهِدِ الْأَدَاءُ وَتَعْرِيفُ حَالِهِ؛ لِأَنَّ الْحَاكِمَ لَهُ أَنْ يَجْتَهِدَ فِي ذَلِكَ فَيَقْبَلَهَا.
وَقَالَ ابْنُ الْفَرَسِ: قَالَ بَعْضُهُمْ فِي رِوَايَةِ الْجَوَازِ إنَّهَا أَوْسَعُ؛ لِأَنَّ حَفِظَ ذَلِكَ صَعْبٌ لَا يُسْتَطَاعُ، وَيَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ هَذَا الْقَوْلِ قَوْله تَعَالَى: {وَلا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ} [البقرة: 282]، إلَى قَوْله تَعَالَى: {وَأَدْنَى أَلا تَرْتَابُوا} [البقرة: 282] أَيْ لَا تَشُكُّوا وَقَدْ عَلِمَ تَعَالَى أَنَّ النَّاسَ يَنْسَوْنَ فَلِهَذَا أَمَرَ بِالْكَتْبِ.
مَسْأَلَةٌ:
تَقَدَّمَ فِي الْفَصْلِ الثَّامِنِ فِيمَا يَنْبَغِي لِلْقَاضِي أَنْ يَتَنَبَّهَ لَهُ فِي أَدَاءِ الشَّهَادَةِ ذِكْرُ مَا يَلْزَمُ الشُّهُودَ مِنْ حِفْظِ مَا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ الْوَثِيقَةُ، وَمَا لَا يَلْزَمُهُمْ مِنْ ذَلِكَ فِي شَهَادَاتِ الِاسْتِرْعَاءِ وَغَيْرِهَا.
تنبيه:
وَفِي الْمُتَيْطِيَّةِ قَالَ بَعْضُ الشُّيُوخِ وَيَتَحَصَّلُ الْخِلَافُ فِي جُمْلَةِ هَذِهِ الْمَسَائِلِ عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْوَالٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ الشَّهَادَةَ عَلَى الْخَطِّ لَا تَجُوزُ فِي شَيْءٍ مِنْ الْأَشْيَاءِ، إلَّا عَلَى خَطِّ الْمُقِرِّ عَلَى نَفْسِهِ. وَالثَّانِي: لَا تَجُوزُ. وَالثَّالِثُ: أَنَّهَا لَا تَجُوزُ إلَّا عَلَى خَطِّ الْمُقِرِّ عَلَى نَفْسِهِ وَعَلَى خَطِّ الْمُشَاهِدِ. وَالرَّابِعُ: أَنَّهَا تَجُوزُ فِي ثَلَاثَةِ مَوَاضِعَ عَلَى خَطِّ الْمُقِرِّ عَلَى نَفْسِهِ، وَعَلَى خَطِّ الشَّاهِدِ الْمَيِّتِ وَالْغَائِبِ وَشَهَادَتِهِ عَلَى خَطِّ نَفْسِهِ.

.الْبَابُ الْخَامِسُ وَالثَّلَاثُونَ فِي الْقَضَاءِ بِشَهَادَةِ الِاسْتِرْعَاءِ:

قَالَ ابْنُ الْعَطَّارِ: وَيَصَدَّقُ الْمُسْتَرْعَى فِي الْحَبْسِ فِيمَا يَذْكُرُهُ مِنْ الْوُجُوهِ الَّتِي يَتَوَقَّعُهَا، وَإِنْ لَمْ يَعْرِفْ الشُّهُودُ تِلْكَ الْوُجُوهَ الَّتِي يَتَوَقَّعُهَا وَيَكْتُبُ فِي ذَلِكَ أَشْهَدَ فُلَانٌ شُهُودَ هَذَا الْكِتَابِ شَهَادَةَ اسْتِرْعَاءٍ وَاسْتِحْفَاظٍ لِلشَّهَادَةِ، أَنَّهُ مَتَى عُقِدَ فِي دَارِهِ بِمَوْضِعِ كَذَا تَحْبِيسًا عَلَى بَنِيهِ أَوْ عَلَى أَحَدٍ مِنْ النَّاسِ، فَإِنَّمَا يَفْعَلُهُ لِأَمْرٍ يَتَوَقَّعُهُ عَلَى نَفْسِهِ أَوْ عَلَى مَالِهِ الْمَذْكُورِ، وَلْيُمْسِكْهُ عَلَى نَفْسِهِ وَيَرْجِعُ فِيمَا عَقَدَهُ فِيهِ عِنْدَ أَمْنِهِ مِمَّا تَخَوَّفَهُ، وَأَنَّهُ لَمْ يُرِدْ بِمَا عَقَدَهُ فِيهِ وَجْهَ الْقُرْبَةِ وَلَا وَجْهَ الْحَبْسِ، بَلْ لِمَا يَخْشَاهُ، وَأَنَّهُ غَيْرُ مُلْتَزِمٍ لِمَا يَعْقِدُهُ فِيهِ مِنْ التَّحْبِيسِ، وَأَشْهَدَ عَلَيْهِ بِذَلِكَ فِي تَارِيخِ كَذَا، وَكَذَلِكَ إذَا اسْتَرْعَى الرَّجُلُ فِي عِتْقِ عَبْدِهِ أَوْ أَمَتِهِ أَنَّهُ إنَّمَا يَفْعَلُهُ لِيُحَلِّفَهُ وَقَلَّتْ اسْتِقَامَتُهُ لِيَسْتَرْعِيَ بِذَلِكَ السَّبَبِ، وَكَذَلِكَ يَجُوزُ الِاسْتِرْعَاءُ فِي الطَّلَاقِ وَالتَّدْبِيرِ وَالْهِبَةِ.
فرع:
وَفِي أَحْكَامِ ابْنِ بَطَّالٍ وَإِذَا خَافَ الرَّجُلُ أَنْ يَطْلُبَ مِنْهُ عَبْدَهُ بِالْبَيْعِ ظَالِمٌ، فَلْيُعْتِقْهُ وَيَشْهَدْ سِرًّا أَنِّي إنَّمَا أَفْعَلُ ذَلِكَ لِئَلَّا يَطْلُبُهُ مِنِّي هَذَا الظَّالِمُ، وَيَجُوزُ ذَلِكَ، وَسَوَاءٌ أَشْهَدَ عَلَى الْعِتْقِ شُهُودَ الِاسْتِرْعَاءِ أَوْ غَيْرَهُمْ.
فرع:
وَإِذَا خَطَبَ مَنْ هُوَ قَاهِرٌ لِشَخْصٍ بَعْضَ بَنَاتِهِ، فَأَنْكَحَهُ الْمَخْطُوبُ إلَيْهِ، وَأَشْهَدَ سِرًّا أَنِّي إنَّمَا أَفْعَلُهُ خَوْفًا مِنْهُ، وَهُوَ مِمَّنْ يُخَافُ عَدَاوَتُهُ، وَأَنَّهُ إنْ شَاءَ اخْتَارَهَا لِنَفْسِهِ بِغَيْرِ نِكَاحٍ، فَأَنْكَحَهُ عَلَى ذَلِكَ فَهُوَ نِكَاحٌ مَفْسُوخٌ أَبَدًا، قَالَهُ ابْنُ الْمَاجِشُونِ وَأَصْبَغُ وَابْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ.
فرع:
وَإِذَا بَنَى ظَالِمٌ أَوْ مَنْ يُخَافُ شَرُّهُ غُرَفًا مُحْدَثَةً بِإِزَاءِ دَارِ رَجُلٍ، وَفَتْحَ بَابًا يَطَّلِعُ مِنْهُ عَلَى مَا فِي دَارِهِ عَلَى وَجْهِ الِاسْتِطَالَةِ لِقُدْرَتِهِ، وَجَاهِهِ فَيَشْهَدُ الرَّجُلُ أَنَّ سُكُوتَهُ عَنْهُ لِخَوْفِهِ مِنْهُ عَلَى نَفْسِهِ أَنْ يُضِرَّهُ وَيُؤْذِيَهُ وَأَنَّهُ غَيْرُ رَاضٍ بِذَلِكَ وَأَنَّهُ قَائِمٌ عَلَيْهِ بِحَقِّهِ مَتَى أَمْكَنَهُ، وَتَشْهَدُ الْبَيِّنَةُ لِمَعْرِفَتِهِمْ لِلضَّرُورَةِ، وَأَنَّ الْمُحْدِثَ لِذَلِكَ مِمَّا يُتَّقَى شَرُّهُ فَيَنْفَعُهُ ذَلِكَ مَتَى قَامَ بِطَلَبِ حَقِّهِ.
فرع:
وَمَنْ اسْتَرْعَى فِي حَبْسٍ وَكَانَ تَارِيخُ الْحَبْسِ وَالِاسْتِرْعَاءِ وَاحِدًا، كَانَ جَائِزًا مِنْ الطُّرَرِ لِابْنِ عَاتٍ.
فرع:
وَمَنْ اسْتَرْعَى فِي حَبْسٍ عَنْ تَقِيَّةٍ اتَّقَاهَا ثُمَّ أَشْهَدَ بَعْدَ ذَلِكَ بِإِمْضَائِهِ جَازَ؛ لِأَنَّهُ عَلَى مِلْكِهِ.
فرع:
وَفِي أَحْكَامِ ابْنِ سَهْلٍ، وَمَنْ لَهُ دَارٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَخِيهِ فَبَاعَ أَخُوهُ جَمِيعَهَا مِمَّنْ يَعْلَمُ اشْتِرَاكَهُمَا فِيهَا، وَلَهُ سُلْطَانٌ وَقُدْرَةٌ وَخَافَ ضَرَرَهُ إذَا تَكَلَّمَ فِي ذَلِكَ، فَاسْتَرْعَى أَنَّ سُكُوتَهُ عَلَى الْكَلَامِ فِي نَصِيبِهِ وَفِي الشُّفْعَةِ فِي نَصِيبِ أَخِيهِ لِمَا يَتَوَقَّعُهُ مِنْ تَحَامُلِ الْمُشْتَرِي عَلَيْهِ وَإِضْرَارِهِ بِهِ، وَأَنَّهُ غَيْرُ تَارِكٍ لِطَلَبِهِ مَتَى أَمْكَنَهُ، ثُمَّ قَالَ: فَإِذَا ذَهَبَتْ التَّقِيَّةُ وَقَامَ فِي فَوْرِهَا بِهَذِهِ الْوَثِيقَةِ أَثْبَتَهَا، وَأَثْبَتَ الْمِلْكَ وَالِاشْتِرَاكَ وَأَعْذَرَ إلَى أَخِيهِ وَإِلَى الْمُشْتَرِي، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُمَا مِدْفَعٌ، قَضَى لَهُ بِحِصَّتِهِ وَبِالشُّفْعَةِ، وَإِنْ تَرَكَ الْقِيَامَ بَعْدَ ذَهَابِ التَّقِيَّةِ، فَقَالَ ابْنُ الْهِنْدِيِّ: إنْ تَرَكَ الْقِيَامَ عَشَرَةَ أَعْوَامٍ أَوْ نَحْوَهَا فَلَا قِيَامَ لَهُ فِيهَا، وَإِنْ أَحَالَهَا الْمُبْتَاعُ بِالزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ بَعْدَ زَوَالِ التَّقِيَّةِ بِأَقَلَّ مِنْ عَشَرَةِ أَعْوَامٍ، فَلَيْسَتْ حِيَازَةً تَمْنَعُهُ الْقِيَامَ، قَالَ ابْنُ سَهْلٍ وَهَذَا عِنْدِي ضَعِيفٌ؛ لِأَنَّ سُكُوتَهُ الْأَعْوَامَ وَتَرْكَهُ الْقِيَامَ بَعْدَ ارْتِفَاعِ التَّقِيَّةِ، يَدُلُّ عَلَى رِضَاهُ بِالْبَيْعِ، وَلَا أَرَى لَهُ اعْتِرَاضًا، وَإِنْ لَمْ يَسْكُتْ إلَّا الْعَامَيْنِ وَالثَّلَاثَةَ وَنَحْوَهَا بَعْدَ زَوَالِ مَا كَانَ يَتَّقِيهِ فَلَا شَيْءَ لَهُ؛ لِأَنَّهُ مَتَى زَالَ فَكَانَ الْبَيْعُ وَقَعَ حِينَئِذٍ.
وَفِي الطُّرَرِ عَنْ ابْنِ سَهْلٍ: أَنَّ الْعَامَيْنِ فِي ذَلِكَ كَافٍ، يُرِيدُ أَنَّهُ وَإِنْ قَامَ بَعْدَ ذَلِكَ فَلَيْسَ لَهُ إلَّا قِيمَةُ نَصِيبِهِ، وَيُحْمَلُ أَمْرُهُ عَلَى الرِّضَا بِبَيْعِ نَصِيبِهِ وَإِعْرَاضِهِ عَنْ الشُّفْعَةِ.
عَقْدُ اسْتِرْعَاءٍ فِي صَلَاحِ حَالٍ يُكْتَبُ عُرِفَ مَنْ يَضَعُ خَطَّهُ آخِرَ هَذَا الْمَكْتُوبِ فُلَانٌ بْنُ فُلَانٍ، بِعَيْنِهِ وَاسْمِهِ مِنْ أَهْلِ مَوْضِعِ كَذَا مَعْرِفَةً تَامَّةً، وَيَعْرِفُونَهُ مُقْبِلًا عَلَى مَا يَعْنِيهِ مِنْ أَمْرِ دِينِهِ وَدُنْيَاهُ، مُسْتَقِيمَ الطَّرِيقَةِ مُخَالِطًا لِأَهْلِ الصَّلَاحِ، مُجَانِبًا لِأَهْلِ الْفَسَادِ، لَا يَعْلَمُونَهُ انْتَقَلَ عَنْ هَذِهِ الصِّفَةِ إلَى حِينِ إيقَاعِهَا، لِشَهَادَتِهِمْ فِي هَذَا الْكِتَابِ مِنْ تَارِيخِ كَذَا.
فَائِدَةٌ: إنَّهُ يَنْدَفِعُ عَنْهُ بِهَذَا الْعَقْدِ تَعَسُّفُ الْوُلَاةِ، وَتَنْتَفِي عَنْهُ الظُّنُونُ وَالتُّهَمُ، وَتَسْقُطُ عَنْهُ يَمِينُ التُّهْمَةِ وَلَا يَسْتَوْجِبُ هَذَا الْعَقْدُ الْعَدَالَةَ.
عَقْدُ اسْتِرْعَاءٍ يُوجِبُ الْعُقُوبَةَ وَمَنْ اُسْتُرْعِيَ عَلَيْهِ الشَّهَادَةُ أَنَّهُ مِنْ أَهْلِ الْفِسْقِ وَالدَّعَارَةِ وَالشَّرِّ وَمُجَانَبَةِ أَهْلِ الْخَيْرِ وَالصَّلَاحِ، وَثَبَتَ عَلَيْهِ هَذَا، وَجَبَتْ عُقُوبَتُهُ وَإِطَالَةُ سَجْنِهِ حَتَّى تَظْهَرَ تَوْبَتُهُ وَيَصْلُحَ حَالُهُ، وَلَوْ شَهِدَ لَهُ شُهُودٌ عُدُولٌ مَعَ هَذِهِ الشَّهَادَةِ بِأَنَّهُ مِنْ أَهْلِ الْعَافِيَةِ وَالصَّلَاحِ، لَمْ تُفِدْ شَهَادَتُهُمْ شَيْئًا وَالشَّهَادَةُ الْأُولَى أَعْلَمُ؛ لِأَنَّهُمْ شَهِدُوا بِبَاطِنٍ، وَالثَّانِيَةُ بِظَاهِرٍ، فَالْأُولَى أَقْوَى إلَّا أَنْ يَكُونَ عِنْدَهُ مِدْفَعٌ.
عَقْدُ اسْتِرْعَاءٍ فِي التَّبَرِّي مِنْ مُذْنِبٍ أَشْهَدَ فُلَانٌ بْنُ فُلَانٍ أَنَّهُ لَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّ ابْنَهُ فُلَانًا، مُخَالِطٌ لِأَهْلِ التُّهَمِ وَالرِّيَبِ، وَخَافَ أَنْ يَجْنِيَ جِنَايَةً أَوْ يَجُرَّ جَرِيرَةً فَيُعَلَّلُ عَلَيْهِ وَيُؤْذَى بِسَبَبِهِ فَتَبَرَّأَ مِنْهُ لِأَجْلِ ذَلِكَ، وَأَبْعَدَهُ عَنْ نَفْسِهِ وَهَجَرَهُ غَضَبًا لِلَّهِ تَعَالَى إلَى أَنْ يَتُوبَ وَيَرْجِعَ عَمَّا هُوَ عَلَيْهِ، شَهِدَ بِذَلِكَ مَنْ يَعْرِفُ أَبْعَادَهُ، فَإِذَا وَقَعَ مِنْهُ شَيْءٌ لَمْ يَضُرَّهُ ذَلِكَ.
فَائِدَةٌ: إنَّهُ يَنْدَفِعُ عَنْهُ بِهَذَا الْعَقْدُ تَعَسُّفُ الْوُلَاةِ وَأَخْذُهُمْ الْوَلِيَّ بِالْوَلَاءِ فِي الْجِنَايَاتِ، وَإِنْ كَانَتْ تِلْكَ أَحْكَامُ الْجَاهِلِيَّةِ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام: 164].
عَقْدُ اسْتِرْعَاءٍ يُوجِبُ الْيَمِينَ إذَا شَهِدَ عَلَى رَجُلٍ أَنَّهُ مِنْ أَهْلِ الشَّرِّ وَالْغَضَبِ وَالْعَدَاءِ، أَوْ مِنْ أَهْلِ التُّهَمِ، وَالْمَظِنَّةُ مِمَّنْ تَلْحَقُهُ الْيَمِينُ فِيمَا اُدُّعِيَ عَلَيْهِ وَعَقَدَ بِذَلِكَ مَكْتُوبًا، فَإِنَّ هَذَا الْعَقْدَ يُوجِبُ الْيَمِينَ عَلَى مَنْ عُقِدَ عَلَيْهِ فِيمَا اُدُّعِيَ عَلَيْهِ، فَإِنْ كَانَ مَجْهُولَ الْعَيْنِ لَمْ تَقَعْ الشَّهَادَةُ إلَّا عَلَى عَيْنِهِ، وَإِنْ كَانَ مَعْلُومًا جَازَتْ الشَّهَادَةُ فِي غَيْبَتِهِ، وَلَا شَيْءَ عَلَى مَنْ رَمَاهُ وَنَسَبَهُ إلَى غَضَبٍ أَوْ تَعَدٍّ إذَا ثَبَتَ الْعَقْدُ الْمَذْكُورُ.
عَقْدُ اسْتِرْعَاءٍ فِي عَدَاوَةٍ لِيَكُونَ عَدُوَّهُ وَصُورَتُهُ أَنْ يَكْتُبَ أَشْهَدَ الْقَاضِي فُلَانٌ عَلَى نَفْسِهِ، أَنَّ فُلَانًا حَضَرَ مَجْلِسَ نَظَرِهِ فَذَكَرَ أَنَّ فُلَانًا عَدُوٌّ لَهُ مِنْ قِدَمِ الزَّمَانِ فِي أُمُورِ الدُّنْيَا وَأَسْبَابِهَا.
وَأَنَّهُ يَخْشَى أَنْ يَمُوتَ مَنْ يَعْلَمُ قِدَمَ الْعَدَاوَةِ وَمَا بَيْنَهُمَا، فَيَشْهَدُ عَلَيْهِ هَذَا الرَّجُلُ فِيمَا يَضُرُّهُ فِي نَفْسِهِ وَمَالِهِ فِي وَقْتٍ لَا يَجِدُ مَنْ يَعْرِفُ قِدَمَ الْعَدَاوَةِ، وَسَأَلَ الْقَاضِيَ أَنْ يَأْذَنَ لَهُ فِي إثْبَاتِ ذَلِكَ عِنْدَهُ لِيُقَيِّدَ لَهُ بِذَلِكَ عَقْدًا يَكُونُ عِنْدَهُ، فَنَظَرَ الْقَاضِي فِيمَا سَأَلَهُ مِنْ ذَلِكَ نَظَرًا أَوْجَبَ لَهُ إبَاحَةَ ذَلِكَ لَهُ، فَأَذِنَ لَهُ الْقَاضِي فِي ذَلِكَ فَأَتَاهُ بِفُلَانٍ وَفُلَانٍ، فَشَهِدُوا أَنَّهُمْ يَعْرِفُونَ فُلَانًا مُعَادِيًا لِفُلَانٍ مُذْ أَدْرَكُوا ذَلِكَ بِعُقُولِهِمْ فِي أَمْرِ الدُّنْيَا، وَطَالِبًا لِمَا يَضُرُّهُ، وَيَعْلَمُونَ ذَلِكَ مُسْتَمِرًّا، وَلَا يَعْلَمُونَهُ رَجَعَ عَنْ ذَلِكَ إلَى حِينِ شَهَادَتِهِمْ، وَذَلِكَ فِي تَارِيخِ كَذَا، فَنَظَرَ الْقَاضِي فِي ذَلِكَ فَقَبِلَ شَهَادَتَهُمْ، وَأَشْهَدَ عَلَى نَفْسِهِ بِثُبُوتِ ذَلِكَ عِنْدَهُ.
وَفِي الطُّرَرِ: وَلَا يَلْزَمُ الْقَاضِيَ، وَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُجِيبَ إلَى مِثْلِ هَذَا وَشَبَهِهِ مِمَّا لَا خُصُومَةَ فِيهِ إلَّا أَنْ يَشَاءَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا نُصِبَ لِمَا فِيهِ الْخُصُومَاتُ.
فرع:
وَفِي مُخْتَصَرِ الْوَاضِحَةِ فِي بَيْعِ الْمَضْغُوطِ، وَإِذَا خَافَ الرَّجُلُ مِنْ عَبْدِهِ أَنْ يَسْتَبِيعَ مِنْ ظَالِمٍ فَأَعْتَقَهُ أَوْ دَبَّرَهُ أَوْ كَاتَبَهُ لِتَطِيبَ بِذَلِكَ نَفْسُهُ، وَيَشْهَدُ سِرًّا أَنَّهُ إنَّمَا يَفْعَلُ ذَلِكَ لِيُقِرَّ، وَلَا يَسْتَبِيعَ مِنْ ذَلِكَ الظَّالِمِ، فَذَلِكَ جَائِزٌ إذَا أَشْهَدَ عَلَى ذَلِكَ حِينَ يُرِيدُ أَنْ يَفْعَلَهُ.
فرع:
وَلَوْ امْتَنَعَ الْعَبْدُ مِنْ سَيِّدِهِ وَاسْتَجَارَ بِغَاصِبٍ أَوْ سَرَدَ عِنْدَهُ، فَأَشْهَدَ سِرًّا أَنَّهُ أَعْتَقَهُ أَوْ دَبَّرَهُ، فَإِنَّمَا يَفْعَلُ ذَلِكَ لِيُخْرِجَهُ مِنْ الْمَكَانِ الَّذِي امْتَنَعَ فِيهِ، فَإِنَّ إشْهَادَهُ يَنْفَعُهُ بِذَلِكَ.
فرع:
إذَا أَشْهَدَ فِي السِّرِّ أَنَّهُ إنَّمَا يُصَالِحُهُ لِأَجْلِ إنْكَارِهِ، وَأَنَّهُ مَتَى وَجَدَ بَيِّنَةً قَامَ بِهَا، فَالصُّلْحُ غَيْرُ لَازِمٍ لَهُ إذَا ثَبَتَ إنْكَارُهُ، وَثَبَتَ الْحَقُّ وَغَايَةُ مَا عَلَيْهِ الْيَمِينُ أَنَّهُ مَا عَلِمَ بِبَيِّنَتِهِ.
وَقَالَ مُطَرِّفٌ لَا يَنْفَعُهُ مَا أَشْهَدَ بِهِ فِي السِّرِّ.
وَقَالَ ابْنُ مُزَيْنٍ: لَا يَنْفَعُ إشْهَادُ السِّرِّ، إلَّا عَلَى مَنْ لَا يَنْتَصِفُ مِنْهُ كَالسُّلْطَانِ وَالرَّجُلِ الْقَاهِرِ، وَمَا سِوَى ذَلِكَ، فَإِشْهَادُ السِّرِّ بَاطِلٌ.
فرع:
إنْ تَقَيَّدَ عَلَيْهِ أَنَّهُ لَمْ يُودَعْ شَهَادَتَهُ، يَعْنِي اسْتِرْعَاءً، وَمَتَى قَامَتْ لَهُ بَيِّنَةٌ بِذَلِكَ فَهِيَ كَاذِبَةٌ، قَالَ ابْنُ رَاشِدٍ: وَلَمْ أَرَ فِي ذَلِكَ نَصًّا، وَكَثِيرُ مَا يُكْتَبُ عِنْدَنَا بِقَفِصَةٍ وَمُقْتَضَى الظَّنِّ أَنَّهُ لَا قِيَامَ لَهُ بِذَلِكَ، إنْ أَشْهَدَ أَنَّهُ أَسْقَطَ الِاسْتِرْعَاءَ سَقَطَ.
فرع:
وَلَوْ قَالَ فِي اسْتِرْعَائِهِ: وَمَتَى أَشْهَدْت عَلَى نَفْسِي أَنَّنِي قَطَعْت الِاسْتِرْعَاءَ، وَالِاسْتِرْعَاءُ فِي الِاسْتِرْعَاءِ إلَى أَقْصَى تَنَاهِيهِ، فَإِنَّمَا أَفْعَلُهُ لِلضَّرُورَةِ إلَى ذَلِكَ، وَأَنَّنِي غَيْرُ قَاطِعٍ لِشَيْءٍ مِنْهُ وَأَرْجِعُ فِي حَقِّي، فَحَكَى صَاحِبُ الطُّرَرِ أَنَّ لَهُ ذَلِكَ وَلَا يَضُرُّ، مَا أَشْهَدَ بِهِ عَلَى نَفْسِهِ مِنْهُ.
وَفِي الْمُتَيْطِيَّةِ أَنَّهُ لَوْ قَالَ فِي اسْتِرْعَائِهِ: مَتَى أَشْهَدْت بِقَطْعِ الِاسْتِرْعَاءِ، فَإِنَّمَا أَفْعَلُ ذَلِكَ اسْتِجْلَابًا بِالْإِقْرَارِ خَصْمِي، فَلَهُ الْقِيَامُ وَلَا يَضُرُّهُ مَا انْعَقَدَ عَلَيْهِ مِنْ إسْقَاطِ الْبَيِّنَاتِ الْمُسْتَرْعَاةِ، وَإِنْ قَالَ إنَّهُ أَسْقَطَ الِاسْتِرْعَاءَ وَالِاسْتِرْعَاءُ فِي الِاسْتِرْعَاءِ لَمْ يَنْتَفِعْ بِاسْتِرْعَائِهِ.
وَقَالَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ الْمُوَثَّقِينَ: وَفِيهِ تَنَازُعٌ وَمَا ذَكَرَهُ فِي الطُّرَرِ أَصَحُّ فِي النَّظَرِ؛ لِأَنَّهُ أَلْجَأَهُ إلَى الصُّلْحِ بِإِنْكَارِهِ، وَالْمُكْرَهُ لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ، وَلَوْ قِيلَ إنَّهُ لَا يَسْقُطُ اسْتِرْعَاؤُهُ مُطْلَقًا، لَكَانَ وَجِيهًا إذَا ثَبَتَ إنْكَارُهُ.
تنبيه:
الِاسْتِرْعَاءُ يَنْفَعُ فِي كُلِّ تَطَوُّعٍ كَالْعِتْقِ، وَالتَّدْبِيرِ، وَالطَّلَاقِ، وَالتَّحْبِيسِ، وَالْهِبَةِ. وَلَا يَلْزَمُهُ أَنْ يَفْعَلَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ السَّبَبَ إلَّا بِقَوْلِهِ، مِثْلَ أَنْ يَشْهَدَ أَنِّي طَلَّقْتُ، فَإِنَّمَا أُطَلِّقُ خَوْفًا مِنْ أَمْرٍ أَتَوَقَّعُهُ مِنْ جِهَةِ كَذَا، أَوْ حَلَفَ بِالطَّلَاقِ، وَكَانَ أَشْهَدَ أَنِّي حَلَفْت بِالطَّلَاقِ فَإِنَّمَا هُوَ لِأَجْلِ إكْرَاهٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ، فَهَذَا وَمَا ذَكَرْنَاهُ مَعَهُ لَا يُشْتَرَطُ فِيهِ مَعْرِفَةُ الشُّهُودِ السَّبَبَ الْمَذْكُورَ، اُنْظُرْ وَثَائِقَ الْغَرْنَاطِيِّ.
فرع:
وَلَا يَجُوزُ الِاسْتِرْعَاءُ فِي الْبُيُوعِ مِثْلَ: أَنْ يَشْهَدَ قَبْلَ الْبَيْعِ أَنَّهُ رَاجِعٌ فِي الْبَيْعِ، وَأَنَّ بَيْعَهُ لِأَمْرٍ يَتَوَقَّعُهُ؛ لِأَنَّ الْمُبَايَعَةَ خِلَافُ مَا تَطَوَّعَ بِهِ، وَقَدْ أَخَذَ الْبَائِعُ فِيهِ ثَمَنًا، وَفِي ذَلِكَ حَقٌّ لِلْمُبْتَاعِ إلَّا أَنْ يَعْرِفَ الشُّهُودُ الْإِكْرَاهَ عَلَى الْبَيْعِ أَوْ الْإِخَافَةِ، فَيَجُوزُ الِاسْتِرْعَاءُ إذَا انْعَقَدَ قَبْلَ الْبَيْعِ، وَتَضَمَّنَّ الْعَقْدُ شَهَادَةَ مَنْ يَعْرِفُ الْإِخَافَةَ وَالتَّوَقُّعَ الَّذِي ذَكَرَهُ.
تنبيه:
قَالَ الْغَرْنَاطِيُّ فِي وَثَائِقِهِ وَثَائِقُ الِاسْتِرْعَاءِ تُفَارِقُ سَائِرَ الْوَثَائِقِ فِي شَيْئَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ شُهُودَهَا يُؤْخَذُونَ بِحِفْظِهَا وَمَعْرِفَةِ مَا فِيهَا وَالثَّانِي: أَنَّ الْمَطْلُوبَ لَا يَجِبُ تَوْقِيفُهُ عَلَيْهَا قَبْلَ ثُبُوتِهَا، وَلَا الْإِعْذَارُ إلَيْهِ.
تنبيه:
وَفِي الْوَثَائِقِ الْمَذْكُورَةِ خَمْسَةُ أَشْيَاءَ، لابد مِنْ تَارِيخِهَا بِالْأَوْقَاتِ وَهِيَ: كُلُّ اسْتِرْعَاءَيْنِ مُتَضَادَّيْنِ فِي أَيْ شَيْءٍ كَانَا، وَمَتَى يَتَحَقَّقُ بِالْوَقْتِ أَنَّ الِاسْتِرْعَاءَ تَقَدَّمَ الصُّلْحَ وَإِلَّا بَطَلَ الِاسْتِرْعَاءُ، وَالطَّلَاقُ لِأَجْلِ النَّفَقَةِ وَالْحَمْلِ، وَتَصْدِيقُهَا أَنَّهَا حَاضَتْ ثَلَاثَ حِيَضٍ فِي خَمْسَةٍ وَأَرْبَعِينَ يَوْمًا، وَعُهْدَةُ الرَّقِيقِ لِأَجْلِ الْعُيُوبِ، كَذَلِكَ بَيْعُ الْحَيَوَانِ مَوْتُ الْمَيِّتِ إذْ لَعَلَّ لَهُ وَارِثًا مَاتَ قَبْلَهُ.
تنبيه:
مَا ذَكَرَهُ فِي الْعُهْدَةِ هُوَ قَوْلُ سَحْنُونٍ، وَقِيلَ: ابْتِدَاؤُهَا مِنْ أَوَّلِ النَّهَارِ الْمُسْتَقْبَلِ.
وَفِي الْمُتَيْطِيَّةِ فِي مَسَائِلَ الصَّدَاقِ وَتَأْجِيلِ الْعُسْرِ بِهِ، قَالَ ابْنُ مَالِكٍ: الْقُرْطُ فِي أَحْكَامِهِ وَلَا تَعُدُّ الْيَوْمَ الَّذِي يُكْتَبُ فِيهِ الْأَجَلُ، وَلَا تَحْتَسِبُ كَمَا تَحْتَسِبُ بِالْيَوْمِ الَّذِي يُكْتَبُ فِيهِ الْعُهْدَةَ وَمُلْغًى.
تنبيه:
وَفِي وَثَائِقِ ابْنِ الْقَاسِمِ الْجَزَرِيِّ، وَيَجِبُ أَنْ يُكْثِرَ مِنْ شُهُودِ الِاسْتِرْعَاءِ وَالتَّرَشُّدِ وَالتَّسْفِيهِ، وَأَقَلُّهُمْ فِي قَوْلِ ابْنِ الْمَاجِشُونِ أَرْبَعَةُ شُهُودٍ.

.الْبَابُ السَّادِسُ وَالثَّلَاثُونَ فِي الْقَضَاءِ بِشَهَادَةِ التَّوَسُّمِ:

رَوَى التِّرْمِذِيُّ الْحَكِيمُ فِي نَوَادِرِ الْأُصُولِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «إنَّ لِلَّهِ عِبَادًا يَعْرِفُونَ النَّاسَ بِالتَّوَسُّمِ»، وَالتَّوَسُّمُ مَأْخُوذٌ مِنْ الْمَوْسِمِ، وَهُوَ التَّأْثِيرُ بِحَدِيدَةٍ فِي جِلْدِ الْبَعِيرِ يَكُونُ عَلَامَةً يُسْتَدَلُّ بِهَا، قَالَ ابْنُ حَبِيبٍ فِي الْوَاضِحَةِ، قَالَ لِي مُطَرِّفٌ وَابْنُ الْمَاجِشُونِ فِي الْقَوَافِلِ وَالرِّفَاقِ تَمُرُّ بِأُمَّهَاتِ الْقُرَى وَالْمَدَائِنِ فَتَقَعُ بَيْنَهُمْ الْخُصُومَةُ عِنْدَ حَاكِمِ الْقَرْيَةِ أَوْ الْمَدِينَةِ الَّتِي حَلُّوا بِهَا أَوْ مَرُّوا بِهَا، فَإِنَّ مَالِكًا وَجَمِيعَ أَصْحَابِنَا أَجَازُوا شَهَادَةَ مَنْ شَهِدَ مِنْهُمْ لِبَعْضٍ عَلَى بَعْضٍ، مِمَّنْ جَمَعَهُ ذَلِكَ السَّفَرُ وَجَرَّتْهُ تِلْكَ الْمُرَافَقَةُ، وَإِنْ لَمْ يُعْرَفُوا بِعَدَالَةٍ وَلَا سَخْطَةٍ إلَّا عَلَى التَّوَسُّمِ لَهُمْ بِالْحُرِّيَّةِ وَالْعَدَالَةِ، وَذَلِكَ فِيمَا وَقَعَ بَيْنَهُمْ مِنْ الْمُعَامَلَاتِ فِي ذَلِكَ السَّفَرِ، خَاصَّةً مِنْ الْأَحْلَافِ وَالْأَكْرِيَةِ وَالْبُيُوعِ وَالْأَشْرِبَةِ كَانُوا مِنْ أَهْلِ بَلَدٍ وَاحِدٍ أَوْ مِنْ أَهْلِ بُلْدَانٍ شَتَّى كَانَ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ وَالشُّهُودُ مِنْ أَهْلِ الْقَرْيَةِ أَوْ الْمَدِينَةِ الَّتِي اخْتَصَمُوا فِيهَا، أَوْ مَعْرُوفًا مِنْ غَيْرِهَا إذَا كَانَ مِمَّنْ جَمَعَهُ وَإِيَّاهُمْ ذَلِكَ السَّفَرُ، وَكَذَلِكَ تَجُوزُ شَهَادَةُ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ عَلَى كَرِيِّهِمْ فِي كُلِّ مَا عَامَلُوهُ بِهِ وَفِيهِ وَعَلَيْهِ فِي ذَلِكَ السَّفَرِ، قَالَا وَإِنَّمَا أُجِيزَتْ شَهَادَةُ التَّوَسُّمِ عَلَى وَجْهِ الِاضْطِرَارِ مِثْلَ مَا أُجِيزَتْ شَهَادَةُ النِّسَاءِ وَحْدَهُنَّ فِيمَا لَا يَحْضُرُهُ الرِّجَالُ، وَمِثْلَ مَا أُجِيزَتْ شَهَادَةُ الصِّبْيَانِ بَيْنَهُمْ فِي الْجِرَاحَاتِ، قَالَا وَلَا تَجُوزُ شَهَادَةُ التَّوَسُّمِ فِي كُلِّ حَقٍّ كَانَ ثَابِتًا فِي دَعْوَاهُمْ قَبْلَ سَفَرِهِمْ إلَّا بِالْمَعْرِفَةِ وَالْعَدَالَةِ، فَإِنْ حَكَمَ عَلَى الْكَرْيِ بِمَا شَهِدُوا بِهِ عَلَيْهِ فِي كِرَاءٍ أَوْ سَلَفٍ، فَلَمْ يَفِ مَا مَعَهُ بِمَا عَلَيْهِ، وَلَهُ عَقَارٌ بِالْقَرْيَةِ الَّتِي بِهَا تَحَاكَمُوهُ: أَتَرَى أَنْ يُبَاعَ عَقَارُهُ فِي بَقِيَّةِ مَا عَلَيْهِ؟ قَالَا وَلَا تَجُوزُ فِي الْعَقَارِ، وَشِبْهِهِ شَهَادَةُ الْمَجْهُولِينَ، وَيَبْقَى ذَلِكَ فِي ذِمَّتِهِ، فَإِنْ حَدَثَ لَهُ مَالٌ أُخِذَ مِنْهُ، وَإِنْ بِيعَ عَقَارُهُ بِسَبَبِ غُرَمَاءَ قَامُوا عَلَيْهِ بِدُيُونِهِمْ سَوَاءٌ، فَفَلِسَ لَهُمْ دَخَلَ الْمَشْهُودُ لَهُ مَعَهُمْ فِي ذَلِكَ بِبَقِيَّةِ حَقِّهِ؛ لِأَنَّهُ بَيْعٌ بِغَيْرِ سَبَبِهِ، قَالَ ابْنُ الْمَاجِشُونِ: وَلَا يُمَكَّنُ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ مِنْ تَجْرِيحِ هَؤُلَاءِ الشُّهُودِ؛ لِأَنَّهُمْ إنَّمَا أُجِيزُوا عَلَى التَّوَسُّمِ فَلَيْسَ فِيهِمْ جُرْحَةٌ، إلَّا أَنْ يَسْتَرِيبَ الْحَاكِمُ فِيهِمْ قَبْلَ حُكْمِهِ بِشَهَادَتِهِمْ، بِسَبَبِ قَطْعِ يَدٍ أَوْ جَلَدٍ فِي ظَهْرٍ فَلْيَتَثَبَّتْ فِي تَوَسُّمِهِ، فَإِنْ ظَهَرَ لَهُ انْتِفَاءُ تِلْكَ الرِّيبَةِ وَإِلَّا أَسْقَطَهُمْ.
قَالَ: وَلَوْ شَهِدَ شَاهِدٌ وَامْرَأَةٌ أَوْ غَيْرُ عُدُولٍ، تَوَسَّمَ فِيهِمْ أَنَّ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ قُبِلُوا بِالتَّوَسُّمِ كَانُوا عَبِيدًا أَوْ مَسْخُوطِينَ، فَإِنْ كَانَ قَبْلَ الْحُكْمِ تَثَبَّتَ فِي ذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ بَعْدَ الْحُكْمِ بِهِمْ فَلَا يُرَدُّ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ، إلَّا أَنْ يَشْهَدَ عَدْلَانِ أَنَّهُمَا كَانَا عَبْدَيْنِ أَوْ مَسْخُوطَيْنِ.
قَالَ: وَلَا يُقْبَلُ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي سَرِقَةٍ وَلَا زِنًا وَلَا غَصْبٍ وَلَا تَلَصُّصٍ وَلَا مُشَاتَمَةٍ، وَإِنَّمَا أُجِيزَتْ فِي الْمَالِ فِي السَّفَرِ لِلضَّرُورَةِ، قَالَ ابْنُ الْفَرَسِ فِي أَحْكَامِ الْقُرْآنِ، وَحَكَى ابْنُ حَبِيبٍ ذَلِكَ، يَعْنِي شَهَادَةَ التَّوَسُّمِ عَنْ مَالِكٍ وَأَصْحَابِهِ خِلَافَ ظَاهِرِ قَوْلِ ابْنِ الْقَاسِمِ، وَرِوَايَتِهِ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ لَمْ يُجِزْ شَهَادَةَ الْغُرَبَاءِ دُونَ أَنْ تُعْرَفَ عَدَالَتُهُمْ، انْتَهَى.
وَيُمْكِنُ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا، أَنَّ الَّذِي رَآهُ ابْنُ الْقَاسِمِ فِي الْغُرَبَاءِ حَيْثُ لَا يَكُونُ ضَرُورَةً مِثْلَ شَهَادَتِهِمْ فِي الْحَضَرِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

.الْبَابُ السَّابِعُ وَالثَّلَاثُونَ فِي الْقَضَاءِ بِشَهَادَةِ الْأَبْدَادِ:

وَالشَّهَادَاتِ الَّتِي يُصَحِّحُ بَعْضُهَا بَعْضًا قَالَ الْقَاضِي مُنْذِرُ بْنُ سَعِيدٍ فِي غَرِيبِ الْمُدَوَّنَةِ، الْأَبْدَادُ بِدَالَيْنِ مُهْمَلَتَيْنِ، وَهُمْ الْمُتَفَرِّقُونَ، وَاحِدُهُمْ: بُدٌّ مِثْلُ: مُدٍّ مِنْ الْبَيْدِ، هُوَ مَأْخُوذٌ مِنْ قَوْلِهِمْ بَدَّدَ اللَّهُ شَمْلَ الْعَدُوِّ؛ لِأَنَّ الشُّهُودَ شَهِدُوا فِي ذَلِكَ مُتَفَرِّقِينَ، وَاحِدٌ هَا هُنَا، وَآخَرُ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ، وَوَاحِدٌ الْيَوْمَ، وَوَاحِدٌ غَدًا، وَوَاحِدٌ عَلَى مَعْنًى، وَوَاحِدٌ عَلَى مَعْنًى آخَرَ.
فَرْعٌ:
وَفِي التَّهْذِيبِ قَالَ يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ: يَجُوزُ شَهَادَةُ الْأَبْدَادِ فِي النِّكَاحِ وَالْعَتَاقِ.
قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ: وَهِيَ أَنْ لَا تَجْتَمِعَ الشُّهُودُ عَلَى إشْهَادِ الْوَلِيِّ وَالنَّاكِحَيْنِ، بَلْ إنَّمَا عَقَدُوا وَتَفَرَّقُوا، قَالَ كُلُّ وَاحِدٍ لِصَاحِبِهِ: أَشْهِدْ مَنْ لَقِيت، هَكَذَا فَسَّرَهُ فِي الْمُخْتَصَرِ، وَهَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ مِنْ مَذْهَبِنَا، أَنَّ الشَّهَادَةَ لَيْسَتْ بِشَرْطٍ فِي صِحَّةِ الْعَقْدِ.
وَرَوَى أَشْهَبُ عَنْ مَالِكٍ، أَنَّهُ شَرْطٌ قَالَ أَبُو إبْرَاهِيمَ فِي الطُّرَرِ عَلَى التَّهْذِيبِ فَتَتِمُّ بِسِتَّةٍ شُهُودٍ: اثْنَانِ عَلَى الْوَلِيِّ، وَاثْنَانِ عَلَى الزَّوْجِ، وَاثْنَانِ عَلَى الزَّوْجَةِ إنْ كَانَتْ ثَيِّبًا.
وَفِي الْبِكْرِ ذَاتِ الْأَبِ بِأَرْبَعَةٍ شَاهِدَانِ عَلَى النَّاكِحِ، وَشَاهِدَانِ عَلَى الْمُنْكَحِ، وَأَمَّا إنْ أَشْهَدَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ الشُّهُودَ الَّذِينَ أَشْهَدَهُمْ صَاحِبُهُ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ، فَلَيْسَتْ بِأَبْدَادٍ.
فرع:
قَالَ ابْنُ الْهِنْدِيِّ فِي وَثَائِقِهِ شَهَادَةُ الْأَبْدَادِ لَا تَعْمَلُ شَيْئًا إذَا شَهِدَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِغَيْرِ نَصِّ مَا شَهِدَ بِهِ صَاحِبُهُ، وَإِنْ كَانَ مَعْنَى جَمِيعِ شَهَادَتِهِمْ وَاحِدٌ حَتَّى يَتَّفِقَ مِنْهُمْ شَاهِدَانِ عَلَى نَصٍّ وَاحِدٍ.
فرع:
وَفِي التَّقْرِيبِ عَلَى التَّهْذِيبِ لَوْ شَهِدَ رَجُلٌ أَنَّ زَيْدًا بَاعَ مِنْ عَمْرٍو سِلْعَةً، وَشَهِدَ آخَرُ بِإِقْرَارِهِمَا بِالْبَيْعِ، كَمُلَتْ الشَّهَادَةُ؛ لِأَنَّهُمَا فِي الْمَعْنَى قَدْ اجْتَمَعَا عَلَى نَقْلِ الْمِلْكِ.
فرع:
وَفِي الْمُتَيْطِيَّةِ: لَوْ جَرَحَ شَاهِدٌ شَاهِدًا بِوَجْهٍ مِنْ وُجُوهِ الْجُرْحَةِ وَجَرَحَ آخَرُ بِغَيْرِهِ، فَقَالَ سَحْنُونٌ: هِيَ جُرْحَةٌ؛ لِأَنَّهُمَا اجْتَمَعَا عَلَى أَنَّهُ رَجُلُ سُوءٍ.
وَقَالَ أَيْضًا لَيْسَ بِتَجْرِيحٍ حَتَّى يَجْتَمِعَا عَلَى وَجْهٍ وَاحِدٍ وَبِقَوْلِهِ الْأَوَّلِ قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ.
فرع:
وَفِي أَحْكَامِ ابْنِ سَهْلٍ: سُئِلَ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ عَنْ شَاهِدَيْنِ، شَهِدَ أَحَدُهُمَا فِي مَنْزِلٍ أَنَّهُ مَسْكَنُ هَذَا، وَشَهِدَ آخَرُ أَنَّهُ حَيِّزُهُ، فَقَالَ خَصْمُهُ: قَدْ اخْتَلَفَتْ شَهَادَتُهُمَا، فَقَالَ مَالِكٌ: مَسْكَنُهُ وَحَيِّزُهُ شَهَادَةٌ وَاحِدَةٌ لَا تَفْتَرِقُ، وَقَدْ يَكُونُ الْكَلَامُ فِي الشَّهَادَةِ مُخْتَلِفًا وَالْمَعْنَى وَاحِدٌ، وَكَذَلِكَ إذَا قَالَ أَحَدُهُمَا فِي شَهَادَتِهِ فِي أَرْضٍ هِيَ لِهَذَا، وَشَهِدَ الْآخَرُ أَنَّهَا حَيِّزُهُ، قَالَ مَالِكٌ هِيَ لَهُ؛ لِأَنَّ حَيِّزَهُ أَرْضُهُ فَأَرَاهُمَا قَدْ اجْتَمَعَا عَلَى الشَّهَادَةِ، قَالَ سَحْنُونٌ: مَعْنَى حَيِّزُهُ أَنَّهُ مِلْكُهُ وَحَقُّهُ، انْتَهَى. وَانْظُرْ هَلْ هَذَا مُخَالِفٌ لِمَا تَقَدَّمَ عَنْ ابْنِ الْهِنْدِيِّ أَمْ لَا؟ فِي قَوْلِهِ لابد مِنْ اجْتِمَاعِ شَاهِدَيْنِ، عَلَى نَصٍّ وَاحِدٍ، وَإِنْ اجْتَمَعَا عَلَى مَعْنًى وَاحِدٍ فَلَا يُفِيدُ.
تنبيه:
قَالَ ابْنُ سَهْلٍ: قَالَ لِي أَبُو مَرْوَانَ بْنِ مَالِكٍ: إنْ شَهِدُوا فِي دَارٍ أَنَّهَا فِي مِلْكِ فُلَانٍ لَمْ تَكُنْ شَهَادَةً، فَقَالَ: قَدْ شَاهَدْتُ الْحُكْمَ بِإِسْقَاطِ هَذِهِ الشَّهَادَةِ، وَلِهَذَا يُقَالُ فِي الْعُقُودِ إنَّهُمْ يُعَرِّفُونَهَا لَهُ، وَفِي مِلْكِهِ مَالًا مِنْ أَمْوَالِهِ وَنَحْوِهِ، وَاحْتَجَّ بِأَنَّ الْمِلْكَ لَفْظٌ مُجْمَلٌ غَيْرُ مُبَيَّنٍ وَأَنْشَدَ:
أَصْبَحْتُ لَا أَحْمِلُ السِّلَاحَ وَلَا ** أَمْلِكُ رَأْسَ الْبَعِيرِ إنْ نَفَرَا

فَالْمِلْكُ فِي هَذَا بِمَعْنَى الْقُدْرَةِ، وَالِاسْتِطَاعَةُ: بِمَعْنَى الْمِلْكِ الَّذِي هُوَ الْكَسْبُ وَالْقِنْيَةُ، وَقَالَ لِي أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَتَّابٍ إنْ كَانَ الشُّهُودُ لَهُمْ نَبَاهَةٌ وَفَطِنَةٌ وَمَعْرِفَةٌ بِالشَّهَادَةِ فَهِيَ شَهَادَةٌ عَامِلَةٌ، قَالَ لِي أَبُو الْمُطَرِّفِ: هِيَ شَهَادَةٌ تَامَّةٌ وَلَا خِلَافَ فِيهَا، وَلِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ تَفْرِيعٌ وَنَظَرٌ يَطُولُ ذِكْرُهُ.
فرع:
وَفِي تَعْلِيقِهِ الْخِلَافَ لِلشَّيْخِ أَبِي بَكْرٍ الطُّرْطُوشِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ قَالَ يَحْيَى بْنُ عُمَرَ: إذَا شَهِدَ شَاهِدٌ عَلَى هِلَالِ رَمَضَانَ، وَشَهِدَ عَلَى هِلَالِ شَوَّالٍ، لَمْ تُقْبَلْ شَهَادَتُهُمَا. قَالَ أُسْتَاذُنَا الْقَاضِي يَعْنِي أَبَا الْوَلِيدِ الْبَاجِيَّ رَحِمَهُ اللَّهُ: مَعْنَاهُ إذَا كَانَ بَيْنَ شَهَادَتِهِمَا ثَلَاثُونَ يَوْمًا؛ لِأَنَّ شَهَادَةَ الثَّانِي لَا تُصَحِّحُ شَهَادَةَ الْأَوَّلِ، لِاحْتِمَالِ أَنْ لَا يَكُونَ الْأَوَّلُ رَأَى شَيْئًا، وَرَأَى الثَّانِي هِلَالَ شَوَّالٍ لِتِسْعٍ وَعِشْرِينَ خَلَتْ مِنْ رَمَضَانَ، فَإِذَا كَانَ بَيْنَهُمَا تِسْعَةٌ وَعِشْرُونَ يَوْمًا فَيَجِبُ الْفِطْرُ بِشَهَادَتِهِمَا؛ لِأَنَّ شَهَادَةَ الثَّانِي تُصَحِّحُ شَهَادَةَ الْأَوَّلِ، وَاعْتَمَدَ فِيهِ عَلَى أَنَّ الْحُكْمَ وَاحِدٌ، وَاسْتَشْهَدَ بِمَسْأَلَةِ مَذْهَبِهِ، وَذَلِكَ أَنَّ مَالِكًا قَالَ فِي الْمَجْمُوعَةِ فِي شَاهِدَيْنِ شَهِدَا عَلَى هِلَالٍ فَانْقَضَتْ ثَلَاثُونَ يَوْمًا وَالسَّمَاءُ صَاحِيَةٌ، فَلَمْ يَرَوْا الْهِلَالَ، فَقَالَ هُمَا شَاهِدَا سُوءٍ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْحُكْمَ وَاحِدٌ، وَلَوْ كَانَا حُكْمَيْنِ لَمَا كَانَ فِي ذَلِكَ كَذِبٌ لِلشَّاهِدَيْنِ، وَقَالَ غَيْرُهُمْ مِنْ أَصْحَابِنَا لَا نُفَرِّقُ بَيْنَهُمَا وَلَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمَا؛ لِأَنَّ إكْمَالَ شَعْبَانَ ثَلَاثِينَ يَوْمًا وَاجِبٌ عَلَيْنَا بِيَقِينٍ، فَلَا نَنْتَقِلُ عَنْهُ بِالشَّكِّ، وَشَهَادَةُ الشَّاهِدَيْنِ عَلَى حُكْمَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ قَطْعًا.
وَقَوْلُهُ: إنَّ الثَّانِيَةَ تُصَحِّحُ الْأُولَى وَإِنَّ الْحُكْمَ وَاحِدٌ لَيْسَ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَصِحُّ ذَلِكَ لَوْ سَلَّمْنَا أَنَّ الثَّانِيَةَ ثَابِتَةٌ، وَأَمَّا إذَا أَبْطَلْنَاهَا بِالْوَجْهِ الَّذِي أَبْطَلْنَا بِهِ الْأُولَى، وَهُوَ أَنَّهُ شَاهِدٌ وَاحِدٌ عَلَى هِلَالٍ، فَكَيْفَ نُصَحِّحُ غَيْرَهَا وَهِيَ لَمْ تَصِحَّ فِي نَفْسِهَا؟
فرع:
وَالشَّهَادَةُ فِي الزِّنَا لَا تَنْفُذُ إلَّا إذَا جَاءَتْ عَلَى فِعْلٍ وَاحِدٍ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ وَلَا تُلَفَّقُ، وَأَمَّا الشَّهَادَةُ فِي الطَّلَاقِ فَإِنَّهَا تُلَفَّقُ، قَالَ الْقَاضِي عِيَاضُ فِي كِتَابِ الْأَيْمَانِ بِالطَّلَاقِ: وَمَذْهَبُهُ يَعْنِي مَالِكًا رَحِمَهُ اللَّهُ أَنْ لَا تُلَفَّقَ الشَّهَادَاتُ بِالطَّلَاقِ عَلَى الْأَفْعَالِ الْمُخْتَلِفَةِ، كَشَاهِدٍ عَلَى الْحَلِفِ عَلَى دُخُولِ الدَّارِ، وَآخَرَ عَلَى الْحَلِفِ عَلَى كَلَامِ زَيْدٍ؛ لِأَنَّ هَذَيْنِ الشَّاهِدَيْنِ لَمْ يَتَّفِقَا عَلَى مُتَعَلِّقٍ وَاحِدٍ.
فرع:
وَكَذَلِكَ لَا تُلَفَّقُ الْأَفْعَالُ مَعَ الْأَقْوَالِ، كَشَاهِدٍ عَلَى قَوْلِهِ أَنْتِ طَالِقٌ وَآخَرَ عَلَى حِنْثٍ فِي فِعْلٍ.
فرع:
وَيُلَفَّقُ عِنْدَهُ الْأَقْوَالُ بَعْضُهَا مَعَ بَعْضٍ، وَإِنْ اخْتَلَفَتْ أَلْفَاظُهَا وَأَوْقَاتُهَا، كَالشَّهَادَةِ عَلَى قَوْلِهِ: أَنْتِ حَرَامٌ، وَآخَرَ عَلَى الْبَتَّةِ، وَشَاهِدٍ عَلَى الطَّلَاقِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، وَآخَرَ يَوْمَ الْخَمِيسِ، فَلَوْ شَهِدَ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ طَلَّقَهَا يَوْمَ الْخَمِيسِ بِمَكَّةَ فِي رَمَضَانَ، وَشَهِدَ آخَرُ أَنَّهُ طَلَّقَهَا يَوْمَ الْجُمُعَةِ بِمِصْرَ فِي شَهْرِ صَفَرٍ، ضُمَّتْ الشَّهَادَتَانِ وَطَلُقَتْ؛ لِأَنَّهُ مِنْ وَجْهِ الْإِقْرَارِ وَكَذَا الْمُعْتِقُ.
فرع:
وَتُلَفَّقُ الْأَفْعَالُ إذَا كَانَتْ فِي جِنْسٍ وَاحِدٍ، وَإِنْ اخْتَلَفَتْ أَزْمِنَتُهَا، كَالشَّهَادَةِ عَلَى الْحَالِفِ بِمَكَّةَ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ لَا يَدْخُلُ دَارَ عَمْرٍو، وَشَهَادَةِ آخَرَ أَنَّهُ قَالَ ذَلِكَ فِي ذِي الْحِجَّةِ، وَشَهِدَا عَلَيْهِ هُمَا أَوْ غَيْرُهُمَا أَنَّهُ دَخَلَ بَعْدَ ذِي الْحِجَّةِ طَلُقَتْ عَلَيْهِ، وَإِنْ شَهِدَا عَلَيْهِ جَمِيعًا فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ أَنَّهُ قَالَ: إنْ دَخَلْت دَارَ عَمْرٍو فَامْرَأَتِي طَالِقٌ، وَشَهِدَ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ دَخَلَهَا فِي رَمَضَانَ، وَشَهِدَ الْآخَرُ أَنَّهُ دَخَلَهَا فِي ذِي الْحِجَّةِ طَلُقَتْ عَلَيْهِ.
فرع:
وَكَذَلِكَ إنْ اتَّفَقَتْ الْيَمِينُ وَاخْتَلَفَ الْفِعْلُ، كَمَنْ حَلَفَ بِالطَّلَاقِ أَنْ لَا يُكَلِّمَ فُلَانًا، فَشَهِدَ عَلَيْهِ رَجُلٌ أَنَّهُ كَلَّمَهُ فِي السُّوقِ، وَشَهِدَ الْآخَرُ أَنَّهُ كَلَّمَهُ فِي الْمَسْجِدِ حَنِثَ، أَوْ شَهِدَ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ كَلَّمَهُ يَوْمَ الْخَمِيسِ وَشَهِدَ آخَرُ أَنَّهُ كَلَّمَهُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فَإِنَّهَا تُضَمُّ.

.الْبَابُ الثَّامِنُ وَالثَّلَاثُونَ فِي الْقَضَاءِ بِشَهَادَةِ الِاسْتِغْفَالِ:

وَفِي وَثَائِقِ ابْنِ الْهِنْدِيِّ اُخْتُلِفَ فِي شَهَادَةِ الِاسْتِغْفَالِ، وَهِيَ أَنْ يُدْخِلَ الرَّجُلُ شُهُودًا خَلْفَ سِتْرٍ، ثُمَّ يَسْتَمِرُّ الَّذِي يَسْتَغْفِلُ فِي الْحَدِيثِ فَيُقِرُّ بِشَيْءٍ فَأَجَازَ ذَلِكَ قَوْمٌ وَكَرِهَهُ آخَرُونَ، وَالْمَشْهُورُ أَنَّ ذَلِكَ لَا يَضُرُّ، وَقَيَّدَهُ مُحَمَّدٌ بِمَا إذَا كَانَ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ غَيْرَ مَخْدُوعٍ وَلَا خَائِفٍ، وَمِنْ حُجَّةِ مَنْ أَجَازَهَا شَهَادَةُ الْأَعْمَى عَلَى مَعْرِفَةِ الصَّوْتِ، وَأَخْذُ النَّاسِ عَنْ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ وَرَاءِ الْحِجَابِ، وَقَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إنَّ بِلَالًا يُنَادِي بِلَيْلٍ فَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يُنَادِيَ ابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ»، وَإِنَّمَا كَانَ النَّاسُ يَسْمَعُونَ أَصْوَاتَهُمَا وَهُمْ فِي بُيُوتِهِمْ، وَمِنْ حُجَّةِ مَنْ كَرِهَهُ أَنَّ الشُّهُودَ شَارَكُوا فِي التَّدْلِيسِ، وَلَا يَحِلُّ لَهُمْ ذَلِكَ، وَرُوِيَ أَنَّهُ مَنْ حَدَّثَ أَخَاهُ فَالْتَفَتَ فَهِيَ أَمَانَةٌ، وَنَهَى عَنْ تَبْيِيتِ الطَّيْرِ، مَعَ أَنَّ الْأَصْوَاتِ قَدْ تَخْتَلِفُ وَقَدْ تَتَّفِقُ وَيُشْبِهُ بَعْضُهَا بَعْضًا، فَإِنْ رَآهُ الشُّهُودُ وَهُوَ لَا يَشْعُرُ فَهُوَ مَكْرُوهٌ وَهُوَ مَوْضِعُ إشْكَالٍ وَاشْتِبَاهٍ، فَتَرْكُهُ، أَحْوَطُ. وَفِي الْمُتَيْطِيَّةِ، وَإِذْ سَمِعَ الشَّاهِدُ مَنْ يُقِرُّ بِالْحَقِّ أَوْ يُطَلِّقُ أَوْ يُفْتَرَى، فَإِنْ اسْتَوْعَبَ ذَلِكَ شَهِدَ بِهِ، وَجَازَتْ شَهَادَتُهُ وَلَا يَكْتُمُهَا، فَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ مَنْ هِيَ لَهُ فَلْيَعْلَمْهُ قَالَهُ ابْنُ الْقَاسِمِ وَأَشْهَبُ وَرُوِيَ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ لَا يَشْهَدُ بِهَا.
وَقَالَ فِي الْمَوَّازِيَّةِ يَشْهَدُ بِمَا سَمِعَ مِنْ قَذْفٍ دُونَ غَيْرِهِ، يَعْنِي؛ لِأَنَّهُ أَمْرٌ يُحَاطُ بِهِ بِخِلَافِ غَيْرِهِ مِنْ الْمُعَامَلَاتِ وَكَذَلِكَ الطَّلَاقُ.
قَالَ وَاخْتُلِفَ إذَا قَعَدَ خَلْفَ حَائِطٍ أَوْ سِتْرٍ أَوْ أَحْضَرَاهُ حَاسَبَهُمَا عَلَى أَنْ لَا يَشْهَدَا عَلَيْهِ، أَوْ اسْتَفْتَى فَقِيهًا فِيمَا يَنْوِي فِيهِ مِمَّا لَمْ تَقُمْ عَلَيْهِ بِهِ بَيِّنَةٌ، فَهَلْ يَشْهَدُ عَلَيْهِ فِي كُلِّ ذَلِكَ أَمْ لَا؟ قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: وَالشَّهَادَةُ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ إذَا أَحَاطَ عِلْمًا بِهَا وَاسْتِتْبَابًا لِجَاحِدٍ فِيهِ، فَلَمْ يُقِرَّ أَحْوَطُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
تنبيه:
وَهَذَا بِخِلَافِ الشَّهَادَةِ لَا يَنْقُلُ شَهَادَتَهُ حَتَّى يُؤْذَنَ لَهُ فِي نَقْلِهَا، قَالَ مُحَمَّدٌ: وَلَا إنْ سَمِعَهُ يُشْهِدُ عَلَيْهَا غَيْرَهُ.
فرع:
وَفِي الْمُقْنِعِ مِنْ الْمُسْتَخْرَجَةِ وَغَيْرِهَا، فِي الرَّجُلِ يَأْتِي مُسْتَغِيثًا يَسْأَلُ عَنْ الشَّيْءِ يَنْوِي فِيهِ، وَلَوْ أَقَرَّ عِنْدَ الْحَاكِمِ أَوْ قَامَتْ عَلَيْهِ بَيِّنَةٌ، فَرَّقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ امْرَأَتِهِ فَيُفْتَى أَنْ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ، قَالَ: لَا يَشْهَدُ عَلَيْهِ وَإِنْ طَلَبَتْ امْرَأَتُهُ ذَلِكَ، قَالَ ابْنُ الْمَوَّازِ: وَلَوْ شَهِدَا لَمْ يَنْفَعْهَا؛ لِأَنَّ إقْرَارَهُ عَلَى غَيْرِ إشْهَادٍ.
فرع:
قَالَ وَمَا أَقَرَّ بِهِ عِنْدَ الْفَقِيهِ مِنْ طَلَاقٍ أَوْ حَدٍّ أَوْ حَقٍّ، ثُمَّ أَنْكَرَ فَلْيَشْهَدْ عَلَيْهِ إذَا كَانَ مِمَّا لَيْسَ لَهُ رُجُوعٌ عَنْهُ، وَمِنْ الْمُسْتَخْرَجَةِ وَكَذَلِكَ مَنْ حَضَرَ الْفَقِيهَ ثُمَّ سَمِعُوا الْقِصَّةَ كُلَّهَا، حَتَّى لَا يَخْفَى عَلَيْهِمْ مِنْهَا مَا يَخَافُ أَنْ يُفْسِدَ الشَّهَادَةَ إذَا لَمْ يَذْكُرُوهُ.
فرع:
قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ فِيمَنْ مَرَّ بِرَجُلَيْنِ يَتَحَاسَبَانِ، فَإِنْ سَمِعَ كَلَامَهُمَا مِنْ أَوَّلِهِ وَاسْتَقْصَاهُ، فَلْيَشْهَدْ عَلَيْهِ.
فرع:
وَإِنْ سَمِعَ جَارَهُ يُطَلِّقُ امْرَأَتَهُ فَلْيَشْهَدْ عَلَيْهِ.
فرع:
قَالَ ابْنُ الْمَوَّازِ فِي رَجُلَيْنِ أُقْعِدَا مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ، لِيَشْهَدَا عَلَى رَجُلٍ قَالَ: إنْ كَانَ ضَعِيفًا أَوْ مُخْتَدَعًا أَوْ خَائِفًا لَمْ يَلْزَمْهُ، وَحَلَفَ مَا أَقَرَّ، إلَّا لِأَمْرٍ يَذْكُرُ أَنَّهُ أَقَرَّ بِسَبَبِهِ، وَإِنْ كَانَ عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ لَزِمَهُ، وَلَعَلَّهُ يُقِرُّ خَائِفًا، قُلْت: فَهَلْ أَقْعُدُ لَهُ فِي مَوْضِعٍ لَا يَعْلَمُ بِي لِلشَّهَادَةِ؟ قَالَ: لَوْ كَانَ يَعْلَمُ أَنَّك تَسْتَوْعِبُ أَمَرَهُمَا، وَلَكِنْ أَخَافُ أَنْ تَسْمَعَ جَوَابَهُ لِسُؤَالٍ، وَلَعَلَّهُ يَقُولُهُ فِي سِرٍّ: مَا الَّذِي لِي عِنْدَك إنْ جِئْتُك بِكَذَا، فَيَقُولُ: لَك عِنْدِي كَذَا فَإِنْ قَدِرْتُ أَنْ تُحِيطَ بِسِرِّهِمْ فَجَائِزٌ.
فرع:
قَالَ ابْنُ كِنَانَةَ فِي الْمَجْمُوعَةِ مَنْ لَهُ قِبَلَ رَجُلٍ حَقٌّ، وَأَرَادَ أَنْ يَأْخُذَ عَلَيْهِ يَمِينًا وَقَدْ جَحَدَهُ، فَخَبَّأَ لَهُ قَوْمٌ فَشَهِدُوا عَلَيْهِ بِالْحَقِّ أَوْ بِالْيَمِينِ، قَالَ شَهَادَتُهُمْ مَقْبُولَةٌ، وَبِئْسَ مَا صَنَعُوا حِينَ دَخَلُوا ذَلِكَ الْمَدْخَلَ. مِنْ الْمُقْنِعِ.
فرع:
قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: وَإِذَا شَهِدَ شَاهِدَانِ عِنْدَ الْقَاضِي وَبِالْحَضْرَةِ شُهُودٌ فَاسْتَوْعَبُوهَا، ثُمَّ عُزِلَ الْقَاضِي أَوْ مَاتَ الشَّاهِدَانِ فَلَا بَأْسَ لِلشُّهُودِ أَنْ يَشْهَدُوا بِهَا، وَهِيَ شَهَادَةٌ تَامَّةٌ، وَمَنَعَ مِنْ ذَلِكَ أَشْهَبُ.
مَسْأَلَةٌ:
وَسُئِلَ مُحَمَّدٌ هَلْ يَجُوزُ لِلشَّاهِدِ أَنْ يَخْتَفِيَ لِيَشْهَدَ عَلَى الْمُقِرِّ فَأَجَابَ بِأَنَّهُ يَتَخَوَّفُ أَنْ لَا يُحِيطَ بِالشَّهَادَةِ عِلْمًا مِمَّا كَانَ بَيْنَ الْخَصْمَيْنِ، ثُمَّ قَالَ وَلَكِنْ إنْ تَحَقَّقَ الْإِقْرَارُ كَمَا يَجِبُ فَلْيَشْهَدْ.
تنبيه:
وَحَيْثُ أَجَزْنَا شَهَادَتُهُ فَلَا يَكُونُ مِنْ بَابِ الْحِرْصِ عَلَى التَّحَمُّلِ، قَالَهُ ابْنُ رَاشِدٍ.
تنبيه:
يَنْبَغِي لِلشَّاهِدِ أَنْ يَرْفَعَ نَفْسَهُ عَنْ أَنْ يَخْتَفِيَ لِيَشْهَدَ، هَذَا مِمَّا لَمْ يُنْدَبْ إلَيْهِ، وَلَا اُفْتُرِضَ عَلَيْهِ، فَإِنْ فَعَلَ فَقَدْ فَعَلَ مَا لَا يَلِيقُ بِالْفُضَلَاءِ وَلَا يَخْتَارُهُ الْعُقَلَاءُ.

.الْبَابُ التَّاسِعُ وَالثَّلَاثُونَ فِي الْقَضَاءِ بِالشَّهَادَةِ الَّتِي مُسْتَنَدُهَا الْحَزْرُ:

وَالتَّقْرِيبُ وَالتَّخْمِينُ وَالنَّظَرُ وَالِاسْتِدْلَالُ وَفِي الْمُتَيْطِيَّةِ: وَإِذَا أَوْقَدَ رَجُلٌ نَارًا لِعَمَلٍ يَعْمَلُهُ، فَتَرَامَتْ النَّارُ حَتَّى أَحْرَقَتْ زَرْعَ رَجُلٍ فِي أَنْدَرِهِ وَتَرَافَعَا لِلْحَاكِمِ فِي ذَلِكَ، فَإِنَّ صِفَةَ الشَّهَادَةِ عَلَى ذَلِكَ أَنْ يَشْهَدُوا أَنَّ فُلَانًا بْنَ فُلَانٍ أَوْقَدَ نَارًا بِقُرْبِ أَنْدَرِ فُلَانٍ وَأَنَّ النَّارَ أَحْرَقَتْ جَمِيعَ مَا كَانَ فِي أَنْدَرِ فُلَانٍ، وَأَنْ لَا عُذْرَ بِعَمَلِ النَّارِ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي عَمِلَهَا فِيهِ، وَأَنَّهُ كَانَ فِي الْأَنْدَرِ الْمَذْكُورِ عَلَى الْحَزْرِ وَالتَّخْمِينِ وَالتَّقْدِيرِ مِنْهُمْ مِنْ زَرْعِ الْقَمْحِ كَذَا وَكَذَا فِسْقَارًا، وَمِنْ زَرْعِ الشَّعِيرِ كَذَا وَكَذَا فِسْقَارًا، لَا يَشُكُّونَ فِي ذَلِكَ، فَإِذَا أَثْبَتَ ذَلِكَ الْحَاكِمُ وَلَمْ يَكُنْ لِلْمَشْهُودِ عَلَيْهِ مِدْفَعٌ فِي شَهَادَةِ الشُّهُودِ، فَإِنَّ الْحَاكِمَ يُلْزِمُ الْمَشْهُودَ عَلَيْهِ ضَمَانَ مَكِيلَةِ مَا أَحْرَقَتْ النَّارُ مِنْ الْحَبِّ وَالتِّبْنِ، إنْ حَلَفَ صَاحِبُ الزَّرْعِ عَلَى عَدَدِ الْفَسَاقِيرِ الَّتِي كَانَتْ فِي أَنْدَرِهِ؛ لِأَنَّ الْبَيِّنَةَ لَمْ تَقْطَعْ عَلَى مَعْرِفَةِ عَدَدٍ مَعْلُومٍ، وَيَتَعَرَّفُ قَدْرَ مَا يَحْصُلُ مِنْ الْفِسْقَارِ عَلَى التَّوَسُّطِ مِنْ الْحَبِّ وَالتِّبْنِ، وَتَضْمِينُ ذَلِكَ قَالَ الْبَاجِيُّ فِي سِجِلَّاتِهِ: وَتَضْمِينُهُمْ الْمُتَعَدِّيَ مَكِيلَةَ الْحَبِّ لَيْسَ بِصَحِيحٍ عَلَى مَذْهَبِ الْمُدَوَّنَةِ وَغَيْرِهَا، وَالْمَعْرُوفُ مِنْ قَوْلِ مَالِكٍ: أَنَّ مَنْ اسْتَهْلَكَ طَعَامًا لَا يَعْرِفُ كَيْلَهُ فَعَلَيْهِ قِيمَتُهُ دَرَاهِمَ.
مَسْأَلَةٌ:
وَإِذَا فَقَدَ رَجُلٌ وَأَرَادَ الْحَاكِمُ تَعْمِيرَهُ، وَلَمْ يَقِفْ الشُّهُودُ عَلَى سَنَدٍ شَهِدُوا عَلَى التَّقْدِيرِ، وَيَنْفُذُ ذَلِكَ، فَإِنْ اخْتَلَفُوا أَخَذَ بِالْأَقَلِّ، قَالَ ابْنُ الْهِنْدِيِّ: وَإِذَا حَكَمَ الْحَاكِمُ بِتَعْمِيرِ هَذَا وَتَمْوِيتِهِ وَدَعَا وَرَثَتَهُ إلَى قَسْمِ مَالِهِ، فلابد مِنْ أَيْمَانِهِمْ عَلَى مَبْلَغِ سِنِّهِ؛ لِأَنَّ الْبَيِّنَةَ إنَّمَا شَهِدَتْ بِالتَّقْدِيرِ وَالْحَزْرِ وَلَوْ شَهِدَتْ بِتَارِيخِ الْوِلَادَةِ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِمَا يَمِينٌ.
مَسْأَلَةٌ:
وَفِي أَحْكَامِ ابْنِ سَهْلٍ فِي رَجُلٍ هَدَمَ بَيْتًا لِرَجُلٍ، وَأَخَذَ خَشَبَهُ وَأَعْتَابَهُ وَثَبَتَ ذَلِكَ عَلَيْهِ وَعَجَزَ عَنْ الدَّفْعِ فِي ذَلِكَ، فَأُمِرَ بِأَنْ يُعِيدَهُ إلَى مِثْلِ حَالَتِهِ، وَأَنْ يَصِفَ مَا نَقَضَ لِقِيَامٍ عَلَى تِلْكَ الصِّفَةِ أَوْ يَأْخُذَ بِقِيمَةِ ذَلِكَ فَنَكَلَ عَنْ الصِّفَةِ، وَادَّعَى الْجَهْلَ بِهَا لَدَدًا وَتَوَرُّكًا عَنْ الْحَقِّ، وَزَعَمَ أَنَّهُ بَاعَهُ وَلَمْ يَحْضُرْ نَقْضَهُ، فَإِنَّ هَذَا دَلِيلٌ عَلَى كَذِبِهِ وَبَاطِلِهِ؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَبِيعُ إلَّا مَا ثَبَتَتْ مَعْرِفَتُهُ، وَلَا يَجْهَلُ مِثْلَ هَذَا فَيُؤَدَّبُ بِالسَّوْطِ فِي تَجَاهُلِهِ بِمَا يَشْهَدُ الْعَقْلُ بِكَذِبِهِ فَإِنْ رَجَعَ عَنْ التَّجَاهُلِ غَرِمَ قِيمَةَ مَا اسْتَهْلَكَ، وَإِنْ مَضَى فِي تَجَاهُلِهِ وَلَمْ يَنْفَعْ فِيهِ الْأَدَبُ، وَكَانَ صَاحِبُ الْبَيْتِ يُحِيطُ بِمَعْرِفَةِ مَا اسْتَهْلَكَ لَهُ، وَصَفَ ذَلِكَ وَأُغْرِمَ هَذَا قِيمَةَ الصِّفَةِ مَعَ يَمِينِهِ عَلَى الصِّفَةِ، وَإِنْ ادَّعَى جَهْلًا فَهُوَ فِي ذَلِكَ أَعْذَرُ مِنْ الْمُتَعَدِّي لِأَنَّ الْمُتَعَدِّيَ أَقْرَبُ عَهْدًا بِمَا فِيهِ، وَإِذَا جُهِلَتْ الصِّفَةُ بِلَدَدِهِ، فَإِنَّهُ يُقَدِّرُ عَلَيْهِ أَوْسَطَ قِيمَةٍ، بِمَا يَسْتَدِلُّ عَلَيْهِ مِنْ وَجْهِ الْمُعَايَنَةِ الْوَضْعِ وَمَعْرِفَةِ قَدْرِ مَا كَانَ فِيهِ، وَإِنْ كَانَتْ الْعَيْنُ غَائِبَةً؛ لِأَنَّهُ إذَا أَخَذَ فِي ذَلِكَ بِأَوْسَطِ الْقِيمَةِ فَكَأَنَّ الْعَيْنَ قُوِّمَتْ. مِنْ ابْنِ سَهْلٍ.
مَسْأَلَةٌ:
وَمِنْ ذَلِكَ الشَّهَادَةُ فِي قِيَمِ الْمُتْلَفَاتِ إذَا لَمْ تَكُنْ عَيْنُهَا حَاضِرَةً، وَوَصَفَهَا الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فَقُوِّمَتْ بِتِلْكَ الصِّفَةِ، فَالشَّهَادَةُ فِي ذَلِكَ مِنْ بَابِ الْحَزْرِ وَالتَّقْرِيبِ.
مَسْأَلَةٌ:
وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُ الْخَارِصِ فِي الثِّمَارِ الْوَاجِبَةِ فِيهَا الزَّكَاةُ، مِنْ قَوْلِ الْحَكَمَيْنِ فِي جَزَاءِ الصَّيْدِ.
مَسْأَلَةٌ:
وَمِنْ ذَلِكَ شَهَادَةُ الْقَائِفِ عَلَى مَا هُوَ مَبْسُوطٌ فِي بَابِهِ.
مَسْأَلَةٌ:
وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُ الْمُؤَقِّتِينَ فِي تَحْرِيرِ جِهَةِ الْكَعْبَةِ، فَقَطْعُهُمْ بِذَلِكَ مِنْ بَابِ جِهَةِ التَّقْرِيبِ وَالتَّخْمِينِ، وَقَدْ ذَكَرَ هَذِهِ الْخَمْسَ الْمَسَائِلَ الْقَرَافِيُّ فِي الْقَوَاعِدِ فِي الْكَلَامِ عَلَى الْقَافَةِ.
مَسْأَلَةٌ:
وَفِي الْمُتَيْطِيَّةِ فِي الشَّهَادَةِ فِي جَائِحَةِ الثِّمَارِ.
وَقَالَ: وَيُكْتَبُ فِي عَقْدِ ذَلِكَ أَنَّ الشُّهُودَ وَقَفُوا عَلَى الثَّمَرِ، فَرَأَوْا أَنَّ هَذِهِ الْجَائِحَةَ أَدْرَكَتْ الثَّمَرَةَ الْمَذْكُورَةَ، بَعْدَ أَنْ اجْتَنَى نِصْفَهَا عَلَى التَّخْمِينِ الَّذِي لَمْ يَتَمَكَّنُوا فِيهِ، وَأَنَّ النِّصْفَ الْمُجَاحَ فَسَدَ جَمِيعُهُ وَأَنَّهُ لَا يَعُودُ مِنْهُ عَلَى الْمُبْتَاعِ، فَلِأَنَّ مَا يَنْتَفِعُ بِهِ وَإِنْ كَانَتْ مَقْثَأَةً فَنَقُولُ: وَإِنَّ الْمَقْثَأَةَ الْمَذْكُورَةَ اجْتَنَى مِنْهَا قَبْلَ ظُهُورِ الْقَحْطِ بِهَا مِنْ الْعَطَشِ، نَحْوَ ثَلَاثَةِ أَرْبَاعِهَا عَلَى الْمَعْهُودِ فِي مِثْلِهَا، وَإِنَّ الَّذِي فَسَدَ مِنْهَا بِالْعَطَشِ هُوَ رُبْعُهَا تَقْدِيرًا لَمْ يَشُكُّوا فِيهِ، وَإِنْ كَانَ مِمَّا يُجْنَى بُطُونًا قُلْت فِي ذَلِكَ: إنَّ الشُّهُودَ قَدْ رَأَوْا أَنَّ مَكِيلَةَ الْمُجَاحِ مِمَّا يُمْكِنُ أَنْ يَتَوَلَّدَ فِي الْمَقْثَأَةِ إلَى آخِرِهِ، بُطُونًا ثُلُثُ جَمِيعِهَا وَقُدِّرَ، أَوْ إنَّ مَكِيلَةَ هَذَا الْمُجَاحِ مِمَّا بَقِيَ سَالِمًا فِيهَا، وَمِمَّا يُمْكِنُ أَنْ يَنْعَقِدَ فِيهَا إلَى آخِرِ أَبَانِهَا هُوَ ثُلُثُ جَمِيعِهَا، وَإِنَّ الْمُجَاحَ مِنْهَا يُسَاوِي فِي وَقْتِهِ عَلَى قَدْرِ نَفَاقِهِ وَرَغْبَةِ النَّاسِ فِيهِ كَذَا، وَإِنَّ سَائِرَ بُطُونِهَا إلَى آخِرِهَا عَلَى مَا ظَهَرَ إلَيْهِمْ، مِمَّا يُسَاوِي فِي أَوْقَاتِهَا عَلَى قَدْرِ نَفَاقِهَا كَذَا، فَيَضَعُ الْمُجَاحُ الْمَذْكُورُ مِنْ الْقِيمَةِ نِصْفَهَا أَوْ ثُلُثَهَا أَوْ ثَلَاثَةَ أَرْبَاعِهَا، قَدَّرُوا ذَلِكَ تَقْدِيرًا قَطَعُوا عَلَيْهِ وَلَمْ يَشُكُّوا فِيهِ.
مَسْأَلَةٌ:
وَفِي أَحْكَامِ ابْنِ سَهْلٍ فِي رَسْمِ الشَّهَادَةِ عَلَى الْخَطِّ فِي الْحَبْسِ فِي رَجُلٍ بَاعَ حَبْسًا ثُمَّ ثَبَتَ عِنْدَ الْحَاكِمِ التَّحْبِيسُ وَنَقْضُ الْبَيْعِ، وَأَوْجَبَ لِلْمُبْتَاعِ الرُّجُوعَ بِمَا ابْتَاعَهُ بِهِ عَلَى بَائِعِهِ مِنْهُ إنْ كَانُوا أَحْيَاءً، فَإِنْ مَاتَ الْبَائِعُ عَنْ مَالٍ رَجَعَ الْمُبْتَاعُ فِي مَالِهِ إنْ وَجَدَهُ بِعَيْنِهِ، وَإِلَّا فَعَلَى مَنْ صَارَ إلَيْهِ ذَلِكَ الْمَالُ مِنْ وَرَثَتِهِ، فَإِنْ كَانَ قَدْ انْتَقَلَ الْحَبْسُ الْمَبِيعُ مِنْ الْمُبْتَاعِ إلَى مُبْتَاعٍ آخَرَ، فَإِنَّهُ يَرْجِعُ الْمَرْجُوعُ عَلَيْهِمْ عَلَى مَنْ بَاعَ مِنْهُمْ، حَتَّى يَنْتَهِيَ التَّرَاجُعُ إلَى الْبَائِعِ الْمُحْتَبِسِ، فَإِذَا انْتَهَى إلَيْهِ وَثَبَتَ مَبْلَغُ الثَّمَنِ الَّذِي بَاعَ بِهِ وَقَبَضَهُ مِنْ الْمُبْتَاعِ، رَجَعَ فِيمَا يَجْعَلُهُ مِنْ مَالٍ مُطْلَقًا، وَإِنْ لَمْ يَثْبُتْ عَدَدُهُ وَلَا وَقَفَ الشُّهُودُ عَلَى مَبْلَغِهِ، اسْتَنْزَلُوا قَلِيلًا قَلِيلًا حَتَّى يَقِفُوا مِنْهُ عَلَى عَدَدٍ لَا يَرْتَابُونَ فِيهِ، فَيَأْخُذُ مِنْ مَالِ الْمُحْبِسِ مِثْلَهُ، هَذَا قَوْلُ ابْنِ الْقَاسِمِ وَمُطَرِّفٍ وَابْنِ كِنَانَةَ وَابْنِ حَبِيبٍ، وَرَوَى أَشْهَبُ عَنْ مَالِكٍ خِلَافَهُ وَإِنْ لَمْ يَتَحَقَّقْ الشُّهُودُ حَقِيقَةَ شَيْءٍ بَطَلَ، وَكَذَلِكَ يَبْطُلُ إنْ لَمْ يُوجَدْ لَهُ مَالٌ مُطْلَقٌ يُؤْخَذُ مِنْهُ، فَانْظُرْ كَيْفَ اسْتَنْزَلَهُمْ فِيمَا لَمْ يَعْلَمُوا لَهُ حَقِيقَةً.
مَسْأَلَةٌ:
وَفِي الْمَذْهَبِ وَسُئِلَ ابْنُ رُشْدٍ عَنْ رَجُلٍ اسْتَغَلَّ ضَيْعَةَ رَجُلٍ ظُلْمًا، فَشَهِدَ الشُّهُودُ أَنَّ قِيمَةَ غَلَّةِ الضَّيْعَةِ عَلَى التَّقْرِيبِ كَذَا، هَلْ تَجُوزُ شَهَادَتُهُمْ عَلَى التَّقْرِيبِ دُونَ مُعَايَنَةٍ؟ فَأَجَابَ لَا تَجُوزُ شَهَادَةُ الشُّهُودِ عَلَى التَّقْرِيبِ وَالتَّخْمِينِ، وَإِنَّمَا تَجُوزُ عَلَى الْقَطْعِ وَمَعْرِفَةِ الِاسْتِغْلَالِ، تُسْتَنْزَلُ الْبَيِّنَةُ حَتَّى تَشْهَدَ عَلَى مَا تَقْطَعُ عَلَيْهِ وَلَا تَشُكُّ فِيهِ.
تنبيه:
فَتَبَيَّنَ بِهَذَا أَنَّ الشَّهَادَةَ فِي هَذَا الْبَابِ، لَا يَدْفَعُهَا مِنْ الْقَطْعِ وَالْجَزْمِ بِمَا شَهِدُوا بِهِ، وَحِينَئِذٍ تُنَزَّلُ مَنْزِلَةَ الشَّهَادَةِ عَلَى الْمُعَايَنَةِ، وَنُصُوصُهُمْ تَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ لَكِنَّ مُسْتَنَدَهُمْ فِيهَا الْحَزْرُ وَالتَّخْمِينُ.

.الْبَابُ الْأَرْبَعُونَ فِي الْقَضَاءِ بِالشَّهَادَةِ بِغَلَبَةِ الظَّنِّ:

وَاعْلَمْ أَنَّ الشَّرْعَ لَمْ يَعْتَبِرْ مُطْلَقَ الظَّنِّ فِي غَالِبِ الْمَسَائِلِ، وَإِنَّمَا يَعْتَبِرُ ظُنُونًا مُفِيدَةً مُسْتَفَادَةً مِنْ إمَارَةٍ مَخْصُوصَةٍ، وَذَلِكَ فِيمَا لَا سَبِيلَ فِيهِ إلَى الْقَطْعِ كَالشَّهَادَةِ أَنَّ الْمِدْيَانَ مُعْدَمٌ فَإِنَّهُمْ إنَّمَا يَشْهَدُونَ عَلَى عِلْمِهِمْ وَقَدْ يَكُونُ الْبَاطِنُ بِخِلَافِهِ، فَاسْتَظْهَرَ بِالْيَمِينِ فِي ذَلِكَ عَلَى الْمَشْهُودِ لَهُ، فَبِقِيَامِ الْبَيِّنَةِ عَلَى ذَلِكَ مَعَ يَمِينِهِ اسْتَحَقَّ حُكْمَ الْمُعْدَمِ، وَسَقَطَ عَنْهُ الطَّلَبُ مَا دَامَ عَلَى تِلْكَ الْحَالَةِ.
مَسْأَلَةٌ:
وَكَذَلِكَ الشَّهَادَةُ لِامْرَأَةٍ غَابَ زَوْجُهَا وَتَرَكَهَا بِغَيْرِ نَفَقَةٍ؛ لِأَنَّ الشَّهَادَةَ فِيهِ عَلَى الْعِلْمِ الْبَتِّ، فَإِذَا قَامَتْ بِذَلِكَ عِنْدَ الْحَاكِمِ وَشَهِدَ لَهَا الشُّهُودُ، اسْتَظْهَرَ عَلَيْهَا بِالْيَمِينِ عَلَى صِحَّةِ مَا شَهِدَ الشُّهُودُ لَهَا، فَبِمُقَارِبَةِ الْيَمِينُ الشَّهَادَةَ وَجَبَ لَهَا الْحُكْمُ بِذَلِكَ.
مَسْأَلَةٌ:
وَكَذَلِكَ الشَّهَادَةُ عَلَى الشَّيْءِ الْمُسْتَحَقِّ، وَفِي هَذَا النَّوْعِ خِلَافٌ وَتَفْرِقَةٌ بَيْنَ أَنْوَاعِ الْمُسْتَحَقَّاتِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ ذَلِكَ فِي الْقَضَاءِ بِشَاهِدَيْنِ وَيَمِينِ الْقَضَاءِ.
مَسْأَلَةٌ:
وَمِنْ ذَلِكَ الشَّهَادَةُ عَلَى عِدَّةِ الْوَرَثَةِ، لابد أَنْ يَقُولُوا لَا نَعْلَمُ لَهُ وَارِثًا غَيْرَهُمْ فِي سَائِرِ الْبِلَادِ، وَكَذَلِكَ شَهَادَتُهُمْ فِي الشَّيْءِ الْمُسْتَحَقِّ لابد أَنْ يَقُولُوا: لَا نَعْلَمُ أَنَّهُ لَا بَاعَ وَلَا وَهَبَ وَلَا تَصَدَّقَ وَلَا خَرَجَ عَنْ يَدِهِ بِوَجْهٍ مِنْ وُجُوهِ انْتِقَالَاتِ الْأَمْلَاكِ، وَلَا يَشْهَدُونَ فِي الِاسْتِحْقَاقِ وَلَا فِي عِدَّةِ الْوَرَثَةِ عَلَى الْبَتِّ، فَلَوْ قَالُوا لَا وَارِثَ لَهُ غَيْرُهُمْ أَصْلًا عَلَى الْبَتِّ، أَوْ قَالُوا نَشْهَدُ أَنَّهُ شَيْؤُهُ لَمْ يَبِعْهُ وَلَا فَوَّتَهُ كَانَتْ شَهَادَةَ زُورٍ، كَذَا هُوَ فِي الْمُدَوَّنَةِ.
وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِ مَالِكٍ: إنَّ الشَّهَادَةَ فِي ذَلِكَ لَا تَكُونُ إلَّا عَلَى الْبَتِّ وَهُوَ ابْنُ الْمَاجِشُونِ، وَهَذَا مَبْسُوطٌ فِي الْفَصْلِ الثَّامِنِ فِيمَا يَجِبُ عَلَى الْقَاضِي التَّنَبُّهُ لَهُ فِي أَدَاءِ الشَّهَادَاتِ.
مَسْأَلَةٌ:
وَمِنْ ذَلِكَ لَوْ شَهِدَ شَاهِدَانِ أَنَّهُمَا رَأَيَا رَجُلًا خَرَجَ مُسْتَسِرًّا مِنْ دَارٍ فِي حَالٍ رَثَّةٍ، فَاسْتَنْكَرُوا ذَلِكَ فَدَخَلَ الْعُدُولُ مِنْ سَاعَتِهِمْ الدَّارَ فَوَجَدُوا قَتِيلًا يَسِيلُ دَمُهُ وَلَيْسَ فِي الدَّارِ أَحَدٌ، فَهَذِهِ شَهَادَةٌ جَائِزَةٌ يَقْطَعُ الْحُكْمُ بِهَا، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ عَلَى الْمُعَايَنَةِ، قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: وَكَذَلِكَ لَوْ رَأَى الْعُدُولُ الْمُتَّهَمَ يُجَرِّدُ الْمَقْتُولَ، وَإِنْ لَمْ يَرَوْهُ حِينَ أَصَابَهُ فَإِنَّ شَهَادَتَهُمْ لَوْثٌ تَجِبُ مَعَهَا الْقَسَامَةُ.
مَسْأَلَةٌ:
وَمِنْ ذَلِكَ الشَّهَادَةُ عَلَى التَّعْرِيفِ فَإِنَّهَا مُسْتَنِدَةٌ إلَى غَلَبَةِ الظَّنِّ.
مَسْأَلَةٌ:
قَالَ ابْنُ الْحَاجِبِ: وَيَعْتَمِدُ عَلَى الْقَرَائِنِ الْمُعْتَمَدَةِ الْمُغَلِّبَةِ لِلظَّنِّ فِي التَّعْدِيلِ وَفِي الْإِعْسَارِ بِالْجَبْرِ فِي الْبَاطِنَةِ وَضَرَرِ أَحَدِ الزَّوْجَيْنِ.
قَالَ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ: أَجَازُوا لِلشَّاهِدِ أَنْ يَعْتَمِدَ فِيمَا يَشْهَدُ بِهِ عَلَى الظَّنِّ الْقَوِيِّ الْقَرِيبِ مِنْ الْيَقِينِ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الْمَقْدُورُ عَلَى تَحْصِيلِهِ فَلَوْ لَمْ يَحْكُمْ بِمُقْتَضَاهُ وَإِلَّا لَزِمَ تَعْطِيلُ الْحُكْمِ فِي التَّعْدِيلِ وَفِي الْإِعْسَارِ، وَأَمَّا ضَرَرُ الزَّوْجَيْنِ، وَإِنْ كَانَ يُمْكِنُ حُصُولُ الْقَطْعِ بِهِ لِلشَّاهِدِ، وَلَكِنَّهُ فِي غَايَةِ النُّدُورِ وَالْعُسْرِ فَيَلْزَمُ تَعْطِيلُ الْحُكْمِ بِهِ أَيْضًا، وَلِعُسْرِ ذَلِكَ قَالَ فِي الرِّوَايَةِ وَمِنْ أَيْنَ لِلشُّهُودِ الْعِلْمُ بِذَلِكَ.
فَصْلٌ: قَالَ الْقَرَافِيُّ فِي الْفَرْقِ السَّادِسِ وَالْعِشْرِينَ وَالْمِائَتَيْنِ: اعْلَمْ أَنَّ قَوْلَ الْعُلَمَاءِ أَنَّ الشَّهَادَةَ لَا تَجُوزُ إلَّا بِالْعِلْمِ لَيْسَ عَلَى ظَاهِرِهِ، فَإِنَّ ظَاهِرَهُ يَقْتَضِي أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُؤَدِّيَ الشَّاهِدُ إلَّا مَا هُوَ قَاطِعٌ بِهِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ حَالَةُ الْأَدَاءِ دَائِمًا عِنْدَ الشَّاهِدِ الظَّنُّ الضَّعِيفُ فِي كَثِيرٍ مِنْ الصُّوَرِ، بَلْ الْمُرَادُ بِذَلِكَ أَنْ يَكُونَ أَصْلُ الْمُدْرَكِ عِلْمًا فَقَطْ، فَلَوْ شَهِدَ بِقَبْضِ الدَّيْنِ جَازَ أَنْ يَكُونَ الَّذِي عَلَيْهِ الدَّيْنُ قَدْ دَفَعَهُ، فَتَجُوزُ الشَّهَادَةُ عَلَيْهِ بِالِاسْتِصْحَابِ الَّذِي لَا يُفِيدُ إلَّا الظَّنَّ الضَّعِيفَ، وَكَذَلِكَ الثَّمَنُ فِي الْمَبِيعِ مِنْ احْتِمَالِ دَفْعِهِ، وَيَشْهَدُ فِي الْمِلْكِ الْمَوْرُوثِ لِوَارِثِهِ مَعَ جَمِيعِ جَوَازِ بَيْعِهِ بَعْدَ أَنْ وَرِثَهُ، وَيَشْهَدُ بِالْإِجَارَةِ وَلُزُومِ الْأُجْرَةِ مَعَ جَوَازِ الْإِقَالَةِ بَعْدَ ذَلِكَ بِنَاءً عَلَى الِاسْتِصْحَابِ.
وَالْحَاصِلُ فِي هَذِهِ الصُّوَرِ كُلِّهَا وَشِبْهِهَا إنَّمَا هُوَ الظَّنُّ الضَّعِيفُ وَلَا يَكَادُ يُوجَدُ مَا يَبْقَى فِيهِ الْعِلْمُ إلَّا الْقَلِيلُ مِنْ الصُّوَرِ.
فَمِنْ ذَلِكَ النَّسَبُ وَالْوَلَاءُ فَإِنَّهُ لَا يَقْبَلُ النَّقْلَ، فَيَبْقَى الْعِلْمُ عَلَى حَالِهِ، وَمِنْ ذَلِكَ الشَّهَادَةُ بِالْإِقْرَارِ، فَإِنَّهُ إخْبَارٌ عَنْ وُقُوعِ النُّطْقِ فِي الزَّمَانِ الْمَاضِي وَذَلِكَ لَا يَرْتَفِعُ.
وَمِنْ ذَلِكَ الْوَقْفُ إذَا حَكَمَ بِهِ حَاكِمٌ، أَمَّا إذَا لَمْ يَحْكُمْ بِهِ حَاكِمٌ فَإِنَّ الشَّهَادَةَ إنَّمَا فِيهَا الظَّنُّ فَقَطْ، فَإِذَا شَهِدَ بِأَنَّ هَذِهِ الدَّارَ وَقْفٌ احْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ حَاكِمٌ حَنَفِيٌّ حَكَمَ بِنَقْضِهِ.

.الْبَابُ الْحَادِي وَالْأَرْبَعُونَ فِي الْقَضَاءِ بِشَهَادَةِ النَّفْيِ:

قَالَ الْقَرَافِيُّ: اُشْتُهِرَ عَلَى أَلْسِنَةِ الْفُقَهَاءِ أَنَّ الشَّهَادَةَ عَلَى النَّفْيِ غَيْرُ مَقْبُولَةٍ، وَفِيهِ تَفْصِيلٌ: فَإِنَّ النَّفْيَ قَدْ يَكُونُ مَعْلُومًا بِالضَّرُورَةِ أَوْ بِالظَّنِّ الْغَالِبِ النَّاشِئِ عَنْ الْفَحْصِ، وَقَدْ يَعْرَى عَنْهُمَا فَهَذِهِ ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ:
الْقِسْمُ الْأَوَّلُ: تَجُوزُ الشَّهَادَةُ بِهِ اتِّفَاقًا، كَمَا لَوْ شَهِدَ أَنَّهُ لَيْسَ فِي هَذِهِ الْبُقْعَةِ الَّتِي بَيْنَ يَدَيْهِ فَرَسٌ وَنَحْوُهُ، فَإِنَّهُ يَقْطَعُ بِذَلِكَ، وَكَذَلِكَ يَجُوزُ أَنْ يَشْهَدَ أَنَّ زَيْدًا لَمْ يَقْتُلْ عَمْرًا بِالْأَمْسِ؛ لِأَنَّهُ كَانَ فِي الْبَيْتِ لَمْ يُفَارِقْهُ، وَأَنَّهُ لَمْ يُسَافِرْ؛ لِأَنَّهُ رَآهُ فِي الْبَلَدِ، فَهَذِهِ شَهَادَةٌ صَحِيحَةٌ بِالنَّفْيِ.
الثَّانِي: تَجُوزُ الشَّهَادَةُ بِهِ، أَعْنِي بِالنَّفْيِ مُسْتَنِدًا إلَى الظَّنِّ الْغَالِبِ وَذَلِكَ فِي صُوَرٍ مِنْهَا التَّفْلِيسِ، فَإِنَّ الْحَاصِلَ فِيهِ إنَّمَا هُوَ الظَّنُّ الْغَالِبُ؛ لِأَنَّهُ يَجُوزُ عَقْلًا حُصُولُ الْمَالِ لِلْمُفْلِسِ وَهُوَ يَكْتُمُهُ، وَمِنْهَا الشَّهَادَةِ عَلَى حَصْرِ الْوَرَثَةِ، وَأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ وَارِثٌ غَيْرُ هَذَا، فَمُسْتَنَدُ الشَّاهِدِ الظَّنُّ وَقَدْ يَكُونُ لَهُ وَارِثٌ لَمْ يَطَّلِعْ عَلَيْهِ، فَهِيَ شَهَادَةٌ عَلَى النَّفْيِ، وَمِنْهَا مَقْبُولَةِ الشَّهَادَةِ فِي الِاسْتِحْقَاقِ أَنَّهُ مِلْكُهُ، وَلَمْ يُفَوِّتْهُ بِنَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِ الْفَوْتِ وَلَمْ يَخْرُجْ عَنْ مِلْكِهِ بِوَجْهٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْخِلَافُ هَلْ الشَّاهِدُ فِي ذَلِكَ عَلَى الْعِلْمِ أَوْ عَلَى الْبَتِّ؟ وَكَذَلِكَ الشَّهَادَةُ عَلَى انْتِقَالِ الْمِلْكِ لِلْوَرَثَةِ عَنْ مُوَرِّثِهِ لَا تَجُوزُ الشَّهَادَةُ فِيهِ حَتَّى يَقُولُوا لَا نَعْلَمُ الْمَشْهُودَ لَهُ بِهِ فَوَّتَ شَيْئًا مِنْهُ، إلَى آخِرِ إيقَاعِهِمْ لِشَهَادَتِهِمْ، هَذَا مَذْهَبُ ابْنُ الْقَاسِمِ.
وَقَالَ ابْنُ الْمَاجِشُونِ لابد مِنْ الشَّهَادَةِ عَلَى الْقَطْعِ وَالشَّهَادَةُ بِالْعِلْمِ سَاقِطَةٌ، وَبِالْأَوَّلِ الْقَضَاءُ.
الثَّالِثُ: مَا عَرَى عَنْهُمَا مِثْلَ أَنْ يَشْهَدَ أَنَّ زَيْدًا لَمْ يُوَفِّ الدَّيْنَ عَلَيْهِ أَوْ بَاعَ سِلْعَتَهُ وَنَحْوَ ذَلِكَ، فَهَذَا نَفْيٌ غَيْرُ مُنْضَبِطٍ وَإِنَّمَا تَجُوزُ الشَّهَادَةُ عَلَى النَّفْيِ الْمُنْضَبِطِ قَطْعًا أَوْ ظَنًّا.

.الْبَابُ الثَّانِي وَالْأَرْبَعُونَ فِي الْقَضَاءِ بِالشَّهَادَةِ الَّتِي تُوجِبُ حُكْمًا:

وَلَا تُوجِبُ الْحَقَّ الْمُدَّعَى بِهِ قَالَ ابْنُ رُشْدٍ فِي الْمُقَدِّمَاتِ الشَّهَادَةُ الَّتِي تُوجِبُ حُكْمًا وَلَا تُوجِبُ الْحَقَّ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: شَهَادَةِ الشُّهُودِ غَيْرِ الْعُدُولِ فِي اسْتِحْقَاقِ الشَّيْءِ الْمُعَيَّنِ فَإِذًا تُوجِبُ تَوْقِيفَهُ عِنْدَ أَصْبَغَ.
وَالثَّانِي: شَهَادَةِ شَاهِدٍ أَوْ شَاهِدٍ وَامْرَأَتَيْنِ أَنَّهُ سَرَقَ لَهُ مِثْلَ مَا يَدَّعِي، أَوْ شَاهِدَيْنِ إذَا جُرِحَا عَلَى اخْتِلَافٍ بَيْنَهُمْ فِي ذَلِكَ.
وَالثَّالِثِ: شَاهِدٌ عَدْلٌ أَوْ امْرَأَتَانِ عَلَى الطَّلَاقِ أَوْ الْعِتْقِ، فَإِنَّهَا تُوجِبُ الْيَمِينَ عِنْدَ جَمِيعِهِمْ، فَإِذَا أَقَامَتْ الْمَرْأَةُ شَاهِدَا الطَّلَاقِ وَأَنْكَرَ الزَّوْجُ حَلَفَ وَخُلِّيَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا، وَإِنْ نَكَلَ سُجِنَ حَتَّى يَحْلِفَ أَوْ يَطُولَ أَمْرُهُ. وَالْقَوْلُ فِي ذَلِكَ سَنَةً، وَقِيلَ يُحْبَسُ أَبَدًا حَتَّى يَحْلِفَ أَوْ يُطَلِّقَ، وَأَمَّا الْعِتْقُ فَيَحْلِفُ السَّيِّدُ فَإِنْ نَكَلَ عَتَقَ عَلَيْهِ عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ وَسُجِنَ عَلَى الْقَوْلِ الْآخَرِ حَتَّى يَحْلِفَ.
مَسْأَلَةٌ:
وَإِذَا شَهِدَ شَاهِدٌ بِالنِّكَاحِ فَإِنْ كَانَ الزَّوْجَانِ مُقِرَّيْنِ زَادَا حِينَئِذٍ شَاهِدًا آخَرَ وَجُبِرَ الْآبِي مِنْهُمَا، وَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا مُنْكِرًا لَمْ يَحْلِفْ مَعَهُ الْمَشْهُودُ لَهُ وَأَمَّا الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ فَإِنْ كَانَتْ الْمَرْأَةُ لَمْ تَحْلِفْ.
وَفِي الْمَوَّازِيَّةِ إنْ ادَّعَتْ امْرَأَةٌ عَلَى رَجُلٍ أَوْ رَجُلٌ عَلَى امْرَأَةٍ فَلَا يَمِينَ بَيْنَهُمَا مَا لَمْ يَكُنْ شَاهِدٌ يُرِيدُ، فَيَحْلِفُ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ مِنْهُمَا.
مَسْأَلَةٌ:
وَأَمَّا الشَّاهِدُ الْوَاحِدُ عَلَى الشُّرْبِ، فَقَالَ فِي الْمُدَوَّنَةِ إنْ شَهِدَ رَجُلٌ عَلَى آخَرَ أَنَّهُ شَرِبَ خَمْرًا نَكَلَ الشَّاهِدُ.
مَسْأَلَةٌ:
وَأَمَّا الشَّاهِدُ الْوَاحِدُ عَلَى السَّرِقَةِ فَإِنْ كَانَ لَهَا مَنْ يَطْلُبُهَا لَمْ يُعَاقَبْ الشَّاهِدُ عَدْلًا كَانَ أَوْ غَيْرَ عَدْلٍ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا مَنْ يَطْلُبُهَا عُوقِبَ إنْ كَانَ غَيْرَ عَدْلٍ، وَإِنْ كَانَ عَدْلًا لَمْ يُعَاقَبْ.
مَسْأَلَةٌ:
وَأَمَّا الشَّاهِدُ الْوَاحِدُ عَلَى الْقَذْفِ فَيَحْلِفُ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ وَيَبْرَأُ، فَإِنْ نَكَلَ فَهَلْ يُحَدُّ أَوْ يُسْجَنُ أَبَدًا، حَتَّى يَحْلِفَ أَوْ يَخْرُجَ مِنْ الْحَبْسِ بَعْدَ سَنَةٍ؟ خِلَافٌ.
مَسْأَلَةٌ:
وَلَوْ شَهِدَتْ الْبَيِّنَةُ أَنَّ فُلَانًا افْتَرَى عَلَى فُلَانٍ فَلَا يُكْتَفَى بِهَذِهِ الشَّهَادَةِ، حَتَّى يَكْشِفَ الشُّهُودُ عَنْ حَقِيقَةِ مَا سَمِعُوهُ إذْ لَعَلَّهُمْ يَظُنُّونَ قَذْفًا وَلَيْسَ كَذَلِكَ فَإِنْ فَاتَتْ الْبَيِّنَةُ وَتَعَذَّرَ سُؤَالُهُمْ عُوقِبَ الشُّهُودُ عَلَيْهِ عَلَى مَا يَرَاهُ الْحَاكِمُ وَلَا يُقَامُ عَلَيْهِ الْحَدُّ.
فرع:
مِنْ ذَلِكَ مَا رُوِيَ فِي الرَّجُلِ يُدَّعَى عَلَيْهِ أَنَّهُ بَاعَ أَصْلًا أَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْيَمِينُ إلَّا بِشَاهِدٍ.
فرع:
وَكَذَلِكَ الْمَالُ يُوقَفُ لِمُدَّعِيهِ بِالشَّاهِدِ الْوَاحِدِ.
فرع:
وَكَذَلِكَ الشَّاهِدُ الْوَاحِدُ عَلَى رَجُلٍ أَنَّهُ سَبَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيُدْرَأُ عَنْهُ الْحَدُّ، وَيُجْتَهَدُ فِي أَدَبِهِ بِقَدْرِ شُهْرَةِ حَالِهِ.
مَسْأَلَةٌ:
قَالَ أَشْهَبُ: وَلَوْ ادَّعَى رَجُلٌ عَلَى رَجُلٍ وَدِيعَةً أَوْ غَيْرَهَا فَجَحَدَهُ وَأَخَذَهَا مِنْ بَيْتِهِ عَلَى وَجْهِ السَّرِقَةِ، فَإِنَّهُ يُقْطَعُ إلَّا أَنْ تَقُومَ بَيِّنَةٌ أَنَّهُ أَوْدَعَهُ ذَلِكَ، وَإِنْ لَمْ يَشْهَدُوا بِمِلْكِهِ لَهَا، فَأَوْجَبَتْ الْبَيِّنَةُ سُقُوطَ الْقَطْعِ، وَلَمْ تُوجِبْ لِلسَّارِقِ حَقًّا فِي الْمَسْرُوقِ.
فرع:
وَكَذَلِكَ الشَّاهِدُ الْوَاحِدُ عَلَى النِّكَاحِ الَّذِي دَخَلَ وَلَمْ يَشْهَدْ فِيهِ يَسْقُطُ بِهِ الْحَدُّ عَنْ الزَّوْجَيْنِ.
فرع:
وَكَذَلِكَ الشَّاهِدُ الْوَاحِدُ عَلَى الدَّعْوَى الَّتِي يُصَدِّقُهَا الْعُرْفُ تُوجِبُ الْيَمِينَ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ عِنْدَ مَنْ لَا يَرَى الْقَضَاءَ بِالْيَمِينِ مَعَ الشَّاهِدِ.
فرع:
وَكَذَلِكَ إذَا أَقَامَ الْمُدَّعِي شَاهِدًا وَاحِدًا عَلَى حَقٍّ يَثْبُتُ بِالشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ فَقِيلَ لَهُ: احْلِفْ مَعَ شَاهِدِك وَاسْتَحِقَّ حَقَّك، فَإِنْ أَبَى تَوَجَّهَتْ الْيَمِينُ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، فَإِنْ حَلَفَهُ بَرِئَ، وَإِنْ نَكَلَ قُضِيَ عَلَيْهِ بِنُكُولِهِ.

.الْبَابُ الثَّالِثُ وَالْأَرْبَعُونَ فِي الْقَضَاءِ فِي الشَّهَادَاتِ الْمَجْهُولَةِ وَالنَّاقِصَةِ:

وَفِي الطُّرَرِ لِابْنِ عَاتٍ قَالَ الْأَبْهَرِيُّ: إنْ شَهِدَ الشُّهُودُ عَلَى رَجُلٍ بِحَقٍّ لَا يَعْرِفُونَ عَدَدَهُ، فَالْيَمِينُ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، فَإِنْ أَقَرَّ بِشَيْءٍ حَلَفَ عَلَيْهِ وَبَرِئَ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَحْكُمُ بِإِقْرَارِهِ؛ لِأَنَّ الشَّهَادَةَ لَمْ يَثْبُتْ بِهَا الْحَقُّ حَتَّى يَحْكُمَ بِهِ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الشُّهُودَ لَمْ يُعيِّنُوا شَيْئًا وَلَا حَدُّوهُ فَشَهَادَتُهُمْ مَجْهُولَةٌ لَا يُحْكَمُ بِهَا، وَلَوْ قَالُوا نَشْهَدُ بِدَنَانِيرَ لَا نَعْرِفُ عَدَدَهَا جُعِلَتْ ثَلَاثَةً، ثُمَّ حَلَفَ عَلَى شَهَادَتِهِمْ وَإِنْ كَانَتْ دَرَاهِمَ، فَكَذَلِكَ؛ لِأَنَّ الشُّهُودَ قَدْ بَيَّنُوا بِشَهَادَتِهِمْ شَيْئًا مَعْلُومًا وَهِيَ الدَّنَانِيرُ، فَيُؤْخَذُ بِأَقَلِّ مَا يَقَعُ عَلَيْهِ اسْمُ الدَّنَانِيرِ؛ لِأَنَّهُ أَقَلُّ جَمْعِ دِينَارٍ، يَعْنِي الْجَمْعَ الْأَظْهَرَ لَا الْجَمْعَ الْمَعْلُومَ بِالدَّلِيلِ وَهُوَ اثْنَانِ وَيَحْلِفُ مَعَ شَهَادَتِهِمْ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ احْتِيَاطًا.
فرع:
قَالَ وَإِنْ شَهِدُوا أَنَّ قَبْلَهُ حَقًّا لَا يُدْرِكُونَ كَمْ هُوَ حَلَفَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ وَبَرِئَ؛ لِأَنَّهُمْ لَمْ يُبَيِّنُوا حَقًّا مَعْلُومًا فَيَسْقُطُ حُكْمُ الشَّهَادَةِ وَيَبْقَى حُكْمُ الدَّعْوَى الَّتِي لَا شَهَادَةَ مَعَهَا وَهُوَ الْيَمِينُ، نَقَلَهُ مِنْ الِاسْتِغْنَاءِ.
فرع:
وَفِي وَثَائِقِ ابْنِ الْعَطَّارِ: وَإِذَا شَهِدَ الشُّهُودُ فِي النِّكَاحِ، وَلَا يَعْرِفُونَ مَبْلَغَ الصَّدَاقِ أَوْ شَهِدُوا فِي الْبَيْعِ وَلَا يَعْرِفُونَ الثَّمَنَ، فَقَالَ أَبُو عُمَرَ أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ الْإِشْبِيلِيُّ: لابد لِلزَّوْجِ أَنْ يُسَمِّيَ عَدَدًا، فَإِنْ أَبَى حَلَفَ الطَّالِبُ إذَا أَتَى بِمَا يُشْبِهُ وَلَزِمَهُ النِّكَاحُ وَالْبَيْعُ مِثْلُهُ، وَأَجَابَ فِيهَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْقَطَّانِ بِمِثْلِ ذَلِكَ.
وَقَالَ إبْرَاهِيمُ بْنُ إِسْحَاقَ التُّجِيبِيِّ: أَرَى أَنَّ الشَّهَادَةَ سَاقِطَةٌ، وَلَسْت أَقُولُ بِقَوْلِ غَيْرِي، وَذَكَرَ أَنَّهَا رِوَايَةٌ عَنْ ابْنِ الْقَاسِمِ.
مَسْأَلَةٌ:
وَفِي الطُّرَرِ: وَإِذَا ادَّعَى رَجُلٌ عَلَى رَجُلٍ آخَرَ أَنَّهُ أَوْدَعَهُ ثَوْبًا فَأَنْكَرَهُ فَقَامَتْ عَلَيْهِ بَيِّنَةٌ أَنَّهُ أَوْدَعَهُ أَعْكَامًا لَا يَعْرِفُونَ مَا فِيهَا وَيَظُنُّونَ ثِيَابًا، فَيَجِبُ أَنْ يُسْجَنَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ وَيُهَدَّدَ، فَإِنْ أَقَرَّ بِشَيْءٍ فَذَلِكَ عَلَيْهِ وَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلُهُ، وَإِنْ تَمَادَى عَلَى إنْكَارِهِ حَلَفَ صَاحِبُ الْوَدِيعَةِ عَلَى مَا يُشْبِهُ أَنَّهُ يَمْلِكُ مِثْلَهُ وَيَأْخُذُهُ بِذَلِكَ، وَالظَّالِمُ أَحَقُّ أَنْ يَحْمِلَ عَلَيْهِ، وَقَدْ قِيلَ إنَّهُ يَحْلِفُ إذَا لَمْ تُعَيِّنْ الْبَيِّنَةُ شَيْئًا، بَعْدَ أَنْ يُسْتَبْرَأَ أَمْرُهُ بِالسَّجْنِ وَالتَّضْيِيقِ وَالتَّشْدِيدِ عَلَيْهِ إذَا تَمَادَى عَلَى إنْكَارِهِ، وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ وَبِالْأَوَّلِ الْقَضَاءُ، نَقَلَهُ مِنْ الِاسْتِغْنَاءِ.
مَسْأَلَةٌ:
وَفِي مُخْتَصَرِ الْوَاضِحَةِ: قَالَ مُطَرِّفٌ سَمِعْنَا مَالِكًا يَقُولُ فِي الرَّجُلِ يَشْهَدُ لَهُ الشُّهُودُ: إنَّ لَهُ فِي هَذِهِ الدَّارِ حَقًّا، وَلَا يَعْرِفُ كَمْ هُوَ؟ مِثْلَ أَنْ يَكُونَ مِنْ مِيرَاثٍ قَدْ تَقَدَّمَ وَتَنَاسَخَ أَهْلُهُ، وَيُنْكِرُ ذَلِكَ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ، فَإِنَّهُ يُقَالُ لِلْمَشْهُودِ عَلَيْهِ قَدْ ثَبَتَ لِهَذَا فِي دَارِك حَقٌّ فَأَقِرَّ لَهُ بِحَقِّهِ، فَإِنْ أَقَرَّ بِشَيْءٍ قَلَّ أَوْ كَثُرَ حَلَفَ عَلَيْهِ، وَلَمْ يَكُنْ لِلْمَشْهُودِ لَهُ غَيْرُهُ، وَإِنْ أَنْكَرَ وَادَّعَى أَنَّ الَّذِي شَهِدَ عَلَيْهِ بِهِ بَاطِلٌ، قِيلَ لِلْمَشْهُودِ لَهُ: أَتَعْرِفُ حَقَّك الَّذِي شَهِدَ لَك بِهِ؟ فَإِنْ سَمَّاهُ حَلَفَ عَلَى ذَلِكَ وَأَخَذَهُ، وَإِنْ قَالَ لَا أَعْرِفُهُ إنَّمَا كُنْت أَسْمَعُ أَبِي يَقُولُ: إنَّ لَهُ فِيهَا حَقًّا وَلَمْ يَكُنْ يُسَمِّيهِ فَجِئْت أَطْلُبُهُ، أَوْ قَالَ لَا أَعْرِفُ وَلَا أُرِيدُ أَنْ أَحْلِفَ عَلَيْهِ صَادِقًا أَوْ كَاذِبًا، فَأَقِرَّ أَيُّهَا الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ مِنْ حَقِّي بِمَا شِئْت وَاحْلِفْ عَلَيْهِ، فَإِنَّهُ يُحَالُ بَيْنَ الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ وَبَيْنَ الدَّارِ كُلِّهَا؛ لِأَنَّا لَا نَدْرِي مَا بَلَغَ هَذَا الْحَقُّ مِنْهَا، لَعَلَّهُ يَأْتِي عَلَى أَكْثَرِهَا أَوْ عَلَى جَمِيعِهَا إلَّا جُزْءًا مِنْهَا فَيُوقَفُ عَنْهَا؛ لِأَنَّ الْحَقَّ قَدْ ثَبَتَ فِيهَا، وَلَعَلَّهُ أَنْ يَكُونَ يَعْرِفُهُ فَيُنْكِرُهُ، كَيْمَا يُعْمِيهِ وَيُبْطِلُهُ عَلَى مُسْتَحِقِّهِ، فَلَا يَصِلُ إلَى الدَّارِ أَبَدًا حَتَّى يُقِرَّ مِنْهَا بِحَقِّ هَذَا، أَوْ يُسَمِّيَ مِنْ ذَلِكَ مَا سَمَّى وَيَحْلِفَ عَلَى ذَلِكَ وَيَأْخُذَ بَقِيَّةَ الدَّارِ، قَالَ مَالِكٌ: وَإِنْ قَالَ حَقُّهُ مِنْهَا الرُّبْعُ وَأَبَى أَنْ يَحْلِفَ عَلَيْهِ أُخِذَ مِنْهُ الرُّبْعُ، فَأَسْلَمَ إلَى الْمَشْهُودِ لَهُ وَحُكِمَ لَهُ بِهِ بِإِقْرَارِهِ، ثُمَّ كَانَ مَا بَقِيَ مِنْ الدَّارِ مَوْقُوفًا حَتَّى يَحْلِفَ أَنَّهُ لَا شَيْءَ لَهُ غَيْرُهُ أَوْ يُقِرَّ بِأَكْثَرَ مِنْهُ، وَلَوْ أَقَرَّ بَعْدَ ذَلِكَ بِشَيْءٍ وَأَبَى أَنْ يَحْلِفَ عَلَيْهِ كَانَ الْأَمْرُ فِيهِ كَمَا وَصَفْنَا هَكَذَا أَبَدًا حَتَّى يَحْلِفَ أَنَّهُ لَا حَقَّ لَهُ فِيهَا غَيْرَ مَا أَقَرَّ لَهُ بِهِ مِنْهَا وَسَمَّاهُ.
وَقَالَ لِي مُطَرِّفٌ: وَقَدْ كُنَّا نَقُولُ نَحْنُ وَغَيْرُنَا إذَا لَمْ يَعْرِفْ الشُّهُودُ الْحَقَّ الَّذِي شَهِدُوا بِهِ وَنَسُوهُ، فَلَا شَهَادَةَ لَهُمْ وَلَا حَقَّ لِهَذَا حَتَّى سَأَلْنَا مَالِكًا رَحِمَهُ اللَّهُ عَنْهَا، وَتَكَلَّمَ فِيهَا فَأَخَذْنَا بِقَوْلِهِ وَحُكِمَ بِهِ عِنْدَنَا غَيْرُ مَرَّةٍ، وَصَارَ مِنْهَاجًا لِلْحُكَّامِ وَدَلِيلًا عَلَى هَذَا النَّوْعِ مِنْ الدَّعْوَى وَالشَّهَادَةِ فِيهَا.
قَالَ ابْنُ رُشْدٍ فِي الْبَيَانِ فِي بَابِ الِاسْتِحْقَاقِ: وَقَدْ قِيلَ إنَّ الْمَشْهُودَ عَلَيْهِ يُسْجَنُ بِهَذِهِ الشَّهَادَةِ وَيُضَيَّقُ حَتَّى يُبَيَّنَ لَهُ حَقُّهُ وَيَحْلِفَ عَلَيْهِ، وَهِيَ رِوَايَةُ أَصْبَغَ عَنْ ابْنِ الْقَاسِمِ، قَالَ أَصْبَغُ فَإِنْ أَنْكَرَ الْجَمِيعُ بَعْدَ الْحَبْسِ أُحْلِفَ كَمَا يَحْلِفُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِغَيْرِ شَهَادَةٍ، قَالَ وَيَتَحَصَّلُ فِيهَا سِتَّةُ أَقْوَالٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّ الشَّهَادَةَ لَا تُوجِبُ حُكْمًا وَهِيَ بَاطِلَةٌ.
الثَّانِي: أَنَّهَا تُوجِبُ التَّشْدِيدَ كَمَا تَقَدَّمَ.
الثَّالِثُ: أَنَّ الْبَيِّنَةَ تُسْتَنْزَلُ إلَّا مَا لَا يُشَكُّ فِيهِ.
الرَّابِعُ: أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الْمَغْصُوبِ مِنْهُ.
الْخَامِسُ: أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الْغَاصِبِ إلَّا أَنْ يَأْتِيَ بِمَا لَا يُشْبِهُ فَيَكُونُ الْقَوْلُ قَوْلَ الْمَغْصُوبِ مِنْهُ وَهُوَ السَّادِسُ، وَلَكِنَّهُ يُعْرَفُ بِأَنْ يَشْهَدَ الشُّهُودُ عَلَى الْأَرْضِ بِعَيْنِهَا وَلَا يَعْرِفُوا حُدُودَهَا، وَبَيْنَ أَنْ لَا يُعَيِّنُوا الْأَرْضَ وَإِنَّمَا يَشْهَدُونَ أَنَّهُ غَصَبَهُ فِي الْقَرْيَةِ أَرْضًا لَا يَعْرِفُونَهَا.
فرع:
قَالَ مُطَرِّفٌ وَمِثْلُهُ مِنْ قَوْلِ مَالِكٍ: فِي الرَّجُلِ يَدَّعِي قِبَلَ الرَّجُلِ حَقًّا مِنْ مُحَاسَبَةٍ كَانَتْ بَيْنَهُمَا وَيُنْكِرُ ذَلِكَ، فَيَأْتِي بِبَيِّنَةٍ فَتَشْهَدُ أَنَّهُمَا تَحَاسَبَا فَبَقِيَ لِهَذَا عَلَى هَذَا حَقٌّ لَا نَعْرِفُ عَدَدَهُ، قِيلَ لِلْمَشْهُودِ عَلَيْهِ أَقِرَّ لَهُ بِحَقِّهِ، فَإِنْ أَقَرَّ لَهُ بِشَيْءٍ قَلَّ أَوْ كَثُرَ حَلَفَ عَلَيْهِ، وَلَمْ يَكُنْ لِلْمَشْهُودِ لَهُ غَيْرُهُ، وَإِنْ جَحَدَ قِيلَ لِلْمَشْهُودِ لَهُ أَتَعْرِفُ كَمْ هَذَا؟ فَإِنْ قَالَ نَعَمْ هُوَ كَذَا وَكَذَا حَلَفَ وَأَخَذَهُ، وَإِنْ قَالَ لَا أَعْرِفُهُ كَانَتْ بَيْنَنَا مُحَاسَبَةٌ وَمُكَاتَبَةٌ، فَضَاعَتْ مِنِّي وَسَقَطَتْ فَلَا أَحْفَظُ، أَوْ قَالَ هِيَ كَذَا وَكَذَا وَلَكِنِّي لَا أُرِيدُ أَنْ أَحْلِفَ عَلَيْهَا وَإِنْ كُنْت صَادِقًا؛ لِأَنَّ بَيِّنَتِي قَدْ أَحَقَّتْ لِي حَقًّا وَهُوَ الَّذِي يُسَمَّى، فَإِنْ شَاءَ فَلْيُقِرَّ بِمَا شَاءَ مِنْ قَلِيلٍ أَوْ كَثِيرٍ وَيَحْلِفْ عَلَيْهِ وَيَبْرَأْ فَإِنَّ ذَلِكَ كَذَلِكَ، يُقَالُ ذَلِكَ لِلْمَشْهُودِ عَلَيْهِ، فَإِنْ أَقَرَّ بِشَيْءٍ وَأَبَى أَنْ يَحْلِفَ أُخِذَ مِنْهُ ذَلِكَ الشَّيْءُ فَيُدْفَعُ إلَى الْمَشْهُودِ لَهُ، ثُمَّ حُبِسَ لِلْيَمِينِ فِيمَا بَقِيَ كَمَا وَصَفْنَا فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى.
فرع:
قَالَ لِي مُطَرِّفٌ: وَكَذَلِكَ لَوْ أَنَّ رَجُلًا أَقَرَّ فِي وَصِيَّتِهِ أَنَّ لِفُلَانٍ عَلَيْهِ حَقًّا ثُمَّ مَاتَ وَلَمْ يُسَمِّ ذَلِكَ الْحَقَّ كَمْ هُوَ؟ فَإِنَّهُ يُقَالُ لِلْوَرَثَةِ كَمْ هُوَ حَقُّ هَذَا؟ فَإِنْ قَالُوا لَا عِلْمَ لَنَا بِهِ، قِيلَ لِلْمُقَرِّ لَهُ كَمْ حَقُّك؟ فَإِنْ سَمَّاهُ أَحَلَفَ عَلَيْهِ وَأُعْطِيهِ، وَإِنْ قَالَ لَا أَعْرِفُهُ وَهُوَ كَانَ أَحْفَظُ مِنِّي، قِيلَ لِلْوَرَثَةِ لَا تَصِلُوا إلَى شَيْءٍ مِنْ هَذَا الْمِيرَاثِ حَتَّى تَدْفَعُوا إلَى هَذَا حَقَّهُ مِنْهُ، أَوْ تُقِرُّوا لَهُ بِمَا شِئْتُمْ وَتَحْلِفُونَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ هَذَا قَدْ ثَبَتَ لَهُ أَنَّ لَهُ فِيهَا حَقًّا، فلابد أَنْ يَصِلَ إلَى حَقِّهِ.
فرع:
وَفِي الْمَذْهَبِ لَوْ شَهِدَتْ الْبَيِّنَةُ أَنَّهُ وَكَّلَهُ عَلَى أَنْ يَشْتَرِيَ لَهُ بِمَالِهِ هَذَا، وَلَمْ يَثْبُتْ عَلَى مَاذَا وَكَّلَهُ، حَلَفَ الْمُوَكِّلُ لَقَدْ وَكَّلَهُ عَلَى صِنْفِ كَذَا وَأَخْذِ مَالِهِ، فَإِنْ نَكَلَ مَضَى الْمُشْتَرِي بِلَا يَمِينٍ.
فرع:
وَقَالَ لِي مُطَرِّفٌ: إذَا شَهِدَ الشُّهُودُ عَلَى رَجُلٍ أَنَّهُ غَصَبَ مِنْ رَجُلٍ أَرْضًا، وَلَا يَعْرِفُونَ حَوْزَ الْأَرْضِ وَلَا حُدُودَهَا، فَإِنْ أَتَى الْمَشْهُودُ لَهُ بِبَيِّنَةٍ سِوَى أُولَئِكَ يَشْهَدُونَ لَهُ عَلَى حُدُودِ أَرْضِهِ تِلْكَ حُكِمَ لَهُ وَإِلَّا قِيلَ لِلْمَشْهُودِ عَلَيْهِ انْبِذْ إلَى هَذَا الَّذِي ثَبَتَ لَهُ أَنَّك غَصَبْته حَقَّهُ، فَإِنْ أَقَرَّ لَهُ بِشَيْءٍ مِنْهَا أَحْلَفَ عَلَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ لِلْمَشْهُودِ لَهُ غَيْرُهُ، وَإِنْ تَمَادَى عَلَى جَحْدِ أَنَّهُ لَهُ، قِيلَ لِلْمَشْهُودِ لَهُ أَتَعْرِفُ حُدُودَ أَرْضِك؟ فَإِنْ عَرَفَهَا حَلَفَ عَلَى مَا حَدَّدَ مِنْهَا وَكَانَ لَهُ، وَإِنْ قَالَ لَا أَعْرِفُهَا قَدْ غَيَّرَ حُدُودَهَا وَعَمَى مَعَالِمَهَا، حِيلَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْأَرْضِ جَمِيعِهَا حَتَّى يُقِرَّ لَهُ بِحَقِّهِ مِنْهَا، وَرَجَعَتْ إلَى مَسْأَلَةِ مَالِكٍ الَّتِي قَبْلَ هَذَا، بَلْ هَذَا أَحَقُّ بِالْحَمْلِ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ غَاصِبٌ مَعَ مَا يَلْزَمُهُ مِنْ الْأَدَبِ الْمُوجِعِ وَالْعُقُوبَةِ الْمُؤْلِمَةِ وَالسَّجْنِ الطَّوِيلِ فِيمَا ثَبَتَ عَلَيْهِ مِنْ الْغَصْبِ وَاهْتِضَامِ النَّاسِ حُقُوقَهُمْ.
قَالَ: وَهَذَا إذَا كَانَ لَهُ فِي تِلْكَ الْقَرْيَةِ أَوْ حَوْلَ تِلْكَ الْأَرْضِ حَقٌّ قَبْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ غَصَبَ هَذِهِ الْأَرْضَ وَضَمَّهَا إلَى حَقِّهِ، وَأَمَّا لَوْ ثَبَتَ أَنَّ أَوَّلَ دُخُولِهَا فِيهَا بِسَبَبِ هَذَا الْغَصْبِ الَّذِي ثَبَتَ، اكْتَفَى الْمَشْهُودُ لَهُ مِنْ شُهُودِهِ، بِأَنْ يَشْهَدُوا لَهُ عَلَى أَنَّهُ غَصَبَهُ الْأَرْضَ وَإِنْ لَمْ يُحَدِّدُوهَا، وَلَمْ يَسْأَلْ الْمَشْهُودَ عَلَيْهِ كَمْ لِهَذَا مِنْهَا؟ وَأَخْرَجَ مِنْهَا جَمِيعِهَا حَتَّى يَأْتِيَ بِبَيِّنَةٍ عَلَى مَا ادَّعَاهُ فِيهَا بَعْدَ دُخُولِهِ مِنْ شِرَاءٍ صَحِيحٍ أَوْ حَقٍّ ثَبَتَ لَهُ.
فرع:
قَالَ لِي مُطَرِّفٌ: فِي الرَّجُلَيْنِ يَشْهَدَانِ عَلَى الرَّجُلِ بِالْمَالِ وَيَقُولُ أَحَدُ الشَّاهِدَيْنِ وَقَدْ أَشْهَدَنِي الَّذِي لَهُ الْحَقُّ أَنَّهُ قَدْ اقْتَضَى مِنْ هَذَا الْمَالِ شَيْئًا وَلَمْ يُسَمِّهِ، وَاَلَّذِي لَهُ الْحَقُّ مُنْكِرٌ أَنْ يَكُونَ اقْتَضَى مِنْهُ شَيْئًا أَوْ يَكُونَ مَيِّتًا، فَشَهَادَتُهُمَا لَازِمَةٌ جَائِزَةٌ بِجَمِيعِ الْمَالِ، وَلَا يُوضَعُ مِنْهُ شَيْءٌ لِلَّذِي قَالَ الشَّاهِدُ، وَيَحْلِفُ الْمَشْهُودُ لَهُ إنْ كَانَ حَيًّا أَنَّهُ مَا اقْتَضَى مِنْهُ شَيْئًا، وَإِنْ كَانَ لِوَرَثَةٍ حَلَفُوا مَعَ شَهَادَتِهِمْ أَنَّ هَذَا الْحَقَّ لِحَقٍّ مَا عَلِمْنَاهُ اقْتَضَى مِنْهُ، شَيْئًا، وَيَأْخُذُونَ حَقَّهُمْ كَامِلًا، لَا يُفْسِدُ الشَّهَادَةَ قَوْلُهُ إنَّ الْمَيِّتَ تَقَاضَى بَعْضَهُ. مِنْ مُخْتَصَرِ الْوَاضِحَةِ لِفَضْلِ بْنِ سَلَمَةَ مِنْ مَسَائِلِ الْقَضَاءِ.
تنبيه:
قَالَ فَضْلُ بْنُ سَلَمَةَ فِي مُخْتَصَرِ الْوَاضِحَةِ: اُنْظُرْ قَوْلَهُ وَاَلَّذِي لَهُ الْحَقُّ مُنْكِرٌ أَنْ يَكُونَ اقْتَضَى مِنْهُ شَيْئًا لَمْ يُجْعَلْ مُكَذَّبًا بِالشَّهَادَةِ فَتَدَبَّرْهُ، وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ لَيْسَتْ مِنْ هَذَا الْأَصْلِ، وَلَكِنْ ذَكَرْتهَا لِتَرْتِيبِ مَا بَعْدَهَا عَلَيْهَا.
فرع:
قَالَ ابْنُ حَبِيبٍ: قَالَ لِي مُطَرِّفٌ: وَلَوْ قَالَ الشَّاهِدُ أَشْهَدَنِي أَنَّهُ اقْتَضَى مِنْهُ شَيْئًا سَمَّاهُ وَقَدْ نَسِيتَهُ، تُرِكَ حَتَّى يَقِفَ عَلَى مَا لَا يَشُكُّ فِيهِ، ثُمَّ يَحْلِفُ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ بِالْجَمِيعِ عَلَى هَذَا الَّذِي وَقَفَ عَلَيْهِ الشَّاهِدُ الْوَاحِدُ، بِحِينِ تَرَكَ أَيْ حِينَ تَرَكَ حَتَّى تَذَكَّرَ الشَّهَادَةَ وَيَبْرَأَ مِنْهُ.
مَسْأَلَةٌ:
وَفِي الْمَذْهَبِ لِابْنِ رَاشِدٍ قَالَ: وَفِي أَحْكَامِ ابْنِ سَهْلٍ فِي شُهُودٍ شَهِدُوا عَلَى امْرَأَةٍ فِي وَصِيَّةٍ وَقَدْ مَاتَتْ، فَقَالُوا لَا نَعْرِفُهَا بِعَيْنٍ وَلَا بِاسْمٍ، وَإِنَّمَا كُنَّا عُرِّفْنَا بِهَا وَلَا نَذْكُرُ الْمُعَرِّفِينَ، فَقَالَ ابْنُ لُبَابَةَ وَأَيُّوبُ وَمُحَمَّدُ بْنُ غَالِبٍ: لَا تَنْفُذُ هَذِهِ الشَّهَادَةُ.
مَسْأَلَةٌ:
وَفِي الطُّرَرِ لِابْنِ عَاتٍ عَنْ سَحْنُونٍ: إذَا شَهِدُوا عَلَى امْرَأَةٍ بِنِكَاحِ إقْرَارٍ أَوْ إبْرَاءٍ، وَقَالُوا أَشْهِدْنَا عَلَى مَعْرِفَةٍ مِنَّا لِعَيْنِهَا وَنَسَبِهَا، فَسَأَلَ الْخَصْمُ أَنْ يُدْخِلَهَا فِي نِسَاءٍ لِتُخْرِجُوهَا فَقَالُوا: لَا نَدْرِي، هَلْ نَعْرِفُهَا الْيَوْمَ أَمْ لَا؟ وَقَدْ تَغَيَّرَتْ حَالُهَا، أَوْ قَالُوا لَا نَتَكَلَّفُ ذَلِكَ، فَقَالَ: لابد أَنْ تُخْرِجُوا عَيْنَهَا، فَإِنْ أَثْبَتُوا أَنَّهَا بِنْتُ فُلَانٍ وَلَمْ يَكُنْ لِفُلَانٍ إلَّا ابْنَةٌ وَاحِدَةٌ مِنْ حِينِ شَهِدُوا عَلَيْهَا إلَى الْيَوْمِ جَازَتْ شَهَادَتُهُمْ، فَإِنْ قَالُوا أَشْهَدْتَنَا مُتَنَقِّبَةً وَكَذَلِكَ نَعْرِفُهَا وَلَا نَعْرِفُهَا بِغَيْرِ نِقَابٍ فَهُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ تَقَلَّدُوا، فَإِنْ كَانُوا عُدُولًا وَعَيَّنُوهَا قُطِعَ بِشَهَادَتِهِمْ.
فرع:
قَالَ وَلَوْ أَقَرَّ الْمَطْلُوبُ بِالْحَقِّ كُلِّهِ وَادَّعَى أَنَّهُ قَدْ قَضَاهُ مِنْهُ شَيْئًا، وَأَتَى بِشَاهِدَيْنِ فَشَهِدُوا أَنَّهُ أَشْهَدَنَا أَنَّهُ اقْتَضَى مِنْهُ شَيْئًا لَمْ يُسَمِّهِ فَشَهَادَتُهُمَا جَائِزَةٌ، وَقِيلَ لِلطَّالِبِ سَمِّ هَذَا الَّذِي ثَبَتَ عَلَيْك أَنَّك تَقَاضَيْت، فَمَا سَمَّى مِنْ ذَلِكَ حَلَفَ عَلَيْهِ وَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلُهُ، وَإِنْ أَبَى أَنْ يُقِرَّ بِشَيْءٍ، قِيلَ لِلْمَطْلُوبِ أَتَعْرِفُ هَذَا الَّذِي شَهِدَ لَك بِهِ؟ فَإِنْ عَرَفَهُ سَمَّاهُ وَحَلَفَ عَلَيْهِ وَبَرِئَ، وَإِنْ تَجَاهَلَ بِهِ أَوْ نَكَلَ عَنْ الْيَمِينِ عَلَيْهِ، لَزِمَهُ غُرْمُ الْجَمِيعِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ أُمْكِنَ مِنْ حَقِّهِ فَجَهِلَهُ أَوْ نَكَلَ عَنْهُ، وَأَمَّا ابْنُ الْمَاجِشُونِ وَأَصْبَغُ فَرَأَيَا الشَّهَادَةَ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ سَاقِطَةً غَيْرَ تَامَّةٍ لِلْأُولَى وَلِلْأُخْرَى حَتَّى يُسَمِّيَا ذَلِكَ الشَّيْءَ.
وَقَالَ ابْنُ حَبِيبٍ وَقَوْلُ مُطَرِّفٍ فِي ذَلِكَ أَحَبُّ إلَيَّ وَبِهِ أَقُولُ، وَانْظُرْ مَا نَسَبَهُ إلَى ابْنِ الْمَاجِشُونِ وَأَصْبَغَ، فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ مُتَعَلِّقٌ بِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَبِاَلَّتِي قَبْلَهَا، وَلَيْسَ مُرَادُهُ جَمِيعَ الْمَسَائِلِ الْمُتَقَدِّمَةِ يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ لِلْأُولَى وَلِلْأُخْرَى، وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُ ابْنِ حَبِيبٍ وَقَوْلُ مُطَرِّفٍ فِي ذَلِكَ أَحَبُّ إلَيَّ وَالْمَسَائِلُ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا أَوَّلَ الْبَابِ لَيْسَتْ مِنْ قَوْلِ مُطَرِّفٍ، وَإِنَّمَا هِيَ مِنْ قَوْلِ مَالِكٍ.
تنبيه:
قَالَ فَضْلُ بْنُ سَلَمَةَ اُنْظُرْ هَا هُنَا حَيْثُ يَقُولُ: وَإِنْ تَجَاهَلَ أَوْ نَكَلَ عَنْ الْيَمِينِ لَزِمَهُ غُرْمُ جَمِيعِ الْحَقِّ لِمَا أَرَاهُ، إلَّا وَقَدْ فَرَّقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْأَصْلِ الْمُتَقَدِّمِ؛ لِأَنَّ مَالِكًا رَحِمَهُ اللَّهُ قَدْ قَالَ فِي الدَّارِ إنَّهَا تُوقَفُ فِي الدَّيْنِ، قَالَ مُطَرِّفٌ يُحْبَسُ حَتَّى يَحْلِفَ فِي الْمِيرَاثِ، وَيُوقَفُ الْمِيرَاثُ فَتَدَبَّرْهُ، يَعْنِي أَنَّهُ كَانَ يَنْبَغِي عَلَى قَاعِدَةِ الْأَصْلِ الْأَوَّلِ أَنْ يُقَالَ لِلطَّالِبِ: قَدْ ثَبَتَ أَنَّهُ قَدْ وَصَلَ إلَيْك بَعْضُ حَقِّك، فَلَا سَبِيلَ لَك إلَى شَيْءٍ مِنْهُ حَتَّى تُقِرَّ بِمَا وَصَلَ إلَيْك، وَتَحْلِفَ عَلَيْهِ وَتَسْتَحِقَّ الْبَاقِيَ؛ لِأَنَّهُ لَا يَحُوزُ أَنَّهُ لَمْ يَبْقَ إلَّا الْيَسِيرُ.
فرع:
قَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ قِيلَ لِأَصْبَغَ: وَإِذَا قَالَ سَمِعْنَاهُ يَقُولُ أَحَدُ عَبِيدِي حُرٌّ لَا نَدْرِي مَنْ أَرَادَ، وَقَالُوا سَمِعْنَاهُ يَقُولُ يَزِيدُ حُرٌّ وَلَهُ غُلَامَانِ يُسَمَّيَانِ بِيَزِيدَ وَلَا نَعْلَمُ أَيَّ يَزِيدَ أَرَادَ، فَشَهَادَتُهُمْ جَائِزَةٌ جَحَدَ أَوْ أَقَرَّ، وَقِيلَ لَهُ اخْتَرْ أَيَّهُمَا شِئْت فَأَعْتِقْهُ، وَأَنَا لَا أَقُولُ بِقَوْلِ ابْنِ الْقَاسِمِ فِي الْجُحُودِ أَنَّهُ يُحْكَمُ عَلَيْهِ بِعِتْقِهِمَا جَمِيعًا.
فرع:
وَلَوْ قَالَ الشُّهُودُ سَمَّاهُ بِاسْمِهِ فَأُنْسِينَاهُ وَهُوَ جَاحِدٌ أَوْ عَرَفْنَا أَيَّ يَزِيدَ أَرَادَ، ثُمَّ أُنْسِينَاهُ فَلَا شَهَادَةَ لَهُمْ، وَيَحْلِفُ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ بِاَللَّهِ مَا أَعْتَقَ وَاحِدًا مِنْهُمَا.
فرع:
وَمِنْ ذَلِكَ فِي شَهَادَةِ الضَّرَرِ إذَا لَمْ تَقْطَعْ الْبَيِّنَةُ بِحُدُوثِ الضَّرَرِ، إلَّا أَنَّهُمْ قَالُوا رَأَيْنَا شَيْئًا يَدُلُّ عَلَى الْحُدُوثِ وَهُوَ ضَرَرٌ، حَلَفَ الْقَائِلُ أَنَّهُ مُحْدَثٌ وَزَائِلٌ عَنْهُ الضَّرَرُ، إلَّا أَنْ يُقِيمَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بَيِّنَةً بِأَنَّهُ قَدِيمٌ.
فرع:
قَالَ ابْنُ كِنَانَةَ فِيمَنْ شَهِدَ عَلَى امْرَأَةٍ بِإِقْرَارٍ أَوْ بَيْعٍ وَلَمْ يَعْرِفْهَا الشُّهُودُ بِعَيْنِهَا، أَوْ عَرَفُوا الِاسْمَ وَالنَّسَبَ وَقَالُوا: إنْ كَانَتْ فُلَانَةُ بِنْتَ فُلَانٍ فَقَدْ أَشْهَدَتْنَا، فَإِنْ شَهِدَ غَيْرُهُمْ أَنَّهَا فُلَانَةُ بِنْتُ فُلَانٍ حَلَفَ رَبُّ الْحَقِّ عَلَى ذَلِكَ وَثَبَتَ حَقُّهُ، مِنْ الطُّرَرِ لِابْنِ عَاتٍ وَذَكَرَهَا ابْنُ رَاشِدٍ فِي الْمَذْهَبِ.
مَسْأَلَةٌ:
وَفِي الطُّرَرِ لِابْنِ عَاتٍ لَوْ شَهِدَ الشُّهُودُ فِي الْحُرِّيَّةِ عَلَى الْعِلْمِ لَمْ تَجُزْ الشَّهَادَةُ وَلَوْ أَوْجَبَتْ حُكْمًا، وَلَا تَكُونُ الشَّهَادَةُ فِي ذَلِكَ إلَّا عَلَى الْبَتِّ، ذَكَرَ ذَلِكَ ابْنُ عَتَّابٍ فِي آخِرِ مَسَائِلِ الْعِتْقِ، وَانْظُرْ لَوْ شَهِدَ أَنَّهَا تَتَصَرَّفُ تَصَرُّفَ الْحَرَائِرِ وَلَمْ يَشْهَدْ أَنَّهَا حُرَّةٌ، فَفِي الْأَوَّلِ مِنْ أَحْكَامِ ابْنِ سَهْلٍ، قَالَ بَيْنَ الشُّيُوخِ فِيهَا اخْتِلَافٌ، فَقَالَ ابْنُ عَتَّابٍ: الشَّهَادَةُ بِذَلِكَ عَامِلَةٌ وَحُرِّيَّةُ الْمَرْأَةِ مَاضِيَةٌ.
وَقَالَ ابْنُ الْقَطَّانِ: الشَّهَادَةُ نَاقِصَةٌ غَيْرُ تَامَّةٍ.
وَقَالَ ابْنُ مَالِكٍ مِثْلَ قَوْلِ ابْنِ الْقَطَّانِ، قَالَ وَالْآبِقُ يَتَصَرَّفُ تَصَرُّفَ الْأَحْرَارِ.
فرع:
وَمَنْ ادَّعَى عَلَى رَجُلٍ أَنَّهُ ابْتَاعَ مِنْهُ سِلْعَةً، وَأَنْكَرَ الْبَائِعُ وَشَهِدَتْ عَلَى ذَلِكَ بَيِّنَةٌ لَمْ يُعْرَفْ الثَّمَنُ، فَالشَّهَادَةُ تَامَّةٌ عِنْدَ مَالِكٍ، وَيُقَالُ لِلْبَائِعِ: قَدْ ثَبَتَ الْبَيْعُ فَبِكَمْ بِعْتهَا؟ فَإِنْ سَمَّى ثَمَنًا وَاعْتَرَفَ بِهِ الْمُبْتَاعُ أَدَّاهُ، وَإِنْ ادَّعَى دُونَهُ تَحَالَفَا وَرُدَّتْ، وَإِنْ تَمَادَى الْبَائِعُ عَلَى إنْكَارِ الْبَيْعِ سُئِلَ الْمُبْتَاعُ عَنْ الثَّمَنِ، فَإِنْ سَمَّى مَا يُشْبِهُ حَلَفَ وَدَفَعَ مَا حَلَفَ عَلَيْهِ.

.الْبَابُ الرَّابِعُ وَالْأَرْبَعُونَ فِي الْقَضَاءِ بِشَهَادَةِ غَيْرِ الْعُدُولِ لِلضَّرُورَةِ:

وَفِي الطُّرَرِ لِابْنِ عَاتٍ: قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْغَفُورِ فِي كِتَابِهِ الِاسْتِغْنَاءُ: حَكَى بَعْضُ شُيُوخِنَا الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْ الثِّقَاتِ: أَنَّ أَهْلَ الْبَادِيَةِ إذَا شَهِدُوا فِي حَقٍّ لِامْرَأَةٍ أَوْ غَيْرِهَا وَلَمْ يَكُنْ فِيهِمْ عَدْلٌ أَنْ يُسْتَكْثَرَ مِنْهُمْ وَيُقْضَى بِشَهَادَتِهِمْ.
تنبيه:
قَالَ ابْنُ رُشْدٍ فِي الْمُقَدِّمَاتِ: بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ شَهَادَةَ التَّوَسُّمِ وَشَهَادَةَ الْمَجْهُولِ الْحَالِ، اتَّفَقُوا فِي الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ عَلَى أَنَّ الشَّهَادَةَ لَا تَجُوزُ فِي ذَلِكَ، إلَّا بَعْدَ الْمَعْرِفَةِ بِعَدَالَةِ الشَّاهِدِ.
فرع:
وَسُئِلَ بَعْضُ الشُّيُوخِ الْمُفْتِينَ عَنْ الْقُرَى الْبَعِيدَةِ مِنْ الْمُدُنِ عَلَى الثَّلَاثِينَ مِيلًا وَالْأَرْبَعِينَ، وَفِيهَا الثَّلَاثُونَ رَجُلًا وَالْأَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ وَالْأَقَلُّ، وَلَيْسَ فِيهِمْ عَدْلٌ مَشْهُورٌ بِالْعَدَالَةِ، وَفِيهِمْ مُؤَذِّنُونَ وَأَئِمَّةٌ وَقَوْمٌ مَوْسُومُونَ بِخَيْرٍ، غَيْرَ أَنَّ الْقُضَاةَ لَا يَعْرِفُونَهُمْ بِعَدَالَةٍ وَلَا يَجِدُونَ مَنْ يَعْرِفُهُمْ، يَجْتَمِعُونَ عَلَى الشَّهَادَةِ عِنْدَهُمْ فِي الْأَمْلَاكِ وَالدُّيُونِ وَالْمُهُورِ وَالنِّكَاحِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَلَا يُخَالِفُ مِنْهُمْ أَحَدٌ هَلْ تَجُوزُ شَهَادَتُهُمْ؟ وَيُقْضَى بِهِمْ أَوْ يُتْرَكُونَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُنْظَرَ فِي أَمْرِهِمْ.
فَكَتَبَ فِي الْجَوَابِ لِكُلِّ قَوْمٍ عُدُولُهُمْ، ولابد مِنْ مَعْرِفَةِ الْقَاضِي لَهُمْ بِنَفْسِهِ، يَعْنِي بِذَلِكَ التَّوَسُّمِ فِيهِمْ، وَنَحْوُ ذَلِكَ، لِأَبِي إبْرَاهِيمَ صَاحِبِ النَّصَائِحِ أَنَّ شَهَادَةَ الْأَمْثَلِ فَالْأَمْثَلِ مِنْهُمْ جَائِزَةٌ، وَيُسْتَكْثَرُ مِنْهُمْ مَا اسْتَطَاعَ وَيُقْضَى بِهِمْ فِي ذَلِكَ، وَحُكِيَ نَحْوُهُ عَنْ أَبِي صَالِحٍ، وَقَالَ غَيْرُهُ لَوْلَا ذَلِكَ مَا جَازَ لَهُمْ بَيْعٌ وَلَا تَمَّ لَهُمْ نِكَاحٌ وَلَا عَقْدٌ فِي شَيْءٍ.
فرع:
وَفِي الْحَاوِي فِي الْفَتَاوَى لِابْنِ عَبْدِ النُّورِ.
وَسُئِلَ اللَّخْمِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ إذَا رَأَى الْهِلَالَ جَمَاعَةٌ مِنْ النَّاسِ مِمَّنْ لَمْ تَتَقَدَّمْ لَهُمْ شَهَادَةٌ، وَلَا تُرْجَى لَهُمْ تَزْكِيَةٌ فِي الْوَقْتِ، فَكَمْ قَدْرُ الْعَدَدِ الَّذِي يُحْكَمُ بِشَهَادَتِهِمْ؟ فَأَجَابَ لَيْسَ لِعَدَدِ مَنْ يُصَامُ لِشَهَادَتِهِ إذَا كَانَ غَيْرَ عَدْلٍ أَمْرٌ مَحْصُورٌ لَا يَتَعَدَّى إلَّا أَنَّهُ مَتَى وَقَعَ الْعِلْمُ بِصِدْقِهِمْ صَامَ النَّاسُ مَا لَمْ يَكُونُوا دُونَ الْخَمْسَةِ.
فرع:
وَسُئِلَ عَبْدُ الْحَمِيدِ الصَّائِغِ: عَنْ أَهْلِ مَدِينَةٍ الْتَمَسُوا هِلَالَ شَوَّالٍ لَيْلَةَ ثَلَاثِينَ فِي الْغَيْمِ فَلَمْ يَرَوْهُ، فَلَمَّا أَصْبَحُوا قَدِمَتْ رُفْقَةٌ كَبِيرَةٌ نَحْوُ الْأَرْبَعِمِائَةِ أَوْ أَقَلَّ أَوْ أَكْثَرَ، فَذَكَرُوا أَنَّهُمْ رَأَوْا الْهِلَالَ بِالْقُرْبِ مِنْ هَذِهِ الْمَدِينَةِ نَحْوَ خَمْسَةَ عَشَرَ مِيلًا رُؤْيَةً ظَاهِرَةً فَخَرَجَ جَمَاعَةٌ مِنْ الْعُدُولِ وَغَيْرِهِمْ لِيَخْتَبِرُوا ذَلِكَ مِنْ الْوَاصِلِينَ قَبْلَ وُصُولِهِمْ الْمَدِينَةَ فَسَأَلُوا خَلْقًا مِنْهُمْ فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ سَأَلْت مِائَتَيْنِ وَسِتِّينَ رَجُلًا، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ سَأَلْت مِنْ أَوَّلِ الرُّفْقَةِ إلَى آخِرِهَا، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ سَأَلْت خَمْسَةً وَأَرْبَعِينَ، حَتَّى قَطَعُوا عَلَى ذَلِكَ وَعَلِمُوهُ يَقِينًا وَلَمْ يَبْلُغْهُمْ أَنَّهُ حُكِيَ عَنْ أَحَدٍ مِنْ النَّاقِلِينَ خِلَافُ ذَلِكَ، وَاتَّفَقَتْ شَهَادَةُ الْكُلِّ عَلَى رُؤْيَةٍ وَاحِدَةٍ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ رُؤْيَةً ظَاهِرَةً فَاشِيَةً، وَدَخَلُوا الْمَدِينَةَ وَاسْتَفَاضَ ذَلِكَ فِي النَّاسِ، فَهَلْ يُحْكَمُ بِهَذِهِ الشَّهَادَاتِ وَيُفْطِرُ النَّاسُ وَيُصَلُّونَ صَلَاةَ الْعِيدِ أَمْ لَا يَجُوزُ الْفِطْرُ وَيَتَمَادَى النَّاسُ عَلَى الصَّوْمِ؟
فَأَجَابَ عَنْ ذَلِكَ بِخَطِّ يَدِهِ قَدْ نَزَلَ مِثْلُ هَذَا السُّؤَالِ فِي الْقَيْرَوَانِ، وَأَهْلُ الْعِلْمِ مَوْجُودُونَ وَالْمُحَقِّقُونَ، وَكَانَ الَّذِينَ أَخْبَرُوا مِنْ الرُّفْقَةِ الْقَادِمَةِ أَقَلَّ مِنْ الْعَدَدِ الَّذِي ذَكَرْت، فَاتَّفَقَ أَهْلُ التَّحْقِيقِ مِمَّنْ كَانَ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ عَلَى إيجَابِ الْحُكْمِ بِقَوْلِهِمْ، وَحَمَلُوا النَّاسَ عَلَى الصَّوْمِ إذْ كَانَ ذَلِكَ الَّذِي نَزَلَ فِي الْقَيْرَوَانِ فِي هِلَالِ رَمَضَانَ، وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ ظَاهِرَةٌ بَيِّنَةٌ وَلَهَا مَدْخَلٌ فِي الْأُصُولِ، إذْ يَتَعَلَّقُ بِهَا مِنْ الْأَحْكَامِ بَابٌ كَبِيرٌ، فَإِذَا وَقَعَ الْعِلْمُ لِسَامِعِ قَوْلِهِمْ وَقَطَعَ لِمَا قَالُوهُ، لَمْ يُلْتَفَتْ إلَى إعْرَاضِ مَنْ أَعْرَضَ مِمَّنْ لَا يُحْكِمُ الْأَمْرَ، وَلَا عِنْدَهُ مِنْ الْعِلْمِ مَا يُمَيِّزُ بِهِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ وَأَشْبَاهَهَا، فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إلَيْهِ رَاجِعُونَ عَلَى ذَهَابِ الْعِلْمِ وَالْعُلَمَاءِ.
وَكَتَبَ فِي الْمَسْأَلَةِ جَوَابًا آخَرَ لِكَوْنِ الْجَوَابِ الْأَوَّلِ لَمْ يَصِلْ، وَمِنْ جُمْلَتِهِ وَذَكَرْت لَك أَنَّ مِثْلَ هَذَا نَزَلَ بِالْقَيْرَوَانِ وَأَهْلُ التَّحْقِيقِ مِنْ الْعُلَمَاءِ كَثِيرٌ، فَجَعَلُوا لِمَنْ سَمِعَ قَوْلَ أَهْلِ الرُّفْقَةِ مِمَّنْ يُمَيِّزُ الْعِلْمَ الْوَاقِعَ فِي النَّفْسِ وَغَلَبَةَ الظَّنِّ وَالشَّكِّ، وَهُمَا رَجُلَانِ عَدْلَانِ، وَقَالَا: وَقَعَ لَنَا الْعِلْمُ بِمَا قَالَهُ أَهْلُ الرُّفْقَةِ أَنَّهُ يَجِبُ الْمَصِيرُ إلَى مَا شَهِدَا بِهِ، هَذَا الصَّوَابُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَمَنْ وَقَعَ لَهُ الْعِلْمُ الضَّرُورِيُّ بِقَوْلِ أَهْلِ الرُّفْقَةِ أَوْ بِقَوْلِ مَنْ كَانَ أَكْثَرَ مِنْ الْأَرْبَعَةِ لَزِمَ الصَّوْمُ، هَذَا قَوْلُ مَنْ حَقَّقَ النَّظَرَ مِنْ شُيُوخِنَا.
وَسُئِلَ اللَّخْمِيُّ عَنْ ذَلِكَ فَأَجَابَ بِصِحَّةِ الْجَوَابِ الْمُتَقَدِّمِ، ثُمَّ قَالَ: وَاَلَّذِي عَلَيْهِ أَهْلُ الْعِلْمِ مِنْ الْقَاضِي أَبِي بَكْرٍ بْنِ الطَّيِّبِ وَغَيْرِهِ أَنَّهُ مَتَى وَقَعَ الْعِلْمُ مِنْ الْمُخْبِرِينَ لَا نُرَاعِي عَدَالَتَهُمْ.
وَسُئِلَ عَنْ ذَلِكَ أَيْضًا أَبُو الْحَسَنِ عَلِيٌّ بْنُ مُحَمَّدٍ السُّوسِيِّ الْمَعْرُوفِ بِابْنِ الْعَابِدِ فَأَجَابَ بِصِحَّةِ مَا تَقَدَّمَ، وَذَكَرَ كَثِيرًا مِنْ الْمَسَائِلِ الَّتِي تَشْهَدُ لِذَلِكَ ثُمَّ قَالَ: وَقَدْ رُوِيَ عَنْ ابْنِ الْقَاسِمِ فِي أَهْلِ حِصْنٍ أَسْلَمُوا، فَشَهِدَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ أَنَّ شَهَادَتَهُمْ جَائِزَةٌ، وَأَنَّهُمْ يَتَوَارَثُونَ بِذَلِكَ.
قَالَ وَأَمَّا الْمُتَحَمِّلُونَ، فَإِنْ تَحَمَّلَ مِنْهُمْ عَدَدٌ كَثِيرٌ فَشَهَادَتُهُمْ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ جَائِزَةٌ إذَا أَسْلَمُوا، قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ وَأَصْبَغُ فِي الْعِشْرِينَ عَدَدٌ كَثِيرٌ، وَأَبَاهُ سَحْنُونٌ وَلَمْ يَنْظُرُوا فِي ذَلِكَ إلَى الْعَدَالَةِ.
قَالَ: وَأَمَّا الْعَدَدُ الْقَلِيلُ فَلَا إلَّا بِبَيِّنَةِ مُسْلِمَيْنِ، سِوَاهُمْ تَشْهَدُ عَلَى ذَلِكَ مِنْ تُجَّارٍ أَوْ أَسَارَى كَانُوا عِنْدَهُمْ، فَيَتَوَارَثُونَ بِذَلِكَ إذَا كَانَ الَّذِينَ شَهِدُوا لَهُمْ عُدُولًا.
فرع:
قَالَ ابْنُ الْفَرَسِ: وَرُوِيَ عَنْ يَحْيَى بْنِ عُمَرَ مِنْ أَئِمَّةِ الْمَالِكِيَّةِ أَنَّهُ أَجَازَ شَهَادَةَ مَنْ لَا تُعْرَفُ عَدَالَتُهُ فِي الشَّيْءِ الْيَسِيرِ وَهُوَ اسْتِحْسَانٌ.
فرع:
وَفِي الْمُقْنِعِ سُئِلَ مَرَّةً سَحْنُونٌ عَمَّنْ ادَّعَى عَلَى رَجُلٍ بِدَمٍ، فَأَقَامَ شَاهِدًا لَيْسَ بِعَدْلٍ يُحْبَسُ الْمَطْلُوبُ. قَالَ يَتَوَثَّقُ مِنْهُ حَتَّى يَكْشِفَ اللَّطْخَ الَّذِي ادَّعَوْا عَلَيْهِ فَلَمْ يَبْطُلْ حُكْمُ شَهَادَتِهِ، بَلْ أَوْجَبْت التَّوَثُّقَ وَالْكَشْفَ.
فرع:
قَالَ أَبُو بَكْرٍ الطُّرْطُوشِيِّ فِي مُقَدِّمَةِ تَعْلِيقِهِ الْخِلَافَ: قَالَ ابْنُ شَعْبَانَ فِي كِتَابِ الْوَكَالَاتِ يَجُوزُ قَبُولُ الْمَعْرُوفِ بِالْمَرْأَةِ الْمَشْهُودِ عَلَيْهَا وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَدْلًا.
مَسْأَلَةٌ:
قَالَ بَعْضُهُمْ: نَقَلَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي الِاسْتِذْكَارِ أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ فِي الشَّاهِدَيْنِ اللَّذَيْنِ عِنْدَ الْقَاضِي الْعَدَالَةُ، يَعْنِي بِهِمَا الْمُلَازِمَيْنِ لِمَجْلِسِ حُكْمِهِ فَانْظُرْهُ، وَذَكَرَ ذَلِكَ ابْنُ الْعَطَّارِ فِي وَثَائِقِهِ، قَالَ إذَا أَقَرَّ الْخَصْمُ عِنْدَ الْحَاكِمِ بِمَحْضَرِ شَاهِدَيْنِ عَدْلَيْنِ قُضِيَ عَلَيْهِ بِمَا أَقَرَّ بِهِ بِمَحْضَرِهِمَا، قَالَ غَيْرُهُ وَقَدْ اعْتَرَضَ ذَلِكَ بَعْضُهُمْ ثُمَّ حَكَى مَا نَقَلَهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ.
فرع:
وَمِنْ ذَلِكَ الْحُكْمُ بِقَوْلِ الْمُتَرْجِمِ، قَالَ ابْنُ رَاشِدٍ: وَلَا يُقْبَلُ فِي ذَلِكَ قَوْلُ الْكَافِرِ وَلَا الْعَبِيدِ وَلَا الْمَسْخُوطِينَ، قَالَ بَعْضُ الشُّيُوخِ يُرِيدُ مَعَ وُجُودِ عَدْلٍ وَلَوْ اُضْطُرَّ إلَى تَرْجَمَةِ أَحَدِهِمْ يُعْمَلُ بِقَوْلِهِ، كَالْحُكْمِ بِقَوْلِ الطَّبِيبِ النَّصْرَانِيِّ فِيمَا يُضْطَرُّ إلَيْهِ فِيهِ، وَكَذَلِكَ يُقْبَلُ فِي اللَّوْثِ بِشَهَادَةِ غَيْرِ الْعُدُولِ عَلَى الْقَوْلِ بِذَلِكَ، وَيَقْسِمُ مَعَهُ أَوْلِيَاءُ الدَّمِ وَذَلِكَ لِأَجْلِ الضَّرُورَةِ وَصِيَانَةِ الدِّمَاءِ.
فرع:
وَمِنْ ذَلِكَ أَنْ يَحْمِلَ كِتَابَ قَاضٍ إلَى قَاضٍ رَجُلَانِ، فَيَشْهَدَانِ عِنْدَ الْمَكْتُوبِ إلَيْهِ عَلَى كِتَابِ الْقَاضِي، وَأَثْنَى عَلَيْهِمَا الْقَاضِي عِنْدَهُ بِخَيْرٍ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ تَعْدِيلًا بَيِّنًا، أَوْ زَكَّى أَحَدَهُمَا وَلَمْ يُزَكِّ الْآخَرَ، أَوْ وَسَمَ فِيهِمَا الصَّلَاحَ، وَكَانَ الْخَطُّ وَالْخَتْمُ مَشْهُورَيْنِ عِنْدَ الْمَكْتُوبِ إلَيْهِ، فَإِنِّي أَسْتَحْسِنُ إجَازَةَ مِثْلَ هَذَا لِتَعَذُّرِ الْعُدُولِ، وَلِمَا جَرَى بِهِ الْعَمَلُ فِي صَدْرِ السَّلَفِ الصَّالِحِ مِنْ إجَازَةِ الْخَوَاتِمِ.
فرع:
وَفِي مُخْتَصَرِ الْوَاضِحَةِ: وَإِذَا أَقَرَّ الشَّاهِدَانِ أَوْ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ مَسْخُوطٌ بَعْدَ الْقَضَاءِ بِإِقْرَارِهِمَا، وَكَذَلِكَ لَوْ قَامَتْ بَيِّنَةٌ عَلَى أَحَدِهِمَا أَوْ عَلَيْهِمَا بِالسَّخْطَةِ لَمْ يُرَدَّ الْقَضَاءُ وَلَا غُرْمَ عَلَيْهِمَا، وَانْظُرْ أَبَدًا كُلَّ شَاهِدٍ شَهِدَ فَقَضَى بِشَهَادَتِهِ ثُمَّ ثَبَتَ عَلَيْهِ أَنَّهُ غَيْرُ عَدْلٍ، أَوْ مَسْخُوطٌ بِإِقْرَارٍ مِنْ الشَّاهِدَيْنِ أَوْ بِبَيِّنَةٍ فَلَا غُرْمَ عَلَى الشَّاهِدَيْنِ، إلَّا أَنْ يَكُونَ الْمَسْخُوطُ الْبَيِّنُ الْفَسَادِ الظَّاهِرُ الشُّهْرَةِ الْمَارِقُ ذُو الْجَرَاءَةِ فَإِنَّهُ يُرَدُّ مَا حُكِمَ بِشَهَادَتِهِ وَيُفْسَخُ، وَأَمَّا غَيْرُ الْمَارِقِ الْبَيِّنِ الْفَسَادِ فَلَا يُرَدُّ مَا حُكِمَ بِشَهَادَتِهِ وَيَمْضِي.
فرع:
وَفِي الْمُتَيْطِيَّةِ: قَالَ أَبُو عُمَرَ فِي كَافِيهِ: وَإِنْ شَهِدَ عِنْدَ الْقَاضِي شُهُودٌ لَا يَعْرِفُهُمْ، فَاعْتَرَفَ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ بِعَدَالَتِهِمْ جَازَ لِلْقَاضِي أَنْ يَقْضِيَ بِهِمْ عَلَيْهِ إذَا لَمْ يُكَذِّبْهُمْ، وَلَا يَقْضِي بِهِمْ عَلَى غَيْرِهِ إلَّا أَنْ يَعْرِفَ عَدَالَتَهُمْ وَقَالَ أَصْبَغُ: إذَا رَضِيَ الْخَصْمَانِ بِشَهَادَةِ مَنْ لَا يَعْرِفُ الْقَاضِي عَدَالَتَهُ وَلَا جُرْحَتَهُ لَمْ يَحْكُمْ بِهَا.
فرع:
قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: وَإِذَا رَضِيَ الْمُسْلِمَانِ بِشَهَادَةِ الْمَسْخُوطَيْنِ فِيمَا بَيْنَهُمَا لَزِمَهُمَا وَلَيْسَ لَهُمَا الرُّجُوعُ عَنْهُ، كَمَا لَوْ رَضِيَا بِغَيْرِ شَهَادَةٍ، وَلَوْ رَفَعَا ذَلِكَ إلَى الْحَاكِمِ لَمْ يَحْكُمْ عَلَيْهِمَا بِشَهَادَتِهِمَا.
فرع:
وَفِي الْمُتَيْطِيَّةِ وَاخْتُلِفَ فِي مَعْنَى قَوْله تَعَالَى فِي آيَةِ الْوَصِيَّةِ فِي آخِرِ سُورَةِ الْمَائِدَةِ فِي قَوْله تَعَالَى: {ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ} [المائدة: 106] فَقِيلَ: مِنْ غَيْرِ قِبْلَتِكُمْ؛ لِأَنَّهُ شَرَطَ الْعَدَالَةَ فِي الْمُسْلِمِ بِقَوْلِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ، وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ لَمْ تَجُزْ شَهَادَةُ الْكَافِرِ، وَقِيلَ إنَّمَا شُرِطَتْ الْعَدَالَةُ إذَا كَانَتْ الشَّهَادَةُ فِي الْحَضَرِ.
وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهَا مَنْسُوخَةٌ بِقَوْلِهِ: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق: 2] فِي الْوَقْفِ فِي قَوْلِهِ: {مِنْكُمْ}، وَالِابْتِدَاءِ {أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ} [المائدة: 106] فَتَجُوزُ لِلضَّرُورَةِ وَعَلَى هَذَا تَجُوزُ شَهَادَةُ الْمُسْلِمِ فِي السَّفَرِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَدْلًا.
فرع:
وَفِي الْحَاوِي لِابْنِ عَبْدِ النُّورِ.
وَسُئِلَ السُّيُورِيُّ عَنْ أَهْلِ قَرْيَةٍ لَيْسَ فِيهِمْ عَدْلٌ، سَكَنُوا قَفِصَةً وَيَشْهَدُونَ فِي الْأَمْرِ، لَا يَعْرِفُهُ غَيْرُهُمْ مِثْلُ شَأْنِ فَقِيرَةٍ يَتِيمَةٍ لَا وَلِيَّ لَهَا، تُرِيدُ النِّكَاحَ وَلَا يَعْرِفُهَا إلَّا أَهْلُ الْقَرْيَةِ وَهُمْ يَزِيدُونَ عَلَى الْعِشْرِينَ، وَقَدْ يَغِيبُ أَحَدُهُمْ فَتَطُولُ غَيْبَتُهُ، وَتُرِيدُ زَوْجَتُهُ فِرَاقَهُ لِعَدَمِ النَّفَقَةِ، وَلَا يَشْهَدُ لَهَا إلَّا أَهْلُ الْقَرْيَةِ وَهُمْ قَرِيبُ مِنْ مِائَةِ رَجُلٍ، فَكَيْفَ يَكُونُ عَمَلُهُمْ؟ وَهَلْ تَجُوزُ شَهَادَةُ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ فِيمَا تَقَدَّمَ فِي مَكَانِهِمْ إذَا لَمْ يَكُنْ فِيهِمْ عَدْلٌ؟
فَأَجَابَ إذَا لَمْ تَكُنْ تُهْمَةٌ تَلْحَقُهُمْ فِيمَا شَهِدُوا فِيهِ وَكَانُوا جَمَاعَةً فَيَحْضُرُونَ جَمَاعَتُهُمْ لِمَنْ يَحْضُرُ كَلَامَهُمْ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالْعَدْلِ، فَإِنْ ذَكَرُوا أَنَّهُمْ وَجَدُوا أَنْفُسَهُمْ سَاكِنَةً لَصَدَّقَهُمْ، وَلَسْت أَعْنِي بِسَاكِنَةٍ أَنَّهُمْ مَائِلُونَ عَنْ الْحَقِّ، أَمْ أَنَّهُمْ قَالُوا الْحَقَّ بَلْ يَرَوْنَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَلَقَ فِي قُلُوبِهِمْ صِدْقَ ذَلِكَ، وَالْقَطْعَ بِهِ كَأَنَّهُمْ يَرَوْنَ ذَلِكَ وَيُشَاهِدُونَهُ، فَإِنْ حَصَلَ ذَلِكَ فِي قُلُوبِ رَجُلَيْنِ أَوْ أَكْثَرَ حُكِمَ بِذَلِكَ إذَا كَانَ الَّذِي سُمِعَ مِنْهُمْ خَمْسَةً فَأَكْثَرَ، وَأَنْ يَتَّفِقَ ذَلِكَ فَعَسَى أَنْ يُكْثِرُوا مِمَّنْ يَشْهَدُ فِي ذَلِكَ، وَأَقَلُّ ذَلِكَ ثَلَاثُونَ عِنْدِي إذَا لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُمْ تُهْمَةٌ فِيمَا شَهِدُوا بِهِ فَكُلَّمَا أُصِيبَ أَزْيَدُ مِنْ ذَلِكَ فَحَسَنٌ، فَكُلَّمَا كَثُرُوا كَانَ أَطْيَبُ لِلنَّفْسِ وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ.
تنبيه:
وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ أَبُو الْقَاسِمِ السُّيُورِيُّ يُخَالِفُهُ فِيهِ الْمَازِرِيُّ، وَقِيلَ: سُئِلَ الْمَازِرِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ عَنْ عَشَرَةِ رِجَالٍ مِنْ عَوَالِمِ النَّاسِ، أَوْ خَمْسَةَ عَشَرَ رَجُلًا شَهِدُوا عِنْدَ عَدْلَيْنِ فِي الْأَمْوَالِ وَالْحُدُودِ، فَيَقُولُ الْعُدُولُ تَحَقَّقَ عِنْدَنَا مِنْ قَوْلِ هَؤُلَاءِ صِحَّةُ الشَّهَادَةِ فَشَهِدَ بِهَا الْعُدُولُ، وَالْعُدُولُ غَيْرُ عَارِفِينَ بِالْعِلْمِ الضَّرُورِيِّ، فَهَلْ لِلْحَاكِمِ أَنْ يَقْبَلَ هَذِهِ الشَّهَادَةَ وَيَحْكُمَ بِهَا عَلَى مَنْ حَضَرَ أَوْ غَابَ؟ وَالْعَوَامُّ وَالْعُدُولُ وَالْمَشْهُودُ عَلَيْهِ حَاضِرُونَ فِي الْبَلَدِ، فَأَجَابَ لَنَا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ إمْلَاءٌ لِمَا اسْتَفْتَيْنَا عَنْ حَاكِمٍ حَكَمَ بِمِثْلِ هَذِهِ الشَّهَادَةِ، وَذَكَرْنَا أَنَّ الْحُكْمَ بِذَلِكَ يُنْقَضُ؛ لِأَنَّهُ عُوِّلَ فِيهِ مَعْنًى لَيْسَ بِهُنَالِكَ فِي النَّظَرِ، وَهَذِهِ أَشْيَاءُ تُحْكَى عَنْ الشَّيْخِ أَبِي الْقَاسِمِ السُّيُورِيِّ: أَنَّهُ كَانَ يُشِيرُ إلَى أَنَّ النَّظَرَ يَقْتَضِي قَبُولَ مِثْلَ هَذَا فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ، وَلَكِنْ إذَا كَانَ الشَّاهِدُونَ السَّامِعُونَ يَعْرِفُونَ طُرُقَ الْعِلْمِ الضَّرُورِيِّ، وَأَمَّا إذَا كَانُوا لَا يَعْرِفُونَ ذَلِكَ فَلَا يُقْبَلُ مِنْهُمْ، وَاَلَّذِي عِنْدَنَا أَنَّ هَذِهِ الشَّهَادَةَ لَا تُقْبَلُ لَا مِنْ عَارِفٍ بِالْعُلُومِ الضَّرُورِيَّةِ، وَلَا مِنْ غَيْرِ عَارِفٍ بِهَا وَقَدْ اسْتَدْلَلْنَا عَلَى ذَلِكَ فِي الَّذِي أَمْلَيْنَاهُ، قَدِيمًا، وَكَشَفْنَا سِرَّ الْقَوْلِ فِيهِ وَحِكْمَةُ الشَّرْعِ نَتِيجَتُهَا الْمَنْعُ مِنْ قَبُولِ الشَّهَادَةِ لِمِثْلِ هَذَا، وَقَدْ وَقَفْنَا لِلطَّبَرِيِّ فِي بَعْضِ تَصَانِيفِهِ عَلَى أَنَّ الْإِجْمَاعَ عَلَى مَنْعِ قَبُولِ هَذِهِ الشَّهَادَةِ فِي الْأَمْوَالِ وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ.
فرع:
وَفِي الطُّرَرِ لِأَبِي إبْرَاهِيمَ عَلَى التَّهْذِيبِ فِي بَابِ اللُّقَطَةِ عِنْدَ قَوْلِهِ: وَإِذَا شَهِدَ قَوْمٌ غُرَبَاءُ لَا يُعْرَفُونَ لَمْ يُقْبَلُوا، قَالَ ظَاهِرُهُ وَإِنْ كَانَتْ الشَّهَادَةُ فِيمَا بَيْنَهُمْ وَظَاهِرُهُ كَانَتْ الشَّهَادَةُ فِي الْأَمْوَالِ أَوْ فِي الْجِرَاحِ.
وَقَالَ ابْنُ شَعْبَانَ إذَا قَدِمَتْ الرُّفْقَةُ فَشَهِدَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ فِي الْإِجَارَاتِ جَازَتْ الشَّهَادَةُ، إذَا تُوُسِّمَتْ فِيهِمْ الْمُرُوءَةُ فِي الْعَقْلِ وَالْقَوْلِ. قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا} [يوسف: 82]، وَقَوْلُهُ فِي الْإِجَارَاتِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا لَا تَجُوزُ فِي الْجِرَاحِ، وَكَذَلِكَ وَقَعَ فِي الْوَاضِحَةِ عَلَى الْمُحَارِبِينَ، وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ فِي بَابِ الشَّهَادَةِ بِالتَّوَسُّمِ، وَفِي ثَمَانِيَةِ أَبِي زَيْدٍ أَنَّ شَهَادَةَ الْغُرَبَاءِ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ جَائِزَةٌ فِيمَا بَيْنَهُمْ فِي الْأَمْوَالِ لَا فِي الْجِرَاحِ، وَإِنْ لَمْ يُعْرَفُوا بِعَدَالَةٍ، وَيَقْبَلُهُمْ الْحَاكِمُ بِالتَّوَسُّمِ إذَا لَمْ يَسْتَرِبْ مِنْهُمْ شَيْئًا قَطْعَ يَدٍ أَوْ رِجْلٍ أَوْ مَضْرُوبٍ أَوْ مَا أَشْبَهَ ذَلِكَ، وَلَا يَسْمَعُ فِيهِمْ مِنْ الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ تَجْرِيحٌ؛ لِأَنَّ شَهَادَتَهُمْ إنَّمَا جَازَتْ لِلضَّرُورَةِ يَعْنِي لَا يَجْرَحُهُمْ بِأَنَّهُمْ غَيْرُ عُدُولٍ، وَأَمَّا جُرْحُهُمْ بِالْعَدَاوَةِ أَوْ لِأَجْلِ الْقَرَابَةِ فَيَسْمَعُ ذَلِكَ فِيهِمْ، فَإِنْ قِيلَ وَكَيْفَ يَعْرِفُهُمْ الْحَاكِمُ؟ قِيلَ لَهُ: وَرَدَّ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يُعْرَفُ الرَّجُلُ مِنْ سَاعَتِهِ إذَا تَكَلَّمَ، وَمِنْ يَوْمِهِ إذَا لَمْ يَتَكَلَّمْ، وَقَوْلُهُ فِي التَّهْذِيبِ يَعْنِي لَمْ يُقْبَلُوا. يَعْنِي لَيْسَ كَوْنُهُمْ غُرَبَاءَ بِاَلَّذِي يُبِيحُ شَهَادَتَهُمْ، وَظَاهِرُهُ قَلُّوا أَوْ كَثُرُوا، وَمَعْنَاهُ مَا لَمْ يَبْلُغُوا حَدَّ الِاسْتِفَاضَةِ، فَإِنَّ ذَلِكَ يُفِيدُ الْعِلْمَ، وَظَاهِرُهُ كَانَ فِي الْبَلَدِ عُدُولٌ أَمْ لَا.
وَقَالَ صَاحِبُ الِاسْتِغْنَاءِ إذَا كَانَ الْبَلَدُ لَا عُدُولَ فِيهِ، فَإِنَّهُ يُكْتَفَى فِيهِ بِالْأَمْثَلِ فَالْأَمْثَلِ، وَيَسْتَكْثِرُ بِحَسَبِ خَطَرِ الْحُقُوقِ، قَالَ وَظَاهِرُ مَا قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ أَنَّهُ لَا يُزَادُ مِنْهُمْ عَلَى النِّصَابِ.
فرع:
قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ وَغَيْرُهُ فِي شَهَادَةِ الْمَسْلُوبِينَ عَلَى الْمُحَارِبِينَ، أَنَّهَا تَجُوزُ عَلَيْهِمْ فِي قَطْعِ السَّبِيلِ دُونَ مَا ادَّعُوهُ لِأَنْفُسِهِمْ مِنْ الْمَالِ إلَّا أَنْ يَقِلَّ فَيَجُوزَ.
وَفِي مُفِيدِ الْحُكَّامِ تَجُوزُ شَهَادَةُ الْمَسْلُوبِ لِغَيْرِهِ وَقِيلَ تَجُوزُ لَهُ وَلِغَيْرِهِ فِيمَا قَلَّ.
وَقَالَ مُطَرِّفٌ وَابْنُ حَبِيبٍ شَهَادَتُهُمْ عَلَى الْمُحَارِبِ فِي الْمَالِ جَائِزَةٌ، وَلَمْ يُفَرِّقَا بَيْنَ قَلِيلٍ وَلَا كَثِيرٍ وَإِنَّمَا أُجِيزَتْ لِلضَّرُورَةِ.
فرع:
وَفِي الْمُنْتَقَى لِلْبَاجِيِّ أَنَّ شَهَادَتَهُمْ تَجُوزُ إذَا كَانُوا عُدُولًا، فَإِنْ كَانُوا عَبِيدًا أَوْ نَصَارَى أَوْ غَيْرَ عُدُولٍ لَمْ يُقْبَلُوا، وَلَكِنْ إذَا اسْتَفَاضَ ذَلِكَ مِنْ الذِّكْرِ وَكَثُرَ الْقَوْلُ أَدَبَهُمْ الْإِمَامُ أَوْ نَفَاهُمْ.
فرع:
وَمِمَّا أُجِيزَتْ فِيهِ الشَّهَادَةُ لِلضَّرُورَةِ، شَهَادَةُ الْبَدْوِيِّ عَلَى الْقَرَوِيِّ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ مِنْ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يُقْبَلُ شَهَادَةُ الْبَدْوِيِّ عَلَى الْقَرَوِيِّ، قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ تَأَوَّلَهُ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ الشَّهَادَةُ فِي الْحُقُوقِ وَالْأَمْوَالِ، وَلَمْ يُرِدْ بِذَلِكَ الشَّهَادَاتِ فِي الدِّمَاءِ وَمَا فِي مَعْنَاهَا، مِمَّا تُطْلَبُ بِهِ الْخَلَوَاتُ مِنْ الْجِرَاحِ وَالْقَتْلِ وَالضَّرْبِ وَالشَّتْمِ وَالزِّنَا وَالشُّرْبِ وَالْقَذْفِ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِمَّا لَا يُقْصَدُ الْإِشْهَادُ عَلَيْهِ.
وَقَالَ اللَّخْمِيُّ يَجُوزُ فِي الْمَالِ وَالنِّكَاحِ، إذَا قَالَ مَرَرْت بِهِمَا أَوْ كُنْت جَالِسًا فَسَمِعْته يَقُولُ بِكَذَا، أَوْ بَاعَ مِنْهُ كَذَا أَوْ تَنَازَعَا فِي النِّكَاحِ فَأَقَرَّا بِالْعَقْدِ، وَلَا تَجُوزُ فِي الْوَثَائِقِ وَالصَّدَقَاتِ وَلَا فِيمَا يُقْصَدُ فِيهِ الِاسْتِعْدَادُ فِي الشَّهَادَةِ؛ لِأَنَّ هَذَا لَيْسَ مَحَلُّ ضَرُورَةٍ، وَشَهَادَتُهُمْ فِي مِثْلِ ذَلِكَ وَالْعُدُولُ عَنْ أَهْلِ الْعَدْلِ إلَيْهِمْ رِيبَةٌ، إلَّا أَنْ يُعْلَمَ مُخَالَطَتُهُ لَهُمْ أَوْ يَجْمَعُهُمْ وَإِيَّاهُ سَفَرٌ فَتَجُوزُ.
مَسْأَلَةٌ:
وَفِي كِتَابِ الدَّلَائِلِ وَالْأَضْدَادِ لِأَبِي عِمْرَانَ الْفَاسِيِّ قَالَ: قَالَ أَبُو عَمْرٍو وَكُلُّ مَوْضِعٍ يَتَعَذَّرُ فِيهِ حُضُورُ الشُّهُودِ مِنْ الْمَلَاهِي وَغَيْرِهَا، فَشَهَادَةُ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ جَائِزَةٌ بِلَا مُرَاعَاةِ عَدَالَةٍ لِلضَّرُورَةِ الدَّاعِيَةِ إلَى ذَلِكَ، قَالَ وَمِثْلُهُ فِي مُنْتَخَبِ الْأَحْكَامِ يُرِيدُ لِابْنِ أَبِي زَمَنِينَ فَانْظُرْهُ.
فرع:
قَالَ ابْنُ الْفَرَسِ فِي أَحْكَامِ الْقُرْآنِ: إذَا كَانَتْ قَرْيَةٌ لَيْسَ فِيهَا عُدُولٌ وَبَعِدُوا عَنْ الْعُدُولِ، فَهَلْ تَجُوزُ شَهَادَةُ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ فِي الْأَمْوَالِ أَمْ لَا؟ وَاَلَّذِي عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ فِي الْمَذْهَبِ، وَلَا يُعْرَفُ لِلْمُتَقَدِّمِ مِنْهُمْ فِيهِ خِلَافٌ أَنَّ شَهَادَتَهُمْ لَا تَجُوزُ وَهُوَ ظَاهِرُ قَوْلِ ابْنِ حَبِيبٍ فِي الْوَاضِحَة وَنَقَلَهُ الْبَاجِيُّ، وَرَأَيْت قَوْمًا مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ يَحْكُونَ عَنْ أَشْيَاخِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَقُولُونَ بِجَوَازِ الشَّهَادَةِ مِمَّنْ ذَكَرْنَاهُ، وَيُعْمِلُونَهَا لِلضَّرُورَةِ كَشَهَادَةِ أَهْلِ الْقَرْيَةِ مَعَ التَّوَسُّمِ، وَرَأَيْت بَعْضَهُمْ يَحْتَجُّ فِي ذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا} [يوسف: 82] يَعْنِي أَهْلَ الْقَرْيَةِ وَأَهْلَ الْعِيرِ.
وَقَالَ ابْنُ رَاشِدٍ فِي كِتَابِ الْمَذْهَبِ- إذَا كَانَ الْمَوْضِعُ لَا عُدُولَ فِيهِ قُبِلَتْ شَهَادَةُ أَمْثَلِهِمْ.
مَسْأَلَةٌ:
قَالَ الْقَرَافِيُّ فِي الذَّخِيرَةِ فِي بَابِ السِّيَاسَةِ: نَصَّ ابْنُ أَبِي زَيْدٍ فِي النَّوَادِرِ عَلَى أَنَّا إذَا لَمْ نَجِدْ فِي جِهَةٍ إلَّا غَيْرَ الْعُدُولِ أَقَمْنَا أَصْلَحَهُمْ وَأَقَلَّهُمْ فُجُورًا لِلشَّهَادَةِ عَلَيْهِمْ وَيَلْزَمُ مِثْلُ ذَلِكَ فِي الْقُضَاةِ وَغَيْرِهِمْ فَلَا نُضَيِّعُ الْمَصَالِحَ. قَالَ وَمَا أَظُنُّ أَحَدًا يُخَالِفُهُ فِي هَذَا، فَإِنَّ التَّكْلِيفَ شَرْطٌ فِي الْإِمْكَانِ وَهَذَا كُلُّهُ لِلضَّرُورَةِ، لِئَلَّا تَنْهَدِرَ الدِّمَاءُ وَتَضِيعَ الْحُقُوقُ وَتَتَعَطَّلَ الْحُدُودُ، وَلِذَلِكَ أَجَازُوا شَهَادَةَ النِّسَاءِ فِي الْمَأْتَمِ وَالْأَعْرَاسِ وَالْحَمَّامِ فِيمَا يَقَعُ بَيْنَهُنَّ مِنْ الْجِرَاحِ عَلَى الْخِلَافِ فِي ذَلِكَ، وَأَجَازُوا شَهَادَةَ الصِّبْيَانِ فِيمَا يَقَعُ بَيْنَهُمْ مِنْ الْقَتْلِ وَالْجِرَاحِ، وَأَوْجَبُوا الْقَسَامَةَ بِشَهَادَةِ غَيْرِ الْعَدْلِ عَلَى رِوَايَةِ أَشْهَبَ عَنْ مَالِكٍ حِفْظًا لِلدِّمَاءِ، وَأَجَازُوا تَرْجَمَةَ الْكَافِرِ وَالْعَبْدِ وَالْمَسْخُوطِ إذَا لَمْ يُوجَدْ غَيْرُهُ عَلَى الْخِلَافِ فِي ذَلِكَ، وَأَجَازُوا الْحُكْمَ بِقَوْلِ الطَّبِيبِ النَّصْرَانِيِّ فِي الْعُيُوبِ وَفِي مَقَادِيرِ الْجِرَاحِ وَتَسْمِيَتِهَا، وَأَجَازُوا إشْهَادَ النِّسَاءِ فِي قِيَاسِهِنَّ الْجِرَاحَ حَيْثُ يَجُوزُ الشَّاهِدُ وَالْيَمِينُ وَغَيْرُ ذَلِكَ لِلضَّرُورَةِ، وَأَجَازُوا شَهَادَةَ السَّمَاعِ فِي الضَّرَرِ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ، وَشَهَادَةَ اللَّفِيفِ مِنْ النَّاسِ وَالْجِيرَانِ وَإِنْ كَانُوا غَيْرَ عُدُولٍ، قَالَ الْمُتَيْطِيُّ: وَهُوَ الْمَشْهُورُ، وَأَجَازُوا فِي الشَّهَادَةِ فِي الرَّضَاعِ أَنْ يَشْهَدَ الْعُدُولُ عَلَى لَفِيفِ الْقَرَابَةِ وَالْأَهْلِينَ وَالْجِيرَانِ، وَإِنْ لَمْ يَكُونُوا عُدُولًا كَالنِّسَاءِ وَالْخَدَمِ، أَنَّهُ اتَّصَلَ عِنْدَهُمْ أَنَّ فُلَانًا أَرْضَعَتْهُ فُلَانَةُ، وَهُوَ الْمَشْهُورُ مِنْ الْمَذْهَبِ وَهُوَ حَسَنٌ؛ لِأَنَّهُ لَا يَحْضُرُهُ الرِّجَالُ فِي الْأَغْلَبِ وَلَا يَعْتَنِي الْأَهْلُونَ بِإِحْضَارِ عُدُولِ النِّسَاءِ لَهُ.
وَلِابْنِ الْقَاسِمِ أَنَّ السَّمَاعَ لَا يَجُوزُ إلَّا مِنْ الثِّقَاتِ فِي جَمِيعِ الْأَشْيَاءِ، مِنْ الْمُتَيْطِيَّةِ فِي مَسْأَلَةِ بَعْثِ الْحَكَمَيْنِ، وَمَعْنَى قَوْلُهُ أَنْ يَشْهَدَ الْعُدُولُ عَلَى لَفِيفِ الْقَرَابَةِ، يُرِيدُ أَنَّ الْحَاكِمَ أَرْسَلَهُمْ لِيَشْهَدُوا وَيَكْشِفُوا عَنْ ذَلِكَ.

.فَصْلٌ فِي حُكْمِ شَهَادَةِ الشِّيعَةِ الْإِمَامِيَّةِ:

الَّذِينَ عَمَّتْ بِهِمْ الْبَلْوَى فِي الْبَلْوَى فِي الْمَدِينَةِ النَّبَوِيَّةِ وَغَيْرِهَا، وَهِيَ مَسْأَلَةٌ اسْتَحْكَمَ فِيهَا الْفَسَادُ فَقَلَّ أَنْ يَجْرِيَ أَمْرُهَا عَلَى السَّدَادِ، وَذَلِكَ أَنَّ الْمَدِينَةَ النَّبَوِيَّةَ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَى مُشَرِّفِهَا، كَانَتْ شَاغِرَةً مِنْ أَحْكَامِ أَهْلِ السُّنَّةِ مِنْ قَدِيمِ الزَّمَانِ، وَاَلَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ كَلَامُ الْقَاضِي أَبِي بَكْرِ بْنِ الْعَرَبِيِّ وَغَيْرِهِ، أَنَّهَا كَانَتْ شَاغِرَةً مِنْ أَحْكَامِ أَهْلِ السُّنَّةِ مِنْ سَنَةِ تِسْعٍ وَثَمَانِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ، وَهِيَ السَّنَةُ الَّتِي حَجَّ فِيهَا، لِأَنَّهُ ذَكَرَ فِي كِتَابِهِ الْمُسَمَّى بِالْعَوَاصِمِ وَالْقَوَاصِمِ: أَنَّ الْخَطِيبَ بِالْمَدِينَةِ يَوْمَئِذٍ كَانَ مِنْ الشِّيعَةِ فِي خَبَرٍ يَطُولُ ذِكْرُهُ، وَذَكَرَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ بْنُ تَيْمِيَّةَ: أَنَّ أَهْلَ الْمَدِينَةِ لَمْ يَزَالُوا عَلَى مَذْهَبِ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ وَمُنْتَسِبِينَ إلَيْهِ إلَى أَوَائِلِ الْمِائَةِ السَّادِسَةِ أَوْ قَبْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ قَدِمَ إلَيْهِمْ مِنْ رَافِضَةِ الْمَشْرِقِ مِنْ أَهْلِ قَاشَانَ وَغَيْرِهِمْ مَنْ أَفْسَدَ مَذَاهِبَ كَثِيرَةً مِنْهُمْ، لاسيما الْمُنْتَسِبُونَ إلَى الْعِتْرَةِ النَّبَوِيَّةِ، وَقَدِمَ بِكُتُبِ أَهْلِ الْبِدَعِ الْمُخَالِفَةِ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَبَذَلَ لَهُمْ أَمْوَالًا كَثِيرَةً فَكَثُرَتْ الْبِدْعَةُ بِهَا مِنْ حِينَئِذٍ.
فَأَمَّا الْأَعْصَارُ الْمُفَضَّلَةُ فَلَمْ يَكُنْ فِيهَا بِالْمَدِينَةِ النَّبَوِيَّةِ بِدْعَةٌ فِي أُصُولِ الدِّينِ، فَقَوْلُهُ: إنْ كَانَ ابْتِدَاؤُهُ قَبْلَ الْمِائَةِ السَّادِسَةِ هُوَ الصَّحِيحُ. بَلْ قَبْلَ الْمِائَةِ الْخَامِسَةِ لِمَا ذَكَرْنَاهُ عَنْ الْقَاضِي أَبِي بَكْرِ بْنِ الْعَرَبِيِّ.
وَقَدْ كَانَ الْإِمَامُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ بَشْكُوَال الْمَعْرُوفُ بِابْنِ الْفَخَّارِ مُقِيمًا بِالْمَدِينَةِ النَّبَوِيَّةِ، وَكَانَ مِنْ الْمُشَاوَرِينَ بِهَا فِي الْفَتْوَى وَالْأَحْكَامِ، وَذَكَرَ بَعْضُهُمْ أَنَّهُ كَانَ إمَامًا فِي مَسْجِدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يَكُنْ يَوْمَئِذٍ بِالْمَدِينَةِ بِدْعَةٌ.
وَكَانَتْ وَفَاتُهُ بِالْمَغْرِبِ فِي سَنَةِ خَمْسَ عَشْرَةَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ، فَلَمَّا قَوِيَتْ شَوْكَتُهُمْ صَارَ الْحُكَّامُ مِنْهُمْ، وَصَارَتْ الْخَطَابَةُ فِيهِمْ، وَشُهُودُ الْبَلَدِ مِنْهُمْ، وَعَامَّتُهَا وَسُكَّانُ ضَوَاحِيهَا وَأَهْلُ بَادِيَتِهَا كُلُّهُمْ عَلَى هَذَا الْمَذْهَبِ وَأَهْلُ السُّنَّةِ، يَوْمَئِذٍ عَدَدُهُمْ قَلِيلٌ جِدًّا مُسْتَضْعَفُونَ بَيْنَهُمْ، إلَّا أَنَّ إمَامَةَ الصَّلَاةِ كَانَتْ مُضَافَةً إلَى أَهْلِ السُّنَّةِ، وَاسْتَمَرَّ الْأَمْرُ عَلَى ذَلِكَ إلَى حُدُودِ سَنَةِ خَمْسٍ وَثَمَانِينَ وَسِتِّمِائَةٍ، فَبَعَثَ سُلْطَانُ مِصْرَ إلَى الْمَدِينَةِ حَاكِمًا شَافِعِيًّا مِنْ أَهْلِ مِصْرَ، وَأُضِيفَتْ إلَيْهِ الْخَطَابَةُ وَالْإِمَامَةُ فَلَمْ يَتَعَرَّضْ لِمَنْعِهِمْ مِنْ الْأَحْكَامِ، فَكَانَتْ جُلُّ الْحُكُومَاتِ رَاجِعَةً إلَيْهِمْ، وَلَمْ تَزَلْ أَحْكَامُهُمْ نَافِذَةً إلَى سَنَةِ سِتٍّ وَأَرْبَعِينَ وَسَبْعِمِائَةٍ، فَمَنَعَهُمْ أَمِيرُ الْمَدِينَةِ مِنْ الْحُكْمِ بِقِيَامِ الْقَاضِي تَقِيِّ الدِّينِ الْهُورِينِيِّ الشَّافِعِيِّ فِي ذَلِكَ فَانْقَطَعَتْ أَحْكَامُهُمْ.
وَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الطَّائِفَةَ إلَى يَوْمِنَا هَذَا هُمْ غَالِبُ أَهْلِ الْبَلَدِ وَكَثِيرٌ مِنْ نَوَاحِيهَا لَا يَسْكُنُهَا غَيْرُهُمْ، وَجَمِيعُ عَامَّتِهَا وَسُوقَتِهَا وَأَرْبَابِ الْحِرَفِ وَأَهْلِ الْبَادِيَةِ وَالْفَلَّاحِينَ، كُلُّهُمْ يَشْهَدُونَ وَلَيْسَ لَهُمْ عُدُولٌ يُقْصَدُونَ لِلشَّهَادَةِ دُونَ غَيْرِهِمْ، وَكَذَا جَمِيعُ عَوَامِّ أَهْلِ السُّنَّةِ يَشْهَدُونَ، وَلَمْ يَتَقَدَّمْ مِنْ أَحَدٍ مِنْ الْحُكَّامِ أَمَانٌ لَا يَشْهَدُ فِي الْبَلَدِ إلَّا الْعُدُولُ، فَهُمْ إلَى الْآنَ عَلَى مَا كَانُوا عَلَيْهِ.
وَسَأَلْت بَعْضَ حُكَّامِهِمْ عَنْ الْمُسَوِّغِ لِقَبُولِ شَهَادَةِ عَامَّةِ الْبَلَدِ، وَمَا حُكْمُ شَهَادَتِهِمْ عَلَى مَذْهَبِهِمْ؟ فَذَكَرَ أَنَّ الصَّحِيحَ مِنْ مَذْهَبِهِمْ: أَنَّ النَّاسَ مَحْمُولُونَ عَنْ الْجُرْحَةِ حَتَّى تَثْبُتَ الْعَدَالَةُ، وَأَنَّ هَذَا الْفَسَادَ وَالتَّسَاهُلَ إنَّمَا كَانَ مِنْ أَجْلِ أَنَّ الْبَلَدَ لَمْ يَكُنْ لَهَا قَانُونٌ وَلَا ضَابِطٌ، وَأَنَّ النَّاسَ كَانُوا فِيهَا كَأَهْلِ الْبَادِيَةِ، وَأَنَّ إهْمَالَ ذَلِكَ عَنْ رَأْيِ أُمَرَاءِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَأَشْرَافِهَا، فَإِنَّا لَمْ نَزَلْ نَسْمَعُ مِنْ الْأُمَرَاءِ إنْكَارَ التَّعَرُّضِ لِإِنْكَارِ ذَلِكَ، وَيَقُولُونَ شُهُودُ الْبَلَدِ مِنْهُمْ فَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا فَالْكَلَامُ عَلَى هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي ثَلَاثَةِ فُصُولٍ: الْفَصْلُ الْأَوَّلُ: فِي حُكْمِ شَهَادَتِهِمْ.
الثَّانِي: فِيمَا يَنْبَغِي لِلْحَاكِمِ اعْتِمَادُهُ وَالْعَمَلُ بِهِ فِي شَهَادَتِهِمْ.
الثَّالِثُ: فِي أَقْضِيَةِ حُكَّامِهِمْ وَالشَّهَادَةِ عَلَى خُطُوطِهِمْ.

.الْفَصْلُ الْأَوَّلُ فِي حُكْمِ شَهَادَةِ أَهْلِ الْبِدَعِ:

وَلَا خِلَافَ فِي الْمَذْهَبِ أَنَّ شَهَادَتَهُمْ غَيْرُ جَائِزَةٍ، وَلَا يُعْتَبَرُ مِنْهُمْ الْأَمْثَلُ فَالْأَمْثَلُ، وَلَا تَجُوزُ شَهَادَتُهُمْ لِأَهْلِ السُّنَّةِ وَلَا عَلَيْهِمْ، وَلَا تَجُوزُ شَهَادَتُهُمْ لِبَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ لِانْتِفَاءِ الْعَدَالَةِ الَّتِي هِيَ شَرْطٌ فِي قَبُولِ الشَّهَادَةِ، هَكَذَا نَقَلَهُ ابْنُ عِصْمَةَ الأستري وَهُوَ بَيِّنٌ وَفِي الْمُنْتَقَى لِلْبَاجِيِّ، وَلَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ أَحَدٍ مِنْ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ، وَإِنْ كَانَ لَا يَدْعُو إلَى مَا هُوَ عَلَيْهِ انْتَهَى.
وَسَوَاءٌ كَانَ مُرْتَكِبًا لِلْبِدْعَةِ مُتَعَمِّدًا أَوْ جَاهِلًا أَوْ مُتَأَوِّلًا.
فرع:
وَفِي مُخْتَصَرِ الْوَاضِحَةِ قَالَ ابْنُ حَبِيبٍ قَالَ لِي مُطَرِّفٌ وَأَصْبَغُ فِي الْقَاضِي يَبْلُغُهُ عَنْ الرَّجُلِ أَنَّهُ مِنْ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ فِي دِينِهِ مِثْلَ الْإِبَاضِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ، وَلَمْ يَتَحَقَّقْ عِنْدَهُ بِشَهَادَةِ أَهْلِ الْعَدْلِ أَنَّهُ إذَا تَوَاطَأَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ، نَرَى أَنْ لَا تُقْبَلَ شَهَادَتُهُ إلَّا أَنْ يَأْتِيَ مِنْهُ تَوْبَةٌ وَتَوَرُّعٌ بَيِّنٌ ظَاهِرٌ.
وَقَالَهُ ابْنُ الْقَاسِمِ وَقَالَ لِي ابْنُ الْمَاجِشُونِ فِيمَنْ عُرِفَ بِالْبِدْعَةِ، وَمَنْ كَانَ خَلَعَ الطَّاعَةَ وَمَنْ رَجَعَ وَثَبَتَ عَلَى بِدْعَتِهِ، وَمَنْ تُسَمَّى بِذَلِكَ مُسْتَهِلًّا وَدَعَا إلَى مَا هُوَ عَلَيْهِ وَعَادَى عَلَيْهِ فَلَا تَجُوزُ شَهَادَتُهُ، وَكَذَا مَنْ سُمِّيَ بِذَلِكَ وُوسِمَ بِهِ وَاسْتَوْطَأَ ذَلِكَ عَلَيْهِ فَلَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ مُبْتَدِعًا كَانَ أَوْ خَارِجِيًّا، قَالَ وَأَمَّا غَيْرُ الْمَعْرُوفِ بِذَلِكَ وَإِنْ لُطِّخَ بِمَا لَمْ يُؤْتَ عَلَيْهِ بِالْأَمْرِ الْمُصَرِّحِ الْبَيِّنِ، فَأَجْرِهِ مَجْرَى غَيْرِهِ يُجِيزُهُ مَا يُجِيزُ الْعُدُولَ مِنْ التَّسْمِيَةِ بِالْعَدَالَةِ، وَيَرُدُّهُ مَا يَرُدُّ الشُّهُودَ وَيُوهِنُ شَهَادَتَهُمْ.
فرع:
قَالَ ابْنُ الْفَرَسِ فِي أَحْكَامِ الْقُرْآنِ، وَاخْتُلِفَ فِيمَنْ لَا تُعْرَفُ عَدَالَتُهُ وَلَا سَخَاطَتُهُ، هَلْ يُحْمَلُ عَلَى غَيْرِ الْعَدَالَةِ حَتَّى تَثْبُتَ عَدَالَتُهُ أَوْ حَتَّى يَثْبُتَ فِسْقُهُ؟ فَذَهَبَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ إلَى أَنَّهُ لَا يُقْبَلُ حَتَّى تَثْبُتَ عَدَالَتُهُ، وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ وَاللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ وَالْحَسَنُ إلَى أَنَّهُ مَقْبُولٌ حَتَّى يُعْرَفَ فِسْقُهُ. قَالَ: وَمُجَرَّدُ الْإِسْلَامِ يَقْتَضِي الْعَدَالَةَ، وَكَذَا نَقَلَهُ الْبَاجِيُّ فِي الْمُنْتَقَى.
وَأَمَّا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي شَهَادَةِ أَهْلِ الْبِدَعِ، فَقَالَ الْغَزَالِيُّ فِي كِتَابِهِ الْوَجِيزِ وَتُقْبَلُ شَهَادَةُ الْمُبْتَدِعَةِ إذْ الصَّحِيحُ أَنَّهُمْ لَا يُكَفَّرُونَ وَلَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ مَنْ يَطْعَنُ فِي الصَّحَابَةِ وَيَقْذِفُ فِي عَائِشَةَ لِأَنَّهَا مُحْصَنَةٌ بِنَصِّ الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ.
وَأَمَّا مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ فِي ذَلِكَ، فَقَالَ صَاحِبُ الْهِدَايَةِ: وَتَجُوزُ شَهَادَةُ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ إلَّا الْخَطَّابِيَّةَ، وَهُمْ مِنْ غُلَاةِ الرَّافِضَةِ يَعْتَقِدُونَ الشَّهَادَةَ لِأَهْلِ شِيعَتِهِمْ وَاجِبَةً، فَلِذَلِكَ قَوِيَتْ التُّهْمَةُ فِيهِمْ، وَأَمَّا غَيْرُهُمْ مِنْ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ فَإِنَّمَا أَوْقَعَهُمْ فِي تِلْكَ الْبِدْعَةِ تَدَيُّنُهُمْ.
وَأَمَّا مَذْهَبُ الْحَنَابِلَةِ فَقَالَ شَمْسُ الدِّينِ بْنُ قَيِّمِ الْجَوْزِيَّةِ فِي بَعْضِ تَأْلِيفِهِ: وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: الْفَاسِقُ بِاعْتِقَادِهِ الْمُتَحَفِّظُ فِي دِينِهِ تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ، وَإِنْ كَانَ مَحْكُومًا بِفِسْقِهِ كَأَهْلِ الْبِدَعِ وَالْأَهْوَاءِ الَّذِينَ لَا نُكَفِّرُهُمْ كَالرَّافِضَةِ وَالْمُعْتَزِلَةِ وَالْخَوَارِجِ وَنَحْوِهِمْ.
قَالَ الشَّافِعِيُّ أَقْبَلُ شَهَادَةَ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ إلَّا الْخَطَّابِيَّةَ فَإِنَّهُمْ يَتَدَيَّنُونَ بِالشَّهَادَةِ بِالْكَذِبِ لِمُوَافِقِيهِمْ عَلَى مُخَالِفِيهِمْ، وَلَمْ يَزَلْ السَّلَفُ وَالْخَلَفُ عَلَى قَبُولِ شَهَادَةِ هَؤُلَاءِ وَرِوَايَتِهِمْ، قَالَ ابْنُ قَيِّمِ الْجَوْزِيَّةِ: وَإِنَّمَا مَنَعَ الْأَئِمَّةُ كَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ وَأَمْثَالِهِ قَبُولَ رِوَايَةِ الدَّاعِي إلَى بِدْعَتِهِ الْمُعْلِنِ بِهَا، وَقَبُولَ شَهَادَتِهِ وَالصَّلَاةَ خَلْفِهِ هَجْرًا لَهُ وَزَجْرًا لِيَنْكَفَّ ضَرَرُ بِدْعَتِهِ عَنْ الْمُسْلِمِينَ، لِأَنَّ فِي قَبُولِ شَهَادَتِهِ وَرِوَايَتِهِ وَالصَّلَاةِ خَلْفَهُ وَاسْتِقْضَائِهِ وَتَنْفِيذِ أَحْكَامِهِ، رِضًا بِبِدْعَتِهِ وَإِقْرَارًا لَهُ عَلَيْهَا وَتَعْرِيضًا لِقَبُولِهَا مِنْهُ.
قَالَ حِزْبٌ مِنْ الْحَنَابِلَةِ: قَالَ أَحْمَدُ لَا تَجُوزُ شَهَادَةُ الْقَدَرِيَّةِ وَالرَّافِضَةِ وَكُلُّ مَنْ دَعَا إلَى بِدْعَتِهِ.
وَقَالَ أَيْضًا أَعْنِي أَحْمَدَ لَا يُعْجِبُنِي شَهَادَةُ الْجَهْمِيَّةِ الرَّافِضَةِ وَالْقَدَرِيَّةِ الْمُعْلِنَةِ.
وَقَالَ أَيْضًا: مَنْ خَافَ عَلَيْهِ الْكُفْرَ مِثْلَ الرَّوَافِضِ وَالْجَهْمِيَّةِ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمْ.
قَالَ بَعْضُ الْحَنَابِلَةِ مَنْ كَفَرَ بِمَذْهَبِهِ كَمَنْ يُنْكِرُ حُدُوثَ الْعَالَمِ وَحَشْرَ الْأَجْسَادِ، وَعِلْمَ الرَّبِّ تَعَالَى بِجَمِيعِ الْكَائِنَاتِ وَأَنَّهُ فَاعِلٌ بِمَشِيئَتِهِ وَإِرَادَتِهِ، فَهَذَا لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ لِأَنَّهُ عَلَى غَيْرِ الْإِسْلَامِ.
وَأَمَّا أَهْلُ الْبِدَعِ الْمُوَافِقُونَ عَلَى أَصْلِ الْإِسْلَامِ وَلَكِنَّهُمْ مُخْتَلِفُونَ فِي بَعْضِ الْأُصُولِ، كَالرَّافِضَةِ وَالْقَدَرِيَّةِ وَالْجَهْمِيَّةِ وَغُلَاةِ الْمُرْجِئَةِ وَغَيْرِهِمْ، فَهُمْ عَلَى أَقْسَامٍ الْأَوَّلُ الْجَاهِلُ الْمُقَلِّدُ الَّذِي لَا بَصِيرَةَ لَهُ، فَهَذَا لَا يُكَفَّرُ وَلَا يُفَسَّقُ وَلَا تُرَدُّ شَهَادَتُهُ، إذَا لَمْ يَكُنْ قَادِرًا عَلَى تَعَلُّمِ الْهُدَى، وَحُكْمُهُ حُكْمُ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنْ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ.
الثَّانِي يُمْكِنُهُ السُّؤَالُ وَطَلَبُ الْهِدَايَةِ وَمَعْرِفَةُ الْحَقِّ، وَلَكِنْ يَتْرُكُهُ اشْتِغَالًا بِدُنْيَاهُ وَرِيَاسَتِهِ وَمَعِيشَتِهِ، فَهَذَا مُفَرِّطٌ مُسْتَحِقٌّ لِلْوَعِيدِ آثِمٌ بِتَرْكِهِ لَهُ، مَا وَجَبَ عَلَيْهِ مِنْ تَقْوَى اللَّهِ تَعَالَى، فَهَذَا حُكْمُهُ حُكْمُ أَمْثَالِهِ مِنْ تَارِكِي بَعْضِ الْوَاجِبَاتِ، فَإِنْ غَلَبَ مَا فِيهِ مِنْ الْبِدْعَةِ وَالْهَوَى عَلَى مَا فِيهِ مِنْ السُّنَّةِ وَالْهُدَى رُدَّتْ شَهَادَتُهُ، وَإِنْ غَلَبَ مَا فِيهِ مِنْ السُّنَّةِ وَالْهُدَى قُبِلَتْ.
الثَّالِثُ الَّذِي يَسْأَلُ وَيَتَطَلَّبُ وَيَتَبَيَّنُ لَهُ الْهُدَى، وَيَتْرُكُهُ تَقْلِيدًا أَوْ تَعَصُّبًا أَوْ بُغْضًا أَوْ مُعَادَاةً لِأَصْحَابِهِ فَهَذَا أَقَلُّ دَرَجَاتِهِ أَنْ يَكُونَ فَاسِقًا وَتَكْفِيرُهُ مَحِلُّ اجْتِهَادٍ، فَإِنْ كَانَ مُعْلِنًا دَاعِيًا لِبِدْعَتِهِ رُدَّتْ شَهَادَتُهُ وَفَتَاوِيهِ وَأَحْكَامُهُ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى ذَلِكَ، وَلَمْ تُقْبَلْ شَهَادَةٌ إلَّا عِنْدَ الضَّرُورَةِ، كَحَالِ غَلَبَتِهِمْ وَاسْتِيلَائِهِمْ وَكَوْنِ الْقُضَاةِ وَالشُّهُودِ مِنْهُمْ، فَفِي رَدِّ شَهَادَتِهِمْ وَأَحْكَامِهِمْ إذْ ذَاكَ فَسَادٌ كَبِيرٌ وَلَا يُمْكِنُ ذَلِكَ فَتُقْبَلُ لِلضَّرُورَةِ قَالَ: وَإِذَا كَانَ النَّاسُ فُسَّاقًا إلَّا الْقَلِيلَ النَّادِرَ، قُبِلَتْ شَهَادَتُهُمْ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ، وَيُحْكَمُ بِشَهَادَةِ الْأَمْثَلِ فَالْأَمْثَلِ مِنْ الْفُسَّاقِ، هَذَا هُوَ الصَّوَابُ الَّذِي عَلَيْهِ الْعَمَلُ وَإِنْ أَنْكَرَهُ كَثِيرٌ مِنْ الْفُقَهَاءِ بِأَلْسِنَتِهِمْ، كَمَا أَنَّ الْعَمَلَ عَلَى صِحَّةِ وِلَايَةِ الْفَاسِقِ وَنُفُوذِ أَحْكَامِهِ وَإِنْ أَنْكَرُوهُ بِأَلْسِنَتِهِمْ، وَكَذَا الْعَمَلُ عَلَى صِحَّةِ كَوْنِ الْفَاسِقِ وَالِيًا فِي النِّكَاحِ وَوَصِيًّا فِي الْمَالِ، وَهَذَا نَحْوُ مَا نَقَلَهُ الْقَرَافِيُّ عَنْ ابْنِ أَبِي زَيْدٍ قَبْلَ هَذَا قَالَ: وَإِذَا غَابَ الظَّنُّ عَلَى صِدْقِ الْفَاسِقِ قُبِلَتْ شَهَادَتُهُ وَحُكِمَ بِهَا، وَاَللَّهُ تَعَالَى لَمْ يَأْمُرْ بِرَدِّ خَبَرِ الْفَاسِقِ فَلَا يَجُوزُ رَدُّهُ مُطْلَقًا، بَلْ يَثْبُتُ فِيهِ حَتَّى يَتَبَيَّنَ صِدْقُهُ مِنْ كَذِبِهِ، فَيُعْمَلُ عَلَى مَا يَتَبَيَّنُ وَفِسْقُهُ عَلَيْهِ قَالَ: وَاعْلَمْ أَنَّ لِرَدِّ شَهَادَةِ الْفَاسِقِ مَأْخَذَيْنِ.
أَحَدُهُمَا: عَدَمُ الْوُثُوقِ بِهِ وَأَنَّهُ تَحْمِلُهُ قِلَّةُ مُبَالَاتِهِ بِدِينِهِ وَنُقْصَانُ وَقَارِ اللَّهِ تَعَالَى فِي قَلْبِهِ عَلَى تَعَمُّدِ الْكَذِبِ.
الثَّانِي: هَجْرُهُ عَلَى إعْلَانِهِ بِفِسْقِهِ وَمُجَاهَرَتِهِ بِهِ، فَقَبُولُ شَهَادَتِهِ فِيهِ إبْطَالٌ لِهَذَا الْغَرَضِ الْمَطْلُوبِ شَرْعًا، قَالَ: فَإِذَا عُلِمَ صِدْقُ لَهْجَتِهِ وَأَنَّهُ مِنْ أَصْدَقِ النَّاسِ وَأَنَّ فِسْقَهُ بِغَيْرِ الْكَذِبِ فَلَا وَجْهَ لِرَدِّ شَهَادَتِهِ، وَقَدْ اسْتَأْجَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَادِيًا يَدُلُّهُ عَلَى طَرِيقِ الْمَدِينَةِ وَهُوَ مُشْرِكٌ عَلَى دِينِ قَوْمِهِ، وَلَكِنَّهُ لَمَّا وَثِقَ بِقَوْلِهِ أَمَّنَهُ وَدَفَعَ إلَيْهِ رَاحِلَتَهُ وَقَبِلَ دَلَالَتَهُ، وَقَدْ قَالَ أَصْبَغُ بْنُ الْفَرَجِ مِنْ أَئِمَّةِ الْمَالِكِيَّةِ: إذَا شَهِدَ الْفَاسِقُ عِنْدَ الْحَاكِمِ وَجَبَ عَلَيْهِ التَّوَقُّفُ فِي الْقَضِيَّةِ، وَقَدْ يُحْتَجُّ لَهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ} [الحجرات: 6] الْآيَةَ.
وَقَالَ ابْنُ رُشْدٍ فِي الْمُقَدِّمَاتِ: شَهَادَةُ الشُّهُودِ غَيْرِ الْعُدُولِ فِي اسْتِحْقَاقِ الشَّيْءِ الْمُعَيَّنِ، تُوجِبُ تَوْقِيفَهُ عِنْدَ أَصْبَغَ وَهُوَ مَعْنَى مَا تَقَدَّمَ، قَالَ ابْنُ قَيِّمِ الْجَوْزِيَّةِ: وَسِرُّ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ مَدَارَ قَبُولِ الشَّهَادَةِ وَرَدِّهَا عَلَى غَلَبَةِ ظَنِّ الصِّدْقِ وَعَدَمِهِ، قَالَ: وَالصَّوَابُ الْمَقْطُوعُ بِهِ أَنَّ الْعَدَالَةَ تَتَبَعَّضُ فَيَكُونُ الرَّجُلُ عَدْلًا فِي شَيْءٍ فَاسِقًا فِي شَيْءٍ، فَإِذَا تَبَيَّنَ لِلْحَاكِمِ فِيمَا شَهِدَ بِهِ قَبِلَ شَهَادَتَهُ وَلَمْ يَضُرَّهُ فِسْقُهُ فِي غَيْرِهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ، هَذَا مَا ذَكَرَهُ بَعْضُ الْحَنَابِلَةِ وَمَذْهَبُ أَصْحَابِنَا خِلَافُ هَذَا، فَفِي كِتَابِ ابْنِ الْمَوَّازِ: إذَا شَهِدَ عِنْدَ الْقَاضِي مَنْ لَيْسَ بِعَدْلٍ وَالْقَاضِي يَعْلَمُ أَنَّهُ شَهِدَ بِحَقٍّ، فَلَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يُجِيزَ الشَّهَادَةَ وَلَا يَحْكُمُ بِهَا.

.الْفَصْلُ الثَّانِي مَا يَنْبَغِي لِلْحَاكِمِ اعْتِمَادُهُ فِي أَمْر الشِّيعَةِ الْإِمَامِيَّةِ:

الْفَصْلُ الثَّانِي فِيمَا يَنْبَغِي لِلْحَاكِمِ اعْتِمَادُهُ وَالْعَمَلُ بِهِ فِي أَمْرِهِمْ اعْلَمْ أَنَّ مَا تَقَدَّمَ مِنْ حُكْمِ شَهَادَتِهِمْ إنَّمَا حَيْثُ يَكُونُونَ مَقْهُورِينَ، وَكَلِمَةُ أَهْلِ السُّنَّةِ تَنْفُذُ فِي شَرِيفِهِمْ وَوَضِيعِهِمْ نُفُوذًا تَامًّا فِي جَمِيعِ الْحَالَاتِ، لَا يُتَّقَى فِي ذَلِكَ دَرَكٌ وَلَا يَخْشَى فِيهِ عَاقِبَةً، فَأَمَّا هَذِهِ الطَّائِفَةُ فَقَهْرُهُمْ نَاشِئٌ عَنْ أَمِيرِ الْمَدِينَةِ لِلتَّقِيَّةِ فَهُمْ بِهِ مَقْهُورُونَ لَا بِالْقُضَاةِ، وَلِذَلِكَ لَا يَتَمَكَّنُونَ مِنْ عَمَلِ أَهْلِ الْبَلَدِ عَلَى أَنْ لَا يَشْهَدَ بِهَا إلَّا شُهُودٌ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ، وَلَا لَهُمْ قُدْرَةٌ عَلَى اسْتِتَابَتِهِمْ، وَرُبَّمَا ثَارَتْ الْفِتْنَةُ فِي الْحَرَمِ النَّبَوِيِّ مِرَارًا مِنْ الْأَشْرَافِ بِسَبَبِ الْقِيَامِ عَلَيْهِمْ فِي إنْكَارِ بَعْضِ بِدْعَتِهِمْ، فَمَا يُخْمِدُهَا إلَّا احْتِرَامُ أَمِيرِ الْمَدِينَةِ وَخَشْيَةُ الْعَاقِبَةِ مِنْهُ لِمَا الْتَزَمَهُ مِنْ إعْلَاءِ السُّنَّةِ وَقَمْعِ الْبِدْعَةِ، وَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ فَلَا يَتَنَاوَلُ هَؤُلَاءِ مَا وَقَعَ فِي كُتُبِ الْمَذْهَبِ، فَفِي التَّهْذِيبِ فِي آخِرِ كِتَابِ الْجِهَادِ يُسْتَنَابُ أَهْلُ الْأَهْوَاءِ مِثْلُ الْقَدَرِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ، فَإِنْ تَابُوا وَإِلَّا قُتِلُوا إذَا كَانَ الْإِمَامُ عَدْلًا، قَالَ الشَّيْخُ أَبُو الْحَسَنِ الصَّغِيرُ: قَوْلُهُ وَيُسْتَتَابُ أَهْلُ الْأَهْوَاءِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ مَقْهُورُونَ، قَالَ الْبَاجِيُّ أَبُو الْوَلِيدِ هَذَا حُكْمُهُمْ إذَا كَانُوا بِدَارِهِمْ وَدَعَوْا إلَى مَا هُمْ عَلَيْهِ وَإِلَّا فَلَا تَعَرُّضَ لَهُمْ، وَخَالَفَهُ فِي ذَلِكَ الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ، وَقَالَ ظَاهِرُ الْكِتَابِ سَوَاءٌ كَانُوا بِدَارِهِمْ وَدَعَوْا إلَى مَا هُمْ عَلَيْهِ أَمْ لَا وَقَدْ تَقَرَّرَ أَنَّ هَؤُلَاءِ غَيْرُ مَقْهُورِينَ مِنْ كُلِّ الْوُجُوهِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ، كَانَ لَهُمْ حُكْمٌ آخَرُ، لِأَنَّ عَدَمَ التَّمَكُّنِ يَسْتَلْزِمُ التَّقِيَّةَ، فَحَيْثُ تَحْصُلُ التَّقِيَّةُ فِي بَعْضِ الْحَالَاتِ، فَيَجِبُ الْإِمْسَاكُ عَمَّا يُؤَدِّي تَعَاطِيهِ إلَى فِتْنَةٍ وَوُقُوعِ شَرٍّ لَا يُؤْمَنُ عَاقِبَتُهُ، وَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا، فَاَلَّذِي يَنْبَغِي لِلْحَاكِمِ الْمَالِكِيِّ أَنْ يَجْتَنِبَ سَمَاعَ الدَّعْوَى فِي حُكُومَاتِهِمْ الَّتِي يُقْضَى فِيهَا بِالشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ، وَأَنَّ جَمَاعَةً مِنْ الْمَالِكِيَّةِ كَيَحْيَى بْنِ يَحْيَى اللَّيْثِيِّ وَابْنِهِ وَمَنْ تَبِعَهُمَا مِنْ شُيُوخِ الْأَنْدَلُسِيِّينَ، لَا يُجِيزُونَ الْحُكْمَ بِالشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ مَعَ اتِّصَافِ الشَّاهِدِ بِالْعَدَالَةِ، فَالْمَنْعُ مَعَ الِاتِّصَافِ بِالْفِسْقِ أَحْرَى.
وَقَالَهُ ابْنُ سَهْلٍ، وَمَنْ صَحَّ نَظَرُهُ فِي أَحْوَالِ النَّاسِ الْيَوْمَ وَالْمَعْرِفَةِ بِاخْتِلَافِ الشَّهَادَاتِ، لَمْ تَطِبْ نَفْسُهُ بِالْقَضَاءِ بِالشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ إلَّا مَعَ شَاهِدٍ مُبْرَزٍ فِي الْعَدَالَةِ وَالنَّبَاهَةِ.
وَقَالَ ابْنُ لُبَابَةَ الَّذِي ذَهَبَ إلَيْهِ قُضَاةُ بَلَدِنَا مُنْذُ دَخَلَتْهُ الْعَرَبُ: أَنَّهُمْ لَا يَرَوْنَ الْيَمِينَ مَعَ الشَّاهِدِ وَلَا يَقْضُونَ بِهِ، وَإِنِّي لَمُتَوَقِّفٌ عَنْ الِاخْتِيَارِ فِي هَذَا لِمَا ظَهَرَ مِنْ فَسَادِ النَّاسِ وَقِلَّةِ الْمُرَاعَاةِ فِي الشَّهَادَاتِ، وَيُحْكَى عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ بَشِيرٍ قَاضِي الْجَمَاعَةِ بِقُرْطُبَةَ أَنَّهُ لَمْ يَحْكُمْ بِالشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ إلَّا حُكْمًا وَاحِدًا، وَكَذَلِكَ الْحُدُودُ وَالْقِصَاصُ حَسْبَمَا نَبَّهْنَا عَلَيْهِ أَوَّلَ الْبَابِ، أَنَّهُ لَا يُقْبَلُ فِيهِ إلَّا الْمَعْرُوفُ بِالْعَدَالَةِ بِاتِّفَاقٍ، وَكَذَلِكَ الدَّعْوَى فِي تَرِكَةِ مَيِّتٍ وَوَارِثُهُ صَغِيرٌ، أَوْ دَعْوَى عَلَى غَائِبٍ يُبَاعُ لِأَجْلِهَا مَالُهُ وَعَقَارُهُ، وَيُسْتَحَقُّ مِلْكُهُ أَوْ إثْبَاتِ وَصِيَّةِ مَيِّتٍ أَوْ وَكَالَةٍ عَنْ غَائِبٍ، فَإِنَّ فِي هَذِهِ الْوُجُوهِ وَمَا أَشْبَهَهَا تَكْثِيرُ التُّهْمَةِ فِيهَا مَعَ كَثْرَةِ تَسَاهُلِهِمْ فِي أَدَاءِ الشَّهَادَةِ، وَقَدْ حَكَيْنَا عَنْ الْقَاضِي ابْنِ بَشِيرٍ أَنَّهُ حَلَّفَ شُهُودَ تَرِكَةٍ وَهُوَ مَذْكُورٌ فِي بَابِ الْحُكْمِ بِالسِّيَاسَةِ، وَكَذَلِكَ شُهُودُ التَّزْكِيَةِ وَالتَّجْرِيحِ، فَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ شُهُودَهُمَا لَيْسُوا كَسَائِرِ الشُّهُودِ فَيَجِبُ مُرَاعَاةُ ذَلِكَ، وَكَذَلِكَ الشَّهَادَةُ عَلَى الْخَطِّ، فَإِنَّهُ يُشْتَرَطُ فِي الشَّاهِدِ عَلَى الْخَطِّ مَا لَا يُشْتَرَطُ فِي غَيْرِهِ وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ ذَلِكَ، وَكَذَلِكَ السَّبْعُ الْمَسَائِلُ الَّتِي اُشْتُرِطَ فِيهَا التَّبْرِيزُ فِي الْعَدَالَةِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهَا فِي الْفَصْلِ السَّادِسِ فِي صِفَاتِ الشَّاهِدِ، وَأَمَّا الْحُكُومَاتُ الَّتِي يُمْكِنُ فَصْلُهَا بِالْإِقْرَارِ مِنْ الْمُدَّعِي أَوْ مِنْ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، أَوْ بِالشَّهَادَةِ عَلَيْهِ أَوْ الْإِعْذَارِ إلَيْهِ أَوْ بِطَرِيقِ الصُّلْحِ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ، فَلَا بَأْسَ بِالْحُكْمِ فِي هَذَا وَمَا أَشْبَهَهُ، وَقَدْ يَتَعَيَّنُ عَلَى الْحَاكِمِ الْمَالِكِيِّ الدُّخُولُ بَيْنَهُمْ عِنْدَ انْفِرَادِهِ بِالْحُكْمِ فِي الْبَلَدِ، وَقَدْ يَعْرِضُ هَذَا فِي زَمَنِ الْحَجِّ عِنْدَ سَفَرِ الْحُكَّامِ لِلْحَجِّ وَالْحُكُومَاتُ الَّتِي تُرْفَعُ إلَيْهِ حِينَئِذٍ عَلَى وَجْهَيْنِ.
أَحَدُهُمَا: مَا يُقْصَدُ فِيهِ إنْشَاءُ حُكْمٍ مِثْلُ عَقْدِ النِّكَاحِ وَالْخُلْعِ، وَتَقْدِيرُ النَّفَقَاتِ وَإِثْبَاتُ عُقُودِ الْبِيَاعَاتِ وَالرُّهُونِ وَالْوَكَالَاتِ وَالْأَحْبَاسِ، وَالشَّهَادَةِ عَلَى الشَّهَادَةِ مِنْ ذِي عُذْرٍ مِنْ مَرَضٍ أَوْ امْرَأَةٍ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ، فَيَنْبَغِي لِلْحَاكِمِ أَنْ يَبْعَثَ فِي ذَلِكَ مِنْ شُهُودِ أَهْلِ السُّنَّةِ مَنْ يَرْضَاهُ فِيمَا لَمْ يَكُنْ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَمَا كَانَ فِي مَجْلِسِهِ فَيُشْهِدُ عَلَيْهِ أَيْضًا مَنْ يَرْضَاهُ، وَلَا يَقْتَصِرُ عَلَى شُهُودِهِمْ.
الثَّانِي: مَا يُرْفَعُ إلَيْهِ بَعْدَ وُقُوعِهِ مِمَّا يَقَعُ بَيْنَهُمْ، وَلَا يَحْضُرُهُ غَيْرُهُمْ وَلَا يَشْهَدُ فِيهِ سِوَاهُمْ، مِثْلُ الْإِقْرَارَاتِ وَالْقَذْفِ وَالشَّتْمِ وَالْجِرَاحِ وَالسَّرِقَةِ وَالشُّرْبِ، وَالشَّهَادَةِ عَلَى الطَّلَاقِ وَالْأَيْمَانِ عَلَيْهِ وَالتَّعْلِيقَاتِ فِيهِ، وَالْعِتْقِ وَأَنْوَاعِ الْمُعَامَلَاتِ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِمَّا لَا يُمْكِنُ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْهِ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ، لِمَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ انْفِرَادِهِمْ فِي سُكْنَى مِنْ نَوَاحِي الْبَلَدِ، كَذَلِكَ سُكَّانُ ضَوَاحِيهَا وَاَلَّذِي تَقْتَضِيهِ مَسَائِلُ الْمَذْهَبِ الَّتِي قَدَّمْنَاهَا فِي هَذَا الْبَابِ وَغَيْرِهِ، أَنَّ سَمَاعَ شَهَادَتِهِمْ فِي هَذَا وَمَا أَشْبَهَهُ جَائِزَةٌ لِلضَّرُورَةِ، وَإِلَّا كَانَتْ تُهْدَرُ الدِّمَاءُ وَتَتَعَطَّلُ الْحُدُودُ وَتَضِيعُ الْحُقُوقُ، وَقَدْ أَجَازُوا شَهَادَةَ النِّسَاءِ فِي الْجِرَاحِ الْوَاقِعَةِ بَيْنَهُمْ فِي الْمَوَاضِعِ الَّتِي لَا يَحْضُرُهَا الرِّجَالُ مِثْلَ الْعُرْسِ وَالْمَأْتَمِ وَالْحَمَّامِ وَالْقَتْلِ أَيْضًا عَلَى الْخِلَافِ فِي ذَلِكَ، وَأَجَازُوا شَهَادَةَ الصِّبْيَانِ فِي الْجِرَاحِ وَالْقَتْلِ الْوَاقِعِ بَيْنَهُمْ صِيَانَةً لِلدِّمَاءِ، وَأَجَازُوا إشْهَادَ الرُّفْقَةِ لِبَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الْمُعَامَلَاتِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي الشَّهَادَةِ بِالتَّوَسُّمِ، وَأَجَازُوا تَعْرِيفَ غَيْرِ الْعَدْلِ بِالْمَرْأَةِ الْمَشْهُودِ عَلَيْهَا لِلضَّرُورَةِ، وَأَجَازُوا تَرْجَمَةَ الْعَبْدِ وَالْكَافِرِ وَالْمَسُوطِ عِنْدَ عَدَمِ غَيْرِهِمْ مِنْ الْعُدُولِ، وَأَجَازُوا قَوْلَ الطَّبِيبِ النَّصْرَانِيِّ عِنْدَ عَدَمِ غَيْرِهِ فِي مَقَادِيرِ الشِّجَاجِ وَالْجِرَاحِ وَتَسْمِيَتِهَا، وَفِي ذَلِكَ شَهَادَةٌ عَلَى الْمُسْلِمِ الْجَارِحِ، أَنَّ الْجُرْحَ مُوضِحَةٌ أَوْ مُنَقِّلَةٌ وَنَحْوُ ذَلِكَ، وَكَذَلِكَ يُقْبَلُ قَوْلُهُ فِي الْعُيُوبِ، وَأَجَازُوا قَوْلَ الْمَرْأَةِ فِي قِيَاسِ الْجِرَاحِ فِيمَا يَجُوزُ فِيهِ الشَّاهِدُ وَالْيَمِينُ، وَأَجَازُوا شَهَادَةَ غَيْرِ الْعَدْلِ فِي الْقَتْلِ، وَجَعَلُوهُ لَوْثًا يُقْسِمُ مَعَهُ الْأَوْلِيَاءُ وَفِي الْمَذْهَبِ لِابْنِ رَاشِدٍ.
وَفِي كِتَابِ ابْنِ شَعْبَانَ إذَا لَمْ يَكُنْ فِي الْبَلَدِ عُدُولٌ قُبِلَ مِنْهُمْ الْأَمْثَلُ فَالْأَمْثَلُ لِلضَّرُورَةِ، وَيُؤَيِّدُ هَذَا مَا قَالَهُ، ابْنُ أَبِي زَيْدٍ قَبْلَ هَذَا فِيمَا نَقَلَهُ الْقَرَافِيُّ، أَنَّهُ إذَا لَمْ نَجِدْ فِي جِهَةٍ إلَّا غَيْرَ الْعُدُولِ أَقَمْنَا أَصْلَحَهُمْ وَأَقَلَّهُمْ فُجُورًا لِلشَّهَادَةِ عَلَيْهِمْ.
وَفِي أَحْكَامِ ابْنِ سَهْلٍ عَنْ ابْنِ الْقَاسِمِ وَغَيْرِهِ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ قَالُوا قَدْ يَكُونُ مِنْ غَيْرِ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ مَنْ هُوَ شَرٌّ مِنْ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ، فَإِذَا دَعَتْ الضَّرُورَةُ إلَى سَمَاعِ شَهَادَتِهِمْ، فَهَلْ يُكْتَفَى مِنْهُمْ بِالنِّصَابِ الْمَحْدُودِ فِي الشَّهَادَاتِ أَوْ لابد مِنْ الْكَثْرَةِ كَمَا تَقَدَّمَ أَوَّلَ الْبَابِ؟ هَذَا مَحَلُّ اجْتِهَادِ الْحَاكِمِ، وَيَحْسُنُ أَنْ يُقَالَ هُنَا مَا قَالَهُ ابْنُ قَيِّمِ الْجَوْزِيَّةِ الْحَنْبَلِيُّ: أَنَّهُ إذَا عَلِمَ أَنَّ الشَّاهِدَ مِنْ أَصْدَقَ النَّاسِ لَهْجَةً وَكَانَ فَاسِقًا بِغَيْرِ الْكَذِبِ قُبِلَتْ شَهَادَتُهُ، وَأَنَّ مَدَارَ قَبُولِ الشَّهَادَةِ وَرَدِّهَا عَلَى غَلَبَةِ ظَنِّ الصِّدْقِ وَعَدَمِهِ لِأَجْلِ الضَّرُورَةِ.

.الْفَصْلُ الثَّالِثُ فِي أَقْضِيَةِ حُكَّامِ الشِّيعَةِ الْإِمَامِيَّةِ:

الْفَصْلُ الثَّالِثُ فِي أَقْضِيَةِ حُكَّامِهِمْ وَالشَّهَادَةِ عَلَى خُطُوطِهِمْ وَفِي الْمُتَيْطِيَّةِ: وَالْقَاضِي الَّذِي لَا تُرْضَى أَحْوَالُهُ وَلَا تَجُوزُ شَهَادَتُهُ، وَيُقَلِّدُ أَحْكَامَ أَهْلِ الْبِدَعِ وَالْأَهْوَاءِ إذَا لَمْ يُعْلَمْ بِالْجَوْرِ فِي أَحْكَامِهِ، فَإِنَّ أَحْكَامَهُ عِنْدَ ابْنِ الْقَاسِمِ وَمُطَرِّفٍ وَابْنِ الْمَاجِشُونِ مِثْلُ أَحْكَامِ الْقَاضِي الْجَائِرِ فِي أَنَّهَا تُفْسَخُ كُلُّهَا وَلَا يَمْضِي مِنْهَا إلَّا مَا عَلِمَ صِحَّةَ بَاطِنِهِ.
وَفِي مُخْتَصَرِ الْوَاضِحَةِ نَحْوُ ذَلِكَ عَنْ ابْنِ الْقَاسِمِ.
وَقَالَ أَصْبَغُ وَأَرَى أَنَّهُ يَجُوزُ مِنْ أَقْضِيَةِ الْخُلَفَاءِ وَالْأُمَرَاءِ وَقُضَاةِ السُّوءِ مَا عَدَلُوا فِيهِ، وَيُنْقَضُ مِنْهَا مَا تَبَيَّنَ فِيهِ الْجَوْرُ وَاسْتُرِيبَ، وَلَمْ يَتَحَقَّقْ وَيُعْمَلُ فِيهِ بِالْكَشْفِ كَمَا يُصْنَعُ بِأَقْضِيَةِ الْجَاهِلِ إلَّا أَنْ يُعْرَفَ الْقَاضِي بِالْجَوْرِ وَالْحَيْفِ فِي أَحْكَامِهِ كُلِّهَا أَوْ بَعْضِهَا، فَتُرَدُّ أَحْكَامُهُ كُلُّهَا مَا عُرِفَ بِالْجَوْرِ فِيهَا وَالْجَهْلِ، وَاخْتَارَ ابْنُ حَبِيبٍ أَنْ تَنْفَسِخَ كُلُّهَا وَلَا يَمْضِي مِنْهَا شَيْءٌ، قَالَ: لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْعَدْلِ وَالرِّضَا وَهُوَ لَوْ شَهِدَ فِي دِرْهَمٍ وَاحِدٍ لِرَجُلٍ عَلَى رَجُلٍ لَمْ تَجُزْ شَهَادَتُهُ، فَكَيْفَ يَمْضِي قَوْلُهُ حَكَمْت لِهَذَا عَلَى هَذَا بِأَلْفِ دِينَارٍ فَمَا فَوْقَ ذَلِكَ قَالَ، وَأَمَّا أَحْكَامُ الْخَوَارِجِ الْإِبَاضِيَّةِ وَمَنْ يُشْبِهُهُمْ، فَلَا أَرَى لِمَنْ وَرَدَ عَلَيْهِ أَحْكَامُهُمْ مِنْ الْمُسْلِمِينَ أَنْ يُجِيزَهَا وَلَا يُنَفِّذَهَا، إلَّا إنْ ثَبَتَ أَصْلُ ذَلِكَ الْحَقِّ الَّذِي فِي ذَلِكَ الْحُكْمِ عِنْدَهُ بِبَيِّنَةٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ، فَيَحْكُمُ بِهِ وَيُنَفِّذُهُ، فَأَمَّا إنْ كَانَ مَجْهُولًا قَدْ سَجَّلُوا بِهِ كُتُبًا وَذَكَرُوا فِيهَا شَهَادَةَ أَهْلِ الْعَدْلِ عِنْدَهُمْ، فَسَمَّوْا الشُّهُودَ أَوْ لَمْ يُسَمُّوهُمْ فَلَا أَرَاهَا جَائِزَةً وَأَرَاهَا مَفْسُوخَةً، قَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ كَذَلِكَ قَالَ لِي مُطَرِّفٌ.
وَقَالَ لِي أَصْبَغُ هَكَذَا كَانَ ابْنُ الْقَاسِمِ يَقُولُ فِي ذَلِكَ: إلَّا أَنِّي أَرَى سَبِيلَ أَقْضِيَتِهِمْ كَسَبِيلِ أَقْضِيَةِ قُضَاةِ السُّوءِ، قَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ وَقَوْلُ ابْنِ الْقَاسِمِ فِي ذَلِكَ أَحَبُّ إلَيَّ، وَهُوَ الَّذِي وَجَدْت عَلَيْهِ جَمَاعَةَ الْعُلَمَاءِ.
وَقَالَهُ، ابْنُ الْمَاجِشُونِ أَيْضًا فِيمَا حَكَمُوا بَيْنَهُمْ، وَفِيمَا خَلَفُوهُ مِنْ الْبَلَدِ مِنْ أَثَرِ أَحْكَامِهِمْ فِي الْبَلَدِ الَّذِي ظَهَرَ عَلَيْهِمْ فِيهِ، وَمَا قَضَوْا بِهِ مِنْ الْأَقْضِيَةِ وَمَا خَلَفُوا مِنْ الْفَرَائِضِ عَنْ فَرَائِضِ الْجَمَاعَةِ، لَا أَرَى شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ يَعْصِمُ الْمَحْكُومَ لَهُ مِنْ أَنْ يَتَدَبَّرَ وَيَنْظُرَ فِي حَقِّهِ وَبَاطِلِهِ، سَوَاءٌ مَنْ عُرِفَ مِنْهُمْ بِجَوْرٍ فِي بِدْعَتِهِ أَوْ اجْتِهَادٍ فِيهَا، فَيَكُونُ النَّاظِرُ فِيهَا كَالْمُبْتَدِئِ لِمَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ شَيْءٌ مِنْ الْحُكْمِ، فَمَا كَانَ مِنْ ذَلِكَ مُسْتَقِيمًا مَضَى، وَمَا كَانَ مِنْهُ جَوْرًا فَلَا يَمْضِي لَهُمْ، مَاتَ الشُّهُودُ أَوْ افْتَرَقُوا أَوْ مَاتَ بَعْضُهُمْ أَوْ كَانُوا عُدُولًا أَوْ مَجْرُوحِينَ.
تنبيه:
اُنْظُرْ قَوْلَهُ إذَا وَرَدَتْ عَلَى أَحَدٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ، وَقَوْلُهُ: فِيمَا خَلَفُوهُ فِي الْبَلَدِ الَّذِي ظَهَرَ عَلَيْهِمْ فِيهِ، يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ مَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ أَنَّ هَذِهِ الْأَحْكَامَ إنَّمَا تَكُونُ كَذَلِكَ إذَا كَانَ أُمَرَاؤُهُمْ مَقْهُورِينَ بِحُكَّامِ أَهْلِ السُّنَّةِ، وَكَانُوا مُتَمَكِّنِينَ مِنْ نَقْضِ أَحْكَامِهِمْ، وَإِبْطَالِ مُكَاتَبَتِهِمْ مِنْ غَيْرِ تَقِيَّةٍ وَلَا مُحَاذَرَةِ فِتْنَةٍ، فَإِنْ تَعَذَّرَ ذَلِكَ جَرَى الْحُكْمُ فِيهَا عَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ فِي الشَّهَادَةِ، وَلَمْ تَجْرِ عَادَةُ حُكَّامِهِمْ بِالتَّسْجِيلِ وَالْإِشْهَادِ عَلَيْهِمْ، وَإِنَّمَا يَكْتُبُ الْقَاضِي فِي أَعْلَى الْمَكْتُوبِ ثَبَتَ مَضْمُونُهُ عِنْدِي بِشَهَادَةِ مَنْ أَعْلَمْت تَحْتَ رَسْمِ شَهَادَتِهِمْ وَكَتَبَهُ فُلَانُ بْنُ فُلَانٍ وَأَمَّا الشَّهَادَةُ عَلَى خُطُوطِهِمْ وَإِحْيَاءِ الْمَكَاتِيبِ، فَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ الَّذِي جَرَى بِهِ الْعَمَلُ وَاخْتَارَهُ الْمُحَقِّقُونَ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ، أَنَّ الشَّهَادَةَ عَلَى الْخَطِّ لَا تَمْضِي وَلَا تَجُوزُ إلَّا فِي إثْبَاتِ الْأَوْقَافِ، إذَا اُقْتُرِنَ بِذَلِكَ سَمَاعٌ فِي أَصْلِ الْحَبْسِ لِيَكُونَ تَقْوِيَةً لِلشَّهَادَةِ عَلَى الْخَطِّ، وَمَا عَدَا ذَلِكَ لَا تَنْفُذُ الشَّهَادَةُ فِيهِ، وَتَقَدَّمَ أَنَّ مِنْ تَمَامِ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ الشَّاهِدُ عَلَى الْخَطِّ مِنْ أَهْلِ التَّبْرِيزِ فِي الْعَدَالَةِ وَالْفَطِنَةِ وَالنَّبَاهَةِ وَصِحَّةِ التَّمْيِيزِ، وَأَنَّ الْمَشْهُودَ عَلَى خَطِّهِ كَانَ عَدْلًا إلَى أَنْ مَاتَ أَوْ غَابَ، وَأَنَّ الْمَشْهُودَ عَلَى خَطِّهِ كَانَ يَعْرِفُ مَنْ أَشْهَدَهُ، فَيَنْبَغِي لِلْحَاكِمِ أَنْ يَجْتَهِدَ فِي دَفْعِ ذَلِكَ عَنْهُ مَا اسْتَطَاعَ، إلَّا أَنْ يَخْشَى فِتْنَةً لِأَنَّ الْمَنْعَ مِنْ الشَّهَادَةِ عَلَى خُطُوطِهِمْ أَحْرَى وَأَوْلَى بِالْمَنْعِ، إلَّا أَنْ يَرَى الْقَاضِي لِذَلِكَ وَجْهًا مِنْ إحْيَاءِ وَقْفٍ وَشَبَهِهِ، وَاَللَّهُ الْمُسْتَعَانُ وَهُوَ حَسْبُنَا وَنِعْمَ الْوَكِيلُ وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ.

.فَصْلٌ فِيمَا يَنْبَغِي التَّنَبُّهُ لَهُ وَالْقِيَامُ فِيهِ وَالِاهْتِمَامُ بِهِ فِي بَعْضِ أُمُورِهِمْ:

الَّتِي إهْمَالُهَا يُجَدِّدُ مَا دَثَرَ مِنْ شَأْنِهِمْ وَأُقَدِّمُ بَيْنَ يَدَيْ ذَلِكَ مَسْأَلَتَيْنِ فِيهِمَا بَيَانُ حُكْمِ مَا قَصَدْنَا فِي هَذَا الْفَصْلِ.
مَسْأَلَةٌ:
وَفِي كِتَابِ الْحَاوِي لِابْنِ عَبْدِ النُّورِ مِمَّا سُئِلَ عَنْهُ أَبُو الْقَاسِمِ السُّيُورِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ سُئِلَ عَنْ قَوْمٍ مِنْ الْإِبَاضِيَّةِ تَمَسَّكُوا بِمَذْهَبِ الْوَهْبِيَّةِ، وَهُمْ طَائِفَةٌ مِنْ الرَّافِضَةِ بِالْمَغْرِبِ، وَسَكَنُوا بَيْنَ أَظْهُرِ الْمُسْلِمِينَ يُظْهِرُونَ بِدْعَتَهُمْ، فَاسْتَوْلَى الْآنَ عَلَى الْبَلَدِ مَنْ أَخْمَلَ ذِكْرَهُمْ وَغَلَبَ عَلَيْهِمْ، فَأَرَادَ الْآنَ هَدْمَ مَسْجِدٍ كَانُوا يُصَلُّونَ فِيهِ، وَفَسْخَ أَنْكِحَتِهِمْ الْمُتَقَدِّمَةِ، لِأَنَّ الرَّجُلَ الْوَهْبِيَّ كَانَ يَتَزَوَّجُ الْمَرْأَةَ الْمَالِكِيَّةَ لِتَقْوَى شَوْكَتُهُ بِمُصَاهَرَةِ أَهْلِ السُّنَّةِ، وَأَرَادَ هَذَا الْمُتَوَلِّي سَجْنَهُمْ وَضَرْبَهُمْ حَتَّى يَرْجِعُوا إلَى مَذْهَبِ مَالِكٍ فَهَلْ لَهُ ذَلِكَ أَمْ لَا.
فَأَجَابَ: أَمَّا هَدْمُ الْمَسْجِدِ الَّذِي كَانُوا يُصَلُّونَ فِيهِ فَلَا، لَكِنْ يُخْلَى مِنْهُمْ وَيُعَمَّرُ بِأَهْلِ السُّنَّةِ وَيُمْنَعُ الْغُرَبَاءُ مِنْ الدُّخُولِ إلَيْهِمْ وَالتَّصَرُّفِ عِنْدَهُمْ، وَمَنْعُهُمْ مِنْ ذَلِكَ مِنْ الْحَقِّ وَالصَّوَابِ وَالنِّكَاحُ الَّذِي أَحْدَثُوا مِنْ نِسَائِنَا يُفْسَخُ، وَسَجْنُهُمْ وَضَرْبُهُمْ إنْ لَمْ يَتُوبُوا مِنْ الْأَمْرِ الْحَقِّ وَيُرَدُّونَ إلَى مَذَاهِبِ أَهْلِ السُّنَّةِ، وَمَنْ قَدْرَ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ فَيَلْزَمُهُ فِعْلُ ذَلِكَ إذَا كَانَتْ قُدْرَتُهُ ظَاهِرَةً، وَلَا يُتْرَكُونَ يُخَالِفُونَ النَّاسَ، وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ لِلصَّوَابِ.
مَسْأَلَةٌ:
وَسُئِلَ أَبُو الْحَسَنِ اللَّخْمِيُّ عَنْ قَوْمٍ مِنْ الْإِبَاضِيَّةِ، انْتَحَلُوا مَذْهَبَ الْوَهْبِيَّةِ وَسَكَنُوا بَيْنَ ظَهْرِ الْمُسْلِمِينَ مُدَّةً مِنْ السِّنِينَ، فَلَمَّا كَانَ الْآنَ أَظْهَرُوا مَذْهَبَهُمْ وَأَعْلَنُوهُ وَبَنَوْا مَسْجِدًا يَجْتَمِعُونَ فِيهِ بِخَلْقٍ مِنْ الْغَرَابِيَّةِ، يُظْهِرُونَ مَذْهَبَهُمْ فِي بَلْدَةٍ فِيهَا اُسْتُبِينَتْ السُّنَّةُ، فَصَارَ الْغُرَبَاءُ مِنْ كُلِّ الْجِهَاتِ يَأْتُونَ إلَيْهِمْ بِالْأَطْعِمَةِ وَتُبْسَطُ عِنْدَهُمْ الضِّيَافَاتُ، وَيُقِيمُونَ عِنْدَهُمْ الْأَيَّامَ الْكَثِيرَةَ، وَيُصَلُّونَ الْأَعْيَادَ فِي مُصَلَّى بِالْقُرْبِ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ، فَمَا تَرَى فِيمَنْ كَانَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ هَلْ يَجِبُ عَلَى مَنْ بَسَطَ اللَّهُ يَدَهُ فِي الْبَلَدِ وَمَكَّنَهُ مَنْعُهُمْ مِمَّا أَظْهَرُوهُ وَاسْتَتَابَهُمْ وَسَجَنَهُمْ وَضَرَبَهُمْ إنْ لَمْ يَمْتَنِعُوا مِنْ ذَلِكَ؟
فَأَجَابَ: إذَا أَظْهَرَ هَؤُلَاءِ الْقَوْمُ الَّذِينَ ذَكَرْت مَذْهَبَهُمْ وَأَعْلَنُوهُ، وَابْتَنَوْا مَسْجِدًا يَجْتَمِعُونَ فِيهِ، وَصَلَّوْا الْعِيدَ بِنَاحِيَةٍ عَنْ الْمُسْلِمِينَ بِجَمَاعَةٍ فَهَذَا بَابٌ عَظِيمٌ، يُخْشَى مِنْهُ أَنْ تَشْتَدَّ وَطْأَتُهُمْ وَيُفْسِدُوا عَلَى النَّاسِ دِينَهُمْ، وَيَمِيلُ الْجَهَلَةُ وَمَنْ لَا تَمْيِيزَ عِنْدَهُ إلَيْهِمْ، فَوَاجِبٌ عَلَى مَنْ بَسَطَ اللَّهُ قُدْرَتَهُ أَنْ يَسْتَتِيبَهُمْ مِمَّا هُمْ عَلَيْهِ، فَإِنْ لَمْ يَرْجِعُوا ضُرِبُوا وَسُجِنُوا وَيُبَالِغُ فِي ضَرْبِهِمْ، فَإِنْ أَقَامُوا عَلَى مَا هُمْ عَلَيْهِ فَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي قَتْلِهِمْ.
وَقَالَ ابْنُ حَبِيبٍ فِيمَنْ تَابَ مِنْهُمْ: يُتْرَكُ إلَّا أَنْ يَكُونَ لَهُمْ جَمَاعَةٌ فِي مَوْضِعٍ يَلْجَئُونَ إلَيْهِ، فَلَا يُتْرَكُ هَذَا وَإِنْ تَابَ، وَيُسْجَنُ حَتَّى تَتَفَرَّقَ جَمَاعَتُهُمْ خِيفَةَ أَنْ يَلْحَقَ بِهِمْ، وَأَرَى أَنْ يَشْتَهِرَ فَسَادُ مَا يَعْتَقِدُونَ لِئَلَّا يَلْبِسُوا عَلَى أَحَدٍ، وَلِئَلَّا يَسْكُنَ فِي قَلْبِ أَحَدٍ مِنْ ضَلَالَتِهِمْ شَيْءٌ، وَهُمْ أَشَدُّ فِي كَيْدِ الدِّينِ مِنْ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، لِأَنَّ هَذَيْنِ الْمَذْهَبَيْنِ أَعْنِي الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى، قَدْ عَرَفَ النَّاسُ أَنَّهُمْ كُفَّارٌ وَلَا يَلْتَبِسُ عَلَى النَّاسِ أَمْرُهُمْ، وَلَا يُخْشَى عَلَى الْمُسْلِمِينَ أَنْ يَظُنُّوا أَنَّ عِنْدَهُمَا حَقًّا، وَهَؤُلَاءِ يَقُولُونَ: نَحْنُ مُسْلِمُونَ وَيَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ وَيُخَالِفُونَ مَضْمُونَهُ، وَيَقُولُونَ: نُؤْمِنُ بِمُحَمَّدٍ وَيُحَدِّثُونَ بِالْأَحَادِيثِ الَّتِي تُرْوَى عَنْهُ، وَأَمَّا هَدْمُ الْمَسْجِدِ الَّذِي بَنُوهُ فَحَقٌّ وَجَمِيعُ مَا يَتَأَلَّفُونَ فِيهِ كَذَلِكَ، وَأَيْضًا فَإِنَّمَا قَصَدَ بِهِ الضِّرَارَ، قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لِنَبِيِّهِ فِي مَسْجِدِ الضِّرَارِ: {لا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا} [التوبة: 108] وَفِي هَدْمِهِ ذِلَّةٌ لِأَهْلِ دِينِهِمْ، وَبَقَاؤُهُ رُكْنٌ لَهُمْ وَمَلْجَأٌ، وَهَدْمُهُ يُؤَسِّسُ فِي قُلُوبِ النَّاسِ وَالْعَامَّةِ فَسَادَ مَا هُمْ عَلَيْهِ، لِأَنَّهُمْ إذَا عَلِمُوا أَنَّ ذَلِكَ فُعِلَ بِقَوْلِ أَهْلِ الْعِلْمِ، يَسْتَيْقِنُوا أَنَّ ذَلِكَ لِفَسَادِ مَا هُمْ عَلَيْهِ وَاجْتَنِبُوا قَوْمَهُمْ، وَلِلْفِعْلِ فِي النُّفُوسِ تَأْثِيرٌ وَقَدْ خَرَجَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى أَصْحَابِهِ بِالْحُدَيْبِيَةِ فِي الْعُمْرَةِ الَّتِي صُدَّ عَنْهَا، فَأَمَرَهُمْ بِالْحَلَاقِ فَتَرَدَّدُوا، فَلَمَّا نَحَرَ هَدْيَهُ وَأَمَرَ حَالِقَهُ فَحَلَقَ، بَادَرُوا لِمِثْلِ ذَلِكَ، وَلَمْ يَكُونُوا لِيَشُكُّوا فِي قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاَللَّهَ أَسْأَلُهُ التَّوْفِيقَ بِرَحْمَتِهِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَيْنِ الْجَوَابَيْنِ يُسْتَفَادُ مِنْهُمَا الْحُكْمُ فِي أُمُورٍ هِيَ وَاقِعَةٌ عِنْدَنَا.
مِنْهَا: مَا وَقَعَ فِي الْجَوَابِ الْأَوَّلِ، أَنَّ الْمَسْجِدَ الَّذِي يَجْتَمِعُونَ فِيهِ يُخْلَى مِنْهُمْ وَيُعَمَّرُ بِأَهْلِ السُّنَّةِ، وَمِثْلُ هَذَا وَقَعَ عِنْدَنَا فِي زَمَنِ الْقَاضِي شَرَفِ الدِّينِ الْأَسْيُوطِيِّ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ كَانَ قَدْ أَخْرَجَهُمْ مِنْ الْمَوْضِعِ الْمَعْرُوفِ بِالْمَشْهَدِ، وَأَسْكَنَهُ أَهْلَ السُّنَّةِ وَكَتَبَ عَلَى بَابِهِ فِي لَوْحِ رُخَامٍ: أَنَّهُ اُفْتُتِحَ هَذَا الْمَكَانُ فِي سَنَةِ كَذَا، ثُمَّ أَنَّهُمْ اسْتَوْلَوْا عَلَيْهِ بَعْدَهُ، وَصَارَ فَقِيهُهُمْ الشَّرْشِيرُ يُلَازِمُ الْجُلُوسَ فِيهِ وَيَشْتَغِلُ فِيهِ النَّاسُ، وَنَشَأَ عَنْ ذَلِكَ الِاجْتِمَاعِ شَرٌّ كَثِيرٌ وَأَثَرُهُ بَاقٍ إلَى الْآنَ، وَأَحْدَثَ فِيهِ بِرْكَةً صَارَ الْمَوْضِعُ يُقْصَدُ لِأَجْلِهَا، وَكَذَلِكَ أَحْدَثَ هَذَا الشَّرْشِيرُ بِرْكَةً فِي رِبَاطِ الْمُعِينِ، وَصَارَ الرِّبَاطُ لِأَجْلِهَا مَقْصِدًا وَمَجْمَعًا لَهُمْ، وَيَسْكُنُ فِيهِ الْغُرَبَاءُ مِمَّنْ يُشَغِّلُهُمْ فِي مَذْهَبِهِمْ وَيُقَوِّي بَعْضَهُمْ، وَهَذَا كُلُّهُ مِنْ أَعْظَمِ الْفَسَادِ وَالضَّرَرِ، وَحُكْمُ هَذِهِ الْمَوَاضِعِ أَنْ تُخَلَّى عَلَى مُقْتَضَى الْجَوَابَيْنِ، وَلَا تُهْدَمُ لِأَنَّهَا لَمْ تُبْنَ لِاجْتِمَاعِهِمْ، وَلَوْ أَحْدَثُوا مَوْضِعًا لِلِاجْتِمَاعِ كَمَا وَقَعَ فِي السُّؤَالِ عَنْ الْهَدْمِ عَلَى الْجَوَابِ الثَّانِي، وَلَا يُنْظَرُ لِكَوْنِهِ رِبَاطًا أَوْ وَقْفًا، فَإِنَّ الْمَعَاصِيَ الْوَاقِعَةَ فِيهِ إذَا لَمْ تَنْحَسِمْ إلَّا بِهَدْمِهِ جَازَ هَدْمُهُ، وَيَنْبَغِي إسْكَانُ أَهْلِ السُّنَّةِ فِي الْمَشْهَدِ، وَإِشْرَاكُ أَهْلِ السُّنَّةِ مَعَهُمْ فِي رِبَاطِ الْمُعِينِ عَلَى وَجْهٍ يَنْحَسِمُ بِهِ الْفَسَادُ، وَيَجِبُ إزَالَةُ الْبِرْكَتَيْنِ مِنْ الْمَوْضِعَيْنِ، لِأَنَّهُمَا أُحْدِثَتَا فِي وَقْفٍ لِغَيْرِ مَصْلَحَةٍ تَعُودُ عَلَى الْوَقْفِ، وَاَلَّذِي أَحْدَثَهُمَا لَيْسَ بِنَاظِرٍ شَرْعِيٍّ، وَلِمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِمَا مِنْ الْفَسَادِ.
وَمِمَّا فَعَلَهُ الْقَاضِي شَرَفُ الدِّينِ الْمَذْكُورُ، أَنَّهُمْ كَانُوا يَنْفَرِدُونَ بِصَلَاةِ الْعِيدِ فِي مَسْجِدٍ مُبَايِنٍ لِجَمَاعَةِ أَهْلِ السُّنَّةِ، فَسَدَّ بَابَهُ وَمَنَعَهُمْ مِنْ الصَّلَاةِ فِيهِ، وَأَلْزَمَهُمْ بِالصَّلَاةِ مَعَ النَّاسِ فَاسْتَمَرَّ ذَلِكَ، ثُمَّ أَحْدَثَ بَعْضُ طَلَبَةِ الشَّرْشِيرِ حَظِيرَةً بِالْقُرْبِ مِنْ مَسْجِدِ الْعِيدِ مَسْجِدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَصَارَ عَوَامُّ الْبَلَدِ يُصَلُّونَ الْعِيدَ فِيهَا مُنْفَرِدِينَ، وَإِنْ كَانُوا يُظْهِرُونَ مُوَافَقَةَ إمَامِ الْجَمَاعَةِ فَشُووِرَ أَمِيرُ الْمَدِينَةِ فِي هَدْمِهَا، فَأَذِنَ فِيهِ بَعْدَ أَنْ أَفْتَى بِهَدْمِهَا فُقَهَاءُ الشَّافِعِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَفِيَّةِ، فَهُدِمَتْ وَزَالَ أَثَرُهَا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ، فَيَجِبُ عَلَى الْحُكَّامِ دَرْءُ هَذِهِ الْمَفَاسِدِ، فَإِنَّهَا تُغْلِقُ مِنْ الشَّرِّ أَبْوَابًا وَتُجْزِلُ لِلْقَائِمِ فِيهَا ثَوَابًا، وَمِمَّا تَصِلُ الْقُدْرَةُ إلَيْهِ وَيَجِبُ عَلَى الْقُضَاةِ أَنْ يَحْمِلُوا الْعَامَّةَ عَلَيْهِ، كَتْبِ الصَّدَقَاتِ وَالْإِشْهَادِ فِيهَا، فَإِنَّ ذَلِكَ أَمْرٌ مَهْجُورٌ فِي الْمَدِينَةِ، وَيَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مِنْ الْفَسَادِ مَا لَا تَبْرَأُ لِلْحُكَّامِ مَعَهُ ذِمَّةٌ مِنْ وُجُوهٍ.
أَحَدُهَا: أَنَّهُ كَثِيرًا مَا تَتَزَوَّجُ الْمَرْأَةُ قَبْلَ تَمَامِ عِدَّةِ زَوْجِهَا الْأَوَّلِ، فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يَنْضَبِطُ إلَّا بِالْإِشْهَادِ عَلَى الطَّلَاقِ، وَكَتْبِ ذَلِكَ عَلَى ظَهْرِ كِتَابِ الصَّدَاقِ، وَلَا يُعْتَمَدُ عَلَى شَهَادَةِ شُهُودِهِمْ فِي ذَلِكَ لِكَثْرَةِ مَا يَقَعُ مِنْهُمْ مِنْ التَّسَاهُلِ فِي الشَّهَادَةِ بِذَلِكَ، لِأَنَّ مَذْهَبَهُمْ فِي الطَّلَاقِ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ إذَا وَقَعَ فِي حَالِ الْغَضَبِ الشَّدِيدِ، وَيَشْتَرِطُونَ أَيْضًا أَنْ تَكُونَ بِحَضْرَةِ شُهُودٍ عُدُولٍ، وَإِلَّا فَلَا يَلْزَمُ وَلَوْ طَلَّقَ مِرَارًا فِي خَلْوَةٍ أَوْ بِحَضْرَةِ جَمَاعَةٍ غَيْرِ عُدُولٍ لَمْ يَلْزَمْ، وَأَيْضًا فَالطَّلَاقُ الثَّلَاثُ عِنْدَهُمْ فِي كَلِمَةٍ طَلْقَةٌ وَاحِدَةٌ، وَكَثِيرًا مَا شُهِدَ عَلَى الرَّجُلِ أَنَّهُ طَلَّقَ ثَلَاثًا، فَيَأْمُرُهُ الْحَاكِمُ أَنْ لَا يُرَاجِعَهَا إلَّا بَعْدَ زَوَاجٍ فَيُرَاجِعُهَا خُفْيَةً، وَلَا يَطَّلِعُ الْحَاكِمُ عَلَى ذَلِكَ، وَلَوْ كَانَتْ الْأَنْكِحَةُ مَضْبُوطَةً بِالصَّدَقَاتِ وَالطَّلَاقِ، وَالْمَرْأَةُ مَكْتُوبَةٌ عَلَى ظَهْرِ الصَّدَقَاتِ انْحَسَمَ بَابُ الْفَسَادِ، وَمِنْ فَوَائِدِ كِتَابَةِ ذَلِكَ أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَتَصَدَّى لِذَلِكَ أَهْلُ السُّنَّةِ، وَمِنْ ذَلِكَ أَنْ لَا يَشْهَدَ فِي كِتَابِ الصَّدَاقِ إلَّا أَهْلُ السُّنَّةِ، فَتَنْحَسِمُ مَادَّةُ شَهَادَتِهِمْ فِي الْأَنْكِحَةِ وَهِيَ مِنْ أَعْظَمِ الْمُهِمَّاتِ الَّتِي يُبْتَلَى بِهَا الْحَاكِمُ، وَمِمَّا أَهْمَلَهُ بَعْضُ الْحُكَّامِ أَنَّهُمْ لَا يَسْأَلُونَ تَزْكِيَةَ الشُّهُودِ فِي الْغَالِبِ جَرْيًا عَلَى قَاعِدَةِ الْبَلَدِ، وَلَا يَسَعُهُمْ إهْمَالُ ذَلِكَ، وَلَمَّا كَانَ الْحَاكِمُ الشَّافِعِيُّ مِنْ شَأْنِهِ أَنْ لَا يَقْبَلَ مِنْهُمْ إلَّا مَنْ زُكِّيَ فِي الْغَالِبِ، انْدَفَعَ عَنْهُ كَثِيرٌ مِنْ الْحُكُومَاتِ إلَى غَيْرِهِ، وَلَوْ سَلَكُوا هَذَا الْمَسْلَكَ الَّذِي هُوَ أَمْرٌ لَازِمٌ شَرْعًا لَا يَسَعُهُمْ غَيْرُهُ وَالْتَزَمُوا الْأَخْذَ بِهِ، لَكَانَ النَّاسُ يَضْطَرُّونَ إلَى إشْهَادِ أَهْلِ السُّنَّةِ فِي سَائِرِ أُمُورِهِمْ وَمُعَامَلَاتِهِمْ وَبِيَاعَاتِهِمْ وَسَائِرِ عُقُودِهِمْ، وَلَمْ تُرْفَعْ إلَى الْحَاكِمِ شُهُودُ الْإِمَامِيَّةِ إلَّا فِيمَا يَقَعُ بَيْنَهُمْ مِمَّا لَا يَحْضُرُهُ أَهْلُ السُّنَّةِ، مِثْلُ قَذْفٍ أَوْ جَرْحٍ أَوْ إقْرَارٍ أَوْ شَيْءٍ مِمَّا قَدَّمْنَا ذِكْرَهُ، فَيَخِفُّ الْأَمْرُ وَتَكُونُ شَهَادَتُهُمْ مَقْصُورَةً عَلَى مَحَلِّ الضَّرُورَةِ.

.فَصْلٌ وِلَايَة حُكَّامِ طَائِفَة الشِّيعَةِ الْإِمَامِيَّة:

وَاعْلَمْ أَنَّ وِلَايَةَ حُكَّامِ هَذِهِ الطَّائِفَةِ إذَا كَانُوا حُكَّامًا غَيْرُ صَحِيحَةٍ مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ الَّذِي وَلَّاهُمْ هُوَ مُخَالِفٌ عَلَى الْإِمَامِ وَمُتَغَلِّبٌ عَلَى الْبَلَدِ، فَيَجْرِي فِيهِمْ مَا يَجْرِي فِي قُضَاةِ الْمُتَغَلِّبِينَ عَلَى بَعْضِ الْبِلَادِ، بَلْ هُوَ نَائِبُ السُّلْطَانِ الْحَاكِمِ عَلَى الْبَلَدِ.
الثَّانِي: أَنَّ أَمِيرَ الْمَدِينَةِ لَمْ يُفَوِّضْ إلَيْهِ الْإِمَارَةَ وَالْقَضَاءَ، وَإِذَا لَمْ يُفَوِّضْ إلَيْهِ الْقَضَاءَ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَحْكُمَ وَلَا أَنْ يُوَلِّيَ قَاضِيًا.
وَفِي مُخْتَصَرِ الْوَاضِحَةِ: قَالَ ابْنُ حَبِيبٍ قَالَ لِي ابْنُ الْمَاجِشُونِ فِي الْأَمِيرِ الْمُؤَمَّرِ: إنْ فُوِّضَتْ إلَيْهِ الْحُكُومَةُ قَضَى مَعَ الْإِمْرَةِ وَجَائِزٌ لَهُ أَنْ يَسْتَقْضِيَ وَيَجُوزَ حُكْمُهُ وَحُكْمُ قَاضِيهِ، وَإِذَا لَمْ يُفَوَّضْ إلَيْهِ ذَلِكَ فَلَا يَجُوزُ حُكْمُهُ وَلَا اسْتِقْضَاؤُهُ وَمِثْلُهُ فِي الْمُقْنِعِ.
تنبيه:
قَالَ فَضْلُ بْنُ سَلَمَةَ: اُنْظُرْ فِي قَوْلِهِمْ فِي الْأَمِيرِ الْمُؤَمَّرِ: إذَا فُوِّضَ إلَيْهِ الْحُكْمُ جَازَ أَنْ يَسْتَقْضِيَ، وَلَمْ يُجِيزُوا لِلْقَاضِي أَنْ يَسْتَقْضِيَ مَعَهُ غَيْرَهُ إلَّا مِنْ عُذْرِ مَرَضٍ أَوْ سَفَرٍ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ.

.فَصْلٌ مَا كَتَبَهُ حُكَّامُ الشِّيعَةِ الْإِمَامِيَّةِ عَلَى الْمَكَاتِيبِ مِنْ الثُّبُوتِ:

وَأَمَّا مَا كَتَبَهُ حُكَّامُهُمْ عَلَى الْمَكَاتِيبِ مِنْ الثُّبُوتِ فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يُفِيدُ وَلَا يَزِيدُ الْمَكْتُوبَ قُوَّةً، وَلَا يَجُوزُ إثْبَاتُ الْمَكْتُوبِ بِعَلَامَةِ الْقَاضِي الَّتِي تُوجَدُ عَلَيْهِ بِخَطِّهِ أَنَّهُ ثَبَتَ عِنْدَهُ، وَلَوْ كَانَ الْقَاضِي عَدْلًا مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ إلَّا مَا قَدَّمْنَا ذِكْرَهُ عَنْ أَشْهَبَ، أَنَّهُ أَجَازَ الشَّهَادَةَ عَلَى خَطِّ الْقَاضِي وَلَيْسَ الْعَمَلُ عَلَى ذَلِكَ، وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ لِلصَّوَابِ.

.الْبَابُ الْخَامِسُ وَالْأَرْبَعُونَ فِي الْقَضَاءِ بِالشَّهَادَاتِ الَّتِي يَسْقُطُ بَعْضُهَا:

وَيَمْضِي بَعْضُهَا وَفِي مُخْتَصَرِ الْوَاضِحَةِ عَنْ ابْنِ حَبِيبٍ وَقَالَ مُطَرِّفٌ وَابْنُ الْمَاجِشُونِ: وَإِذَا رُدَّتْ شَهَادَةُ الشُّهُودِ فِي بَعْضِ مَا شَهِدُوا بِهِ جَازَتْ شَهَادَتُهُمْ فِيمَا بَقِيَ مِنْهَا، مِثْلَ أَنْ يَشْهَدَ رَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ عَلَى السَّرِقَةِ، فَإِنَّ الْقَطْعَ يُدْرَأُ عَنْ السَّارِقِ؛ لِأَنَّ شَهَادَةَ النِّسَاءِ لَا تَجُوزُ فِيهِ، وَلَوْ ضَمِنَ السَّرِقَةَ مَلِيًّا كَانَ أَوْ مُعْدِمًا؛ لِأَنَّهُ مَالٌ وَشَهَادَةُ النِّسَاءِ تَجُوزُ فِيهِ، وَلَوْ أُسْقِطَتْ شَهَادَةُ النِّسَاءِ فِي الْقَطْعِ لِتُهْمَةِ الْأَلْسِنَةِ لَأُسْقِطَتْ فِي تَضْمِينِ السَّرِقَةِ.
مَسْأَلَةٌ:
وَلَوْ شَهِدَ النِّسَاءُ فِي طَلَاقٍ وَدَيْنٍ فِي شَهَادَةٍ وَاحِدَةٍ جَازَتْ فِي الدَّيْنِ دُونَ الطَّلَاقِ.
فرع:
قَالَ مُطَرِّفٌ وَابْنُ الْمَاجِشُونِ وَلَوْ شَهِدَ رَجُلَانِ عَلَى رَجُلٍ أَنَّهُ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ أَوْ أَعْتَقَ جَارِيَتَهُ، وَأَنَّهُمَا رَأَيَاهُ بَعْدَ ذَلِكَ عَلَى بَطْنِهَا أَوْ فِي خَلْوَةٍ مَعَهَا، وَلَمْ يَقُولَا رَأَيْنَاهُ يَطَؤُهَا جَازَتْ شَهَادَتُهُمَا عَلَى الْفِرَاقِ وَالْعُقُوبَةِ، لِأَنَّهُمَا جَمَعَا فِي شَهَادَتِهِمَا مَا لَوْ فَرَّقَاهُ مَا جَازَتْ شَهَادَتُهُمَا، وَأَمَّا لَوْ شَهِدَا أَنَّهُ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ أَوْ أَعْتَقَ جَارِيَتَهُ، وَأَنَّهُمَا رَأَيَاهُ بَعْدَ ذَلِكَ يَطَؤُهَا لَمْ يَكُنْ لَهُمَا شَهَادَةٌ، وَلَمْ يَكُنْ عَلَيْهِمَا حَدٌّ مِنْ قَبِيلِ أَنَّهُمَا لَوْ جَازَتْ شَهَادَتُهُمَا عَلَى الطَّلَاقِ أَوْ الْعَتَاقِ، لَزِمَهَا الْحَدُّ بِالْوَطْءِ، وَالِاثْنَانِ لَا تَجُوزُ شَهَادَتُهُمَا فِي الزِّنَا فَيَصِيرَانِ قَاذِفَيْنِ، فَجَرَحَ الْحَدُّ شَهَادَتَهُمَا، فَلَمَّا شَهِدَا بِذَلِكَ مَعًا كَانَ فِي شَهَادَتِهِمَا مَا يَجْرَحُهَا فَسَقَطَتْ كُلُّهَا، وَكَانَتْ الْمَرْأَةُ زَوْجَةً لَهُ، وَالْأَمَةُ رَقِيقًا لِسَيِّدِهَا، وَلَمْ تَمْضِ الشَّهَادَةُ لَهُمَا بِالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ، وَلَمْ يَكُنْ لِلزَّوْجِ وَلَا لِلسَّيِّدِ مَقَالٌ عَلَى الشَّاهِدَيْنِ بِأَنْ يَقُولَا قَدْ كَتَمَانَا لِأَنَّهُمَا أَثِمَا، قَالَا رَأَيْنَاهُ يَطَأُ امْرَأَتَهُ أَوْ جَارِيَتَهُ.
فرع:
وَإِذَا شَهِدَ أَخَوَا رَجُلٍ قَدْ مَاتَ وَكَانَا هُمَا وَارِثَيْهِ، بِأَنَّ هَذَا وَلَدُ أَخِينَا الْهَالِكِ وَكَانَا عَدْلَيْنِ، فَإِنْ كَانَ الْوَلَدُ مِمَّنْ نَالَ سُلْطَانًا وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِمَّا لَهُمَا بِهِ الْعِزُّ وَالْمَكَانَةُ، لَمْ تَجُزْ شَهَادَتُهُمَا لَهُ وَلَمْ يَلْحَقْ نَسَبُهُ وَيَكُونَانِ مُقِرِّينَ لَهُ بِكُلِّ مَا وَرِثَاهُ إنْ أَحَبَّ أَخْذَهُ أَخَذَهُ.
فرع:
وَقَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ فِي الْقَوْمِ يَقْطَعُ عَلَيْهِمْ اللُّصُوصُ يَشْهَدُ عَلَيْهِمْ مِنْهُمْ، فَإِنَّ مُطَرِّفًا قَالَ: شَهَادَةُ اثْنَيْنِ عَدْلَيْنِ فِي ذَلِكَ جَائِزَةٌ فِي الْقَطْعِ، وَفِيمَا زَعَمُوا أَنَّهُمْ أَخَذُوهُ لَهُمَا وَلِأَصْحَابِهِمَا مِنْ الْمَالِ، قَالَ: وَلَوْ لَمْ أُجِزْ شَهَادَتَهُمَا لَهُمَا فِي الْمَالِ مَا أَجْزَتْهُمَا فِي اللُّصُوصِ فِي الْقَطْعِ، وَلَا أَجَزْت بَعْضًا مِنْ شَهَادَةٍ وَرَدَدْت بَعْضًا، وَقَدْ كَانَ مَالِكٌ يُنْكِرُ ذَلِكَ عَلَى مَنْ يَقُولُهُ، وَأَمَّا ابْنُ الْمَاجِشُونِ فَقَالَ لِي: سَمِعْت الْمُغِيرَةَ وَابْنَ دِينَارٍ يَقُولَانِ: وَأَنَا أَقُولُ بِهِ: إنَّهُ لَا يَجُوزُ فِي ذَلِكَ أَقَلُّ مِنْ أَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ، وَإِنَّمَا تَجُوزُ شَهَادَتُهُمْ فِي الْقَطْعِ وَأَمْوَالِ الرُّفْقَةِ، وَلَا تَجُوزُ فِي أَمْوَالِ الشُّهَدَاءِ، لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ أَنْ يَشْهَدَ لِنَفْسِهِ، قَالَ لِي أَصْبَغُ: كَانَ ابْنُ الْقَاسِمِ يَقُولُ: يَجُوزُ فِي ذَلِكَ اثْنَانِ عَدْلَانِ فِي الْقَطْعِ وَفِي أَمْوَالِ الرُّفْقَةِ، وَلَا يَجُوزُ فِي أَمْوَالِهِمَا إلَّا أَنْ يَكُونَ يَسِيرًا، كَمَا قَالَ مَالِكٌ فِي الشُّهَدَاءِ عَلَى الْوَصِيَّةِ يَشْهَدُونَ لِأَنْفُسِهِمْ مِنْهَا بِشَيْءٍ إنْ كَانَتْ يَسِيرَةً جَازَتْ لَهُمْ وَلِغَيْرِهِمْ، وَيَجُوزُ أَنْ يَشْهَدَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ فِي أَمْوَالِهِمْ، وَتَجُوزُ شَهَادَةُ هَذَيْنِ اللَّذَيْنِ شَهِدَا عَلَى اللِّصِّ، فِي كُلِّ مَا شَهِدَا بِهِ لِغَيْرِهِمَا مِنْ الْمَالِ مَعَ أَنْفُسِهِمَا، إذَا رُدَّتْ شَهَادَتُهُمَا لِأَنْفُسِهِمَا، قَالَ لِي أَصْبَغُ: وَلَسْت أَقُولُهُ بَلْ تَسْقُطُ الشَّهَادَةُ كُلُّهَا فِي الْقَطْعِ وَفِي الْمَالِ لَهُمْ وَلِغَيْرِهِمْ إذَا كَانَ مَا شَهِدُوا بِهِ لِأَنْفُسِهِمْ كَثِيرًا، لِأَنَّهَا شَهَادَةٌ وَاحِدَةٌ، فَإِذَا اُتُّهِمُوا فِي بَعْضِهَا سَقَطَتْ كُلُّهَا، وَأَرَى شَهَادَةَ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ جَائِزَةً، وَإِنْ شَهِدَ الْمَشْهُودُ لَهُ لِشَاهِدِهِ، قَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ وَقَوْلُ مُطَرِّفٍ عِنْدِي أَوْسَطُ ذَلِكَ وَبِهِ أَقُولُ، وَقَدْ رَوَاهُ عَنْ مَالِكٍ.
فرع:
وَأَخْبَرَنِي مُطَرِّفٌ عَنْ مَالِكٍ فِي الْمُوصَى لَهُ يَشْهَدُ فِي الْوَصِيَّةِ، وَفِيهَا الْإِقْرَارُ بِالدَّيْنِ وَالْعِتْقِ لِلْمَمْلُوكِ وَالْوَصِيَّةِ لِقَوْمٍ وَهُوَ مِنْهُمْ، إنْ كَانَ الَّذِي أَوْصَى لَهُ بِهِ تَافِهًا يَسِيرًا لَا يُتَّهَمُ مِثْلُهُ جَازَتْ شَهَادَتُهُ عَلَى جَمِيعِ الْوَصِيَّةِ وَأُعْطِيَ مَا أُوصِيَ لَهُ مِنْهَا، وَإِنْ كَانَ الَّذِي أُوصِيَ لَهُ بِهِ كَثِيرًا يُتَّهَمُ فِي مِثْلِهِ رُدَّتْ شَهَادَتُهُ جَمِيعُهَا.
وَقَالَ ابْنُ الْمَاجِشُونِ إذَا كَانَ الَّذِي أُوصِيَ بِهِ فِيهَا تَافِهًا جَازَتْ شَهَادَتُهُ فِيمَا لَمْ يُوصَ لَهُ بِهِ، وَسَقَطَتْ فِيمَا أُوصِيَ لَهُ بِهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ أَنْ يَشْهَدَ لِنَفْسِهِ بِشَيْءٍ وَإِنْ دَقَّ، قَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ وَقَوْلُ مُطَرِّفٍ عَنْ مَالِكٍ أَحَبُّ إلَيَّ لِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يُتَّهَمْ فِي شَهَادَتِهِ صَارَ الَّذِي لَهُ فِيهَا تَبَعًا، لِأَنَّهَا لَا تَجُوزُ إلَّا جَمِيعًا وَلَا تُرَدُّ إلَّا جَمِيعًا، وَبِهَذَا رَأَيْت الْمِصْرِيِّينَ قَالُوا: لِأَنَّ مُطَرِّفًا وَابْنَ الْمَاجِشُونِ قَالَا: إذَا كَانَ الْمُوصِي كَتَبَ ذَلِكَ، أُجْمِعَ فِي كِتَابٍ ثُمَّ أَشْهَدَ عَلَيْهِ الشُّهُودَ فَأَوْقَعُوا فِيهِ شَهَادَتِهِمْ، ثُمَّ جِيءَ بِالْكِتَابِ بَعْدَ مَوْتِ الْمُوصِي فَيَشْهَدُ الشُّهُودُ أَنَّ مَا فِيهِ حَقٌّ، وَأَنَّهُ أَشْهَدْنَا عَلَيْهِ مَكْتُوبًا مَفْرُوغًا مِنْهُ فَلَا شَهَادَةَ لَهُمْ فِيهِ، أَجْمَعُ لِمَا لَهُمْ فِيهِ مِنْ الْوَصِيَّةِ إنْ كَانَ لَهَا بَالٌ وَلَهَا قَدْرٌ، وَلَا يُطْرَحُ مِنْ شَهَادَتِهِمْ مَا شَهِدُوا بِهِ لِأَنْفُسِهِمْ، وَيَمْضِي مِنْهَا مَا شَهِدُوا بِهِ مِنْ الْإِقْرَارِ بِالدَّيْنِ وَالْعِتْقِ لِلْمَمْلُوكِ وَالْوَصِيَّةِ لِغَيْرِهِمْ، لِأَنَّهُ كِتَابٌ وَاحِدٌ وَكَلَامٌ وَاحِدٌ يَلْزَمُ بَعْضُهُ بَعْضًا، فَلَا يَجُوزُ إلَّا جَمِيعًا، قَالَا: وَإِذَا كَانَ الْمُوصِي إنَّمَا أَشْهَدَهُمْ عَلَى ذَلِكَ لَفْظًا فَقَالَ: عَلَيَّ مِنْ الدَّيْنِ كَذَا وَكَذَا، لَمْ يَضَعْ كِتَابًا يَلْزَمُهُ بَعْضُهُ بَعْضًا، وَلَعَلَّ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ مِنْ قَوْلٍ مُتَفَرِّقٍ شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ أَوْ فِي فَوْرٍ وَاحِدٍ فَقَامَ بِهَا الشُّهُودُ هَكَذَا لَفْظًا عِنْدَ السُّلْطَانِ، أَوْ وَضَعُوا بِهَا كِتَابًا بَعْدَ مَوْتِ الْمُوصِي أَوْ قَبْلَهُ، إلَّا أَنَّ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ بِأَمْرِهِ وَلَا يَعْلَمُهُ، إلَّا لِمَا أَحَبَّ الشُّهُودُ مِنْ حِفْظِهِمْ مَا أَشْهَدَهُمْ، ثُمَّ قَامُوا بِذَلِكَ الْكِتَابِ إلَى السُّلْطَانِ وَأَخْبَرُوهُ بِسَبَبِ طَرْحٍ مِنْ ذَلِكَ مَا شَهِدُوا بِهِ لِأَنْفُسِهِمْ بَالِغًا مَا بَلَغَ، وَأَمْضَى مِنْ ذَلِكَ مَا شَهِدُوا بِهِ لِغَيْرِهِمْ، لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ أَتَوْا إلَى الْحَاكِمِ فَقَصُّوا عَلَيْهِ الشَّهَادَةَ فَأَمَرَهُمْ أَنْ يَكْتُبُوا ذَلِكَ كَمَا تُكْتَبُ الشَّهَادَاتُ عِنْدَ السُّلْطَانِ، فَلَا تَفْسُدُ شَهَادَاتُهُمْ مَا ذَكَرُوا فِيهَا مِنْ الْوَصِيَّةِ لِأَنْفُسِهِمْ وَهَكَذَا، كُنَّا نَرَى مَعْنَى مَا كَانَ مَالِكٌ يَقُولُ فِي هَذَا، وَسَأَلْت عَنْهُ أَصْبَغَ وَأَعْلَمْته بِهَذَا التَّفْسِيرِ فَقَالَ بِهِ وَاسْتَحْسَنَهُ.
فرع:
وَقَالَ لِي مُطَرِّفٌ وَابْنُ الْمَاجِشُونِ فِي شَاهِدَيْنِ شَهِدَا فِي ذِكْرِ حَقٍّ عَلَى رَجُلَيْنِ هُمَا لِأَحَدِهِمَا عَدُوَّانِ، فَالشَّهَادَةُ سَاقِطَةٌ عَنْهُمَا جَمِيعًا، وَكَذَلِكَ لَوْ شَهِدَا عَلَى بَرَاءَةِ الرَّجُلِ مِنْ رَجُلَيْنِ هُمَا لِأَحَدِهِمَا عَدُوَّانِ، سَقَطَتْ الشَّهَادَةُ عَنْهُمَا جَمِيعًا، لِأَنَّ الْكِتَابَ فِي الذِّكْرِ وَفِي الْبَرَاءَةِ حَقٌّ وَاحِدٌ، لَا يَحْسُنُ إلَّا جَمِيعًا وَيَبْطُلُ جَمِيعًا، وَلَوْ شَهِدَا بِذَلِكَ لَفْظًا، وَلَيْسَ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ سَقَطَتْ عَنْ الْعَدُوِّ وَجَازَتْ لِغَيْرِهِ.
فرع:
وَقَالَ مُطَرِّفٌ وَابْنُ الْمَاجِشُونِ فِي الشُّهُودِ يَشْهَدُ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ إنْ كَانَ ذَلِكَ كُلُّهُ عَلَى رَجُلٍ وَاحِدٍ فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ لَمْ تَجُزْ، وَرُدَّتْ شَهَادَتُهُمْ جَمِيعًا عَنْ الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ كَانَ ذَلِكَ كُلُّهُ جَائِزًا وَإِنْ تَقَارَبَ مَا بَيْنَ الشَّهَادَتَيْنِ، وَأَمَّا إذَا كَانَ ذَلِكَ عَلَى رَجُلَيْنِ مُفْتَرِقَيْنِ فَذَلِكَ جَائِزٌ، كَانَ ذَلِكَ فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ أَوْ شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ.
وَقَالَ لِي أَصْبَغُ مِثْلَهُ فَتَدَبَّرْهُ.
مَسْأَلَةٌ:
قَالَ ابْنُ رُشْدٍ وَإِذَا اشْتَمَلَتْ الشَّهَادَةُ عَلَى مَا تُجِيزُهُ السُّنَّةُ وَمَا لَا تُجِيزُهُ، فَالْمَشْهُورُ إجَازَةُ مَا أَجَازَتْهُ وَرُدَّ مَا لَمْ تُجْزِهِ، وَقِيلَ: تُرَدُّ كُلُّهَا وَيُؤْخَذُ ذَلِكَ مِنْ الْمُدَوَّنَةِ فِي شَهَادَةِ النِّسَاءِ بِالْوَصِيَّةِ، إنَّ شَهَادَتَهُنَّ لَا تَجُوزُ إنْ كَانَ فِيهَا عِتْقٌ وَأَبْضَاعُ النِّسَاءِ، وَكَذَلِكَ الشَّاهِدُ الْوَاحِدُ فِي وَصِيَّةٍ فِيهَا عِتْقٌ، وَوَصِيَّةٍ لِمُعَيَّنٍ، أَنَّ الْمُوصَى لَهُ يَحْلِفُ مَعَ شَاهِدِهِ وَيَسْتَحِقُّ وَيُرَدُّ الْعِتْقُ عَلَى الْمَشْهُورِ، وَقَالَ أَشْهَبُ تُرَدُّ كُلُّهَا.
مَسْأَلَةٌ:
قَالَ ابْنُ رُشْدٍ فِي الْمُقَدِّمَاتِ الْمَشْهُورُ فِي الْمَذْهَبِ أَنَّ الشَّهَادَةَ إذَا رُدَّ بَعْضُهَا لِلتُّهْمَةِ رُدَّتْ كُلُّهَا، وَقَدْ قِيلَ: إنَّهُ يَجُوزُ فِيهَا مَا لَا تُهْمَةَ فِيهِ، وَالْمَشْهُورُ فِي الْمَذْهَبِ أَيْضًا أَنَّ الشَّهَادَةَ إذَا رُدَّ بَعْضُهَا لِلسُّنَّةِ جَازَ مِنْهَا مَا أَجَازَتْهُ السُّنَّةُ، وَقَدْ قِيلَ: لَا يَجُوزُ، وَذَلِكَ قَائِمٌ مِنْ الْمُدَوَّنَةِ مِنْ قَوْلِهِ، وَشَهَادَةُ النِّسَاءِ لِلْوَصِيِّ إذَا الْمَيِّتُ أَوْصَى إلَيْهِ أَنَّ شَهَادَتَهُنَّ لَا تَجُوزُ إنْ كَانَ فِيهَا عِتْقٌ وَأَبْضَاعُ النِّسَاءِ، وَالْمَشْهُورُ فِي الْمَذْهَبِ أَيْضًا: أَنَّ الشَّهَادَةَ إذَا رُدَّ بَعْضُهَا لِانْفِرَادِ الشَّاهِدِ بِهَا دُونَ غَيْرِهِ أَنَّهَا تَجُوزُ فِيمَا يَصِحُّ فِيهِ شَهَادَةُ الشَّاهِدِ الْوَاحِدِ وَتَبْطُلُ فِيمَا لَا يَصِحُّ إلَّا بِشَاهِدَيْنِ مِثْلَ أَنْ يَشْهَدَ الرَّجُلُ عَلَى وَصِيَّةِ رَجُلٍ وَفِيهَا عِتْقٌ وَوَصَايَا لِقَوْمٍ، فَإِنَّ الْمُوصَى لَهُمْ بِالْمَالِ يَحْلِفُونَ مَعَ شَهَادَةِ الشَّاهِدِ وَتَكُونُ وَصَايَاهُمْ فِيهَا بَعْدَ قِيمَةِ الْعِتْقِ، وَقَدْ قِيلَ: إنَّ الشَّهَادَةَ كُلَّهَا مَرْدُودَةٌ، حَكَى ذَلِكَ الْبَرْقِيُّ عَنْ أَشْهَبَ، وَأَمَّا إذَا لَمْ يَأْتِ الشَّاهِدُ بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا، وَسَقَطَ عَنْ حِفْظِهِ بَعْضُهَا، فَإِنَّهَا تَسْقُطُ كُلُّهَا بِإِجْمَاعٍ.

.الْبَابُ السَّادِسُ وَالْأَرْبَعُونَ فِي الْقَضَاءِ بِشَهَادَةِ الصِّبْيَانِ:

وَفِي قَبُولِ شَهَادَتِهِمْ فِي الْجِرَاحِ وَالْقَتْلِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ: الْجَوَازُ: لِمَالِكٍ وَالْمَنْعُ: لِابْنِ عَبْدِ الْحَكَمِ وَالْجَوَازُ فِي الْجِرَاحِ دُونَ الْقَتْلِ قَالَهُ أَشْهَبُ، فَالْمَنْعُ الْأَصْلُ وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الشَّافِعِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَالْجَوَازُ لِعِلَّةِ الِاضْطِرَارِ إذْ لَوْ أَهْمَلُوا لَأَدَّى إلَى ضَرَرٍ كَبِيرٍ وَهَدَرِ جِنَايَاتٍ تَعْظُمُ، وَقَدْ حُكِيَ جَوَازُ ذَلِكَ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ الصَّحَابَةِ وَغَيْرِهِمْ، مِنْهُمْ: عَلِيٌّ وَعَبْدُ اللَّهِ، وَعُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ وَشُرَيْحٌ وَقُسَيْطٌ وَأَبُو بَكْرِ بْنُ حَزْمٍ، وَرَبِيعَةُ وَمُعَاوِيَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، وَإِذَا قُلْنَا بِإِجَازَتِهَا فَإِنَّمَا تَجُوزُ بِأَحَدَ عَشَرَ شَرْطًا.
الْأَوَّلُ: أَنْ يَكُونَا مِمَّنْ يَعْقِلُ الشَّهَادَةَ.
الثَّانِي: أَنْ يَكُونَا حُرَّيْنِ.
الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَا ذَكَرَيْنِ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ: جَوَازُ قَبُولِ شَهَادَةِ إنَاثِ الْأَحْرَارِ، اعْتِبَارًا بِالْبَالِغَاتِ فِي كَوْنِهَا لَوْثًا فِي الْقَسَامَةِ عَلَى إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ.
الرَّابِعُ: أَنْ يَكُونَا مَحْكُومًا لَهُمَا بِالْإِسْلَامِ.
الْخَامِسُ: أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ فِيمَا بَيْنَ الصِّبْيَانِ لَا لِكَبِيرٍ عَلَى صَغِيرٍ، وَلَا لِصَغِيرٍ عَلَى كَبِيرٍ.
السَّادِسُ: أَنْ يَكُونَا اثْنَيْنِ فَصَاعِدًا.
السَّابِعُ: أَنْ تَكُونَ الشَّهَادَةُ قَبْلَ تَفَرُّقِهِمْ وَتَخْبِئَتِهِمْ.
الثَّامِنُ: أَنْ تَكُونَ الشَّهَادَةُ مُتَّفِقَةً غَيْرَ مُخْتَلِفَةٍ.
التَّاسِعُ: أَنْ تَكُونَ الشَّهَادَةُ فِي قَتْلٍ أَوْ جُرْحٍ عَلَى الْخِلَافِ الْمُتَقَدِّمِ لَا فِي الْأَمْوَالِ.
الْعَاشِرُ: أَنْ لَا يَحْضُرَ ذَلِكَ أَحَدٌ مِنْ الْكِبَارِ، فَمَتَى حَضَرَ كِبَارٌ فَشَهِدُوا سَقَطَ اعْتِبَارُ شَهَادَةِ الصِّبْيَانِ كَانَ الْكِبَارُ رِجَالًا أَوْ نِسَاءً، لِأَنَّ شَهَادَةَ النِّسَاءِ تَجُوزُ فِي الْخَطَأِ وَعَمْدُ الصَّبِيِّ كَالْخَطَأِ.
الْحَادِيَ عَشَرَ: قَالَ الْقَرَافِيُّ وَرَأَيْت بَعْضَ الْمُعْتَبَرِينَ مِنْ الْمَالِكِيَّةِ يَقُولُ: لابد مِنْ حُضُورِ الْجَسَدِ الْمَشْهُودِ بِقَتْلِهِ، وَإِلَّا فَلَا تُسْمَعُ الشَّهَادَةُ، وَنَقَلَهُ عَنْ ابْنِ عَطَاءِ اللَّهِ مُؤَلِّفُ الْبَيَانِ وَالتَّقْرِيبِ، عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ الْأَصْحَابِ أَنَّهُ لابد مِنْ شَهَادَةِ الْعُدُولِ عَلَى رُؤْيَةِ الْجَسَدِ الْمَقْتُولِ.
فرع:
وَلَوْ شَهِدُوا ثُمَّ رَجَعُوا لَمْ يُلْتَفَتْ إلَى رُجُوعِهِمْ، وَلَوْ بَلَغُوا وَشَكُّوا أُخِذَ بِقَوْلِهِمْ الْأَوَّلِ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ عَلَى وَجْهِهَا، وَلَمْ تَكُنْ قُضِيَ بِهَا لَمْ يُقْضَ بِهَا.
فرع:
وَالْعَدَالَةُ وَالْجِرَاحُ لَا يُعْتَبَرَانِ فِي الصِّبْيَانِ، وَاخْتُلِفَ فِي اعْتِبَارِ الْقَرَابَةِ وَالْعَدَاوَةِ. قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ لَا تَجُوزُ شَهَادَةُ الْقَرِيبِ لِقَرِيبِهِ، قَالَ مُحَمَّدٌ وَعَلَى مَذْهَبِهِ فَلَا تَجُوزُ شَهَادَةُ الْعَدُوِّ، وَأَجَازَهَا عَبْدُ الْمَلِكِ وَعَلَى مَذْهَبِهِ فَيَجُوزُ مَعَ الْقَرَابَةِ.
فرع:
سِتَّةُ صَبِيَّةٍ فِي الْبَحْرِ غَرِقَ وَاحِدٌ مِنْهُمْ فَشَهِدَ ثَلَاثَةٌ عَلَى اثْنَيْنِ وَاثْنَانِ عَلَى ثَلَاثَةٍ أَنَّهُمْ غَرَّقُوهُ، قَالَ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ: الْعَقْلُ عَلَيْهِمْ كُلُّهُمْ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ يَدْرَأُ عَنْ نَفْسِهِ، وَلَيْسَ الْبَعْضُ أَوْلَى مِنْ الْبَعْضِ، فَلَزِمَتْ الدِّيَةُ عَوَاقِلَهُمْ.
فرع:
قَالَ مَالِكٌ: لَا تَجُوزُ شَهَادَةُ الصِّبْيَانِ الْمَمَالِيكِ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ، لِأَنَّهُمْ لَيْسُوا مِنْ جِنْسِ مَنْ يَشْهَدُ وَهَذَا مَفْهُومٌ مِنْ الشَّرْطِ الثَّانِي.
فرع:
وَإِذَا تَعَارَضَ بَيِّنَتَانِ مِنْ الصِّبْيَانِ فِي شَجَّةٍ هَلْ شَجَّهَا فُلَانٌ أَوْ فُلَانٌ سَقَطَتَا، لِأَنَّ كُلَّ فَرِيقٍ يَنْفِي مَا يُثْبِتُهُ الْآخَرُ، وَأَرْشُ الشَّجَّةِ عَلَى جَمَاعَةِ الصِّبْيَانِ.

.الْبَابُ السَّابِعُ وَالْأَرْبَعُونَ الْقَضَاءِ بِكِتَابِ الْقَاضِي إلَى الْقَاضِي:

فِي الْقَضَاءِ بِكِتَابِ الْقَاضِي إلَى الْقَاضِي وَفِي مُخْتَصَرِ الْوَاضِحَةِ مِنْ قَوْلِ ابْنِ الْقَاسِمِ: أَنَّهُ إذَا جَاءَ كِتَابٌ مِنْ قَاضٍ إلَى قَاضٍ، لَمْ تَجُزْ إلَّا بِشَهَادَةِ شُهُودٍ أَنَّهُ كِتَابُ الْقَاضِي، وَلَا يُلْتَفَتُ إلَى طَابَعِ الْقَاضِي وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ الْمَاجِشُونِ أَيْضًا، أَنَّهُ لابد مِنْ شُهُودٍ أَنَّ هَذَا الْكِتَابَ كِتَابُ الْقَاضِي، وَزَادَ أَشْهَبُ فَقَالَ: لَا تَجُوزُ شَهَادَتُهُمْ أَنَّهُ كِتَابُ الْقَاضِي حَتَّى يَشْهَدُوا أَنَّهُ قَدْ أَشْهَدَهُمْ عَلَيْهِ، وَلَا يَضُرُّ إنْ لَمْ يَخْتِمْهُ.
وَقَالَ ابْنُ وَهْبٍ: وَلَا يَجُوزُ كِتَابُ قَاضٍ إلَى قَاضٍ إلَّا بِشَاهِدَيْنِ أَنَّهُ أَشْهَدَهُمَا بِمَا فِيهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ خَاتَمُهُ أَوْ كَانَ فِيهِ طَابَعُهُ قَدْ انْكَسَرَ، قَالَ ابْنُ حَبِيبٍ عَنْ مُطَرِّفٍ وَابْنِ الْمَاجِشُونِ: وَلَا يَنْفُذُ إنْ شَهِدَا أَنَّ هَذَا الْكِتَابَ خَطُّ الْقَاضِي بِيَدِهِ.
وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: إنْ هَذَا شَهِدَا أَنَّ هَذَا الْكِتَابَ خَطُّ الْقَاضِي جَازَتْ شَهَادَتُهُمَا، وَلَمْ يُلْتَفَتْ إلَى الطَّابَعِ وَهُوَ مَعْنَى مَا فِي الْمُدَوَّنَةِ، وَاخْتُلِفَ أَيْضًا عَنْ مَالِكٍ هَلْ شَرْطُ الشَّهَادَةِ عَلَى كِتَابِهِ أَنْ يَقْرَأَهُ عَلَى الشُّهُودِ النَّاقِلِينَ أَوْ لَا؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ الْأَشْهَرُ التَّرْكُ مِنْ التَّنْبِيهِ لِابْنِ الْمُنَاصِفِ، قَالَ ابْنُ سَهْلٍ وَرَأَيْت قُضَاةَ شَرْقِ الْأَنْدَلُسِ يُجِيزُونَ كُتُبَ بَعْضِهِمْ إلَى بَعْضٍ فِي الْأَحْكَامِ بِالْخَاتَمِ، وَمَعْرِفَةِ الْخَطِّ وَإِنْ لَمْ يَكْتُبْ الْقَاضِي إلَّا الْعِنْوَانَ لَا غَيْرُ، وَإِنْ كَانَ حَامِلُهُ هُوَ الْمَكْتُوبُ لَهُ الْمَحْكُومُ فِي قَضِيَّتِهِ، وَيَبْعَثُونَ حَامِلَهُ وَيُسَلِّمُونَهُ لَهُ مَخْتُومًا، قَالَ: وَهُوَ عِنْدِي مِمَّا لَا يَجُوزُ الْعَمَلُ بِهِ وَلَا إنْفَاذُهُ، سِيَّمَا إذَا كَانَ حَامِلُهُ صَاحِبَ الْحُكُومَةِ، وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ حَبِيبٍ عَنْ ابْنِ الْقَاسِمِ وَغَيْرِهِ: إذَا كَانَ حَامِلُهُ صَاحِبَ الْحُكُومَةِ لَمْ يَجُزْ فِيمَا هُوَ أَخَفُّ مِنْ هَذَا، هَذَا مِمَّا لَا يَجُوزُ عِنْدَ أَحَدٍ، وَالْقَضَاءُ بِهِ مَنْسُوخٌ، وَلَمْ يُجِيزُوا أَنْ يَحْمِلَهُ صَاحِبُ الْحُكُومَةِ مِنْ عِنْدَ الْفَقِيهِ أَوْ الْأَمِينِ وَشَبَهِهِ، فَكَيْفَ فِي نَفْسِ الْحُكُومَةِ مِنْ قَاضِي بَلَدٍ إلَى قَاضِي بَلَدٍ.
وَفِي الْمَذْهَبِ لِابْنِ رُشْدٍ قَالَ سَحْنُونٌ: إذَا شَهِدَ عَلَى كِتَابِهِ وَخَاتَمِهِ شَاهِدٌ وَامْرَأَتَانِ، جَازَ فِيمَا تَجُوزُ فِيهِ شَهَادَةُ النِّسَاءِ، وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يُكْتَبَ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ مَخْتُومٍ وَالِاعْتِمَادُ عَلَى الشَّهَادَةِ، إذْ لَوْ شَهِدَا بِخِلَافِ مَا فِي الْكِتَابِ لَجَازَ إذَا طَابَقَ ذَلِكَ الدَّعْوَى، وَلَوْ شَهِدَا بِمَا فِيهِ وَهُوَ غَيْرُ مَخْتُومٍ لَجَازَ أَيْضًا، وَلَوْ قَالَ الْقَاضِي أَشْهَدْتُكُمَا أَنَّ مَا فِيهِ حُكْمِي لَجَازَ عَلَى إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ مَا فِي الْكِتَابِ حُكْمِي لَكَانَ كَافِيًا.
فرع:
وَلَوْ أَنَّ الْكِتَابَ الْمَخْتُومَ دُفِعَ إلَى جَمَاعَةٍ وَأَشْهَدَهُمْ الْقَاضِي الَّذِي دَفَعَهُ أَنَّهُ كِتَابُهُ، فَكَانَ الْكِتَابُ عِنْدَ أَحَدِهِمْ، حَتَّى قَدِمُوا الْبَلَدَ الَّذِي فِيهِ الْقَاضِي الْمَكْتُوبُ إلَيْهِ، فَإِنَّ الَّذِي فِي يَدِهِ الْكِتَابُ يَشْهَدُ، وَأَمَّا الْآخَرُونَ فَإِنْ أَثْبَتُوهُ وَعَرَفُوا أَنَّهُ طَابَعُ الْقَاضِي وَكِتَابُهُ فَلْيَشْهَدُوا، قِيلَ لِمَالِكٍ: وَكَيْفَ يَعْرِفُونَ ذَلِكَ؟ قَالَ هُمْ أَعْلَمُ، قَالَ أَصْبَغُ إنْ لَمْ يَعْرِفُوا فَلَا يَشْهَدُوا، وَإِنْ كَانَ صَاحِبُهُمْ الَّذِي عِنْدَهُ الْكِتَابُ عَدْلًا مَأْمُونًا وَلَوْ كَانُوا حِينَ أَشْهَدَهُمْ الْقَاضِي عَلَى الْكِتَابِ كَتَبُوا فِيهِ شَهَادَاتِهِمْ وَعَلَامَاتِهِمْ كَانَ أَحْسَنَ.
وَقَالَ ابْنُ نَافِعٍ عَنْ مَالِكٍ: كَانَ مِنْ الْأَمْرِ الْقَدِيمِ إجَازَةُ الْخَوَاتِمِ، فَكَانَ الْقَاضِي يَكْتُبُ لِلرَّجُلِ الْكِتَابَ إلَى الْقَاضِي، فَمَا يَزِيدُ عَلَى خَتْمِهِ فَيُجَازَ عَلَى خَتْمِهِ لَهُ، حَتَّى حَدَثَ الِاتِّهَامُ فَأُحْدِثَتْ الشَّهَادَةُ عَلَى خَاتَمِ الْقَاضِي أَنَّهُ خَاتَمُهُ.
قَالَ ابْنُ رُشْدٍ: وَفِي الْبُخَارِيِّ أَوَّلُ مَنْ سَأَلَ الْبَيِّنَةَ عَنْ كِتَابِ الْقَاضِي ابْنُ أَبِي لَيْلَى وَسَوَّارُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْعَنْبَرِيُّ.
وَقَالَ ابْنُ كِنَانَةَ كَانَ إذَا جَاءَ كِتَابٌ مِنْ قَاضِي مَكَّةَ إلَى قَاضِي الْمَدِينَةِ أَنْفَذَهُ بِغَيْرِ بَيِّنَةٍ، فَالْتَزَمَ النَّاسُ الْبَيِّنَاتِ عَلَى الْكُتُبِ الَّتِي تَأْتِي مِنْ كُورَةٍ إلَى كُورَةٍ، فَإِذَا جَاءَ مِنْ أَعْرَاضِ الْمَدِينَةِ إلَى قَاضِي الْمَدِينَةِ قَبِلُوهُ بِغَيْرِ بَيِّنَةٍ، يُجِيزُونَ فِي ذَلِكَ بِمَعْرِفَةِ الْخَطِّ وَالْخَوَاتِمِ وَالْجَوَابُ إذَا كَانَ ذَلِكَ فِي الْحُقُوقِ الْيَسِيرَةِ.
وَقَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ نَحْوُ هَذَا أَنَّهُ يَقْبَلُ الْعَامِلُ فِي قَرَابَاتِهِ مِنْ عَمَلِهِ الْكِتَابَ بِغَيْرِ شَاهِدَيْنِ، كَمَا يَقْبَلُ بِالشَّاهِدِ الْوَاحِدِ مَعَ الثِّقَةِ وَمَعْرِفَةِ الْخَاتَمِ لِقُرْبِ الْمَسَافَةِ، وَاسْتِدْرَاكِ مَا يُخْشَى مِنْ التَّعَدِّي، وَلَمْ يَذْكُرْ مَا قَالَ ابْنُ كِنَانَةَ فِي الْحُقُوقِ الْيَسِيرَةِ.
فرع:
وَيُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ الْمَكْتُوبُ إلَيْهِ عَالِمًا بِعَدَالَةِ شَهِيدَيْ الْكِتَابِ، وَلَا يَكْفِي تَعْدِيلُهُمَا فِيهِ.
فرع:
لابد أَنْ يَذْكُرَ الْحَاكِمُ اسْمَ الْمَحْكُومِ عَلَيْهِ وَاسْمَ أَبِيهِ، وَحِلْيَتَهُ وَصِنَاعَتَهُ أَوْ تِجَارَتَهُ وَشُهْرَتَهُ، إنْ كَانَتْ لَهُ لِيَتَمَيَّزَ بِذَلِكَ عَنْ غَيْرِهِ، فَإِنْ وَجَدَ مَنْ يُشَارِكُهُ فِي ذَلِكَ لَمْ يَحْكُمْ لَهُ الْقَاضِي عَلَى مَا يَدَّعِي عَلَيْهِ أَنَّهُ هُوَ إلَّا بِبَيِّنَةٍ تَشْهَدُ عَلَى عَيْنِهِ، وَإِنْ كَانَ الَّذِي شَارَكَهُ فِي ذَلِكَ قَدْ مَاتَ لَمْ يَحْكُمْ عَلَى الْحَيِّ حَتَّى تَشْهَدَ الْبَيِّنَةُ أَنَّهُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، إلَّا أَنْ يَطُولَ زَمَنُ الْمَوْتِ وَيَعْلَمَ أَنَّهُ لَيْسَ هُوَ الْمُرَادُ بِالشَّهَادَةِ، فَحِينَئِذٍ يَحْكُمُ عَلَى الْحَيِّ، فَإِنْ كَانَ حَيَّيْنِ إلَّا أَنَّ أَحَدَهُمَا قَصُرَتْ عَنْهُ الصِّفَةُ بِأَقَلِّهَا، فَإِنَّ الْكِتَابَ يَلْزَمُ الْآخَرَ وَلَوْ لَمْ يَخْتَلِفَا إلَّا فِي الْمَسْكَنِ فَقَطْ، فَإِنْ كَانَ مَسْكَنُهُمَا يَوْمَ كَتَبَ الْكِتَابَ وَاحِدًا، وَأَشْكَلَ الْأَمْرُ لَمْ يَلْزَمْ وَاحِدًا مِنْهُمَا يُرِيدُ إلَّا بِبَيِّنَةٍ عَلَى عَيْنِهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ ثَمَّ مَنْ يُشَارِكُهُ كَشَفَ الْقَاضِي عَنْ ذَلِكَ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ غَيْرَهُ أَعْدَاهُ عَلَيْهِ، وَلَوْ تَرَكَ الْقَاضِي الْكَشْفَ عَنْ ذَلِكَ فَقِيلَ: لابد لِلطَّالِبِ أَنْ يُثْبِتَ أَنَّهُ لَيْسَ بِالْبَلَدِ مَنْ هُوَ عَلَى تِلْكَ الصِّفَةِ.
فرع:
قَالَ ابْنُ رُشْدٍ الْغَالِبُ مِنْ أَفْعَالِ قُضَاتِنَا الْيَوْمَ بِإِفْرِيقِيَّةَ، أَنْ يَأْتِيَ الرَّجُلُ يَذْكُرُ الْحَقَّ وَيَرْفَعُ شُهُودَهُ، وَيُخَاطِبُ الْقَاضِيَ لَهُ بِثُبُوتِهِ عِنْدَهُ، وَيَسِيرُ بِهِ إلَى مَحَلِّ خَصْمِهِ فَيَحْكُمُ لَهُ قَاضِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُكَلِّفَهُ تَعْدِيلَ شُهُودٍ.
فرع:
وَأَمَّا كِتَابُ الْقَاضِي الْمُجَرَّدُ عَنْ الشَّهَادَةِ فَلَا أَثَرَ لَهُ، قَالَ الْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ فِي الْمَعُونَةِ وَإِنَّمَا قُلْنَا: إنَّ الشَّهَادَةَ عَلَى الْخَطِّ لَا تَنْفَعُ، لِأَنَّ الْخَطَّ لَا يُحْكَمُ بِهِ بِاعْتِرَافِ كَاتِبِهِ بِأَنَّهُ عَلَى مَا كَتَبَهُ، لِأَنَّهُ قَدْ يَكْتُبُ أَشْيَاءَ لَا يُؤْخَذُ بِهَا، وَلَوْ تَلَفَّظَ بِمَا كَتَبَ بِهِ لَأُخِذَ بِهِ، فَقَالَ ابْنُ رُشْدٍ: وَالْعَمَلُ عِنْدَنَا الْيَوْمَ بِإِفْرِيقِيَّةَ عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ السَّلَفُ فِي الْقَدِيمِ مِنْ الشَّهَادَةِ عَلَى خَطِّ الْقَاضِي، فَيَكْتُبُ الْقَاضِي تَحْتَ شُهُودِ الْوَثِيقَةِ كَائِنَةً مَا كَانَتْ، عَلِمَ بِثُبُوتِ الرَّسْمِ الْمُقَيَّدِ أَعْلَاهُ فُلَانُ بْنُ فُلَانٍ، وَالسَّلَامُ عَلَى مَنْ يَقِفُ عَلَيْهِ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ، وَبَعْضُهُمْ يَكْتُبُ أَدَّى شَهِيدَاهُ شَهَادَتَهُمَا فِيهِ وَهُمَا بِرَسْمِ الْقَبُولِ، وَأَعْلَمَ بِذَلِكَ فُلَانُ بْنُ فُلَانٍ، ثُمَّ يَأْخُذُ صَاحِبُ الْحَقِّ ذَلِكَ الرَّسْمَ، وَيَأْتِي بِهِ هُوَ أَوْ وَكِيلُهُ إلَى قَاضِي بَلَدٍ آخَرَ، وَيَأْتِيهِ بِعَدْلَيْنِ يَشْهَدَانِ أَنَّهُ خَطُّ فُلَانٍ وَيُمْضِي مَا فِيهِ، وَلَوْ كَلَّفُوا رَبَّ الْحَقِّ أَنْ يَأْتِيَ بِشَهِيدَيْنِ يَشْهَدَانِ عَلَى الْقَاضِي لَتَعَذَّرَتْ الْحُقُوقُ لِخَوْفِ الطُّرُقَاتِ وَغَيْرِ ذَلِكَ.
وَفِي التَّنْبِيهِ لِابْنِ الْمُنَاصِفِ: وَقَدْ الْتَزَمَ النَّاسُ الْيَوْمَ فِي سَائِرِ بِلَادِنَا إجَازَةَ كُتُبِ الْقُضَاةِ بِمَعْرِفَةِ الْخَطِّ وَكَافَّةُ الْحُكَّامِ، قَدْ تَمَالَئُوا عَلَى إجَازَةِ ذَلِكَ وَالْتِزَامِهِ وَالْعَمَلِ بِهِ فِي عَامَّةِ الْجِهَاتِ لِلِاضْطِرَارِ إلَى ذَلِكَ، وَلِأَنَّ الْمَطْلُوبَ إنَّمَا هُوَ قِيَامُ الدَّلِيلِ وَثُبُوتُهُ، عَلَى أَنَّ ذَلِكَ الْكِتَابَ كِتَابُ الْقَاضِي، فَإِذَا ثَبَتَ عِنْدَ الْمَكْتُوبِ إلَيْهِ أَنَّهُ كِتَابُ الْقَاضِي بِمَعْرِفَةِ خَطِّهِ ثُبُوتًا لَا يُشَكُّ فِيهِ، أَشْبَهَ الشَّهَادَةَ عَلَيْهِ وَقَامَ مَقَامَهَا، قَالَ: وَإِذَا ثَبَتَ جَوَازُ كُتُبِ الْقُضَاةِ بِمَعْرِفَةِ الْخَطِّ لِلضَّرُورَةِ إلَى ذَلِكَ فَلَا يَخْلُو، إمَّا أَنْ يَكُونَ الْقَاضِي الْمَكْتُوبُ إلَيْهِ يَعْرِفُ خَطَّ الْقَاضِي الْكَاتِبِ أَوْ لَا يَتَحَقَّقُ ذَلِكَ، فَإِنْ كَانَ الْقَاضِي يَعْرِفُهُ وَيَتَحَقَّقُهُ فَجَائِزٌ عِنْدِي قَوْلُهُ كَمَا رُوِيَ عَنْ سَحْنُونٍ أَنَّهُ كَانَ يُجِيزُ كُتُبَ أُمَنَائِهِ بِمَعْرِفَةِ الْخَطِّ دُونَ شُهُودٍ، لَيْسَ ذَلِكَ مِنْ بَابِ قَضَاءِ الْقَاضِي بِعِلْمِهِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُقَالَ: لابد مِنْ الشَّهَادَةِ عِنْدَهُ عَلَى صِحَّةِ الْخَطِّ، كَمَا تَكُونُ الشَّهَادَةُ عَلَى قَوْلِ الْقَاضِي لِقَاضٍ غَيْرِهِ بِالْمُشَافَهَةِ مِنْهُ لَهُ، ثَبَتَ عِنْدِي كَذَا ذَكَرَهُ ابْنُ الْعَطَّارِ.
وَأَمَّا إنْ لَمْ يَتَحَقَّقْ الْقَاضِي خَطَّ الْكَاتِبِ فلابد مِنْ شَاهِدَيْنِ عَدْلَيْنِ يَعْرِفَانِ خَطَّ الْقَاضِي الْكَاتِبِ، فَيَشْهَدَانِ أَنَّ ذَلِكَ خَطُّ الْقَاضِي كَمَا يَكُونُ ذَلِكَ فِي خَطِّ الشَّاهِدِ الْغَائِبِ.
وَفِي مَعِينِ الْحُكَّامِ لِابْنِ عَبْدِ الرَّفِيعِ عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ: أَنَّ أَشْهَبَ رَحِمَهُ اللَّهُ يُجِيزُ الشَّهَادَةَ عَلَى خُطُوطِ الْقُضَاةِ وَالشُّهُودِ فِي الْأَحْكَامِ.
مَسْأَلَةٌ:
قَالَ ابْنُ حَبِيبٍ قَالَ لِي مُطَرِّفٌ وَابْنُ الْمَاجِشُونِ: وَإِذَا كَتَبَ قَاضٍ إلَى قَاضٍ بِكِتَابٍ فِيهِ اخْتِلَافٌ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ، وَالْمَكْتُوبُ إلَيْهِ لَا يَرَى ذَلِكَ الرَّأْيَ وَلَا يَأْخُذُ بِهِ، فَإِنْ كَتَبَ إلَيْهِ بِأَنَّهُ قَدْ حَكَمَ بِمَا فِي كِتَابِهِ وَأَنْفَذَهُ جَازَ ذَلِكَ، وَأَنْفَذَ هَذَا الْمَكْتُوبَ إلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ إنَّمَا كَتَبَ بِمَا ثَبَتَ عِنْدَهُ لِلْخَصْمِ أَوْ بِمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ، وَلَمْ يُفَصِّلْ ذَلِكَ بِحُكْمٍ فَلْيَعْمَلْ فِي ذَلِكَ بِرَأْيِهِ الَّذِي يَخْتَارُهُ مِمَّا اخْتَلَفُوا فِيهِ، وَلَا يَعْمَلُ ذَلِكَ بِرَأْيِ الْكَاتِبِ إلَيْهِ مِنْ مُخْتَصَرِ الْوَاضِحَةِ فِي رَسْمِ مَا يُفْسَخُ مِنْ أَقْضِيَةِ الْقُضَاةِ.
وَفِي التَّنْبِيهِ لِابْنِ الْمُنَاصِفِ عَنْ سَحْنُونٍ فِي الْوَجْهِ الْأَوَّلِ مِنْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي لِلْمَكْتُوبِ إلَيْهِ أَنْ يُجِيزَ ذَلِكَ وَلَا يُنَفِّذَهُ، قَالَ: يُرِيدُ إذَا كَانَ غَيْرَ صَوَابٍ عِنْدَهُ، وَلَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يُجِيزَ أَحَدًا عَلَى مَا هُوَ عِنْدَهُ خَطَأٌ، وَذَلِكَ مِثْلُ أَنْ يَكْتُبَ إلَيْهِ قَاضٍ حَنَفِيٌّ بِأَنْ يُمَكِّنَ رَجُلًا مِنْ امْرَأَةٍ زُوِّجَتْ بِغَيْرِ وَلِيٍّ، وَشَبَهَ ذَلِكَ قَالَ أَشْهَبُ: إنْ كَتَبَ إلَيْهِ أَنَّهُ أَنْفَذَ الْحُكْمَ بِذَلِكَ وَجَبَ عَلَى الْمَكْتُوبِ إلَيْهِ أَنْ يُنَفِّذَهُ، لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ لَهُ نَقْضُ قَضَاءِ غَيْرِهِ إذَا وَافَقَ قَوْلًا لِلْعُلَمَاءِ وَلِأَنَّ الْمَحْكُومَ لَهُ قَدْ ثَبَتَ لَهُ مَا حُكِمَ لَهُ بِهِ، وَلَا يَصِلُ إلَيْهِ إلَّا بِقَاضٍ، وَفِي تَوَقُّفِ الْمَكْتُوبِ عَنْ تَنْفِيذِ مَا كُتِبَ بِهِ إلَيْهِ إبْطَالُ حَقٍّ حُكِمَ لَهُ بِهِ مَنْ لَهُ نَظَرٌ وَسُلْطَانٌ، قَالَ: وَإِنْ كَانَ إنَّمَا كَتَبَ بِمَا ثَبَتَ عِنْدَهُ وَلَمْ يَحْكُمْ فَلَا خِلَافَ فِي الْمَذْهَبِ أَنَّ الْمَكْتُوبَ إلَيْهِ لَا يَعْمَلُ بِرَأْيِ الَّذِي كَتَبَ.
تنبيه:
وَتَفْهِيمُ الْخِلَافِ عَنْ هَذَا يُؤْخَذُ مِنْهُ أَنَّ الثُّبُوتَ لَيْسَ بِحُكْمٍ كَمَا نَقَلَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ السُّبْكِيُّ: أَنَّهُ الصَّحِيحُ مِنْ مَذْهَبِ مَالِكٍ وَقَدْ تَقَدَّمَ ذَلِكَ.
فرع:
قَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ حَبِيبٍ: قَالَ أَصْبَغُ فِي الْقَاضِي يَثْبُتُ عِنْدَهُ لِرَجُلٍ حَقٌّ لَهُ عَلَى غَرِيمٍ غَائِبٍ وَصَفَهُ عَبْدٌ لَهُ وَلَا يَدْرِي بِأَيِّ الْآفَاقِ هُمَا، كَتَبَ لَهُ الْوَالِي إلَى أَيِّ قَاضٍ يَلْقَاهُ مِنْ عَمَلِهِ أَنْ يَسْأَلَهُ ذَلِكَ، وَأَرَى وَاجِبًا عَلَى مَنْ دُفِعَ إلَيْهِ الْكِتَابُ مِنْ الْقُضَاةِ أَنْ يَنْظُرَ لَهُ فِيهِ إذَا أَثْبَتَهُ عِنْدَهُ بِبَيِّنَةٍ، عَلَى أَنَّهُ كِتَابُ الْقَاضِي الَّذِي كَتَبَ إلَيْهِ وَصُورَةُ كِتَابِهِ، أَنْ يَكْتُبَ مِنْ فُلَانِ بْنِ فُلَانٍ إلَى مَنْ وَرَدَ عَلَيْهِ كِتَابِي هَذَا مِنْ الْقُضَاةِ وَالْحُكَّامِ.
تنبيه:
ذُكِرَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنَّهُ يَكْتُبُ إلَى أَيِّ قَاضٍ لَقِيَهُ مِنْ عَمَلِهِ. وَفِي الْبَيَانِ أَنْ يَكْتُبَ لَهُ إلَى قُضَاةِ الْآفَاقِ كَانَ بِأَيِّ بَلَدٍ كَانَ، وَأَنَّهُ حَقٌّ عَلَى كُلِّ مَنْ وَرَدَ عَلَيْهِ ذَلِكَ الْكِتَابُ أَنْ يَعْمَلَ بِهِ بِلَا خِلَافٍ، كَمَا أَنَّهُ لَوْ كَتَبَ إلَى قَاضِي مَوْضِعٍ يُوجَدُ قَدْ مَاتَ أَوْ عُزِلَ، وَوَلِيَ غَيْرُهُ إنْفَاذَ ذَلِكَ الْكِتَابِ وَالْعَمَلَ بِهِ وَهِيَ فِي الْبَيَانِ فِي بَابِ الْأَقْضِيَةِ أَبْسَطُ مِنْ هَذَا.
فرع:
وَرَوَى أَصْبَغُ عَنْ ابْنِ الْقَاسِمِ: فِي الرَّجُلِ يَثْبُتُ حَقُّهُ عَلَى رَجُلٍ عِنْدَ قَاضٍ وَيَكْتُبُ فِيهِ إلَى الْقَاضِي الَّذِي ذَلِكَ فِي بَلَدِهِ، فَيَلْقَاهُ فِي غَيْرِ بَلَدِ ذَلِكَ الْقَاضِي، فَيَرْفَعُ ذَلِكَ الْكِتَابَ إلَى قَاضِي ذَلِكَ الْبَلَدِ الَّذِي وَجَدَ خَصْمَهُ فِيهِ، فَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: لَا يُنْظَرُ لَهُ فِيهِ، لِأَنَّ ذَلِكَ الرَّجُلَ لَا يُعْرَفُ بِذَلِكَ الْبَلَدِ، وَلَوْ أَثْبَتَ الْمُدَّعِي بَيِّنَةً فِي ذَلِكَ الْبَلَدِ أَنَّهُ الرَّجُلُ الَّذِي حَكَمَ عَلَيْهِ الْقَاضِي الْكَاتِبُ أَنْفَذَهُ هَذَا الْقَاضِي، وَإِذَا كَانَ فِي كِتَابِ الْقَاضِي أَنَّهُ ثَبَتَ الْحَقُّ عِنْدَهُ بِشَهَادَةِ شُهُودٍ قَبِلَ شَهَادَتَهُمْ وَأَجَازَهَا، وَلَمْ يُصَرِّحْ عَنْهُمْ كَانَ نَفَاذًا جَائِزًا، وَلَزِمَ الْقَاضِيَ الْمَكْتُوبَ إلَيْهِ أَنْ يَقْضِيَ بِمَا كُتِبَ إلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ، إذَا ثَبَتَ عِنْدَهُ أَنَّهُ كِتَابُ الْقَاضِي بِشَاهِدَيْنِ يَعْرِفَانِهِ، أَنَّ الْقَاضِيَ أَشْهَدَهُمَا عَلَى كِتَابِهِ وَخَاتَمِهِ وَأَسْلَمَهُ إلَيْهِمَا، وَيُعَيِّنَا لَهُ الْقِيَامَ عِنْدَهُ مِنْ التَّمَامِ أَنْ يَقْبِضَاهُ هُمَا مِنْ الْقَاضِي الْكَاتِبِ، وَلَا يَكُونُ عِنْدَ الْمَحْكُومِ لَهُ، فَإِنْ سَأَلَ الْمَقْضِيُّ عَلَيْهِ مِنْ الْقَاضِي الْمَكْتُوبِ إلَيْهِ الْإِعْذَارَ إلَيْهِ فِي الشُّهُودِ الَّذِينَ ثَبَتَ بِهِمْ الْأَصْلُ لَمْ يُجِبْهُ لِذَلِكَ وَيُعَذَّرُ إلَيْهِ فِي الشُّهُودِ الَّذِينَ ثَبَتَ بِهِمْ الْكِتَابُ فَقَطْ، وَيَقُولُ لَهُ: اذْهَبْ إلَى الْقَاضِي الْكَاتِبِ يُعَرِّفُك بِهِمْ، وَيُبِيحُ لَك الدَّفْعَ فِيهِمْ مِنْ الْمُتَيْطِيَّةِ.
فرع:
وَإِذَا وَرَدَ كِتَابُ قَاضٍ إلَى قَاضٍ، وَعَلِمَ الْقَاضِي الْمَكْتُوبُ إلَيْهِ أَنَّ الْقَاضِيَ الْكَاتِبَ أَهْلٌ لِلْقَضَاءِ فِي عِلْمِهِ وَفَهْمِهِ وَمَعْرِفَتِهِ بِأَحْكَامِ مَنْ مَضَى قَبِلَ كِتَابَهُ، وَوَجَبَ عَلَيْهِ قَبُولُ مَا يَرِدُ عَلَيْهِ عَنْ ذَلِكَ الْحَاكِمِ فِي الْمَالِ وَالْقِصَاصِ وَالْعُقُوبَاتِ وَغَيْرِهَا، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ أَهْلٍ لِلْقَضَاءِ لَمْ يَقْبَلْهُ، وَإِنْ كَانَ لَا يَعْرِفُهُ بِعَدَالَةٍ وَلَا سَخَطِهِ وَجَهْلِهِ، فَإِنْ كَانَ مِنْ قُضَاةِ الْأَمْصَارِ الْجَامِعَةِ مِثْلَ: الْمَدِينَةِ وَمَكَّةَ وَالْعِرَاقِ وَالشَّامِ وَمِصْرَ وَالْقَيْرَوَانِ وَالْأَنْدَلُسِ، أَنْفَذَ مَا جَاءَهُ مِنْ عِنْدَهُ، لِأَنَّ مَحْمَلَ هَؤُلَاءِ عَلَى الصِّحَّةِ وَالْعَدَالَةِ حَتَّى يُعْرَفَ خِلَافُ ذَلِكَ، وَأَمَّا غَيْرُهُمْ مِنْ قُضَاةِ الْكُوَرِ الصِّغَارِ، فَلَا يُنَفِّذُ مَا جَاءَهُ عَنْهُمْ حَتَّى يَسْأَلَ عَنْهُمْ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ الْعَدْلِ عِنْدَهُ مِمَّنْ يَعْرِفُهُمْ.
وَقَالَ سَحْنُونٌ: إنَّ قَاضِيَ تُونُسَ لَا يَجُوزُ كِتَابُهُ إلَى قَاضِي مِصْرَ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ، إلَّا أَنْ يَكْتُبَ قَاضِي تُونُسَ إلَى قَاضِي الْقَيْرَوَانِ بِمَا ثَبَتَ عِنْدَهُ، ثُمَّ يَكْتُبُ قَاضِي الْقَيْرَوَانِ إلَى قَاضِي مِصْرَ.
تنبيه:
عَلَى أَمْرٍ خَفِيٍّ: وَهُوَ الْفَرْقُ بَيْنَ كِتَابِ الْقَاضِي إلَى الْقَاضِي عَلَى مَعْنَى الْمُخَاطَبَةِ وَكِتَابِهِ إلَيْهِ عَلَى مَعْنَى الشَّهَادَةِ.
وَفِي الْبَيَانِ فِي سَمَاعِ أَصْبَغَ مِنْ كِتَابِ الْأَقْضِيَةِ فِي رَسْمِ وَمِنْ كِتَابِ الْقَضَاءِ الْمَحْضِ، إذَا تَخَاصَمَ رَجُلَانِ عِنْدَ الْقَاضِي فَكَانَ مِنْ حُجَّةِ أَحَدِهِمَا أَنْ قَالَ: قَدْ حَكَمَ لِي قَاضِي بَلَدِ كَذَا بِكَذَا وَكَذَا، وَثَبَتَ لِي ذَلِكَ عِنْدَ قَاضِي بَلَدِ كَذَا، فَيَسْأَلُهُ الْقَاضِي الْبَيِّنَةَ عَلَى ذَلِكَ، فَيَذْهَبُ إلَيْهِ فَيَأْتِيهِ مِنْ عِنْدِهِ بِكِتَابٍ إنِّي قَدْ حَكَمْت لِفُلَانٍ عَلَى فُلَانٍ بِكَذَا وَكَذَا، فَهَذَا لَا يَجُوزُ مِنْ أَجْلِ أَنَّهُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ شَاهِدٌ، وَلَوْ أَتَى الرَّجُلُ ابْتِدَاءً إلَى الْقَاضِي فَقَالَ: خَاطِبْ لِي قَاضِيَ بَلَدِ كَذَا بِمَا ثَبَتَ لِي عِنْدَك عَلَى فُلَانٍ، أَوْ بِمَا حَكَمْت لِي بِهِ عَلَيْهِ فَخَاطَبَهُ بِذَلِكَ جَازَ مِنْ أَجْلِ أَنَّهُ مُخْبِرٌ وَلَيْسَ بِشَاهِدٍ، وَتَكَرَّرَ ذَلِكَ فِي أَوَّلِ سَمَاعِ ابْنِ الْقَاسِمِ مِنْ كِتَابِ الْأَقْضِيَةِ فَانْظُرْهُ.
فرع:
وَفِي كِتَابِ الرُّعَيْنِيِّ قَالَ: وَأَصْحَابُ مَالِكٍ وَابْنِ الْقَاسِمِ يُجِيزُونَ كِتَابَ الْقَاضِي إلَى الْقَاضِي، عَلَى الصِّفَةِ وَالْحِلْيَةِ فِي الْحُرِّ وَالْعَبْدِ وَالدَّوَابِّ وَالثِّيَابِ وَالدَّارِ وَالْأَرْضِينَ، كَانَتْ بِيَدِ مَالِكٍ أَوْ لَمْ تَكُنْ إذَا شَهِدَ شَاهِدَانِ: أَنَّهُ كِتَابُ الْقَاضِي فُلَانٍ، قَاضِي بَلْدَةِ كَذَا إلَّا ابْنَ كِنَانَةَ، فَإِنَّهُ لَا يُجِيزُ ذَلِكَ فِيمَا هُوَ فِي يَدِ أَحَدٍ يَدَّعِيهِ مِلْكًا لَهُ، وَيَقُولُ عَلَى الْمُدَّعِي أَنْ تَحْمِلَ الشُّهُودَ إلَى الْمَوْضِعِ الَّذِي بِهِ الشَّيْءُ الْمُدَّعَى فِيهِ، حَتَّى تَشْهَدَ الْبَيِّنَةُ عَلَى مُعَايَنَةِ ذَلِكَ.
فرع:
وَفِي مُخْتَصَرِ الْوَاضِحَةِ قَالَ ابْنُ حَبِيبٍ: وَأَخْبَرَنِي ابْنُ الْمَاجِشُونِ فِي الْقَاضِي يَكْتُبُ لِلرَّجُلِ كِتَابًا إلَى قَاضٍ غَيْرِهِ بِحَقٍّ ثَبَتَ لَهُ، أَوْ حَقٍّ طَلَبَهُ فَمَاتَ أَحَدُهُمَا قَبْلَ وُصُولِ الْكِتَابِ إلَيْهِ، قَالَ: لَا يَضُرُّهُ مَوْتُ مَنْ مَاتَ مِنْهُمَا، وَعَلَى الْمَكْتُوبِ إلَيْهِ إذَا ثَبَتَ عِنْدَهُ أَنْ يُنَفِّذَهُ وَيَعْمَلَ بِمَا فِيهِ، وَإِنْ مَاتَ الْمَكْتُوبُ إلَيْهِ أَوْ عُزِلَ فَحَقٌّ عَلَى مَنْ وَلِيَ مَكَانَهُ إنْفَاذُهُ وَالْعَمَلُ بِهِ كَمَا لَوْ كَانَ هُوَ الْمَكْتُوبُ إلَيْهِ بِعَيْنِهِ، لِأَنَّ الْمُرَادَ فِي هَذَا كُلِّهِ السُّلْطَانُ الَّذِي إذَا زَالَ مِنْ وَاحِدٍ كَانَ فِي آخَرَ.
وَقَالَ مُطَرِّفٌ عَنْ مَالِكٍ مِثْلَهُ، وَقَالَ لِي ابْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ وَأَصْبَغُ مِثْلَهُ وَقَالَا لِي: هُوَ قَوْلُ أَصْحَابِنَا كُلِّهِمْ.
تنبيه:
مَا ذَكَرَهُ فِي الْوَاضِحَةِ مِنْ قَبُولِ كُتُبِ الْقُضَاةِ سَوَاءٌ مَاتَ الْكَاتِبُ أَوْ عُزِلَ قَبْلَ وُصُولِ كِتَابِهِ، وَكَذَلِكَ إنْ مَاتَ الْمَكْتُوبُ إلَيْهِ أَوْ عُزِلَ قَبْلَ وُصُولِ الْكِتَابِ إلَيْهِ، مُقَيَّدٌ بِمَا إذَا أَشْهَدَ الْقَاضِي الْكَاتِبُ عَلَى كِتَابِهِ، لِأَنَّ إشْهَادَهُ عَلَيْهِ كَإِشْهَادِهِ عَلَى حُكْمٍ نَفَذَ، وَأَمَّا عَلَى مَا الْتَزَمَهُ الْحُكَّامُ وَعَمِلُوا بِهِ فِي قُطْرِ الْمَغْرِبِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ مِنْ الِاجْتِزَاءِ بِمَعْرِفَةِ خَطِّ الْقَاضِي الْكَاتِبِ وَالْعَمَلِ بِذَلِكَ دُونَ إشْهَادٍ مِنْ الْقَاضِي عَلَى كِتَابِهِ، فَلَا يَصِحُّ قَبُولُهُ وَلَا الْعَمَلُ بِهِ إلَّا أَنْ يَصِلَ، وَالْقَاضِي الَّذِي كَتَبَ عَلَى حَالِ وِلَايَتِهِ تِلْكَ، فَإِنْ مَاتَ أَوْ عُزِلَ قَبْلَ وُصُولِ كِتَابِهِ وَثُبُوتِهِ عِنْدَ مَنْ يَقْبَلُهُ، لَمْ يَصِحَّ الْعَمَلُ بِهِ بِوَجْهٍ مِنْ الْوُجُوهِ، قَالَ ابْنُ الْمُنَاصِفِ وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْحَالَتَيْنِ: أَنَّ الْكِتَابَ الْمَشْهُودَ عَلَيْهِ كَالْإِشْهَادِ عَلَى حُكْمٍ مَضَى فَيَجِبُ إنْفَاذُهُ، وَأَمَّا الْآخَرُ عَلَى مَرَاتِبِهِ إذْ ثَبَتَ أَنْ يُقَامَ مَقَامَ قَوْلِ الْقَاضِي نَفْسِهِ ثَبَتَ عِنْدِي كَذَا، لِأَنَّ ذَلِكَ هُوَ مَدْلُولُ الْكِتَابِ، وَهَذَا إنَّمَا يُقْبَلُ مِنْهُ مَا دَامَ وَالِيًا، فَإِذَا عُزِلَ لَمْ يُقْبَلْ مِنْهُ عَلَى حَالٍ، إلَّا أَنْ يَكُونَ عَلَى ذَلِكَ إشْهَادٌ، وَفِي حَالِ الْوِلَايَةِ فَيَجُوزُ عَمَلًا بِالشَّهَادَةِ.
وَفِي الْمُدَوَّنَةِ أَنَّ الْقَاضِيَ إذَا عُزِلَ أَوْ مَاتَ وَفِي دِيوَانِهِ شَهَادَةُ الْبَيِّنَاتِ وَعَدَالَتِهَا، لَمْ يُنْظَرْ فِيهِ وَلَا يُجِيزُهُ مَنْ بَعْدَهُ، وَإِنْ قَالَ الْقَاضِي الْمَعْزُولُ مَا فِي دِيوَانِي قَدْ شَهِدَتْ بِهِ الْبَيِّنَةُ عِنْدِي، أَوْ قَالَ كُنْت حَكَمْت بِكَذَا لَمْ يُقْبَلْ ذَلِكَ مِنْهُ، فَكَذَلِكَ كِتَابُ الْقَاضِي الْمَعْزُولِ، قَالَ ابْنُ الْمُنَاصِفِ: وَخَالَفَ فِي ذَلِكَ جَمَاعَةٌ مِنْ الطَّلَبَةِ وَأَجَازُوا ذَلِكَ وَهُوَ غَلَطٌ وَخُرُوجٌ عَنْ الْقَاعِدَةِ فِي ذَلِكَ.
فرع:
وَقَالَ ابْنُ حَبِيبٍ قَالَ لِي ابْنُ الْمَاجِشُونِ: وَإِذَا كَتَبَ قَاضٍ إلَى قَاضٍ بِعَدَالَةِ شَاهِدٍ قَدْ شَهِدَ عِنْدَ الْمَكْتُوبِ إلَيْهِ، فَإِنْ كَانَ الشَّاهِدُ مَنْ عَمَلِ الْقَاضِي الْكَاتِبِ فَذَلِكَ جَائِزٌ وَتَامٌّ، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ الْقَاضِي الْمَشْهُودُ عِنْدَهُ هُوَ الَّذِي كَتَبَ إلَى الْقَاضِي الْكَاتِبِ يَسْأَلُهُ عَنْهُ أَوْ سَأَلَهُ عَنْهُ مُشَافَهَةً فَذَلِكَ جَائِزٌ أَيْضًا، وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ الْمَشْهُودُ لَهُ لِلْقَاضِي الْمَشْهُودِ عِنْدَهُ سَلْ عَنْهُ قَاضِيَ فُلَانَةَ، أَوْ اُكْتُبْ إلَى قَاضِي فُلَانَةَ فَاسْأَلْهُ عَنْهُ فَذَلِكَ كُلُّهُ سَوَاءٌ.
وَقَالَ لِي ابْنُ الْمَاجِشُونِ: وَلَوْ لَمْ يَكُنْ الشَّاهِدُ مِنْ عَمَلِ الْقَاضِي الْكَاتِبِ كَانَ فِيهِ كَغَيْرِهِ مِنْ النَّاسِ، إنْ كَانَ الْقَاضِي الَّذِي شَهِدَ عِنْدَهُ فَهُوَ الَّذِي ابْتَدَأَ السُّؤَالَ عَنْهُ مُشَافَهَةً، وَكَتَبَ إلَيْهِ يَسْأَلُهُ فَذَلِكَ جَائِزٌ وَيَكْفِي وَحْدَهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُبْتَدَأُ السُّؤَالِ مِنْ عِنْدِ الْقَاضِي الْمَشْهُودِ عِنْدَهُ، وَكَانَ الْقَاضِي الَّذِي عَدَّلَهُ هُوَ الَّذِي أَخْبَرَ الْمَشْهُودَ عِنْدَهُ بِعَدَالَتِهِ وَكَتَبَ إلَيْهِ بِذَلِكَ، فَهُوَ بِمَقَامِ مُعَدِّلٍ وَاحِدٍ يُلْتَمَسُ آخَرُ فَيَتِمُّ تَعْدِيلُهُ أَوْ لَا يُوجَدُ غَيْرُهُ فَلَا يَتِمُّ، ثُمَّ قَالَ لِي: أَصْلُ هَذَا أَنَّ كُلَّ شَيْءٍ لَا يَبْتَدِئُهُ الْقَاضِي عَلَى الظَّاهِرِ أَوْ فِي الْبَاطِنِ مِنْ عَدَالَةٍ، أَوْ جُرْحَةٍ أَوْ إخْبَارٍ عَنْ شَيْءٍ، يَلْتَمِسُ الْقَاضِي مَعْرِفَتَهُ فَلَا يَتِمُّ ذَلِكَ إلَّا بِشَاهِدَيْنِ عَدْلَيْنِ، وَكُلُّ شَيْءٍ يَبْتَدِئُ الْقَاضِي السُّؤَالَ عَنْهُ لِنَفْسِهِ مِنْ هَذَا كُلِّهِ فِي الظَّاهِرِ أَوْ الْبَاطِنِ، اكْتَفَى فِيهِ بِالْوَاحِدِ أَوْ أَمِينِهِ وَرَسُولُهُ مِثْلُهُ فِي ذَلِكَ.
تنبيه:
قَالَ فَضْلُ بْنُ سَلَمَةَ اُنْظُرْ فِي قَوْلِهِ: أَوْ كَتَبَ إلَيْهِ يُعْلِمُهُ بِعَدَالَتِهِ، وَلَيْسَ الشَّاهِدُ مِنْ عَمَلِ الْقَاضِي الْكَاتِبِ فَهُوَ بِمَقَامِ مُعَدَّلٍ يُلْتَمَسُ مَعَهُ آخَرُ، وَانْظُرْ كَيْفَ أَجَازَ بِشَهَادَةِ الرَّجُلِ بِكِتَابٍ دُونَ الْمُشَافَهَةِ وَدُونَ الْإِشْهَادِ عَلَيْهِ، وَانْظُرْ فِي هَذَا وَفِي قَوْلِهِ قَبْلَ هَذَا، كَيْفَ جَازَ لِلْقَاضِي الَّذِي هُوَ مِنْ عَمَلِهِ أَنْ يَبْتَدِئَهُ بِالْكِتَابِ، فَيَجُوزُ تَعْدِيلُهُ وَحْدَهُ.
تنبيه:
وَلَيْسَ مِنْ هَذَا الْبَابِ مَا يُوجَدُ فِي دِيوَانِ الْقَاضِي، فَإِذَا وُجِدَ فِي دِيوَانِ الْقَاضِي أَنَّ عِنْدَ فُلَانِ بْنِ فُلَانٍ مِنْ الْأَمْوَالِ الَّتِي عِنْدَنَا كَذَا، أَوْ قَالَ مِنْ مَالِ الْيَتِيمِ فُلَانٌ كَذَا وَكَذَا، وَأَنْكَرَ الْأَمِينُ أَنْ يَكُونَ عِنْدَهُ مِمَّا ذَكَرَ الْقَاضِي فِي دِيوَانِهِ شَيْءٌ حَلَفَ وَبَرِئَ، وَكَانَ الْقَاضِي لِذَلِكَ الْمَالِ ضَامِنًا حَيًّا كَانَ أَوْ مَيِّتًا، لِأَنَّهُ قَدْ تَعَدَّى وَعَرَّضَ الْمَالَ لِلتَّلَفِ إذَا لَمْ يُشْهِدْ عَلَيْهِ، وَلَيْسَ يُؤْخَذُ الْأُمَنَاءُ بِمَا وُجِدَ فِي دِيوَانِ الْقَضَاءِ أَنَّهُ عِنْدَهُمْ إلَّا بِإِقْرَارِهِمْ بِذَلِكَ عِنْدَ الْإِشْهَادِ بِهِ مِنْ مُخْتَصَرِ الْوَاضِحَةِ.

.فَصْلٌ وَلَا يُشْتَرَطُ فِي الْعَمَلِ بِكِتَابِ الْقَاضِي أَنْ يَأْذَنَ الْإِمَامُ:

لِلْقَاضِي فِي ذَلِكَ، لِأَنَّ ذَلِكَ فِي ضِمْنِ وِلَايَتِهِ إلَّا أَنْ يَنْهَاهُ عَنْ الْكُتُبِ فَلَا يَكُونُ لَهُ ذَلِكَ، وَاشْتَرَطَ ذَلِكَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ خَارِجَ الْمَذْهَبِ، وَكَذَلِكَ لَمْ يُفَرِّقْ مَالِكٌ بَيْنَ الْمَوَاضِعِ الْقَرِيبَةِ وَالْبَعِيدَةِ وَلَا بَيْنَ سَائِرِ الْحُقُوقِ، فَأَبَاحَ ذَلِكَ فِي الْحُقُوقِ وَالْأَحْكَامِ كُلِّهَا.

.فَصْلٌ مَنْ وَلَّاهُ أَحَدٌ مِنْ قُضَاةِ الْإِمَامِ مُسْتَعِينًا بِهِ فِي الْجِهَاتِ:

فَصْلٌ: وَأَمَّا مَنْ وَلَّاهُ أَحَدٌ مِنْ قُضَاةِ الْإِمَامِ مُسْتَعِينًا بِهِ فِي الْجِهَاتِ فَوَاجِبٌ عَلَى الْمُسْتَخْلَفِينَ قَبُولُ كُتُبِ مَنْ وَلَّاهُمْ وَاسْتَخْلَفَهُمْ، وَكَذَلِكَ يَجِبُ عَلَى مَنْ وَلَّاهُمْ قَبُولُ كُتُبِهِمْ، وَهَلْ يَجُوزُ لِلْمُسْتَخْلِفَيْنِ بِفَتْحِ اللَّامِ التَّخَاطُبُ فِيمَا بَيْنَهُمْ؟ وَأَنْ يَقْبَلُوا كِتَابَ قَاضِي بَلَدٍ غَيْرِ مَنْ وَلَّاهُمْ، وَيَقْبَلُ خِطَابَهُمْ مَنْ لَمْ يُوَلِّهِمْ، أَمَّا تَخَاطُبُهُمْ فِيمَا بَيْنَهُمْ فَيَنْبَغِي أَنْ يَعُودَ الْحُكْمُ فِيهِ إلَى إذْنِ الَّذِي وَلَّاهُمْ، فَإِنْ أَبَاحَهُ لَهُمْ جَازَ، وَإِنْ قَصَرَهُمْ فِي ذَلِكَ عَلَى مُخَاطَبَتِهِ فَقَطْ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ غَيْرُ ذَلِكَ، لِأَنَّ نَظَرَهُمْ مَوْقُوفٌ عَلَى نَظَرِهِ، وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُكَاتِبَهُمْ قَاضِي بَلَدٍ غَيْرِ مَنْ وَلَّاهُمْ، وَلِيَكُنْ كِتَابُهُ إلَى الَّذِي وَلَّاهُمْ وَاَلَّذِي وَلَّاهُمْ هُوَ الَّذِي يَكْتُبُ إنْ كَانَ الْحَقُّ قِبَلَهُمْ، وَكَذَلِكَ لَا يَنْبَغِي أَنْ يَقْبَلَ مِنْهُمْ أَحَدٌ مِنْ وُلَاةِ الْأَمْصَارِ غَيْرَ مَنْ وَلَّاهُمْ كِتَابًا وَلَا حُكْمًا فِي شَيْءٍ، إلَّا أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ كُلُّهُ بِإِذْنِ الَّذِي وَلَّاهُمْ وَإِمْضَائِهِ ذَلِكَ مِنْ قِبَلِهِمْ، وَأَمَّا مَنْ كَانَ اسْتِخْلَافُهُ بِإِذْنِ الْإِمَامِ فَرُتْبَتُهُمْ فِي ذَلِكَ كَرُتْبَةِ الَّذِي وَلَّاهُمْ سَوَاءٌ مِنْ التَّنْبِيهِ.

.الْبَابُ الثَّامِنُ وَالْأَرْبَعُونَ فِي الْقَضَاءِ بِكِتَابِ الْقَاضِي إلَى أَمِينِهِ:

وَكِتَابِ أَمِينِ الْقَاضِي إلَيْهِ وَفِي مُخْتَصَرِ الْوَاضِحَةِ قَالَ ابْنُ حَبِيبٍ قَالَ لِي مُطَرِّفٌ وَابْنُ الْمَاجِشُونِ وَأَصْبَغُ: وَلَا يَنْبَغِي لِلْقَاضِي إذَا شَهِدَ عِنْدَهُ مَنْ لَا يُعْرَفُ مِنْ غَيْرِ أَهْلِ بَلَدِهِ، أَنْ يَكْتُبَ فِي تَعْدِيلِهِ إلَّا إلَى قَاضٍ رَضِيَ وَيَثِقُ بِاحْتِيَاطِهِ فِيمَا حَمَلَ مِنْ أَمْرِ مَنْ وَلِيَ النَّظَرَ لَهُ، فَإِنْ لَمْ يَثِقْ بِهِ فَلَا يَكْتُبْ عَلَيْهِ فِي تَعْدِيلِ مَنْ شَهِدَ عِنْدَهُ، وَلَا فِي حُكْمٍ يُفَوَّضُ إلَيْهِ أَوْ يُنَفِّذُهُ لَهُ وَلَا فِي شَيْءٍ مِنْ أُمُورِ النَّاسِ، وَلَكِنْ إنْ كَانَ فِي الْكُورَةِ رِجَالٌ تُرْضَى حَالُهُمْ وَيُؤْمَنُ مِنْ غَفْلَتِهِمْ كُتِبَ إلَيْهِمْ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ رِجَالٌ فَرَجُلٌ وَاحِدٌ عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ يُكْتَبُ إلَيْهِ، فَيَسْأَلُهُ عَنْ الشَّاهِدِ عِنْدَهُ وَعَمَّا أَحَبَّ مِنْ أُمُورِهِ، ثُمَّ يَعْمَلُ عَلَى مَا يَأْتِيهِ مِنْ عِنْدَهُ أَوْ مِنْ عِنْدِهِمْ إنْ كَانُوا جَمَاعَةً، وَلْيَكْتَفِ فِي ذَلِكَ بِرَسُولِهِ الَّذِي يَأْتِيهِ بِالْكِتَابِ إذَا صَحَّ عِنْدَهُ وَكَانَ مَأْمُونًا، وَإِنْ كَانَ الْخَصْمُ هُوَ الَّذِي سَارَ بِالْكِتَابِ فَلَا يَقْبَلُهُ حَتَّى يَأْتِيَهُ بِشَاهِدَيْنِ يَشْهَدَانِ: أَنَّهُ كِتَابُ الْقَاضِي أَوْ الْأَمِينِ أَوْ الْأُمَنَاءِ الَّذِينَ كَتَبَ إلَيْهِمْ، وَسُئِلَ عَنْ ذَلِكَ ابْنُ الْقَاسِمِ فَقَالَ مِثْلَهُ.
فرع:
وَلَوْ كَانَ لِلْقَاضِي فِي نَوَاحِي عَمَلِهِ رِجَالٌ يَكْتُبُ إلَيْهِمْ فِي أُمُورِ الرَّعِيَّةِ بِتَنْفِيذِ الْأَقْضِيَةِ وَأَشْبَاهِ ذَلِكَ، فَلَا بَأْسَ أَنْ يَقْبَلَهُ بِالشَّاهِدِ الْوَاحِدِ وَمِنْ الثِّقَةِ يَحْمِلُهُ إلَيْهِ، وَبِمَعْرِفَةِ الْخَاتَمِ لِتَقَرُّبِ الْمَسَافَةِ وَاسْتِدْرَاكِ مَا يُخْشَى مِنْ التَّعَدِّي، وَأَمَّا إذَا مَا اعْتَرَفَ الْعُمَّالُ فلابد مِنْ الْبَيِّنَةِ.
فرع:
قَالُوا وَمَا كَتَبَ بِهِ الْقَاضِي إلَى قَاضِي الْجَمَاعَةِ أَوْ الْفَقِيهِ يَسْأَلُهُ عَنْ أَمْرٍ وَيَسْتَرْشِدُهُ فِيهِ مِمَّا يَرِدُ عَلَيْهِ مِنْ الْحُكُومَةِ بَيْنَ الْخُصُومِ، فَإِنْ أَتَاهُ بِرَسُولِهِ أَوْ مَنْ يَثِقُ بِهِ أَوْ عَرَفَ خَطَّهُ وَكِتَابَهُ إلَيْهِ فَلْيَقْبَلْهُ، إلَّا أَنْ يَأْتِيَهُ بِهِ الْخَصْمُ الَّذِي الْمَسْأَلَةُ لَهُ، فَلَا نَرَى أَنْ يَقْبَلَهُ إلَّا بِشَاهِدَيْ عَدْلٍ.

.الْبَابُ التَّاسِعُ وَالْأَرْبَعُونَ فِي الْقَضَاءِ بِمُشَافَهَةِ الْقَاضِي لِلْقَاضِي:

وَحُكْمُ الْحَاكِمِ بِمَا شَافَهَهُ بِهِ حَاكِمٌ آخَرُ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ الْقَاضِيَانِ بِبَلَدٍ وَاحِدٍ، فَيُشَافِهَ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ بِمَا ثَبَتَ عِنْدَهُ مِنْ شَهَادَةٍ أَوْ حُكْمٍ، فَيَحْكُمَ الْآخَرُ بِذَلِكَ أَوْ يُنَفِّذَ الْحُكْمَ، قَالَ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ: إلَّا أَنَّ هَذَا الْوَجْهَ قَلِيلُ الْجَدْوَى، لِأَنَّهُ إذَا اتَّحَدَ الْبَلَدُ تَمَّمَ الْأَوَّلُ بِنَفْسِهِ مَا أَرَادَ إنْهَاءَهُ إلَى الثَّانِي، اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يَعْرِضَ الْأَوَّلَ عَارِضٌ مِنْ مَرَضٍ وَشَبَهِهِ مِمَّا يَمْنَعُهُ مِنْ التَّمَامِ.
الثَّانِي: أَنْ يَمْتَازَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي طَرَفِ عَمَلِهِ، فَإِذَا اجْتَمَعَا كُلُّ وَاحِدٍ فِي طَرَفِ عَمَلِهِ فَأَنْهَى أَحَدُهُمَا إلَى الْآخَرِ مُشَافَهَةً مَا يُرِيدُ إنْهَاءَهُ إلَيْهِ، فَيَلْزَمُ الْآخَرَ الْعَمَلُ بِمُقْتَضَاهُ وَذَلِكَ أَقْوَى مِنْ الشَّهَادَةِ، وَلَمْ يَعُدُّوهُ مِنْ حُكْمِ الْقَاضِي بِعِلْمِهِ.
فرع:
فَلَوْ كَانَ الْمَنْهِيُّ فِي غَيْرِ الْجِهَةِ الَّتِي هُوَ وَالٍ عَلَيْهَا، فَأَنْهَى إلَى قَاضِيهَا شَيْئًا لَمْ يَسْمَعْ قَاضِي الْجِهَةِ؛ لِأَنَّهُ مَعْزُولٌ فِي هَذِهِ الْجِهَةِ.
وَفِي أَحْكَامِ ابْنِ سَهْلٍ قَالَ الْقَاضِي أَبُو الْأَصْبَغِ بْنُ سَهْلٍ: وَرَأَيْت فُقَهَاءَ طُلَيْطِلَة يُجِيزُونَ إخْبَارَ الْقَاضِي الْمُخْتَلِّ بِذَلِكَ الْبَلَدِ قَاضِيَ الْبَلَدِ بِهِ، وَيُنَفِّذُ وَيَرَوْنَهُ كَمُخَاطَبَتِهِ إيَّاهُ.
فرع:
قَالَ ابْنُ سَهْلٍ: وَفِي كِتَابِ مِنْهَاجِ الْقَضَاءِ لِابْنِ حَبِيبٍ وَسَأَلْت أَصْبَغَ عَنْ الْقَاضِي يَبْعَثُهُ الْإِمَامُ إلَى بَعْضِ الْأَمْصَارِ فِي شَيْءٍ نَابَهُ مِنْ أُمُورِ النَّاسِ، فَيَأْتِيهِ رَجُلٌ فِي ذَلِكَ الْمِصْرِ بِبَيِّنَةٍ وَيَسْأَلُهُ أَنْ يَسْمَعَ مِنْهُ وَيَذْكُرُ أَنَّ لَهُ حَقًّا قِبَلَ رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ عَمَلِهِ وَهُوَ غَائِبٌ بِعَمَلِهِ، وَيَذْكُرُ أَنَّ شُهُودَهُ بِهَذَا الْمِصْرِ، وَيَسْأَلُهُ أَنْ يَسْمَعَ مِنْهُمْ أَيُجِيبُهُ إلَى ذَلِكَ وَلَا يَرَى بِهِ بَأْسًا، قَالَ: نَعَمْ يَسْمَعُ مِنْ بَيِّنَتِهِ وَيَرْفَعُ شَهَادَتَهُمْ وَيَسْأَلُهُ تَعْدِيلَهُمْ وَإِنْ شَاءَ سَأَلَهُ قَاضِي ذَلِكَ الْمِصْرِ عَنْهُمْ، فَإِنْ أَخْبَرَهُ عَنْهُمْ بِعَدَالَةٍ اجْتَزَى بِذَلِكَ لِأَنَّهُمْ مِنْ أَهْلِ عَمَلِهِ.
فرع:
وَلَوْ اجْتَمَعَ الْخَصْمَانِ عِنْدَهُ بِذَلِكَ الْمِصْرِ فَأَرَادَا الْمُخَاصَمَةَ عِنْدَهُ وَالشَّيْءُ الَّذِي يَخْتَصِمَانِ فِيهِ فِي بَلَدِ ذَلِكَ الْقَاضِي الْغَائِبِ عَنْ نَظَرِهِ لَمْ يَنْظُرْ بَيْنَهُمَا، لِأَنَّهُمَا حِينَ اجْتَمَعَا فِي ذَلِكَ الْمِصْرِ قَدْ صَارَ أَمْرُهُمَا إلَى قَاضِيهِ، إلَّا أَنْ يَتَرَاضَيَا عَلَيْهِ كَتَرَاضِيهِمَا بِعَدْلٍ يَحْكُمُ بَيْنَهُمَا وَيَلْزَمُهُمَا إنْ قَضَى بِالْحَقِّ.
فرع:
قَالَ ابْنُ سَهْلٍ وَنَزَلَتْ مِنْ هَذَا الْمَعْنَى مَسْأَلَةٌ سَأَلْت عَنْهَا شَيْخَنَا ابْنَ عَتَّابٍ، وَذَلِكَ فِي الْقَاضِي يَحِلُّ بِغَيْرِ بَلَدِهِ وَقَدْ كَانَ ثَبَتَ عِنْدَهُ بِبَلَدٍ حَقٌّ لِرَجُلٍ، فَسَأَلَهُ الَّذِي لَهُ الْحَقُّ أَنْ يُخَاطِبَ لَهُ مِنْ مَوْضِعِ اخْتِلَالِهِ قَاضِيَ مَوْضِعِ مَطْلُوبِهِ بِمَا كَانَ أَثْبَتَهُ عِنْدَهُ بِبَلَدِهِ، فَقَالَ لِي: لَا يَجُوزُ لَهُ ذَلِكَ، قُلْت: فَإِنْ فَعَلَ، قَالَ: تَبْطُلُ، ثُمَّ قَالَ لِي: وَلَيْسَ يَبْعُدُ أَنْ يَنْفُذَ ذَلِكَ، قُلْت: فَإِنْ كَانَ الرَّجُلُ الَّذِي ثَبَتَ عَلَيْهِ الْحَقُّ بِمَوْضِعِ اخْتِلَالِهِ، فَأَعْلَمَ قَاضِيَ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ مُشَافَهَةً بِمَا ثَبَتَ عِنْدَهُ، هَلْ يَكُونُ كَمُخَاطَبَتِهِ إيَّاهُ بِذَلِكَ مِنْ بَلَدِهِ؟ فَقَالَ: لَيْسَ مِثْلَهُ، قُلْت لَهُ: فَمَا الْفَرْقُ؟ قَالَ: هُوَ إخْبَارُهُ هَا هُنَا بِمَا كَانَ ثَبَتَ عِنْدَهُ طَالِبٌ فُضُولِيٌّ، وَمَا الَّذِي يَدْعُوهُ إلَى ذَلِكَ؟. قُلْت: وَمَا يَمْنَعُهُ مِنْ إخْبَارِهِ بِهِ وَيُشْهِدُ عِنْدَهُ الْمُخْبِرُ بِذَلِكَ وَيُنَفِّذُهُ كَمَا يُشْهِدُ عِنْدَهُ بِمَا يَجْرِي فِي مَجْلِسِهِ مِنْ إقْرَارٍ وَإِنْكَارٍ وَيَقْضِي بِهِ؟ فَقَالَ: لَيْسَ مِثْلَهُ وَلَكِنْ أَنْ يُشْهِدَ هَذَا الْقَاضِي الْمُخْبِرَ بِذَلِكَ شَاهِدَيْنِ فِي مَنْزِلِهِ، وَشَهِدَا بِذَلِكَ عِنْدَ قَاضِي الْمَوْضِعِ نَفَذَ وَجَازَ.
فرع:
وَفِي كِتَابِ أَدَبِ الْقَضَاءِ لِمُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الْحَكَمِ: وَإِذَا حَجَّ الْقَاضِي فَنَزَلَ مِصْرَ أَوْ غَيْرَهَا فَأَتَاهُ قَوْمٌ مِنْ أَهْلِ عَمَلِهِ يَسْأَلُونَهُ أَنْ يَسْمَعَ مِنْ بَيِّنَتِهِمْ عَلَى رَجُلٍ فِي عَمَلِهِ، أَوْ كَانَ قَدْ شَهِدَ عِنْدَهُ شُهُودٌ فِي عَمَلِهِ فَأَرَادُوا مِنْهُ أَنْ يَكْتُبَ إلَى وَالِي الْعِرَاقِ، وَيُشْهِدَ عَلَى كِتَابِهِ بِذَلِكَ أَوْ إلَى مَكَّةَ أَوْ يَحْكُمَ لَهُمْ بِحُكْمٍ قَدْ شُهِدَ عِنْدَهُ عَلَيْهِ قَبْلَ ذَلِكَ، فَلَيْسَ لَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ وَالِيَ ذَلِكَ الْبَلَدِ، فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَسْمَعَ مِنْ بَيِّنَتِهِ فِيهَا وَلَا يَنْظُرَ فِي بَيِّنَةِ أَحَدٍ وَلَا يَشْهَدُ عِنْدَهُ أَحَدٌ إلَّا بِبَلَدِهِ، وَأَمَّا إنْ كَانَ قَدْ شَهِدَ عِنْدَهُ أَحَدٌ بِبَلَدِهِ فَأَرَادَ أَنْ يَسْأَلَ عَنْهُمْ حَيْثُ هُوَ فَذَلِكَ لَهُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّهُ إذَا سَأَلَ عَنْ ذَلِكَ قَاضِيَ الْبَلَدِ فَأَخْبَرَهُ بِعَدَالَتِهِ اُجْتُزِئَ بِذَلِكَ.

.الْبَابُ الْخَمْسُونَ فِي الْقَضَاءِ بِعِلْمِ الْقَاضِي وَنُفُوذِ قَوْلِهِ:

فِي الْقَضَاءِ بِعِلْمِ الْقَاضِي وَنُفُوذِ قَوْلِهِ وَاخْتِلَافُ الْقَاضِي وَالشُّهُودِ بَعْدَ الْحُكْمِ وَفِي مُخْتَصَرِ الْوَاضِحَةِ فَإِذَا كَانَ الْحَاكِمُ عَالِمًا بِعَدَالَةِ الشَّاهِدِ، حَتَّى أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ حَاكِمٌ لَزِمَهُ أَنْ يُعَدِّلَهُ إذَا سَأَلَ عَنْهُ، فَذَلِكَ الَّذِي يُجِيزُ شَهَادَتَهُ عَلَى عِلْمِهِ وَلَا يَسْتَعِدُّ لَهُ لَا سِرًّا وَلَا عَلَانِيَةً، وَإِنْ سَأَلَهُ ذَلِكَ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ، قَالَ مُطَرِّفٌ وَابْنُ الْمَاجِشُونِ: وَكَذَلِكَ لَوْ لَمْ يَعْلَمْ الْحَاكِمُ إلَّا أَنَّهُ مَعْرُوفُ الْعَدَالَةِ قَبْلَ ذَلِكَ إذَا عَلِمَ الْحَاكِمُ مِنْ الشَّاهِدِ جُرْحَةً، حَتَّى أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ حَاكِمًا لَزِمَهُ أَنْ يَجْرَحَهُ إذَا سَأَلَ عَنْهُ، فَلَا يَسْتَعِدُّ لَهُ لَا سِرًّا وَلَا جَهْرًا وَلَا يَقْبَلُ شَهَادَتَهُ، وَإِنْ عَدَّلَهُ الْمَشْهُودُ لَهُ عِنْدَهُ بِجَمِيعِ أَهْلِ بَلَدِهِ، وَلَيْسَ عَلَيْهِ أَنْ يَرْفَعَ عِلْمَهُ بِهِ إلَى أَحَدٍ فَوْقَهُ وَإِنَّمَا يَلْزَمُهُ ذَلِكَ فِي الشَّهَادَاتِ.
وَقَالَهُ ابْنُ الْقَاسِمِ فِي التَّجْرِيحِ، قَالَ أَصْبَغُ وَذَلِكَ إذَا كَانَ يُحْدِثَانِ مَا عَلِمَ بِهِ الْجَرْحَةَ وَالْفَسَادَ، فَأَمَّا بَعْدَ طُولِ الزَّمَانِ فَأَرَى أَنْ يَسْتَعِدَّ لَهُ، قَالَ ابْنُ حَبِيبٍ: وَهَذَا أَحْسَنُ، قَالَ فَضْلٌ وَحَكَاهُ ابْنُ عَبْدُوسٍ عَنْ ابْنِ الْقَاسِمِ أَيْضًا وَفِي الْمُتَيْطِيَّةِ قَالَ أَبُو عُمَرَ بْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي لِعَانِهِ وَذَكَرَ ابْنُ الْمَوَّازِ أَنَّهُ يُقْبَلُ فِيهِ التَّعْدِيلُ وَإِنْ عَلِمَ خِلَافَ ذَلِكَ، لِأَنَّهُ عِنْدَ رَدِّ الشَّهَادَةِ مَعَ التَّعْدِيلِ قَاضٍ بِعِلْمِهِ، قَالَ: وَلَيْسَ هَذَا بِشَيْءٍ لِإِجْمَاعِهِمْ عَلَى أَنَّهُ إنْ عَلِمَهُ الْقَاضِي غَيْرَ عَدْلٍ وَلَا رِضًا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لَهُ قَبُولُ شَهَادَتِهِ.
فرع:
وَلَوْ جَاءَ شَهِيدَانِ، إمَّا مَجْرُوحَانِ أَوْ لَمْ يَكُنْ الْحَاكِمُ يَقْبَلُهُمَا إلَّا بِتَعْدِيلٍ وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّ الَّذِي شَهِدَا بِهِ حَقٌّ، فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُعْطِيَهُ بِغَيْرِ تَعْدِيلٍ وَلَا بِإِمْضَاءِ مَجْرُوحٍ قَدْ كَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَرُدَّهُ، وَلَوْ كَانَ يَزِيدُ عِلْمُهُ بِشَيْءٍ لَا يَنْبَغِي أَنْ يُعْطِيَهُ بِلَا شَاهِدٍ؛ لِأَنَّهُ مَجْرُوحٌ.
فرع:
وَفِي مُخْتَصَرِ الْوَاضِحَةِ فِي بَابِ الْحُكْمِ بَيْنَ الْخَصْمَيْنِ أَحَدُهُمَا مِمَّنْ لَا تَجُوزُ شَهَادَتُهُ لَهُ، قَالَ: وَإِذَا شَهِدَ عِنْدَ الْقَاضِي مَنْ لَا تَجُوزُ شَهَادَتُهُ لَهُ وَسَمِعَ مِنْهُ وَقَبِلَ شَهَادَتَهُ عَلَى عِلْمِهِ إنْ كَانَ عِنْدَهُ عِلْمٌ، وَلَيْسَ مِثْلَ تَعْدِيلِهِ إيَّاهُ عِنْدَ غَيْرِهِ مِنْ الْحُكَّامِ؛ لَأَنْ يَقْبَلَ الْحَاكِمُ الشَّهَادَةَ عَلَى عِلْمِهِ بِعَدَالَتِهِ، وَلَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَحْكُمَ لَهُ بِدِرْهَمٍ وَاحِدٍ عَلَى عِلْمِهِ.
فرع:
قَالَ ابْنُ رُشْدٍ وَيُقْبَلُ قَوْلُ الْحَاكِمِ إذَا قَالَ: شَهِدَ عِنْدِي شُهُودٌ فِي وَجْهِ كَذَا، أَوْ أَنَّهُ أَعْذَرَ إلَيَّ فُلَانٌ فِي كَذَا، أَوْ أَنَّهُ أَجَّلَهُ وَانْقَضَتْ الْآجَالُ وَلَمْ يَأْتِ بِشَيْءٍ أَوْ أَنَّهُ عَجَّزَهُ.
فرع:
وَإِذَا شَهِدَ رَجُلَانِ عِنْدَ الْقَاضِي فِي حَقٍّ وَفِي عِلْمِ الْقَاضِي مَا فِي عِلْمِ الشَّاهِدَيْنِ، فَلَا يُبِيحُ لِلْمَشْهُودِ عَلَيْهِ الْمَدْفَعَ فِيهِمَا وَلَا فِيمَنْ عَدَّلَهُمَا إذَا كَانَا مُعَدَّلَيْنِ.
فرع:
وَإِنْ كَانَ قِبَلَ أَحَدٍ شَيْءٌ أَوْ لِأَحَدٍ قِبَلَهُ شَيْءٌ رَفَعَ ذَلِكَ إلَى غَيْرِهِ، وَوَكَّلَ وَكِيلًا يُخَاصِمُهُ عَنْهُ، وَإِنْ شَاءَ خَاصَمَ وَلَمْ يُوَكِّلْ، فَإِنْ رَضِيَ صَاحِبُهُ أَنْ يُحَكِّمَهُ فِي ذَلِكَ فَلَا يَقْبَلُ وَلَا يَجُوزُ حُكْمُهُ لِنَفْسِهِ إلَّا إنْ شَاءَ، وَأَنْ يَحْكُمَ عَلَيْهَا فَيَكُونُ كَالْإِقْرَارِ مِنْهُ بِمَا ادَّعَاهُ عَلَيْهِ خَصْمُهُ، وَهَذَا بِخِلَافِ تَحْكِيمِ الْخَصْمِ لِخَصْمِهِ فَيَحْكُمُ لِنَفْسِهِ أَوْ عَلَيْهَا، فَيَجُوزُ ذَلِكَ وَيَمْضِي مَا لَمْ يَكُنْ جَوْرًا بَيِّنًا أَوْ خَطَأً لَمْ يُخْتَلَفْ فِيهِ مِنْ مُخْتَصَرِ الْوَاضِحَةِ.
وَقَالَ ابْنُ الْحَاجِبِ: وَلَوْ حَكَمَ خَصْمُهُ فَثَالِثُهَا يُمْضِي مَا لَمْ يَكُنْ الْمُحَكَّمُ الْقَاضِيَ، وَعَلَّلَ ابْنُ رَاشِدٍ الْقَوْلَ بِالتَّفْرِقَةِ بِأَنَّ خَصْمَ الْقَاضِي قَدْ يَخَافُ فَيَرْضَى بِحُكْمِهِ فِي الظَّاهِرِ دُونَ الْبَاطِنِ.
تنبيه:
قَالَ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ وَأَشَارَ بَعْضُ الشُّيُوخِ إلَى أَنَّهُ يُتَّفَقُ عَلَى أَنَّهُ لَا يَنْفُذُ حُكْمُ الْمُحَكَّمِ إلَّا إذَا كَانَ عَالِمًا بِمَا يَحْكُمُ بِهِ، وَأَمَّا إنْ كَانَ جَاهِلًا فَلَا يَجُوزُ تَحْكِيمُهُ أَوَّلًا وَلَا يَنْفُذُ، وَأَشَارَ أَيْضًا إلَى أَنَّهُ إذَا كَانَ يُظَنُّ بِهِ مَعْرِفَةَ مَذْهَبٍ مُعَيَّنٍ، وَكَانَ ذَلِكَ هُوَ مَذْهَبُ الْخَصْمَيْنِ فَحَكَمَ بِخِلَافِ مَا كَانَا يَظُنَّانِهِ مِنْ الْمَذْهَبِ فَإِنَّهُ لَا يَلْزَمُهُمَا، كَمَا إنْ كَانَ الْحَاكِمُ وَاَللَّذَانِ حَكَّمَاهُ مَالِكِيَّيْنِ، وَهَذَا التَّنْبِيهُ يَتَعَلَّقُ بِفَصْلِ التَّحْكِيمِ وَلَيْسَ هُوَ خَاصًّا بِالْفَرْعِ الْمُتَقَدِّمِ.
فرع:
وَفِي مُخْتَصَرِ الْوَاضِحَةِ قَالَ مُطَرِّفٌ وَابْنُ الْمَاجِشُونِ وَأَصْبَغُ: وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا أَتْبَعَ آخَرَ بِمَالٍ أَوْ دَمٍ أَوْ حَقٍّ مِنْ الْحُقُوقِ، وَكَانَ الْحَاكِمُ فِيهِ شَاهِدًا لَمْ تَمْنَعْهُ شَهَادَتُهُ فِيهِ، أَنْ يَقْضِيَ بَيْنَ أَهْلِهِ بِالشُّهُودِ كَمَا يَقْضِي فِي غَيْرِهِ، وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَقْضِيَ فِيهَا بِشَهَادَةِ نَفْسِهِ، وَلَكِنْ يَشْهَدُ لَهُ بِمَا قِبَلَهُ مِنْ ذَلِكَ عِنْدَ غَيْرِهِ مِنْ الْحُكَّامِ، الَّذِينَ هُمْ أَمْثَالُهُ مِنْ الْقُضَاةِ أَوْ وُلَاةِ السُّوءِ وَأَصْحَابِ الشُّرْطَةِ وَالْأُمَرَاءِ الَّذِينَ يَقْضُونَ بَيْنَ النَّاسِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ أَحَدٌ مِمَّنْ وَصَفْنَا رَفَعَ ذَلِكَ إلَى رَجُلٍ مِنْ رَعِيَّتِهِ، وَإِنْ كَانُوا تَحْتَهُ كَمَا فَعَلَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَهُوَ خَلِيفَةٌ، حِينَ قَاضَى رَجُلًا إلَى أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ وَأُبَيٌّ غَيْرُ ذِي سُلْطَانٍ، قَالُوا: فَإِنْ أَبَى الْمَطْلُوبُ أَنْ يُرَافِعَهُ عِنْدَ مَنْ ذَكَرْنَا، إذَا لَمْ يَكُنْ فِي الْبَلَدِ حَاكِمٌ غَيْرُ ذَلِكَ الْقَاضِي وَجَبَ عَلَى الْقَاضِي أَنْ يُجْبِرَ الْخَصْمَيْنِ عَلَى التَّرَاضِي بِرَجُلٍ يَتَحَاكَمَانِ إلَيْهِ، ثُمَّ يَضَعَ شَهَادَتَهُ عِنْدَهُ فَيَحْكُمَ بَيْنَهُمَا بِمَا ظَهَرَ لَهُ.
فرع:
وَأَمَّا مُبْتَدَآتُ مَا يَحْكُمُ بِهِ وَيَقْضِي بِهِ فِي مَجْلِسِهِ، فَذَلِكَ مِمَّا جُعِلَ إلَيْهِ أَنْ يَحْكُمَ فِيهِ بِمَا سَمِعَهُ فِي مَقْعَدِهِ ذَلِكَ، وَلَا يَدْعُو فِيهِ بِبَيِّنَةٍ وَلَا مَا يُثْبِتُ فِيهِ وَثِيقَةً قَبْلَ أَنْ يَحْكُمَ، وَلَا يَرُدُّهُ عَنْ ذَلِكَ جَحْدُهُ إنْ قَالَ شَيْئًا، ثُمَّ ذَهَبَ يَتَفَقَّهُ وَيَنْتَظِرُ أَنْ يُقَرِّرَهُ وَيُشْهِدَ عَلَيْهِ فَقَالَ: لَمْ أَقُلْهُ، ثُمَّ خَرَجَ مِنْ ذَلِكَ بِغَيْرِ شَيْءٍ، فَهَذَا مِمَّا جُعِلَ لَهُ أَنْ يَحْكُمَ بِهِ بِغَيْرِ وَثِيقَةٍ مَحْمُولَةٍ وَلَا أَمْرٍ كَانَ قَبْلَ مَقْعَدِهِ، قَالَ فَضْلٌ بِهَذَا.
قَالَ سَحْنُونٌ وَأَبَاهُ ابْنُ الْقَاسِمِ وَأَشْهَبُ قَالَ ابْنُ رَاشِدٍ: وَاخْتُلِفَ فِي حُكْمِهِ بِمَا أَقَرَّ بِهِ الْخَصْمَانِ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَقَالَ مَالِكٌ وَابْنُ الْقَاسِمِ: لَا يَحْكُمُ بِعِلْمِهِ فِي ذَلِكَ.
وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ يَحْكُمُ وَعَلَيْهِ قُضَاةُ الْمَدِينَةِ وَلَا أَعْلَمُ أَنَّ مَالِكًا قَالَ غَيْرَهُ، وَبِهِ قَالَ مُطَرِّفٌ وَسَحْنُونٌ وَأَصْبَغُ وَالْأَوَّلُ هُوَ الْمَشْهُورُ.
وَفِي الْمُتَيْطِيَّةِ قَالَ الشَّيْخُ أَبُو بَكْرِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ فِي مَسْأَلَةِ قَوْلِ ابْنِ الْقَاسِمِ أَصَحُّ لِفَسَادِ الزَّمَانِ، وَلَوْ أَدْرَكَ عَبْدُ الْمَلِكِ وَسَحْنُونٌ زَمَانَنَا لَرَجَعَا عَمَّا قَالَاهُ، وَلَوْ أُخِذَ بِقَوْلِهِمَا لَذَهَبَتْ أَمْوَالُ النَّاسِ وَحُكِمَ عَلَيْهِمْ بِمَا لَمْ يُقِرُّوا بِهِ.
فرع:
ثُمَّ إذَا حَكَمَ بِعِلْمِهِ فِي ذَلِكَ فَعَلَى قَوْلِ مَالِكٍ وَابْنِ الْقَاسِمِ يَنْقُضُهُ هُوَ كَمَا يَنْقُضُهُ غَيْرُهُ.
وَقَالَ ابْنُ الْجَلَّابِ: وَأَمَّا لَوْ أَقَرَّ بِهِ الْخَصْمُ فِي مَجْلِسِ الْحُكُومَةِ فَحَكَمَ بِهِ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ الْمَجْلِسِ، فَلَا يُنْقَضُ لِقُوَّةِ الْخِلَافِ فِيهِ.
فرع:
وَهَلْ يَحْتَاجُ الْحَاكِمُ إلَى إعْذَارٍ إلَى الْخَصْمَيْنِ فِيمَا شَهِدَ بِهِ الشُّهُودُ عِنْدَهُ مِنْ إقْرَارِ هَذَيْنِ بَيْنَ يَدَيْهِ وَفِي مَجْلِسِهِ أَمْ لَا؟ الْمَشْهُورُ أَنَّهُ إذَا انْعَقَدَ فِي مَجْلِسِ الْحَاكِمِ مَقَالٌ وَشَهِدَ بِهِ شُهُودُ الْمَجْلِسِ عِنْدَهُ أَنْفَذَ ذَلِكَ عَلَى قَائِلِهِ، وَلَمْ يُعْذَرْ إلَيْهِ فِيمَنْ شَهِدَ بِهِ لِكَوْنِهِ بَيْنَ يَدَيْهِ وَقَطَعَهُ بِحَقِيقَتِهِ.
فرع:
وَإِذَا لَمْ يُصَرِّحْ الْقَاضِي عَنْ أَسْمَاءِ الشُّهُودِ الَّذِينَ قَبِلَهُمْ بِزَعْمِهِمْ، وَقَضَى بِهِمْ عَلَى الْمَحْكُومِ عَلَيْهِ، وَلَمْ يَكُنْ الْحَاكِمُ مَشْهُورًا بِالْعَدْلِ فُسِخَ ذَلِكَ. وَكَانَ سَحْنُونٌ يَذْهَبُ إلَى تَرْكِ الشُّهُودِ فِي الْحُكْمِ عَلَى الْغَائِبِ، لِأَنَّ سَحْنُونًا يَرَى أَنْ يُقَامَ لِلْغَائِبِ وَكِيلٌ يُدَافِعُ عَنْهُ.
وَفِي الطُّرُرِ وَالْأَوَّلُ الْمَشْهُورُ.
فرع:
وَفِي كِتَابِ الْمُقْنِعِ لِابْنِ بَطَّالٍ: وَإِذَا أَمَرَ الْقَاضِي بِقَتْلِ رَجُلٍ أَوْ بِقَطْعِهِ أَوْ بِفَتْقِ عَيْنِهِ، فَقَالَ: هَذَا قِصَاصٌ لِفُلَانِ بْنِ فُلَانٍ، وَفُلَانٌ ذَلِكَ حَاضِرٌ يَدَّعِي الْقِصَاصَ، فَالْقَاضِي مُصَدَّقٌ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ، وَلَوْ أَخَذَ مَالًا مِنْ رَجُلٍ فَدَفَعَهُ إلَى رَجُلٍ آخَرَ فَقَالَ: قَضَيْت بِهِ عَلَيْك أَوْ فَرَّقَ بَيْنَ رَجُلٍ وَامْرَأَتِهِ أَوْ أَعْتَقَ عَبْدَ رَجُلٍ، فَقَالَ: قَضَيْت عَلَيْهِ بِهَذَا فَهُوَ مُصَدَّقٌ فِي هَذَا كُلِّهِ، وَكَذَلِكَ إنْ أَمَرَ بِحَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ تَعَالَى يُقَامُ عَلَى رَجُلٍ وَقَالَ: قَضَيْت بِهِ عَلَيْك، وَأُقِيمَ عَلَيْهِ بِالْحَدِّ وَنَفَذَ وَكَانَ مُصَدَّقًا إذَا كَانَ مُسْتَحِقًّا لِلْقَضَاءِ، وَنَزَلَ أَمْرُهُ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَتْرُكْ مِنْ الِاسْتِقْصَاءِ شَيْئًا إلَّا أَتَى بِهِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ إذَا قَضَى وَسَجَّلَ بِقَضِيَّةٍ لَمْ يَنْظُرْ فِيهَا مَنْ كَانَ بَعْدَهُ مِنْ الْقُضَاةِ، لِأَنَّهُ يُنْزِلُهُ عَلَى أَنَّهُ قَدْ اسْتَقْصَى، وَلَوْ فَسَّرَ كَيْفَ قَضَى؟ فَرُبَّمَا كَانَ فِي تَفْسِيرِهِ مَا يُبَيِّنُ خَطَأَهُ وَمَا يَرَى مِنْ بَعْدِهِ رَدَّهُ، وَلَوْ عُزِلَ فَاتَّبَعَهُ أَصْحَابُ ذَلِكَ كُلِّهِ بِمَا قَالَ قَضَيْت بِهِ عَلَيْكُمْ إذَا كَانَ قَاضِيًا، أَوْ سَجَّلَ قَضَاءَهُ كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ وَكَانَ مُصَدَّقًا غَيْرَ مَسْئُولٍ بِبَيِّنَتِهِ.
فرع:
قَالَ سَحْنُونٌ وَإِذَا كَتَبَ الْقَاضِي لِرَجُلٍ قَضَى فَكَتَبَ فِي قَضَائِهِ، سَأَلْت فُلَانًا الْبَيِّنَةَ عَلَى مَا ادَّعَى فَأَتَانِي بِبَيِّنَةٍ، فَقَبِلْت عِلْمَهُمْ وَأَجَزْت شَهَادَتَهُمْ، فَإِنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ يُسَمِّيَهُمْ فِي قَضَائِهِ وَيَكْتُبَ وَهُمْ فُلَانٌ وَفُلَانٌ ذَلِكَ حَسَنٌ، وَإِنْ لَمْ يَكْتُبْ فِي قَضَائِهِ ذَلِكَ لَمْ يَضُرَّ الْمَقْضِيَّ عَلَيْهِ قَوْلُ ذَلِكَ.
فرع:
وَإِنْ قَالَ: أَشْهَدْتُكُمْ أَنِّي قَضَيْت لِفُلَانٍ عَلَى فُلَانٍ بِكَذَا وَكَذَا وَلَمْ يَكْتُبْ فِي قَضَائِهِ وَسَأَلْت فُلَانًا الْبَيِّنَةَ عَلَى مَا ادَّعَى فَأَتَانِي عَلَى ذَلِكَ بِالْبَيِّنَةِ، فَإِنَّهُ يَكُونُ هَذَا الْقَضَاءُ صَحِيحًا وَيَجُوزُ.
فرع:
وَمِنْ الْبَيَانِ وَالتَّحْصِيلِ قِيلَ لَهُ: أَرَأَيْت الَّذِي يَتَنَاوَلُ الْقَاضِيَ بِالْكَلَامِ؟ فَيَقُولُ لَهُ ظَلَمْتنِي، فَقَالَ: إنَّ ذَلِكَ يَخْتَلِفُ وَلَمْ يَجِدْ فِيهِ تَفْسِيرًا، لَا أَنَّ وَجْهَ مَا قَالَ: إذَا أَرَادَ بِذَلِكَ أَذَاهُ، وَكَانَ الْقَاضِي مِنْ أَهْلِ الْفَضْلِ فَإِنَّهُ يُعَاقِبُهُ، قَالَ الْقَاضِي أَبُو الْوَلِيدِ: هَذَا كَمَا قَالَ: إنَّ الْقَاضِيَ الْفَاضِلَ الْعَدْلَ لَهُ أَنْ يَحْكُمَ بِالْعُقُوبَةِ عَلَى مَنْ تَنَاوَلَهُ بِالْقَوْلِ، وَآذَاهُ بِأَنْ نَسَبَ إلَيْهِ الظُّلْمَ وَالْجَوْرَ وَمُوَاجِهَةً بِحَضْرَةِ أَهْلِ مَجْلِسِهِ، بِخِلَافِ مَا شَهِدَ بِهِ عَلَيْهِ أَنَّهُ آذَاهُ وَهُوَ غَائِبٌ عَنْهُ، لِأَنَّ مَا وَاجَهَهُ بِهِ مِنْ ذَلِكَ هُوَ مِنْ قَبِيلِ الْإِقْرَارِ، وَلَهُ أَنْ يَحْكُمَ بِالْإِقْرَارِ عَلَى مَنْ انْتَهَكَ مَالَهُ فَيُعَاقِبُهُ بِهِ، وَيَتَمَوَّلُ الْمَالَ بِإِقْرَارِهِ وَلَا يَحْكُمُ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ بِالْبَيِّنَةِ، وَالْأَصْلُ فِي ذَلِكَ قَطْعُ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَدَ الْأَقْطَعِ الَّذِي سَرَقَ عِقْدَ بِنْتِهِ أَسْمَاءَ لَمَّا اعْتَرَفَ بِسَرِقَتِهِ وَإِنْ كَانَ فِي الْمُوَطَّأِ فَاعْتَرَفَ الْأَقْطَعُ أَوْ شُهِدَ عَلَيْهِ عَلَى الشَّكِّ وَالصَّوَابُ مَا فِي غَيْرِ الْمُوَطَّأِ أَنَّهُ اعْتَرَفَ مِنْ غَيْرِ شَكٍّ، وَإِذَا كَانَ لَهُ أَنْ يَحْكُمَ بِالْإِقْرَارِ فِي مَالِهِ كَمَا يَحْكُمُ بِهِ فِي مَالِ غَيْرِهِ كَانَ أَحْرَى أَنْ يَحْكُمَ بِالْإِقْرَارِ فِي عِرْضِهِ، كَمَا يَحْكُمُ بِهِ فِي عِرْضِ غَيْرِهِ، لِمَا يَتَعَلَّقُ فِي ذَلِكَ مِنْ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى، لِأَنَّ الِاجْتِرَاءَ عَلَى الْقُضَاةِ وَالْحُكَّامِ وَتَرْكَ الْمُعَاقَبَةِ فِي مِثْل هَذَا، تَوْهِينٌ لِأَمْرِهِمْ وَدَاعِيَّةٌ إلَى الضَّعْفِ مِنْ اسْتِيفَاءِ الْحُقُوقِ، وَالْأَحْكَامُ وَالْمُعَاقَبَةُ فِي مِثْلِ هَذَا أَوْلَى مِنْ التَّجَافِي وَالْعَفْوِ عَنْهُ، وَكَذَلِكَ قَالَ ابْنُ حَبِيبٍ فِي الْوَاضِحَةِ.
فرع:
وَفِي مُخْتَصَرِ الْوَاضِحَةِ قَالَ فَضْلٌ: وَسُئِلَ ابْنُ كِنَانَةَ عَنْ الْقَاضِي يُشْهِدُ أَنَّهُ حَكَمَ عَلَى رَجُلٍ بِشَهَادَةِ فُلَانٍ وَفُلَانٍ، فَيُنْكِرُ الشُّهُودُ أَنْ يَكُونُوا شَهِدُوا عِنْدَهُ بِذَلِكَ، فَقَالَ: يُرْفَعُ ذَلِكَ إلَى الْوَالِي أَوْ إلَى قَاضٍ غَيْرِهِ، فَإِنْ كَانَ هَذَا الْقَاضِي الَّذِي أَشْهَدَ بِالْحُكْمِ عَلَيْهِ بِشَهَادَةِ مَنْ سَمَّى عَدْلًا مَأْمُونًا لَزِمَ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مَأْمُونٍ أُبْطِلَ وَابْتَدَأَ فِيهِ الْحُكُومَةَ الَّتِي رُفِعَتْ إلَيْهِ، قَالَ فَضْلٌ وَقَدْ قَالَهُ سَحْنُونٌ أَيْضًا وَزَادَ فَقَالَ: وَلَا شَيْءَ عَلَى الشُّهَدَاءِ مِنْ الْغُرْمِ لِأَنَّهُمْ لَمْ يُقِرُّوا بِالشَّهَادَةِ.
مَسْأَلَةٌ:
وَفِي مُخْتَصَرِ الْوَاضِحَةِ إذَا قَضَى الْقَاضِي عَلَى رَجُلٍ بِقَضِيَّةٍ فِي دَيْنٍ أَوْ دَارٍ أَوْ فِي حَقٍّ مِنْ جَمِيعِ الْحُقُوقِ، وَذَكَرَ فِي قَضِيَّتِهِ أَنَّ الْمَقْضِيَّ عَلَيْهِ عَجَزَ عَمَّا خَاصَمَ فِيهِ، وَلَمْ يَرَ لَهُ فِي حُجَّتِهِ وَجْهَ حَقٍّ، وَأَنَّهُ قَدْ ضَرَبَ لَهُ الْآجَالَ فَأَنْكَرَ الْمَقْضِيَّ عَلَيْهِ أَنْ يَكُونَ خَاصَمَ إلَيْهِ أَوْ سَمِعَ حُجَّتَهُ، فَالْقَضَاءُ لَهُ لَازِمٌ وَلَيْسَ عَلَى الْمَقْضِيِّ لَهُ الْبَيِّنَةُ أَنَّهُ قَدْ خَاصَمَهُ إلَيْهِ، وَرَأْيٌ مُخْتَلِفًا مَعَهُ أَوْ مُتَرَدِّدًا عَلَيْهِ، وَقَوْلُ الْقَاضِي عَلَى الْمَقْضِيِّ عَلَيْهِ بِمَا وَقَعَ فِي الْقَضِيَّةِ وَأَشْهَدَ بِهِ مَقْبُولٌ قَلِيلًا كَانَ أَوْ كَثِيرًا إذَا كَانَ مَأْمُونًا، وَلَمْ يَلْزَمْ بِقَوْلِ الْقَاضِي وَحْدَهُ إذَا أَشْهَدَ عَلَى رَجُلٍ أَنَّهُ قَدْ دَفَعَ إلَيْهِ مَالَ يَتِيمٍ عِنْدَهُ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ إلَّا بِإِقْرَارٍ مِنْهُ بِذَلِكَ عِنْدَ إشْهَادِ الْقَاضِي بِذَلِكَ عَلَيْهِ.

.فَصْلٌ فِي اخْتِلَافِ الْقَاضِي وَالشُّهُودِ بَعْدَ الْحُكْمِ:

فِي الْمُقْنِعِ لِابْنِ بَطَّالٍ قَالَ ابْنُ الْمَوَّازِ فِي شَاهِدَيْنِ شَهِدَا لِرَجُلٍ بِمِائَةِ دِينَارٍ عَلَى آخَرَ عِنْدَ الْقَاضِي، فَقَضَى الْقَاضِي بِالدَّيْنِ لِلْمَطْلُوبِ عَلَى الطَّالِبِ فَأَغْرَمَهُ، وَكَانَ قَدْ كَتَبَهُ فِي دِيوَانِهِ بِخَطِّ يَدِهِ أَوْ خَطِّ كَاتِبِهِ أَوْ لَمْ يَكْتُبْهُ، فَقَالَ الشَّاهِدَانِ حِينَ عَلِمَا بِحُكْمِهِ: إنَّمَا شَهِدْنَا بِالْمِائَةِ لِهَذَا عَلَى الْآخَرِ، وَقَالَ الْقَاضِي: لَا بَلْ شَهِدْتُمَا لِلْآخَرِ عَلَى هَذَا، فَقَالَ: إذَا كَانَا عَدْلَيْنِ فَشَهَادَتُهُمَا جَائِزَةٌ، فَإِنْ رَجَعَ الْقَاضِي عَنْ قَوْلِهِ وَقَالَ: وَهِمْت أَوْ أَشُكُّ رَجَعَ فَأَخَذَ الْمِائَةَ مِمَّنْ هِيَ فِي يَدِهِ فَرَدَّهَا إلَى الْآخَرِ، وَإِنْ قَالَ: لَا أَشُكُّ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ عَلَيْهِ بِهَا، وَغَرِمَهَا هُوَ؛ لِأَنَّ الشُّهُودَ شَهِدُوا بِخِلَافِ قَوْلِهِ وَهُمَا عَدْلَانِ فَيَغْرَمُ الْمِائَةَ الَّتِي أَخْطَأَ فِيهَا، وَالْمِائَةَ الَّتِي كَانَتْ الشَّهَادَةُ بِهَا إلَّا أَنْ يَكُونَ حَضَرَ الْقَاضِيَ قَوْمٌ عُدُولٌ فَشَهِدُوا بِمِثْلِ مَا قَالَ الْقَاضِي، فَيُرْفَعُ ذَلِكَ إلَى مَنْ فَوْقَهُ فَيَحْكُمُ بِذَلِكَ عَلَى مَنْ شَهِدَ بِهِ جُلَسَاءُ الْقَاضِي إذَا كَانَا عَدْلَيْنِ فَأَكْثَرَ، وَإِنْ كَانَ الْأَوَّلَانِ أَعْدَلَ لِأَنَّهُمَا شَهِدَا بِجَرْحَتِهِمَا، وَلَا تَجُوزُ شَهَادَةُ الْقَاضِي فِي ذَلِكَ لِأَنَّهُ خَصْمٌ.

.فَصْلٌ أَقَرّ عِنْدَ الْقَاضِيَ فَحَكَمَ عَلَيْهِ مُسْتَنِدًا لِإِقْرَارِهِ ثُمَّ أَنْكَرَ الْإِقْرَار:

فَصْلٌ: فَلَوْ أَقَرَّ أَحَدُ الْخَصْمَيْنِ عِنْدَ الْقَاضِيَ فَحَكَمَ عَلَيْهِ مُسْتَنِدًا لِإِقْرَارِهِ، ثُمَّ أَنْكَرَ أَنْ يَكُونَ أَقَرَّ مَضَى ذَلِكَ الْحُكْمُ، وَلَا يُفِيدُ الْخَصْمَ إنْكَارُهُ هَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ.
وَقَالَ ابْنُ الْجَلَّابِ إذَا ذَكَرَ الْحَاكِمُ أَنَّهُ حَكَمَ، فَأَنْكَرَ الْمَحْكُومُ عَلَيْهِ لَمْ يُقْبَلْ إلَّا بِبَيِّنَةٍ عَلَى حُكْمِهِ. قَالَ اللَّخْمِيُّ وَقَوْلُ ابْنِ الْجَلَّابِ: هُوَ الْأَشْبَهُ فِي قَضَاءِ الْيَوْمِ لِضَعْفِ عَدَالَتِهِمْ.
فرع:
أَمَّا لَوْ أَنْكَرَ الْخَصْمُ أَنَّهُ أَقَرَّ قَبْلَ أَنْ يَحْكُمَ الْقَاضِي عَلَيْهِ، فَقَالَ مَالِكٌ وَابْنُ الْقَاسِمِ لَا يَحْكُمُ بِعِلْمِهِ.
وَقَالَ ابْنُ الْمَاجِشُونِ يَحْكُمُ وَوَافَقَهُ سَحْنُونٌ وَقَالَا: لَا يَعْلَمُ ذَلِكَ إلَّا مِنْ بُلِيَ بِالْقَضَاءِ قَالَ ابْنُ رَاشِدٍ وَمَا قَالَهُ ابْنُ الْمَاجِشُونِ هُوَ الْقِيَاسُ، وَلِذَلِكَ جَلَسَ وَلَوْ كُلِّفَ الْبَيِّنَةَ لَتَعَطَّلَتْ أَحْكَامُ النَّاسِ.
تنبيه:
قَالَ ابْنُ رَاشِدٍ إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَحْكُمَ بِعِلْمِهِ فَهَلْ يُشْهِدُ بِذَلِكَ عِنْدَ غَيْرِهِ أَوْ لَا؟ قَالَ: أَمَّا مَا كَانَ عِنْدَهُ مِنْ الْعِلْمِ قَبْلَ جُلُوسِهِ لِلْحُكْمِ فَيَجُوزُ، وَأَمَّا مَا أُقِرَّ بِهِ عِنْدَهُ فِي مَجْلِسِ حُكْمِهِ. فَقَالَ مُحَمَّدٌ تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ فِيهِ.
وَقَالَ أَيْضًا لَا تُقْبَلُ كَمَا لَوْ لَمْ يَمْضِ حُكْمُهُ فِيهِ، وَإِذَا فَرَّعْنَا عَلَى أَنَّهَا تُقْبَلُ فَيَرْفَعُهَا لِمَنْ هُوَ فَوْقَهُ لَا لِمَنْ هُوَ دُونَهُ.
وَفِي الْمُدَوَّنَةِ إذَا عَلِمَ السُّلْطَانُ الْأَعْلَى لِرَجُلٍ حَقًّا، فَأَرَادَ أَنْ يُشْهِدَ بِهِ عِنْدَ قَاضِيهِ فَذَلِكَ جَائِزٌ وَبِهِ الْقَضَاءُ وَبِهِ أُفْتِي، وَقِيلَ: لَا يُشْهِدُ عِنْدَهُ إذَا كَانَ شَهِدَ عِنْدَ نَفْسِهِ.
فرع:
إذَا وَجَدَ الْقَاضِي فِي دِيوَانِهِ حُكْمًا بِخَطِّهِ، وَلَمْ يَذْكُرْ أَنَّهُ حَكَمَ بِهِ لَمْ يُعْتَمَدْ عَلَيْهِ لِإِمْكَانِ التَّزْوِيرِ عَلَيْهِ، وَلَوْ شَهِدَ بِهِ عِنْدَهُ شَاهِدَانِ فَلَمْ يَذْكُرْ، فَقَالَ الْقَاضِي أَبُو مُحَمَّدٍ يَنْفُذُ الْحُكْمُ بِشَهَادَتِهِمَا، وَحَكَى الشَّيْخُ أَبُو عِمْرَانَ رِوَايَةً أَنَّهُ لَا يُلْتَفَتُ إلَى الْبَيِّنَةِ، وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ لِأَنَّهُ كَمَا يُمْضِيهِ غَيْرُهُ كَذَلِكَ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُمْضِيَهُ.

.الْبَابُ الْحَادِي وَالْخَمْسُونَ فِي الْقَضَاءِ بِالشَّهَادَاتِ الْمَكْتُوبَةِ لِعُذْرٍ أَوْ غَيْرِ عُذْرٍ:

وَفِي الْمُقْنِعِ وَفِي الْمُسْتَخْرَجَةِ وَكِتَابِ ابْنِ الْمَوَّازِ وَغَيْرِهِ عَنْ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ: فِي امْرَأَةٍ أَشْهَدَتْنَا عَلَى صَدَقَةِ ابْنَتِهَا عَلَى أَنْ لَا تُؤْخَذَ الشَّهَادَةُ إلَّا بَعْدَ مَوْتِهَا، قَالَ: لَا تَنْفَعُ الِابْنَةَ هَذِهِ الشَّهَادَةُ.
فرع:
وَفِي الْمُسْتَخْرَجَةِ قَالَ عِيسَى عَنْ ابْنِ الْقَاسِمِ فِي شَاهِدٍ شَهِدَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ الْأَمْوَالِ غَيْرِ الْفُرُوجِ وَالْحُرِّيَّةِ، مِنْ حَيَوَانٍ أَوْ عَقَارٍ لِرَجُلٍ يَعْلَمُهُ وَيَرَاهُ بِيَدِ غَيْرِهِ، يَبِيعُهُ وَيَهَبُهُ وَيُحَوِّلُهُ عَنْ حَالِهِ فَلَا يَقُومُ بِعِلْمِهِ، ثُمَّ يَشْهَدُ عِنْدَ الْقَاضِي أَنَّ هَذِهِ الدَّارَ لِفُلَانٍ فَيَقُولُ: لِمَ لَمْ تَقُمْ حِينَ رَأَيْت ذَلِكَ يُبَاعُ أَوْ يُوهَبُ؟ فَيَقُولُ: لَمْ أَسْأَلْ عَنْ عِلْمِي وَلَمْ أَرَ فَرْجًا يُوطَأُ وَلَا حُرًّا يُسْتَخْدَمُ، وَلَيْسَ عَلَيَّ أَنْ أُخَاصِمَ، قَالَ: لَا أَرَى أَنْ تَجُوزَ شَهَادَتُهُ إذَا لَمْ يَعْمَلْ بِعِلْمِهِ حِينَ رَأَى الدَّارَ وَالْعَقَارَ يُبَاعُ، كَذَلِكَ فِي الْفُرُوجِ وَالْحَيَوَانِ إذَا كَانَتْ تِلْكَ الْأَشْيَاءُ تُحَوَّلُ عَنْ حَالِهَا بِعِلْمِهِ، قَالَ غَيْرُهُ فِي الْمَجْمُوعَةِ: وَهَذَا إذَا كَانَ الْمَشْهُودُ لَهُ غَائِبًا أَوْ كَانَ حَاضِرًا لَا يُعْلَمُ، أَمَّا إذَا كَانَ حَاضِرًا يُعْلَمُ، فَأَمَّا إذَا كَانَ حَاضِرًا يَرَى ذَلِكَ يُبَاعُ فَهُوَ كَالْإِقْرَارِ. قَالَ ابْنُ سَحْنُونٍ عَنْ أَبِيهِ: لَا أَرَى ذَلِكَ إلَّا فِيمَا كَانَ حَقًّا لِي، وَمَا يَلْزَمُ الشَّاهِدَ أَنْ يَقُومَ بِهِ إنْ كَذَّبَهُ الْمُدَّعِي كَالْحُرِّيَّةِ وَالطَّلَاقِ، وَأَمَّا الْعُرُوض وَالرِّبَاعُ وَالْحَيَوَانُ فَلَا تُبْطِلُهُ شَهَادَتُهُ، لِأَنَّ رَبَّ ذَلِكَ إنْ كَانَ حَاضِرًا فَهُوَ أَضَاعَ حَقَّهُ، وَإِنْ كَانَ غَائِبًا فَلَيْسَ لِلشَّاهِدِ شَهَادَةٌ، فَلِذَلِكَ لَا يَضُرُّ الشَّاهِدَ إنْ لَمْ يَقُمْ بِهَا.
فرع:
قَالَ ابْنُ كِنَانَةَ فِي الْمَجْمُوعَةِ فِي قَوْمٍ شَهِدُوا عَلَى حَبْسٍ أَوْ أَرْضٍ لِرَجُلٍ، أَوْ عَلَى أَنَّ رَجُلًا طَلَّقَ امْرَأَتَهُ أَوْ أَعْتَقَ عَبْدَهُ، فَإِذَا رَأَوْا الْحَبْسَ يُكْتَبُ فِي الْمُهُورِ أَوْ يُبَاعُ وَيُتَدَاوَلُ وَيَطُولُ زَمَانُهُ وَلَمْ يَقِفُوا بِذَلِكَ، فَلَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ، وَإِنْ كَانُوا قَدْ تَكَلَّمُوا أَوْ شَهِدُوا أَوْ كَانُوا غُيَّبًا أَوْ كَانَ لَهُمْ عُذْرٌ قُبِلَتْ شَهَادَتُهُمْ، ثُمَّ ذَكَرَ فِي الْعِتْقِ وَالطَّلَاقِ كَقَوْلِ سَحْنُونٍ.
فرع:
قَالَ سَحْنُونٌ فِي الْمَجْمُوعَةِ: وَإِنْ شَهِدُوا بِحِنْثٍ فِي عِتْقِ رَقِيقٍ، وَأَمْسَكُوا عَنْ الشَّهَادَةِ حَتَّى حَالَ حَوْلٌ أَوْ مَضَى شَهْرٌ أَوْ شَهْرَانِ، قَالَ تَجُوزُ شَهَادَتُهُمْ إذَا كَانُوا مَعَهُ فِي مَوْضِعٍ يَرَوْنَهُ يَسْتَرِقُّهُ.
فرع:
وَفِي الْمُسْتَخْرَجَةِ عَنْ ابْنِ وَهْبٍ عَنْ رَبِيعَةَ فِيمَنْ شَهِدَ فِي عِتْقٍ أَوْ طَلَاقٍ، فَأَخْفَى شَهَادَتَهُ حَتَّى يَبِيعَ الْعَبْدَ أَوْ اسْتَحَلَّ فِي ذَلِكَ الْحَرَامَ ثُمَّ جَاءَ يَشْهَدُ لَا شَهَادَةَ لَهُ إذَا كَانَ عَالِمًا بِهِ.
فرع:
قَالَ أَصْبَغُ عَنْ ابْنِ الْقَاسِمِ فِي رَجُلَيْنِ شَهِدَا عَلَى رَجُلٍ أَنَّهُمَا رَأَيَاهُ سَكْرَانَ أَوْ يَسْرِقُ، فَجَرَحَاهُ بِذَلِكَ فِي شَهَادَةٍ شَهِدَ بِهَا، فَلْيُقَمْ عَلَيْهِ الْحَدُّ وَلَا يَضُرُّهُمْ تَأْخِيرُ ذَلِكَ سَتْرًا عَلَيْهِ.
فرع:
قَالَ ابْنُ حَبِيبٍ قَالَ أَصْبَغُ فِي الشُّهُودِ فِي الطَّلَاقِ يَكْتُمُونَ ذَلِكَ عَلَى الزَّوْجَةِ حَتَّى طَالَ ذَلِكَ وَوَقَعَتْ الْخَلْوَةُ بِهَا فَذَلِكَ جُرْحَةٌ.
وَفِي مُخْتَصَرِ الْوَاضِحَةِ وَلَا شَهَادَةَ لَهُمْ فِي حَيَاةِ الزَّوْجَةِ، وَلَا بَعْدَ مَوْتِهِ أَوْ مَوْتِهَا إلَّا أَنْ يَقُومُوا بِحِدْثَانِ الطَّلَاقِ، وَإِنْ اعْتَزَلَ مَسِيسَهَا وَالدُّخُولَ عَلَيْهَا كَمَا يَدْخُلُ الرَّجُلُ عَلَى زَوْجَتِهِ وَهِيَ فِي بَيْتِهِ، وَسَتَرَهُ وَكَتَمُوهَا ذَلِكَ، فَشَهَادَتُهُمْ سَاقِطَةٌ، إلَّا أَنْ يَقُولُوا: ظَنَنَّاهَا عَلِمَتْ وَحَسَبْنَا هَذَا الِاعْتِزَالَ فَوَاتًا وَلَمْ نُرِدْ الْكِتْمَانَ لِلشَّهَادَةِ، فَشَهَادَتُهُمْ جَائِزَةٌ.
فرع:
قَالَ ابْنُ الْمَاجِشُونِ وَمَنْ سَمِعَ رَجُلًا يُطَلِّقُ امْرَأَتَهُ، فَعَلَيْهِ أَنْ يَأْتِيَ الْإِمَامَ فَيَشْهَدَ عَلَيْهِ حَتَّى يُحَلِّفَهُ أَنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ غَيْرُهُ، وَإِنْ نَكَلَ سَجَنَهُ حَتَّى يَحْلِفَ.
فرع:
قَالَ ابْنُ حَبِيبٍ قَالَ مُطَرِّفٌ فِي امْرَأَةٍ أَعْتَقَتْ جَارِيَتَهَا عِنْدَ مَوْتِهَا، وَابْنُهَا غَائِبٌ لَمْ يَقْدَمْ، فَأَقَامَ الِابْنُ شَاهِدَيْنِ أَنَّهَا لَهُ، وَقَدْ حَضَرَ هَذَانِ الشَّاهِدَانِ عِتْقَ الْأُمِّ لَهَا وَسَكَتَا عَنْ أَمْرِهِمَا، وَشَهِدَ آخَرَانِ أَنَّهُمَا يَعْرِفَانِهَا فِي خِدْمَةِ الْأُمِّ، قَالَ شَهِيدَا الِابْنِ أَحَقُّ وَلَا يَضُرُّهُمَا حُضُورُهُمَا، عِتْقَ الْأُمِّ وَقَالَهُ أَصْبَغُ.
فرع:
قَالَ ابْنُ سَحْنُونٍ فِي كِتَابِهِ: كَتَبَ شَجَرَةُ إلَى سَحْنُونٍ فِي عَبِيدٍ ادَّعَوْا أَنَّ سَيِّدَهُمْ حَنِثَ فِيهِمْ بِالْعِتْقِ، فَجَاءُوا بِبَيِّنَةٍ فَشَهِدُوا أَنَّ مَوْلَاهُمْ فُلَانًا أَشْهَدَهُمْ قَبْلَ خُرُوجِهِ فِي سَفَرِهِ إلَى الْعَسْكَرِ، أَنَّهُ حَنِثَ فِيهِمْ وَسَمَّاهُمْ فَهَلْ يُتَّهَمُونَ فِي شَهَادَتِهِمْ وَكَيْفَ إنْ لَمْ يَرْفَعُوا ذَلِكَ؟ فَكَتَبَ إلَيْهِ: هَذِهِ شَهَادَةٌ تُقْبَلُ إلَّا أَنْ يَكُونُوا حِينَ أَشْهَدَهُمْ يَرَوْنَهُ يَشْتَغِلُ وَيَسْتَخْدِمُ، فَطَالَبَهُ ذَلِكَ قَبْلَ خُرُوجِهِ إلَى الْعَسْكَرِ فَتَبْطُلُ شَهَادَتُهُمْ بِذَلِكَ، فَإِنْ كَانَ خُرُوجُهُ بَعْدَ الشَّهَادَةِ بِأَمَدٍ قَرِيبٍ فَلَا يَضُرُّهُمْ إلَّا أَنْ يَرَوْهُمْ بَعْدَ خُرُوجِهِ يُسْتَخْدَمُونَ وَيَشْتَغِلُونَ إلَى يَوْمِ شَهَادَتِهِمْ عِنْدَك فَذَلِكَ لَا يَضُرُّ، وَإِنْ لَمْ يُعْطُوا بِذَلِكَ وَكَانُوا غُيَّبًا قَبْلَ الْخُرُوجِ وَبَعْدَهُ فِي أَنْ تَطُولَ الْمُدَّةُ فَأَخِّرْ شَهَادَتَهُمْ.
فرع:
وَسَأَلَهُ شَجَرَةُ عَنْ رَجُلٍ شَهِدَ عِنْدَهُ عَلَى رَجُلٍ أَنَّهُ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ ثَلَاثًا مُنْذُ سِنِينَ، فَقَالَ لَهُ شَجَرَةُ لِمَ لَمْ تَرْفَعْ ذَلِكَ؟ فَقَالَ: لَمْ أَدْرِ أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ وَهُوَ صَالِحٌ رِضًا، وَشَهِدَ آخَرُ أَنَّهُ قَالَ لَهَا بِالْأَمْسِ أَنْتِ حَرَامٌ قَالَ: شَهَادَةُ الْأَوَّلِ سَاقِطَةٌ وَيَحْلِفُ الزَّوْجُ مَعَ شَاهِدِ الْحَرَامِ.
فرع:
وَسَأَلَهُ حَبِيبٌ عَنْ رَجُلٍ يُدْخِلُ مِنْ زُقَاقِ الْمُسْلِمِينَ شَيْئًا فِي دَارِهِ وَالزُّقَاقُ نَافِذٌ، ثُمَّ يَرْفَعُ الْجِيرَانُ ذَلِكَ إلَى الْحَاكِمِ بَعْدَ عِشْرِينَ سَنَةً، قَالَ: يُهْدَمُ بِنَاءُ الْجِدَارِ وَيُرَدُّ ذَلِكَ إلَى الزُّقَاقِ إذَا صَحَّتْ الْبَيِّنَةُ، وَلَا تُمْلَكُ الْأَزِقَّةُ وَلَا تُحَازُ وَلَيْسَ فِيهَا حِيَازَةٌ.
وَقَالَ سَحْنُونٌ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: إذَا كَانَ أَمْرًا بَيِّنًا مِنْ الْقَطْعِ مِنْ طَرِيقِ الْمُسْلِمِينَ يَرَوْنَهُ عِشْرِينَ سَنَةً لَا يَشْهَدُونَ بِهِ فَهَذِهِ جُرْحَةٌ، قَالَ مَنْ أَثِقُ بِهِ: هِيَ خِلَافُ الْأُولَى إلَّا أَنْ يَكُونَ يَعْنِي أَنَّ ذَلِكَ ثَبَتَ بِغَيْرِ الَّذِي عَايَنُوهُ وَرَفَعُوهُ.
فرع:
وَفِي الْمُقْنِعِ قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ عِنْدَ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ فِيمَنْ بَيْنَهُمَا خُصُومَةٌ، فَسَأَلَ أَحَدُهُمَا رَجُلَيْنِ أَنْ يَمْشِيَا إلَى صَاحِبِهِ وَيُصْلِحَا بَيْنَهُمَا، فَأَتَيَاهُ فَقَالَ: أَنَا أُخَيِّرُكُمَا عَلَى أَنْ لَا تَشْهَدَا فَقَبِلَا ذَلِكَ مِنْهُ، فَاعْتَرَفَ بِهِ ثُمَّ تَجَاحَدَا، قَالَ: لَا تُعَجِّلَا بِالشَّهَادَةِ حَتَّى يَكَادَا يَتَجَاحَدَا أَوْ يَكُونَ عِنْدَ آخَرَ ذَلِكَ، فَإِنْ اصْطَلَحَا وَإِلَّا شَهِدَا عَلَيْهِ.
فرع:
وَقَالَ ابْنُ نَافِعٍ عَنْهُ فِي الدَّاخِلِ بَيْنَ اثْنَيْنِ فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمَا ثُمَّ طَلَبَهُ أَحَدُهُمَا بِمَا أَقَرَّ لَهُ بِهِ فَأَبَى أَنْ يَشْهَدَ، قَالَ مَالِكٌ: مَا أَرَى بِمَا صَنَعَ بَأْسًا. قَالَ ابْنُ حَبِيبٍ عَنْ مُطَرِّفٍ وَابْنِ الْمَاجِشُونِ: وَإِذَا أَدْخَلَا بَيْنَهُمَا رَجُلَيْنِ عَلَى أَنْ لَا يَشْهَدَا بَيْنَهُمَا مِثْلَ ذَلِكَ.
فرع:
وَإِذَا أَخَذَ رَجُلٌ رَجُلًا قَدْ شَرِبَ خَمْرًا لِيَرْفَعَهُ إلَى السُّلْطَانِ وَمَعَهُ جَمَاعَةٌ، فَلَمْ يَزَالُوا بِهِ حَتَّى أَطْلَقَهُ فَأَقَامَ زَمَانًا ثُمَّ وَقَعَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ شَرٌّ فَأَرَادَ رَفْعَهُ وَاسْتَشْهَدَ بِالْقَوْمِ. قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ لَا يَشْهَدُوا فِي ذَلِكَ إلَّا أَنْ يَكُونَ شَهِدَ عَلَى آخَرَ فَيُخْرِجُوهُ، قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: وَإِنْ كَانَ الْأَمِيرُ قَدْ عَلِمَ بِالْأَمْرِ فَلْيَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ إلَّا أَنْ يَشْهَدَ عَلَى رَجُلٍ بِحَقٍّ، فَلْيَشْهَدُوا حَتَّى يَطْرَحُوا الشَّهَادَةَ إنْ كَانَ مُقِيمًا عَلَى حَالِهِ لَمْ تُعْرَفْ لَهُ تَوْبَةٌ.
فرع:
قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ وَسَمِعْت مَالِكًا يَقُولُ فِي الرَّجُلَيْنِ يُحْضِرَانِ الرَّجُلَ فِي الْأَمْرِ بَيْنَهُمَا وَيَقُولَانِ لَهُ: لَا تَشْهَدْ عَلَيْنَا بِشَيْءٍ، فَإِنَّا نَتَقَارُّ بِأَشْيَاءَ مِنْ أَمْرِنَا لَا نَدْرِي أَيَتِمُّ بَيْنَنَا ذَلِكَ أَمْ لَا؟ فَيَتَكَلَّمَانِ ثُمَّ يَفْتَرِقَانِ فَيَسْأَلُهُ أَحَدُهُمَا أَنْ يَقُومَ بِمَا سَمِعَ مِنْهُمَا، لَا أَرَى أَنْ يُعَجِّلَ بِالشَّهَادَةِ وَلْيُكَلِّمْهُمَا فَإِنْ أَصَرَّا وَتَحَادَّا شَهِدَ بِمَا سَمِعَ مِنْهُمَا.
فرع:
قَالَ ابْنُ حَبِيبٍ: قَالَ لِي مُطَرِّفٌ وَابْنُ الْمَاجِشُونِ وَابْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ وَأَصْبَغُ فِي الرَّجُلَيْنِ يَتَنَاكَرَانِ حَقًّا بَيْنَهُمَا، فَيُجْلِسَانِ بَيْنَهُمَا رَجُلَيْنِ يَرُدَّانِ الظَّالِمَ مِنْهُمَا عَنْ ظُلْمِهِ وَالْمُفَاقِمَ عَنْ خَطَئِهِ، وَيُسَدِّدَانِ بَيْنَهُمَا عَلَى أَنْ لَا شَهَادَةَ مِنْهُمَا عَلَيْهِمَا فِي شَيْءٍ مِمَّا يُتَوَاصَفَانِ مِنْ أُمُورِهِمَا، فَيَتَوَاصَفَانِ ثُمَّ يَسْأَلُ أَحَدُهُمَا الشَّهِيدَيْنِ الشَّهَادَةَ بِمَا سَمِعَا وَحَضَرَا، فَلَا يَنْبَغِي لَهُمَا أَنْ يَشْهَدَا بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ مَا لَمْ يَرَيَا أَحَدَهُمَا قَدْ تَعَدَّى، وَأَصَرَّ وَاسْتَبَانَ لَهُمَا أَنَّهُ الظَّالِمُ وَأَنَّهُ قَدْ تَحَقَّقَ الْحَقُّ لِصَاحِبِهِ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ فَلَا يَسَعُهُمَا إلَّا الشَّهَادَةُ.
فرع:
وَعَنْ عِيسَى عَنْ ابْنِ الْقَاسِمِ: فِيمَنْ سَمِعَ رَجُلًا طَلَّقَ امْرَأَتَهُ فَلَمْ يَقُمْ بِهَا زَمَانًا ثُمَّ قَامَ وَأَرَادَ أَنْ لَا يَذْكُرَ تَارِيخَ ذَلِكَ خَوْفَ أَنْ تَبْطُلَ، قَالَ: لِيَأْتِ بِهَا عَلَى وَجْهِهَا وَيَذْكُرْ التَّارِيخَ.
مَسْأَلَةٌ:
وَفِي الْمُقْنِعِ أَيْضًا فِيمَنْ شَهِدَ عِنْدَ قَاضٍ بِحَقٍّ وَالشَّاهِدُ مُجَرَّحٌ، فَدَعَا رَجُلٌ إلَى تَجْرِيحِهِ وَالرَّجُلُ يَعْلَمُ أَنَّ الَّذِي شَهِدَ بِهِ الشَّاهِدُ الْمَجْرُوحُ حَقٌّ، قَالَ سَحْنُونٌ فِي الْمُسْتَخْرَجَةِ لَا يَسَعُهُ تَجْرِيحُهُ إذَا دَعَا إلَى ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ يُهْلِكُ ذَلِكَ الْحَقَّ، وَقِيلَ: إنَّهُ يُخْبِرُ بِجَرْحَتِهِ الْقَاضِيَ، كَمَا لَوْ عَلِمَهُ عَبْدًا أَوْ نَصْرَانِيًّا لَلَزِمَهُ أَنْ يُجَرِّحَهُ بِذَلِكَ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ شَاهِدًا مَعَهُ فِي تِلْكَ الشَّهَادَةِ، فَقَالَ مَرَّةً: لَا يُخْبِرُ بِجَرْحَتِهِ ثُمَّ رَجَعَ فَقَالَ: يُخْبِرُ بِجَرْحَتِهِ.
مَسْأَلَةٌ:
قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ فِي الْمُسْتَخْرَجَةِ وَغَيْرِهَا فِي قَوْمٍ شَهِدُوا عَلَى رَجُلٍ أَنَّهُمْ وَجَدُوا مَعَهُ رِيحُ شَرَابٍ، فَيَذْكُرُ الشُّهُودُ أَنَّهُمْ أَعْدَاؤُهُ، وَرَجُلٌ يَعْلَمُ بِأَنَّهُمْ أَعْدَاؤُهُ، وَقَدْ أَقَرَّ عِنْدَهُ أَنَّهُ شَرِبَ، فَهَلْ يَسَعُهُ أَنْ يُخْبِرَ بِعَدَاوَتِهِمْ؟ قَالَ مَا يَسَعُهُ ذَلِكَ.
مَسْأَلَةٌ:
وَسُئِلَ سَحْنُونٌ عَمَّنْ عِنْدَهُ شَهَادَةٌ وَهِيَ لَا تَجُوزُ، وَتَجُوزُ عِنْدَ الْقَاضِي كَشَهَادَةٍ عَلَى صَدَاقٍ بَعْضُهُ إلَى غَيْرِ أَجَلٍ فَقَالَ: لَا يَشْهَدُ فِيهِ.
مَسْأَلَةٌ:
وَسُئِلَ عَنْ شَاهِدَيْنِ شَهِدَ أَحَدُهُمَا بِأَرْبَعِينَ وَآخَرُ بِخَمْسَةٍ وَأَرْبَعِينَ، وَهُمَا إنْ أَدَّيَاهَا لَمْ يُجِزْهَا الْحَاكِمُ وَكَانَ هَذَا رَأْيَهُ، فَهَلْ يَسَعُ الشَّاهِدَ أَنْ يُسْقِطَ خَمْسَةً وَيُشْهِدَ بِأَرْبَعِينَ لِتَتِمَّ الشَّهَادَةُ؟ قَالَ: لَا بَأْسَ، وَهَذِهِ الْأَرْبَعُ الْمَسَائِلِ لَيْسَتْ فِي هَذَا الْبَابِ، وَإِنَّمَا هِيَ مِنْ بَابِ مَا يَلْزَمُ الشَّاهِدَ رَفْعُهُ وَيَجُوزُ لَهُ كَتْمُهُ، ذَكَرْتهَا قَصْدًا لِتَتْمِيمِ الْفَائِدَةِ، وَفِي مُخْتَصَرِ الْوَاضِحَةِ وَفِي الْمُقْنِعِ مِنْ ذَلِكَ مَسَائِلُ كَثِيرَةٌ جِدًّا.

.الْبَابُ الثَّانِي وَالْخَمْسُونَ فِي الْقَضَاءِ بِالصُّلْحِ بَيْنَ الْخَصْمَيْنِ:

وَفِي مَعِينِ الْحُكَّامِ لِابْنِ عَبْدِ الرَّفِيعِ وَإِذَا خَشِيَ الْقَاضِي مِنْ تَفَاقُمِ الْأَمْرِ بَيْنَ الْخَصْمَيْنِ، أَوْ كَانَا مِنْ أَهْلِ الْفَضْلِ أَوْ بَيْنَهُمَا رَحِمٌ أَمَرَهُمَا بِالصُّلْحِ، وَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: رَدُّوا الْقَضَاءَ بَيْنَ ذَوِي الْأَرْحَامِ حَتَّى يَصْطَلِحُوا، فَإِنَّ فَصْلَ الْقَضَاءِ يُورِثُ الضَّغَائِنَ.
تنبيه:
قَالَ ابْنُ رَاشِدٍ وَغَيْرُهُ وَلَا يَأْمُرُ بِالصُّلْحِ إذَا تَبَيَّنَ لَهُ وَجْهُ الْحُكْمِ لِأَحَدِهِمَا رَجَاءَ أَنْ يُصْلِحَا، إلَّا أَنْ يَرَى لِذَلِكَ وَجْهًا مِثْلَ أَنْ يَرَى أَنَّ الْحُكْمَ يُوقِعُ فِتْنَةً وَتَهَارُجًا.
فرع:
قَالَ وَيَنْبَغِي لِلْإِمَامِ أَنْ يَنْدُبَ إلَى الصُّلْحِ إذَا أَشْكَلَ عَلَيْهِ وَجْهُ الْحُكْمِ فَإِنْ أَبَيَا أَوْ أَبَى أَحَدُهُمَا لَمْ يُلَحَّ عَلَيْهِمَا إلْحَاحًا يُشْبِهُ الْإِلْجَاءَ، بَلْ يَفْصِلُ بَيْنَهُمَا بِالْوَاجِبِ أَوْ يَتْرُكُ الْحُكْمَ بَيْنَهُمَا إذَا أَشْكَلَ عَلَيْهِ.
وَقَالَ سَحْنُونٌ فِي كِتَابِ ابْنِهِ: إذَا كَانَتْ شُبْهَةٌ وَأَشْكَلَ الْأَمْرُ فَلَا بَأْسَ أَنْ يَأْمُرَهُمَا بِالصُّلْحِ.
تنبيه:
وَفِي الطُّرُرِ لِابْنِ عَاتٍ، قَالَ بَعْضُهُمْ: إنَّمَا يَجُوزُ لِلْقَاضِي أَنْ يَأْمُرَهُمْ بِالصُّلْحِ إذَا تَقَارَبَتْ الْحُجَّتَانِ بَيْنَ الْخَصْمَيْنِ، غَيْرَ أَنَّ أَحَدَهُمَا يَكُونُ أَلْحَنَ بِحُجَّتِهِ مِنْ الْآخَرِ، أَوْ تَكُونُ الدَّعْوَى فِي أُمُورٍ دُرِسَتْ وَتَقَادَمَتْ وَتَشَابَهَتْ، وَأَمَّا إذَا تَبَيَّنَ لِلْقَاضِي الظَّالِمُ مِنْ الْمَظْلُومِ لَمْ يَسَعْهُ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى إلَّا فَصْلُ الْقَضَاءِ، وَانْظُرْ تَمَامَ هَذَا فِي آدَابِ الْقَضَاءِ أَوَّلَ الْكِتَابِ.

.فَصْلٌ الصُّلْحُ بَيْعٌ مِنْ الْبُيُوعِ:

فَصْلٌ: وَالصُّلْحُ بَيْعٌ مِنْ الْبُيُوعِ إنْ وَقَعَ عَلَى الْإِقْرَارِ، وَكَذَا إنْ وَقَعَ عَلَى الْإِنْكَارِ عَدَّ مَالِكٌ لِاشْتِرَاطِهِ فِيهِمَا مَا يُشْتَرَطُ فِي الْبَيْعِ، وَقَدْ يَكُونُ الصُّلْحُ إبْرَاءً وَإِسْقَاطًا، كَمَنْ لَهُ عَلَى رَجُلٍ مِائَةٌ فَيُصَالِحُهُ عَلَى أَخْذِ خَمْسِينَ مِنْهَا، عَلَى أَنْ يُسْقِطَ الْبَاقِيَ وَهُوَ عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ: جَائِزٌ، وَمَمْنُوعٌ، وَمَكْرُوهٌ، وَمُخْتَلَفٌ فِيهِ.
فَالْجَائِزَةُ: الصُّلْحُ عَلَى الْإِقْرَارِ بِمَا تَصِحُّ الْمُعَاوَضَةُ بِهِ.
وَالْمَمْنُوعُ: الصُّلْحُ عَلَى الْإِقْرَارِ بِمَا لَا تَصِحُّ الْمُعَاوَضَةُ.
وَالْمَكْرُوهُ: مَا يُؤَدِّي إلَى أَسْلِفْنِي وَأُسَلِّفْك، مِثْلَ أَنْ يَدَّعِيَ كُلُّ وَاحِدٍ عَلَى صَاحِبِهِ بِدَنَانِيرَ فَيُنْكِرَهُ صَاحِبُهُ، فَيَصْطَلِحَانِ عَلَى أَنْ يُؤَخِّرَ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ بِمَا يَدَّعِيهِ عَلَيْهِ إلَى أَجَلٍ.
وَالْمُخْتَلَفُ فِيهِ: الصُّلْحُ عَلَى الْإِنْكَارِ وَهُوَ جَائِزٌ عِنْدَ مَالِكٍ خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ وَاخْتُلِفَ أَيْضًا فِي الصُّلْحِ عَلَى الْقَذْفِ وَسَيَأْتِي.

.فَصْلٌ يُشْتَرَطُ فِي الْمُصَالِحِ وَالْمُصَالَحِ أَهْلِيَّةُ الْمُعَامَلَةِ:

وَيَجُوزُ لِلرَّجُلِ أَنْ يُصَالِحَ عَنْ غَيْرِهِ بِوَكَالَةٍ أَمْ بِغَيْرِ وَكَالَةٍ، وَذَلِكَ مِثْلُ أَنْ يُصَالِحَ رَجُلٌ رَجُلًا عَنْ دَيْنٍ وَعَلَى رَجُلٍ آخَرُ وَيَلْزَمُ الْمُصَالِحُ مَا صَالَحَ بِهِ.
فرع:
وَيَجُوزُ الصُّلْحُ عَلَى الْإِنْكَارِ وَعَلَى الِافْتِدَاءِ مِنْ الْيَمِينِ وَذَلِكَ مَرْوِيٌّ عَنْ عُثْمَانَ وَابْنِ مَسْعُودٍ، وَلَا مُخَالِفَ لَهُمَا وَذَلِكَ جَائِزٌ فِي ظَاهِرِ الْحُكْمِ، وَلَا يَحِلُّ لِلظَّالِمِ مِنْهُمَا أَنْ يَأْخُذَ شَيْئًا.
فرع:
فَلَوْ أَقَرَّ الْمَطْلُوبُ بَعْدَ ذَلِكَ نُقِضَ الصُّلْحُ، لِأَنَّهُ إنَّمَا صَالَحَهُ غَلَبَةً، فَلَوْ ثَبَتَ الْحَقُّ بِبَيِّنَةٍ لَمْ يَعْلَمْ بِهَا الطَّالِبُ فَلَهُ نَقْضُ الصُّلْحِ، وَقِيلَ: لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ لِأَنَّهُ مُفَرِّطٌ فِي الِاسْتِعْلَامِ وَالْبَحْثِ.
فرع:
وَاخْتُلِفَ فِي الصُّلْحِ عَلَى الْقَذْفِ فَمَنَعَهُ فِي الْمُدَوَّنَةِ وَأَجَازَهُ سَحْنُونٌ.
وَقَالَ أَشْهَبُ: الْحُدُودُ الَّتِي لَا يَجُوزُ الصُّلْحُ فِيهَا هِيَ مَا لَا يَجُوزُ فِيهِ الْعَفْوُ كَالسَّرِقَةِ وَالزِّنَا، وَمَا جَازَ فِيهِ الْعَفْوُ جَازَ فِيهِ الصُّلْحُ.
فرع:
وَصُلْحُ الْأَبِ أَوْ الْوَصِيِّ عَمَّنْ فِي حِجْرِهِمَا جَائِزٌ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُسْقِطَ مِنْ حَقِّهِ شَيْئًا عَلَى غَيْرِ وَجْهِ النَّظَرِ، وَفِي مُفِيدِ الْحُكَّامِ فِي الْأَبِ يُصَالِحُ عَنْ ابْنَتِهِ الْبِكْرِ بِبَعْضِ حَقِّهَا مِنْ مِيرَاثٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ، وَحَقُّهَا بَيِّنٌ لَا خِصَامَ فِيهِ، أَنَّ صُلْحَهُ غَيْرُ جَائِزٍ إذْ لَا نَظَرَ فِيهِ، وَتَرْجِعُ الِابْنَةُ بِبَقِيَّتِهِ عَلَى مَنْ هُوَ عَلَيْهِ، ثُمَّ لَا رُجُوعَ لَهُ عَلَى الْأَبِ إلَّا أَنْ يَتَحَمَّلَ لَهُ بِمَا يُدْرِكُهُ فِي ذَلِكَ مِنْ دَرَكٍ، وَلَوْ كَانَ عَدِيمًا طَالَبَتْ أَبَاهَا بِهِ، وَهُوَ قَوْلُ جَمِيعِ أَصْحَابِ مَالِكٍ.
فرع:
وَفِي الطُّرُرِ لِابْنِ عَاتٍ: وَصُلْحُ الْوَصِيِّ عَنْ الْيَتِيمِ فِيمَا طُلِبَ بِهِ أَوْ طُلِبَ مِنْهُ، فِي أَنْ يَأْخُذَ بَعْضَ حَقِّهِ وَيَضَعَ بَعْضَهُ إذَا خَشِيَ أَنْ لَا يَصِحَّ لَهُ مَا ادَّعَاهُ، أَوْ بِأَنْ يُعْطِيَ مِنْ مَالِهِ مَا يُطْلَبُ بِهِ إذَا خَشِيَ أَنْ يَثْبُتَ عَلَيْهِ جَمِيعُهُ جَائِزٌ، قَالَهُ ابْنُ الْقَاسِمِ فِي سَمَاعِ أَصْبَغَ.
وَقَالَ ابْنُ الْمَاجِشُونِ يَجُوزُ أَنْ يَأْخُذَ بَعْضَ حَقِّهِ وَيَضَعَ بَعْضَهُ إذَا خَشِيَ ذَلِكَ بِخِلَافِ أَنْ يُصَالِحَ عَنْهُ بِبَعْضِ مَا طُلِبَ مِنْهُ، قَالَ ابْنُ رُشْدٍ: وَالصَّوَابُ مَا قَالَهُ ابْنُ الْقَاسِمِ وَلَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا، وَفِعْلُ الْوَصِيِّ مَحْمُولٌ عَلَى النَّظَرِ حَتَّى يَثْبُتَ خِلَافُهُ، فَإِنْ قَامَ أَحَدٌ بِنَقْضِهِ نَظَرَ فِيهِ الْقَاضِي، فَإِنْ رَأَى فِيهِ ضَرَرًا بِالْيَتِيمِ نَقَضَهُ، قَالَهُ ابْنُ الْقَاسِمِ.
فرع:
وَفِي الْكَافِي لِأَبِي عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْبَرِّ فِي الصَّانِعِ تَضِيعُ عِنْدَهُ السِّلْعَةُ وَيَغْرَمُ قِيمَتَهَا، ثُمَّ تُوجَدُ أَنَّهَا لِلصَّانِعِ، وَكَذَلِكَ لَوْ ادَّعَى عَلَى رَجُلٍ أَنَّهُ سَرَقَ عَبْدَهُ فَأَنْكَرَهُ فَصَالَحَهُ عَلَى شَيْءٍ ثُمَّ وُجِدَ الْعَبْدُ، قَالَ ابْنُ رُشْدٍ فِي سَمَاعِ يَحْيَى: هُوَ لِلْمُدَّعَى عَلَيْهِ، وَلَا يُنْقَضُ الصُّلْحُ مَعِيبًا كَانَ أَوْ صَحِيحًا إلَّا أَنْ يَجِدَهُ عِنْدَهُ قَدْ أَخْفَاهُ فَيَكُونُ لِرَبِّهِ.
وَفِي التَّهْذِيبِ فِي الْمُكْتَرِي يَتَعَدَّى بِالدَّابَّةِ مَوْضِعَ الْكِرَاءِ فَتَضِلُّ فَيَغْرَمُ قِيمَتَهَا ثُمَّ تُوجَدُ هِيَ لِلْمُكْتَرِي.
فرع:
وَفِي الطُّرُرِ عَلَى التَّهْذِيبِ لِأَبِي إبْرَاهِيمَ الْأَعْرَجِ، قَالَ عِيسَى بْنُ دِينَارٍ: لَوْ أَنَّ لِرَجُلٍ عَلَى رَجُلٍ وَثِيقَةً بِذِكْرِ حَقٍّ فَضَاعَتْ وَأَنْكَرَهُ الْمَطْلُوبُ، الْمَطْلُوبَ، فَصَالَحَهُ بِبَعْضِ حَقِّهِ ثُمَّ وَجَدَ الْوَثِيقَةَ، حَلَفَ وَيَرْجِعُ بِمَا بَقِيَ عَلَيْهِ مِنْ حَقِّهِ.
فرع:
إنْ وَقَعَ الصُّلْحُ بَيْنَ وَرَثَةٍ وَضَمِنَ حَاضِرُهُمْ فَأَمَرَ غَائِبَهُمْ فَأَنْكَرَ الصُّلْحَ، أَوْ ادَّعَى الْغَائِبُ شَيْئًا لَمْ يَجُزْ الصُّلْحُ وَفُسِخَ.
فرع:
قَالَ ابْنُ رَاشِدٍ أَنْ يَتَقَيَّدَ عَلَيْهِ فِي عَقْدِ الصُّلْحِ أَنَّهُ أَسْقَطَ الْبَيِّنَاتِ لَمْ يَكُنْ لَهُ الْقِيَامُ سَوَاءٌ كَانَ عَالِمًا بِهَا أَوْ لَا، قَالَ حَمْدِيسٌ إذَا صَالَحَ وَلَهُ بَيِّنَةٌ لَمْ يَرْجِعْ بِشَيْءٍ وَإِنْ أَقَرَّ لَهُ الْمَطْلُوبُ، وَإِنْ لَمْ يَتَقَيَّدْ عَلَيْهِ ذَلِكَ فَلَهُ الْقِيَامُ بِبَيِّنَةٍ لَمْ يُعْلَمْ بِهَا بَعْدَ يَمِينِهِ أَنَّهُ لَمْ يَعْلَمْ بِهَا، وَتَكُونُ يَمِينُهُ بَعْدَ الْقِيَامِ وَقَبُولِ الْحَاكِمِ لَهَا.
فرع:
وَيَجُوزُ صُلْحُ وَلِيِّ الْمَقْتُولِ لِلْقَاتِلِ عَلَى خُرُوجِهِ مُرْتَحِلًا مِنْ بَلَدِ الْمَقْتُولِ، فَإِنْ عَادَ إلَيْهِ عَادَ الطَّلَبُ عَلَيْهِ، فَإِنْ ثَبَتَ وَجَبَ لِلْأَوْلِيَاءِ الْقِصَاصُ فِي الْعَمْدِ وَالدِّيَةُ فِي الْخَطَأِ.
فرع:
إذَا أَشْهَدَ فِي السِّرِّ أَنَّهُ إنَّمَا يُصَالِحُهُ لِأَجْلِ إنْكَارِهِ، وَأَنَّهُ مَتَى وَجَدَ بَيِّنَةً قَامَ بِهَا فَالصُّلْحُ غَيْرُ لَازِمٍ إذَا ثَبَتَ إنْكَارُهُ وَثَبَتَ الْحَقُّ، وَغَايَةُ مَا عَلَيْهِ الْيَمِينُ أَنَّهُ مَا عَلِمَ بَيِّنَتَهُ.
وَقَالَ مُطَرِّفٌ لَا يَنْفَعُهُ مَا أَشْهَدَ بِهِ فِي السِّرِّ، وَقَدْ ذَكَرْت هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ وَقَوْلَ ابْنِ مُزَيْنٍ فِيهَا فِي بَابِ الْقَضَاءِ بِشَهَادَةِ الِاسْتِرْعَاءِ.

.الْبَابُ الثَّالِثُ وَالْخَمْسُونَ فِي الْقَضَاءِ بِالْإِقْرَارِ:

فِي الْقَضَاءِ بِالْإِقْرَارِ قَالَ ابْنُ رَاشِدٍ حَقِيقَتُهُ الْإِخْبَارُ عَنْ أَمْرٍ يَتَعَلَّقُ بِهِ حَقٌّ لِلْغَيْرِ، وَحُكْمُهُ اللُّزُومُ وَهُوَ أَبْلَغُ مِنْ الشَّهَادَةِ، قَالَ أَشْهَبُ: قَوْلُ كُلِّ أَحَدٍ عَلَى نَفْسِهِ أَوْجَبُ مِنْ دَعْوَاهُ عَلَى غَيْرِهِ، وَمَنْ لَمْ يَجُزْ إقْرَارُهُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ صَغِيرٍ وَشَبَهِهِ لَمْ تَجُزْ شَهَادَتُهُ عَلَى غَيْرِهِ.
[لِلْإِقْرَارِ أَرْبَعَةُ أَرْكَانٍ]
وَلِلْإِقْرَارِ أَرْبَعَةُ أَرْكَانٍ: الصِّيغَةُ، وَالْمُقِرُّ، وَالْمُقَرُّ لَهُ، وَالْمُقَرُّ بِهِ.
الرُّكْنُ الْأَوَّلُ الصِّيغَةُ: وَهِيَ لَفْظٌ أَوْ مَا يَقُومُ مَقَامَهُ يَدُلُّ عَلَى تَوَجُّهِ الْحَقِّ قِبَلَ الْمُقِرِّ، وَلَا خَفَاءَ بِصَرَائِحِ أَلْفَاظِهِ، وَيَقُومُ مَقَامَ اللَّفْظِ الْإِشَارَةُ وَالْكِتَابَةُ وَالسُّكُوتُ، فَالْإِشَارَةُ مِنْ الْأَبْكَمِ وَمِنْ الْمَرِيضِ، فَإِذَا قِيلَ لِلْمَرِيضِ لِفُلَانٍ: عِنْدَك كَذَا؟ فَأَشَارَ بِرَأْسِهِ أَنْ نَعَمْ فَهَذَا إقْرَارٌ، إذَا فُهِمَ عَنْهُ مُرَادُهُ وَالْكِتَابَةُ مِثْلُ أَنْ يَكْتُبَ بِيَدِهِ بِمَحْضَرِ قَوْمٍ، وَقَالَ: اشْهَدُوا عَلَيَّ بِمَا فِيهِ فَذَلِكَ لَازِمٌ وَإِنْ لَمْ يَقْرَأْهُ عَلَيْهِمْ.
فرع:
لَوْ كَتَبَ رِسَالَةً لِرَجُلٍ غَائِبٍ أَنَّ لَك عَلَيَّ كَذَا لَزِمَهُ، فَإِنْ جَحَدَ وَقَامَتْ الْبَيِّنَةُ أَنَّهُ كَتَبَهُ أَوْ أَمْلَاهُ لَزِمَهُ وَيَلْزَمُهُ أَيْضًا كُلُّ مَا فِيهِ مِنْ الطَّلَاقِ وَغَيْرِهِ، خَلَا الْحُدُودِ فَلَهُ أَنْ يَرْجِعَ عَنْهُ وَيُؤْخَذُ بِغُرْمِ السَّرِقَةِ وَلَا يُحَدُّ.
فرع:
وَلَوْ كَتَبَ فِي الْأَرْضِ لِفُلَانٍ عَلَيَّ كَذَا، وَقَالَ اشْهَدُوا عَلَيَّ بِهَذَا لَزِمَهُ، وَإِنْ لَمْ يَقُلْ اشْهَدُوا لَمْ يَلْزَمْهُ، وَلَوْ كَتَبَ ذَلِكَ فِي صَحِيفَةٍ أَوْ لَوْحٍ أَوْ خِرْقَةٍ لَزِمَهُ إنْ شَهِدَ أَنَّهُ خَطُّهُ بِخِلَافِ كِتَابَتِهِ فِي الْأَرْضِ.
فرع:
وَفِي أَحْكَامِ ابْنِ سَهْلٍ قَالَ مَالِكٌ: فِي الرَّجُلِ يُقِرُّ لِقَوْمٍ أَنَّ أَبَاهُمْ كَانَ أَسْلَفَهُ مَالًا وَأَنَّهُ قَدْ قَضَاهُ إيَّاهُ أَنَّهُ إنْ كَانَ أَمَدُ ذَلِكَ قَرِيبًا، وَالزَّمَنُ غَيْرَ مُتَطَاوِلٍ لَمْ يُصَدَّقْ إلَّا بِبَيِّنَةٍ عَلَى الْقَضَاءِ، وَإِنْ تَطَاوَلَ زَمَانُ ذَلِكَ أُحْلِفَ الْمُقِرُّ وَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ وَلَمْ يَجِدْ الطُّولَ فَانْظُرْهُ.
فرع:
وَالسُّكُوتُ مِثْلُ الْمَيِّتِ تُبَاعُ تَرِكَتَهُ وَتُقَسَّمُ وَغَرِيمُهُ حَاضِرٌ سَاكِتٌ لَمْ يَقُمْ فَلَا قِيَامَ لَهُ إلَّا أَنْ يَكُونَ لَهُ عُذْرٌ.
مَسْأَلَةٌ:
وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ فِيمَنْ سُئِلَ عِنْدَ مَوْتِهِ، هَلْ لِأَحَدٍ عِنْدَك شَيْءٌ؟ فَقَالَ: لَا قِيلَ لَهُ: وَلَا لِامْرَأَتِك؟ وَالْمَرْأَةُ سَاكِتَةٌ وَهِيَ تَسْمَعُ فَإِنَّهَا تَحْلِفُ أَنَّ حَقَّهَا عَلَيْهِ تُرِيدُ إلَى الْآنَ وَتَأْخُذُهُ إنْ قَامَتْ لَهَا بِهِ بَيِّنَةٌ، وَلَا يَضُرُّهَا سُكُوتُهَا مِنْ الْمَذْهَبِ لِابْنِ رَاشِدٍ.
فرع:
وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ فِيمَنْ أَتَى إلَى قَوْمٍ فَقَالَ: اشْهَدُوا أَنَّ لِي كَذَا وَكَذَا عَلَى هَذَا الرَّجُلِ، وَالرَّجُلُ سَاكِتٌ وَلَمْ يَسْأَلْهُ الشُّهُودُ عَنْ شَيْءٍ، فَلَمَّا طُولِبَ أَنْكَرَ قَالَ لَا بَلْ يَلْزَمُهُ بِسُكُوتِهِ.
فرع:
وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: فِيمَنْ قَالَ لِرَجُلٍ فُلَانٌ السَّاكِنُ فِي مَنْزِلِك لِمَ أَسْكَنْته؟ فَقَالَ: أَسْكَنْته بِلَا كِرَاءٍ، وَالسَّاكِنُ يَسْمَعُ وَلَا يُنْكِرُ وَلَا يُغَيِّرُ، ثُمَّ ادَّعَى أَنَّ الْمَنْزِلَ لَهُ قَالَ: لَا يَقْطَعُ سُكُوتَهُ دَعْوَاهُ إنْ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ أَنَّ الْمَنْزِلَ لَهُ وَيَحْلِفُ، لِأَنَّهُ يَقُولُ: ظَنَنْته يُدَاعِبُ.
تنبيه:
وَفِي وَثَائِقِ أَبِي إِسْحَاقَ الْغَرْنَاطِيِّ: وَمَنْ أَقَرَّ لِرَجُلٍ أَنَّهُ لَا حَقَّ لَهُ عَلَيْهِ بَرِئَ مِنْ الْحُقُوقِ الْوَاجِبَةِ مِنْ الضَّمَانَاتِ وَالدُّيُونِ، وَإِنْ أَقَرَّ أَنَّهُ لَا حَقَّ لَهُ عِنْدَهُ أَوْ قِبَلَهُ بَرِئَ مِنْ الضَّمَانَاتِ وَالْأَمَانَاتِ.
[الرُّكْنُ الثَّانِي الْمُقِرُّ]
إقْرَارُ الرَّجُلِ إمَّا عَلَى نَفْسِهِ أَوْ عَلَى غَيْرِهِ أَوْ عَلَى نَفْسِهِ وَغَيْرِهِ، فَإِنْ أَقَرَّ عَلَى نَفْسِهِ وَهُوَ رَشِيدٌ طَائِعٌ لَزِمَ أَقَرَّ بِمَالٍ أَوْ بِقِصَاصٍ، وَلَا يَنْفَعُهُ الرُّجُوعُ وَإِنْ أَقَرَّ بِمَا يُوجِبُ عَلَيْهِ الْحَدَّ كَالزِّنَا وَالسَّرِقَةِ، لَهُ الرُّجُوعُ لَكِنْ يَلْزَمُهُ الصَّدَاقُ وَالْمَالُ.
فرع:
وَلَوْ كَانَ مُكْرَهًا لَمْ يَلْزَمْهُ، وَلَوْ كَانَ مَحْجُورًا عَلَيْهِ لِحَقِّ نَفْسِهِ كَالصَّغِيرِ، وَلَمْ يَلْزَمْهُ إلَّا أَنْ يَدَّعِيَ إنْ احْتَلَمَ فِي وَقْتِ إمْكَانِهِ إذْ لَا يُعْرَفُ إلَّا مِنْ جِهَتِهِ، وَالْمَجْنُونُ مِثْلُهُ.
فرع:
وَلَوْ حَجَرَ عَلَيْهِ غَيْرُهُ كَالْمُفْلِسِ وَالْعَبْدِ وَالْمَرِيضِ فَأَحْكَامُ إقْرَارِهِمْ مَشْهُورَةٌ مَبْسُوطَةٌ فِي كُتُبِ الْفِقْهِ.
مَسْأَلَةٌ:
وَإِذَا أَقَرَّ لَك غَرِيمُك بِاثْنَيْ عَشَرَ دِينَارًا، وَثَبَتَ قَبْضُك لِتِسْعَةِ دَنَانِيرَ بِبَيِّنَةٍ أَوْ إقْرَارٍ وَلَهُ بَيِّنَةٌ بِأَدَاءِ ثَلَاثَةٍ، فَزَعَمْت أَنَّهَا مِنْ التِّسْعَةِ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ بِأَنَّهَا سِوَاهَا.
مَسْأَلَةٌ:
وَأَمَّا إقْرَارُهُ عَلَى غَيْرِهِ فَإِنْ كَانَ سَبَبُهُ مِنْهُ كَقَتْلِ الْخَطَأِ وَجِرَاحِ الْخَطَأِ الَّتِي فِيهَا ثُلُثُ الدِّيَةِ، فَإِقْرَارُهُ غَيْرُ لَازِمٍ، وَمَا كَانَ دُونَ ثُلُثِ الدِّيَةِ لَزِمَهُ فِي مَالِهِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ سَبَبُهُ مِنْهُ، كَإِقْرَارِهِ فِي عَبْدِ زَيْدٍ أَنَّهُ لِعَمْرٍو فَلَا يُقْبَلُ إقْرَارُهُ.
مَسْأَلَةٌ:
وَأَمَّا إقْرَارُهُ عَلَى نَفْسِهِ وَغَيْرِهِ فَيُقْبَلُ فِي حَقِّ نَفْسِهِ وَيَكُونُ شَاهِدًا لِغَيْرِهِ، فَلَوْ قَالَ: لِفُلَانٍ عَلَيَّ وَعَلَى فُلَانٍ أَلْفُ دِرْهَمٍ فَعَلَيْهِ النِّصْفُ وَيَحْلِفُ الطَّالِبُ مَعَهُ، فَإِنْ نَكَلَ أَوْ كَانَ غَيْرَ عَدْلٍ فَلَا شَيْءَ لَهُ غَيْرَ النِّصْفِ.
[الرُّكْنُ الثَّالِثُ الْمُقَرُّ لَهُ]
وَيُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ أَهْلًا لِلِاسْتِحْقَاقِ وَلَا يُكَذِّبُ الْمُقِرَّ، فَلَا يَصِحُّ الْإِقْرَارُ لِلْجَمَادِ وَالْحَيَوَانِ، وَإِذَا كَذَّبَ الْمُقِرَّ ثُمَّ رَجَعَ لَمْ يَفْدِهِ رُجُوعُهُ، إلَّا أَنْ يَرْجِعَ الْمُقِرُّ إلَى الْإِقْرَارِ.
[الرُّكْنُ الرَّابِعُ الْمُقَرُّ بِهِ]
وَهُوَ ضَرْبَانِ نَسَبٌ وَمَالٌ، فَالْأَوَّلُ: هُوَ الِاسْتِلْحَاقُ وَمَسَائِلُهُ مَشْهُورَةٌ، وَأَمَّا الْإِقْرَارُ بِالْمَالِ فَهُوَ نَوْعَانِ: مُطْلَقٌ وَمُقَيَّدٌ، وَالْمُطْلَقُ مَا صَدَرَ غَيْرَ مُقْتَرِنٍ بِمَا يُقَيِّدُهُ أَوْ يُرْفَعُ حُكْمُهُ أَوْ حُكْمُ بَعْضِهِ، وَالْمُقَيَّدُ إمَّا أَنْ يَكُونَ مُقَيَّدًا بِالْمَحِلِّ أَوْ بِالْعِلْمِ أَوْ بِالْغَايَةِ أَوْ بِالْخِيَارِ أَوْ بِالشَّرْطِ أَوْ بِالِاسْتِثْنَاءِ أَوْ عَلَى جِهَةِ الشُّكْرِ أَوْ الذَّمِّ أَوْ الِاعْتِذَارِ أَوْ تَعْقِيبِ الْإِقْرَارِ بِمَا يُبْطِلُهُ، فَالْمَحَلُّ كَقَوْلِهِ غَصَبْت فُلَانًا ثَوْبًا فِي مِنْدِيلٍ أُخِذَ بِالثَّوْبِ وَالْمِنْدِيلِ وَصَدَقَ فِي صِفَتِهِمَا، قَالَهُ سَحْنُونٌ وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ: لَا يَلْزَمُهُ الْمِنْدِيلُ وَالْعِلْمُ كَقَوْلِهِ لَهُ: عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ فِيمَا أَعْلَمُ، أَوْ فِيمَا أَظُنُّ أَوْ فِيمَا حَسِبْت أَوْ فِيمَا رَأَيْت فَهُوَ إقْرَارٌ، قَالَهُ سَحْنُونٌ.
وَقَالَ ابْنُ الْمَوَّازِ وَابْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ: إذَا قَالَ فِيمَا أَعْلَمُ أَوْ فِي عِلْمِي أَوْ فِيمَا يَحْضُرنِي فَهُوَ شَكٌّ لَا يَلْزَمُ، وَالْغَايَةُ كَقَوْلِهِ لَهُ عَلَيَّ مَا بَيْنَ دِرْهَمٍ إلَى مِائَتَيْ دِرْهَمٍ لَزِمَهُ مِائَةٌ وَتِسْعَةٌ وَتِسْعُونَ، وَلَوْ قَالَ مَا بَيْنَ دِرْهَمٍ إلَى عَشَرَةٍ لَزِمَهُ تِسْعَةٌ، وَقِيلَ يَلْزَمُهُ عَشَرَةٌ، وَكَذَلِكَ مِنْ دِرْهَمٍ إلَى ثَلَاثَةٍ فَيَلْزَمُهُ ثَلَاثَةٌ، وَالْخِيَارُ كَقَوْلِهِ لَهُ عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ عَلَى أَنِّي بِالْخِيَارِ يَوْمَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةً، فَقِيلَ: يَلْزَمُهُ وَيَكُونُ الْخِيَارُ كَالْأَجَلِ، وَقِيلَ: الْخِيَارُ بَاطِلٌ، وَالشَّرْطُ كَقَوْلِهِ عَلَيَّ مِائَةٌ إنْ حَلَفَ، أَوْ إذَا حَلَفَ أَوْ مَتَى حَلَفَ، فَقَالَ الْمُقِرُّ: مَا ظَنَنْت أَنَّهُ يَحْلِفُ لَمْ يَلْزَمْهُ إقْرَارُهُ إجْمَاعًا، وَالِاسْتِثْنَاءُ كَقَوْلِهِ عَلَيَّ أَلْفٌ إنْ شَاءَ اللَّهُ لَزِمَهُ، وَلَا يَنْفَعُهُ الِاسْتِثْنَاءُ بِالْمَشِيئَةِ.
وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ لَا يَلْزَمُهُ لِأَنَّهُ أَدْخَلَ مَا يُوجِبُ الشَّكَّ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ: إنْ قَضَى اللَّهُ ذَلِكَ أَوْ إنْ أَرَادَ اللَّهُ لَزِمَهُ، كَقَوْلِهِ: إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى قَالَهُ سَحْنُونٌ.
وَقَالَ ابْنُ الْمَوَّازِ وَابْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ: لَا يَلْزَمُهُ، وَلَوْ قَالَ: إلَّا أَنْ يَبْدُوَ لِي أَوْ إلَّا أَنْ أَرَى غَيْرَ ذَلِكَ لَزِمَهُ، وَلَوْ قَالَ لَهُ: عَلَيَّ مِائَةٌ إلَّا شَيْئًا لَزِمَهُ أَحَدٌ وَتِسْعُونَ، وَمَسَائِلُ هَذَا النَّوْعِ مَذْكُورَةٌ فِي مَحِلِّهَا لَا نُطَوِّلُ بِذِكْرِهَا، وَالشُّكْرُ مِثْلُ قَوْلِهِ: اشْهَدُوا أَنِّي قَبَضْت مِنْ فُلَانٍ مِائَةَ دِينَارٍ كَانَتْ لِي عَلَيْهِ، وَأَحْسَنُ قَضَائِي جَزَاهُ اللَّهُ خَيْرًا، فَقَالَ الدَّافِعُ: إنَّمَا أَسْلَفْتهَا لَهُ، فَاَلَّذِي قَالَ: أَسْلَفْتهَا لَهُ مُصَدَّقٌ إلَّا أَنْ يَأْتِيَ الْآخَرُ بِبَيِّنَةٍ أَنَّهُ كَانَ يَتَقَاضَاهُ فِي دَيْنِهِ قَبْلَ ذَلِكَ، وَقِيلَ: هُوَ مُصَدَّقٌ، وَقِيلَ: إنْ كَانَ إقْرَارُهُ بِذَلِكَ فِي مَجْلِسِ الْقَاضِي لَمْ يُصَدَّقْ إلَّا بِبَيِّنَةٍ، وَإِنْ كَانَ عَلَى وَجْهِ الْحِكَايَةِ لِقَوْمٍ صُدِّقَ.
فرع:
قَالَ أَصْبَغُ عَنْ ابْنِ الْقَاسِمِ سَمِعْت مَالِكًا يَقُولُ: فِي الْإِقْرَارِ بِالسَّلَفِ وَقَضَائِهِ عَلَى وَجْهِ الشُّكْرِ وَالثَّنَاءِ لَا يَلْزَمُ الْمُقِرَّ وَهُوَ مُصَدَّقٌ فِيمَا طَالَ زَمَانُهُ، وَإِنْ كَانَ فِيمَا وَقْتُهُ قَرِيبٌ أُخِذَ بِإِقْرَارِهِ.
وَقَالَ مُطَرِّفٌ وَابْنُ الْمَاجِشُونِ وَكُلُّ مَنْ أَقَرَّ بِحَقٍّ عِنْدَ قَوْمٍ فِي مَسَاقِ حَدِيثٍ يُحَدِّثُهُمْ، أَوْ شُكْرٍ شَكَرَهُ بِهِ أَحَدٌ فَأَثْنَى عَلَيْهِ بِهِ لِمَا قَدْ مَضَى مِنْ سَلَفٍ وَغَيْرِهِ مِنْ الْحُقُوقِ، ثُمَّ ادَّعَى الْمُقَرُّ لَهُ ذَلِكَ، وَقَالَ: قَدْ أَسْلَفْته كَمَا ذَكَرَ وَلَمْ أَقْبِضْ، وَقَالَ الْآخَرُ: قَدْ قَبَضْته وَإِنَّمَا ذَكَرْت إحْسَانَهُ إلَيَّ وَأَثْبَتُّهُ عَلَيْهِ بِهِ فَلَا يَلْزَمُهُ ذَلِكَ الْمُقَرُّ بِهِ، إذَا كَانَ عَلَى هَذِهِ الْجِهَةِ، وَلَا يَنْبَغِي لِلْقَوْمِ أَنْ يَشْهَدُوا بِذَلِكَ، فَإِنْ جَهِلُوا أَوْ شَهِدُوا بِذَلِكَ عَلَى جِهَتِهِ وَكَمَا كَانَ سَاقَهُ لَمْ يَجُزْ لِلسُّلْطَانِ أَنْ يَأْخُذَهُ بِهِ، وَهَكَذَا سَمِعْت مَالِكًا يَقُولُ: وَجَمِيعُ أَصْحَابِنَا، وَالذَّمُّ كَقَوْلِهِ كَانَ لِفُلَانٍ عَلَيَّ دِينَارٌ فَأَسَاءَ تَقَاضِي ذَلِكَ، لَا جَزَاهُ اللَّهُ خَيْرًا وَقَدْ دَفَعْته لَهُ، فَقَالَ الْآخَرُ: مَا تَقَاضَيْت مِنْك شَيْئًا، فَإِنَّ الْمُقِرَّ يَغْرَمُ الدِّينَارَ قَالَهُ ابْنُ الْقَاسِمِ، وَلَيْسَ هَذَا عِنْدَهُ كَالْمُقِرِّ عَلَى الشُّكْرِ.
وَقَالَ ابْنُ الْمَاجِشُونِ: فِيمَنْ قَالَ لِقَوْمٍ أَسْلَفَنِي فُلَانٌ مِائَةَ دِينَارٍ وَقَضَيْته إيَّاهَا أَنَّهُ مُصَدَّقٌ، وَلَوْ قَالَهَا عِنْدَ سُلْطَانٍ لَمْ يُصَدَّقْ إلَّا بِبَيِّنَتِهِ، قَالَ ابْنُ حَبِيبٍ لِأَنَّ مَا كَانَ مِنْ أَمْرٍ جَرَّهُ الْحَدِيثُ وَالْإِخْبَارُ عَنْ حَالِ الشُّكْرِ وَالذَّمِّ فَلَا يُؤْخَذُ بِهِ أَحَدٌ، بِخِلَافِ الْإِقْرَارِ فِي مَوْضِعِ الْقَضَاءِ وَالِاعْتِذَارِ، مِثْلَ أَنْ يَقُولَ السُّلْطَانُ فِي الْجَارِيَةِ وُلِدَتْ مِنِّي، أَوْ الْعَبْدِ مُدَبَّرٌ؛ لِئَلَّا يَأْخُذَهُمَا مِنْهُ فَلَا يَلْزَمُهُ، وَكَذَلِكَ لَوْ سَأَلَهُ ابْنُ عَمِّهِ مَنْزِلًا فَقَالَ: هُوَ لِزَوْجَتِي، ثُمَّ سَأَلَهُ فِيهِ ثَانٍ وَثَالِثٌ مِنْ بَنِي عَمِّهِ وَهُوَ يَقُولُ ذَلِكَ، فَقَامَتْ امْرَأَتُهُ بِذَلِكَ فَقَالَ: إنَّمَا قُلْته اعْتِذَارًا قَالَ مَالِكٌ لَا شَيْءَ لَهَا، وَقَدْ رَوَى ابْنُ الْقَاسِمِ فِيمَنْ سُئِلَ أَنْ يُكْرِيَ مَنْزِلَهُ فَقَالَ: هُوَ لِابْنَتِي حَتَّى أُشَاوِرَهَا، فَقَامَتْ الِابْنَةُ فِيهِ قَالَ: لَا يَنْفَعُهَا ذَلِكَ إلَّا أَنْ تَكُونَ حَازَتْ ذَلِكَ وَلَهَا عَلَى الصَّدَقَةِ وَالْحِيَازَةِ بَيِّنَةٌ، قِيلَ لَهُ: وَلَوْ كَانَتْ صَغِيرَةً؟ قَالَ لَيْسَ لَهَا شَيْءٌ قَدْ يَعْتَذِرُ بِهَذَا يُرِيدُ مَنْعَهُ.
مَسْأَلَةٌ:
وَفِي وَثَائِقِ الْغَرْنَاطِيِّ: وَمَنْ سُئِلَ عَنْ شَيْءٍ فَقَالَ هُوَ لِفُلَانٍ لَمْ يَلْزَمْهُ هَذَا الْإِقْرَارُ، بِخِلَافِ مَا إذَا قَالَ وَهَبْته أَوْ بِعْته مِنْ فُلَانٍ فَإِنَّهُ يَلْزَمُهُ، وَالرَّافِعُ مِثْلُ أَنْ يُقِرَّ بِشَيْءٍ ثُمَّ يُعْقِبَهُ بِمَا يُبْطِلُهُ وَيَرْفَعُ حُكْمَهُ فَإِنَّهُ يَبْطُلُ إلَّا أَنْ يُخَالِفَهُ الْمُقَرُّ لَهُ، مِثْلَ أَنْ يَقُولَ لَهُ: عِنْدِي أَلْفٌ مِنْ ثَمَنِ خَمْرٍ أَوْ خِنْزِيرٍ، وَقَالَ ابْنُ شَاسٍ لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ إلَّا أَنْ يَقُولَ الْمُقَرُّ لَهُ بَلْ هِيَ مِنْ ثَمَنِ بُرٍّ فَيَلْزَمُ مَعَ يَمِينِ الطَّالِبِ.

.الْبَابُ الرَّابِعُ وَالْخَمْسُونَ فِي الْقَضَاءِ بِاجْتِهَادِ الْحَاكِمِ:

قَالَ ابْنُ الْفَرَسِ فِي أَحْكَامِ الْقُرْآنِ فِي قَوْله تَعَالَى: {فَإِنْ أَرَادَا فِصَالا عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا} [البقرة: 233]، دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ الِاجْتِهَادِ فِي الْأَحْكَامِ بِغَالِبِ الظُّنُونِ، وَرُوِيَ عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: كَانَ الرَّضَاعُ وَاجِبًا فِي الْحَوْلَيْنِ وَكَانَ يَحْرُمُ الْفِطَامُ قَبْلَهُ ثُمَّ أُبِيحَ أَقَلُّ مِنْ هَذِهِ الْمُدَّةِ بِهَذِهِ الْآيَةِ.
وَفِي مُفِيدِ الْأَحْكَامِ قَالَ مَالِكٌ: إنَّ اللَّهَ وَسَّعَ عَلَى هَذِهِ الْأُمَّةِ بِالِاجْتِهَادِ وَذَكَرَهُ فِي شَهَادَةِ السَّمَاعِ.
[مَسْأَلَةٌ امْرَأَةُ الْمَفْقُودِ فِي الْمُعْتَرَكِ]
مَسْأَلَةٌ:
مِنْ ذَلِكَ امْرَأَةُ الْمَفْقُودِ فِي الْمُعْتَرَكِ يَتَلَوَّمُ لَهَا الْإِمَامُ بِالِاجْتِهَادِ فِيمَا قَرُبَ مِنْ الدِّيَارِ، بَعْدَ انْصِرَافِ مَنْ انْصَرَفَ وَانْهِزَامِ مَنْ انْهَزَمَ، ثُمَّ تَعْتَدُّ وَتَتَزَوَّجُ، وَرُوِيَ بَعْدَ سَنَةٍ، وَرُوِيَ سَنَةٌ فِيهَا الْعِدَّةُ.
فرع:
وَالْحَرْبِيُّ إذَا قَدِمَ تَاجِرًا وَدَخَلَ إلَى بِلَادِنَا بِأَمَانٍ مُطْلَقٍ، وَلَمْ يَقْدِرْ الْإِمَامُ عَلَيْهِ مَا يُؤْخَذُ مِنْهُ، فَالْمَشْهُورُ أَنَّ ذَلِكَ رَاجِعٌ إلَى اجْتِهَادِ الْإِمَامِ فَيَجْتَهِدُ فِي قَدْرِ مَا يُؤْخَذُ مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ يَجْتَهِدُ مُطْلَقًا، بِحَيْثُ إنَّهُ لَوْ أَرَادَ تَرْكَ الْأَخْذِ مِنْهُ كَانَ لَهُ ذَلِكَ، وَمُقَابِلُ الْمَشْهُورِ أَنَّ عَلَيْهِ الْعُشْرَ كَالذِّمِّيِّ.
وَفِي ابْنِ عَبْدِ السَّلَامِ قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ وَأَشْهَبُ: لَا يُزَادُ عَلَى الْعُشْرِ، وَقَالَهُ أَصْبَغُ إذَا كَانُوا مَعْرُوفِينَ بِالنُّزُولِ قَبْلَ ذَلِكَ عَلَى الْعُشْرِ.
فرع:
وَكَذَا الْحَرْبِيُّ إذَا قَدِمَ مِنْ بِلَادِهِ مُرِيدًا لِلْإِقَامَةِ فِي بِلَادِنَا عَلَى عَقْدِ الذِّمَّةِ وَضَرْبِ الْجِزْيَةِ فَإِنَّ السُّلْطَانَ يَنْظُرُ فِي ذَلِكَ بِالْأَصْلَحِ لِلْمُسْلِمِينَ.
فرع:
وَكَذَلِكَ جَوَازُ إعْطَاءِ أَمِيرِ الْجَيْشِ الْأَمَانَ لِلْعَدُوِّ الَّذِي خَرَجَ لِقِتَالِهِ، وَتَأْمِينِ بَعْضِهِمْ إمَّا مُطْلَقًا مِثْلَ أَنْ يَقُولَ لِجَمَاعَةٍ: أَنْتُمْ آمِنُونَ، فَإِنْ أَرَادُوا الْبَقَاءَ فِي بِلَادِ الْمُسْلِمِينَ وَيُؤَدُّوا الْجِزْيَةَ فَلَهُمْ ذَلِكَ، وَإِنْ أَرَادُوا الرُّجُوعَ فَهُمْ آمِنُونَ حَتَّى يَبْلُغُوا مَأْمَنَهُمْ، أَوْ مُقَيَّدًا وَالتَّقَيُّدُ يَكُونُ بِزَمَانٍ أَوْ مَكَان أَوْ صِفَةٍ، مِثْلَ أَنَّهُ آمَنَ فِي نَفْسِهِ دُونَ مَالِهِ، وَذَلِكَ إذَا رَأَوْا أَنَّ الْمَصْلَحَةَ فِي عَدَمِ قِتَالِهِمْ، وَيَفْعَلُ الْأَمِيرُ ذَلِكَ بَعْدَ الِاجْتِهَادِ وَمَشُورَةِ مَنْ يَثِقُ بِهِ مِنْ ذَوِي الرَّأْيِ، وَيَنْظُرُ لِلْمُسْلِمِينَ بِالْمَصْلَحَةِ، وَلِأَجْلِ ذَلِكَ قَدِمَ الْأُمَرَاءُ عَلَى النَّاسِ، قَالَ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ: وَإِذَا جَازَ هَذَا لِأَمِيرٍ فَلَأَنْ يَجُوزَ لِأَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ أَوْلَى، وَلَا يَجُوزُ اتِّبَاعُ الْهَوَى فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، وَلَا اتِّبَاعُ الصَّالِحِ وَتَرْكُ الْأَصْلَحِ.
فرع:
وَالْمُعْسِرُ بِالنَّفَقَةِ يُطَلِّقُ الْحَاكِمُ عَلَيْهِ بَعْدَ التَّلَوُّمِ وَالِاجْتِهَادِ فَقِيلَ: بَعْدَ شَهْرٍ، وَقِيلَ: شَهْرَانِ، وَقِيلَ: ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الرَّجَاءِ، فَلَوْ آيَسَ مِنْ يُسْرِهِ فِي تِلْكَ الْمُدَّةِ طَلَّقَ عَلَيْهِ بِلَا ضَرْبِ أَجَلٍ، وَيَنْبَغِي لِلْحَاكِمِ أَنْ يَجْتَهِدَ فِي تَحْقِيقِ الْإِعْسَارِ، وَهَلْ ذَلِكَ الزَّوْجُ مِمَّنْ يُطَلَّقُ عَلَيْهِ بِالْإِعْسَارِ؟ فَقَدْ قَالَ مَالِكٌ: لَوْ تَزَوَّجَتْ رَجُلًا حَالُهُ مِثْلُ حَالِ أَهْلِ الصُّفَّةِ لَمْ يَكُنْ لَهَا التَّطْلِيقُ بِسَبَبِ الْإِعْسَارِ لِدُخُولِهَا عَلَى ذَلِكَ.
فرع:
وَإِذَا وَصَّى لِزَيْدٍ وَلِلْفُقَرَاءِ بِالثُّلُثِ أُعْطِيَ زَيْدٌ بِقَدْرِ حَاجَتِهِ بِالِاجْتِهَادِ.
فرع:
وَإِذَا قَالَ دَارِي حَبْسٌ فَقَطْ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهَا مَخْرَجًا، فَقَالَ مَالِكٌ: تَكُونُ فِي الْفُقَرَاءِ، قِيلَ لَهُ: إنَّ الدَّارَ بِالْإِسْكَنْدَرِيَّةِ، قَالَ: قَدْ يَجْتَهِدُ الْإِمَامُ فِيهَا وَلَهُ فِي ذَلِكَ سَعَةٌ مِنْ الْمُقْنِعِ.
فرع:
وَكَذَلِكَ لِلْعَبِيدِ الْحَبْسُ إذَا لَمْ تُمْكِنْ مُؤَاجَرَتُهُمْ فِيمَا يُقِيمُ عَيْشَهُمْ، فَإِنَّهُمْ يُبَاعُونَ وَتُقَسَّمُ أَثْمَانُهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ إنْ رَأَى ذَلِكَ الْإِمَامُ، أَوْ يَشْتَرِي بِهِ خَيْلًا أَوْ سِلَاحًا فِيمَا يُجْتَهَدُ فِيهِ بِرَأْيِ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ، وَكَذَلِكَ الثِّيَابُ إذَا اخْتَلَفَتْ فَحِينَئِذٍ يُنْظَرُ: فَإِنْ كَانَ فِيمَا يَبْقَى مِنْهَا ثَمَنٌ بِيعَتْ، وَيُجْعَلُ ثَمَنُهَا فِي شَأْنِ الْغَزْوِ عَلَى رَأْيِ الِاجْتِهَادِ.
فرع:
وَكَذَلِكَ فِي قَسْمِ غَلَّةِ الْحَبْسِ بَيْنَ أَهْلِهِ، يَجْتَهِدُ وَيُفَضِّلُ أَهْلَ الْحَاجَةِ وَالْعِيَالِ وَالزَّمْنَى عَلَى غَيْرِهِمْ.
فرع:
وَإِذَا أَسَرَ الْإِمَامُ الْعَدُوَّ عَجَمًا كَانُوا أَوْ عَرَبًا فَالْإِمَامُ مُخَيَّرٌ فِي خَمْسَةٍ: الْقَتْلِ، وَالِاسْتِرْقَاقِ، وَضَرْبِ الْجِزْيَةِ، وَالْمُفَادَاةِ، وَالْمَنِّ إذَا كَانَ ذَلِكَ نَظَرَ، وَهَذَا التَّخْيِيرُ بِحَسَبِ الْمَصْلَحَةِ وَالِاجْتِهَادِ، لَا أَنَّهُ يَفْعَلُ أَيَّهَا شَاءَ بِهَوَاهُ.
فرع:
وَكَذَلِكَ مَا يَقْطَعُهُ الْإِمَامُ، فَإِنَّهُ يَقْطَعُ مَنْ شَاءَ بِالنَّظَرِ وَالْمَصْلَحَةِ لِلْمُسْلِمِينَ، وَلَيْسَ لِلْإِمَامِ أَنْ يَقْطَعَ غَيْرَ الْمَوَاتِ إلَّا مَتَاعًا أَوْ تَمْلِيكًا.
فرع:
وَكَذَلِكَ مَا يَفْعَلُهُ الْإِمَامُ بِالْمُحَارِبِ مِنْ الْقَتْلِ أَوْ الصَّلْبِ، ثُمَّ الْقَتْلِ أَوْ قَطْعِ الْأَيْدِي وَالْأَرْجُلِ مِنْ خِلَافٍ مُوَالَاةً أَوْ النَّفْيِ، فَتَعْيِينُ أَحَدِ هَذِهِ الْأُمُورِ لِلْإِمَامِ يُفْعَلُ بِاجْتِهَادِهِ مَا يَرَاهُ أَنْفَعَ فِي الزَّجْرِ.
فرع:
وَكَذَلِكَ عَقْدُ الصُّلْحِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَالْكُفَّارِ، يَجْتَهِدُ لِلْمُسْلِمِينَ بِالْمَصْلَحَةِ فِي ذَلِكَ.
فرع:
وَعُقُوبَةُ الْمَرْأَةِ الْمُسَاحَقَةِ، قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ ذَلِكَ إلَى اجْتِهَادِ الْإِمَامِ.
فرع:
وَكَذَلِكَ أَدَبُ الْكَافِرِ فِي اللِّوَاطِ.
فرع:
وَمِنْ ذَلِكَ تَقْدِيرُ النَّفَقَاتِ لِلزَّوْجَاتِ وَالْأَوْلَادِ وَالْأَبَوَيْنِ.
فرع:
وَكَذَلِكَ تَأْجِيلُ الْأَخْذِ بِالشُّفْعَةِ: قِيلَ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ، وَقِيلَ عَشَرَةٌ، وَقِيلَ خَمْسَةَ عَشَرَ إلَى عِشْرِينَ، وَالْأَصْلُ أَنَّهُ رَاجِعٌ إلَى اجْتِهَادِ الْحَاكِمِ مِنْ أَحْكَامِ ابْنِ سَهْلٍ.
فرع:
إذَا اسْتَمْهَلَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ الْحَاكِمَ أَنْ لَا يُعَجِّلَ عَلَيْهِ بِالْحُكْمِ لِأَجْلِ حِسَابٍ وَشَبَهِهِ، فَإِنَّهُ يُمْهِلُهُ الْيَوْمَيْنِ وَالثَّلَاثَةَ بِكَفِيلٍ يُوَجِّهُهُ، وَقِيلَ مَا يَرَى الْحَاكِمُ.
فرع:
وَالتَّعْزِيرَاتُ تَرْجِعُ إلَى اجْتِهَادِ الْحَاكِمِ وَنَظَرِهِ بِقَدْرِ الْجِنَايَةِ، وَحَالِ الْجَانِي وَالْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ حَتَّى تَقَعَ الْمُؤَاخَذَةُ عَلَى وَفْقِ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ حَيْفٍ مِنْهُ، وَهَذَا مَبْسُوطٌ فِي بَابِ الْقَضَاءِ بِالتَّعْزِيرِ.
فرع:
وَالسِّنُّ الْمُضْطَرِبَةُ جِدًّا يُقَدَّرُ مَا بَقِيَ فِيهَا مِنْ الْمَنْفَعَةِ فَيَأْخُذُ بِقَدْرِهَا بِالِاجْتِهَادِ، وَكَذَلِكَ فِيمَا نَقَصَ مِنْ مَنْفَعَةِ الْقِيَامِ وَالْجُلُوسِ يَأْخُذُ بِحِسَابِهِ بِالِاجْتِهَادِ، وَكَذَا فِي الْعَيْنِ الْقَائِمَةِ الِاجْتِهَادُ.
فرع:
وَمَنْ أَوْصَى بِعِتْقِ عَبْدٍ يُشْتَرَى لِتَطَوُّعٍ أَوْ ظِهَارٍ وَلَمْ يُسَمِّ ثَمَنًا أُخْرِجَ بِالِاجْتِهَادِ عَلَى قَدْرِ الْمَالِ.
فرع:
وَكَذَا أَرْضُ الْعَنْوَةِ يَجْتَهِدُ الْإِمَامُ فِيهَا وَمَنْ حَضَرَهُ مِنْ الْمُسْلِمِينَ، فِي قَسْمِهَا بَيْنَ أَهْلِ الْمَغْنَمِ أَوْ وَقَفَهَا خَرَاجًا لِلْمُسْلِمِينَ.
فرع:
وَمِنْ ذَلِكَ ضَرْبُ الْقُضَاةِ الْآجَالَ فِي الْأَعْذَارِ فِي الْحُكْمِ وَفِي الْغَيْبَةِ، إذَا قَامَتْ الْمَرْأَةُ بِعَدَمِ النَّفَقَةِ وَسَأَلَتْ الطَّلَاقَ، وَفِي ضَرْبِ الْأَجَلِ فِي بَيْعِ الْعَقَارِ فِي الدَّيْنِ، وَذَكَرَ ابْنُ سَهْلٍ: أَنَّهُ لَيْسَ لِهَذَا حَدٌّ مَحْدُودٌ لَا يَتَجَاوَزُ، وَإِنَّمَا هُوَ لِاجْتِهَادِ الْحَاكِمِ وَقَدْ يَزِيدُ عَلَى ذَلِكَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى الْآجَالِ.
فرع:
وَفِي الطُّرُرِ وَيَصِحُّ الْإِجْبَارُ عَلَى النِّكَاحِ بَعْدَ الْبُلُوغِ مَعَ الثُّيُوبَةِ، إذَا ظَهَرَ مِنْهَا الْفَسَادُ وَلَمْ يَقْدِرْ وَلِيُّهَا عَلَى صِيَانَتِهَا، أَوْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلِيٌّ يَصُونُهَا، وَاسْتُحْسِنَ أَنْ يَرْفَعَ ذَلِكَ مَعَ عَدَمِ الْأَبِ إلَى الْحَاكِمِ فَيَجْتَهِدَ فِيمَنْ يَتَزَوَّجُهَا مِنْهُ، وَإِنْ زَوَّجَهَا وَلِيٌّ مِنْ غَيْرِ حَاكِمٍ مَضَى فِعْلُهُ.
فرع:
إذَا وَجَبَ عَلَى الْعَاقِلَةِ حَمْلُ نِصْفِ الدِّيَةِ أَوْ ثَلَاثَةِ أَرْبَاعِهَا، فَرُوِيَ عَنْ مَالِكٍ أَنَّ تَقْسِيطَهَا عَلَى الْعَاقِلَةِ مَوْكُولٌ إلَى اجْتِهَادِ الْإِمَامِ، وَرُوِيَ أَنَّهَا تُقَسَّطُ فِي سَنَتَيْنِ، وَكَذَلِكَ مِقْدَارُ مَا يُقَسَّطُ عَلَى كُلِّ رَجُلٍ مِنْ الْعَاقِلَةِ مَوْكُولٌ إلَى اجْتِهَادِ الْإِمَامِ، لِأَنَّهُ لَيْسَ لِمَا يُؤْخَذُ مِنْهُمْ حَدٌّ، لِأَنَّهُ لَمْ يَرِدْ فِي ذَلِكَ تَحْدِيدٌ وَإِنَّمَا هُوَ مُوَاسَاةٌ، فَيَنْظُرُ الْإِمَامُ فِي ذَلِكَ وَقَدْ كَانَ يَحْمِلُ عَلَى النَّاسِ فِي عَطِيَّاتِهِمْ مِنْ كُلِّ مِائَةِ دِرْهَمٍ وَنِصْفٍ.
وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ مِنْ كُلِّ مِائَةِ دِرْهَمٍ.
فرع:
قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: كَانَ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ لَا يُوَقِّتُ فِي الْحِيَازَةِ لَا عَشْرَ سِنِينَ وَلَا غَيْرَهَا، وَكَانَ يَرَى ذَلِكَ عَلَى قَدْرِ مَا يَنْزِلُ بِهِ الْأَمْرُ يَرَى فِيهِ الْإِمَامُ رَأْيَهُ، وَذَهَبَ ابْنُ الْمَاجِشُونِ إلَى ذَلِكَ، فَإِنَّ ذَلِكَ قَدْ يَكُونُ بَعْضُهُ أَقْوَى مِنْ بَعْضٍ، وَذَهَبَ ابْنُ الْقَاسِمِ إلَى الْعَشْرِ وَمَا قَارَبَهَا وَعَلَيْهِ الْعَمَلُ.

.الْبَابُ الْخَامِسُ وَالْخَمْسُونَ فِي الْقَضَاءِ بِالْأَشْبَهِ مِنْ قَوْلِ الْخَصْمَيْنِ:

وَالْأَصْلُ فِي ذَلِكَ الْقَوْلِ بِالِاسْتِحْسَانِ وَفِي الْمُتَيْطِيَّةِ: فِي بَابِ الزَّمَنِ وَالِاسْتِحْسَانِ فِي الْعِلْمِ أَغْلَبُ مِنْ الْقِيَاسِ، وَقَدْ قَالَ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ: تِسْعَةُ أَعْشَارِ الْعِلْمِ الِاسْتِحْسَانُ، وَنَبْدَأُ بِالْكَلَامِ عَلَى الِاسْتِحْسَانِ، ثُمَّ نُتْبِعُ ذَلِكَ بِذِكْرِ الْمَسَائِلِ.
وَفِي كِتَابِ الْجَامِعِ لِأُصُولِ الْفِقْهِ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ خُوَيْزِ مَنْدَادٍ الْبَصْرِيِّ قَالَ: قَوْلُ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ عَلَى الْقَوْلِ بِالِاسْتِحْسَانِ وَبَنَى عَلَيْهِ أَبْوَابًا وَمَسَائِلَ مِنْ مَذْهَبِهِ، وَأَنْكَرَهُ بَعْضُهُمْ وَشَنَّعَ عَلَى الْقَائِلِينَ بِهِ، وَمَعْنَى قَوْلِنَا بِالِاسْتِحْسَانِ: هُوَ الْقَوْلُ بِأَوْلَى الدَّلِيلَيْنِ، وَذَلِكَ أَنْ تَكُونَ الْحَادِثَةُ مُتَرَدِّدَةً بَيْنَ أَصْلَيْنِ: وَأَحَدُ الْأَصْلَيْنِ أَقْوَى بِهَا شَبَهًا وَأَقْرَبُ، وَالْأَصْلُ الْآخَرُ أَبْعَدُ إلَّا مَعَ الْقِيَاسِ الْبَعِيدِ الظَّاهِرِيِّ، أَوْ عُرْفٍ جَارٍ أَوْ ضَرْبٍ مِنْ الْمَصْلَحَةِ أَوْ خَوْفِ مَفْسَدَةٍ، أَوْ ضَرْبٍ مِنْ الضَّرَرِ وَالْعُذْرِ، فَيُعْدَلُ عَنْ الْقِيَاسِ عَلَى الْأَصْلِ الْقَرِيبِ إلَى الْقِيَاسِ عَلَى ذَلِكَ الْأَصْلِ الْبَعِيدِ، وَهَذَا مِنْ جِنْسِ وُجُوهِ الِاعْتِبَارِ، وَأَتَمُّ طَرِيقَةٍ لِلْقَائِسِينَ كَمَا تَقُولُ: إنَّ الْقِيَاسَ أَنَّ بَيْعَ الْعَرَايَا بَاطِلٌ، لَكِنْ جَازَ ذَلِكَ لِلسُّنَّةِ، وَكَمَا تَقُولُ: إنَّ الرُّعَافَ وَالْقَيْءَ سَوَاءٌ، وَلَكِنْ جَاءَتْ السُّنَّةُ بِالْبِنَاءِ فِي الرُّعَافِ فَخَصَّصْنَا وَأَشْبَاهُ ذَلِكَ، وَالدَّلَالَةُ عَلَى صِحَّةِ قَوْلِنَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا رَآهُ الْمُسْلِمُونَ حَسَنًا فَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ حَسَنٌ»، وَقَالَ إيَاسُ بْنُ مُعَاوِيَةَ الْقَاضِي: قِيسُوا فِي الْقَضَاءِ مَا صَلُحَ النَّاسُ، فَإِذَا فَسَدُوا فَاسْتُحْسِنُوا فَإِنْ قِيلَ: فَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ فَلِمَ سَمَّيْتُمُوهُ اسْتِحْسَانًا؟ وَلَمْ لَا تُسَمُّونَهُ دَلِيلًا؟ قِيلَ: هَذَا اعْتِرَاضٌ عَلَيْنَا فِي التَّسْمِيَةِ، وَلِكُلِّ أَهْلِ صَنْعَةٍ أَنْ يَتَوَاضَعُوا بَيْنَهُمْ تَسْمِيَةً يَصْطَلِحُونَ عَلَيْهَا وَإِنْ لَمْ يَعْرِفْهَا الْعَرَبُ كَأَسْمَاءِ الْأَدَوَاتِ، وَتَسْمِيَةُ أَهْلِ الْفَرَائِضِ وَالنَّحْوِ وَالْفِقْهِ وَالْحِسَابِ، أَسْمَاءٌ لَا تَعْرِفُهَا الْعَرَبُ إلَّا أَنَّ تِلْكَ الْأَسْمَاءَ وَضَعُوهَا لِيَتَعَارَفُوا فِيهَا بَيْنَهُمْ، أَشْيَاءَ فَلَا مَعْنَى لِمَنْعِنَا مِنْ التَّسْمِيَةِ، وَقَدْ كَشَفْنَا عَنْ مَعْنَاهَا وَهُوَ مَعْنًى مُسَلَّمٌ وَأَكْثَرُ مَا رَدُّوا عَلَيْنَا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ بِقَوْلِهِمْ: إنَّ اللَّهَ تَعَالَى نَهَى عَنْ الْهَوَى وَاتِّبَاعِهِ، وَأَنْ نَقُولَ عَلَيْهِ مَا لَا نَعْلَمُ، وَقَالُوا لَا يَخْلُو الِاسْتِحْسَانُ مِنْ أَنْ يَكُونَ عَلَيْهِ دَلِيلٌ أَوْ يَكُونَ بِغَيْرِ دَلِيلٍ، فَقَدْ نَهَى اللَّهُ عَنْهُ، وَهَذَا الْقَائِلُ ظَنَّ الِاسْتِحْسَانَ هُوَ شَهَوَاتُ النُّفُوسِ، أَوْ مَا اسْتَحْسَنَّاهُ بِغَيْرِ دَلِيلٍ، وَلَوْ سَأَلَنَا وَاسْتَكْشَفَ عَنْ مَعْنَى قَوْلِنَا لَاسْتَغْنَى عَنْ تَسْوِيدِ كُتُبِهِ، عَلَى أَنَّ الشَّافِعِيَّ يَقُولُ فِي كُتُبِهِ: اُسْتُحْسِنَ أَنْ تَكُونَ الْمُتْعَةُ ثَلَاثِينَ، وَأَنْ يُؤَجَّلَ الشَّفِيعُ ثَلَاثًا، وَيَقُولُ بِهِ فَكَيْفَ يُنْكِرُ الِاسْتِحْسَانَ. وَمَعْنَى الِاسْتِحْسَانِ مَا حَسُنَ فِي الشَّرِيعَةِ وَلَمْ يُنَافِهَا.
[مَسْأَلَةٌ اخْتَلَفَ الْمُتَبَايِعَانِ فِي ثَمَنِ السِّلْعَةِ]
مَسْأَلَةٌ:
إذَا اخْتَلَفَ الْمُتَبَايِعَانِ فِي ثَمَنِ السِّلْعَةِ، وَكَانَ الْمُشْتَرِي قَدْ قَبَضَ السِّلْعَةَ وَغَابَ عَلَيْهَا، فَإِنْ كَانَتْ مِمَّا لَا يُعْرَفُ بِعَيْنِهِ وَهِيَ مِمَّا يُكَالُ أَوْ يُوزَنُ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُشْتَرِي مَعَ يَمِينِهِ إذَا أَتَى بِمَا يُشْبِهُ، وَإِنْ أَتَى بِمَا لَا يُشْبِهُ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْبَائِعِ مَعَ يَمِينِهِ إذَا أَتَى بِمَا يُشْبِهُ، فَإِنْ أَتَى بِمَا لَا يُشْبِهُ حَلَفَا وَرَدَّ إلَيْهِ الْمُشْتَرِي مِثْلَ كَيْلِهِ أَوْ وَزْنِهِ، وَإِنْ كَانَتْ السِّلْعَةُ مِمَّا يُعْرَفُ بِعَيْنِهِ كَالْحَيَوَانِ وَالثِّيَابِ وَالرَّقِيقِ وَلَمْ يَتَغَيَّرْ بِنَمَاءٍ وَلَا نُقْصَانٍ وَلَا حَوَالَةِ سُوقٍ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْبَائِعِ مَعَ يَمِينِهِ، فَإِنْ ادَّعَى أَحَدُهُمَا ثَمَنًا يُشْبِهُ ثَمَنَ السِّلْعَةِ وَادَّعَى الْآخَرُ مَا لَا يُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ ثَمَنًا لَهَا، فَإِنْ كَانَتْ السِّلْعَةُ فَائِتَةً فَالْقَوْلُ قَوْلُ مُدَّعِي الْأَشْبَهِ مِنْهُمَا اتِّفَاقًا، لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ التَّغَابُنِ وَالشِّرَاءُ بِالْقِيمَةِ وَمَا يُقَارِبُهَا، وَإِنْ كَانَتْ قَائِمَةً فَالْمَشْهُورُ أَنَّهُ لَا يُرَاعَى الْأَشْبَهُ، لِأَنَّهُمَا قَادِرَانِ عَلَى رَدِّ السِّلْعَةِ وَالشَّاذُّ أَنَّهُ يُرَاعَى، قَالَ ابْنُ بَشِيرٍ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْخِلَافُ فِي حَالٍ، فَإِنْ ادَّعَى أَحَدُهُمَا مَا يُشْبِهُ وَأَبْعَدَ الْآخَرُ فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يُخْتَلَفَ فِي أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ مُدَّعِي الْأَشْبَهِ، وَإِنْ ادَّعَى الْآخَرُ مَا يُمْكِنُ أَنْ يُتَغَابَنَ بِمِثْلِهِ فَلَا يُلْتَفَتُ إلَى الْأَشْبَهِ، وَمُرَاعَاةُ الْأَشْبَهِ هُوَ مِنْ بَابِ الِاسْتِحْسَانِ.
فرع:
وَفِي الْمُتَيْطِيَّةِ: وَإِذَا اخْتَلَفَ الزَّوْجَانِ فِي عَدَدِ الصَّدَاقِ أَوْ فِي نَوْعِهِ، وَأَتَى أَحَدُهُمَا بِمَا يُشْبِهُ، وَأَتَى الْآخَرُ بِمَا لَا يُشْبِهُ، فَفِيهَا رِوَايَتَانِ عَنْ مَالِكٍ.
إحْدَاهُمَا: يَتَحَالَفَانِ وَيُتَفَاسَخَانِ.
وَالثَّانِيَةُ: أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ مَنْ أَتَى بِمَا يُشْبِهُ، قَالَ الشَّيْخُ أَبُو الْحَسَنِ وَهُوَ أَصْوَبُ، لِأَنَّ قَوْلَهُ مَا يُشْبِهُ كَالشَّاهِدِ يَحْلِفُ مَعَهُ مَنْ قَامَ لَهُ ذَلِكَ الدَّلِيلُ.
فرع:
وَإِذَا اخْتَلَفَ الرَّاهِنُ وَالْمُرْتَهِنُ فِي الرَّهْنِ، وَاتَّفَقَا فِي الْمَبْلَغِ الْمَرْهُونِ فِيهِ مِثْلَ أَنْ يَتَّفِقَا عَلَى أَنَّ الْمَبْلَغَ أَلْفُ دِرْهَمٍ، فَيَأْتِي الْمُرْتَهِنُ بِثَوْبٍ يُسَاوِي مِائَةً وَيَقُولُ: هَذَا الثَّوْبُ الَّذِي رَهَنْته عِنْدِي، وَيَقُولُ الرَّاهِنُ: رَهَنْت ثَوْبًا يُسَاوِي أَلْفَ دِرْهَمٍ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الرَّاهِنِ لِأَنَّهُ ادَّعَى مَا يُشْبِهُ، وَادَّعَى الْمُرْتَهِنُ مَا لَا يُشْبِهُ، مِنْ الْمُتَيْطِيَّةِ قَالَ: وَكُلُّ مُتَدَاعِيَيْنِ فِي الرَّهْنِ وَالْبُيُوعِ، إذَا ادَّعَى أَحَدُهُمَا مَا يُشْبِهُ وَادَّعَى الْآخَرُ مَا لَا يُشْبِهُ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الَّذِي يُشْبِهُ وَيَسْقُطُ قَوْلُ الَّذِي لَا يُشْبِهُ، قَالَ أَصْبَغُ: وَقَدْ قَالَ لِي أَشْهَبُ أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الْمُرْتَهِنِ، وَلَوْ لَمْ يُسَاوِ إلَّا دِرْهَمًا وَهُوَ بَاطِلٌ وَلَيْسَ بِشَيْءٍ وَهُوَ انْحِرَافٌ فِي الْقِيَاسِ، وَرَجَّحَ الْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ قَوْلَ أَشْهَبَ فِي الْمَعُونَةِ بِأَنَّ الرَّاهِنَ رَضِيَ بِأَمَانَتِهِ، وَلَوْ لَمْ يُتَوَثَّقْ بِالْإِشْهَادِ عَلَى عَيْنِ الرَّهْنِ، ثُمَّ يَدَّعِي تَضْمِينَهُ وَإِثْبَاتَ دَعْوَى لَا تُعْرَفُ إلَّا بِقَوْلِهِ، فَوَجَبَ أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الْمُرْتَهِنِ، وَفِي مَعِينِ الْحُكَّامِ قَالَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ وَهَذَا مَذْهَبُ ابْنِ الْقَاسِمِ.
فرع:
وَإِذَا اخْتَلَفَ الْمُكْرِي وَالْمُكْتَرِي فِيمَا وَقَعَ بِهِ الْكِرَاءُ، مِثْلَ أَنْ يَقُولَ أَكْرَيْتك بِمِائَةٍ وَيَقُولُ الْآخَرُ بِخَمْسِينَ وَذَلِكَ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْمُدَّةِ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ السَّاكِنِ إنْ ادَّعَى مَا يُشْبِهُ وَيَحْلِفُ عَلَى ذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ الْأَمَدُ لَمْ يَنْقَضِ فَإِنَّهُمَا يَتَفَاسَخَانِ.
فرع:
وَلَوْ كَانَ الْكِرَاءُ انْعَقَدَ عَلَى بَيِّنَتَيْنِ، فَلَمَّا انْقَضَتْ السَّنَةُ الْأُولَى طَلَبَ الْمُكْرِي أُجْرَةَ السَّنَةِ وَقَالَ هُوَ مِائَةٌ وَقَالَ الْمُكْتَرِي هُوَ خَمْسُونَ، وَالْمِائَةُ عَنْ السَّنَتَيْنِ تَحَالَفَا وَتَفَاسَخَا كِرَاءَ الْعَامِ الثَّانِي، وَيُؤَدِّي الْمُكْتَرِي عَنْ الْعَامِ الْمَاضِي مَا أَقَرَّ بِهِ إنْ أَشْبَهَ وَإِلَّا فَكِرَاءُ الْمِثْلِ.
فرع:
وَإِذَا اخْتَلَفَ الْمُتَسَاقِيَانِ بَعْدَ أَنْ عَمِلَ السَّاقِي، فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ، إذَا أَتَى بِمَا يُشْبِهُ؛ لِأَنَّهُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ مِنْ الْمُتَيْطِيَّةِ.
فرع:
الْوَصِيُّ مُصَدَّقٌ فِيمَا ذُكِرَ مِنْ نَفَقَةِ الْيَتِيمِ عَلَى نَفْسِهِ، أَوْ عَلَى عِمَارَةِ رَبْعِهِ، وَكَذَلِكَ وَلِيُّ السَّفِيهِ إذَا أَتَيَا بِمَا يُشْبِهُ، لِأَنَّ النَّفَقَةَ لَا بُدَّ مِنْهَا، وَإِقَامَةُ الْبَيِّنَةِ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ يَشُقُّ عَلَى الْأَوْلِيَاءِ وَقَدْ يَتَعَذَّرُ ذَلِكَ، فَيُؤَدِّي إلَى عَدَمِ النَّفَقَةِ وَخَرَابِ الرَّبْعِ مِنْ شَرْحِ الْجَلَّابِ لِلْقَرَافِيِّ، وَنَقَلَهُ غَيْرُهُ.
فرع:
إذَا اخْتَلَفَ الزَّوْجَانِ فِيمَا فَرَضَ الْقَاضِي مِنْ النَّفَقَةِ، كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَ الزَّوْجِ إذَا أَشْبَهَ نَفَقَةَ مِثْلِهَا، فَإِنْ لَمْ يُشْبِهْ وَأَشْبَهَ مَا قَالَتْ كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهَا.
فرع:
وَإِذَا تَنَازَعَ الشَّفِيعُ وَالْمُشْتَرِي فِي قَدْرِ الثَّمَنِ، وَكَذَّبَهُ الشَّفِيعُ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُشْتَرِي فِيمَا يُشْبِهُ بِغَيْرِ يَمِينٍ وَإِنْ كَانَ مِمَّا لَا يُشْبِهُ، فَرَوَى ابْنُ الْقَاسِمِ أَنَّهُ يُصَدَّقُ الْمُشْتَرِي وَإِنْ حَلَفَ. قَالَ أَصْبَغُ: وَيُرَدُّ إلَى الْقِيمَةِ، وَرَوَى أَشْهَبُ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ يُصَدَّقُ فِيمَا لَا يُشْبِهُ بِيَمِينِهِ وَفِيمَا يُشْبِهُ بِغَيْرِ يَمِينٍ.
فرع:
وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ ثَمَنُ الشِّقْصِ عَرَضًا فَإِنَّمَا يَأْخُذُهُ الشَّفِيعُ بِقِيمَةِ الْعَرَضِ، فَإِنْ اخْتَلَفَا فِي الْقِيمَةِ وَقَدْ فَاتَ الْعَرَضُ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُبْتَاعِ إذَا أَتَى بِمَا يُشْبِهُ، فَإِنْ أَتَى بِمَا لَا يُشْبِهُ قِيلَ لِلْمُبْتَاعِ صِفْ الْعَرَضَ وَاحْلِفْ وَخُذْ بِذَلِكَ، فَإِنْ جَاءَ بِمَا لَا يُشْبِهُ أُخِذَ بِقِيمَةِ الشِّقْصِ يَوْمَ وَقَعَتْ الصَّفْقَةُ.
فرع:
وَإِذَا اخْتَلَفَ الْجَاعِلُ وَالْمَجْعُولُ لَهُ فِي الْعَبْدِ الْآبِقِ، بَعْدَ أَنْ أَتَى بِالْعَبْدِ وَهُوَ فِي يَدِ الْعَامِلِ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ إذَا أَتَى بِمَا يُشْبِهُ، فَإِنْ أَتَى بِمَا لَا يُشْبِهُ فَالْقَوْلُ قَوْلُ رَبِّ الْعَبْدِ إذَا أَتَى بِمَا يُشْبِهُ، فَإِنْ أَتَيَا بِمَا لَا يُشْبِهُ تَحَالَفَا وَكَانَ لِلْعَامِلِ جُعْلٌ مِثْلُهُ.
فرع:
وَإِنْ أَتَى الْعَامِلُ بِالْعَبْدِ إلَى رَبِّهِ فَاخْتَلَفَا فِي الْجُعْلِ، فَإِنْ أَتَى الْعَامِلُ بِمَا يُشْبِهُ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ، وَإِنْ أَتَى بِمَا لَا يُشْبِهُ وَأَتَى رَبُّ الْعَبْدِ بِمَا يُشْبِهُ فَالْقَوْلُ قَوْلُ رَبِّ الْعَبْدِ بِلَا يَمِينٍ تَكُونُ عَلَيْهِ، وَإِنْ أَتَيَا بِمَا لَا يُشْبِهُ رُدَّ إلَى جُعْلِ الْمِثْلِ، اُنْظُرْ الرُّعَيْنِيَّ.
فرع:
فِي الرَّجُلِ يَسْتَأْجِرُ صَائِغًا عَلَى عَمَلِ حُلِيٍّ، فَلَمَّا تَمَّ عَمَلُهُ جَاءَ صَاحِبُ الْحُلِيِّ بِدِينَارٍ فَقَالَ الصَّائِغُ: إنَّمَا عَمِلْته بِدِينَارَيْنِ، فَيَنْظُرُ إلَى ذَلِكَ أَهْلُ الْمَعْرِفَةِ، فَإِنْ كَانَ قَوْلُ الصَّائِغِ يُشْبِهُ أُجْرَةَ ذَلِكَ الْعَمَلِ كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ مَعَ يَمِينِهِ، فَإِنْ نَكَلَ أَوْ لَمْ يُشْبِهْ أُجْرَةَ مِثْلِهِ، حَلَفَ صَاحِبُ الْحُلِيِّ إنْ كَانَ قَوْلُهُ يُشْبِهُ الْأُجْرَةَ، فَإِنْ أَتَيَا بِمَا يَسْتَنْكِرُ أَعْطَى الصَّائِغَ مَا يَقُولُ أَهْلُ النَّظَرِ، أَنَّهُ أُجْرَةُ ذَلِكَ الْعَمَلِ مِنْ كِتَابِ رِسَالَةِ الْقَضَاءِ لِمَالِكٍ، وَكَذَا هُوَ فِي مُخْتَصَرِ الْوَاضِحَةِ.

.الْبَابُ السَّادِسُ وَالْخَمْسُونَ فِي الْقَضَاءِ بِمُوجَبِ الْجُحُودِ:

وَفِي مُخْتَصَرِ الْوَاضِحَةِ وَإِذَا شُهِدَ عَلَى رَجُلٍ بِطَلَاقِ إحْدَى امْرَأَتَيْهِ وَهُوَ يَجْحَدُ، فَإِنَّهُ يُحْكَمُ عَلَيْهِ بِطَلَاقِهِمَا جَمِيعًا.
فرع:
وَكَذَلِكَ إذَا شَهِدَتْ عَلَيْهِ الْبَيِّنَةُ أَنَّهُ أَعْتَقَ غُلَامَهُ يَزِيدَ، وَلَهُ غُلَامَانِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا اسْمُهُ يَزِيدُ، وَقَالَتْ الْبَيِّنَةُ لَا نَعْلَمُ أَيَّ يَزِيدَ أَرَادَ فَشَهَادَتُهُمْ جَائِزَةٌ، وَيُقَالُ لَهُ: اخْتَرْ أَيَّهمَا شِئْت فَأَعْتِقْهُ فَإِنْ أَقَرَّ وَإِلَّا حُكِمَ عَلَيْهِ بِعِتْقِهِمَا جَمِيعًا.
فرع:
وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ ذَلِكَ فِي امْرَأَتَيْهِ، فَقَالَ: فُلَانَةُ طَالِقٌ وَكِلْتَاهُمَا تُسَمَّى بِذَلِكَ الِاسْمِ ثُمَّ جَحَدَ، كَانَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ قَالَ: إحْدَاكُمَا طَالِقٌ ثُمَّ جَحَدَ، فَإِنَّهُمَا يُطَلَّقَانِ عَلَيْهِ جَمِيعًا، وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ: لَمْ أَنْوِ وَاحِدَةً مِنْهُمَا فَإِنَّهُمَا يُطَلَّقَانِ عَلَيْهِ جَمِيعًا.
مَسْأَلَةٌ:
وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ فِي الرَّجُلِ يَدَّعِي الْعَبْدَ أَوْ الدَّابَّةَ قِبَلَ الرَّجُلِ، وَيَزْعُمُ أَنَّهُ اسْتَوْدَعَهُ ذَلِكَ فَيُنْكِرُ أَنْ يَعْرِفَ شَيْئًا مِمَّا طَلَبَ، فَيُخَاصِمُهُ فَيَمُوتُ الْعَبْدُ أَوْ الدَّابَّةُ قَبْلَ أَنْ يَسْتَحِقَّهَا صَاحِبُهَا، ثُمَّ يَسْتَحِقُّهَا، أَنَّ الْجَاحِدَ غَارِمٌ لِقِيمَتِهَا، لِأَنَّهُ يَوْمَ جَحَدَ صَارَ غَاصِبًا فَصَارَ لِذَلِكَ ضَامِنًا حِينَئِذٍ، وَكَذَلِكَ الدَّارُ يَجْحَدُهَا، ثُمَّ يَسْتَحِقُّهَا صَاحِبُهَا وَقَدْ انْهَدَمَتْ بَعْدَ الْجُحُودِ، فَالْجَاحِدُ غَارِمٌ لِقِيمَتِهَا يَوْمَ جَحْدِهَا، وَلَيْسَ يَوْمَ يُقْضَى عَلَيْهِ لِأَنَّهُ يَوْمَ جَحَدَهَا صَارَ غَاصِبًا لَهَا، وَلَوْ غَصَبَهَا ابْتِدَاءً كَانَتْ الْقِيمَةُ يَوْمَ غَصَبَ.
مَسْأَلَةٌ:
وَفِي الْمُتَيْطِيَّةِ وَإِذَا كَانَ لِلْمَرْأَةِ شَرْطٌ عَلَى زَوْجِهَا فِي الضَّرَرِ، فَضَرَبَهَا وَادَّعَتْ أَنَّهُ ظَالِمٌ لَهَا، فَأَنْكَرَ الضَّرْبَ جُمْلَةً فَقَامَتْ لَهَا بِهِ بَيِّنَةٌ كَانَ لَهَا بِهِ الْخِيَارُ، فَإِنْ قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ كَانَ لِذَنْبٍ أَتَتْهُ وَاسْتَوْجَبْت ذَلِكَ بِهِ، لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ لِإِنْكَارِهِ أَوَّلًا.
فرع:
وَكَذَلِكَ لَوْ ضَرَبَهَا فَأَرَادَتْ الْأَخْذَ بِشَرْطِهَا، فَلَهَا أَنْ تُطَلِّقَ نَفْسَهَا وَاحِدَةً أَوْ أَكْثَرَ، وَلَهُ مُنَاكَرَتُهَا فِيمَا زَادَ عَلَى الْوَاحِدَةِ إنْ كَانَ أَطَاعَ لَهَا بِالشَّرْطِ، إلَّا أَنْ يُنْكِرَ الشَّرْطَ وَيَحُوجَهَا إلَى إثْبَاتِهِ فَتُثْبِتَهُ عَلَيْهِ، فَحِينَئِذٍ لَا مُنَاكَرَةَ لَهُ فِيمَا قَضَتْ بِهِ مِنْ الزِّيَادَةِ.
فرع:
وَمَنْ ادَّعَى عَلَيْهِ رَجُلٌ دَيْنًا مِنْ سَلَفٍ أَوْ قِرَاضٍ أَوْ وَدِيعَةٍ أَوْ بِضَاعَةٍ أَوْ رِسَالَةٍ أَوْ رَهْنٍ أَوْ عَارِيَّةٍ، أَوْ هِبَةٍ أَوْ صَدَاقٍ أَوْ حَقٍّ مِنْ الْحُقُوقِ فَجَحَدَ أَنْ يَكُونَ عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ، فَلَمَّا خَافَ أَنْ تَقُومَ عَلَيْهِ الْبَيِّنَةُ بِذَلِكَ أَقَرَّ بِهِ، وَادَّعَى فِيهِ وَجْهًا مِنْ الْوُجُوهِ يُرِيدُ إسْقَاطَ ذَلِكَ عَنْ نَفْسِهِ لَمْ يَنْفَعْهُ ذَلِكَ، وَإِنْ قَامَتْ لَهُ الْبَيِّنَةُ عَلَى مَا زَعَمَ أَخِيرًا، لِأَنَّ جُحُودَهُ أَوَّلًا إكْذَابٌ لِبَيِّنَتِهِ فَلَا تُسْمَعُ وَإِنْ كَانُوا عُدُولًا.
تنبيه:
وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ إنْ لَمْ يُقِرَّ، وَلَكِنْ قَامَتْ بِذَلِكَ بَيِّنَةُ عُدُولٍ فَأَقَامَ هُوَ أَيْضًا بَيِّنَةً عُدُولًا عَلَى رَدِّ السَّلَفِ أَوْ الْوَدِيعَةِ أَوْ الْقِرَاضِ أَوْ الْبِضَاعَةِ أَوْ الرِّسَالَةِ أَوْ عَلَى هَلَاكِ ذَلِكَ، فَهُوَ بِإِنْكَارِهِ مُكَذِّبٌ لِذَلِكَ كُلِّهِ، هَذَا قَوْلُ الرُّوَاةِ أَجْمَعِينَ: ابْنُ الْقَاسِمِ، وَأَشْهَبُ، وَابْنُ وَهْبٍ، وَمُطَرِّفٌ وَابْنُ الْمَاجِشُونِ.
فرع:
وَأَمَّا إنْ قَالَ مَا لَك عَلَيَّ سَلَفٌ وَلَا ثَمَنُ سِلْعَةٍ وَلَا لَك عِنْدِي وَدِيعَةٌ وَلَا قِرَاضٌ وَلَا بِضَاعَةٌ، فَلَمَّا ثَبَتَ ذَلِكَ قِبَلَهُ أَقَرَّ بِالْبَيِّنَةِ بِذَلِكَ، فَزَعَمَ أَنَّهُ رَدَّ الْوَدِيعَةَ وَالسِّلْعَةَ أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ مِمَّا يَدَّعِي عَلَيْهِ، أَوْ ادَّعَى هَلَاكَهُ وَأَقَامَ عَلَى مَا ذَكَرَ بَيِّنَةً فَهَاهُنَا تَنْفَعُهُ الْبَرَاءَةُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، لِأَنَّ قَوْلَهُ مَا لَك عَلَيَّ شَيْءٌ يُرِيدُ فِي وَقْتِي هَذَا، وَأَمَّا فِي الصُّورَةِ الْأُولَى إذَا قَالَ: مَا أَسْلَفْتنِي وَلَا أَوْدَعْتنِي، فَلَيْسَ مِثْلُ قَوْلِهِ هَذَا مَا لَك عَلَيَّ سَلَفٌ، قَالَ ابْنُ حَبِيبٍ: وَهَذَا مِمَّا لَا أَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا عِنْدَ الرُّوَاةِ، إلَّا أَنِّي رَأَيْت فِي كِتَابِ الْأَقْضِيَةِ مِنْ السَّمَاعِ شَيْئًا يُخَالِفُ هَذَا، وَأَظُنُّ أَنَّ لَهُ وَجْهًا يَصِحُّ مَعْنَاهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَذَلِكَ أَنَّهُ سُئِلَ مَالِكٌ عَنْ رَجُلٍ بَعَثَ مَعَهُ رَجُلٌ بِعِشْرِينَ دِينَارًا يُبَلِّغُهَا إلَى الْجَارِ، وَلِلْجَارِ مَوْضِعٌ وَكَتَبَ مَعَهُ كِتَابًا وَأَشْهَدَ عَلَيْهِ عِنْدَ دَفْعِهِ إلَيْهِ فَحَمَلَ الْكِتَابَ وَبَلَّغَهُ إلَى مَنْ أُرْسِلَ إلَيْهِ، فَلَمَّا قَرَأَهُ سَأَلَهُ عَنْ الذَّهَبِ فَجَحَدَهُ إيَّاهُ، ثُمَّ إنَّهُ قَدِمَ الْمَدِينَةَ فَسَأَلَهُ الَّذِي أَرْسَلَ مَعَهُ الذَّهَبَ وَقَالَ لَهُ: إنِّي قَدْ أَشْهَدْت عَلَيْك، فَقَالَ: إنْ كُنْت دَفَعْت إلَيَّ شَيْئًا فَقَدْ ضَاعَ، فَقَالَ مَالِكٌ: مَا أَرَى عَلَيْهِ إلَّا يَمِينَهُ، وَأَرَى هَذَا مِنْ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ إنَّمَا هُوَ فِي الْجَاهِلِ الَّذِي لَا يَعْرِفُ أَنَّ الْإِنْكَارَ يَضُرُّهُ، وَأَمَّا الْعَالِمُ الَّذِي يَعْرِفُ أَنَّهُ يَضُرُّهُ ثُمَّ يُقْدِمُ عَلَيْهِ بَعْدَ ذَلِكَ فَلَا عُذْرَ لَهُ، مِنْ كِتَابِ الرُّعَيْنِيِّ.
فرع:
وَفِي أَحْكَامِ ابْنِ سَهْلٍ فِي رَجُلٍ بِيَدِهِ دَارٌ وَهُوَ سَاكِنٌ فِيهَا، فَقَامَ عَلَيْهِ رَجُلٌ بِدَعْوَى فَأَنْكَرَ الَّذِي بِيَدِهِ الدَّارُ أَنْ يَكُونَ عَامَلَ الْمُدَّعِيَ فِي الدَّارِ أَوْ فِي شَيْءٍ مِنْهَا، وَادَّعَى أَنَّ الدَّارَ لَهُ وَفِي مِلْكِهِ، فَأَثْبَتَ الْمُدَّعِي مِلْكَ الدَّارِ، فَقَامَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِكِتَابِ ابْتِيَاعِ الدَّارِ مِنْ الْمُدَّعِي، فَأَجَابَ فِي ذَلِكَ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ يَحْيَى وَمُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ بْنِ لُبَابَةَ وَمُحَمَّدُ بْنُ وَلِيدٍ، بِأَنَّ إنْكَارَهُ لِمُعَامَلَتِهِ تُسْقِطُ مَا قَامَ بِهِ مِنْ كِتَابِ الِابْتِيَاعِ مِنْ الْمُدَّعِي لِلدَّارِ، وَيَجِبُ أَنْ يَخْرُجَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ مِنْ الدَّارِ وَتُقْفَلُ حَتَّى يَسْتَمِرَّ النَّظَرُ فِيهَا، قَالَ الْقَاضِي أَبُو الْأَصْبَغِ بْنُ سَهْلٍ: قَاسُوا هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ عَلَى مَا رَوَاهُ عِيسَى عَنْ ابْنِ الْقَاسِمِ فِي الدَّيْنِ إذَا أَنْكَرَ مُعَامَلَةَ طَالِبِهِ بِهِ، ثُمَّ أَثْبَتَ دَفْعَهُ إلَيْهِ وَقَضَاءَهُ إيَّاهُ، أَنَّهُ لَا تُقْبَلُ بَيِّنَتُهُ بَعْدَ إنْكَارِهِ الْمُعَامَلَةَ مِنْ بَيْعٍ أَوْ سَلَفٍ، قَالَ ابْنُ سَهْلٍ: وَأَمَّا إنْ قَالَ: لَيْسَ لَك عَلَيَّ شَيْءٌ، فَلَمَّا قَامَتْ الْبَيِّنَةُ عَلَيْهِ بِسَلَفٍ أَوْ بِبَيْعٍ جَاءَ بِبَرَاءَةٍ مِنْ ذَلِكَ وَشُهُودٍ، فَإِنَّهُ يَسْقُطُ ذَلِكَ الْحَقُّ عَنْهُ، وَقَدْ فَرَّقَ ابْنُ الْقَاسِمِ فِي رِوَايَةِ عِيسَى بَيْنَ الْأُصُولِ وَالدَّيْنِ، قَالَ فِي الْمُدَوَّنَةِ سُئِلَ ابْنُ كِنَانَةَ عَمَّنْ ادَّعَى أَرْضًا فِي يَدِ رَجُلٍ، فَقَالَ: مَا لَك عِنْدِي أَرْضٌ وَمَا عَلِمْت لَك أَرْضًا فَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ عَلَى أَنَّهَا أَرْضُهُ وَأَثْبَتَهَا، ثُمَّ أَقَرَّ الَّذِي هِيَ بِيَدِهِ أَنَّهَا أَرْضُ الطَّالِبِ، وَقَالَ: لَكِنِّي اشْتَرَيْتهَا وَأَثْبَتَ شِرَاءَهَا، فَقَالَ تُقْبَلُ بَيِّنَتُهُ وَتَكُونُ لَهُ الْأَرْضُ وَلَا يَضُرُّهُ إنْكَارُهُ أَوَّلًا، لِأَنَّهُ يَقُولُ كَانَ حَوْذِي يَنْفَعُنِي، وَأَضَعُ فِي الْأَرْضِ مَا شِئْت وَلَمْ أُقِرَّ فَيَكُونُ عَلَى الْعَمَلِ وَأَعْنِي نَفْسِي فَذَلِكَ لَهُ وَلَيْسَ كَالدَّيْنِ يُدَّعَى عَلَيْهِ فَيَجْحَدُهُ، قَالَ عِيسَى عِنْدَ ابْنِ الْقَاسِمِ مِثْلُهُ إذَا كَانَ لَهُ عُذْرٌ مِنْ غَيْبَةِ بَيِّنَةٍ، أَوْ كَانَ مِمَّنْ يُعْذَرُ بِالْجَهَالَةِ فَلَا يَضُرُّهُ إنْكَارُهُ، وَتُقْبَلُ بَيِّنَتُهُ وَإِنْ كَانَتْ حَاضِرَةً، فَهَذَا ابْنُ الْقَاسِمِ قَدْ فَرَّقَ بَيْنَ الْأَصْلِ وَالدَّيْنِ، وَكَذَلِكَ فَعَلَ ابْنُ كِنَانَةَ، وَعَلَى ذَلِكَ نَقَلَهُ ابْنُ أَبِي زَمَنِينَ فِي الْمُقَرَّبِ أَنَّ الْأُصُولَ وَالْحُقُوقَ مُخْتَلِفَانِ، قَالَ ابْنُ سَهْلٍ، وَكَذَلِكَ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ جَوَابُهُمْ فِي الدَّارِ، وَرَأَيْت أَنَّ حُسَيْنَ بْنَ عَاصِمٍ رَوَى عَنْ ابْنِ الْقَاسِمِ أَنَّ الْأَرْضَ كَالدَّيْنِ لَا تَنْفَعُهُ الْبَيِّنَةُ إنْ نَفَى مِلْكَهُ عَنْهَا، وَأَنَّ ابْنَ نَافِعٍ قَالَ تَنْفَعُهُ الْبَرَاءَةُ وَالْإِثْبَاتُ فِيهَا وَلَا يَضُرُّهُ الْإِنْكَارُ، رَوَاهُ ابْنُ عَاصِمٍ عَنْهُ أَيْضًا، فَرِوَايَةُ حُسَيْنِ بْنِ عَاصِمٍ عَنْ ابْنِ الْقَاسِمِ تُلَائِمُ جَوَابَ الشُّيُوخِ فِي مَسْأَلَةِ الدَّارِ.
مَسْأَلَةٌ:
وَفِي الْمُتَيْطِيَّةِ: إذَا أَقَامَتْ الْمَرْأَةُ بَيِّنَةً أَنَّ زَوْجَهَا قَذَفَهَا وَهُوَ مُنْكِرٌ حُرٌّ ثُمَّ إنَّهُ رَجَعَ بَعْدَ جُحُودِهِ، فَقَالَ مَالِكٌ وَابْنُ الْقَاسِمِ: يُقْبَلُ مِنْهُ رُجُوعُهُ، قَالَ ابْنُ الْمَوَّازِ وَهَذَا بِخِلَافِ الْحُقُوقِ، لِأَنَّهُ يَقُولُ: أَرَدْت السَّتْرَ بِإِنْكَارِي، وَقَالَ غَيْرُهُمَا لَا يُقْبَلُ رُجُوعُهُ؛ لِأَنَّهُ أَكْذَبَ نَفْسَهُ.
فرع:
قَالَ ابْنُ مُحْرِزٍ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ أَصْلٌ لِمَنْ اُدُّعِيَ عَلَيْهِ بِحَقٍّ فَجَحَدَهُ ثُمَّ قَامَ عَلَيْهِ بَيِّنَةٌ فَادَّعَى الْقَضَاءَ، فَعَلَى مَذْهَبِ الْغَيْرِ لَا يُمْكِنُ مِنْ إقَامَةِ الْبَيِّنَةِ وَعَلَى قَوْلِ مَالِكٍ وَابْنِ الْقَاسِمِ: يُعْتَبَرُ جُحُودُهُ وَيُنْظَرُ عَلَى أَيِّ وَجْهٍ كَانَ، فَإِنْ كَانَ لَهُ عُذْرٌ بِجَهْلِهِ أَوْ جَهْلِ مَنْ يَحْكُمُ عَلَيْهِ وَسَطْوَتِهِ، فَرَأَى إنْكَارَهُ أَسْلَمَ لَهُ، فَيَنْبَغِي أَنْ يُمَكَّنَ مِنْ ذَلِكَ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ عُذْرٌ لَمْ يُمَكَّنْ مِنْ إقَامَةِ الْبَيِّنَةِ وَمِمَّا يُعْذَرُ بِهِ أَنْ تَكُونَ بَيِّنَتُهُ عَلَى الْقَضَاءِ غَائِبَةً وَيَخْشَى أَنْ لَا يُمْهَلَ إلَى قُدُومِهِمْ، أَوْ كَانُوا مِمَّنْ لَا يُؤْمَنُ تَجْرِيحُهُمْ، فَإِذَا كَانَ لَهُ عُذْرٌ هَكَذَا سُمِعَ مِنْهُ دَعْوَى الْقَضَاءِ وَمُكِّنَ مِنْ إقَامَةِ الْبَيِّنَةِ.

.الْبَابُ السَّابِعُ وَالْخَمْسُونَ فِي الْقَضَاءِ بِالْعُرْفِ وَالْعَادَةِ:

فِي الْقَضَاءِ بِالْعُرْفِ وَالْعَادَةِ الْعَادَةُ غَلَبَةُ مَعْنًى مِنْ الْمَعَانِي عَلَى جَمِيعِ الْبِلَادِ أَوْ بَعْضِهَا، قَالَ الْمَازِرِيُّ الْإِجْمَاعُ عَلَى مَنْ بَاعَ سِلْعَةً بِمِائَةِ دِينَارٍ، وَنَقْدُ الْبَلَدِ مُخْتَلِفٌ أَنَّ الْبَيْعَ فَاسِدٌ وَلَوْ كَانَ مَعَ اخْتِلَافِ السِّكَكِ، جَرَتْ عَادَةٌ بِالتَّبَايُعِ بِسِكَّةٍ مَعْلُومَةٍ مِنْهَا لَكَانَ الْبَيْعُ صَحِيحًا وَقُضِيَ بِدَفْعِ تِلْكَ السِّكَّةِ، وَمِنْ ذَلِكَ الْحُكْمُ بِالْقَمْطِ وَوَجْهِ الْحَائِطِ وَغَيْرِهِ وَسَيَأْتِي حُكْمُ ذَلِكَ، وَمِنْ ذَلِكَ اخْتِلَافُ الزَّوْجَيْنِ فِي مَتَاعِ الْبَيْتِ وَهُمَا فِي الْعِصْمَةِ أَوْ بَعْدَ طَلَاقٍ أَوْ مَوْتٍ، فَكَانَ التَّدَاعِي بَيْنَ الْوَرَثَةِ، أَوْ مَاتَ أَحَدُهُمَا فَكَانَ التَّدَاعِي بَيْنَهُ وَبَيْنَ وَرَثَةِ الْآخَرِ، وَسَوَاءٌ كَانَ الزَّوْجَانِ حُرَّيْنِ أَوْ عَبْدَيْنِ أَوْ مُخْتَلِفَيْنِ مُسْلِمَيْنِ أَوْ أَحَدُهُمَا، فَإِنَّ الْحُكْمَ فِي ذَلِكَ أَنْ يُقْضَى لِلْمَرْأَةِ بِمَا يُعْرَفُ لِلنِّسَاءِ وَلِلرَّجُلِ بِمَا يُعْرَفُ لِلرِّجَالِ وَمَا يَصْلُحُ لَهُمَا قُضِيَ بِهِ لِلرِّجَالِ، لِأَنَّ الْبَيْتَ بَيْتُهُ فِي جَارِي الْعَادَةِ فَهُوَ تَحْتَ يَدِهِ فَيُقَدَّمُ لِأَجْلِ الْيَدِ.
وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ مَا كَانَ مِنْ شَأْنِ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ قُسِّمَ بَيْنَهُمَا، بَعْدَ أَيْمَانِهِمَا لِاشْتِرَاكِهِمَا فِي الْيَدِ.
فرع:
قَالَ ابْنُ يُونُسَ إذَا فَرَّعْنَا عَلَى مَذْهَبِ مَالِكٍ فَمَنْ قُضِيَ لَهُ بِشَيْءٍ حَلَفَ عَلَيْهِ.
وَقَالَ سَحْنُونٌ مَا عُرِفَ بِأَحَدِهِمَا لَا يُحْلَفُ عَلَيْهِ.
وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: مَا وَلِيَ الرَّجُلُ شِرَاءَهُ مِنْ مَتَاعِ النِّسَاءِ، وَشَهِدَتْ بِهِ الْبَيِّنَةُ أَخَذَهُ بَعْدَ يَمِينِهِ أَنَّهُ مَا اشْتَرَاهُ إلَّا لَهُ، وَكَذَلِكَ الْمَرْأَةُ وَمِنْ الشُّيُوخِ مَنْ نَفَى الْخِلَافَ عَنْ ذَلِكَ.
وَقَالَ إذَا ادَّعَتْ الْمَرْأَةُ شَيْئًا مِنْ مَتَاعِ النِّسَاءِ وَكَذَّبَهَا الرَّجُلُ، أَوْ ادَّعَى الرَّجُلُ شَيْئًا مِنْ مَتَاعِ الرِّجَالِ وَكَذَّبَتْهُ الْمَرْأَةُ، فَلَا خِلَافَ فِي تَعَلُّقِ الْيَمِينِ فِي ذَلِكَ، وَإِنَّمَا الْخِلَافُ فِي وُجُوبِ الْيَمِينِ إذْ تَنَازَعَ وَرَثَةُ الزَّوْجَيْنِ أَوْ تَنَازَعَ وَرَثَةُ أَحَدِهِمَا مَعَ الْآخَرِ دُونَ تَحْقِيقِ الدَّعْوَى، فَيَجْرِي الْخِلَافُ عَلَى الْخِلَافِ فِي أَيْمَانِ التُّهَمِ، وَهَذِهِ طَرِيقَةُ ابْنِ رُشْدٍ، وَالطَّرِيقَةُ الْأُولَى أَسْعَدُ بِنَقْلِ الْمُتَقَدِّمِينَ وَاَلَّذِي قَالَهُ هَذَا الشَّيْخُ هُوَ الَّذِي تَشْهَدُ لَهُ أُصُولُ الْمَذْهَبِ.
فرع:
وَمِمَّا يُعْرَفُ لِلنِّسَاءِ الطَّشْتُ وَالتَّوْرُ وَالْمَنَارَةُ وَالْقِبَابُ وَالْحِجَالُ وَالْأَسِرَّةُ وَالْفُرُشُ وَالْوَسَائِدُ وَالْمَرَافِقُ وَالْبُسُطُ وَجَمِيعُ الْحُلِيِّ.
قَالَ ابْنُ رَاشِدٍ وَمَا ذَكَرُوا فِي الْبُسُطِ لَعَلَّهُ الْعُرْفُ فِي بِلَادِ مِصْرَ، وَأَمَّا عِنْدَنَا بِالْمَغْرِبِ فَهِيَ مَعْرُوفَةٌ لِلرِّجَالِ، وَمِثْلُ السَّيْفِ وَالرُّمْحِ وَالْمِنْطَقَةِ وَالْخَاتَمِ فَإِنَّهُ لِلرَّجُلِ، قَالَ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ وَالْمُرَادُ بِالْخَاتَمِ خَاتَمُ الْفِضَّةِ، وَأَمَّا خَاتَمُ الذَّهَبِ فَإِنَّهُ لِلْمَرْأَةِ، قَالَ: وَهَذَا عِنْدَ الْمُحَقِّقِينَ تَابِعٌ لِعُرْفِ الْمُتَنَازِعَيْنِ، فَرُبَّ مَتَاعٍ يَشْهَدُ الْعُرْفُ فِي بَلَدٍ أَوْ زَمَانٌ أَنَّهُ لِلرِّجَالِ وَيَشْهَدُ فِي بَلَدٍ آخَرَ أَوْ زَمَانٍ آخَرَ بِأَنَّهُ لِلنِّسَاءِ، وَيَشْهَدُونَ فِي الزَّمَانِ الْوَاحِدِ وَالْمَكَانِ الْوَاحِدِ أَنَّهُ مِنْ مَتَاعِ النِّسَاءِ، بِالنِّسْبَةِ إلَى قَوْمٍ وَمِنْ مَتَاعِ الرِّجَالِ بِالنِّسْبَةِ إلَى قَوْمٍ آخَرِينَ، كَالنُّحَاسِ الْمَصْنُوعِ فِي تُونُسَ مِنْ بِلَادِ الْغَرْبِ، فَإِنَّهُ مِنْ مَتَاعِ النِّسَاءِ بِالنِّسْبَةِ إلَى جِهَازِ الْأَنْدَلُسِ وَمِنْ مَتَاعِ الرِّجَالِ بِالنِّسْبَةِ إلَى مَتَاعِ الْحَضَرِ.
فرع:
وَإِذَا عُرِفَتْ الْمَرْأَةُ فَقِيرَةً لَمْ يَكُنْ الْقَوْلُ قَوْلَهَا إلَّا فِي قَدْرِ صَدَاقِهَا.
فرع:
وَالذُّكُورُ مِنْ الْعَبِيدِ تُعْرَفُ لِلرِّجَالِ، وَالْإِنَاثُ يُعْرَفْنَ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، وَالْمَاشِيَةُ تُعْرَفُ لِلرِّجَالِ.
تنبيه:
وَفِي مُخْتَصَرِ الْوَاضِحَةِ وَسُئِلَ سَحْنُونٌ عَنْ الرَّجُلِ يَشْتَرِي الْعَبْدَ بِحَضْرَةِ شُهُودٍ، ثُمَّ يَرَى ذَلِكَ الْعَبْدَ فِي يَدِ امْرَأَةِ الْمُشْتَرِي وَحَوْزِهَا بِحَضْرَةِ الْمُشْتَرِي، فَتُقِيمُ كَذَلِكَ سِنِينَ وَالْعَبْدُ فِي ضَيْعَةِ الْمَرْأَةِ قَدْ بَانَتْ بِهِ عَنْ زَوْجِهَا، ثُمَّ يَدْعُو الزَّوْجُ الشُّهُودَ إلَى أَنْ يَشْهَدُوا لَهُ عَلَى أَصْلِ الشِّرَاءِ وَالْبَيْعِ، فَيَسَعُهُمْ أَنْ لَا يَشْهَدُوا بِهِ، قَالَ: نَعَمْ لَا يَشْهَدُوا لَهُ عَلَى أَصْلِ الشِّرَاءِ، لِأَنَّ الرَّجُلَ هُوَ الَّذِي يَتَوَلَّى الشِّرَاءَ وَالْبَيْعَ لِامْرَأَتِهِ وَهُوَ سَفِيرُهَا، حَكَى هَذَا ابْنُ عَبْدُوسٍ عَنْ سَحْنُونٍ.
تنبيه:
قَالَ الْقَرَافِيُّ فِي الْقَوَاعِدِ وَلَا يُكْتَفَى مِنْ أَحَدِهِمَا أَنْ يَقُولَ هَذَا لِي، لِأَنَّهُ مِنْ مَتَاعِ الْبَيْتِ حَتَّى يَقُولَ: هُوَ مِلْكِي، قَالَ: وَسَوَاءٌ فِي هَذَا كُلِّهِ كَانَتْ لَهُمَا عَلَيْهِ يَدٌ شَاهِدَةٌ أَوْ حُكْمِيَّةٌ، فَالْيَدُ الشَّاهِدَةُ أَنْ يَكُونَ الشَّيْءُ بَيْنَهُمَا يَتَجَاذَبَانِهِ وَيَتَنَازَعَانِهِ وَالْيَدُ الْحُكْمِيَّةُ أَنْ تَكُونَ فِي الدَّارِ الَّتِي يَسْكُنَانِهَا، قَالَ: وَسَوَاءٌ فِي هَذَا كُلُّهُ الزَّوْجَانِ وَالْأَجْنَبِيَّانِ إذَا سَكَنَ رَجُلٌ وَامْرَأَةٌ فِي دَارٍ مِنْ ذَوَاتِ الْمَحَارِمِ الْكُلُّ سَوَاءٌ، وَهَذَا أَصْلٌ لَا مُنَاقَضَةَ فِيهِ عَلَى الْمَذْهَبِ، حَتَّى قَالَ أَئِمَّتُنَا رَحِمَهُمُ اللَّهُ: لَوْ اخْتَلَفَ عَطَّارٌ وَدَبَّاغٌ فِي الْمِسْكِ وَالْجِلْدِ، وَاخْتَلَفَ الْفَقِيهُ وَالْحَدَّادُ فِي الْقَلَنْسُوَةِ وَالْكِيرِ، كَانَتْ لَهُمَا عَلَيْهِ يَدٌ حُكْمِيَّةٌ فِي دَارٍ يَسْكُنَانِهَا لِمَنْ شَاهَدَهُ، أَوْ تَنَازَعَ رَجُلٌ وَامْرَأَةٌ رُمْحًا يَتَجَاذَبَانِهِ، فَالْقَوْلُ فِي هَذَا كُلِّهِ قَوْلُ مَنْ شَهِدَ لَهُ الْعُرْفُ وَالْعَادَةُ، فَيُحْكَمُ لِلرَّجُلِ بِالرُّمْحِ وَالسَّيْفِ مَعَ يَمِينِهِ، وَإِنْ كَانَ دُمْلَجًا قُضِيَ بِهِ لِلْمَرْأَةِ مَعَ يَمِينِهَا، وَيُقْضَى لِلْعَطَّارِ بِالْمِسْكِ مَعَ يَمِينِهِ، فَإِنْ قِيلَ: قَدْ تَمْلِكُ الْمَرْأَةُ مَا يَصْلُحُ لِلرِّجَالِ لِلتِّجَارَةِ أَوْ بِعَارِضٍ مِنْ إرْثٍ أَوْ غَيْرِهِ، فَقَدْ أَصْدَقَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَاطِمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا دِرْعًا مِنْ حَدِيدٍ، وَقَدْ يَمْلِكُ الرَّجُلُ مَا يَصْلُحُ لِلنِّسَاءِ لِلتِّجَارَةِ أَوْ بِعَارِضٍ مِنْ أَسْبَابِ التَّمْلِيكِ، قُلْنَا: الظَّاهِرُ فِيمَا فِي يَدِ الْإِنْسَانِ مِمَّا يَصْلُحُ أَنَّهُ مِلْكُهُ، وَهَذَا هُوَ الْغَالِبُ نَادِرٌ، وَإِذَا دَارَ الْحُكْمُ بَيْنَ النَّادِرِ وَالْغَالِبِ فَحَمْلُهُ عَلَى الْغَالِبِ أَوْلَى، أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ هُوَ سَاكِنٌ فِي دَارٍ وَيَدُهُ عَلَيْهَا يُقْضَى لَهُ بِالْمِلْكِ بِنَاءً عَلَى الْغَالِبِ وَظَاهِرِ الْيَدِ فَكَذَلِكَ هُنَا.
فرع:
قَالَ الْقَرَافِيُّ: وَأَمَّا إنْ كَانَ الزَّوْجَانِ فِي الْبَيْتِ فَحَازَ أَحَدُهُمَا فِي يَدِهِ وَقَبَضَهُ مَا يَصْلُحُ لِلْآخَرِ دُونَهُ، فَاَلَّذِي ظَهَرَ لِي فِي ذَلِكَ أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ مَنْ حَازَهُ دُونَ الْآخَرِ.
فرع:
وَإِذَا اخْتَلَفَ الْمُتَبَايِعَانِ فِي تَعْجِيلِ الثَّمَنِ وَتَأْجِيلِهِ حُكِمَ بِالْعُرْفِ إنْ كَانَ ثَمَّ عُرْفٌ.
فرع:
وَإِذَا اخْتَلَفَ الزَّوْجُ وَالزَّوْجَةُ فِي النَّفَقَةِ وَادَّعَتْ أَنَّهُ لَمْ يُنْفِقْ عَلَيْهَا، فَذَهَبَ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ رَحِمَهُمُ اللَّهُ أَنَّهُ لَا يُقْبَلُ قَوْلُ الْمَرْأَةِ فِي ذَلِكَ وَلَا فِي دَعْوَاهَا، أَنَّهُ لَمْ يَكْسُهَا فِيمَا مَضَى مِنْ الزَّمَانِ لِتَكْذِيبِ الْعُرْفِ وَشَاهِدِ الْحَالِ وَالْقَرَائِنِ الظَّاهِرَةِ لَهَا، وَهَذَا هُوَ قَوْلُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَهُوَ الْحَقُّ الَّذِي لَا شَكَّ فِيهِ، وَالْعِلْمُ الْحَاصِلُ بِاتِّفَاقِ الزَّوْجِ فِيمَا مَضَى مِنْ الزَّمَانِ اعْتِمَادًا عَلَى الْأَمَارَاتِ الظَّاهِرَةِ أَقْوَى مِنْ الظَّنِّ الْحَاصِلِ بِاسْتِصْحَابِ الْأَصْلِ، وَبَقِيَ ذَلِكَ فِي ذِمَّتِهِ وَرُؤْيَتُنَا لَهُ، يُدْخِلُ الطَّعَامَ وَالْإِدَامَ مَعَ طُولِ الصُّحْبَةِ وَدَوَامِ الْعِشْرَةِ قَرِينَةٌ تَبْلُغُ مَبْلَغَ الْقَطْعِ فِي تَكْذِيبِهَا مَعَ عِلْمِنَا بِانْقِطَاعِهَا عَنْ الْخُرُوجِ وَالدُّخُولِ وَالتَّصَرُّفِ فِي مِثْلِ ذَلِكَ.
فرع:
وَكَذَلِكَ إذَا اخْتَلَفَ الْمُتَبَايِعَانِ فِي قَبْضِ السِّلْعَةِ أَوْ الثَّمَنِ، فَالْأَصْلُ بَقَاءُ الثَّمَنِ بِيَدِ الْمُبْتَاعِ، وَبَقَاءُ الْمَبِيعِ بِيَدِ الْبَائِعِ وَلَا يَنْتَقِلُ ذَلِكَ إلَّا بِبَيِّنَةٍ أَوْ عُرْفٍ، كَالسِّلَعِ الَّتِي جَرَتْ الْعَادَةُ أَنَّ الْمُشْتَرِيَ يَدْفَعُ ثَمَنَهَا قَبْلَ أَنْ يَبِينَ بِهَا، كَاللَّحْمِ وَالْخُضَرِ وَنَحْوِ ذَلِكَ فَيُحْكَمُ فِي ذَلِكَ بِالْعُرْفِ وَالْعَادَةِ.
فرع:
وَمِنْ ذَلِكَ الْحُكْمُ بِمُقْتَضَيَاتِ الْأَلْفَاظِ فِي الْبَيْعِ، كَقَوْلِ الْبَائِعِ بِعْتُك هَذِهِ الْأَرْضَ بِكَذَا وَلَمْ يَزِدْ عَلَى هَذَا فَإِنَّ هَذَا اللَّفْظَ يَتَنَاوَلُ مَا هُوَ مُتَّصِلٌ بِهَا كَالْبِنَاءِ وَالْأَشْجَارِ وَهَذَا بِحُكْمِ الْعُرْفِ، وَلَفْظُ الشَّجَرِ وَالدَّارِ يَشْمَلُ الثَّوَابِتَ: كَالْأَبْوَابِ وَالرُّفُوفِ وَالسُّلَّمِ الْمُسَمَّرِ وَالْأَشْجَارِ الَّتِي فِي الدَّارِ، وَلَفْظُ الْعَبْدِ يَشْمَلُ: ثِيَابَ الْمِهْنَةِ لِأَنَّهَا غَيْرُ مَقْصُودَةٍ، وَلَا يَجُوزُ لَهُ كَشْفُ عَوْرَتِهِ، وَفِي سَمَاعِ ابْنِ نَافِعٍ إنْ بَاعَهَا وَاشْتَرَطَ الْإِزَارَ الَّذِي عَلَيْهَا فَلَهُ وَعَلَيْهِ أَنْ يَسْتُرَهَا بِغَيْرِهِ، فَإِنْ أَبَى فَالسَّوْطُ.
وَفِي سَمَاعِ ابْنِ وَهْبٍ فِي الْجَارِيَةِ وَعَلَيْهَا ثِيَابٌ وَحُلِيٌّ أَنَّهُ لِلْبَائِعِ إلَّا مَا يَكُونُ لَهَا مِمَّا تَتَزَيَّنُ بِهِ.
وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ زِيَادٍ عَنْ مَالِكٍ: مَا عُرِفَ أَنَّهُ مِنْ هَيْئَاتِهَا وَلِبَاسِهَا فَهُوَ لِلْمُشْتَرِي.
فرع:
وَمِنْ ذَلِكَ الْوَلِيمَةُ فِي الْعُرْسِ، قَالَ أَصْبَغُ بْنُ سَهْلٍ سَأَلْت الْفَقِيهَ أَبَا عَتَّابٍ عَنْ الْهَدِيَّةِ الَّتِي يُهْدِيهَا الْأَزْوَاجُ إلَى الزَّوْجَاتِ قَبْلَ الْبِنَاءِ هَلْ يُقْضَى عَلَى الزَّوْجِ بِهَا إنْ امْتَنَعَ مِنْهَا وَيُطْلَبُ بِهَا؟ فَقَالَ: إنَّهُ يُقْضَى عَلَى الزَّوْجِ بِهَا عَلَى قَدْرِهِ وَقَدْرِهَا وَقَدْرِ صَدَاقِهَا، وَلَيْسَ عَلَيْهَا أَنْ تُثِيبَهُ إلَّا أَنْ تَشَاءَ، فَإِنْ أَبَتْ أَوْ أَبَى أَبُوهَا إنْ كَانَتْ بِكْرًا لَمْ يُقْضَ عَلَيْهِمَا بِذَلِكَ، قَالَ قُلْت لَهُ: فَهَلْ يُقْضَى عَلَيْهِ بِنَفَقَةِ الْعُرْسِ وَالْجَلْوَةِ الْمُتَعَارَفَةِ عَلَيْهِ بِذَلِكَ إنْ امْتَنَعَ وَتُؤْمَرُ بِهِ وَلَا تُجْبَرُ، قَالَ: وَالصَّوَابُ عِنْدِي أَنْ يُقْضَى عَلَيْهِ بِالْوَلِيمَةِ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ: «أَوْلِمْ وَلَوْ بِشَاةٍ»، مَعَ الْعَمَلِ بِهِ عِنْدَ الْعَامَّةِ وَالْخَاصَّةِ بِخِلَافِ مَا تُعْطَى الْمَاشِطَةُ عَلَى الْجَلْوَةِ، هَذَا لَا يُقْضَى بِهِ عِنْدَنَا إنْ امْتَنَعَ، وَلَا بِأُجْرَةِ ضَارِبِ دُفٍّ أَوْ كَبَرٍ، قَالَ ابْنُ رَاشِدٍ: وَلَا يُقْضَى بِالْوَلِيمَةِ وَهِيَ وَاجِبَةٌ عَلَى الزَّوْجِ وُجُوبَ السُّنَنِ، وَمَذْهَبُ مَالِكٍ أَنَّهَا مُرَغَّبٌ فِيهَا وَمَنْدُوبٌ إلَيْهَا.
فرع:
وَفِي سَمَاعِ ابْنِ الْقَاسِمِ سُئِلَ مَالِكٌ عَنْ النَّاكِحِ يُلْزِمُهُ أَهْلُ الْمَرْأَةِ هَدِيَّةَ الْعُرْسِ، وَجُلُّ النَّاسِ تَعْمَلُ بِهِ عِنْدَنَا حَتَّى أَنَّهُ لَتَكُونُ فِيهِ الْخُصُومَةُ، أَتَرَى أَنْ يُقْضَى بِهِ، قَالَ: إذَا كَانَ ذَلِكَ قَدْ عُرِفَ مِنْ شَأْنِهِمْ وَهُوَ عَمَلُهُمْ، لَمْ أَرَ أَنْ يُطْرَحَ ذَلِكَ عَنْهُمْ إلَّا أَنْ يَتَقَدَّمَ فِيهِ السُّلْطَانُ، لِأَنِّي أَرَاهُ أَمْرًا قَدْ جَرَوْا عَلَيْهِ وَفِي كِتَابِ عِيسَى. قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: قَالَ مَالِكٌ قَبْلَ ذَلِكَ: لَا أَرَى أَنْ يُقْضَى بِهِ وَهُوَ أَحَبُّ إلَيَّ كَانَ مِمَّا جَرَوْا عَلَيْهِ أَوْ لَمْ يَكُنْ.
فرع:
وَفِي سَمَاعِ عِيسَى فِي رَسْمٍ لَمْ يُدْرَكْ، قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ سَأَلْنَا مَالِكًا عَمَّنْ تَزَوَّجَ امْرَأَةً فَأَصْدَقَهَا صَدَاقًا، فَطَلَبَتْ مِنْهُ نَفَقَةَ الْعُرْسِ، هَلْ ذَلِكَ عَلَيْهِ؟ قَالَ مَا أَرَى ذَلِكَ عَلَيْهِ وَمَا هُوَ بِصَدَاقٍ وَلَا شَيْءَ ثَابِتٌ وَلَا هُوَ لَهَا إنْ مَاتَ وَلَا نِصْفَهُ إنْ طَلَّقَ، فَرُدِّدَ عَلَيْهِ وَقِيلَ لَهُ: يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ إنَّهُ شَيْءٌ أَجْرُوهُ بَيْنَهُمْ وَهِيَ سُنَّتُهُمْ، فَقَالَ: إنْ كَانَ ذَلِكَ شَأْنُهُمْ فَأَرَى أَنْ يُفْرَضَ عَلَيْهِمْ، قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ وَإِنْ تَشَاحُّوا لَمْ يَكُنْ لَهُمْ ذَلِكَ إلَّا أَنْ يَشْتَرِطُوهُ.
فرع:
وَفِي أَحْكَامِ ابْنِ سَهْلٍ فِي امْرَأَةٍ أَسْلَفَتْ زَوْجَهَا ثَلَاثِينَ دِينَارًا ذَهَبًا وَأَنْظَرَتْهُ خَمْسَةَ أَعْوَامٍ أَوْ ثَلَاثَةً الشَّكُّ مِنِّي ثُمَّ طَلَّقَهَا بَعْدَ عَامٍ وَنِصْفٍ مِنْ تَارِيخِ السَّلَفِ، فَزَعَمَتْ أَنَّهَا إنَّمَا أَسْلَفَتْهُ وَأَنْظَرَتْهُ اسْتِدَانَةً لِعِصْمَتِهَا مَعَهُ وَرَجَاءً فِي حُسْنِ صُحْبَتِهِ لَهَا، وَكَانَ التَّحَاكُمُ فِيهِ عِنْدَ ابْنِ بَقِيٍّ فَشَاوَرَ فِي ذَلِكَ، فَأَفْتَى ابْنُ عَتَّابٍ الْقَوْلُ قَوْلُ الْمَرْأَةِ فِيمَا ادَّعَتْهُ مِنْ ذَلِكَ وَتَحْلِفُ ثُمَّ تَأْخُذُ حَقَّهَا مِنْهُ حَالًّا، وَبِذَلِكَ أَفْتَى الشَّيْخُ فِيهَا قَبْلَ هَذَا: أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُهَا مَعَ يَمِينِهَا إذْ هُوَ الظَّاهِرُ مِنْ أَمْرِ النِّسَاءِ، أَنَّهُنَّ إنَّمَا يَفْعَلْنَ ذَلِكَ لِذَلِكَ فَهُوَ كَالْعُرْفِ الَّذِي يُصَدَّقُ فِيهِ مَنْ ادَّعَاهُ، وَقَدْ قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِيمَا ذَكَرَهُ مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّأِ عَنْهُ: مَنْ وَهَبَ لِصِلَةِ رَحِمٍ أَوْ عَلَى وَجْهِ الصَّدَقَةِ فَإِنَّهُ لَا يَرْجِعُ فِيهَا، وَمَنْ وَهَبَ هِبَةً يَرَى أَنَّهُ إنَّمَا أَرَادَ بِهَا الثَّوَابَ، فَهُوَ عَلَى هِبَتِهِ يَرْجِعُ فِيهَا إذَا لَمْ يُرْضَ مِنْهَا، فَحَكَمَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ الْحَالُ، فَكَذَلِكَ هَذِهِ وَمَنْ ادَّعَى عَلَى الْمَعْرُوفِ صَدَقَ وَلِأَنَّ الْعُرْفَ كَالشَّاهِدِ بِدَعْوَاهَا وَالْمُتَعَارَفُ مِنْ أَحْوَالِ النِّسَاءِ فِيمَا يُوَسِّعْنَ بِهِ عَلَى أَزْوَاجِهِنَّ مِنْ أَمْوَالِهِنَّ، إنَّمَا يُرِدْنَ بِذَلِكَ مَوَدَّاتِ الْأَزْوَاجِ، وَاسْتِدَامَةَ عِصْمَتِهِنَّ مَعَهُمْ وَتُقِمْنَ مَسَرَّتَهُمْ، فَإِذَا وَقَعَ الطَّلَاقُ اسْتَحَالَتْ نُفُوسُهُنَّ عَنْ ذَلِكَ إلَى ضِدِّهِ هَذَا الَّذِي لَا يُعْرَفُ غَيْرُهُ.
فرع:
وَمِنْ ذَلِكَ إذَا خَلَا بِزَوْجَتِهِ خَلْوَةً اهْتِدَاءً وَادَّعَتْ أَنَّهُ دَخَلَ بِهَا، فَالْقَوْلُ قَوْلُهَا لِلْعُرْفِ، وَالْعَادَةُ أَنَّ الْمَرْأَةَ إذَا خَلَا بِهَا الزَّوْجُ أَوَّلَ مَرَّةٍ لَا يَصْبِرُ عَنْ وَطْئِهَا، فَالْخَلْوَةُ شَاهِدَةٌ لَهَا بِدَعْوَاهَا، وَقَدْ تَقَدَّمَتْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ مَبْسُوطَةً فِي الْبَابِ الْأَرْبَعِينَ.
فرع:
وَكَذَا إذَا وُجِدَتْ الْوَثِيقَةُ بِيَدِ الْمَطْلُوبِ وَهُوَ يَدَّعِي أَنَّهُ دَفَعَ مَا فِيهَا وَقَبَضَهَا مِنْ الْمُدَّعِي، فَفِي قَبُولِ قَوْلِهِ مَا جَرَتْ بِهِ الْعَادَةُ أَنَّ الْوَثِيقَةَ لَا تَرْجِعُ إلَى الْمَطْلُوبِ إلَّا بَعْدَ دَفْعِ مَا فِيهَا.
فرع:
وَفِي الْمُتَيْطِيَّةِ: قَالَ الشَّيْخُ أَبُو عِمْرَانَ الْفَاسِيُّ أَوْ كَانَتْ الْعَادَةُ عِنْدَ النَّاسِ فِي الرِّبَاعِ، أَنَّ وَكِيلَ الْبَيْعِ لَا يَقْبِضُ الثَّمَنَ، فَإِنَّ الْمُشْتَرِيَ لَا يَبْرَأُ بِالدَّفْعِ إلَى الْوَكِيلِ الَّذِي بَاعَ وَإِنَّمَا يُحْمَلُ هَذَا عَلَى الْعَادَةِ الْجَارِيَةِ بَيْنَهُمْ، يُرِيدُ أَنَّ الْوَكِيلَ عَلَى بَيْعِ السِّلْعَةِ أَنْ يَقْبِضَ الثَّمَنَ وَيَبْرَأَ الْمُشْتَرِي بِالدَّفْعِ إلَيْهِ، لِأَنَّ عَادَةَ النَّاسِ جَرَتْ بِذَلِكَ بِخِلَافِ بَيْعِ الْعَقَارِ وَالرِّبَاعِ، قَالَهُ الْقَرَافِيُّ فِي الْقَوَاعِدِ فِي الْفُرُوقِ.
قَاعِدَةٌ: كُلُّ مَنْ لَهُ عُرْفٌ يُحْمَلُ كَلَامُهُ عَلَى عُرْفِهِ كَقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «مَنْ حَلَفَ وَاسْتَثْنَى عَادَ كَمَنْ لَمْ يَحْلِفْ» يُحْمَلُ عَلَى الْحَلِفِ الشَّرْعِيِّ وَهُوَ الْحَلِفُ بِاَللَّهِ تَعَالَى، لِأَنَّ الْحَلِفَ بِالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ جَعَلَهُمَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَيْمَانِ الْفُسَّاقِ، فَلَا يُحْمَلُ الْحَدِيثِ عَلَيْهِمَا.
فرع:
إذَا حَلَفَ بِأَيْمَانِ الْمُسْلِمِينَ يَحْنَثُ، قَالَ الْقَرَافِيُّ فِي الْفَرْقِ الثَّامِنِ وَالْعِشْرِينَ مَشْهُورُ فَتَاوَى الْأَصْحَابِ رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى: أَنَّهُ يَلْزَمُ كَفَّارَةُ يَمِينٍ وَعِتْقُ رَقَبَةٍ إنْ كَانَ عِنْدَهُ وَإِنْ كَثُرُوا، وَصَوْمُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ، وَالْمَشْيُ إلَى بَيْتِ اللَّهِ تَعَالَى فِي حَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ، وَطَلَاقُ امْرَأَتِهِ، وَاخْتَلَفُوا هَلْ ثَلَاثًا أَوْ وَاحِدَةً؟ وَالتَّصَدُّقُ بِثُلُثِ الْمَالِ، وَلَا يَلْزَمُهُ اعْتِكَافُهُ عَشَرَةَ أَيَّامٍ، وَلَا الْمَشْيُ فِي مَسْجِدِ الْمَدِينَةِ وَلَا بَيْتِ الْمَقْدِسِ وَلَا الرِّبَاطُ فِي الثُّغُورِ الْإِسْلَامِيَّةِ، وَلَا تَرْبِيَةُ الْيَتَامَى وَلَا كِسْوَةُ الْعَرَايَا وَلَا إطْعَامُ الْجِيَاعِ وَلَا شَيْءٌ مِنْ الْقُرُبَاتِ غَيْرَ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ، وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّهُمْ لَاحَظُوا مَا غَلَبَ الْحَلِفُ بِهِ وَلَا يُجْعَلُ عَبَثًا فِي الْعَادَةِ فَأَلْزَمُوهُ إيَّاهُ، لِأَنَّهُ الْمُسَمَّى الْعُرْفِيُّ فَيُقَدَّمُ عَلَى الْمُسَمَّى اللُّغَوِيِّ، وَيَخْتَصُّ حَلِفُهُ بِهَذِهِ الْمَذْكُورَاتِ دُونَ غَيْرِهَا، لِأَنَّهَا الْمَشْهُورَةُ، وَلَفْظُ الْحَلِفِ وَالْأَيْمَانِ يُسْتَعْمَلُ فِيهَا دُونَ غَيْرِهَا، وَلَيْسَ الْمُدْرَكُ أَنَّ عَادَاتِهِمْ يَفْعَلُونَ مُسَمَّيَاتِهَا، وَأَنَّهُمْ يَصُومُونَ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ أَوْ يَحُجُّونَ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْأَفْعَالِ، بَلْ لِغَلَبَةِ اسْتِعْمَالِ الْأَلْفَاظِ فِي هَذِهِ الْمَعَانِي دُونَ غَيْرِهَا، وَكَذَلِكَ صَرَّحُوا فَقَالُوا: مَنْ جَرَتْ عَادَتُهُ بِالْحَلِفِ بِصَوْمِ سَنَةٍ لَزِمَهُ صَوْمُ سَنَةٍ، كَجَعْلِ الْمُدْرِكِ الْحَلِفَ اللَّفْظِيَّ دُونَ الْعُرْفِ الْفِعْلِيِّ فَهَذَا مُدْرِكٌ بِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ عَلَى التَّحْرِيرِ وَالتَّحْقِيقِ، وَعَلَى هَذَا لَوْ اتَّفَقَ فِي وَقْتٍ آخَرَ اشْتِهَارُ حَلِفِهِمْ وَنَذْرِهِمْ بِالِاعْتِكَافِ وَالرِّبَاطِ، وَإِطْعَامِ الْجِيعَانِ وَكِسْوَةِ الْعُرْيَانِ، وَبِنَاءِ الْمَسَاجِدِ دُونَ هَذِهِ الْحَقَائِقِ الْمُتَقَدِّمِ ذِكْرُهَا، إنْ كَانَ اللَّازِمُ بِهَذَا الْحَالِفِ إذَا حَنِثَ الِاعْتِكَافَ وَمَا ذُكِرَ مَعَهُ دُونَ تِلْكَ الْحَقَائِقِ الْأُوَلِ، لِأَنَّ الْأَحْكَامَ الْمُتَرَتِّبَةَ عَلَى الْعَوَائِدِ تَدُورُ مَعَهَا كَيْفَمَا دَارَتْ، وَتَبْطُلُ مَعَهَا إذَا بَطَلَتْ كَالنُّقُودِ فِي الْمُعَامَلَاتِ وَالْعُيُوبِ فِي الْعُرُوضِ الْمَبِيعَاتِ، فَلَوْ تَغَيَّرَتْ الْعَادَةُ فِي النَّقْدَيْنِ وَالسِّكَّةِ إلَى سِكَّةٍ أُخْرَى، لَحُمِلَ الثَّمَنُ فِي الْبَيْعِ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ عَلَى السِّكَّةِ الَّتِي تَجَدَّدَتْ الْعَادَةُ بِهَا دُونَ مَا قَبْلَهَا، وَكَذَلِكَ إذَا كَانَ الشَّيْءُ عَيْنًا فِي الثِّيَابِ فِي الْعَادَةِ رَدَدْنَا بِهِ الْبَيْعَ، فَإِذَا تَغَيَّرَتْ تِلْكَ الْعَادَةُ وَصَارَ ذَلِكَ الْمَكْرُوهُ مَحْبُوبًا لَمْ يُرَدَّ بِهِ، وَبِهَذَا الْقَانُونِ تُعْتَبَرُ جَمِيعُ الْأَحْكَامِ الْمُتَرَتِّبَةِ عَلَى الْعَوَائِدِ، وَهُوَ تَحْقِيقٌ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ لَا اخْتِلَافَ فِيهِ، بَلْ قَدْ يَقَعُ الْخِلَافُ فِي تَحْقِيقِهِ، هَلْ وُجِدَ أَمْ لَا؟ قَالَ: وَعَلَى هَذَا التَّحْرِيرِ يَظْهَرُ أَنَّ عُرْفَنَا الْيَوْمَ لَيْسَ فِيهِ الْحَلِفُ بِصَوْمِ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ، فَلَا يَكَادُ نَجِدُ أَحَدًا بِمِصْرَ يَحْلِفُ بِهِ فَلَا يَنْبَغِي الْفُتْيَا بِهِ، وَعَادَتُهُمْ يَقُولُونَ: عَبْدِي وَامْرَأَتِي طَالِقٌ، وَعَلَى الْمَشْيِ إلَى مَكَّةَ وَمَالِي صَدَقَةٌ إذَا لَمْ أَفْعَلْ كَذَا فَتَلْزَمُ هَذِهِ الْأُمُورُ.
وَعَلَى هَذَا الْقَانُونِ تُرَاعَى الْفَتَاوَى عَلَى طُولِ الْأَيَّامِ، مَهْمَا تَجَدَّدَ فِي الْعُرْفِ اعْتَبَرَهُ، وَمَهْمَا سَقَطَ أَسْقَطَهُ وَلَا تَحْمِلْ عَلَى الْمَنْقُولِ فِي الْكُتُبِ طُولَ عُمْرِك، بَلْ إذَا جَاءَك رَجُلٌ مِنْ غَيْرِ إقْلِيمِك يَسْتَفْتِيك فَلَا تُجِبْهُ عَلَى عُرْفِ بَلَدِك، وَاسْأَلْهُ عَنْ عُرْفِ بَلَدِهِ وَأَجْرِ عَلَيْهِ وَأَفْتِهِ بِهِ دُونَ عُرْفِ بَلَدِك وَالْمُقَرَّرِ فِي كُتُبِك، فَهَذَا هُوَ الْحَقُّ الْوَاضِحُ، وَالْجَرْيُ عَلَى الْمَنْقُولَاتِ أَبَدًا ضَلَالٌ فِي الدِّينِ وَجَهْلٌ بِمَقَاصِدِ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ وَالسَّلَفِ الْمَاضِينَ، وَعَلَى هَذِهِ الْقَاعِدَةُ يَتَخَرَّجُ أَيْمَانُ الطَّلَاقِ وَالْعَتَاقُ وَصِيَغُ الصَّرَائِحِ وَالْكِنَايَاتِ، فَقَدْ تَصِيرُ الصَّرَائِحُ كِنَايَاتٍ تَفْتَقِرُ إلَى النِّيَّةِ وَقَدْ تَصِيرُ الْكِنَايَاتُ صَرَائِحَ مُسْتَغْنِيَةً عَنْ النِّيَّةِ.
فرع:
فَلَوْ قَالَ: أَيْمَانُ الْبَيْعَةِ تَلْزَمُنِي، فَإِنَّهَا تَتَخَرَّجُ عَلَى مَا يَلْزَمُهُ عَلَى هَذِهِ الْقَاعِدَةِ، وَمَا جَرَتْ بِهِ الْعَادَةُ فِي الْحَلِفِ عِنْدَ الْمُلُوكِ الْمُعَاصِرَةِ إذَا لَمْ تَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ، فَأَيُّ شَيْءٍ جَرَتْ بِهِ عَادَةُ مَلِكِ الْوَقْتِ فِي التَّحْلِيفِ بِهِ فِي بَيْعَتِهِمْ، وَاشْتُهِرَ ذَلِكَ عِنْدَ النَّاسِ بِحَيْثُ صَارَ عُرْفًا وَمَنْقُولًا مُتَبَادِرًا لِلذِّهْنِ مِنْ غَيْرِ قَرِينَةٍ حُمِلَ يَمِينُهُ عَلَيْهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ الْأَمْرُ كَذَلِكَ اُعْتُبِرَتْ نِيَّتُهُ أَوْ بِسَاطُ يَمِينِهِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ.
وَقَالَ الْقَرَافِيُّ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي كِتَابِ الْأَحْكَامِ، فِي الْفَرْقِ بَيْنَ الْفَتَاوَى وَالْأَحْكَامِ، فِي السُّؤَالِ التَّاسِعِ وَالثَّلَاثِينَ، وَمَا الصَّحِيحُ فِي هَذِهِ الْأَحْكَامِ الْوَاقِعَةِ فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَغَيْرِهِمَا الْمُرَتَّبَةِ عَلَى الْعَوَائِدِ؟ وَالْعُرْفِ اللَّذَيْنِ كَانَا حَاصِلَيْنِ حَالَةَ جَزْمِ الْعُلَمَاءِ بِهَذِهِ الْأَحْكَامِ، فَهَلْ إذَا تَغَيَّرَتْ تِلْكَ الْعَوَائِدُ وَصَارَتْ تَدُلُّ عَلَى ضِدِّ مَا كَانَتْ تَدُلُّ عَلَيْهِ أَوْ لَا؟ فَهَلْ تَبْطُلُ هَذِهِ الْفَتَاوَى الْمَسْطُورَةُ فِي الْكُتُبِ وَيُفْتَى بِمَا تَقْتَضِيهِ الْعَوَائِدُ الْمُتَجَدِّدَةُ؟ أَوْ يُقَالُ: نَحْنُ مُقَلِّدُونَ وَمَا لَنَا إحْدَاثُ شَرْعٍ لِعَدَمِ أَهْلِيَّتِنَا لِلِاجْتِهَادِ؟ فَنُفْتِي بِمَا فِي الْكُتُبِ الْمَنْقُولَةِ عَنْ الْمُجْتَهِدِينَ، وَالْجَوَابُ: أَنَّ جَرْيَ هَذِهِ الْأَحْكَامِ الَّتِي مُدْرَكُهَا الْعَوَائِدُ، مَعَ تَغْيِيرِ تِلْكَ الْعَوَائِدِ خِلَافُ الْإِجْمَاعِ وَجَهَالَةٌ فِي الدِّينِ، بَلْ كُلُّ مَا هُوَ فِي الشَّرِيعَةِ يَتْبَعُ الْعَوَائِدَ يَتَغَيَّرُ الْحُكْمُ فِيهِ عِنْدَ تَغَيُّرِ الْعَادَةِ إلَى مَا تَقْتَضِيهِ الْعَادَةُ الْمُتَجَدِّدَةُ، وَلَيْسَ ذَلِكَ تَجْدِيدًا لِلِاجْتِهَادِ مِنْ الْمُقَلِّدِينَ حَتَّى يُشْتَرَطَ فِيهِ أَهْلِيَّةُ الِاجْتِهَادِ، بَلْ هِيَ قَاعِدَةٌ اجْتَهَدَ فِيهَا الْعُلَمَاءُ وَأَجْمَعُوا عَلَيْهَا، فَنَحْنُ نَتْبَعُهُمْ فِيهَا مِنْ غَيْرِ اسْتِئْنَافِ اجْتِهَادٍ، أَلَا تَرَى أَنَّهُمْ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الْمُعَامَلَاتِ إذَا أُطْلِقَ فِيهَا الثَّمَنُ يُحْمَلُ عَلَى غَالِبِ النُّقُودِ فَإِذَا كَانَتْ الْعَادَةُ نَقْدًا مُعَيَّنًا حَمَلْنَا الْإِطْلَاقَ عَلَيْهِ، فَإِذَا انْتَقَلَتْ الْعَادَةُ إلَى غَيْرِهِ عَيْنًا مَا انْتَقَلَتْ الْعَادَةُ إلَيْهِ، وَأَلْغَيْنَا الْأَوَّلَ لِانْتِقَالِ الْعَادَةِ عَنْهُ، وَكَذَلِكَ الْإِطْلَاقُ فِي الْوَصَايَا وَالْأَيْمَانِ وَجَمِيعِ أَبْوَابِ الْفِقْهِ الْمَحْمُولَةِ عَلَى الْعَوَائِدِ، وَكَذَلِكَ الدَّعَاوَى إذَا كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَ مَنْ ادَّعَى شَيْئًا؛ لِأَنَّهُ الْعَادَةُ، ثُمَّ تَغَيَّرَتْ الْعَادَةُ لَمْ يَبْقَ الْقَوْلُ قَوْلَ مُدَّعِيهِ، بَلْ انْعَكَسَ الْحَالُ فِيهِ، بَلْ وَلَا يُشْتَرَطُ فِيهِ تَغْيِيرُ الْعَادَةِ، بَلْ لَوْ خَرَجْنَا نَحْنُ مِنْ ذَلِكَ الْبَلَدِ إلَى بَلَدٍ آخَرَ، عَوَائِدُهُمْ عَلَى خِلَافِ عَادَةِ الْبَلَدِ الَّذِي كُنَّا فِيهِ أَفْتَيْنَاهُمْ بِعَادَةِ بَلَدِهِمْ، وَلَمْ نَعْتَبِرْ عَادَةَ الْبَلَدِ الَّذِي كُنَّا فِيهِ، وَكَذَلِكَ إذَا قَدِمَ عَلَيْنَا أَحَدٌ مِنْ بَلَدٍ عَادَتُهُ مُضَادَّةٌ لِلْبَلَدِ الَّذِي نَحْنُ فِيهِ، لَمْ نُفْتِهِ إلَّا بِعَادَةِ بَلَدِهِ.
وَمِنْ هَذَا الْبَابِ مَا رُوِيَ عَنْ مَالِكٍ: إذَا تَنَازَعَ الزَّوْجَانِ فِي قَبْضِ الصَّدَاقِ بَعْدَ الدُّخُولِ، أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الزَّوْجِ مَعَ أَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ الْقَبْضِ.
قَالَ الْقَاضِي إسْمَاعِيلُ هَذِهِ كَانَتْ عَادَتَهُمْ بِالْمَدِينَةِ، أَنَّ الرَّجُلَ لَا يَدْخُلُ بِامْرَأَتِهِ حَتَّى تَقْبِضَ جَمِيعَ صَدَاقِهَا، وَالْيَوْمَ عَادَةُ الْمَدِينَةِ خِلَافُ ذَلِكَ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمَرْأَةِ مَعَ يَمِينِهَا لِأَجْلِ اخْتِلَافِ الْعَوَائِدِ، وَانْظُرْ أَوَّلَ الْمُتَيْطِيَّةِ فَإِنَّهُ اسْتَوْفَى الْكَلَامَ فِيهَا، قَالَ. الْقَرَافِيُّ: فَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا فَأَنَا أَسْرُدُ أَحْكَامًا نَصَّ الْأَصْحَابُ عَلَى أَنَّ الْمُدْرَكَ فِيهَا الْعَادَةُ، وَأَنَّ مُسْتَنَدَ الْفُتْيَا بِهَا إنَّمَا هُوَ الْعَادَةُ وَالْوَاقِعُ الْيَوْمَ خِلَافُهُ، فَيَتَعَيَّنُ تَغْيِيرُ الْحُكْمِ عَلَى مَا تَقْتَضِيهِ الْعَادَةُ الْمُتَجَدِّدَةُ، وَيَنْبَغِي أَنْ نَعْلَمَ أَنَّ مَعْنَى الْعَادَةِ فِي اللَّفْظِ أَنْ يَغْلِبَ إطْلَاقُ لَفْظٍ، وَاسْتِعْمَالُهُ فِي مَعْنًى حَتَّى يَصِيرَ هُوَ الْمُتَبَادِرُ إلَى الذِّهْنِ مِنْ ذَلِكَ اللَّفْظِ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ مَعَ أَنَّ اللُّغَةَ لَا تَقْتَضِيهِ، فَهَذَا هُوَ مَعْنَى الْعَادَةِ فِي اللَّفْظِ، وَهُوَ الْحَقِيقَةُ الْعُرْفِيَّةُ، وَهُوَ الْمَجَازُ الرَّاجِحُ فِي الْأَغْلَبِ، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِ الْفُقَهَاءِ: أَنَّ الْعُرْفَ يُقَدَّمُ عَلَى اللُّغَةِ عِنْدَ التَّعَارُضِ.
[الْحُكْمُ الْأَوَّلُ بَعْضُ أَلْفَاظِ الْمُرَابَحَةِ]
وَهُوَ قَوْلُ الْبَائِعِ: بِعْتُك بِوَضِيعَةِ الْعَشَرَةِ، أَحَدَ عَشَرَ، أَوْ بِوَضِيعَةِ الْعَشَرَةِ عِشْرِينَ أَوْ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ، قَالَ الْأَصْحَابُ: هَذَا اللَّفْظُ يَقْتَضِي عَادَةً أَنْ يَأْخُذَ لِكُلِّ أَحَدَ عَشَرَ عَشَرَةً، وَيَحُطُّ نِصْفَ الثَّمَنِ اللَّفْظُ الْآخَرُ وَيُلْزِمُونَ الْمُتَعَاقِدَيْنِ مِنْ الْجَانِبَيْنِ بِمُجَرَّدِ هَذَا اللَّفْظِ لِأَنَّهُ الْعَادَةُ، وَهَذِهِ الْعَادَةُ قَدْ بَطَلَتْ وَلَا بَقِيَ هَذَا اللَّفْظُ يُفْهَمُ مِنْهُ الْيَوْمَ هَذَا الْمَعْنَى أَلْبَتَّةَ، بَلْ أَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ لَا يَفْهَمُهُ فَضْلًا عَنْ الْعَامَّةِ لِأَنَّهُ لَا عَادَةَ فِيهِ، وَلَا يُفْهَمُ مِنْهُ شَيْءٌ مُعَيَّنٌ بِاعْتِبَارِ اللُّغَةِ أَيْضًا، فَيَنْبَغِي إذَا وَقَعَ هَذَا الْعَقْدُ بَيْنَ الْعَامَّةِ فِي الْمُعَامَلَاتِ أَنْ يَكُونَ الْعَقْدُ بَاطِلًا، فَإِنَّهُ لَيْسَ عَادَتَهُمْ اسْتِعْمَالُهُ أَلْبَتَّةَ، لِأَنَّا طُولَ أَعْمَارِنَا لَمْ نَسْمَعْهُ إلَّا فِي الْكُتُبِ، أَمَّا فِي الْمُعَامَلَاتِ فَلَا، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ الثَّمَنُ مَعْلُومًا بِالْعَادَةِ وَلَا بِاللُّغَةِ كَانَ الْعَقْدُ بَاطِلًا.
[الْحُكْمُ الثَّانِي فِي الْمُرَابَحَةِ]
إذَا قَالَ: بِعْتُك بِمَا قَامَتْ عَلَيَّ، قَالُوا: يَصِحُّ الْبَيْعُ وَيَكُونُ لِلْبَائِعِ مَعَ الثَّمَنِ مَا بَذَلَهُ مِنْ أُجْرَةِ الْقِصَارَةِ، وَالْكِمَادِ وَالطَّرْزِ وَالْخِيَاطَةِ وَالصَّبْغِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا لَهُ عَيْنٌ قَائِمَةٌ، وَتُسْتَحَقُّ لَهُ حِصَّتُهُ مِنْ الرِّبْحِ إنْ سَمَّى لِكُلِّ عَشَرَةٍ رِبْحًا، وَمَا لَيْسَ لَهُ عَيْنٌ قَائِمَةٌ إلَّا أَنَّهُ يُؤْثَرُ فِي السُّوقِ زِيَادَةً فِيهِ، وَتَنْمِيَةُ الثَّمَنِ فَإِنَّهُ يَسْتَحِقُّهُ وَلَا يَسْتَحِقُّ لَهُ حِصَّتَهُ مِنْ الرِّبْحِ نَحْوَ كِرَاءِ الْحُمُولَاتِ فِي النَّقْلِ لِلْبُلْدَانِ، وَمَا لَا يُؤْثَرُ فِي السُّوقِ لَا يَسْتَحِقُّهُ وَلَا يَكُونُ لَهُ رِبْحٌ، كَأُجْرَةِ: الطَّيِّ وَالشَّدِّ وَكِرَاءِ الْبَيْتِ وَنَفَقَةِ الْبَائِعِ عَلَى نَفْسِهِ، وَهَذَا التَّفْصِيلُ لَا يُفِيدُهُ قَوْلُهُ بِمَا قَامَتْ عَلَى لُغَةٍ، بَلْ يَصِحُّ هَذَا الْبَيْعُ بِهَذِهِ الْعِبَارَةِ إذَا كَانَ هَذَا اللَّفْظُ يَقْتَضِيهِ عَادَةً، فَيَصِيرُ الثَّمَنُ مَعْلُومًا بِالْعَادَةِ فَيَصِحُّ الْبَيْعُ.
أُمًّا الْيَوْمَ فَلَا يُفْهَمُ هَذَا فِي الْعَادَةِ وَلَا يَتَعَامَلُ النَّاسُ فِي أَسْوَاقِهِمْ بِهَذِهِ الْعِبَارَةِ، فَلَا عَادَةَ حِينَئِذٍ فَهَذَا الثَّمَنُ مَجْهُولٌ فَلَا يُفْتَى بِمَا فِي الْكُتُبِ مِمَّا تَضَمَّنَتْهُ مِنْ تَفَاصِيلِهِ لِانْتِقَالِ الْعَادَةِ.
[الْحُكْمُ الثَّالِثُ قَالَ لِامْرَأَتِهِ أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ أَوْ خَلِيَّةٌ أَوْ بَرِيَّةٌ]
مَا وَقَعَ فِي الْمُدَوَّنَةِ إذَا قَالَ لِامْرَأَتِهِ: أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ أَوْ خَلِيَّةٌ أَوْ بَرِيَّةٌ أَوْ وَهَبْتُك لِأَهْلِك يَلْزَمُهُ الطَّلَاقُ الثَّلَاثُ فِي الْمَدْخُولِ بِهَا، وَلَا تَنْفَعُهُ النِّيَّةُ أَنَّهُ أَرَادَ أَقَلَّ مِنْ الثَّلَاثِ، وَهَذَا بِنَاءً عَلَى أَنَّ هَذَا اللَّفْظَ فِي عُرْفِ الِاسْتِعْمَالِ اُشْتُهِرَ فِي إزَالَةِ الْعِصْمَةِ، وَاشْتُهِرَ فِي الْعَدَدِ الَّذِي هُوَ الثَّلَاثُ، وَأَنَّهُ اُشْتُهِرَ فِي الْإِنْشَاءِ لِلْمَعْنَيَيْنِ، وَانْتَقَلَ عَمَّا هُوَ عَلَيْهِ حَرَامٌ مِنْ الْإِخْبَارِ عَنْ أَنَّهَا حَرَامٌ؛ لِأَنَّهُ لَوْ بَقِيَ عَلَى مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ لُغَةً لَكَانَ كَذِبًا بِالضَّرُورَةِ؛ لِأَنَّهَا حَلَالٌ لَهُ إجْمَاعًا، فَالْإِخْبَارُ عَنْهَا بِأَنَّهَا حَرَامٌ كَذِبٌ بِالضَّرُورَةِ، وَلَيْسَ مَدْلُولُ هَذَا اللَّفْظِ لُغَةً إلَّا اعْتِبَارَ أَنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِ، وَأَنَّ التَّحْرِيمَ قَدْ دَخَلَ فِي الْوُجُودِ قَبْلَ نُطْقِهِ بِهَذِهِ الصِّيغَةِ وَهَذَا كَذِبٌ قَطْعًا، فلابد حِينَئِذٍ أَنْ يُقَالَ: أَنَّهَا انْتَقَلَتْ فِي الْعُرْفِ لِثَلَاثَةِ أُمُورٍ: إزَالَةُ الْعِصْمَةِ، وَالْعَدَدِ الثَّلَاثِ، وَالْإِنْشَاءِ، فَإِنَّ أَلْفَاظَ الطَّلَاقِ مَهْمَا لَمْ تَكُنْ إنْشَاءً أَوْ يُرَادُ بِهَا الْإِنْشَاءَ لَا تُزِيلُ عِصْمَةً أَلْبَتَّةَ، وَمُلَاحَظَةُ هَذِهِ الْقَاعِدَةِ هِيَ سَبَبُ الْخِلَافِ بَيْنَ الْخَلَفِ وَالسَّلَفِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، فَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا فَأَنْتَ تَعْلَمُ أَنَّك لَا تَجِدُ النَّاسَ يَسْتَعْمِلُونَ هَذِهِ الصِّيَغَ الْمُتَقَدِّمَةَ فِي ذَلِكَ، بَلْ تَمْضِي الْأَعْمَارُ وَلَا يُسْمَعُ أَحَدٌ يَسْتَعْمِلُ هَذِهِ الْأَلْفَاظَ فِي حَلِّ الْعِصْمَةِ وَلَا فِي عَدَدِ طَلْقَاتٍ، فَالْعُرْفُ حِينَئِذٍ فِي هَذِهِ الْأَلْفَاظِ مَنْفِيٌّ قَطْعًا، وَإِذَا انْتَفَى الْعُرْفُ لَمْ يَبْقَ إلَّا اللُّغَةُ، وَفِي اللُّغَةِ لَمْ تُوضَعْ هَذِهِ الْأَلْفَاظُ لِهَذِهِ الْمَعَانِي، وَلَا يَدَّعِي أَنَّهَا مَدْلُولُ اللَّفْظِ لُغَةً إلَّا مَنْ لَا يَدْرِي اللُّغَةَ، وَإِذَا لَمْ تَفْدِ هَذِهِ الْأَلْفَاظُ هَذِهِ الْمَعَانِيَ لُغَةً وَلَا عُرْفًا وَلَا نِيَّةً وَلَا بِسَاطًا، فَهَذِهِ الْأَحْكَامُ حِينَئِذٍ بِلَا مُسْتَنَدٍ، وَالْفُتْيَا بِغَيْرِ مُسْتَنَدٍ بَاطِلَةٌ إجْمَاعًا وَحَرَامٌ عَلَى قَائِلِهَا وَمُعْتَقِدِهَا نَعَمْ لَفْظُ الْحَرَامِ فِي عُرْفِنَا الْيَوْمَ لِإِزَالَةِ الْعِصْمَةِ خَاصَّةً دُونَ عَدَدٍ وَهِيَ مُشْتَهِرَةٌ فِي ذَلِكَ، بِخِلَافِ مَا ذُكِرَ مَعَهَا مِنْ الْأَلْفَاظِ، وَمُقْتَضَى هَذَا أَنْ يُفْتِيَ بِطَلْقَةٍ رَجْعِيَّةٍ لَيْسَ إلَّا، وَيَنْوِيَ فِي غَيْرِهَا مِنْ الْأَلْفَاظِ الَّتِي ذُكِرَتْ مَعَهَا، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ وَلَا بِسَاطٌ لَمْ يَلْزَمْهُ شَيْءٌ، لِأَنَّهُمَا مِنْ الْكِنَايَاتِ الْخَفِيَّةِ عَلَى التَّقْدِيرِ، لَكِنْ أَكْثَرُ الْأَصْحَابِ وَأَهْلُ الْعَصْرِ لَا يُسَاعِدُونَ عَلَى هَذَا وَيُنْكِرُونَهُ، وَاعْتَقَدُوا أَنَّ مَا هُمْ عَلَيْهِ خِلَافُ إجْمَاعِ الْأُمَّةِ، وَهَذَا الْكَلَامُ وَاضِحٌ لِمَنْ تَأَمَّلَهُ بِعَقْلٍ سَلِيمٍ، وَحُسْنِ نَظَرٍ سَالِمٍ عَنْ تَعَصُّبَاتِ الْمَذَاهِبِ الَّتِي لَا تَلِيقُ بِأَخْلَاقِ الْمُتَّقِينَ لِلَّهِ تَعَالَى.
قَالَ: وَالْعَجَبُ مِنْهُمْ أَنَّهُمْ إذَا قِيلَ لَهُمْ: إذَا قَالَ لِامْرَأَتِهِ أَنْتِ طَالِقٌ يَفْتَقِرُ إلَى نِيَّةٍ، يَقُولُونَ: لَا، لِأَنَّهُ صَرِيحُ لُغَةٍ فِي إزَالَةِ الْعِصْمَةِ؛ لِأَنَّ الطَّاءَ وَاللَّامَ وَالْقَافَ لِإِزَالَةِ مُطْلَقِ الْقَيْدِ، وَكَذَلِكَ يُقَالُ: لَفْظٌ مُطْلَقٌ وَحَلَالٌ مُطْلَقٌ وَوَجْهٌ طُلِقَ فُلَانٌ مِنْ الْحَبْسِ، وَانْطَلَقَتْ بَطْنُهُ، وَعَقْدُ النِّكَاحِ أَحَدُ أَنْوَاعِ الْعَقْدِ، فَإِذَا زَالَ مُطْلَقُ الْقَيْدِ أَوْ قَيْدُ النِّكَاحِ زَالَ قَيْدُ النِّكَاحِ بِالضَّرُورَةِ، فَيُقَالُ لَهُمْ: أَنْتِ مُنْطَلِقَةٌ فِي جَمِيعِ هَذَا، فَلَا يَجِدُونَ جَوَابًا إلَّا أَنَّهُ مَهْجُورٌ فِي عُرْفِ الِاسْتِعْمَالِ لَا يُسْتَعْمَلُ فِي الطَّلَاقِ، فَلَا يُفِيدُ الطَّلَاقَ إلَّا بِالنِّيَّةِ، فَيُقَالُ لَهُمْ: فَإِنْ اتَّفَقَ أَنْ يَكُونَ لَفْظُ مُنْطَلِقَةٌ مُشْتَهِرًا فِي عَصْرٍ أَوْ فِي مِصْرٍ فِي إزَالَةِ الْعِصْمَةِ، وَأَنْتِ طَالِقٌ وَلَمْ يَشْتَهِرْ فِي إزَالَةِ الْعِصْمَةِ عِنْدَهُمْ، مَا الْحُكْمُ؟ فَيَتَعَيَّنُ أَنْ يَقُولُوا: يَلْزَمُهُ الطَّلَاقُ بِمُنْطَلِقَةٍ دُونَ طَالِقٍ، إلَّا أَنْ يَنْوِيَ بِطَالِقٍ إزَالَةَ الْعِصْمَةِ عَكْسُ مَا نَحْنُ عَلَيْهِ الْيَوْمَ، فَيُقَالُ لَهُمْ: فَكَذَلِكَ لَفْظُ الْحَرَامِ يَنْبَغِي أَنْ يَدُورَ لَفْظُ الْفُتْيَا فِيهَا وَفِي أَخَوَاتِهَا، مَعَ اشْتِهَارِهَا فِي الْعُرْفِ وُجُودًا وَعَدَمًا، فَفِي أَيِّ شَيْءٍ اُشْتُهِرَتْ حُمِلَتْ عَلَيْهِ بِغَيْرِ نِيَّةٍ، وَمَا لَمْ يَشْتَهِرْ فِيهِ لَمْ يُحْمَلْ عَلَيْهِ إلَّا بِنِيَّةٍ، وَلَا يَكْفِي فِي الِاشْتِهَارِ كَوْنُ الْمُفْتِي يَعْتَقِدُ ذَلِكَ، فَإِنَّ ذَلِكَ نَشَأَ مِنْ قِرَاءَةِ الْمَذْهَبِ وَدِرَاسَتِهِ وَالْمُنَاظَرَةِ فِيهِ، بَلْ الِاشْتِهَارُ أَنْ يَكُونَ أَهْلُ ذَلِكَ الْمِصْرِ لَا يَفْهَمُونَ مِنْ الْإِطْلَاقِ إلَّا ذَلِكَ الْمَعْنَى، لَا مِنْ لَفْظِ الْفُقَهَاءِ بَلْ اسْتِعْمَالُهُمْ هُمْ لِذَلِكَ اللَّفْظِ فِي ذَلِكَ الْمَعْنَى، فَهَذَا هُوَ الِاشْتِهَارُ الْمُفِيدُ لِنَقْلِ اللَّفْظِ مِنْ اللُّغَةِ لِلْعُرْفِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
تنبيه:
قَالَ الْقَرَافِيُّ فِي الْكِتَابِ الْمَذْكُورِ: وَيَنْبَغِي لِلْمُفْتِي إذَا وَرَدَ عَلَيْهِ مُسْتَفْتٍ لَا يَعْلَمُ أَنَّهُ مِنْ أَهْلِ الْبَلَدِ الَّذِي فِيهِ الْمُفْتِي أَنْ لَا يُفْتِيَهُ بِمَا عَادَتُهُ يُفْتِي بِهِ، حَتَّى يَسْأَلَهُ عَنْ بَلَدِهِ، وَهَلْ حَدَثَ لَهُمْ عُرْفٌ فِي ذَلِكَ اللَّفْظِ اللُّغَوِيِّ أَمْ لَا؟ وَإِنْ كَانَ اللَّفْظُ عُرْفِيًّا فَهَلْ عُرْفُ ذَلِكَ الْبَلَدِ مُوَافِقٌ لِهَذَا الْبَلَدِ فِي عُرْفِهِ أَمْ لَا؟ وَهَذَا أَمْرٌ مُتَيَقَّنٌ وَاجِبٌ لَا يَخْتَلِفُ فِيهِ الْعُلَمَاءُ، وَأَنَّ الْعَادَتَيْنِ مَتَى كَانَتَا فِي بَلَدَيْنِ لَيْسَا سَوَاءً، إنَّمَا اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي الْعُرْفِ وَاللُّغَةِ، هَلْ يُقَدَّمُ الْعُرْفُ عَلَى اللُّغَةِ أَمْ لَا؟ وَالصَّحِيحُ تَقْدِيمُهُ لِأَنَّهُ نَاسِخٌ، وَالنَّاسِخُ مُقَدَّمٌ عَلَى الْمَنْسُوخِ إجْمَاعًا فَكَذَلِكَ هُنَا.
تنبيه:
وَنُقِلَتْ مِنْ الرِّحْلَةِ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ رَشِيدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ، فِيمَنْ حَلَفَ بِالْأَيْمَانِ اللَّازِمَةِ وَحَنِثَ، هَلْ يَلْزَمُهُ الطَّلَاقُ الثَّلَاثُ أَوْ وَاحِدَةٌ؟ ثُمَّ قَالَ وَالْمُعْتَبَرُ فِي ذَلِكَ عُرْفُ الْحَالِفِ لَا عُرْفُ الْمُفْتِي، فَلَوْ دَخَلَ الْمُفْتِي بَلَدًا لَا يَكُونُ عُرْفُهُمْ فِيهِ أَنَّهُ يُرَادُ بِهِ الطَّلَاقُ الثَّلَاثُ لَمْ يَجُزْ لَهُ أَنْ يُفْتِيَ فِيهِ بِذَلِكَ، وَلَا يَحِلُّ لِلْمُفْتِي أَنْ يُفْتِيَ بِمَا يَتَوَقَّفُ عَلَى الْعُرْفِ إلَّا بَعْدَ مَعْرِفَةِ الْعُرْفِ، وَلَوْ تَغَيَّرَ الْعُرْفُ لِتَغَيُّرِ الْجَوَابِ، وَهَذَا مِنْ الْأَمْرِ الْمُهِمِّ مَعْرِفَتُهُ انْتَهَى. وَهَذَا يُعَضِّدُ كَلَامَ الْقَرَافِيِّ.
مَسْأَلَةٌ:
وَفِي أَحْكَامِ ابْنِ سَهْلٍ فِي حَبْسٍ بِيَدِ قَوْمٍ ذَكَرُوا أَنَّ هَذَا الْحَبْسَ لَمْ نَزَلْ نَسْلُكُ بِغَلَّتِهِ فِي مَسَاكِينِ هَذِهِ الْقُرَى وَفِي إصْلَاحِ مَسَاجِدِهَا مَسْلَكَ الْأَحْبَاسِ، فَشَاوَرَ الْقَاضِي الْفُقَهَاءَ هَلْ يَلْزَمُهُ تَنْفِيذُ مَا ادَّعَاهُ الْمُقِرُّونَ بِالْحَبْسِ وَمَا جَرَتْ بِهِ الْعَادَةُ فِي صَرْفِ غَلَّتِهِ؟ فَأَجَابُوهُ: الَّذِي نَرَاهُ أَنَّ إقْرَارَهُمْ بِمَا تَحْتَ أَيْدِيهِمْ مِنْ هَذِهِ الْأَحْبَاسِ لَازِمٌ، وَيَجِبُ تَنْفِيذُ ذَلِكَ عَلَى مَا أَقَرَّ بِهِ وَصَنَّفُوهُ مِمَّا جَرَّتْهُ الْحَبَاسَةُ فِيهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَهَكَذَا يَجِبُ فِي كُلِّ مَجْهُولِ الْأَصْلِ لَمْ يَثْبُتْ إلَّا بِإِقْرَارِهِمْ مِنْ الَّذِي هُوَ بِيَدِهِ، فَالْمُقِرُّ يُؤَاخَذُ بِإِقْرَارِهِ وَيَنْفُذُ فِي ذَلِكَ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
مَسْأَلَةٌ:
وَفِي أَحْكَامِ ابْنِ سَهْلٍ فِي رَجُلٍ مُتَقَبِّلٍ لِحَمَّامٍ، وَذَكَرَ أَنَّهُ بِيَدِهِ لِأَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ وَلِيدٍ لِوَرَثَةِ أَخِيهِ، وَأَنَّهُمْ هُمْ الْمُدْخِلُونَ لَهُ فِيهِ، وَسَمَّاهُمْ فِيهِ يَعْرِفُهَا مُتَقَبِّلُ الْحَمَّامِ، فَهَلْ يُعْمَلُ بِذَلِكَ؟ قَالَ: ابْنُ لُبَابَةَ وَغَيْرُهُ مِنْ الْفُقَهَاءِ يَجِبُ أَنْ يُسْأَلَ مُتَقَبِّلُ الْحَمَّامِ: كَيْفَ هُوَ بَيْنَهُمْ عَلَى السَّوَاءِ أَمْ عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ؟ فَمَا أَقَرَّ بِهِ كَانَ كَذَلِكَ إلَّا أَنْ يَدَّعِيَ الْمُقَرُّ لَهُمْ غَيْرَ مَا أَقَرَّ بِهِ مَنْ هُوَ بِيَدِهِ، فَيُكَلَّفُ الْمُدَّعِي الْبَيِّنَةَ عَلَى دَعْوَاهُ، فَجَعَلُوا مَا جَرَتْ بِهِ عَادَةُ الْمُتَقَبِّلِ فِي صَرْفِ رِيعِهِ إلَى أَرْبَابِهِ، حُجَّةً يُعْمَلُ بِهَا.
مَسْأَلَةٌ:
وَفِي كِتَابِ الْمُقْنِعِ فِي كِتَابِ الْحَبْسِ، وَإِذَا كَانَ الْحَبْسُ بَاقِيًا وَفِيهِ مِنْ تَرْتِيبِ أَمْرِ الْحَبْسِ خِلَافُ مَا يَفْعَلُهُ وُلَاةُ الْحَبْسِ، فَيُعْمَلُ عَلَى مَا فِي كِتَابِ الْحَبْسِ، وَلَوْ تَلِفَ الْكِتَابُ فَلَا يُعْرَفُ مَا فِيهِ فَلْيُحْمَلْ أَمْرُهَا عَلَى مَا دَرَجَ عَلَيْهِ أَمْرُ وُلَاتِهَا، وَلَعَلَّهُمْ عَلَى مَا فِي كِتَابِهَا عَمِلُوا.
[مَسْأَلَةٌ: كَانَ تَحْتَ يَدِ الْأَبِ مَالٌ لِابْنَتِهِ مِنْ عَيْنٍ أَوْ عَرَضٍ عَلَى وَجْهِ الْأَمَانَةِ]
مَسْأَلَةٌ:
إذَا كَانَ تَحْتَ يَدِ الْأَبِ مَالٌ لِابْنَتِهِ مِنْ عَيْنٍ أَوْ عَرَضٍ عَلَى وَجْهِ الْأَمَانَةِ بِسَبَبِ كَوْنِهَا فِي وِلَايَتِهِ، فَادَّعَى الْأَبُ أَنَّهُ جَهَّزَهَا عِنْدَ بِنَاءِ زَوْجِهَا بِهَا، فَيَنْبَغِي عَلَى النَّظَرِ أَنْ يَكُونَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ مَا لَمْ يَتَبَيَّنْ كَذِبُهُ، لِأَنَّ الْعُرْفَ جَازَ بِأَنَّ الْآبَاءَ يُجَهِّزُونَ بَنَاتِهِمْ بِأَمْوَالِ أَنْفُسِهِمْ، فَكَيْفَ بِأَمْوَالِهِنَّ؟ وَأَمَّا الْوَصِيُّ فَبِخِلَافِ ذَلِكَ لِأَنَّهُ مَأْمُورٌ بِالْإِشْهَادِ بِنَصِّ التَّنْزِيلِ، فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ حُكْمُهُ حُكْمَ الْأَبِ فِي دَعْوَاهُ، أَنَّهُ جَهَّزَ الْبِنْتَ بِصَدَاقِهَا وَلَا بِغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ مَالِهَا إلَّا بِالْبَيِّنَةِ، وَهَذَا الَّذِي يَقْتَضِيهِ النَّظَرُ عَلَى الْأُصُولِ مِنْ الْمُتَيْطِيَّةِ عَنْ بَعْضِ الْمُوَثَّقِينَ.
وَقَالَ بَعْضُ الْمُوَثَّقِينَ: لَا فَرْقَ بَيْنَ الْأَبِ وَالْوَصِيِّ فِي دَعْوَاهُ، أَنَّهُ جَهَّزَ مَحْجُورَتَهُ بِنَقْدِهَا.
[مَسْأَلَةٌ النِّكَاحِ بِعَقْدٍ]
مَسْأَلَةٌ:
وَسُئِلَ أَبُو بَكْرٍ اللُّؤْلُؤِيُّ عَنْ النِّكَاحِ بِعَقْدٍ، وَيُغْفَلُ فِيهِ عَنْ ذِكْرِ الشُّرُوطِ وَتَارِيخِ الْكَالِئِ، فَلَمَّا كَانَ عِنْدَ كَتْبِ الصَّدَاقِ قَالَ النَّاكِحُ: لَسْت أُرِيدُ أَنْ يُكْتَبَ عَلَيَّ شَرْطٌ وَلَا أَعْقِدَهُ عَلَى نَفْسِي، وَطُوِّلَ فِي أَجَلِ الْكَالِئِ، وَقَالَ الْمُنْكِحُ: إنَّمَا غَفَلْت عَنْ ذِكْرِ ذَلِكَ لِمَا جَرَى فِي بَلَدِنَا مِنْ الْعُرْفِ فِيهِمَا، وَذَلِكَ أَنَّ الشُّرُوطَ عِنْدَهُمْ أَمْرٌ مَعْرُوفٌ لَا يَعْدُوهُ أَحَدٌ إلَّا الشَّاذُّ الْخَاصُّ، وَالتَّارِيخُ لِلْكَالِئِ ثَلَاثَةُ أَعْوَامٍ لَا يَعْدُوهُ أَحَدٌ إلَّا الشَّاذُّ، فَهَلْ يُحْمَلُ الْأَمْرُ عَلَى هَذَا الْعُرْفِ أَمْ لَا؟ فَأَجَابَ: لَا يُجْبَرُ عَلَى ذَلِكَ وَهُوَ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ انْضَمَّ إلَى مَا يَقُولُونَ أَوْ انْضَمُّوا إلَى مَا يَقُولُ، وَإِلَّا فَلَهُ الِانْحِلَالُ.
وَقَالَهُ ابْنُ الْقَاسِمِ وَرَوَى عَنْهُ عِيسَى: أَنَّ النِّكَاحَ يُفْسَخُ إذَا لَمْ يُذْكَرْ لِلْكَالِئِ أَجَلٌ.
وَقَالَ بَعْضُ الشُّيُوخِ الْأَنْدَلُسِيِّينَ: إنَّهُ يُحْكَمُ عَلَى الزَّوْجِ بِالْمُتَعَارَفِ مِنْ الشُّرُوطِ فِي الْبَلَدِ الَّذِي هُمَا بِهِ، وَيَلْزَمُ إيَّاهَا وَالنِّكَاحُ ثَابِتٌ.
[مَسْأَلَةٌ اخْتَلَفَ الْمُتَبَايِعَانِ فِي صِحَّةِ الْعَقْدِ وَفَسَادِهِ]
مَسْأَلَةٌ:
إذَا اخْتَلَفَ الْمُتَبَايِعَانِ فِي صِحَّةِ الْعَقْدِ وَفَسَادِهِ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ مُدَّعِي الصِّحَّةِ مَعَ يَمِينِهِ، فَإِنْ نَكَلَ حَلَفَ الْآخَرُ وَفُسِخَ الْبَيْعُ، وَالْبَيِّنَةُ عَلَى مُدَّعِي الْحَرَامِ إلَّا أَنْ يَكُونَ أَهْلُ ذَلِكَ الْبَلَدِ إنَّمَا مُعَامَلَتُهُمْ عَلَى الْمَكْرُوهِ وَالْحَرَامِ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ مُدَّعِي ذَلِكَ مَعَ يَمِينِهِ، لِأَنَّ اسْتِفَاضَةَ ذَلِكَ وَشُهْرَتَهُ فِي الْبَلَدِ كَالْبَيِّنَةِ الْقَاطِعَةِ وَالشَّهَادَةِ التَّامَّةِ، وَعَلَى مُدَّعِي الْحَلَالِ الْبَيِّنَةُ.
[مَسْأَلَة الشَّأْنُ فِيمَا يُهْدِيهِ الصَّدِيقُ أَوْ الْجَارُ فِي الْعُرْسِ وَالْوَلَائِمِ]
مَسْأَلَةٌ:
قَالَ اللَّخْمِيُّ الشَّأْنُ فِيمَا يُهْدِيهِ الصَّدِيقُ أَوْ الْجَارُ فِي الْعُرْسِ وَالْوَلَائِمِ الثَّوَابُ، إلَّا أَنَّهُمْ يَخْتَلِفُونَ فِي الْقِيَامِ، فَإِنْ ثَبَتَ أَنَّ مِثْلَهُ يَطْلُبُ الثَّوَابَ فَلَهُ ذَلِكَ وَلِوَرَثَتِهِ.
وَقَالَ ابْنُ الْعَطَّارِ: وَعِنْدَنَا يُهْدِي النَّاسُ بَعْضَهُمْ لِبَعْضٍ الْكِبَاشَ وَالْجَزُورَ وَالْخُبْزَ عِنْدَ نِكَاحِهِمْ، ثُمَّ يَطْلُبُونَ الْمُكَافَأَةَ وَنَزَلَتْ قَدِيمًا، فَقُضِيَ لِلطَّالِبِ بِالْقِيَامِ، لِأَنَّ ضَمَائِرَ الْبَاعِثِينَ وَالْمَبْعُوثِ إلَيْهِمْ عِنْدَنَا تَنْعَقِدُ عَلَى هَذَا، وَصَارَ الضَّمِيرُ شَرْطًا فَيُقْضَى بِقِيمَةِ الْجَزُورِ يَوْمَ الْقَبْضِ إنْ كَانَتْ مَجْهُولَةَ الْوَزْنِ، وَإِنْ عُلِمَ وَزْنُهَا قُضِيَ بِهِ، وَنَزَلَتْ فِي رَجُلٍ بَعَثَ بِقَدْرِ لَحْمٍ مَطْبُوخٍ، وَكَانَ الْمَبْعُوثُ إلَيْهِ بَعَثَ بِجَزُورٍ فَقُضِيَ لَهُ بِقِيمَةِ قِدْرِهِ، وَقَاصَّهُ الْآخَرُ بِقِيمَةِ الْجَزُورِ، وَلَوْ كَانَ هَذَا فِي بَلَدٍ لَا يَعْرِفُ ذَلِكَ فِيهِ لَمْ يُقْضَ فِيهِ بِالثَّوَابِ، اُنْظُرْ الْمُذْهَبَ لِابْنِ رَاشِدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ.

.الْبَابُ الثَّامِنُ وَالْخَمْسُونَ فِي الْقَضَاءِ بِقَوْلِ أَهْلِ الْمَعْرِفَةِ:

وَيَجِبُ الرُّجُوعُ إلَى قَوْلِ أَهْلِ الْبَصَرِ وَمَعْرِفَةِ النَّخَّاسِينَ فِي مَعْرِفَةِ عُيُوبِ الرَّقِيقِ مِنْ الْإِمَاءِ وَالْعَبِيدِ.
فرع:
وَفِي أَحْكَامِ ابْنِ سَهْلٍ قَالَ: سَأَلْت أَبَا عَبْدِ اللَّهَ بْنَ عَتَّابٍ هَلْ يُحْكَمُ بِقَوْلِ النِّسَاءِ فِيمَا يَشْهَدُونَ فِيهِ مِنْ عُيُوبِ الْإِمَاءِ أَنَّهُ قَدِيمٌ قَبْلَ تَارِيخِ التَّبَايُعِ، أَمْ لَا يُسْمَعُ مِنْهُنَّ فِي ذَلِكَ؟ وَيَشْهَدُ فِي ذَلِكَ الْحُكَمَاءُ أَوْ نَخَّاسُ الرَّقِيقِ، فَقَالَ لِي: إنْ كُنَّ طَبِيبَاتٍ سُمِعَ مِنْهُنَّ، وَإِلَّا فَلَا يَشْهَدُ بِهِ إلَّا الْحُكَمَاءُ، قَالَ هَذَا هُوَ الصَّحِيحُ.
تنبيه:
وَطَرِيقُ الْحُكْمِ فِي ذَلِكَ مَا ذَكَرَهُ ابْنُ سَهْلٍ رَحِمَهُ اللَّهُ وَاعْتَرَضَ عَلَى جَمَاعَةٍ مِنْ الْفُقَهَاءِ فِيمَا يَفْعَلُونَ فِي ذَلِكَ، قَالَ فِي بَابِ الْعُيُوبِ فِي رَجُلٍ ابْتَاعَ خَادِمًا مِنْ رَجُلٍ، ثُمَّ قَامَ الْمُشْتَرِي يُرِيدُ رَدَّ الْجَارِيَةِ، وَذَكَرَ أَنَّ بِهَا آثَارًا يَجِبُ بِهَا رَدُّهَا لَمْ يَكُنْ بَيَّنَهَا الْبَائِعُ، وَقَالَ الْبَائِعُ: لَا أَعْلَمُ بِهَا عَيْبًا، فَشَهِدَ عِنْدَ الْقَاضِي طَبِيبَانِ أَنَّ الْآثَارَ الَّتِي بِسَاقَيْهَا مِنْ مِرَّةٍ سَوْدَاءَ، دَلَّتْ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ مِنْ قُرُوحٍ غَلِيظَةٍ قَدِيمَةٍ كَانَتْ مُنْذُ سَنَةٍ أَوْ نَحْوِهَا، وَأَنَّهُ عَيْبٌ يَجِبُ بِهِ الرَّدُّ فِي عِلْمِهِمَا، وَشَاوَرَ الْحَاكِمُ فِي ذَلِكَ ابْنَ لُبَابَةَ فَلَمْ يَعْتَرِضْ شَهَادَةَ الشُّهُودِ، قَالَ ابْنُ سَهْلٍ: وَفِي قَوْلِهِ عَنْ الطَّبِيبَيْنِ أَنَّهُمَا شَهِدَا فِي الشِّقَاقِ أَنَّهُ مِنْ مِرَّةٍ سَوْدَاءَ كَانَتْ مُنْذُ سَنَةٍ، وَأَنَّهُ عَيْبٌ يَجِبُ بِهِ الرَّدُّ فِي عِلْمِهِمَا، فَصَارَا هُمَا الْمُفْتِيَانِ بِالرَّدِّ وَهُوَ خَطَأٌ مِنْ الْعَمَلِ، إنَّمَا عَلَيْهِمَا أَنْ يَشْهَدَا بِأَنَّهُ مِنْ دَاءٍ قَدِيمٍ بِهَا قَبْلَ أَمَدِ التَّبَايُعِ، ثُمَّ يَشْهَدُ أَهْلُ الْبَصَرِ مِنْ تُجَّارِ الرَّقِيقِ وَنَخَّاسِيهِمْ بِأَنَّهُ عَيْبٌ يَحُطُّ مِنْ ثَمَنِهَا كَثِيرًا، ثُمَّ يُفْتِي الْفَقِيهُ بَعْدَ ذَلِكَ بِوُجُوبِ الرَّدِّ إذَا لَمْ يَكُنْ عِنْدَ الْمَطْلُوبِ حُجَّةٌ وَلَا مَدْفَعٌ، وَالْخَطَأُ الْمَعْدُودُ عَلَى ابْنِ لُبَابَةَ فِي هَذَا أَقْبَحُ مِنْهُ عَلَى الْقَاضِي، لِأَنَّهُ كَانَ عَلَيْهِ أَنْ يُرْشِدَهُ وَيُنَبِّهَهُ عَلَى ذَلِكَ وَلَا يَعْرِضُ عَنْهُ، وَقَدْ أَنْكَرَ ذَلِكَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ عَتَّابٍ فِي شَهَادَةِ شُهُودٍ شَهِدُوا فِي عَقْدِ حَائِطٍ ادَّعَاهُ رَجُلَانِ أَنَّهُ لِفُلَانٍ مِنْهُمَا، وَأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ إلَيْهِمَا وَلَا يُسْمَعُ مِنْهُمْ أَنَّهُ لِفُلَانٍ، وَإِنَّمَا يُؤَدُّونَ الشَّهَادَةَ عِنْدَ الْحَاكِمِ أَنَّهُمْ نَظَرُوا إلَى الْحَائِطِ وَرَأَوْا عَقْدَهُ مِنْ نَاحِيَةِ دَارِ فُلَانٍ، أَوْ رَأَوْا عَلَيْهِ خَشَبَ سَقْفِ بَيْتِ فُلَانٍ، ثُمَّ يُفْتِي الْفَقِيهُ عَلَى ذَلِكَ، كَمَا أَنَّهُمْ إذَا شَهِدُوا أَنَّهُمْ يَعْرِفُونَ هَذَا الْعَبْدَ وَهَذَا الْبَغْلَ مِلْكًا لِفُلَانٍ وَمَالًا مِنْ مَالِهِ وَبِيَدِهِ، لَا يَعْلَمُونَهُ خَرَجَ عَنْ مِلْكِهِ بِبَيْعٍ وَلَا غَيْرِهِ إلَى حِينِ شَهَادَتِهِمْ هَذِهِ، فَلَا يَجُوزُ لَهُمْ أَنْ يَقُولُوا فَيَجِبُ أَنْ يَحْلِفَ صَاحِبُهُ فِي مَقْطَعِ الْحَقِّ أَنَّهُ مَا بَاعَهُ وَلَا وَهَبَهُ وَلَا خَرَجَ عَنْ مِلْكِهِ ثُمَّ يَأْخُذُهُ، وَهَذَا أَبْيَنُ مِنْ أَنْ يُحْتَاجَ فِيهِ إلَى هَذَا التَّطْوِيلِ، لَكِنِّي رَأَيْت هَذَا الْمَعْنَى قَدْ كَثُرَ عِنْدَ الْحُكَّامِ لَا يُنْكِرُونَهُ، بَلْ قَدْ بَلَغَنِي عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّهُ قَالَ: لَمْ تَزَلْ الشَّهَادَاتُ تُؤَدَّى فِي هَذَا الْمَعْنَى هَكَذَا، وَالشُّيُوخُ مُتَوَافِرُونَ وَلَا يُنْكِرُونَهُ، وَقَدْ رَأَيْت جَوَابَ جَاهِلِ أَهْلِ الِاعْتِنَاءِ بِالْفُتْيَا وَقَدْ أَفْتَى فِي قَنَاةٍ ظَهَرَتْ فِي دَارٍ مَبِيعَةٍ بِقُرْبِ بِئْرِهَا، فَقَالَ: يُقَالُ لِلشُّهُودِ: وَهَلْ يَجِبُ بِذَلِكَ الرَّدُّ أَمْ لَا؟ فَإِنْ قَالُوا يَجِبُ رُدَّتْ فَلَيْتَ شِعْرِي مَا الَّذِي اسْتَفْتَى هُوَ فِيهِ إذَا كَانَ الشُّهُودُ يُسْأَلُونَ: هَلْ يَجِبُ الرَّدُّ أَمْ لَا.
وَهَذَا نِهَايَةٌ فِي الْغَبَاوَةِ، وَإِذَا فَشَتْ الْجَهَالَةُ فِي النَّاسِ ظُنَّتْ حَقًّا وَحُسِبَتْ سُنَّةً، وَأَنْكَرَ مَا تَقَدَّمَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ، فَقَالَ: وَقَعَ فِي أَحْكَامِ ابْنِ زِيَادٍ، فِي رَجُلٍ قَامَ عِنْدَ الْقَاضِي عَلَى قَوْمٍ مِنْ النَّخَّاسِينَ فِي خَادِمٍ بَاعُوهَا مِنْهُ وَظَهَرَتْ بِهَا عُيُوبٌ، قَالَ الْقَاضِي: فَأَمَرْت مَنْ أَثِقُ بِهَا مِنْ النِّسَاءِ لِتَنْظُرَ إلَى تِلْكَ الْعُيُوبِ، فَاسْتَبَانَ بِشَهَادَةِ الْمَرْأَةِ أَنَّ الْعَيْبَ قَدِيمٌ بِمِثْلِهِ تُرَدُّ فَرُدَّتْ عَلَى النَّخَّاسِينَ.
قَالَ ابْنُ سَهْلٍ: فَقَوْلُ الْقَاضِي حِكَايَةً عَنْ الْمَرْأَةِ أَنَّهُ عَيْبٌ قَدِيمٌ بِمِثْلِهِ تُرَدُّ جَهْلٌ لَا خَفَاءَ بِهِ، صَارَتْ الْمَرْأَةُ عِنْدَهُ الشَّاهِدَةَ وَالطَّبِيبَةَ وَالْمُفْتِيَةَ، وَلَيْسَ إلَيْهَا شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ، إلَّا إنْ كَانَتْ مَاهِرَةً بِالطِّبِّ عَلَى مَا قَالَهُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ عَتَّابٍ رَحِمَهُ اللَّهُ فَيُسْمَعُ مِنْهَا فِي قِدَمِهِ أَوْ حُدُوثِهِ، وَأَمَّا أَنْ تَقُولَ هِيَ: يَجِبُ بِهِ الرَّدُّ أَوْ لَا فَلَيْسَ ذَلِكَ إلَيْهَا وَلَا تُسْأَلُ عَنْهُ، وَإِنَّمَا الْحُكْمُ إذَا ثَبَتَ الْعَيْبُ وَقِدَمُهُ بِشَهَادَةِ مَنْ تَجُوزُ شَهَادَتُهُ فِيهِ، أَنْ يَسْأَلَ تُجَّارَ الرَّقِيقِ هَلْ هُوَ عَيْبٌ؟ فَإِذَا شَهِدَ أَهْلُ الْبَصَرِ مِنْهُمْ بِأَنَّهُ عَيْبٌ يَحُطُّ مِنْ الثَّمَنِ كَثِيرًا، أَفْتَى الْفُقَهَاءُ حِينَئِذٍ بِالرَّدِّ وَقَدْ تَقَدَّمَ.
تنبيه:
فِي شَهَادَةِ عُرَفَاءِ الْبُنْيَانِ وَالْقُسَّامِ فِي عُيُوبِ الدَّارِ.
وَفِي أَحْكَامِ ابْنِ سَهْلٍ قَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرِ بْنُ زَرْبٍ فِي مَسَائِلِهِ: قَدْ دَخَلَ إلَيَّ عُرَفَاءُ الْبُنْيَانِ لِيَشْهَدُوا فِي قِيمَةِ عُيُوبِ الدَّارِ، وَقَدْ تَكَلَّمَ فِي ذَلِكَ مَعِي بَعْضُ الْحُكَّامِ، فَقُلْت لَهُ: وَمَا الَّذِي يَمْنَعُهُمْ مِنْ الشَّهَادَةِ؟ فَقَالَ: إنَّمَا الشَّهَادَةُ فِي ذَلِكَ لِلْقُسَّامِ الَّذِينَ يَعْرِفُونَ قِيمَةَ الدُّورِ، وَالْعُرَفَاءِ يَشْهَدُونَ بِالْعُيُوبِ وَيُقَدِّرُ الْقُسَّامُ مَا يُنْقِصُ الْعَيْبُ مِنْ الدَّارِ، فَقُلْت لَهُ: وَإِذَا كَانَ الْعُرَفَاءُ يَعْرِفُونَ قِيمَةَ الدُّورِ فَلِمَ أَنْكَرْت أَنْ يَشْهَدُوا فِي هَذَا؟ أَوْ عُدُولٌ مِنْ غَيْرِ الْعُرَفَاءِ وَغَيْرِ الْقُسَّامِ فَقَالَ لِي: إذَا كَانُوا عُدُولًا غَيْرَ مُغَفَّلِينَ جَازَتْ شَهَادَتُهُمْ فِي هَذَا، إلَّا أَنَّ الْمُفْتِيَ إذَا اسْتَفْتَى فِي مِثْلِ هَذَا، يَجِبُ لَهُ أَنْ يُفْتِيَ بِأَنْ يَقُولَ: يُسْأَلُ عَنْ هَذَا أَهْلُ الْبَصَرِ بِالْعُيُوبِ فَيَتَخَلَّصُ، فَإِنْ كَانَ الْعُرَفَاءُ أَوْ غَيْرُهُمْ مِنْ أَهْلِ الْبَصَرِ جَازَتْ شَهَادَتُهُمْ فِي ذَلِكَ، قُلْت لَهُ: إنَّ الْعُدُولَ مِنْ أَهْلِ كُلِّ رَبْضٍ أَدْرَى بِالسَّدَادِ مِنْ الْقُسَّامِ، إذْ الْمَعْلُومُ مِنْ الْقُسَّامِ أَنَّهُمْ يَشْهَدُونَ فِي مِثْلِ هَذَا بِالْأُجْرَةِ، فَقَالَ لِي: ذَلِكَ يُظَنُّ بِهِمْ وَلَيْسَ بِيَقِينٍ، فَلَوْ تَيَقَّنَ أَنَّهُمْ يَشْهَدُونَ مَا جَازَتْ شَهَادَتُهُمْ فِيهِ.

.فَصْلٌ فِي اخْتِلَافِ أَهْلِ الْمَعْرِفَةِ:

وَفِي الْمُتَيْطِيَّةِ: إذَا أَثْبَتَ مُبْتَاعُ الدَّارِ تَشَقُّقَ الْحِيطَانِ وَتَعَيُّبَهَا، وَأَنَّهَا مُتَهَيِّئَةٌ لِلسُّقُوطِ، وَأَنَّ ذَلِكَ عَيْبٌ يَحُطُّ مِنْ ثَمَنِهَا كَثِيرًا، وَأَنَّهُ أَقْدَمُ مِنْ أَمَدِ التَّبَايُعِ وَأَنَّهُ يَظْهَرُ مِنْ خَارِجِ الدَّارِ لَا مِنْ دَاخِلِهَا، وَشَهِدَ لِلْبَائِعِ شُهُودٌ أَنَّ الدَّارَ سَالِمَةٌ مِمَّا ادَّعَى الْمُبْتَاعُ، مَأْمُونَةُ السُّقُوطِ لِاعْتِدَالِ حِيطَانِهَا وَسَلَامَتِهَا مِنْ الْمَيْلِ الَّذِي هُوَ سَبَبُ التَّهَدُّمِ، وَأَنَّ التَّشَقُّقَ لَا يَضُرُّهَا مَعَ أَنَّهُ لَا يَخْفَى عَلَى مَنْ نَظَرَ إلَيْهَا وَثَبَتَ جَمِيعُ ذَلِكَ عِنْدَ الْحَاكِمِ، فَقَالَ ابْنُ عَتَّابٍ: يُقْضَى بِأَعْدَلِ الْبَيِّنَتَيْنِ مَنْ لَهُ بَصَرٌ بِعُيُوبِ الدُّورِ.
وَقَالَ ابْنُ الْقَطَّانِ بَيِّنَةُ الْمُبْتَاعِ أَوْلَى، لِأَنَّ الْبَيِّنَةَ الَّتِي تُوجِبُ الْحُكْمَ إذَا قُبِلَتْ أَعْمَلُ مِنْ الَّذِي تَنْفِيهِ.
[مَسْأَلَةٌ إذَا اخْتَلَفَ الْمُقَوِّمُونَ لِلسَّرِقَةِ]
فَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا تَبْلُغُ قِيمَتُهَا ثَلَاثَةَ دَرَاهِمَ، وَقَالَ غَيْرُهُمْ: قِيمَتُهَا ثَلَاثَةُ دَرَاهِمَ، قَالَ فِي الْمُدَوَّنَةِ إذَا اجْتَمَعَ عَدْلَانِ مِنْ أَهْلِ الْبَصَرِ عَلَى أَنَّ قِيمَتَهَا ثَلَاثَةُ دَرَاهِمَ قُطِعَ، وَكَذَلِكَ قَالَ مَالِكٌ فِي سَمَاعِ عِيسَى إذَا اجْتَمَعَ عَلَى السَّرِقَةِ رَجُلَانِ لَمْ يُلْتَفَتْ إلَى مَنْ خَالَفَهُمَا، ثُمَّ قَالَ فِي آخِرِ الْمَسْأَلَةِ قُلْت: فَإِنْ دُعِيَ أَرْبَعَةٌ فَاجْتَمَعَ رَجُلَانِ عَلَى قِيمَةٍ، قَالَ: يَنْظُرُ الْقَاضِي إلَى أَقْرَبِ التَّقْوِيمِ إلَى السَّدَادِ، وَنَظَرُ الْقَاضِي أَقْرَبُ الْقِيمَةِ إلَى السَّدَادِ، هُوَ أَنْ يَسْأَلَهُمْ مِنْ سِوَاهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُ السَّدَادُ مِنْ ذَلِكَ، قَالَهُ ابْنُ رُشْدٍ فِي الْبَيَانِ.
[مَسْأَلَة اخْتَلَفَ الشُّهُودُ فِي الْعَيْبِ]
مَسْأَلَةٌ:
وَفِي كِتَابِ ابْنِ الْمَوَّازِ إذَا اخْتَلَفَ الشُّهُودُ فِي الْعَيْبِ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ قَدِيمٌ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: بَلْ هُوَ حَدِيثٌ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ عَيْبٌ يَجِبُ بِهِ الرَّدُّ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَيْسَ بِعَيْبٍ، فَذَلِكَ تَكَاذُبٌ وَلَا يُرَدُّ.
[مَسْأَلَةٌ كَانَ عَلَيْهِ دِينَارٌ لِرَجُلٍ فَأَحْضَرَهُ لِيَقْضِيَهُ]
مَسْأَلَةٌ:
وَمَنْ كَانَ عَلَيْهِ دِينَارٌ لِرَجُلٍ فَأَحْضَرَهُ لِيَقْضِيَهُ، فَقَالَ شَاهِدَانِ: هُوَ رَدِيءٌ، وَقَالَ آخَرَانِ: هُوَ جَيِّدٌ، لَمْ يَلْزَمْ الَّذِي هُوَ لَهُ قَبْضُهُ إلَّا أَنْ يَشَاءَ حَتَّى يُتَّفَقَ عَلَى جَوْدَتِهِ، وَلَوْ قَبَضَهُ الَّذِي هُوَ لَهُ فَلَمَّا قَلَّبَهُ أَلْفَاهُ رَدِيئًا بِزَعْمِهِ، وَشَهِدَ لَهُ بِذَلِكَ شَاهِدَانِ، وَشَهِدَ غَيْرُهُمَا أَنَّهُ جَيِّدٌ لَمْ يَجِبْ رَدُّهُ إلَّا بِاتِّفَاقِ الشَّهَادَةِ عَلَى رَدَاءَتِهِ.
فرع:
وَفِي الْمُتَيْطِيَّةِ: وَإِذَا أَوْقَدَ رَجُلٌ نَارًا لِعَمَلٍ يَعْمَلُهُ، فَتَرَامَتْ النَّارُ حَتَّى أَحْرَقَتْ زَرْعَ رَجُلٍ فِي أَنْدَرِهِ، وَتَرَافَعَا فِي ذَلِكَ إلَى الْحَاكِمِ، فَادَّعَى مُوقِدُ النَّارِ أَنَّهَا كَانَتْ عَلَى بُعْدٍ مِنْ الْأَنْدَرِ فِي مَوْضِعٍ مَأْمُونٍ، وَلَكِنْ تَحَامَلَتْ النَّارُ أَوْ حَمَلَهَا الرِّيحُ، فَلَيْسَ لِلْقُرْبِ وَلَا لِلْبُعْدِ تَحْدِيدٌ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَإِنَّمَا يُصْرَفُ ذَلِكَ إلَى أَهْلِ الْبَصَرِ بِمِثْلِ هَذِهِ الْأُمُورِ كَمَا يُفْعَلُ فِي الْحِيطَانِ إذَا اُخْتُلِفَ فِيهَا، فَإِنْ كَانَ الْأَمْرُ عَلَى مَا ذُكِرَ فَلَا ضَمَانَ عَلَى الَّذِي عَمِلَهَا، وَمِثْلُ ذَلِكَ النَّارُ تُلْقَى فِي الْحَصِيدِ وَالشَّعَرِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ عِنْدَ الَّذِي عَمِلَ النَّارَ مَدْفَعٌ ضَمِنَ مَكِيلَةَ مَا أَحْرَقَتْ النَّارُ مِنْ التِّبْنِ وَالْحَبِّ بَعْدَ أَنْ يَحْلِفَ صَاحِبُ الزَّرْعِ عَلَى عَدَدِ التَّشَاقِيرِ الَّتِي كَانَتْ فِي أَنْدَرِهِ، بِأَنْ يَعْرِفَ قَدْرَ مَا يَحْصُلُ مِنْ التِّشْقَارِ عَلَى التَّوَسُّطِ مِنْ الْحَبِّ وَالتِّبْنِ.
فرع:
وَيُرْجَعُ إلَى أَهْلِ الطِّبِّ وَالْمَعْرِفَةِ بِالْجِرَاحِ فِي مَعْرِفَةِ طُولِ الْجُرْحِ وَعُمْقِهِ وَعَرْضِهِ، وَهُمْ الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَ الْقِصَاصَ فَيَشُقُّونَ فِي رَأْسِ الْجَانِي أَوْ فِي بَدَنِهِ مِثْلَ ذَلِكَ، وَلَا يَتَوَلَّى ذَلِكَ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ، قَالُوا: وَكَذَلِكَ يُرْجَعُ إلَى أَهْلِ الْمَعْرِفَةِ مِنْ النِّسَاءِ فِي قِيَاسِ الْجُرْحِ وَقَدْرِهِ إذَا كَانَ مِمَّا تَجُوزُ فِيهِ شَهَادَةُ النِّسَاءِ.
فرع:
وَيُرْجَعُ إلَى أَهْلِ الْمَعْرِفَةِ مِنْ الْأَكْرِيَاءِ فِي مَعْرِفَةِ عُيُوبِ الدَّوَابِّ.
فرع:
وَكَذَلِكَ أَهْلُ الْمَعْرِفَةِ فِي عُيُوبِ الدُّورِ وَمَا فِيهَا مِنْ الصُّدُوعِ وَالشُّقُوقِ وَسَائِرِ الْعُيُوبِ.
فرع:
وَيُرْجَعُ إلَى أَهْلِ الْمَعْرِفَةِ مِنْ التُّجَّارِ فِي تَقْوِيمِ الْمُتْلَفَاتِ وَعُيُوبِ الثِّيَابِ.
فرع:
وَيُرْجَعُ إلَى أَهْلِ الْمَعْرِفَةِ وَالنِّسَاءِ فِي عُيُوبِ الْفَرْجِ، وَفِي عُيُوبِ الْجَسَدِ مِمَّا لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ الرِّجَالُ.
فرع:
وَيُرْجَعُ إلَى أَهْلِ الْمَعْرِفَةِ بِالْجَوَائِحِ وَمَا يَنْقُصُ مِنْ الثِّمَارِ.
فرع:
وَكَذَلِكَ يُرْجَعُ إلَى أَهْلِ الْمَعْرِفَةِ بِمَسَائِلِ الضَّرَرِ مِمَّا يُحْدِثُهُ الْإِنْسَانُ عَلَى جَارِهِ أَوْ فِي الطَّرَقَاتِ وَأَنْوَاعِ ذَلِكَ.

.الْبَابُ التَّاسِعُ وَالْخَمْسُونَ فِي الْقَضَاءِ بِشَهَادَةِ الْأَخْرَسِ وَحُكْمِ إشَارَتِهِ:

وَإِذَا فُهِمَتْ إشَارَةُ الْأَخْرَسِ جَازَ الْحُكْمُ بِهَا، قَالَ الْقَرَافِيُّ فِي شَرْحِ الْجَلَّابِ: إذَا قَطَعَ الْحَاكِمُ بِفَهْمِ مَقْصُودِهِ مِنْ إشَارَتِهِ حَكَمَ بِهَا، قَالَ غَيْرُهُ: لِأَنَّ الشَّهَادَةَ عِلْمٌ يُؤَدِّيهِ الشَّاهِدُ إلَى الْحَاكِمِ، فَإِذَا فَهِمَ عَنْهُ بِطَرِيقٍ يُفْهَمُ عَنْ مِثْلِهِ قُبِلَتْ، مِنْهُ كَالنُّطْقِ إذَا أَدَّاهَا بِالصَّوْتِ أَصْلُهُ الْإِقْرَارُ وَالطَّلَاقُ وَاللِّعَانُ.
فرع:
وَمِنْ ذَلِكَ جَوَازُ تَنَاكُحِ الصَّمَّاوَيْنِ وَالْبَكْمَاوَيْنِ، وَيَشْهَدُ الشُّهُودُ عَلَيْهِمَا بِالرِّضَا، وَعَلَى الْمَرْأَةِ بِقَبْضِ الصَّدَاقِ الْمُعَجَّلِ وَبِتَأْجِيلِ الْمُؤَجَّلِ، وَبِجَمِيعِ فُصُولِ النِّكَاحِ بِالْإِشَارَةِ الْمُفْهِمَةِ مِنْهُمَا الَّتِي لَا يَشُكُّ الشُّهُودُ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الزَّوْجَيْنِ فَهِمَ مَا يَطْلُبُ فَهْمَهُ مِنْهُ.
فرع:
وَكَذَلِكَ تَبَايُعُهُمَا يَجُوزُ عَلَى مَا وَصَفْنَا.
فرع:
وَفِي كِتَابِ أَبِي الْعَلَاءِ الْمُحْسِنِ بْنِ مُحَمَّدٍ الْمَالِكِيِّ الْبَغْدَادِيِّ قَالَ: وَالْأَخْرَسُ يُلَاعِنُ عِنْدَ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ فَإِنْ قَالَ: كَيْفَ يُلَاعِنُ؟ وَلَيْسَ يُفْهَمُ عَنْهُ إلَّا الْكِنَايَةُ عَنْ الزِّنَا، وَلَيْسَ يَجِبُ اللِّعَانُ بِالْكِنَايَةِ، قِيلَ لَهُ: لَيْسَ يُحْتَاجُ فِي اللِّعَانِ إلَى رَمْيِ الْمَرْأَةِ بِالزِّنَا، وَإِنَّمَا يَقَعُ نَفْيُ الْوَلَدِ عَنْ نَفْسِهِ، وَلَيْسَ مَا يَكُونُ مِنْ الْأَخْرَسِ فِي ذَلِكَ كِنَايَةً بَلْ هُوَ صَرِيحٌ، وَذَلِكَ أَنَّ الصَّرِيحَ يَكُونُ بِحَسَبِ الْآلَةِ، فَآلَةُ الصَّحِيحِ لِسَانُهُ، وَآلَةُ الْأَخْرَسِ إيمَاؤُهُ عَنْ مَسْأَلَتِهِ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْإِقْرَارَ لَا يَكُونُ إلَّا بِالصَّرِيحِ؟ وَلَوْ قَالَ الْحَاكِمُ لِلصَّحِيحِ الْآلَةِ: أَلِزَيْدٍ عَلَيْك مَا ادَّعَى؟ فَأَوْمَأَ بِرَأْسِهِ لَمْ يَجُزْ ذَلِكَ، وَلَوْ أَوْمَأَ الْأَخْرَسُ لَزِمَهُ إقْرَارُهُ، فَبَانَ أَنَّ صَرِيحَ الْأَخْرَسِ إيمَاؤُهُ عَنْ مَسْأَلَتِهِ، وَصَرِيحُ ذَلِكَ وَكِنَايَتُهُ عِنْدَ إيمَائِهِ لِلْكِنَايَةِ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ صَرِيحٌ لَمْ تَكُنْ لَهُ كِنَايَةٌ، انْتَهَى.
وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي بَابِ الْقَضَاءِ بِالْإِقْرَارِ فِيمَا نَقَلَهُ ابْنُ رَاشِدٍ فِي كِتَابِ الْمَذْهَبِ: أَنَّ الْإِشَارَةَ فِي الْإِقْرَارِ كَافِيَةٌ، وَلَكِنْ مِثْلُ ذَلِكَ الْمَرِيضُ فَإِنَّهُ إذَا قِيلَ لَهُ: لِفُلَانٍ عِنْدَك كَذَا، فَأَوْمَأَ بِرَأْسِهِ يُشِيرُ إلَى نَعَمْ لَزِمَهُ ذَلِكَ، فَانْظُرْ هَلْ هُوَ خِلَافٌ بَيْنَ النَّقْلَيْنِ، أَوْ يَكُونُ الْمَرِيضُ عَاجِزًا عَنْ النُّطْقِ فَاكْتُفِيَ مِنْهُ بِالْإِشَارَةِ كَالْأَخْرَسِ؟
[مَسْأَلَةٌ شَهِدَ شَاهِدَانِ بِدَيْنٍ لِمَيِّتٍ وَوَارِثُهُ أَخْرَسُ لَا يُفْهِمُ وَلَا يُفْهَمُ عَنْهُ]
مَسْأَلَةٌ:
قَالَ ابْنُ رَاشِدٍ فِي كِتَابِ الشَّهَادَاتِ: وَإِذَا شَهِدَ شَاهِدَانِ بِدَيْنٍ لِمَيِّتٍ وَوَارِثُهُ أَخْرَسُ لَا يُفْهِمُ وَلَا يُفْهَمُ عَنْهُ، فَقَالَ سَحْنُونٌ: يَحْلِفُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، فَإِنْ حَلَفَ بَرِئَ وَإِلَّا غَرِمَ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَوْ كَانَ يُفْهِمُ وَيُفْهَمُ عَنْهُ حَلَفَ بِالْإِشَارَةِ.
فرع:
وَفِي الْمُتَيْطِيَّةِ: وَيَصِحُّ طَلَاقُ الْأَخْرَسِ وَالْأَبْكَمِ بِالْكِنَايَةِ وَالْإِشَارَةِ كَنِكَاحِهِ وَبَيْعِهِ وَابْتِيَاعِهِ.

.الْبَابُ السِّتُّونَ فِي الْقَضَاءِ بِشَهَادَةِ الْأَعْمَى:

وَتَجُوزُ شَهَادَةُ الْأَعْمَى عِنْدَ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ إذَا كَانَ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ لَازَمَهُ كَثِيرًا حَتَّى يَقْطَعَ بِأَنَّ مَا سَمِعَهُ صَوْتُ فُلَانٍ، وَمَنَعَ مِنْ ذَلِكَ الشَّافِعِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَاسْتَثْنَيَا النَّسَبَ وَالْمَوْتَ، وَزَادَ أَبُو حَنِيفَةَ عَلَى الْوَجْهَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ النِّكَاحَ، وَزَادَ الشَّافِعِيُّ التَّرْجَمَةَ عِنْدَ الْقَاضِي بِلِسَانٍ لَا يَعْلَمُهُ الْقَاضِي، وَأَجَازَ الشَّافِعِيُّ أَيْضًا شَهَادَتَهُ فِيمَا أَدْرَكَهُ قَبْلَ الْعَمَى، وَالدَّلِيلُ لِمَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ الصَّحَابَةَ كَانُوا يَسْأَلُونَ أَزْوَاجَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الْمَسَائِلِ وَيَعْمَلُونَ عَلَى قَوْلِهِنَّ، وَلَا يَسْمَعُونَ مِنْهُنَّ غَيْرَ الْأَصْوَاتِ.
وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إنَّ بِلَالًا يُنَادِي بِلَيْلٍ فَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى تَسْمَعُوا نِدَاءَ ابْنِ أُمِّ مَكْتُومٍ»، فَأَمَرَ بِالْإِمْسَاكِ عِنْدَ نِدَائِهِ وَلَا يُعْلَمُ إلَّا بِصَوْتِهِ، وَأَيْضًا فَإِنَّهُ يَجُوزُ لِلْأَعْمَى أَنْ يَطَأَ زَوْجَتَهُ مَعَ أَنَّهُ لَا يُدْرِكُ غَيْرَ كَلَامِهَا.
فرع:
وَكَذَلِكَ تَجُوزُ شَهَادَتُهُ فِي الرَّوَائِحِ وَالطُّعُومِ وَالْحَلَاوَةِ وَالْحَرَارَةِ وَالْبُرُودَةِ، وَهَذَا يُظْهِرُ مَعْنًى فِي بَابِ الْأَيْمَانِ وَالتَّعْلِيقِ فِي الطَّلَاقِ، فَلَوْ حَلَفَ رَجُلٌ بِالطَّلَاقِ أَنْ لَا يَشْرَبَ حُلْوًا أَوْ حَامِضًا فَشَهِدَ عَلَيْهِ بِذَلِكَ لَزِمَتْهُ الشَّهَادَةُ.
فرع:
وَكَذَلِكَ يَجُوزُ لِعَانُهُ وَيَقُولُ: وَصَلَ إلَيَّ الْعِلْمُ بِزِنَاهَا، أَوْ يَقُولُ: سَمِعْت الْحِسَّ، قَالَهُ فِي مُخْتَصَرِ ابْنِ عَبْدِ الْحَكَمِ الصَّغِيرِ.

.الْبَابُ الْحَادِي وَالسِّتُّونَ فِي الْقَضَاءِ بِشَهَادَةِ الرَّهْنِ بِمَبْلَغِ الْحَقِّ:

قَالَ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ إذَا اخْتَلَفَ الرَّاهِنُ وَالْمُرْتَهِنُ فِي مِقْدَارِ الدَّيْنِ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ مَنْ وَافَقَ قَوْلُهُ قِيمَةَ الرَّهْنِ، يُرِيدُ مَعَ يَمِينِهِ رَاهِنًا كَانَ أَوْ مُرْتَهِنًا، لِأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ جَعَلَ الرَّهْنَ بَدَلًا مِنْ الْكِتَابِ وَالشُّهُودِ فَكَأَنَّهُ نَاطِقٌ بِقَدْرِ الْحَقِّ، وَإِلَّا فَلَوْ كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَ الرَّاهِنِ لَمْ يَكُنْ الرَّهْنُ وَثِيقَةً، وَلَا جُعِلَ بَدَلًا مِنْ الْكِتَابِ وَالشَّاهِدِ، وَلِأَنَّ الْعَادَةَ جَارِيَةٌ أَنَّ النَّاسَ يَرْهَنُونَ مَا يُسَاوِي قَدْرَ دُيُونِهِمْ أَوْ يُقَارِبُهَا لَا مَا لَا يَفِي بِهَا، فَإِذَا فَاتَ الرَّهْنُ وَكَانَ الْمُرْتَهِنُ ضَامِنًا لَهُ، تَنَزَّلَتْ قِيمَتُهُ فِي الشَّهَادَةِ مَنْزِلَةَ عَيْنِهِ، فَإِنْ اخْتَلَفَا فِي الْقِيمَةِ تَوَاصَفَا الرَّهْنَ ثُمَّ قَامَتْ تِلْكَ الصِّفَةُ، فَإِنْ اخْتَلَفَا فِي الصِّفَةِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُرْتَهِنِ مَعَ يَمِينِهِ.
تنبيه:
وَفِي الْمُتَيْطِيَّةِ: فَإِنْ كَانَ الرَّهْنُ دَابَّةً أَوْ عَبْدًا فَمَاتَا فِي يَدِ الْمُرْتَهِنِ وَاخْتَلَفَا فِيمَا رَهَنَا فِيهِ، فَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ فِي الْعُتْبِيَّةِ: الْقَوْلُ قَوْلُ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ، وَلَيْسَ هُوَ إذَا مَاتَ بِمَنْزِلَةِ إذَا كَانَ حَيًّا، فَإِنَّ الَّذِي فِي يَدَيْهِ الرَّهْنُ إذَا كَانَ حَيًّا مُصَدَّقٌ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ قِيمَةِ الرَّهْنِ.
فرع:
وَاخْتُلِفَ إذَا ضَاعَ الرَّهْنُ وَلَمْ يَصِفْهُ الرَّاهِنُ وَلَا الْمُرْتَهِنُ وَعَمِيَتْ قِيمَتُهُ، فَقَالَ أَشْهَبُ فِي الْعُتْبِيَّةِ لَيْسَ لَهُ شَيْءٌ يَعْنِي الرَّاهِنَ؟ وَلَا شَيْءَ لِلْمُرْتَهِنِ، وَأَنَّ الرَّهْنَ بِمَا فِيهِ قَالَ أَصْبَغُ وَذَلِكَ إذَا غُمِيَ أَمْرُهُ، وَكَذَلِكَ الْحَدِيثُ: «الرَّهْنُ بِمَا فِيهِ إذَا هَلَكَ وَغُمِيَتْ قِيمَتُهُ» وَكَذَلِكَ قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ، قَالَ بَعْضُ الشُّيُوخِ وَمِمَّا لَا اخْتِلَافَ فِيهِ أَنَّ الرَّهْنَ يَذْهَبُ بِمَا فِيهِ إذَا ادَّعَى الْمُرْتَهِنُ هَلَاكَهُ، وَهُوَ مِمَّا يُغَابُ عَلَيْهِ وَغُمِيَتْ قِيمَتُهُ وَلَمْ يَصِفْهُ وَاحِدٌ مِنْهُمَا، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ فِي الْغَالِبِ إنَّمَا يَرْهَنُ فِي قَدْرِ قِيمَتِهِ أَوْ قَرِيبًا مِنْهَا، وَلِهَذَا جَعَلُوهُ كَالشَّاهِدِ عَلَى قَدْرِ الدَّيْنِ.
فرع:
وَإِنْ فَاتَ الرَّهْنُ وَكَانَ ضَمَانُهُ مِنْ الرَّاهِنِ كَاَلَّذِي لَا يُغَابُ عَلَيْهِ، أَوْ كَانَ تَحْتَ يَدِ أَمِينٍ أَوْ قَامَتْ الْبَيِّنَةُ بِهَلَاكِهِ عِنْدَ الْمُرْتَهِنِ عَلَى قَوْلِ ابْنِ الْقَاسِمِ، فَفِي هَذِهِ الْوُجُوهِ لَا شَهَادَةَ لَهُ، لِأَنَّ شَهَادَتَهُ عَلَى نَفْسِهِ لَا عَلَى ذِمَّةِ الرَّاهِنِ، وَكَذَا إنْ اُسْتُحِقَّ أَوْ خَرَجَ مِنْ يَدِ الْمُرْتَهِنِ، وَكَذَا إنْ مَاتَ الْمُرْتَهِنُ وَاعْتَرَفَ بِأَنَّهُ رَهْنٌ، وَلَمْ يَذْكُرْ فِي كَمْ هُوَ؟ وَقَالَ وَرَثَتُهُ لَا عِلْمَ عِنْدَنَا، فَالرَّاهِنُ مُصَدَّقٌ وَإِنْ ادَّعَى أَقَلَّ مِنْ قِيمَتِهِ وَيَحْلِفُ، وَضَعُفَتْ يَمِينُهُ لِعَدَمِ مَنْ يَدَّعِي خِلَافَ ذَلِكَ، قَالَ أَشْهَبُ: وَلَوْ كَانَ الْوَرَثَةُ صِغَارًا حَلَفَ الرَّاهِنُ وَدَفَعَ مَا أَقَرَّ بِهِ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ سَبِيلٌ إلَى الرَّهْنِ حَتَّى يَكْبُرَ الصِّغَارُ فَيَحْلِفُونَ إنْ ادَّعَوْا عِلْمًا، وَأَمْكَنَ أَنْ يَكُونَ عِنْدَهُمْ عِلْمٌ وَإِلَّا حَلَفَ وَأَخَذَ رَهْنَهُ، ثُمَّ حَيْثُ اعْتَبَرْنَا قِيمَتَهُ فَذَلِكَ يَوْمَ الْحُكْمِ إنْ كَانَ بَاقِيًا، وَيَوْمَ الْقَبْضِ إنْ كَانَ تَالِفًا، وَبَعْضُ مَسَائِلِ هَذَا الْبَابِ فِي بَابِ الْقَضَاءِ بِقَوْلِ الْمُدَّعِي، وَفِيهَا زِيَادَةٌ عَلَى هَذَا.

.الْبَابُ الثَّانِي وَالسِّتُّونَ فِي الْقَضَاءِ بِشَهَادَةِ الْوَثِيقَةِ وَالرَّهْنِ عَلَى اسْتِيفَاءِ الْحَقِّ:

وَإِذَا وُجِدَتْ وَثِيقَةُ الدَّيْنِ بِيَدِ الْمَطْلُوبِ مَمْحُوَّةً، وَهُوَ يَدَّعِي أَنَّهُ دَفَعَ مَا فِيهَا وَسَلَّمَهَا رَبُّ الدَّيْنِ إلَيْهِ، وَرَبُّ الدَّيْنِ مُنْكِرٌ لِذَلِكَ وَيَدَّعِي سُقُوطَهَا فَاخْتُلِفَ فِي ذَلِكَ، فَقِيلَ: تُرَدُّ لِرَبِّ الدَّيْنِ لِإِمْكَانِ مَا ذَكَرَهُ بَعْدَ أَنْ يَحْلِفَ أَنَّهُ مَا اقْتَضَى مِنْ دَيْنِهِ شَيْئًا، وَيَغْرَمُ الْمَطْلُوبُ وَهُوَ الْمَشْهُودُ، وَقِيلَ: لَا تُرَدُّ إلَيْهِ وَهِيَ شَهَادَةٌ لِلْمِدْيَانِ بِالْقَضَاءِ، لِأَنَّ رَبَّ الدَّيْنِ لَمْ يَأْتِ بِمَا يُشْبِهُ فِي الْأَغْلَبِ، لِأَنَّ الْأَغْلَبَ دَفْعُ الْوَثِيقَةِ إلَى مَنْ هِيَ عَلَيْهِ إذَا أَدَّى الدَّيْنَ، فَتَكُونُ الْيَمِينُ عَلَى الْمَطْلُوبِ.
فرع:
قَالَ أَبُو عُمَرَ بْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: إذَا كَتَبَ الشَّاهِدُ شَهَادَتَهُ فِي ذِكْرِ حَقٍّ فَطُولِبَ بِهَا، فَزَعَمَ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ أَنَّهُ قَدْ يُؤَدِّي ذَلِكَ الْحَقَّ، لَمْ يَشْهَدْ الشَّاهِدُ حَتَّى يُؤْتَى بِالْكِتَابِ الَّذِي فِيهِ شَهَادَتُهُ بِخَطِّهِ، لِأَنَّ الَّذِي عَلَيْهِ أَكْثَرُ النَّاسِ أَخْذُ الْوَثَائِقِ إذَا أَدَّوْا الدُّيُونَ.
فرع:
وَفِي كِتَابِ ابْنِ حَبِيبٍ: وَمَنْ زَعَمَ أَنَّ وَثِيقَتَهُ بِالْحَقِّ ضَاعَتْ مِنْهُ، وَسَأَلَ الشَّاهِدَ أَنْ يَشْهَدَ لَهُ بِمَا عَلِمَ فَذَلِكَ لَهُ إنْ حُفِظَ ذَلِكَ، قَالَهُ مُطَرِّفٌ، وَقَالَ ابْنُ الْمَاجِشُونِ لَا يَشْهَدُ لَهُ.
فرع:
وَاَلَّذِي عَلَيْهِ الدَّيْنُ أَخْذُ وَثِيقَةِ الدَّيْنِ مِنْ صَاحِبِهَا وَيُقْضَى عَلَيْهِ بِتَقْطِيعِهَا.
وَقَالَهُ ابْنُ الْعَطَّارِ وَنَحْوُهُ فِي الْوَاضِحَةِ وَكِتَابِ الْجِدَارِ: وَبِهِ الْقَضَاءُ.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ: لَا تُقْطَعُ وَثِيقَةٌ لِدَيْنٍ وَلَا يُجْبَرُ رَبُّهَا عَلَى إعْطَائِهَا، وَيُجْبَرُ عَلَى أَنْ يَكْتُبَ لَهُ بَرَاءَةً فِي الْوَضْعِ الَّذِي فِيهِ الشُّهُودُ عَلَيْهِ أَوْ غَيْرِهِ وَنَحْوُهُ فِي وَثَائِقِ ابْنِ الْهِنْدِيِّ، لِأَنَّهُ يَتَسَبَّبُ لِوُجُوبِ الْيَمِينِ عَلَيْهِ إنْ اُدُّعِيَ عَلَيْهِ بَعْدَ ذَلِكَ دَعْوَى كَاذِبَةٌ.
وَفِي أَحْكَامِ ابْنِ سَهْلٍ فِي امْرَأَةٍ قَامَتْ بِصَدَاقٍ لَمْ تُثْبِتْهُ، فَحَلَفَ الزَّوْجُ وَدَعَا إلَى قَطْعِهِ، وَأَرَادَتْ الزَّوْجَةُ حَبْسَ الصَّدَاقِ بِيَدِهَا، فَأَفْتَى ابْنُ لُبَابَةَ: بِأَنَّهُ يُجَابُ إلَى تَقْطِيعِهِ لِأَنَّهُ سَقَطَ عَنْهُ بِيَمِينِهِ لِمَا اُدُّعِيَ عَلَيْهِ بِمَا فِيهِ، وَإِذَا سَقَطَ عَنْهُ فَلْيُقْطَعْ وَلَا تَرُدُّ الْمَرْأَةُ إلَى هَذَا الرَّجُلِ حَتَّى يُثْبِتَ النِّكَاحَ عَلَيْهَا بِالْبَيِّنَةِ.
بَيَانٌ: وَإِذَا دَفَعَ الْغَرِيمُ الدَّيْنَ الَّذِي عَلَيْهِ إلَى رَبِّهِ وَذَهَبَ إلَى كِتَابٍ يُبْرِئُهُ مِنْهُ، كَتَبَ: أَشْهَدُ فُلَانُ بْنُ فُلَانٍ عَلَى نَفْسِهِ شُهَدَاءَ هَذَا الْكِتَابِ فِي صِحَّةٍ مِنْهُ، وَجَوَازِ أَمْرِهِ إقْرَارًا لَزِمَهُ شَرْعًا أَنَّهُ قَبَضَ مِنْ فُلَانِ بْنِ فُلَانٍ كَذَا وَكَذَا، الَّذِي كَانَ أَسْلَفَهُ إيَّاهُ، أَوْ الَّذِي وَجَبَ عَلَيْهِ مِنْ ثَمَنِ سِلْعَةِ كَذَا وَكَذَا، وَكَانَ قَدْ كَتَبَ عَلَيْهِ بِذَلِكَ كِتَابًا تَارِيخُهُ كَذَا وَاسْتَوْفَاهَا وَصَارَتْ بِيَدِهِ وَأَبْرَأَهُ مِنْ جَمِيعِهَا، وَلَمْ يَبْقَ قِبَلَهُ مِنْهَا وَلَا مِنْ غَيْرِهَا عَلَى جَمِيعِ الْوُجُوهِ كُلِّهَا، قَلِيلٌ وَلَا كَثِيرٌ، وَلَا دَعْوَى وَلَا حُجَّةٌ، وَلَا يَمِينٌ بِسَبَبٍ مِنْ الْأَسْبَابِ، وَسَقَطَ بِذَلِكَ عَنْ فُلَانٍ الْعَقْدُ الَّذِي كَانَ كَتَبَهُ عَلَيْهِ بِسَبَبِ وُصُولِ مَا فِيهِ، وَشُهِدَ عَلَيْهِمَا بِذَلِكَ فِي تَارِيخِ كَذَا.
تنبيه:
وَإِنَّمَا ذَكَرْنَا الْإِشْهَادَ عَلَيْهِمَا مِنْ جِهَةِ أَنَّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي هَذَا الْكِتَابِ حَقًّا، فَأَمَّا حَقُّ الَّذِي لَهُ الْحَقُّ فَمِنْ جِهَةِ أَنَّهُ قَدْ يُمْكِنُ إذَا انْفَرَدَ الَّذِي كَانَ لَهُ الْحَقُّ بِالْإِشْهَادِ، أَنْ يُطَوِّلَ الزَّمَانَ حَتَّى تَذْهَبَ الْبَيِّنَةُ الَّتِي كَانَتْ تَعْرِفُ أَصْلَ الْحَقِّ، فَيَقُومُ عَلَيْهِ الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ الْحَقُّ فِيمَا اقْتَضَى مِنْهُ صَاحِبُ الْحَقِّ، فَيَدَّعِي أَنَّهُ أَسْلَفَهُ إيَّاهُ أَوْ بَاعَ مِنْهُ بِهِ شَيْئًا، فَإِنْ لَمْ يُثْبِتْ الَّذِي لَهُ أَصْلُ الْحَقِّ حَقَّهُ وَإِلَّا حَلَفَ لَهُ وَغَرِمَ، أَوْ يُرَدُّ عَلَيْهِ الْيَمِينُ فَيَحْلِفُ أَنَّهُ مَا اقْتَضَى مِنْهُ إلَّا حَقَّهُ.
وَأَمَّا الْحَقُّ الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ الدَّيْنُ الْإِبْرَاءُ مِنْ الْعَقْدِ، وَإِنْ زِدْت فِيهِ أَنَّهُ لَمْ يَبْقَ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا قِبَلَ صَاحِبِهِ حَقٌّ كَانَ أَتَمَّ، وَيَكُونُ نُسْخَتَيْنِ، بِيَدِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نُسْخَةٌ، وَتُذْكَرُ فِيهِ وَهَذَا الْكِتَابُ نُسْخَتَانِ.
فرع:
الزَّوْجَةُ الْمُطَلَّقَةُ أَوْ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا يُدْفَعُ إلَيْهَا بِكَالِئِهَا لَيْسَ عَلَيْهَا أَنْ تَدْفَعَ كِتَابَ صَدَاقِهَا إلَى الزَّوْجِ وَلَا إلَى وَرَثَتِهِ، لِمَا فِي حَبْسِ صَدَاقِهَا مِنْ الْمَنْفَعَةِ لَهَا بِسَبَبِ الشَّرْطِ الَّذِي لَهَا فِيهِ، إذَا كَانَتْ وَلِأَجْلِ النَّسَبِ وَالْحَمْلِ، إنْ كَانَ حَمْلٌ بَعْدَ مَوْتِهِ وَفِي حَيَاتِهِ، إلَّا أَنْ يَتَطَوَّعَ بِدَفْعِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُقْضَى عَلَيْهَا بِذَلِكَ، هَذَا هُوَ الْقَوْلُ الْمَشْهُورُ الْمَعْمُولُ بِهِ.
وَقَالَهُ أَصْبَغُ فِي كِتَابِ ابْنِ حَبِيبٍ قَالَ: لِأَنَّ بِهِ ثَبَتَ نِكَاحُهَا، وَبِهِ تَأْخُذُ مِيرَاثَهَا، وَتَدْفَعُ بَعْدَ الْيَوْمِ مِنْ دَافِعِهَا عَمَّا وَرِثَتْ.
فرع:
أَمَّا لَوْ قَامَتْ بِبَاقِي الْمَهْرِ فِي كِتَابٍ غَيْرِ كِتَابِ نِكَاحِهَا، فَأَخَذَتْ بِهِ مَا كَانَ لَهَا فَإِنَّهُ يُؤْخَذُ مِنْهَا وَيُقْطَعُ عَنْ الْوَرَثَةِ، وَإِنْ أَخَذَتْ بِهِ أَرْضًا أَوْ عَقَارًا مِنْ عَقَارِهِ وَلَمْ يَأْخُذْ ذَلِكَ مِنْهَا، كَانَ لَهَا أَنْ تَدْفَعَ الْيَوْمَ مِنْ دَافِعِهَا عَنْ ذَلِكَ، وَمَا يُشْبِهُهُ مِمَّا يَلْتَمِسُ التَّوْثِيقَ بِهِ، وَعَلَى الْوَرَثَةِ أَنْ يَسْتَوْثِقُوا لِأَنْفُسِهِمْ بِالْإِشْهَادِ، وَذِكْرِ الْكِتَابِ الَّذِي بِيَدِهَا، قَالَ ابْنُ حَبِيبٍ: وَبِهِ أَقُولُ وَهَذَا أَحَبُّ مَا فِيهِ إلَيَّ، وَقِيلَ: لابد مِنْ أَخْذِهِ وَتَقْطِيعِهِ، وَرَوَاهُ ابْنُ حَبِيبٍ عَنْ مُطَرِّفٍ: فِيمَنْ مَاتَ، وَقَامَتْ امْرَأَتُهُ بِكِتَابِ مَهْرِهَا فَأَخَذَتْ بِهِ بَاقِيَهُ، وَأَرَادَ الْوَرَثَةُ تَقْطِيعَهُ فَإِنَّ لَهُمْ ذَلِكَ، وَإِنْ قَالَتْ بِهِ أَدْفَعُ بَعْدَ الْيَوْمِ مَنْ دَافَعَنِي عَمَّا أَخَذَتْ، ذَكَرَهُ الْمُتَيْطِيُّ.
عَنْ ابْنِ سَهْلٍ.
فرع:
وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْغَفُورِ فِي كِتَابِ الِاسْتِغْنَاءِ لَهُ: إنْ تَزَوَّجَ بِالْمَرْأَةِ وَأَقَرَّتْ الْمَرْأَةُ أَنَّهُ لَمْ يَمَسَّهَا وَلَا وَطِئَهَا الصَّدَاقُ بِقَطْعٍ.
فرع:
وَإِذَا اسْتَظْهَرَتْ الْمَرْأَةُ بِصَدَاقِهَا بَعْدَ وَفَاةِ زَوْجِهَا لِمُدَّةِ عَشْرِ سِنِينَ وَنَحْوِهَا، وَمَا خَلَفَهُ الْمَيِّتُ بِحَالِهِ لَمْ يُقْسَمْ وَلَا فُوِّتَ، فَلَهَا الْقِيَامُ بِذَلِكَ وَيُقْضَى لَهَا بِهِ، وَلَا يَضُرُّهَا سُكُوتُهَا، وَتَحْلِفُ بِمَا يَجِبُ عَلَيْهَا، قَالَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ الشُّيُوخِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى صِحَّةِ ذَلِكَ مَا فِي نَوَازِلِ عِيسَى بْنِ دِينَارٍ، فِيمَنْ لَهُ ذِكْرُ حَقٍّ عَلَى رَجُلٍ فَمَاتَ الَّذِي هُوَ عَلَيْهِ فَاقْتَسَمَ وَرَثَتُهُ مَالَهُ وَهُوَ حَاضِرٌ يَنْظُرُ، ثُمَّ قَامَ بَعْدَ ذَلِكَ يَذْكُرُ الْحَقَّ فَقَالَ: لَا شَيْءَ لَهُ، إلَّا أَنْ يَكُونَ لَهُ عُذْرٌ فِي تَرْكِ الْقِيَامِ أَوْ يَكُونَ لَهُمْ سُلْطَانٌ يُتَقَوَّمُ بِهِ، وَنَحْوُ ذَلِكَ مِمَّا يُعْذَرُ بِهِ فَيَكُونُ عَلَى حَقِّهِ، وَإِنْ طَالَ زَمَانُهُ.
فرع:
وَفِي مُخْتَصَرِ الْوَاضِحَةِ فِي آخِرِ بَابِ الْحِيَازَاتِ قَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ وَقَالَ لِي مُطَرِّفٌ وَأَصْبَغُ: وَإِذَا ادَّعَى رَجُلٌ عَلَى رَجُلٍ حَقًّا قَدِيمًا وَقَامَ عَلَيْهِ بِذِكْرِ حَقِّهِ، وَذَلِكَ الْقِيَامُ بَعْدَ الْعِشْرِينَ سَنَةً وَنَحْوَهَا أَخَذَهُ بِهِ، وَعَلَى الْآخَرِ الْبَرَاءُ مِنْهُ، قَالَ: وَلَوْ مَاتَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ فَاقْتَسَمَ وَرَثَتُهُ مِيرَاثَهُ وَهُوَ حَاضِرٌ يَنْظُرُ إلَيْهِ، ثُمَّ قَامَ بَعْدَ ذَلِكَ بِذِكْرِ حَقِّهِ فَلَا شَيْءَ لَهُ إلَّا أَنْ يَكُونَ عُذْرٌ بِتَرْكِ الْقِيَامِ بِحَقِّهِ، مِثْلَ أَنْ يَكُونَ لَمْ يَعْرِفْ شُهُودَهُ أَوْ كَانُوا غُيَّبًا، أَوْ لَمْ يَجِدْ ذِكْرَ حَقِّهِ إلَّا عِنْدَ قِيَامِهِ، أَوْ كَانَ لَهُمْ سُلْطَانٌ يَمْتَنِعُونَ بِهِ وَنَحْوُ هَذَا مِمَّا يُعْذَرُ بِهِ، فَيَحْلِفُ بِاَللَّهِ لَمَا كَانَ تَرْكُهُ الْقِيَامَ إلَّا لِلْوَجْهِ الَّذِي عُذِرَ بِهِ ثُمَّ يَكُونُ عَلَى حَقِّهِ وَإِنْ طَالَ زَمَانُهُ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا يَبْطُلُ حَقُّ امْرِئٍ وَإِنْ قَدُمَ»، قَالَا: فَإِنْ أَبَى أَنْ يَحْلِفَ، حَلَفَ الْوَرَثَةُ بِاَللَّهِ تَعَالَى لَمَا يَعْلَمُونَ لَهُ حَقًّا، فَإِنْ حَلَفُوا بَرَءُوا، وَإِنْ نَكَلُوا غَرِمُوا، وَمَنْ نَكَلَ مِنْهُمْ قَالَ فَضْلُ بْنُ سَلَمَةَ اُنْظُرْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ، وَانْظُرْ فِيمَنْ أَقَامَ شَاهِدًا عَلَى حَقٍّ لَهُ عَلَى مَيِّتٍ وَنَكَلَ عَنْ الْيَمِينِ، إنْ كَانَ يَحْلِفُ الْوَرَثَةُ أَنَّهُمْ مَا يَعْلَمُونَ هَذَا الْحَقَّ مِثْلَ مَا قَالَ هَا هُنَا فَتَدَبَّرْهُ.
وَفِي مُفِيدِ الْحُكَّامِ أَنَّ ذِكْرَ الْحَقِّ الْمَشْهُودِ فِيهِ لَا يَبْطُلُ إلَّا بِطُولِ الزَّمَانِ كَالثَّلَاثِينَ سَنَةً وَالْأَرْبَعِينَ، وَكَذَلِكَ الدُّيُونُ وَإِنْ كَانَتْ مَعْرُوفَةً فِي الْأَصْلِ إذَا طَالَ زَمَانُهَا هَكَذَا، وَهِيَ لَهُ وَعَلَيْهِ حُضُورٌ، فَلَا يَقُومُ بِدَيْنِهِ إلَّا بَعْدَ هَذَا مِنْ الزَّمَانِ، فَيَقُولُ: قَدْ قَضَيْتُك وَبَادَ شُهُودِي انْتَهَى. يُرِيدُ فَلَا شَيْءَ عَلَى الْمَدْيُونِ غَيْرُ الْيَمِينِ، وَكَذَلِكَ الْوَصِيُّ يَقُومُ عَلَيْهِ الْيَتِيمُ بَعْدَ طُولِ الزَّمَانِ، وَيُنْكِرُ قَبْضَ مَالِهِ مِنْ الْوَصِيِّ، فَإِنْ كَانَ مُدَّةٌ يَهْلَكُ فِي مِثْلِهَا شُهُودُ الْوَصِيِّ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ، وَإِلَّا فَعَلَيْهِ الْبَيِّنَةُ بِالدَّفْعِ.

.فَصْلٌ فِي الِاسْتِشْهَادِ بِالرَّهْنِ:

وَفِي الْمُتَيْطِيَّةِ: وَلَوْ كَانَ رَبُّ الدَّيْنِ قَدْ أَخَذَ مِنْ الْغَرِيمِ رَهْنًا ثُمَّ دَفَعَهُ إلَيْهِ وَادَّعَى أَنَّهُ أَعْطَاهُ الرَّهْنَ وَلَمْ يُوَفِّهِ الْغَرِيمُ حَقَّهُ، وَقَالَ الْغَرِيمُ: لَمْ يَدْفَعْ إلَيَّ رَهْنِي إلَّا بَعْدَ قَبْضِ دَيْنِهِ، فَقَالَ مَالِكٌ فِي الْعُتْبِيَّةِ: أَرَى أَنْ يَحْلِفَ الرَّاهِنُ وَيَسْقُطَ عَنْهُ مَا ادَّعَى عَلَيْهِ رَبُّ الدَّيْنِ، وَكَذَلِكَ لَوْ أَنْكَرَ الْمُرْتَهِنُ أَنْ يَكُونَ قَبَضَ مِنْهُ شَيْئًا مِنْ حَقِّهِ، وَقَالَ دَفَعْت إلَيْهِ الرَّهْنَ عَلَى أَنْ يَأْتِيَنِي بِحَقِّي فَلَمْ يَفْعَلْ، لَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَ الرَّاهِنِ عَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ، خِلَافُ مَا فِي نَوَازِلِ سَحْنُونٍ مِنْ أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الْمُرْتَهِنِ إذَا كَانَ قِيَامُهُ عَلَيْهِ بِالْقُرْبِ، وَلَا اخْتِلَافَ بَيْنَهُمْ إذَا طَالَ الْأَمْرُ أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الرَّاهِنِ، وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ أَظْهَرُ مِنْ قَوْلِ سَحْنُونٍ.
فرع:
وَلَوْ لَمْ يُقِرَّ الْمُرْتَهِنُ بِدَفْعِ الرَّهْنِ لِلرَّاهِنِ، وَادَّعَى أَنَّهُ تَلِفَ أَوْ سَقَطَ لَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ قَوْلًا وَاحِدًا إذَا كَانَ قَبِلَهُ عَلَيْهِ بِالْقُرْبِ.
فرع:
وَفِي الْمُتَيْطِيَّةِ: وَإِذَا ارْتَهَنَتْ الْمَرْأَةُ مِنْ زَوْجِهَا بِصَدَاقِهَا رَهْنًا ثُمَّ سَلَّمَتْهُ لَهُ، لَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَ الزَّوْجِ مَعَ يَمِينِهِ أَنَّهُ دَفَعَهُ وَيَبْرَأُ سَوَاءٌ دَخَلَ أَوْ لَمْ يَدْخُلْ.

.الْبَابُ الثَّالِثُ وَالسِّتُّونَ فِي الْقَضَاءِ بِشَهَادَةِ رَائِحَةِ الْخَمْرِ:

فِي الْقَضَاءِ بِشَهَادَةِ رَائِحَةِ الْخَمْرِ وَاسْتِقْضَائِهَا عَلَى شُرْبِهَا، وَيَجِبُ الْحَدُّ عَلَى مَنْ وُجِدَتْ مِنْهُ رَائِحَةُ الْخَمْرِ وَقَاءَهَا وَحَكَمَ بِهِ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَفِي حَدِيثِ مَاعِزٍ: «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ أَنْ يُسْتَنْكَهَ مَنْ يَشْرَبُ خَمْرًا، فَقَامَ رَجُلٌ فَاسْتَنْكَهَ فَلَمْ يَجِدْ مِنْهُ رِيحَ خَمْرٍ»، قَالَ اللَّخْمِيُّ: فِيهِ دَلِيلُ أَنَّ الرَّائِحَةَ يَقْضِي بِهَا دَلِيلٌ آخَرُ، أَنَّ إقْرَارَ السَّكْرَانِ غَيْرُ لَازِمٍ.
مَسْأَلَةٌ:
قَالَ اللَّخْمِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ وَجَمَاعَةٌ مِنْ أَصْحَابِهِ، إلَى أَنَّ الْحَدَّ يَجِبُ عَلَى مَنْ وُجِدَ مِنْهُ رِيحُ الْمُسْكِرِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ مَا رُوِيَ عَنْ السَّائِبِ بْنِ يَزِيدَ: أَنَّهُ حَضَرَ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَهُوَ يَجْلِدُ رَجُلًا وَجَدَ مِنْهُ رِيحَ شَرَابٍ فَجَلَدَهُ الْحَدَّ تَامًّا، وَالدَّلِيلُ مِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى: أَنَّ هَذَا مَعْنًى يُعْلَمُ بِهِ صِفَةُ مَا شَرِبَ الْمُكَلَّفُ وَجِنْسُهُ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ طَرِيقًا إلَى إثْبَاتِ الْحَدِّ، أَصْلُ ذَلِكَ إنْ وَجَدَ أَنَّ الرِّيحَ مِنْ الشَّارِبِ أَقْوَى فِي مَعْرِفَةِ حَالِ الْمَشْرُوبِ مِنْ الرُّؤْيَةِ؛ لِأَنَّ الرُّؤْيَةَ لَا يُعْلَمُ بِهَا الشَّرَابُ أَمُسْكِرٌ هُوَ أَمْ لَا؟ وَإِنَّمَا يُعْلَمُ ذَلِكَ بِرَائِحَتِهِ.

.فَصْلٌ مَنْ يَجِبُ اسْتِنْكَاهُهُ فِي الْخَمْرِ:

فَصْلٌ: وَالْكَلَامُ فِي ذَلِكَ يَتَعَلَّقُ بِثَلَاثَةِ أُمُورٍ: الْأَوَّلُ: فِيمَنْ يَجِبُ اسْتِنْكَاهُهُ.
الثَّانِي: فِيمَنْ يَثْبُتُ ذَلِكَ بِشَهَادَتِهِ.
الثَّالِثُ: فِيمَا يَجِبُ بِذَلِكَ إذَا تُيُقِّنَتْ رَائِحَةُ الْمُسْكِرِ أَوْ أَشْكَلَتْ الْأَوَّلُ فِيمَنْ يَجِبُ اسْتِنْكَاهُهُ، وَذَلِكَ فِيمَا يَرَى الْحَاكِمُ مِنْهُ تَخْلِيطًا فِي قَوْلٍ أَوْ مَشْيٍ شِبْهَ السَّكْرَانِ، فَفِي الْمَوَّازِيَّةِ مِنْ رِوَايَةِ أَصْبَغَ عَنْ ابْنِ الْقَاسِمِ: أَنَّهُ إذَا رَأَى ذَلِكَ مِنْهُ أَمَرَ بِاسْتِنْكَاهِهِ، قَالَ: لِأَنَّهُ قَدْ بَلَغَ إلَى الْحَاكِمِ فَلَا يَسَعُهُ إلَّا تَحَقُّقُهُ، فَإِذَا ثَبَتَ الْحَدُّ حُدَّ أَمَامَهُ.
مَسْأَلَةٌ:
وَكَذَلِكَ لَوْ شُمَّ مِنْهُ رَائِحَةٌ يُنْكِرُهَا أَوْ أَنْكَرَهَا بِحَضْرَتِهِ مَنْ يُنْكِرُهَا، قَالَ الْقَاضِي أَبُو الْوَلِيدِ الْبَاجِيُّ: فَعِنْدِي أَنَّهُ قَدْ تَعَيَّنَ عَلَيْهِ اسْتِنْكَاهُهُ وَتَحَقُّقُ حَالِهِ، لِأَنَّ هَذِهِ صِفَةٌ يُنْكَرُ بِهَا حَالُهُ وَيُسْتَرَابُ بِهَا، وَيَقْوَى بِهَا الظَّنُّ فِي وُجُوبِ الْحَدِّ عَلَيْهِ، فَيَجِبُ بِذَلِكَ اخْتِبَارُهُ وَتَحَقُّقُ حَالِهِ كَالتَّخْلِيطِ فِي الْكَلَامِ وَالْمَشْيِ.
مَسْأَلَةٌ:
فَإِنْ لَمْ يَظْهَرْ مِنْهُ شَيْءٌ مِنْ هَذِهِ الْأَحْوَالِ يُرِيدُ التَّخْلِيطَ فِي الْقَوْلِ وَالْمَشْيِ لَمْ يُسْتَنْكَهْ، رَوَاهُ أَصْبَغُ عَنْ ابْنِ الْقَاسِمِ فِي الْعُتْبِيَّةِ وَالْمَوَّازِيَّةِ، قَالَ: وَلَا يُتَجَسَّسُ عَلَيْهِ، وَوَجْهُ ذَلِكَ إنْ لَمْ يَرَ مِنْهُ رِيبَةً وَلَا خُرُوجًا عَنْ أَحْوَالِ النَّاسِ الْمُعْتَادَةِ، فَلَا يَجُوزُ التَّجَسُّسُ عَلَى النَّاسِ وَالتَّعَرُّضُ لَهُمْ مِنْ غَيْرِ رِيبَةٍ الثَّانِي فِيمَنْ يَثْبُتُ ذَلِكَ بِشَهَادَتِهِ، قَالَ الْقَاضِي أَبُو الْوَلِيدِ: فَأَمَّا مَنْ يَثْبُتُ ذَلِكَ عَلَيْهِ بِشَهَادَتِهِ، فَإِنَّهُ يُحْتَاجُ إلَى مَعْرِفَةِ صِفَتِهِمْ وَعَدَدِهِمْ.
فَأَمَّا صِفَتُهُمْ، فَقَدْ قَالَ الْقَاضِي أَبُو الْحَسَنِ فِي كِتَابِهِ: إنَّ صِفَةَ الشَّاهِدَيْنِ عَلَى الرَّائِحَةِ أَنْ يَكُونَا مِمَّنْ خَبَرَ شُرْبَهَا فِي وَقْتٍ مَا، إمَّا فِي حَالِ كُفْرِهِمَا أَوْ شَرِبَاهَا فِي إسْلَامِهِمَا، فَجُلِدَا ثُمَّ تَابَا حَتَّى يَكُونَا مِمَّنْ يَعْرِفُ الْخَمْرَ بِرِيحِهَا، قَالَ الْقَاضِي أَبُو الْوَلِيدِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: وَهَذَا عِنْدِي فِيهِ نَظَرٌ، لِأَنَّ مَنْ هَذِهِ صِفَتُهُ مَعْدُومٌ قَلِيلٌ وَلَوْ لَمْ تَثْبُتْ الرَّائِحَةُ إلَّا بِشَهَادَةِ مَنْ هِيَ صِفَتُهُ لَبَطَلَتْ الشَّهَادَةُ بِهَا فِي الْأَغْلَبِ، وَقَدْ يَكُونُ مَنْ لَمْ يَشْرَبْهَا قَطُّ يَعْرِفُ رَائِحَتَهَا مَعْرِفَةً صَحِيحَةً، بِأَنْ يُخْبِرَهُ عَنْهَا الْمَرَّةَ بَعْدَ الْمَرَّةِ مَنْ قَدْ شَرِبَهَا، أَنَّهَا هِيَ رَائِحَةُ الْخَمْرِ حَتَّى يَعْرِفَ ذَلِكَ كَمَا يَعْرِفُهَا الَّذِي قَدْ شَرِبَهَا.
[مَسْأَلَةٌ الْحَاكِم أَمَرَ الشُّهُودَ بِالِاسْتِنْكَاهِ]
مَسْأَلَةٌ:
وَأَمَّا الْعِدَّةُ فَلَا يَخْلُو أَنْ يَكُونَ الْحَاكِمُ أَمَرَ الشُّهُودَ بِالِاسْتِنْكَاهِ، أَوْ فَعَلُوا هُمْ ذَلِكَ ابْتِدَاءً فَإِنْ كَانَ الْحَاكِمُ أَمَرَهُمْ بِذَلِكَ، فَقَدْ رَوَى ابْنُ حَبِيبٍ عَنْ أَصْبَغَ: أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ أَنْ يَأْمُرَ شَاهِدَيْنِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ إلَّا وَاحِدٌ وَجَبَ بِهِ الْحَدُّ، وَأَمَّا إنْ كَانَ الشُّهُودُ فَعَلُوا ذَلِكَ مِنْ قِبَلِ أَنْفُسِهِمْ، فَلَا يُجْزِئُ أَقَلُّ مِنْ اثْنَيْنِ كَالشَّهَادَةِ عَلَى الشُّرْبِ، وَقَدْ رَوَى ابْنُ وَهْبٍ عَنْ مَالِكٍ: أَنَّهُ إنْ لَمْ يَكُنْ مَعَ الْحَاكِمِ إلَّا وَاحِدٌ فَلْيَرْفَعْهُ إلَى مَنْ هُوَ فَوْقَهُ، قَالَ الْقَاضِي أَبُو الْوَلِيدِ رَحِمَهُ اللَّهُ وَمَا رَوَاهُ ابْنُ حَبِيبٍ عَنْ أَصْبَغَ: مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ الْحَاكِمَ يَحْكُمُ بِعِلْمِهِ، فَلِذَلِكَ جَازَ عِنْدَهُ عِلْمُ مَنْ اسْتَنَابَهُ، وَإِلَّا فَقَدْ يَجِبُ أَنْ لَا يَجِدَّ فِي ذَلِكَ حَتَّى يَشْهَدَ عِنْدَهُ فِيهِ شَاهِدَانِ.
الثَّالِثُ: فِيمَا يَجِبُ بِشَهَادَةِ الِاسْتِنْكَاهِ، وَلَا يَخْلُو أَنْ يَكُونَ الشُّهُودُ مُتَيَقِّنِينَ لِلرَّائِحَةِ أَوْ شَاكِّينَ فِيهَا، فَإِنْ كَانُوا مُتَيَقِّنِينَ لِلرَّائِحَةِ فَلَا يَخْلُو أَنْ يَتَّفِقُوا عَلَى أَنَّهَا رَائِحَةُ مُسْكِرٍ، أَوْ عَلَى أَنَّهَا غَيْرُ رَائِحَةِ مُسْكِرٍ، أَوْ يَخْتَلِفُوا فِي ذَلِكَ، فَإِنْ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهَا غَيْرُ رَائِحَةِ مُسْكِرٍ فَلَا نَعْلَمُ فِي الْمَذْهَبِ خِلَافًا فِي وُجُوبِ تَرْكِ الْحَدِّ، وَإِنْ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهَا رَائِحَةُ مُسْكِرٍ وَجَبَ عَلَيْهِ الْحَدُّ، وَإِنْ اخْتَلَفُوا فِي ذَلِكَ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: رَائِحَةُ مُسْكِرٍ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ لَيْسَ بِرَائِحَةِ مُسْكِرٍ، فَقَدْ قَالَ ابْنُ حَبِيبٍ: إذَا اجْتَمَعَ مِنْهُمْ اثْنَانِ عَلَى أَنَّهَا رَائِحَةُ مُسْكِرٍ حُدَّ، وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّ الشَّهَادَةَ قَدْ قَامَتْ وَكَمُلَتْ، وَلَا يُؤَثِّرُ فِي ذَلِكَ نَفْيُ مَنْ نَفَى مُقْتَضَاهَا، كَمَا لَوْ شَهِدَ شَاهِدَانِ أَنَّهُمَا رَأَيَاهُ شَرِبَ خَمْرًا.
وَقَالَ شَاهِدَانِ آخَرَانِ لَمْ يَشْرَبْ خَمْرًا.
[مَسْأَلَةٌ شَكَّ الشُّهُودُ فِي الرَّائِحَةِ هَلْ هِيَ رَائِحَةُ مُسْكِرٍ أَوْ غَيْرِهِ]
مَسْأَلَةٌ:
فَإِنْ شَكَّ الشُّهُودُ فِي الرَّائِحَةِ هَلْ هِيَ رَائِحَةُ مُسْكِرٍ أَوْ غَيْرِهِ نُظِرَتْ حَالُهُ، فَإِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ السَّفَهِ نُكِّلَ، وَإِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْعَدْلِ خَلَّى سَبِيلَهُ، حَكَاهُ ابْنُ الْقَاسِمِ فِي الْعُتْبِيَّةِ وَالْمَوَّازِيَّةِ، وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّ مَنْ عُرِفَ بِالسَّفَهِ وَالشُّرْبِ وَالتَّخْلِيطِ، خِيفَ أَنْ يَكُونَ مَا شُكَّ فِيهِ مَا حَرُمَ عَلَيْهِ وَوَجَبَ أَنْ يُزْجَرَ عَنْ التَّسْمِيَةِ بِذَلِكَ لِئَلَّا يَتَطَرَّقَ بِذَلِكَ إلَى إظْهَارِ مَعْصِيَةٍ، وَأَمَّا مَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْعَدْلِ فَتَبْعُدُ عَنْهُ الرِّيبَةُ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
مَسْأَلَةٌ:
قَالَ الْقَاضِي أَبُو الْوَلِيدِ رَحِمَهُ اللَّهُ: فَإِذَا ثَبَتَ ذَلِكَ فَإِنَّ الْحَدَّ يَتَعَلَّقُ بِمَا يَقَعُ بِهِ الْفِطْرُ مِنْ تَجَاوُزِ الشَّرَابِ مِنْ الْفَمِ إلَى الْحَلْقِ.
[مَسْأَلَةٌ شَهِدَ شَاهِدَانِ أَنَّهُ قَاءَ خَمْرًا]
مَسْأَلَةٌ:
وَلَوْ شَهِدَ شَاهِدَانِ أَنَّهُ قَاءَ خَمْرًا لَوَجَبَ عَلَيْهِ الْحَدُّ، لِأَنَّهُ لَا يَقِيئُهَا حَتَّى يَشْرَبَهَا، وَقَدْ رُوِيَ نَحْوُ هَذَا عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَسَيَأْتِي فِي بَابِ الْقَضَاءِ بِالسِّيَاسَةِ صِفَةُ الشَّهَادَةِ، وَصِفَةُ الضَّارِبِ وَالضَّرْبِ، وَمَا يُضَافُ إلَى الْحَدِّ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

.الْبَابُ الرَّابِعُ وَالسِّتُّونَ فِي الْقَضَاءِ بِشَهَادَةِ الْحَمْلِ عَلَى الزِّنَا:

وَإِنْ ظَهَرَ الْحَمْلُ بِحُرَّةٍ بَلَدِيَّةٍ لَيْسَتْ بِغَرِيبَةٍ وَلَا يُعْرَفُ لَهَا زَوْجٌ فَإِنَّهَا تُحَدُّ إذَا ظَهَرَ بِهَا حَمْلٌ، لِأَنَّ ذَلِكَ شَاهِدٌ عَلَى الزِّنَا، قَالَ الْمَازِرِيُّ وَلِلْحَمْلِ عَلَامَاتٌ: مِنْهَا ظُهُورُهُ، وَأَقَلُّ مَا يَكُونُ ذَلِكَ فِي ثَلَاثَةِ أَشْهُرٍ، وَلَهُ عَلَامَةٌ ثَانِيَةٌ وَهِيَ الْحَرَكَةُ، وَلَا تَكُونُ فِي أَقَلَّ مِنْ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ.
وَمِنْهَا تَحَقُّقُهُ وَمُشَاهَدَتُهُ وَهُوَ الْوَضْعُ، وَوَرَدَ الشَّرْعُ بِالِاقْتِصَارِ عَلَى الْعَلَامَةِ الْأُولَى وَهُوَ ظُهُورُهُ فِي الْوَقْتِ الَّذِي الْغَالِبُ ظُهُورُهُ فِيهِ.
فرع:
وَلَا يُقْبَلُ قَوْلُ الْمَرْأَةِ غُصِبْت وَكُنْت مُكْرَهَةً إلَّا أَنْ تَظْهَرَ أَمَارَةٌ تُصَدِّقُهَا، بِأَنْ يُرَى مِنْهَا أَثَرُ الدَّمِ أَوْ صِيَاحٌ أَوْ اسْتِغَاثَةٌ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِمَّا يَدُلُّ عَلَى صِدْقِهَا، وَاخْتَارَ الْبَاجِيُّ سُقُوطَ الْحَدِّ عَنْهَا وَإِنْ لَمْ يَكُنْ ثَمَّ أَمَارَةٌ.
فرع:
وَلَا يُقْبَلُ قَوْلُهَا: إنَّهُ مِنْ زَوْجٍ طَلَّقَنِي أَوْ غَابَ عَنِّي، وَأَمَّا الطَّارِئَةُ فَيُقْبَلُ ذَلِكَ مِنْهَا لِكَوْنِهَا غَرِيبَةً وَصِدْقُهَا مُحْتَمَلٌ.
فرع:
قَالَ ابْنُ رَاشِدٍ: إنْ قَالَتْ: وُطِئْت بَيْنَ الْفَخِذَيْنِ وَدَخَلَ الْمَاءُ إلَى فَرْجِي، فَكَانَ الْحَمْلُ عَنْ ذَلِكَ فَيَنْبَغِي أَنْ يُدْرَأَ الْحَدُّ عَنْهَا، لِأَنَّ ذَلِكَ مُمْكِنٌ وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ادْرَءُوا الْحُدُودَ بِالشُّبُهَاتِ».
[مَسْأَلَةٌ ظَهَرَ الْحَمْلُ بِزَوْجَةِ الْمَمْسُوحِ الْعَسِيبِ وَالْخِصَاءِ]
مَسْأَلَةٌ:
وَمِنْ هَذَا الْبَابِ إذْ ظَهَرَ الْحَمْلُ بِزَوْجَةِ الْمَمْسُوحِ الْعَسِيبِ وَالْخِصَاءِ قَالَ ابْنُ حَبِيبٍ: إذَا جَاءَتْ زَوْجَتُهُ بِوَلَدٍ لَمْ يُلْحَقْ وَتُحَدُّ، وَإِذَا طَلَّقَهَا فَلَا عِدَّةَ عَلَيْهَا.
وَفِي الْمُتَيْطِيَّةِ: وَكَذَلِكَ مَنْ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْوَطْءِ كَالْمَجْبُوبِ وَالْحَصُورِ، لَا عِدَّةَ عَلَى الْمَرْأَةِ مِنْهُمَا إلَّا أَنْ تَحْمِلَ مِنْ مِثْلِهِ فَتَكُونُ الْعِدَّةُ عَلَيْهَا، اُنْظُرْ الْمُتَيْطِيَّةَ فِي بَابِ الْعُيُوبِ.

.الْبَابُ الْخَامِسُ وَالسِّتُّونَ فِي الْقَضَاءِ بِاللَّوْثِ فِي الْأَمْوَالِ:

وَإِذَا أَغَارَ قَوْمٌ عَلَى بَيْتِ رَجُلٍ فَأَخَذُوا مَا فِيهِ، وَالنَّاسُ يَنْظُرُونَ إلَيْهِمْ وَلَمْ يَشْهَدُوا عَلَى مُعَايَنَةِ مَا أَخَذُوا، وَلَكِنْ عَلِمُوا أَنَّهُمْ أَغَارُوا عَلَيْهِ وَانْتَهَبُوا، فَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ وَابْنُ الْمَاجِشُونِ: الْقَوْلُ قَوْلُ الْمُنْتَهَبِ مَعَ يَمِينِهِ، لِأَنَّ مَالِكًا قَالَ فِي مُنْتَهَبِ الصُّرَّةِ يَخْتَلِفَانِ فِي عَدَدِهَا، الْقَوْلُ قَوْلُ الْمُنْتَهَبِ مَعَ يَمِينِهِ.
وَقَالَ مُطَرِّفٌ وَابْنُ كِنَانَةَ وَابْنُ حَبِيبٍ: الْقَوْلُ قَوْلُ الْمُنْتَهَبِ مِنْهُ مَعَ يَمِينِهِ فِيمَا يُشْبِهُ أَنَّهُ يَمْلِكُهُ، وَيُحْمَلُ عَلَى الظَّالِمِ.
فرع:
وَمِنْ كِتَابِ الرُّعَيْنِيِّ قَالَ مَالِكٌ فِيمَنْ دَخَلَ عَلَيْهِ السُّرَّاقُ فَسَرَقُوا مَتَاعَهُ، وَانْتَهَبُوا مَالَهُ وَأَرَادُوا قَتْلَهُ، فَنَازَعَهُمْ وَحَارَبَهُمْ، ثُمَّ ادَّعَى أَنَّهُ عَرَفَهُمْ أَوْ لَمْ يَعْرِفْهُمْ، أَهُوَ مُصَدَّقٌ عَلَيْهِمْ إذَا كَانُوا مَعْرُوفِينَ بِالسَّرِقَةِ مُسْتَحِلِّينَ لَهَا أَوْ تَرَى أَنْ يُكَلَّفَ الْبَيِّنَةَ، قَالَ: هُوَ مُصَدَّقٌ، وَقَدْ نَزَلَتْ هَذِهِ بِالْمَدِينَةِ فِي زَمَانِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَغَرَّمَهُمْ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِقَوْلِهِ وَنَكَّلَهُمْ عُقُوبَةً مُوجِعَةً وَلَمْ يُكَلِّفْهُ الْبَيِّنَةَ.
مَسْأَلَةٌ:
وَفِي فِقْهِ وَثَائِقِ ابْنِ الْعَطَّارِ: وَسُئِلَ مَالِكٌ عَنْ رَجُلَيْنِ ابْتَاعَا طَعَامًا فَحَمَلَ الْحَمَّالُونَ إلَيْهِمَا الطَّعَامَ، فَوَجَدَ أَحَدُهُمَا طَعَامَهُ يَنْقُصُ غَرَائِرَ، فَذَهَبَ إلَى الَّذِي كَانَ يَحْمِلُ إلَيْهِ الطَّعَامَ فَقَالَ لَهُ: اُنْظُرْ لَا يَكُونُ ذَهَبَ إلَيْك مِنْ طَعَامِي شَيْءٌ، فَكَالَ الرَّجُلُ طَعَامَهُ فَوَجَدَ فِيهِ زِيَادَةً فَرَدَّهَا، فَأَرَادَ الَّذِي ذَهَبَ طَعَامُهُ أَنْ يَسْتَحْلِفَهُ عَلَى بَاقِي مَا نَقَصَهُ مِنْ الْغَرَائِرِ فَقَالَ: ذَلِكَ لَهُ، وَإِنْ نَكَلَ حُقَّ عَلَيْهِ الْحَقُّ وَقَدْ تَقَدَّمَ هَذَا أَوَّلَ الْكِتَابِ.

.الْبَابُ السَّادِسُ وَالسِّتُّونَ فِي الْقَضَاءِ بِشَهَادَةِ الْحِيَازَةِ عَلَى الْمِلْكِ:

مَسْأَلَةٌ:
فِي الْحِيَازَةِ عَلَى الْغَائِبِ وَفِي مُخْتَصَرِ الْوَاضِحَةِ، قَالَ ابْنُ حَبِيبٍ: وَأَخْبَرَنِي حُسَيْنٌ عَنْ ابْنِ الْقَاسِمِ وَابْنِ وَهْبٍ وَابْنِ نَافِعٍ وَأَصْبَغَ وَمُطَرِّفٍ فِي الْغَائِبِ، يُحَازُ عَلَيْهِ مِنْ مَالِهِ وَهُوَ عَلَى مَسِيرَةٍ دُونَ السَّبْعَةِ الْأَيَّامِ يُرِيدُ كَالْخَمْسَةِ، فَإِنْ عَلِمَ فِي غَيْبَتِهِ بِمَا حِيزَ عَلَيْهِ مِنْ مَالِهِ فَلَمْ يَقْدَمْ وَلَمْ يُوَكِّلْ حَتَّى طَالَ زَمَانُ ذَلِكَ، فَهُوَ كَالْحَاضِرِ إلَّا أَنْ يَكُونَ لَهُ عُذْرٌ، مِثْلَ أَنْ يَكُونَ فِي يَدِ عَدُوٍّ، أَوْ مِنْ وَرَاءِ بَحْرٍ، أَوْ يَكُونَ ضَعِيفًا، أَوْ مُخْتَلًّا، أَوْ امْرَأَةً مَحْجُوبَةً وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنْ الْعُذْرِ، فَيَكُونُ عَلَى حَقِّهِ أَبَدًا وَإِنْ أَشْهَدَ فِي غَيْبَتِهِ عَلَى عُذْرِهِ، وَأَنَّهُ غَيْرُ تَارِكٍ لِحَقِّهِ إلَّا لِمَا يَذْكُرُهُ مِنْ عُذْرِهِ، كَانَ ذَلِكَ أَوْثَقَ لَهُ عِنْدَنَا، وَقَدْ يَكُونُ لِلْغَائِبِ أَنْ قَرُبَتْ غَيْبَتُهُ مَعَاذِيرُ يُعْذَرُ بِهَا إذَا ظَهَرَتْ.
قَالَ ابْنُ حَبِيبٍ: ثُمَّ رَجَعَ ابْنُ الْقَاسِمِ فَقَالَ: أَرَى الْغَائِبَ عَلَى مَسِيرَةِ الثَّلَاثَةِ أَيَّامٍ وَالْأَرْبَعَةِ مَعْذُورًا فِي غَيْبَتِهِ، وَإِنْ عَلِمَ بِمَا حِيزَ عَلَيْهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ ضَعِيفًا فِي بَدَنِهِ وَلَا مُخْتَلًّا فِي عَقْلِهِ، وَأَرَاهُ عَلَى حَقِّهِ أَبَدًا مَا زَالَ غَائِبًا، لِأَنَّهُ قَدْ يَكُونُ لِلْغَائِبِ مَعَاذِيرُ لَا تُعْرَفُ، وَقَوْلُهُ الْأَوَّلُ عِنْدِي أَحْسَنُ، وَهُوَ الَّذِي اجْتَمَعَ عَلَيْهِ كِبَارُ أَصْحَابِ مَالِكٍ.
وَفِي الْعُتْبِيَّةِ عَنْ ابْنِ الْقَاسِمِ أَنَّ الثَّمَانِيَةَ الْأَيَّامِ فِي حُكْمِ الْقَرِيبِ.
فرع:
وَفِي الطُّرُرِ لِابْنِ عَاتٍ: وَمَغِيبُ الْمَرْأَةِ عَلَى مَسِيرَةِ الْيَوْمِ لَا يَقْطَعُ حُجَّتَهَا، لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «لَا يَحِلُّ لِلْمَرْأَةِ تُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ تُسَافِرُ مَسِيرَةَ يَوْمٍ إلَّا مَعَ ذِي مَحْرَمٍ مِنْهَا»، قَالَهُ بَعْضُ الشُّيُوخِ الْمُتَأَخِّرِينَ.
فرع:
وَإِنْ كَانَ غَيْرَ عَالِمٍ فَهُوَ عَلَى حَقِّهِ إذَا قَدِمَ وَلَا حِيَازَةَ عَلَيْهِ وَإِنْ طَالَتْ الْحِيَازَةُ فِيهِ كَانَتْ الْغَيْبَةُ قَرِيبَةً أَوْ بَعِيدَةً.
تنبيه:
وَهُوَ عَلَى غَيْرِ الْعِلْمِ حَتَّى يُقِيمَ الْحَائِزُ بَيِّنَةً، إنْ كَانَ عَالِمًا فِي غَيْبَتِهِ لِحِيَازَتِهِ لِمَالِهِ.
فرع:
وَقَالَ مُطَرِّفٌ وَأَصْبَغُ: وَنَرَى السَّبْعَةَ وَالثَّمَانِيَةَ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ طُولًا مِنْ الْغَيْبَةِ، وَعُذْرًا فِي تَرْكِ الْقُدُومِ وَالطَّلَبِ وَالتَّوْكِيلِ، وَإِنْ كَانَ عَالِمًا، إلَّا أَنَّا نَسْتَحِبُّ لَهُ أَنْ يُشْهِدَ فِي غَيْبَتِهِ إذَا عَلِمَ بِحِيَازَةِ مَالِهِ عَنْهُ، وَإِنْ تَرَكَ الْإِشْهَادَ لَمْ يُوهِنْ ذَلِكَ حُجَّتَهُ إلَّا أَنْ يَطُولَ الزَّمَانُ جِدًّا، مِثْلَ السَّبْعِينَ سَنَةً أَوْ الثَّمَانِينَ وَمَا قَارَبَهَا، وَيَكُونُ مَعَ ذَلِكَ سَمَاعٌ مُسْتَفِيضٌ بِأَنَّهَا مِلْكُ الَّذِينَ هِيَ بِأَيْدِيهِمْ تَدَاوُلُهَا، هُمْ وَمَنْ كَانَ قَبْلَهُمْ بِمَا يُحَازُ بِهِ الْمِلْكُ، فَيَكُونُ ذَلِكَ كَالْحِيَازَةِ عَلَى الْحَاضِرِ، وَإِنْ كَانَتْ الْغَيْبَةُ بَعِيدَةً، قَالَ ابْنُ حَبِيبٍ وَبِقَوْلِهِمَا أَقُولُ.

.فَصْلٌ فِي حِيَازَةِ الْأَجْنَبِيِّ عَلَى الْأَجْنَبِيِّ الْحَاضِرِ الرِّبَاعَ وَالْعَقَارَ:

فِي حِيَازَةِ الْأَجْنَبِيِّ عَلَى الْأَجْنَبِيِّ الْحَاضِرِ الرِّبَاعَ وَالْعَقَارَ وَفِي مُخْتَصَرِ الْوَاضِحَةِ قَالَ أَصْبَغُ: مَا حَازَهُ الْأَجْنَبِيُّ عَلَى الْأَجْنَبِيِّ بِحَضْرَتِهِ وَعِلْمِهِ أَيُّ الْحِيَازَاتِ كَانَ مِنْ سُكْنَى فَقَطْ، أَوْ ازْدِرَاعٍ أَوْ هَدْمٍ أَوْ بُنْيَانٍ صَغُرَ شَأْنُهُ أَوْ عَظُمَ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ وُجُوهِ الْحِيَازَاتِ كُلِّهَا، فَذَلِكَ تَوْجِيهٌ لِحَائِزِهِ، وَتَقْطَعُ حُجَّةَ صَاحِبِهِ، وَهِيَ كَالشَّهَادَةِ عَلَى الْمِلْكِ كَمَا يَكُونُ الرَّهْنُ شَاهِدًا لِصَاحِبِهِ بِحِيَازَتِهِ إيَّاهُ، وَكَمَا يَكُونُ السِّتْرُ شَاهِدًا لِلْمَرْأَةِ بِإِرْخَائِهِ عَلَيْهَا، وَكَذَلِكَ أَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَيْهِ إذَا كَانَ عَلَى هَذَا التَّفْسِيرِ الَّذِي فَسَّرْنَا، وَرَأَوْا الْعَشْرَ سِنِينَ وَمَا قَارَبَهَا، يَعْنِي كَالثَّمَانِ وَالتِّسْعِ حِيَازَةً فِيمَا بَيْنَ الْمُتَدَاعِيَيْنِ.
قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: وَكَانَ مَالِكٌ لَا يُؤَقِّتُ الْحِيَازَةَ لَا عَشْرَ سِنِينَ وَلَا غَيْرَهَا، وَكَانَ يَرَى ذَلِكَ عَلَى قَدْرِ مَا يَنْزِلُ مِنْ الْأَمْرِ، وَيَرَى فِيهِ الْإِمَامُ رَأْيَهُ وَتَابَعَهُ ابْنُ الْمَاجِشُونِ عَلَى ذَلِكَ، وَإِنَّ ذَلِكَ قَدْ يَكُونُ بَعْضُهُ أَقْوَى مِنْ بَعْضٍ، مِثْلَ أَنْ يَكُونَ الطَّالِبُ مُجَاوِرًا لِحَائِزِهِ مُقِيمًا مَعَهُ بِبَلَدِهِ، عَالِمًا بِإِحْدَاثِهِ فِي ذَلِكَ، وَمِمَّا هَدَمَ وَبَنَى لَا يُنْكِرُ وَلَا يَدْفَعُ، فَإِنَّ هَذِهِ حَالَةُ إقْرَارٍ لَا شَيْءَ لَهُ مَعَهَا فِيمَا ادَّعَى مِنْ ذَلِكَ، وَأَثْبَتَ أَصْلَهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَلَى مَا وَصَفْنَا وَكَانَ غَائِبًا عَنْهُ، أَوْ كَانَ الطَّالِبُ مُدَّعِيًا لِشِرَاءٍ لَمْ يُثْبِتْهُ وَمَا أَشْبَهَ هَذَا، فَذَلِكَ لِلطَّالِبِ الَّذِي لَهُ الْبَيِّنَةُ عَلَى أَنَّهُ لَهُ أَوْ لِأَبِيهِ، أَوْ لِمَنْ أَخَذَ ذَلِكَ عَنْهُ إذَا حَلَفَ أَنَّهُ لَمْ يَخْرُجْ عَنْهُ، وَلَمْ يُزَلْ مِنْ يَدِهِ أَوْ مِنْ يَدِ مَنْ أَخَذَ عَنْهُ بِمَا يَخْرُجُ بِهِ الْمَالُ مِنْ يَدِ رَبِّهِ، يَحْلِفُ عَلَى نَفْسِهِ بِالْبَتِّ وَفِيمَا سِوَاهُ بِعِلْمِهِ، وَذَهَبَ ابْنُ الْقَاسِمِ وَابْنُ وَهْبٍ وَابْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ وَأَصْبَغُ إلَى تَوْقِيتِ ذَلِكَ بِعَشْرِ سِنِينَ، وَمَا قَارَبَ الْعَشْرَ وَهَذَا فِي الْعَقَارِ وَالرِّبَاعِ وَالْأَرْضِينَ، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى الْحَيَوَانِ وَالْعُرُوضِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَالدَّلِيلُ عَلَى مَا ذَهَبَ إلَيْهِ ابْنُ الْقَاسِمِ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ حَازَ عَلَى خَصْمِهِ عَشْرَ سِنِينَ فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ»، وَاسْتَدَلَّ أَئِمَّتُنَا رَحِمَهُمُ اللَّهُ بِالْعُرْفِ وَالْعَادَةِ، وَيُشْتَرَطُ فِي الْحِيَازَةِ أَنْ يَكُونَ الْمَحُوزُ عَلَيْهِ غَيْرَ خَائِفٍ مِنْ الْحَائِزِ، وَلَا بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ قَرَابَةٌ وَلَا مُصَاهَرَةٌ وَلَا مُصَادَقَةٌ وَلَا شَرِكَةٌ، عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
تنبيه:
فِي الطُّرُرِ: عَلَى التَّهْذِيبِ لِأَبِي الْحَسَنِ الطَّنْجِيِّ، عَنْ أَبِي الْحَسَنِ الصَّغِيرِ قَالَهُ عِنْدَ قَوْلِهِ فِي التَّهْذِيبِ، وَمَنْ أَقَامَتْ بِيَدِهِ دَارٌ سِنِينَ ذَوَاتِ عَدَدٍ يَحُوزُهَا وَيَمْنَعُهَا وَيُكْرِيهَا، وَيَهْدِمُ وَيَبْنِي، فَأَقَامَ رَجُلٌ بَيِّنَةً أَنَّ الدَّارَ دَارُهُ وَأَنَّهَا لِأَبِيهِ أَوْ جَدِّهِ وَثَبَتَتْ الْمَوَارِيثُ، فَإِنْ كَانَ الْمُدَّعِي حَاضِرًا يَرَاهُ يَبْنِي وَيَهْدِمُ وَيُكْرِي فَلَا حَاجَةَ لَهُ، وَذَلِكَ يَقْطَعُ دَعْوَاهُ قَوْلُهُ حَاضِرًا يَرَاهُ، لابد هُنَا مِنْ الْعِلْمِ بِشَيْئَيْنِ وَهُمَا: الْعِلْمُ بِأَنَّهُ مِلْكُهُ، وَالْعِلْمُ بِأَنَّهُ يَتَصَرَّفُ فِيهِ، وَلَا يُفِيدُ الْعِلْمُ بِأَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرِ، لِأَنَّهُ إذَا عَلِمَ بِالتَّصَرُّفِ قَدْ يَقُولُ مَا عَلِمْت أَنَّهُ مِلْكِي، كَمَا يَقُولُ الرَّجُلُ الْآنَ قَدْ وَجَدْت الْوَثِيقَةَ عِنْدَ فُلَانٍ فَيُقْبَلُ قَوْلُهُ وَيَحْلِفُ، وَالْعِلْمُ بِهَذَيْنِ الْوَصْفَيْنِ قَالَهُ فِي الْوَثَائِقِ الْمَجْمُوعَةِ وَابْنِ أَبِي جَمْرَاءَ.
مَسْأَلَةٌ:
وَفِي فِقْهِ وَثَائِقِ ابْنِ الْعَطَّارِ: وَلَا يَقْطَعُ قِيَامَ الْبِكْرِ غَيْرِ الْعَنَسِ، وَلَا قِيَامَ الصَّغِيرِ وَلَا قِيَامَ الْوَلِيِّ عَلَيْهِ فِي رِقَابِ الْأَمْلَاكِ، وَفِي الْأَحْدَاثِ الِاعْتِمَارُ بِحَضْرَتِهِمْ إلَّا أَنْ يَبْلُغَ الصَّغِيرُ وَيَمْلِكَ نَفْسَهُ الْوَلِيُّ عَلَيْهِ، وَتَعْنُسُ الْجَارِيَةُ وَيُحَازُ عَلَيْهِمْ عَشَرَةَ أَعْوَامٍ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ، وَهُمْ عَالِمُونَ بِحُقُوقِهِمْ لَا يَعْتَرِضُونَ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ، فَيَنْقَطِعُ حِينَئِذٍ قِيَامُهُمْ وَمَا لَمْ يَعْرِفُوا بِحُقُوقِهِمْ، لَمْ يَنْقَطِعْ قِيَامُهُمْ.

.فَصْلٌ فِي حِيَازَةِ الْأَجْنَبِيِّ الْحَيَوَانَ وَالْعُرُوضَ:

قَالَ ابْنُ حَبِيبٍ قَالَ لِي مُطَرِّفٌ وَأَصْبَغُ: مَا حَازَهُ الْأَجْنَبِيُّ مِنْ الْعَبِيدِ وَالْإِمَاءِ وَالدَّوَابِّ وَالْحَيَوَانِ كُلِّهِ، وَالْعُرُوضِ كُلِّهَا فَأَقَامَ ذَلِكَ فِي يَدَيْهِ يَخْتَدِمُ الرَّقِيقَ وَيَرْكَبُ الدَّوَابَّ وَيَحْلُبُ الْمَاشِيَةَ وَيَمْتَهِنُ الْعُرُوضَ، فَذَلِكَ كُلُّهُ لِحَائِزِهِ، وَالْحِيَازَةُ فِي ذَلِكَ أَقَلُّ مِنْ عَشْرِ سِنِينَ، قَطْعٌ لِحُجَّةِ مُدَّعِيهِ وَمُثْبِتِ أَصْلِهِ بَعْدَ أَنْ يَحْلِفَ بِاَللَّهِ أَنَّهُ لَهُ دُونَ مُدَّعِيهِ وَمُثْبِتِ أَصْلِهِ، قَالَا: وَالْحَيَوَانُ وَالْعُرُوضُ أَقْصَرُ مُدَّةً وَأَقْوَى فِي الْحِيَازَةِ مِنْ الدُّورِ وَالْأَرْضِينَ، الَّتِي إنَّمَا تُحَازُ بِالْعِمَارَةِ وَالسُّكْنَى.
قَالَ أَصْبَغُ: وَيَرَى فِي الثِّيَابِ السَّنَةَ وَالسَّنَتَيْنِ حِيَازَةً إذَا كَانَتْ تُحَازُ عَلَى وَجْهِ الْمِلْكِ وَاللُّبْسِ، وَيَرَى حِيَازَةَ الدَّابَّةِ السَّنَتَيْنِ وَالثَّلَاثَ حِيَازَةً إذَا مَلَكَهَا وَرَكِبَهَا وَاغْتَلَّهَا وَأَعْمَلَهَا عَلَى وَجْهِ الْمِلْكِ بِعِلْمِ صَاحِبِهَا، وَنَرَى الْأَمَةَ شِبْهَ ذَلِكَ وَالْعَبْدَ وَالْعُرُوضَ فَوْقَ ذَلِكَ شَيْئًا، إذَا حَازَ ذَلِكَ بِالْمِلْكِ وَأَسْبَابِهِ، وَلَا يُلْتَفَتُ فِي مِثْلِ هَذَا وَأَشْبَاهِهِ إلَى عَشْرِ سِنِينَ فِيمَا بَيْنَ الْأَجْنَبِيَّيْنِ يَعْنِي لَا يَبْلُغُ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ بَيْنَ الْأَجَانِبِ إلَى عَشْرِ سِنِينَ، كَمَا يُصْنَعُ فِي الْأُصُولِ. قَالَهُ ابْنُ رُشْدٍ، قَالَ ابْنُ حَبِيبٍ: قَالَ لِي مُطَرِّفٌ وَأَصْبَغُ: وَمَا أَحْدَثَ الْحَائِزُ فِيهِ بَيْعًا أَوْ عِتْقًا أَوْ تَدْبِيرًا أَوْ كِتَابَةً أَوْ صَدَقَةً أَوْ صَدَاقًا أَوْ وَطْئًا فِي الْإِمَاءِ، بِحَضْرَةِ مُدَّعِيهِ وَبِعِلْمِهِ، وَإِنْ لَمْ يَطُلْ زَمَانُ ذَلِكَ قَبْلَ الْوَطْءِ، فَذَلِكَ يُوجِبُهُ لِحَائِزِهِ وَيَقْطَعُ حُجَّةَ مُدَّعِيهِ، قَامَ بَعْدَ ذَلِكَ بِحَدَثٍ أَوْ بِغَيْرِ حَدَثَاتِهِ، إذَا تَرَكَ التَّعْيِينَ وَالْإِنْكَارَ وَالتَّكَلُّمَ عِنْدَ عِلْمِهِ بِهَذَا الْإِحْدَاثِ، وَلَا يُلْتَفَتُ فِي هَذَا إلَى عَشْرِ سِنِينَ وَإِلَى مَا دُونَهَا.
تنبيه:
وَذَكَرَ ابْنُ رَاشِدٍ فِي الْبَيَانِ فِي بَابِ الِاسْتِحْقَاقِ: أَنَّهُ لَا فَرْقَ فِي مُدَّةِ حِيَازَةِ الْوَارِثِ عَلَى وَارِثِهِ، بَيْنَ الرِّبَاعِ وَالْأُصُولِ وَالثَّبَاتِ وَالْحَيَوَانِ وَالْعُرُوضِ، وَإِنَّمَا يَفْتَرِقُ فِي حِيَازَةِ الْأَجْنَبِيِّ عَلَى الْأَجْنَبِيِّ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي حِيَازَةِ الْأَجْنَبِيِّ الْحَيَوَانَ وَالْعُرُوضَ، فَلَوْ حَازَ الْوَرَثَةُ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ الْإِمَاءَ بِالْوَطْءِ وَالْهِبَةِ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ، فَلَا يَقْطَعُ حَقَّ الْوَرَثَةِ فِي ذَلِكَ طُولُ الزَّمَانِ إلَّا أَنْ يَطُولَ جِدًّا، وَلَمْ يَرَ الْأَرْبَعِينَ بِطَوِيلٍ جِدًّا بَيْنَ الْوَرَثَةِ خَاصَّةً عَلَى مَا يَأْتِي فِي حِيَازَةِ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ، ذَكَرَهُ فِي سَمَاعِ ابْنِ الْقَاسِمِ وَبَعْضُهُ فِي سَمَاعِ يَحْيَى فَانْظُرْهُ.

.فَصَلِّ سُؤَالُ الْحَائِز الْأَجْنَبِيّ بِي عَلَى الْأَجْنَبِيِّ مِنْ أَيْنَ صَارَ إلَيْهِ الْملك:

فَصْلٌ فِي سُؤَالِ الْحَائِزِ الْأَجْنَبِيِّ عَلَى الْأَجْنَبِيِّ مِنْ أَيْنَ صَارَ إلَيْهِ الْمِلْكُ قَالَ ابْنُ رُشْدٍ يَخْتَلِفُ الْجَوَابُ فِي ذَلِكَ بِحَسَبِ اخْتِلَافِ الْوُجُوهِ.
فَوَجْهٌ لَا يُسْأَلُ الْحَائِزُ عَمَّا فِي يَدَيْهِ مِنْ أَيْنَ صَارَ إلَيْهِ، وَتَبْطُلُ دَعْوَى الْمُدَّعِي فِيهِ بِكُلِّ حَالٍ فَلَا تُوجِبُ يَمِينًا عَلَى الْحَائِزِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، إلَّا أَنْ يُدَّعَى عَلَيْهِ أَنَّهُ أَعَارَهُ إيَّاهُ فَتَجِبُ عَلَيْهِ الْيَمِينُ عَلَى ذَلِكَ، وَهَذَا الْوَجْهُ هُوَ إذَا لَمْ يَثْبُتْ الْأَصْلُ لِلْمُدَّعِي، وَلَا أَقَرَّ لَهُ بِهِ الْحَائِزُ الَّذِي حَازَهُ فِي وَجْهِهِ الْعَشَرَةَ الْأَعْوَامِ وَنَحْوَهَا، وَلَوْ ادَّعَى عَلَيْهِ مَا فِي يَدَيْهِ أَنَّهُ مَالُهُ قَبْلَ أَنْ تَنْقَضِيَ مُدَّةُ الْحِيَازَةِ عَلَيْهِ فِي وَجْهِهِ لَوَجَبَتْ عَلَيْهِ الْيَمِينُ.
وَوَجْهٌ يُسْأَلُ الْحَائِزُ عَمَّا فِي يَدَيْهِ مِنْ أَيْنَ صَارَ إلَيْهِ، وَيُصَدَّقُ فِي ذَلِكَ مَعَ يَمِينِهِ وَلَا يُكَلَّفُ الْبَيِّنَةَ عَلَى ذَلِكَ، وَهُوَ إذَا ثَبَتَ الْأَصْلُ لِلْمُدَّعِي أَوْ أَقَرَّ بِهِ الْحَائِزُ قَبْلَ أَنْ تَنْقَضِيَ مُدَّةُ الْحِيَازَةِ عَلَيْهِ، فَيَجِبُ أَنْ يُسْأَلَ مِنْ أَيْنَ صَارَ إلَيْهِ؟ وَيُكَلَّفُ الْبَيِّنَةَ عَلَى ذَلِكَ.
وَوَجْهٌ يُخْتَلَفُ فِيهِ فَقِيلَ: إنَّهُ لَا يَلْزَمُ الْمَطْلُوبَ أَكْثَرُ مِنْ أَنْ يُوقَفَ عَلَى الْإِقْرَارِ وَالْإِنْكَارِ، وَقِيلَ: إنَّهُ يُوقَفُ وَلْيُسْأَلْ مِنْ أَيْنَ صَارَ إلَيْهِ، وَهُوَ إذَا أَثْبَتَ الْمَوَارِيثَ وَلَمْ يُثْبِتْ أَنَّهَا لِأَبِيهِ أَوْ جَدِّهِ.
مَسْأَلَةٌ:
وَاخْتُلِفَ إنْ كَانَ الْحَائِزُ وَارِثًا فَقِيلَ: إنَّهُ بِمَنْزِلَةِ وَارِثِهِ الَّذِي وَرِثَ ذَلِكَ عَنْهُ فِي مُدَّةِ الْحِيَازَةِ، وَفِي أَنَّهُ لَا يَنْتَفِعُ بِهَا دُونَ أَنْ يَدَّعِيَ الْوَجْهَ الَّذِي تَصِيرُ بِهِ ذَلِكَ إلَى مُوَرِّثِهِ، وَقِيلَ: يَكُونُ الْوَارِثُ فِي الْحِيَازَةِ أَقْصَرَ وَلَيْسَ عَلَيْهِ أَنْ يُسْأَلَ عَنْ شَيْءٍ، لِأَنَّهُ يَقُولُ وَرِثْت ذَلِكَ وَلَا أَدْرِي بِمَا تَصِيرُ ذَلِكَ إلَى الَّذِي وَرِثْت عَنْهُ، وَهُوَ ظَاهِرُ قَوْلِ ابْنِ الْقَاسِمِ وَقَوْلِ الْمَاجِشُونِ وَهُوَ عِنْدِي أَبْيَنُ فِي أَنَّهُ لَيْسَ عَلَيْهِ أَنْ يَسْأَلَ عَنْ شَيْءٍ، وَأَمَّا الْمُدَّةُ فَيَنْبَغِي أَنْ يَسْتَوِيَ فِيهَا الْوَارِثُ وَالْمُوَرِّثُ.
فرع:
وَتُضَافُ مُدَّةُ حِيَازَةِ الْوَارِثِ إلَى مُدَّةِ حِيَازَةِ الْمُوَرِّثِ، مِثْلَ أَنْ يَكُونَ الْوَارِثُ قَدْ حَازَ خَمْسَةَ أَعْوَامٍ وَمُوَرِّثُهُ قَدْ حَازَ خَمْسَةَ أَعْوَامٍ، فَيَكُونُ ذَلِكَ حِيَازَةً عَلَى الْحَاضِرِ.

.فَصْلٌ فِي صِفَةِ الْحِيَازَاتِ وَمَرَاتِبِهَا:

وَهِيَ عَلَى سِتَّةِ أَقْسَامٍ لِأَنَّهَا عَلَى مَرَاتِبَ سِتٍّ:
الْأُولَى: وَهِيَ أَضْعَفُهَا حِيَازَةُ الْأَبِ عَلَى ابْنِهِ وَالِابْنِ عَلَى أَبِيهِ.
الثَّانِيَةُ: حِيَازَةُ الْأَقَارِبِ الشُّرَكَاءِ بِالْمِيرَاثِ أَوْ بِغَيْرِ الْمِيرَاثِ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ، وَهَذِهِ الْمَرْتَبَةُ تَلِي الَّتِي قَبْلَهَا.
الثَّالِثَةُ: وَهِيَ تَلِي الَّتِي قَبْلَهَا حِيَازَةُ الْقَرَابَةِ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ فِيمَا لَا شَرِكَةَ فِيهِ بَيْنَهُمَا.
الرَّابِعَةُ: حِيَازَةُ الْمَوَالِي وَالْأُخْتَانِ.
الْخَامِسَةُ: حِيَازَةُ الْأَجْنَبِيَّيْنِ لِاشْتِرَاكِ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ.
السَّادِسَةُ: حِيَازَةُ الْأَجْنَبِيَّيْنِ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ فِيمَا لَا شَرِكَةَ بَيْنَهُمْ فِيهِ وَهِيَ أَقْوَاهَا، وَالْحِيَازَةُ تَكُونُ ثَلَاثَةَ أَشْيَاءَ أَضْعَفُهَا السُّكْنَى وَالِازْدِرَاعُ، وَيَلِيهَا الْهَدْمُ وَالْبُنْيَانُ وَالْغَرْسُ وَالِاسْتِغْلَالُ، وَيَلِيهَا التَّفْوِيتُ بِالْبَيْعِ وَالصَّدَقَةِ وَالْهِبَةِ وَالْعِتْقِ وَالْكِتَابَةِ وَالتَّدْبِيرِ وَالْوَطْءِ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ، مِمَّا لَا يَفْعَلُهُ الرَّجُلُ إلَّا فِي مَالِهِ وَالِاسْتِخْدَامُ فِي الرَّقِيقِ وَالرُّكُوبُ فِي الدَّوَابِّ كَالسُّكْنَى وَالْغَرْسِ فِي الدُّورِ وَالْأَرْضِينَ.

.الْقِسْمُ الْأَوَّلُ: وَهُوَ حِيَازَةُ الْأَبِ عَلَى ابْنِهِ وَالِابْنِ عَلَى أَبِيهِ:

فَأَمَّا الْقِسْمُ الْأَوَّلُ وَهُوَ حِيَازَةُ الْأَبِ عَلَى ابْنِهِ وَالِابْنِ عَلَى أَبِيهِ، فَلَا اخْتِلَافَ فِي أَنَّهَا لَا تَكُونُ بِالسُّكْنَى وَالْإِذْرَاعِ، قَالَ ابْنُ رَاشِدٍ وَلَا بِاسْتِخْدَامٍ، فَلَوْ بَقِيَ الْعَبْدُ بِيَدِ الِابْنِ زَمَانًا طَوِيلًا، فَلَمَّا مَاتَ الْأَبُ قَالَ: هُوَ لِي بِوَجْهِ كَذَا مِنْ أَبِي، فَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: لَا يَنْتَفِعُ بِطُولِ الْحِيَازَةِ حَتَّى يَأْتِيَ بِبَيِّنَةٍ عَلَى مَا ادَّعَاهُ، وَالِاتِّفَاقِ عَلَى أَنَّهَا تَكُونُ بِالتَّفْوِيتِ مِنْ الْبَيْعِ وَالْهِبَةِ وَالصَّدَقَةِ وَالْعِتْقِ وَالتَّدْبِيرِ وَالْكِتَابَةِ وَالْوَطْءِ، وَاخْتُلِفَ هَلْ يَحُوزُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى صَاحِبِهِ بِالْهَدْمِ وَالْبُنْيَانِ وَالْغَرْسِ أَمْ لَا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ الْمَشْهُورُ أَنَّهُ لَا يَحُوزُ عَلَيْهِ بِذَلِكَ إنْ ادَّعَاهُ مِلْكًا لِنَفْسِهِ قَامَ عَلَيْهِ فِي حَيَاتِهِ أَوْ بَعْدَ وَفَاتِهِ.
قَالَ ابْنُ رُشْدٍ: يُرِيدُ- وَاَللَّهُ أَعْلَمُ- إلَّا أَنْ يَطُولَ الْأَمْرُ جِدًّا إلَى مَا يَهْلَكُ فِيهِ الْبَيِّنَاتُ وَيَنْقَطِعُ الْعِلْمُ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهُ يَحُوزُ عَلَيْهِ بِذَلِكَ، قَامَ عَلَيْهِ فِي حَيَاتِهِ أَوْ عَلَى سَائِرِ وَرَثَتِهِ بَعْدَ وَفَاتِهِ إذَا ادَّعَاهُ مِلْكًا لِنَفْسِهِ، وَمِثْلُ الْأَبِ وَالِابْنِ الْجَدُّ وَابْنُ الِابْنِ.

.الْقِسْمُ الثَّانِي حِيَازَةُ الْأَقَارِبِ الشُّرَكَاءِ بِالْمِيرَاثِ أَوْ بِغَيْرِ الْمِيرَاثِ:

وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي: وَهُوَ حِيَازَةُ الْأَقَارِبِ الشُّرَكَاءِ بِالْمِيرَاثِ أَوْ بِغَيْرِ الْمِيرَاثِ فَلَا اخْتِلَافَ أَيْضًا فِي أَنَّهَا لَا تَكُونُ بِالسُّكْنَى وَالْإِذْرَاعِ وَإِنْ طَالَتْ السُّنُونَ، قَالَ مُطَرِّفٌ: إلَّا أَنْ يَكُونَ مِثْلَ الْخَمْسِينَ سَنَةً وَنَحْوَهَا، وَإِنْ كَانَ بَعْضُهُمْ يَغْتَلُّ الثِّمَارَ فَهُوَ كَالسُّكْنَى، وَأَبْنَاؤُهُمْ وَأَبْنَاءُ أَبْنَائِهِمْ بِمَنْزِلَتِهِمْ لَا حَقَّ لَهُمْ فِيمَا عَمَّرَ الْأَبُ وَالْجَدُّ إلَّا أَنْ يَطُولَ الزَّمَانُ جِدًّا، وَلَا يَنْفَعُهُ أَنْ يَقُولَ وَرِثْت عَنْ أَبِي، وَأَبِي عَنْ جَدِّي، لَا أَدْرِي كَيْفَ كَانَ هَذَا الْحَقُّ فِي أَيْدِيهِمْ؟ إلَّا أَنْ يَأْتِيَ بِبَيِّنَةٍ عَلَى شَرْطِ الْأَصْلِ أَوْ عَطِيَّةٍ، وَكَذَلِكَ الصِّهْرُ وَالْوَلِيُّ عَلَى اخْتِلَافِ قَوْلِ ابْنِ الْقَاسِمِ فِيهِمْ، وَلَا خِلَافَ فِي أَنَّهَا تَكُونُ حِيَازَةً بِالتَّفْوِيتِ مِنْ الْبَيْعِ وَالْهِبَةِ وَالصَّدَقَةِ وَالْعِتْقِ وَالْكِتَابَةِ وَالْوَطْءِ وَإِنْ لَمْ تَطُلْ الْمُدَّةُ.
وَاخْتَلَفَ قَوْلُ ابْنِ الْقَاسِمِ فِي حِيَازَةِ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الْهَدْمِ وَالْبُنْيَانِ، فَقَالَ مَرَّةً: إنَّ الْعَشْرَ سِنِينَ حِيَازَةٌ.
وَقَالَ مَرَّةً: إنَّهَا لَا تَكُونُ حِيَازَةً إلَّا أَنْ يَطُولَ الْأَمْرُ، كَحِيَازَةِ الِابْنِ عَلَى أَبِيهِ أَزْيَدَ مِنْ أَرْبَعِينَ، وَمَا حَازَهُ بِالْكِرَاءِ كَالرَّجُلِ يُكْرِي ذَلِكَ لِنَفْسِهِ وَيَقْبِضُهُ بِحَضْرَةِ إخْوَتِهِ وَعِلْمِهِمْ، فَهُمْ فِي ذَلِكَ كَالْأَجَانِبِ.

.الْقِسْمُ الثَّالِثُ حِيَازَةُ الْقَرَابَةِ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ فِيمَا لَا شَرِكَةَ بَيْنَهُمْ فِيهِ:

وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّالِثُ: وَهُوَ حِيَازَةُ الْقَرَابَةِ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ فِيمَا لَا شَرِكَةَ بَيْنَهُمْ فِيهِ، فَمَرَّةً جَعَلَهُمْ ابْنُ الْقَاسِمِ كَالْقَرَابَةِ فِي الْإِشْرَاكِ، وَرَجَعَ عَنْ قَوْلِهِ بِأَنَّ الْحِيَازَةَ تَكُونُ بَيْنَهُمْ فِي الْعَشَرَةِ الْأَعْوَامِ مَعَ الْهَدْمِ وَالْبُنْيَانِ، إلَى أَنَّهُ لَا حِيَازَةَ بَيْنَهُمْ فِي ذَلِكَ إلَّا مَعَ الطُّولِ الْكَثِيرِ، وَمَرَّةً رَآهُمْ بِخِلَافِ الْإِشْرَاكِ، فَجَعَلَ الْحِيَازَةَ تَكُونُ بَيْنَهُمْ فِي الْعَشَرَةِ الْأَعْوَامِ مَعَ الْهَدْمِ وَالْبُنْيَانِ، فَيَتَحَصَّلُ فِيهِمَا جَمِيعًا ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ.
أَحَدُهَا: أَنَّ الْعَشَرَةَ الْأَعْوَامِ مَعَ الْهَدْمِ وَالْبُنْيَانِ حِيَازَةٌ فِيهِمَا جَمِيعًا.
وَالثَّانِي: أَنَّهَا لَيْسَتْ بِحِيَازَةٍ فِيهِمَا إلَّا مَعَ طُولِ الْمُدَّةِ.
الثَّالِثُ: الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا فَتَكُونُ حِيَازَةً فِي غَيْرِ الشُّرَكَاءِ.

.الْقِسْمُ الرَّابِعُ حِيَازَة الْمَوَالِي وَالْأَخْتَانِ وَالْأَصْهَارِ فِيمَا لَا شَرِكَةَ بَيْنَهُمْ فِيهِ:

وَأَمَّا الْقِسْمُ الرَّابِعُ: وَهُوَ حِيَازَةُ الْمَوَالِي وَالْأَخْتَانِ وَالْأَصْهَارِ فِيمَا لَا شَرِكَةَ بَيْنَهُمْ فِيهِ، فَمَرَّةً جَعَلَهُمْ ابْنُ الْقَاسِمِ كالأَجْنَبِيِّينَ.
الْعَشَرَةُ الْأَعْوَامِ بَيْنَهُمْ حِيَازَةٌ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ هَدْمٌ وَلَا بِنَاءٌ وَمَرَّةً جَعَلَهُمْ كَالْقَرَابَةِ الَّذِينَ لَا شِرْكَ بَيْنَهُمْ فَيَتَحَصَّلُ فِيهِمْ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ الْحِيَازَةَ تَكُونُ بَيْنَهُمْ فِي الْعَشَرَةِ الْأَعْوَامِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ هَدْمٌ وَلَا بِنَاءٌ.
وَالثَّانِي: أَنَّهَا لَا تَكُونُ بَيْنَهُمْ فِي الْعَشَرَةِ، إلَّا مَعَ الْهَدْمِ وَالْبِنَاءِ.
وَالثَّالِثُ: أَنَّهَا تَكُونُ بَيْنَهُمْ بِالْهَدْمِ وَالْبِنَاءِ إلَّا أَنْ يَطُولَ الزَّمَانُ جِدًّا، قَالَهُ ابْنُ الْقَاسِمِ وَإِلَيْهِ رَجَعَ.
وَقَالَ أَصْبَغُ: هُمْ كَالْأَجَانِبِ إلَّا مَنْ كَانَ مِنْهُمْ مُخَالِطًا جِدًّا أَوْ وَكِيلًا قَالَ ابْنُ رَاشِدٍ: يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْخِلَافُ فِي حَالٍ، فَمَنْ عَلِمَ الْمُسَامَحَةَ وَأَشْكَلَ أَمْرُهُ فَهُوَ حَقُّهُ وَإِنْ طَالَتْ السُّنُونَ، وَمَنْ عُلِمَ مِنْهُ الْمُشَاحَةُ فَيَكُونُ كَالْأَجْنَبِيِّ، وَمَا قَالَهُ ابْنُ رَاشِدٍ ذَكَرَهُ ابْنُ الْعَطَّارِ فَقَالَ: وَقَدْ قِيلَ أَيْضًا فِي الْأَقَارِبِ إنَّ ذَلِكَ فِي الْبُلْدَانِ الَّتِي يُعْرَفُ مِنْ أَهْلِهَا أَنَّهُمْ يُسْرِعُونَ بِهَا لِأَقَارِبِهِمْ وَأَصْهَارِهِمْ وَمَوَالِيهِمْ، وَإِنْ كَانُوا بِمَوْضِعٍ لَا يُعْرَفُ هَذَا فِيهِ، انْقَطَعَتْ الْحُجَّةُ بِاعْتِمَادٍ دُونَ هَذِهِ الْمُدَّةِ وَكَانُوا كالْأَجْنَبِيِّينَ.
وَذَكَرَهُ ابْنُ رُشْدٍ فِي الِاسْتِحْقَاقِ أَوْضَحَ مِنْ هَذَا، وَقَالَ: إنَّمَا الِاخْتِلَافُ الْمَذْكُورُ إذَا جُهِلَ حَالُهُمْ عَلَى مَاذَا يُحْمَلُ أَمْرُهُمْ، فَمَرَّةً حَمَلَهُمْ مَحْمَلَ الْقَرَابَةِ وَمَرَّةً حَمَلَهُمْ مَحْمَلَ الْأَجْنَبِيِّينَ، وَهَذَا خِلَافُ مَا قَالَهُ ابْنُ رَاشِدٍ، وَهُمْ فِي الْبَيْعِ وَمَا ذَكَرَ مَعَهُ كَالْأَجَانِبِ.

.الْقِسْمُ الْخَامِسُ حِيَازَةُ الْأَجْنَبِيِّينَ الْإِشْرَاكَ:

وَهُوَ حِيَازَةُ الْأَجْنَبِيِّينَ الْإِشْرَاكَ فَلَا حِيَازَةَ بَيْنَهُمْ فِي الْعَشَرَةِ الْأَعْوَامِ إذَا لَمْ يَكُنْ هَدْمٌ وَلَا بِنَاءٌ وَتَكُونُ مَعَ الْهَدْمِ وَالْبِنَاءِ، وَلَا يَدْخُلُ اخْتِلَافُ قَوْلِ ابْنِ الْقَاسِمِ فِي ذَلِكَ، وَقِيلَ: إنَّهُ يَدْخُلُ فِي ذَلِكَ.

.الْقِسْمُ السَّادِسُ حِيَازَةُ الْأَجَانِبِ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ فِيمَا لَا شَرِكَةَ بَيْنَهُمْ فِيهِ:

وَأَمَّا الْقِسْمُ السَّادِسُ: وَهُوَ حِيَازَةُ الْأَجَانِبِ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ فِيمَا لَا شَرِكَةَ بَيْنَهُمْ فِيهِ فَقَدْ تَقَدَّمَ فِيهِ الْكَلَامُ وَالْمَشْهُورُ أَنَّ الْحِيَازَةَ تَكُونُ بَيْنَهُمْ فِي الْعَشَرَةِ الْأَعْوَامِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ هَدْمٌ وَلَا بُنْيَانٌ وَلِابْنِ الْقَاسِمِ أَنَّهَا لَا تَكُونُ حِيَازَةً إلَّا مَعَ الْهَدْمِ وَالْبُنْيَانِ.
تنبيه:
ذِكْرُهُمْ الْهَدْمَ وَالْبُنْيَانَ ظَاهِرُهُ سَوَاءٌ كَانَ بِنَاءَ تَرْمِيمٍ وَإِصْلَاحٍ أَوْ بِنَاءَ تَوَسُّعٍ، وَكَذَلِكَ الْهَدْمُ ظَاهِرُهُ سَوَاءٌ كَانَ هَدْمَ مَا يُخْشَى سُقُوطُهُ أَوْ هَدْمَ مَا لَا يُخْشَى سُقُوطُهُ، لَيُوَسِّعَ وَيَبْنِيَ مَسْكَنًا أَوْ مَسَاكِنَ وَلَيْسَ كَذَلِكَ، وَاَلَّذِي يَنْفَعُ فِي الْحِيَازَةِ هُوَ الْهَدْمُ وَالْبِنَاءُ وَالتَّوَسُّعُ وَإِزَالَةُ مَا لَا يُخْشَى سُقُوطُهُ، لِأَنَّ عُرْفَ النَّاسِ وَعَادَتَهُمْ أَنَّهُمْ يَأْذَنُونَ لِلسَّاكِنِ فِي الرَّمِّ وَإِصْلَاحِ مَائِهَا مِنْ الْكِرَاءِ، وَلَا يَأْذَنُونَ فِي زِيَادَةِ مَسْكَنٍ مِنْ اللَّخْمِيِّ.

.فَصَلِّ مُجَرَّدَ الْحِيَازَةِ لَا تَنْقُلُ الْمِلْكَ عَنْ الْمَحُوزِ عَنْهُ إلَى الْحَائِزِ:

فَصْلٌ: قَالَ ابْنُ رَاشِدٍ: الِاتِّفَاقُ عَلَى أَنَّ مُجَرَّدَ الْحِيَازَةِ لَا تَنْقُلُ الْمِلْكَ عَنْ الْمَحُوزِ عَنْهُ إلَى الْحَائِزِ، وَلَكِنَّهَا تَدُلُّ عَلَى الْمِلْكِ كَإِرْخَاءِ السِّتْرِ وَمَعْرِفَةِ الْعِفَاصِ وَالْوِكَاءِ، فَيَكُونُ الْقَوْلُ قَوْلَ الْحَائِزِ مَعَ يَمِينِهِ إذَا حَازَهُ بِحَضْرَةِ صَاحِبِهِ وَادَّعَاهُ مِلْكًا لِنَفْسِهِ، بِابْتِيَاعٍ أَوْ هِبَةٍ أَوْ صَدَقَةٍ، وَصَاحِبُهُ حَاضِرٌ عَالِمٌ سَاكِتٌ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ عَلَى مَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ.

.فَصْلٌ لِلْمُدَّعِي إثْبَاتِ مَوْتِ مُوَرِّثِهِ إنْ كَانَ يَدَّعِي أَنَّهُ وَرِثَ ذَلِكَ:

فَصْلٌ: ولابد لِلْمُدَّعِي عَلَى الْحَائِزِ مِنْ إثْبَاتِ مَوْتِ مُوَرِّثِهِ إنْ كَانَ يَدَّعِي أَنَّهُ وَرِثَ ذَلِكَ، وَمِلْكَ مُوَرِّثِهِ لَهُ وَإِنْ كَانَ يَدَّعِي عَلَى أَنَّهُ مِلْكُهُ، فلابد مِنْ إثْبَاتِ مِلْكِهِ لَهُ قَبْلَ أَنْ يُسْأَلَ الْحَائِزَ عَنْ شَيْءٍ، وَهَذَا تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ فِي أَوَّلِ الْكِتَابِ فِي فَصْلِ التَّوْقِيفِ فَانْظُرْهُ.

.فَصْلٌ فِي صِفَةِ الشَّهَادَةِ عَلَى الْحِيَازَةِ:

وَفِي فِقْهِ وَثَائِقِ ابْنِ الْعَطَّارِ، إذَا قَامَ رَجُلٌ فِي دَارٍ وَأَمْلَاكٍ يَدَّعِيهَا لِنَفْسِهِ أَوْ لِمُوَرِّثِهِ وَأَثْبَتَ الْمِلْكَ لَهَا، وَكَانَتْ فِي يَدِ مُعْتَرِضٍ لَهَا، فَإِنْ تَوَافَقَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ عَلَى حُدُودِهَا، وَجَبَ الْإِعْزَازُ إلَى الْمُعْتَرِضِ فِي الشُّهُودِ وَالْقَضَاءِ عَلَيْهِ إنْ عَجَزَ، وَالتَّسْجِيلِ دُونَ حِيَازَةِ الشُّهُودِ لَهَا.
وَإِنْ سَأَلَ الطَّالِبُ مِنْ الْقَاضِي الْإِنْزَالَ فِيهَا، أَوْ وَقَعَ تَخَالُفٌ فِي بَعْضِ حُدُودِهَا حَازَهَا الشُّهُودُ الْمَقْبُولُونَ، وَلَا يُكَلِّفُ الْقَاضِي شُهُودَ الْحِيَازَةِ أَنْ يَحُوزُوا مَا شَهِدُوا بِهِ مِنْ الرِّبَاعِ وَلَوْ كَانَ الْمَوْضِعُ قَرِيبًا، لَكِنْ يَأْمُرُ الْمَشْهُودَ لَهُ بِالرَّغْبَةِ إلَيْهِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ مَعِينِ الْحُكَّامِ، وَإِذَا تَوَجَّهَ شُهُودُ الْحِيَازَةِ لِيَحُوزُوا الْمِلْكَ، بَعَثَ الْقَاضِي مَعَهُمْ شَاهِدَيْ عَدْلٍ يَحْضُرَانِ حِيَازَةَ الشُّهُودِ.
وَفِي الطُّرُرِ: وَإِنَّمَا اُحْتِيجَ إلَى مُوَجِّهِي الْقَاضِي فِي الْحِيَازَةِ مَخَافَةَ أَنْ يَمُوتَ شُهُودُ الْحَقِّ، وَيُعْزَلُ الْقَاضِي أَوْ يَمُوتُ فَيَشْهَدُ الْمُوَجِّهَانِ عَلَى الْحِيَازَةِ فَيَتِمُّ الْقَوْلُ بِهِمَا، وَلَا تَعْمَلُ الْحِيَازَةُ شَيْئًا حَتَّى يَقُولَ الشَّاهِدَانِ بِحَضْرَةِ الْحَائِزَيْنِ، هَذَا الَّذِي شَهِدْنَا فِيهِ عِنْدَ فُلَانٍ قَاضِي الْجَمَاعَةِ، وَإِنْ وَقَفَا إلَى الْعَقَارِ وَعَيَّنَاهُ وَلَمْ يَقُولَا هَذَا كَانَ جَهْلًا مِنْهُمَا وَمِنْ الْحَاضِرِينَ لِحِيَازَتِهِمَا، أَوْ لَمْ تَعْمَلْ الْحِيَازَةُ وَالشَّهَادَةُ شَيْئًا حَتَّى يُوقَفَا عَلَى هَذَا وَيَقُولَا بِهِ وَتَسْتَبِينَ بِهِ الشَّهَادَةُ.
وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: وَلَا يَحْضُرُ حِيَازَةَ الشَّهِيدَيْنِ فِي الْمِلْكِ الَّذِي شَهِدَا فِيهِ شَاهِدَانِ يَعْرِفَانِ عَيْنَ ذَلِكَ الْمِلْكِ وَحُدُودَهُ، أَوْ يَكُونُ الْمِلْكُ الْمَشْهُودُ بِهِ لَهُ حُدُودٌ مَشْهُورَةٌ لَا تَخْفَى مَعْرِفَتُهَا، مِثْلَ: أَنْ يَكُونَ فِي الْقِبْلَةِ مِنْهُ أَوْ نَاحِيَةٍ غَيْرِهَا فُرْنٌ، أَوْ حَمَّامٌ أَوْ دَرْبٌ وَحَوَانِيتُ، أَوْ رَحْبَةٌ يُشْرَعُ بَابُهُ إلَيْهَا وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ، مِنْ الْأَعْلَامِ الْمُثَبِّتَةِ الَّتِي يَعْلَمُ الشَّاهِدَانِ الْحِيَازَةَ بِالنَّظَرِ إلَيْهَا، أَنَّهَا الْحُدُودُ الَّتِي قَالَ الشَّاهِدَانِ فِي الْمِلْكِ عِنْدَ الْقَاضِي الْمَحْدُودِ بِهِ، لِأَنَّ شَهَادَةَ الْحَاضِرَيْنِ لِلْحِيَازَةِ لَا تَتِمُّ حَتَّى يَقُولَا: إنَّ شَهِيدَيَّ حَازَا بِمَحْضَرِهِمَا هَذَا الْمِلْكَ وَعَيَّنَا هَذِهِ الْحُدُودَ.
فَإِذَا لَمْ يَعْرِفَا الْمِلْكَ وَلَا عَيَّنَا الْحُدُودَ لَمْ يَنْتَفِعْ بِمَحْضَرِهِمَا لِلْحِيَازَةِ، لِأَنَّهُ إذَا قَالَ الشَّهِيدَانِ فِي ذَلِكَ، هَذَا الْمِلْكُ الَّذِي شَهِدْنَا فِيهِ عِنْدَ الْقَاضِي، وَالْحَاضِرُ أَنَّ لِلْحِيَازَةِ لَا يَعْرِفَانِهِ فَهُوَ كَشَهَادَتِهِمَا أَوَّلًا عِنْدَ الْقَاضِي، وَتَكُونُ شَهَادَةُ الْحَاضِرَيْنِ لِلْحِيَازَةِ زُورًا، لِأَنَّهُمَا يَشْهَدَانِ أَنَّ الشَّهِيدَيْنِ فِي أَصْلِ الْمِلْكِ حَازَا الدَّارَ، وَالْمِلْكُ الَّذِي شَهِدَا فِيهِ عِنْدَ الْقَاضِي لَا يَعْرِفَانِ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ هُوَ الْمِلْكُ أَمْ لَا، وَلَوْ قَالَا: إنَّ الشَّهِيدَيْنِ فِي الْمِلْكِ عَيَّنَا بِحَضْرَتِهِمَا دَارًا، قَالَا: إنَّهَا الَّتِي شَهِدْنَا فِيهَا عِنْدَ الْقَاضِي، لَمْ تَعْمَلْ شَهَادَتُهُمَا فِي الْحِيَازَةِ شَيْئًا حَتَّى يَقْطَعَا أَنَّهُمَا حَازَا بِحَضْرَتِهِمَا الشَّيْءَ الَّذِي شُهِدَ فِيهِ لِمَعْرِفَتِهِمَا لِعَيْنِ الشَّيْءِ الْمَحُوزِ، وَإِنْ كَانَا لَا يَعْرِفَانِ مِلْكَ الْمَشْهُودِ لَهُ أَوْ بِوُقُوفِهِمَا عَلَى صِحَّةِ حُدُودِهِ وَبِاشْتِهَارِ أَعْلَامِهِ، قَالَ وَهَذَا مِنْ دَقِيقِ الْفِقْهِ وَقَلَّ مَنْ يَعْرِفُهُ.
مَسْأَلَةٌ:
وَفِي الطُّرُرِ: الْمُوَجَّهُ مِنْ قِبَلِ الْقَاضِي لِلْحِيَازَةِ بِمَنْزِلَةِ الْمُوَجَّهِ مِنْ قِبَلِهِ لِلْأَعْذَارِ يَجْزِي فِيهِ وَاحِدٌ عَدْلٌ.
تنبيه:
الْغَائِبُ وَإِنْ كَانَتْ غَيْبَتُهُ قَرِيبَةً فَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى عَدَمِ الْعِلْمِ حَتَّى يَثْبُتَ عَلَيْهِ الْعِلْمُ، وَالْحَاضِرُ مَحْمُولٌ عَلَى الْعِلْمِ حَتَّى يَتَبَيَّنَ أَنَّهُ لَمْ. يَعْلَمْ قَالَهُ ابْنُ رُشْدٍ.

.فَصْلٌ قُضِيَ لِلرَّجُلِ عَلَى الرَّجُلِ بِالدَّارِ أَوْ غَيْرِهَا:

فَصْلٌ: وَفِي مُخْتَصَرِ الْوَاضِحَةِ: وَإِذَا قُضِيَ لِلرَّجُلِ عَلَى الرَّجُلِ بِالدَّارِ أَوْ غَيْرِهَا مِنْ الْأَشْيَاءِ، فَلَمْ يُخْرِجْهُ الْمَقْضِيُّ مِنْ يَدِ الْمَقْضِيِّ عَلَيْهِ حَتَّى تَقَادَمَ زَمَانُهُ، وَحَازَهُ عَلَيْهِ بَعْدَ أَنْ قُضِيَ لَهُ بِهِ، فَذَلِكَ لَا يُسْقِطُ حَقَّ الْمَقْضِيِّ لَهُ، وَنَحْوُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي الْبَيَانِ.

.فَصْلٌ إذَا عُرِفَ أَصْلُ دُخُولِ الْحَائِزِ فِي الْمِلْكِ:

مِثْلَ: أَنْ يَكُونَ دُخُولُهُ بِكِرَاءٍ أَوْ عَارِيَّةٍ أَوْ غَصْبٍ أَوْ إعْمَارٍ، فَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى ذَلِكَ وَلَا يُنْتَفَعُ بِحِيَازَتِهِ حَتَّى يَأْتِيَ بِأَمْرٍ مُحَقَّقٍ مِنْ شِرَاءٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ هِبَةٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ، إلَّا أَنْ يَطُولَ زَمَانُ ذَلِكَ جِدًّا كَالْخَمْسِينَ سَنَةً وَنَحْوِهَا، وَيَكُونُ الْمَقْضِيُّ عَلَيْهِ قَدْ أَحْدَثَ بِنَاءً وَغَرْسًا بِحَضْرَةِ الطَّالِبِ وَهُوَ سَاكِتٌ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ فَذَلِكَ قَطْعٌ لِحُجَّتِهِ.

.فَصْلٌ حُكْمُ تَفْوِيتِ الْأَجْنَبِيِّ مِلْكَ الْأَجْنَبِيِّ:

فَصْلٌ: وَحُكْمُ تَفْوِيتِ الْأَجْنَبِيِّ مِلْكَ الْأَجْنَبِيِّ بِبَيْعٍ وَنَحْوِهِ، وَتَفْوِيتِ الْقَرَابَةِ ذَلِكَ بِالْبَيْعِ أَوْ الْوَطْءِ أَوْ الْعِتْقِ يَفْتَرِقُ الْجَوَابُ فِيهِ، وَفِيهِ تَفْصِيلٌ بَيْنَ أَنْ يَفُوتَ الْكُلُّ أَوْ الْأَكْثَرُ أَوْ الْأَقَلُّ أَوْ النِّصْفُ، فَانْظُرْ ذَلِكَ فِي الْبَيَانِ وَالتَّحْصِيلِ لِابْنِ رُشْدٍ مُسْتَوْفًى.

.الْبَابُ السَّابِعُ وَالسِّتُّونَ فِي الْقَضَاءِ بِشَهَادَةِ الْعِفَاصِ وَالْوِكَاءِ:

وَيَجِبُ رَدُّ اللُّقَطَةِ بِالْبَيِّنَةِ أَوْ نَكَلَ بِصِفَتِهَا مِنْ نَحْوِ عِفَاصِهَا وَوِكَائِهَا وَهُمَا الْمَشْهُودُ فِيهِ وَبِهِ.
مَسْأَلَةٌ:
قَالَ ابْنُ رُشْدٍ: فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وِعَاءٌ وَلَا خَيْطٌ فَالْمُعْتَبَرُ صِفَتُهَا الْخَاصَّةُ بِهَا.
فرع:
وَفِي اعْتِبَارِ الدَّنَانِيرِ وَسِكَّتِهَا وَوَزْنِ الدَّرَاهِمِ وَسِكَّتِهَا قَوْلَانِ: الِاعْتِبَارُ لِابْنِ الْقَاسِمِ وَنَفْيُهُ لِأَصْبَغَ.
فرع:
وَفِي إلْزَامِهِ الْيَمِينَ مَعَ الصِّفَةِ قَوْلَانِ: أَلْزَمَهُ أَشْهَبُ دُونَ غَيْرِهِ، وَتَرْكُ الْإِلْزَامِ هُوَ الصَّوَابُ، لِأَنَّ الْيَمِينَ لَمْ تَرِدْ فِي الْحَدِيثِ، وَاسْتَحْسَنَ اللَّخْمِيُّ أَنْ يَحْلِفَ، فَإِنْ نَكَلَ دُفِعَتْ إلَيْهِ.
وَفِي الْمُتَيْطِيَّةِ: قَالَ ابْنُ حَبِيبٍ: إنْ نَكَلَ عَنْ الْيَمِينِ فَلَا شَيْءَ لَهُ.
مَسْأَلَةٌ:
وَيَجْتَزِي بِبَعْضِ الصِّفَاتِ الْمُغَلِّبَةِ عَلَى الظَّنِّ صِدْقَ صَاحِبِهَا هَذَا هُوَ الصَّحِيحُ، وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ: لَوْ أَصَابَ تِسْعَةَ أَعْشَارِ الصِّفَةِ وَأَخْطَأَ الْعُشْرَ لَمْ يُعْطَهَا إلَّا فِي صُورَةٍ وَاحِدَةٍ وَهِيَ أَنْ يَذْكُرَ عَدَدًا فَيُوجَدَ أَقَلَّ مِنْهُ، لِأَنَّهُ قَدْ يُنْفِقُ مَا نَقَصَ وَيَنْسَى، وَأَمَّا الصِّفَاتُ فَلَا يَنْسَاهَا.
فرع:
وَقَالَ أَشْهَبُ: إنْ عَرَّفَ مِنْهَا وَصْفَيْنِ وَلَمْ يُعَرِّفْ الثَّالِثَ دُفِعَتْ إلَيْهِ وَهَذَا أَصَحُّ عَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ، لِأَنَّ فِي الْحَدِيثِ الِاكْتِفَاءُ بِوَصْفَيْنِ.
فرع:
وَفِي الْمُتَيْطِيَّةِ: إذَا عَرَّفَ وَصْفَيْنِ أَوْ عَرَّفَ الْوِكَاءَ وَلَمْ يُعَرِّفْ مَا سِوَاهُ، فَإِنَّهُ يَحْلِفُ وَيَأْخُذُهَا، فَإِنْ نَكَلَ لَمْ تُدْفَعْ إلَيْهِ، فَإِنْ عَادَ إلَى أَنْ يَحْلِفَ، فَأَجَازَ أَشْهَبُ أَنْ يُدْفَعَ إلَيْهِ بِوَجْهٍ وَاحِدٍ وَهُوَ إذَا عَرَّفَ الْوِكَاءَ.
فرع:
وَلَوْ عَرَّفَ الْعِفَاصَ وَحْدَهُ فَلْيَسْتَأْنِ بِهَا فَإِنْ جَاءَ أَحَدٌ وَإِلَّا دُفِعَتْ إلَيْهِ.
فرع:
وَإِنْ ادَّعَاهَا رَجُلَانِ وَاتَّفَقَتْ صِفَتُهُمَا اقْتَسَمَاهَا بَعْدَ أَيْمَانِهِمَا، فَإِنْ نَكَلَ أَحَدُهُمَا كَانَتْ لِمَنْ حَلَفَ، قَالَ أَشْهَبُ: فَإِنْ نَكَلَا لَمْ تُدْفَعْ لَهُمَا، وَإِنْ زَادَ أَحَدُهُمَا صِفَةً قُضِيَ لَهُ بِهَا مِثْلَ أَنْ يَصِفَا الْعِفَاصَ وَالْوِكَاءَ وَيَزِيدَ أَحَدُهُمَا الْعَدَدَ أَوْ السِّكَّةَ.
فرع:
وَاخْتُلِفَ إذَا أَخْلَفَتْ صِفَتَاهُمَا، فَوَصَفَ أَحَدُهُمَا الْبَاطِنَ الْعَدَدَ وَالسِّكَّةَ، وَالْآخَرُ الظَّاهِرَ الْعِفَاصَ وَالْوِكَاءَ، فَقِيلَ: مَنْ وَصَفَ الْعِفَاصَ وَالْوِكَاءَ أَحَقُّ لِلْحَدِيثِ.
وَقَالَهُ أَشْهَبُ، قَالَ: وَكَذَلِكَ لَوْ عَرَّفَ الْعِفَاصَ وَحْدَهُ، وَقِيلَ: يَقْتَسِمَانِهَا، وَقَالَهُ أَصْبَغُ: قَالَ الشَّيْخُ أَبُو الْحَسَنِ وَهُوَ أَبْيَنُ.
فرع:
وَإِنْ أَخَذَهَا رَجُلٌ بِالصِّفَةِ ثُمَّ أَتَى آخَرُ فَوَصَفَ مِثْلَ الْأَوَّلِ قَبْلَ أَنْ يَبِينَ بِهَا وَيَظْهَرَ أَمْرُهَا، قُسِمَتْ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ، قَالَ الشَّيْخُ أَبُو الْحَسَنِ: وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ مِنْ الْقَوْلِ.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي زَمَنِينَ: إذَا جَاءَ آخَرُ فَعَرَّفَ مِثْلَ ذَلِكَ فَلَا شَيْءَ لَهُ، كَذَلِكَ ذَكَرَ بَعْضُ الرُّوَاةِ عَنْ ابْنِ الْقَاسِمِ قَالَ: وَذَكَرَ بَعْضُ الرُّوَاةِ عَنْ أَشْهَبَ: أَنَّهُ إذَا أَقَامَ الثَّانِي بَيِّنَةً لَهُ أَخَذَهَا مِنْ الَّذِي قَبَضَهَا، إلَّا أَنْ يُقِيمَ هُوَ أَيْضًا بَيِّنَةً، وَتَتَكَافَأَ الْبَيِّنَتَانِ وَلَمْ تُؤَرَّخْ فَتَبْقَى لِلْأَوَّلِ، وَلَوْ أُرِّخَتْ الْبَيِّنَتَانِ لَقُضِيَ بِأَوَّلِهِمَا تَارِيخًا.
فرع:
وَقَالَ ابْنُ الْمَاجِشُونِ: إذَا جَاءَ رَجُلٌ فَوَصَفَ أَوْ أَقَامَ بَيِّنَةً فَقَالَ: دَفَعْتهَا لِمَنْ وَصَفَهَا وَلَا أَعْرِفُهُ وَلَا أَشْهَدُ عَلَيْهِ ضَمِنَهَا، لِأَنَّهُ فَرَّطَ إذْ دَفَعَ بِغَيْرِ بَيِّنَةٍ يُرِيدُ إذَا لَمْ يُعْلَمْ دَفْعُهَا إلَّا مِنْ قَوْلِهِ، وَلَوْ عُلِمَ أَنَّهَا دُفِعَتْ بِصِفَةٍ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ شَيْءٌ، وَلَا أَعْرِفُ الْآنَ مَنْ هُوَ.
فرع:
قَالَ سَحْنُونٌ: إذَا وَصَفَ سِكَّةَ الدَّنَانِيرِ لَمْ تُعْطَ لَهُ بِذَلِكَ حَتَّى يَذْكُرَ عَلَامَةً.
وَقَالَ يَحْيَى بْنُ عُمَرَ يَأْخُذُهَا بِذَلِكَ يُرِيدُ إذَا كَانَتْ دَنَانِيرَ الْبَلَدِ سِكَكًا، فَإِنْ كَانَتْ سِكَّةً وَاحِدَةً لَمْ تُدْفَعْ إلَيْهِ قَوْلًا وَاحِدًا.

.الْبَابُ الثَّامِنُ وَالسِّتُّونَ فِي الْقَضَاءِ بِالْقُرْعَةِ:

قَالَ الْقَرَافِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي الْفَرْقِ الْأَرْبَعِينَ وَالْمِائَتَيْنِ: اعْلَمْ أَنَّهُ مَتَى تَعَيَّنَتْ الْمَصْلَحَةُ أَوْ أَلْحَقَ فِي جِهَةٍ فَلَا يَجُوزُ الْإِقْرَاعُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ، لِأَنَّ فِي الْقُرْعَةِ ضَيَاعَ ذَلِكَ الْحَقِّ الْمُعَيَّنِ وَالْمَصْلَحَةِ الْمُتَعَيِّنَةِ، وَمَتَى تَسَاوَتْ الْحُقُوقُ وَالْمَصَالِحُ، فَهَذَا هُوَ مَوْضِعُ الْقُرْعَةِ عِنْدَ التَّنَازُعِ دَفْعًا لِلضَّغَائِنِ وَالْأَحْقَادِ وَالرِّضَا بِمَا جَرَتْ بِهِ الْأَقْدَارُ، انْتَهَى.
وَهِيَ مَشْرُوعَةٌ فِي مَوَاضِعَ.
أَحَدُهَا: بَيْنَ الْخُلَفَاءِ إذَا اسْتَوَتْ فِيهِمْ الْأَهْلِيَّةُ لِلْوِلَايَةِ.
ثَانِيهَا: بَيْنَ الْأَئِمَّةِ لِلصَّلَاةِ إذَا اسْتَوَوْا.
ثَالِثُهَا: بَيْنَ الْمُؤَذِّنِينَ فِي الْمَغْرِبِ مَعَ الِاسْتِوَاءِ أَيْضًا عَلَى مَا ذَكَرَهُ ابْنُ شَاسٍ.
رَابِعُهَا: لِلتَّقَدُّمِ لِلصَّفِّ الْأَوَّلِ عِنْدَ الزِّحَامِ.
خَامِسُهَا: فِي تَغْسِيلِ الْأَمْوَاتِ عِنْدَ تَزَاحُمِ الْأَوْلِيَاءِ وَتُسَاوِيهِمْ فِي الطَّبَقَاتِ.
سَادِسُهَا: فِي الْحَضَانَةِ، فَفِي التَّوْضِيحِ وَتَدْخُلُ الْقُرْعَةُ بَيْنَ الْأَبِ وَالْأُمِّ عِنْدَ إثْغَارِ الذَّكَرِ لِحَدِيثٍ وَرَدَ فِي ذَلِكَ، وَهُوَ اخْتِيَارُ ابْنِ الْقَصَّارِ وَابْنِ رَاشِدٍ وَغَيْرِهِمَا أَنْظُرْهُ فِي قَوْلِ ابْنِ الْحَاجِبِ. وَحَضَانَةُ الذَّكَرِ حَتَّى يَحْتَلِمَ.
سَابِعُهَا: عِنْدَ الزَّوْجَاتِ عِنْدَ إرَادَةِ السَّفَرِ.
ثَامِنُهَا: فِي بَابِ الْقِسْمَةِ بَيْنَ الشُّرَكَاءِ فِي الْأُصُولِ وَالْحَيَوَانِ، وَالْعُرُوضِ وَالنُّقُودِ وَالْمَصَاغِ إذَا اسْتَوَى فِيهِ الْوَزْنُ وَالْقِيمَةُ، وَفِي ذَلِكَ تَفْصِيلٌ وَاخْتِلَافٌ مَحِلُّهُ كُتُبُ الْفِقْهِ.
تَاسِعُهَا: بَيْنَ الْخُصُومِ فِي التَّقَدُّمِ إلَى الْحَاكِمِ فِي الْحُكْمِ.
عَاشِرُهَا: بَيْنَ الْخَصْمَيْنِ فِيمَنْ تَكُونُ مُحَاكَمَتُهُمَا عِنْدَهُ.
حَادِيَ عَشْرَتِهَا: فِي عِتْقِ الْعَبِيدِ إذَا أَوْصَى بِعِتْقِهِمْ أَوْ بِثُلُثِهِمْ فِي الْمَرَضِ ثُمَّ مَاتَ، وَلَمْ يَحْمِلْهُمْ الثُّلُثُ عَتَقَ مَبْلَغُ الثُّلُثِ مِنْهُمْ بِالْقُرْعَةِ.
ثَانِيَ عَشَرَتِهَا: إذَا زَحَمَ اثْنَانِ عَلَى اللَّقِيطِ فَالسَّابِقُ أَوْلَى وَإِلَّا فَالْقُرْعَةُ.
ثَالِثَ عَشَرَتِهَا: إذَا اخْتَلَفَ الْمُتَبَايِعَانِ وَقُلْنَا: إنَّهُمَا يَتَحَالَفَانِ وَيَتَفَاسَخَانِ، وَاخْتُلِفَ فِيمَنْ يَبْدَأُ بِالْيَمِينِ فِيهِ أَقْوَالٌ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ يُقْرَعُ بَيْنَهُمَا، وَالْمَشْهُورُ تَقَدُّمُهُ الْبَائِعَ، وَكَذَلِكَ الزَّوْجَانِ يَخْتَلِفَانِ فِي قَدْرِ الصَّدَاقِ فَيَتَحَالَفَانِ.
رَابِعَ عَشْرَتَهَا: وَفِي الْمُتَيْطِيَّةِ أَنَّ كِتَابَةَ الْوَثَائِقِ وَالْمَكَاتِيبِ فَرْضٌ عَلَى مَنْ يَعْلَمُهَا إذَا لَمْ يَكُنْ فِي الْبَلَدِ سِوَاهُ، وَإِنْ كَانُوا جَمَاعَةً كَانَتْ مِنْ فُرُوضِ الْكِفَايَةِ فَإِنْ طَاعَ أَحَدُهُمْ سَقَطَتْ عَنْ الْبَاقِينَ، وَإِنْ امْتَنَعَ جَمِيعُهُمْ اقْتَرَعُوا فَمَنْ خَرَجَ اسْمُهُ كَتَبَ.
خَامِسَ عَشْرَتِهَا: فِي شَرْحِ الْجَلَّابِ فِيمَا يُبْدَأُ بِهِ مِنْ الْوَصَايَا إذَا اجْتَمَعَ عِتْقُ الظِّهَارِ وَعِتْقُ كَفَّارَةِ الْقَتْلِ وَضَاقَ الثُّلُثُ، فَأَحَدُ الْأَقْوَالِ فِي الْمَسْأَلَةِ أَنَّهُ يُقْرَعُ بَيْنَهُمَا، لِأَنَّهُ لَا يَصِحُّ عِتْقُ بَعْضِ الرَّقَبَةِ فَيُقْرَعُ بَيْنَهُمَا فَيَصِحُّ لِإِحْدَاهُمَا.
سَادِسَ عَشْرَتِهَا: إذَا انْكَسَرَتْ يَمِينٌ عَلَى الْأَوْلِيَاءِ فَالْمَشْهُورُ أَنَّهَا عَلَى أَكْثَرِهِمْ نَصِيبًا مِنْ الْأَيْمَانِ، وَقِيلَ: أَكْثَرُهُمْ نَصِيبًا مِنْ الْكَسْرِ، وَقِيلَ: يُقْرَعُ بَيْنَهُمْ عَلَيْهَا.
سَابِعَ عَشْرَتِهَا: إذَا تَقَارَبَتْ الْأَنَادِرُ وَأَرَادُوا الذَّرْوَ فَكَانَ يَخْتَلِطُ تِبْنُهُمْ إذَا ذَرُّوا جَمِيعًا فَيُقَالُ لَهُمْ: اقْتَرِعُوا عَلَى الذَّرْوِ، فَإِنْ أَبَوْا لَمْ يُجْبَرْ وَاحِدٌ مِنْهُمْ عَلَى قَلْعِ أَنْدَرِهِ، وَيُقَالُ لِمَنْ أَذْرَى عَلَى صَاحِبِهِ أَتَلِفَتْ تِبْنُك لَا شَيْءَ لَك مِنْ الطُّرَرِ.
ثَامِنَ عَشْرَتِهَا: إذَا زُفَّتْ إلَيْهِ امْرَأَتَانِ فِي لَيْلَةٍ أَقْرَعَ بَيْنَهُمَا، وَعَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ ذَلِكَ حَقٌّ لَهُ يَخْتَارُ.
تَاسِعَ عَشْرَتِهَا: يُقْرَعُ الْحَاكِمُ بَيْنَ الْخَصْمَيْنِ إذَا تَنَازَعَا فِيمَنْ هُوَ الْمُدَّعِي مِنْهُمَا، وَأَشْكَلَ عَلَى الْحَاكِمِ مَعْرِفَةُ الْمُدَّعِي، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذَلِكَ الْمُوفِي. الْعِشْرُونَ: تُقْسَمُ الْغَنِيمَةُ خَمْسَةَ أَخْمَاسٍ، فَإِذَا اعْتَدَلَتْ ضُرِبَ عَلَيْهَا بِالْقُرْعَةِ، فَإِذَا تَعَيَّنَ الْخُمُسُ أُفْرِدَ، ثُمَّ جُمِعَتْ الْأَرْبَعَةُ الْأَخْمَاسِ فَبِيعَتْ وَقُسِمَ ثَمَنُهَا أَوْ قُسِمَتْ الْغَنِيمَةُ بِأَعْيَانِهَا مِنْ أَهْلِ الْجَيْشِ عَلَى مَا فِي ذَلِكَ مِنْ الْخِلَافِ.
الْحَادِيَ وَالْعِشْرُونَ: إذَا اجْتَمَعَتْ الْجَنَائِزُ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ وَاسْتَوَى الْأَوْلِيَاءُ فِي الْفَضْلِ وَتَشَاحُّوا فِي التَّقَدُّمِ أُقْرِعَ بَيْنَهُمْ.
الثَّانِيَ وَالْعِشْرُونَ: إذَا اجْتَمَعَ الْخُصُومُ عِنْدَ الْقَاضِي وَفِيهِمْ مُسَافِرُونَ وَمُقِيمُونَ، وَخَافَ الْمُسَافِرُونَ فَوَاتَ الرُّفْقَةِ، قُدِّمُوا إلَّا أَنْ يَكْثُرُوا كَثْرَةً يَلْحَقُ الْمُقِيمِينَ مِنْهَا الضَّرَرُ فَيُقْرَعُ بَيْنَهُمْ، ذَكَرَهُ الْمَازِرِيُّ.

.الْبَابُ التَّاسِعُ وَالسِّتُّونَ فِي الْقَضَاءِ بِالْقَافَةِ:

قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ الْأَصْلُ فِي الْقَوْلِ بِالْقَافَةِ حَدِيثُ مُجَزِّزٍ الْمُدْلِجِيِّ فِي إثْبَاتِ نَسَبِ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ، وَتَشْبِيهُهُ الْأَقْدَامَ بَعْضَهَا بِبَعْضٍ وَإِنْ اخْتَلَفَا فِي اللَّوْنِ، فَإِنَّ زَيْدًا كَانَ أَبْيَضَ وَأُسَامَةَ كَانَ أَسْوَدَ، وَرُوِيَ أَيْضًا أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حَكَمَ بِقَوْلِ الْقَافَةِ.
مَسْأَلَةٌ:
وَاخْتُلِفَ عَنْ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ هَلْ يُجْتَزَى فِي ذَلِكَ بِقَائِفٍ وَاحِدٍ كَالْإِخْبَارِ وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ الْقَاسِمِ، أَوْ لابد مِنْ قَائِفَيْنِ وَهِيَ رِوَايَةٌ عَنْ أَشْهَبَ عَنْ مَالِكٍ.
وَقَالَهُ ابْنُ دِينَارٍ، وَرَوَاهُ ابْنُ نَافِعٍ عَنْ مَالِكٍ وَوَجْهُهُ أَنَّهُ كَالشَّهَادَةِ.
قَالَ بَعْضُ الشُّيُوخِ: وَالْقِيَاسُ عَلَى أُصُولِهِمْ أَنْ يُحْكَمَ بِقَوْلِ الْقَائِفِ الْوَاحِدِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَدْلًا، وَرِوَايَةُ ابْنِ حَبِيبٍ عَنْ مَالِكٍ: أَنَّهُ يَشْتَرِطُ الْعَدَالَةَ فِي الْوَاحِدِ، وَرَوَى ابْنُ وَهْبٍ عَنْ مَالِكٍ الِاجْتِزَاءَ بِقَوْلٍ وَاحِدٍ كَمَا تَقَدَّمَ عَنْ ابْنِ الْقَاسِمِ وَلَمْ يَشْتَرِطْ الْعَدَالَةَ.
فرع:
اُخْتُلِفَ فِي ثُبُوتِ النَّسَبِ بِهَا هَلْ يَكُونُ لِوَاحِدٍ أَوْ لِاثْنَيْنِ؟ نَقَلَ الصُّرَدِيُّ فِي كِتَابِهِ نِهَايَةِ الرَّائِضِ فِي عِلْمِ الْفَرَائِضِ، قَالَ مَذْهَبُ مَالِكٍ: أَنَّهُ يَكُونُ لِلرَّجُلِ أَبَوَانِ فَمَنْ أَلْحَقَتْهُ بِهِ كَانَ بِسَبِيلِهِ، وَكَانَتْ الْأَمَةُ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ وَغُرِّمَ لِشَرِيكِهِ قِيمَةَ نَصِيبِهِ انْتَهَى.
فَإِنْ أَشْرَكَهُمَا الْقَافَةُ فِيهِ كَانَ ابْنًا لَهُمَا جَمِيعًا فِي قَوْلِ ابْنِ الْقَاسِمِ وَغَيْرِهِ، وَيَكُونُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ نِصْفُ نَفَقَتِهِ وَكِسْوَتِهِ وَجَمِيعِ مَئُونَتِهِ، فَإِذَا بَلَغَ وَالَى مَنْ شَاءَ مِنْهُمَا فَيَكُونُ ابْنًا لَهُ خَاصَّةً، وَقِيلَ: لَا يُقْبَلُ قَوْلُ الْقَائِفِ فِي الْإِشْرَاكِ، وَيُدْعَى غَيْرُهُ حَتَّى يُلْحِقَهُ شَبَهًا.
وَيُؤَيِّدُ هَذَا الْقَوْلَ مَا نَقَلَهُ الْقَرَافِيُّ فِي الْقَوَاعِدِ فِي الْفَرْقِ الثَّامِنِ وَالثَّلَاثِينَ وَالْمِائَتَيْنِ، أَنَّ رَجُلَيْنِ تَنَازَعَا مَوْلُودًا فَاخْتَصَمَا إلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَاسْتَدْعَى لَهُمَا الْقَافَةَ فَأَلْحَقُوهُ بِهِمَا فَعَلَاهُمَا بِالدِّرَّةِ، وَاسْتَدْعَى عَجَائِزَ مِنْ قُرَيْشٍ فَقُلْنَ: خُلِقَ مِنْ مَاءِ الْأَوَّلِ وَحَاضَتْ عَلَى الْحَمْلِ فَاسْتَحْشَفَ الْحَمْلُ، فَلَمَّا وَطِئَهَا الثَّانِي انْتَعَشَ بِمَائِهِ فَأَخَذَ شَبَهًا بِهِمَا، فَقَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: اللَّهُ أَكْبَرُ وَأَلْحَقَ الْوَلَدَ بِالْأَوَّلِ.
[مَسْأَلَةٌ وَلَا تَعْتَمِدُ الْقَافَةُ إلَّا عَلَى أَبٍ مَوْجُودٍ بِالْحَيَاةِ]
قَالَ بَعْضُهُمْ أَوْ مَاتَ وَلَمْ يُدْفَنْ، قِيلَ: وَيَعْتَمِدُ عَلَى الْعَصَبَةِ.
مَسْأَلَةٌ:
وَلَا يُحْكَمُ بِقَوْلِ الْقَائِفِ إلَّا فِي أَوْلَادِ الْإِمَاءِ إلَّا وَطْءَ السَّيِّدَيْنِ فِي طُهْرٍ وَاحِدٍ دُونَ أَوْلَادِ الْحَرَائِرِ عَلَى الْمَشْهُورِ، وَقِيلَ: يُقْبَلُ فِي أَوْلَادِ الْحَرَائِرِ قَالَهُ ابْنُ وَهْبٍ وَاخْتَارَهُ اللَّخْمِيُّ، قَالَ ابْنُ يُونُسَ وَهُوَ أَقْيَسُ وَالْفَرْقُ عَلَى الْمَشْهُورِ بَيْنَ الْحَرَائِرِ وَالْإِمَاءِ ذَكَرَهُ الشَّيْخُ أَبُو عِمْرَانَ.
قَالَ: إنَّمَا خَصَّتْ الْقَافَةُ الْإِمَاءَ، لِأَنَّ الْأَمَةَ قَدْ تَكُونُ بَيْنَ جَمَاعَةٍ فَيَطَئُونَهَا فِي طُهْرٍ وَاحِدٍ فَقَدْ تُسَاوَوْا فِي الْمِلْكِ وَالْوَطْءِ، وَلَيْسَ أَحَدُهُمَا بِأَقْوَى مِنْ الْآخَرِ فَالْفِرَاشَانِ مُسْتَوِيَانِ، وَكَذَلِكَ الْأَمَةُ إذَا ابْتَاعَهَا رَجُلٌ وَقَدْ وَطِئَهَا الْبَائِعُ وَوَطِئَهَا الْمُبْتَاعُ فِي ذَلِكَ الطُّهْرِ، لِأَنَّهُمَا اسْتَوَيَا فِي الْمِلْكِ، وَأَمَّا الْحُرَّةُ فَإِنَّهَا لَا تَكُونُ زَوْجًا لِرَجُلَيْنِ فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ، فَلَا يَصِحُّ فِيهَا فِرَاشَانِ مُسْتَوِيَانِ، وَأَيْضًا فَوَلَدُ الْحُرَّةِ لَا يَنْتَفِي إلَّا بِاللِّعَانِ، وَوَلَدُ الْأَمَةِ يَنْتَفِي بِغَيْرِ لِعَانٍ، وَالنَّفْيُ بِالْقَافَةِ إنَّمَا هُوَ ضَرْبٌ مِنْ الِاجْتِهَادِ، فَلَا يُنْقَلُ وَلَدُ الْحُرَّةِ مِنْ الْيَقِينِ بِالِاجْتِهَادِ وَلَمَّا جَازَ نَفْيُ وَلَدِ الْأَمَةِ بِمُجَرَّدِ الدَّعْوَى جَازَ نَفْيُهُ بِالْقَافَةِ.
مَسْأَلَةٌ:
فَإِذَا وَقَعَ رَجُلَانِ حُرَّانِ أَوْ حُرٌّ وَعَبْدٌ مُسْلِمَانِ أَوْ كَافِرَانِ، أَوْ مُسْلِمٌ وَكَافِرٌ عَلَى أَمَةٍ فِي طُهْرٍ وَاحِدٍ، فَجَاءَتْ بِوَلَدٍ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ فَصَاعِدًا مِنْ وَطْءِ الثَّانِي، وَادَّعَيَاهُ جَمِيعًا دُعِيَ لِلْوَلَدِ الْقَافَةُ، فَمَنْ أَلْحَقُوهُ بِهِ كَانَ ابْنًا لَهُ وَالْأَمَةُ أُمُّ وَلَدٍ لَهُ، وَكَذَلِكَ وَطْءُ السَّيِّدَيْنِ فِي طُهْرٍ وَاحِدٍ بِهَذِهِ الْمَنْزِلَةِ.
تنبيه:
قَوْلُهُ: فَجَاءَتْ بِهِ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ فَصَاعِدًا لَيْسَ عَلَى إطْلَاقِهِ، قَالَ صَاحِبُ الْإِمْلَاءِ عَلَى الْجَلَّابِ الْمُقَيَّدُ عَنْ أَبِي زَيْدٍ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْيَزْنَاسِيِّ: إذَا أَتَتْ بِهِ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ فَالْوَلَدُ لِلْأَوَّلِ عَلَى كُلِّ حَالٍ، وَكَذَلِكَ إذَا أَتَتْ بِهِ لِعَشَرَةِ أَشْهُرٍ أَنَّهُ لِلثَّانِي إذْ لَا يَشْتَرِكُ الْأَوَّلُ، وَالثَّانِي إلَّا مِنْ سِتَّةٍ إلَى تِسْعَةٍ، وَمَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ فَهُوَ لِلثَّانِي، لِأَنَّ الْغَالِبَ عَلَى الْمَرْأَةِ إذَا حَمَلَتْ تَضَعُ لِتِسْعَةِ أَشْهُرٍ، وَمَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ فَهُوَ نَادِرٌ، وَذَلِكَ لَا حُكْمَ لَهُ فَلَمْ يَبْقَ إلَّا أَنْ يَكُونَ لِلثَّانِي.
فرع:
وَعَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّهُ يَصِحُّ إلْحَاقُهُ بِهِمَا حَتَّى يَبْلُغَ فَيُوَالِيَ مَنْ شَاءَ مِنْهُمَا، لَوْ قَالَ الْوَلَدُ لَا أُوَالِي أَحَدًا مِنْهُمَا كَانَ لَهُ ذَلِكَ، وَكَانَ ابْنًا لَهُمَا جَمِيعًا يَرِثَانِهِ بِنِصْفِ أُبُوَّةٍ، وَيَرِثُهُمَا بِنِصْفِ بُنُوَّةٍ.
وَقَالَ غَيْرُ ابْنِ الْقَاسِمِ: لَيْسَ لَهُ أَنْ لَا يُوَالِيَ وَاحِدًا مِنْهُمَا، وَلَا يَزُولُ النَّسَبُ بِشَهْوَةِ الْوَلَدِ، وَيَكُونُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ نِصْفُ نَفَقَتِهِ وَكِسْوَةٍ.
مَسْأَلَةٌ:
فَإِنْ كَانَ الْوَاطِئَانِ حُرَّيْنِ أَحَدُهُمَا مُسْلِمٌ وَالْآخَرُ نَصْرَانِيٌّ، فَإِنْ أَلْحَقَتْهُ الْقَافَةُ بِالْمُسْلِمِ لَحِقَ بِهِ وَكَانَتْ الْأَمَةُ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ وَغُرِّمَ نِصْفَ قِيمَتِهَا لِلْكَافِرِ فَإِنْ أَلْحَقَتْهُ بِالْكَافِرِ لَحِقَهُ وَكَانَ عَلَى دِينِهِ وَنُسِبَ إلَيْهِ وَكَانَتْ الْأَمَةُ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ وَغُرِّمَ نِصْفَ قِيمَتِهَا لِلْمُسْلِمِ، فَإِنْ كَانَتْ كَافِرَةً أُقِرَّتْ عِنْدَهُ، وَإِنْ كَانَتْ مُسْلِمَةً عَتَقَتْ عَلَيْهِ، فَإِنْ أَلْحَقَتْهُ بِهِمَا جَمِيعًا كَانَتْ الْأَمَةُ أُمَّ وَلَدٍ لَهُمَا، وَعَتَقَتْ السَّاعَةَ عَلَيْهِمَا جَمِيعًا، وَالْوَلَدُ مَوْقُوفٌ حَتَّى يَبْلُغَ فَيُوَالِيَ مَنْ شَاءَ مِنْهُمَا، فَإِنْ وَالَى الْمُسْلِمَ فَهُوَ وَلَدُهُ عَلَى دِينِهِ، وَإِنْ وَالَى الْكَافِرَ كَانَ وَلَدَهُ وَيُحْكَمُ بِالْإِسْلَامِ لِلشَّكِّ الَّذِي دَخَلَ فِيهِ.
مَسْأَلَةٌ:
فَلَوْ ادَّعَاهُ ثَلَاثَةُ نَفَرٍ لَمْ يَكُنْ لِوَاحِدٍ مِنْهُمْ فِي قَوْلِ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ مِنْ الْمُتَيْطِيَّةِ.
مَسْأَلَةٌ:
قَالَ الْمُتَيْطِيُّ: لَوْ لَمْ تُوجَدْ الْقَافَةُ فَإِنَّهُ يُوقَفُ إلَى أَنْ يَكْبَرَ فَيُوَالِيَ مَنْ شَاءَ مِنْهُمَا وَنَفَقَتُهُ مُدَّةَ التَّوْقِيفِ عَلَيْهِمَا، فَإِذَا وَالَى أَحَدَهُمَا رَجَعَ عَلَيْهِ الْآخَرُ بِمَا أَنْفَقَ ذَكَرَهُ فِي بَابِ الْعُهْدَةِ.

.الْبَابُ السَّبْعُونَ فِي الْقَضَاءِ بِمَا يَظْهَرُ مِنْ قَرَائِنِ الْأَحْوَالِ وَالْأَمَارَاتِ:

وَحُكْمُ الْفِرَاسَةِ عَلَى ذَلِكَ مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَعَمَلِ سَلَفِ الْأُمَّةِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ} [البقرة: 273]، دَلَّ عَلَى أَنَّ السِّيمَا الْمُرَادُ بِهَا حَالٌ تَظْهَرُ عَلَى الشَّخْصِ، حَتَّى إذَا رَأَيْنَا مَيِّتًا فِي دَارِ الْإِسْلَامِ وَعَلَيْهِ زُنَّارٌ وَهُوَ غَيْرُ مَخْتُونٍ، لَا يُدْفَنُ فِي مَقَابِرِ الْمُسْلِمِينَ، وَيُقَدَّمُ ذَلِكَ عَلَى حُكْمِ الدَّارِ فِي قَوْلِ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ.
وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي الْمَذْهَبِ إنْ وُجِدَ هَذَا الْمَذْكُورُ مَخْتُونًا، فَفِي كُتُبِ ابْنِ حَبِيبٍ أَنَّهُ لَا يُصَلَّى عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ النَّصَارَى قَدْ يَخْتِنُونَ.
وَقَالَ ابْنُ وَهْبٍ يُصَلَّى عَلَيْهِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَجَاءُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ} [يوسف: 18] الْآيَةَ قَالَ عَبْدُ الْمُنْعِمِ بْنُ الْفَرَسِ: رُوِيَ أَنَّ إخْوَةَ يُوسُفَ لَمَّا أَتَوْا بِقَمِيصِ يُوسُفَ إلَى أَبِيهِمْ يَعْقُوبَ تَأَمَّلَهُ، فَلَمْ يَرَ فِيهِ خَرْقًا وَلَا أَثَرَ نَابٍ فَاسْتَدَلَّ بِذَلِكَ عَلَى كَذِبِهِمْ وَقَالَ لَهُمْ: مَتَى كَانَ الذِّئْبُ حَلِيمًا يَأْكُلُ يُوسُفَ وَلَا يَخْرِقُ قَمِيصَهُ؟ قَالَ الْقُرْطُبِيُّ فِي تَفْسِيرِ الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ، قَالَ عُلَمَاؤُنَا: لَمَّا أَرَادُوا أَنْ يَجْعَلُوا الدَّمَ عَلَامَةَ صِدْقِهِمْ، قَرَنَ اللَّهُ تَعَالَى بِهَذِهِ الْعَلَامَةِ تَعَارُضَهَا وَهِيَ: سَلَامَةُ الْقَمِيصِ مِنْ التَّمْزِيقِ، إذْ لَا يُمْكِنُ افْتِرَاسُ الذِّئْبِ لِيُوسُفَ وَهُوَ لَابِسٌ الْقَمِيصَ وَيَسْلَمُ الْقَمِيصُ، وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ يَعْقُوبَ اسْتَدَلَّ عَلَى كَذِبِهِمْ بِصِحَّةِ الْقَمِيصِ، فَاسْتَدَلَّ الْفُقَهَاءُ بِهَذِهِ الْآيَةِ فِي إعْمَالِ الْأَمَارَاتِ فِي مَسَائِلَ كَثِيرَةٍ مِنْ الْفِقْهِ.
وَقَالَ تَعَالَى: {وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ} [يوسف: 26] {وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ} [يوسف: 27] {فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ} [يوسف: 28].
قَالَ ابْنُ الْفَرَسِ هَذِهِ الْآيَةُ يَحْتَجُّ بِهَا مِنْ الْعُلَمَاءِ مَنْ يَرَى الْحُكْمَ بِالْأَمَارَاتِ وَالْعَلَامَاتِ فِيمَا لَا تَحْضُرُهُ الْبَيِّنَاتُ، فَإِنْ قِيلَ: إنَّ تِلْكَ الشَّرِيعَةَ لَا تَلْزَمُنَا، فَالْجَوَابُ: أَنَّ كُلَّ مَا أَنْزَلَهُ اللَّهُ عَلَيْنَا فَإِنَّمَا أَنْزَلَهُ لِفَائِدَةٍ فِيهِ وَمَنْفَعَةٍ وَقَالَ تَعَالَى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ} [الأنعام: 90]، فَآيَةُ يُوسُفَ صَلَاةُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَسَلَامُهُ مُقْتَدًى بِهَا مَعْمُولٌ عَلَيْهَا.
تنبيه:
اُخْتُلِفَ فِي الشَّاهِدِ الَّذِي صَدَرَتْ مِنْهُ الْمَقَالَةُ، فَرُوِيَ أَنَّهُ طِفْلٌ تَكَلَّمَ فِي الْمَهْدِ. قَالَ السُّهَيْلِيُّ وَهُوَ الصَّحِيحُ لِلْحَدِيثِ الْوَارِدِ فِيهِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ غَيْرُهُ: إنَّهُ رَجُلٌ حَكِيمٌ ذُو عَقْلٍ كَانَ الْوَزِيرُ يَسْتَشِيرُهُ فِي أُمُورِهِ، وَكَانَ مِنْ أَهْلِ الْمَرْأَةِ قِيلَ: إنَّهُ ابْنُ عَمِّهَا، قَالَ السُّدِّيُّ وَهَذَا الْقَوْلُ الثَّانِي هُوَ الصَّحِيحُ وَبِهِ قَالَ الْحَسَنُ وَعِكْرِمَةُ وَقَتَادَةُ وَالضَّحَّاكُ وَمُجَاهِدٌ. وَرُوِيَ أَيْضًا عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ كَانَ رَجُلًا مِنْ خَاصَّةِ الْمَلِكِ، وَالْحَدِيثُ الَّذِي رُوِيَ فِيهِ: أَنَّهُ طِفْلٌ تَكَلَّمَ فِي الْمَهْدِ، يُرْوَى عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَقَدْ تَوَاتَرَتْ الرِّوَايَةُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ صَاحِبَ يُوسُفَ لَيْسَ بِصَبِيٍّ نَقَلَهُ الْقُرْطُبِيُّ.
وَفِي أَحْكَامِ ابْنِ الْفَرَسِ وَيُضَعِّفُ مَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ فِي الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ: أَنَّهُ لَمْ يَتَكَلَّمْ فِي الْمَهْدِ إلَّا ثَلَاثَةٌ: عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ، وَصَاحِبُ جُرَيْجٍ، وَابْنُ السَّوْدَاءِ. وَلَمْ يَذْكُرْ صَاحِبَ يُوسُفَ.
قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: تَبَيَّنَ لَنَا أَنَّ الشَّاهِدَ طِفْلٌ صَغِيرٌ فَلَا يَكُونُ فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى الْعَمَلِ بِالْأَمَارَاتِ، وَإِنْ كَانَ رَجُلًا فَيَصِحُّ الِاحْتِجَاجُ بِهِ، وَفِيمَا قَالَهُ الْقُرْطُبِيُّ نَظَرٌ؛ لِأَنَّهُ وَإِنْ كَانَ طِفْلًا فَالْحُجَّةُ قَائِمَةٌ مِنْهُ بِإِذْنِ اللَّهِ تَعَالَى، أَرْشَدَنَا عَلَى لِسَانِهِ إلَى التَّفَطُّنِ وَالتَّيَقُّظِ وَالنَّظَرِ إلَى الْأَمَارَاتِ وَالْعَلَامَاتِ، الَّتِي يُعْلَمُ بِهَا صِدْقُ الْمُحِقِّ، وَبُطْلَانُ قَوْلِ الْمُبْطِلِ، وَيَكُونُ ذَلِكَ أَبْلَغَ فِي الْحُجَّةِ مِنْ قَوْلِ الْكَبِيرِ؛ لِأَنَّ قَوْلَ الْكَبِيرِ اجْتِهَادٌ وَرَأْيٌ مِنْهُ، وَنُطْقُ الصَّغِيرِ مِنْ قِبَلِ اللَّهِ تَعَالَى، وَفِيهِ تَنْبِيهٌ وَإِعْلَامٌ لِلِاسْتِبْصَارِ وَالْعُثُورِ عَلَى الْحَقِّ، مِنْ ذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَ فَوْرَ التَّنُّورِ عَلَامَةً لِنُوحٍ عَلَى حُلُولِ الْغَرَقِ بِقَوْمِهِ، وَجَعَلَ فَقْدَ الْحُوتِ عَلَامَةً لِمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ عَلَى لِقَائِهِ الْخَضِرَ، وَجَعَلَ مَنْعَ زَكَرِيَّا الْكَلَامَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إلَّا رَمْزًا عَلَامَةً لَهُ عَلَى هِبَةِ الْوَلَدِ.
وَأَمَّا مَا وَرَدَ فِي السُّنَّةِ النَّبَوِيَّةِ فَمَوَاضِعُ: فَمِنْهَا: «أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حُكْمُ اللَّوْثِ فِي الْقَسَامَةِ، وَجَوَّزَ لِلْمُدَّعِينَ أَنْ يَحْلِفُوا خَمْسِينَ يَمِينًا وَيَسْتَحِقُّوا دَمَ الْقَتِيلِ فِي حَدِيثِ حُوَيِّصَةَ وَمُحَيِّصَةَ»، وَاللَّوْثُ دَلِيلٌ عَلَى الْقَتْلِ، فَإِنْ قُلْت: فَإِذَا كَانَتْ الْقَسَامَةُ لَا تَجِبُ عِنْدَ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ إلَّا مَعَ اللَّوْثِ، فَأَيْنَ اللَّوْثُ فِي حَدِيثِ حُوَيِّصَةَ وَمُحَيِّصَةَ؟ قُلْت: قَدْ أَجَابُوا عَنْ ذَلِكَ بِأَنَّ الْحَدِيثَ فِيهِ ذِكْرُ الْعَدَاوَةِ بَيْنَهُمْ، وَأَنَّهُ قُتِلَ فِي بَلَدِهِمْ وَلَيْسَ فِيهَا غَيْرُ الْيَهُودِ.
وَقَالَ الْمَازِرِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ عِنْدِي أَنَّ الْأَظْهَرَ فِي الْجَوَابِ أَنَّ الْقَرَائِنَ تَقُومُ مَقَامَ الشَّاهِدِ، فَقَدْ يَكُونُ قَدْ قَامَ مِنْ الْقَرَائِنِ مَا دَلَّ عَلَى أَنَّ الْيَهُودَ قَتَلُوهُ وَلَكِنْ جَهِلُوا عَيْنَ الْقَاتِلِ، وَمِثْلُ هَذَا لَا يَبْعُدُ إثْبَاتُهُ لَوْثًا، فَلِذَلِكَ جَرَى حُكْمُ الْقَسَامَةِ فِيهِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
وَمِنْهَا، مَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ فِي قَضِيَّةِ الْأَسْرَى مِنْ قُرَيْظَةَ لَمَّا حَكَمَ فِيهِ سَعْدٌ: «أَنْ تُقْتَلَ الْمُقَاتِلَةُ وَتُسْبَى الذُّرِّيَّةُ، فَكَانَ بَعْضُهُمْ يَدَّعِي عَدَمَ الْبُلُوغِ، فَكَانَ الصَّحَابَةُ يَكْشِفُونَ عَنْ مُؤْتَزِرِهِمْ فَيَعْلَمُونَ بِذَلِكَ الْبَالِغَ مِنْ غَيْرِهِ»، وَهَذَا مِنْ الْحُكْمِ بِالْأَمَارَاتِ.
وَمِنْهَا: «أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ الْمُلْتَقِطَ أَنْ يَدْفَعَ اللُّقَطَةَ إلَى وَاصِفِهَا، وَجَعَلَ وَصْفَهُ لِعِفَاصِهَا وَوِكَائِهَا قَائِمًا مَقَامَ الْبَيِّنَةِ».
وَمِنْهَا: حُكْمُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَخُلَفَائِهِ مِنْ بَعْدِهِ بِالْقَافَةِ وَجَعْلُهَا دَلِيلًا عَلَى ثُبُوتِ النَّسَبِ، وَلَيْسَ فِيهَا إلَّا مُجَرَّدُ الْأَمَارَاتِ وَالْعَلَامَاتِ.
وَمِنْهَا: «ابْنَا عَفْرَاءَ تَدَاعَيَا قَتْلَ أَبِي جَهْلٍ يَوْمَ بَدْرٍ، فَقَالَ لَهُمَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: هَلْ مَسَحْتُمَا سَيْفَيْكُمَا؟ قَالَا: لَا، فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
أَرِيَانِي سَيْفَيْكُمَا، فَلَمَّا نَظَرَ فِيهِمَا قَالَ لِأَحَدِهِمَا: هَذَا قَتَلَهُ وَحَكَمَ لَهُ بِسَلَبِهِ»
.
وَمِنْهَا: «أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَمَرَ الزُّبَيْرَ بِعُقُوبَةِ الَّذِي اتَّهَمَهُ بِإِخْفَاءِ كَنْزِ ابْنِ أَبِي الْحَقِيقِ، فَلَمَّا ادَّعَى أَنَّ النَّفَقَةَ وَالْحُرُوبَ أَذْهَبَتْهُ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْعَهْدُ قَرِيبٌ وَالْمَالُ أَكْثَرُ».
وَمِنْهَا: أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَعَلَ بِالْعُرَنِيِّينَ مَا فَعَلَ بِنَاءً عَلَى شَاهِدِ الْحَالِ، وَلَمْ يَطْلُبْ بَيِّنَةً بِمَا فَعَلُوا وَلَا وَقَفَ الْأَمْرَ عَلَى إقْرَارِهِمْ.
وَمِنْهَا: حُكْمُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَالصَّحَابَةُ مَعَهُ مُتَوَاتِرُونَ بِرَجْمِ الْمَرْأَةِ إذَا ظَهَرَ بِهَا حَمْلٌ وَلَا زَوْجَ لَهَا.
وَقَالَ بِذَلِكَ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ اعْتِمَادًا عَلَى الْقَرِينَةِ الظَّاهِرَةِ.
وَمِنْهَا: مَا رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ وَغَيْرُهُ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: «أَرَدْت السَّفَرَ إلَى خَيْبَرَ فَقَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إذَا جِئْت وَكِيلِي فَخُذْ مِنْهُ خَمْسَةَ عَشْرَ وَسْقًا فَإِذَا طَلَبَ مِنْك آيَةً فَضَعْ يَدَك عَلَى تَرْقُوَتِهِ»، فَأَقَامَ الْعَلَامَةَ مَقَامَ الشَّهَادَةِ.
وَمِنْهَا: قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْأَيِّمُ أَحَقُّ بِنَفْسِهَا مِنْ وَلِيِّهَا، وَالْبِكْرُ تُسْتَأْمَرُ فِي نَفْسِهَا وَإِذْنُهَا صِمَاتُهَا»، فَجَعَلَ صِمَاتَهَا قَرِينَةً عَلَى الرِّضَا، وَتَجُوزُ الشَّهَادَةُ عَلَيْهَا بِأَنَّهَا رَضِيَتْ، وَهَذَا مِنْ أَقْوَى الْأَدِلَّةِ عَلَى الْحُكْمِ بِالْقَرَائِنِ.
وَمِنْهَا: حُكْمُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَعُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، وَلَا يُعْلَمُ لَهُمْ مُخَالِفٌ بِوُجُوبِ الْحَدِّ عَلَى مَنْ وُجِدَ مِنْهُ رَائِحَةُ الْخَمْرِ أَوْ قَاءَهَا اعْتِمَادًا عَلَى الْقَرِينَةِ الظَّاهِرَةِ وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ مُفَصَّلًا عَلَى كَثِيرٍ مِنْ هَذِهِ الْأَدِلَّةِ فِي أَبْوَابِهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

.فَصْلٌ فِي بَيَانِ عَمَلِ فُقَهَاءِ الطَّوَائِفِ الْأَرْبَعَةِ بِالْحُكْمِ وَالْقَرَائِنِ وَالْأَمَارَاتِ:

قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ عَلَى النَّاظِرِ أَنْ يَلْحَظَ الْأَمَارَاتِ وَالْعَلَامَاتِ إذَا تَعَارَضَتْ فَمَا تَرَجَّحَ مِنْهَا قَضَى بِجَانِبِ التَّرْجِيحِ وَهُوَ قُوَّةُ التُّهْمَةِ وَلَا خِلَافَ فِي الْحُكْمِ بِهَا وَقَدْ جَاءَ الْعَمَلُ فِي مَسَائِلَ اتَّفَقَتْ عَلَيْهَا الطَّوَائِفُ الْأَرْبَعَةُ، وَبَعْضُهَا قَالَ بِهَا الْمَالِكِيَّةُ خَاصَّةً. الْأُولَى: أَنَّ الْفُقَهَاءَ كُلَّهُمْ يَقُولُونَ بِجَوَازِ وَطْءِ الْمَرْأَةِ إذَا أُهْدِيَتْ إلَيْهِ لَيْلَةَ الزِّفَافِ، وَإِنْ لَمْ يَشْهَدْ عِنْدَهُ عَدْلَانِ مِنْ الرِّجَالِ أَنَّ هَذِهِ فُلَانَةُ بِنْتُ فُلَانٍ الَّتِي عَقَدْت عَلَيْهَا، وَإِنْ لَمْ يَسْتَنْطِقْ النِّسَاءُ أَنَّ هَذِهِ امْرَأَتُهُ اعْتِمَادًا عَلَى الْقَرِينَةِ الظَّاهِرَةِ الْمُنَزَّلَةِ مَنْزِلَةَ الشَّهَادَةِ.
الثَّانِيَةُ: أَنَّ النَّاسَ قَدِيمًا وَحَدِيثًا لَمْ يَزَالُوا يَعْتَمِدُونَ عَلَى الصَّبِيَّانِ وَالْإِمَاءِ الْمُرْسَلِ مَعَهُمْ الْهَدَايَا وَأَنَّهَا مُرْسَلَةٌ إلَيْهِمْ، فَيَقْبَلُوا أَقْوَالَهُمْ وَيَأْكُلُوا الطَّعَامَ الْمُرْسَلَ بِهِ، وَنَقَلَ الْقَرَافِيُّ أَنَّ خَبَرَ الْكَافِرِ فِي ذَلِكَ كَافٍ.
الثَّالِثَةُ: أَنَّهُمْ يَعْتَبِرُونَ إذْنَ الصِّبْيَانِ فِي الدُّخُولِ إلَى الْمَنْزِلِ.
الرَّابِعَةُ: أَنَّ الضَّيْفَ يَشْرَبُ مِنْ كُوزِ صَاحِبِ الْبَيْتِ وَيَتَّكِئُ عَلَى وِسَادَتِهِ وَيَقْضِي حَاجَتَهُ فِي مِرْحَاضِهِ مِنْ غَيْرِ اسْتِئْذَانٍ، وَلَا يُعَدُّ فِي ذَلِكَ مُتَصَرِّفًا فِي مِلْكِهِ بِغَيْرِ إذْنِهِ..
الْخَامِسَةُ: جَوَازُ أَخْذِ مَا يَسْقُطُ مِنْ الْإِنْسَانِ إذَا لَمْ يُعْرَفْ صَاحِبُهُ مِمَّا لَا يُتْبِعُهُ الْإِنْسَانُ نَفْسَهُ كَالْفَلْسِ وَالتَّمْرَةِ وَالْعَصَا التَّافِهِ الثَّمَنِ وَنَحْوِ ذَلِكَ.
السَّادِسَةُ: جَوَازُ أَخْذِ مَا يَبْقَى فِي الْحَوَائِطِ وَالْأَقْرِحَةِ مِنْ الثِّمَارِ وَالْحَبِّ بَعْدَ انْتِقَالِ أَهْلِهِ عَنْهُ وَتَخْلِيَتِهِ وَتَسْيِيبِهِ.
السَّابِعَةُ: جَوَازُ أَخْذِ مَا يَسْقُطُ مِنْ الْحَبِّ عِنْدَ الْحَصَادِ مِمَّا لَا يَعْتَنِي صَاحِبُ الزَّرْعِ بِلَقْطِهِ.
الثَّامِنَةُ: جَوَازُ أَخْذِ مَا نَبَذَهُ النَّاسُ رَغْبَةً عَنْهُ مِنْ الطَّعَامِ وَالْخِرَقِ وَالْخَزَفِ وَنَحْوِ ذَلِكَ.
التَّاسِعَةُ: أَنَّ صَاحِبَ الْمَنْزِلِ إذَا قَدَّمَ الطَّعَامَ لِلضَّيْفِ جَازَ لَهُ الْإِقْدَامُ عَلَى الْأَكْلِ، وَإِنْ لَمْ يَأْذَنْ لَهُ لَفْظًا إذَا عُلِمَ أَنَّ صَاحِبَ الطَّعَامِ قَدَّمَهُ لَهُ خَاصَّةً، وَلَيْسَ ثَمَّ غَائِبٌ يُنْتَظَرُ حُضُورُهُ وَاسْتَمَرَّ بِدَلَالَةِ الْحَالِ الْجَارِيَةِ مَجْرَى الْقَطْعِ.
الْعَاشِرَةُ: إذْنُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْمَارِّ بِثَمَرِ الْغَيْرِ أَنْ يَأْكُلَ مِنْ ثَمَرِهِ وَلَا يَحْمِلُ مِنْهُ شَيْئًا، وَحَمَلَ بَعْضُهُمْ ذَلِكَ عَلَى غَيْرِ الْمَحُوطِ وَمَا لَيْسَ لَهُ حَارِسٌ.
الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ: جَوَازُ قَضَاءِ الْحَاجَةِ فِي الْأَقْرِحَةِ وَالْمَزَارِعِ الَّتِي فِيهَا الطُّرُقَاتُ الْعِظَامُ بِحَيْثُ لَا تَنْقَطِعُ الْمَارَّةُ، وَكَذَلِكَ الصَّلَاةُ فِيهَا وَإِنْ كَانَتْ مَمْلُوكَةً، وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ غَصْبًا لَهَا وَلَا تَصَرُّفًا مَمْنُوعًا.
الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ: الشُّرْبُ مِنْ الْمَصَانِعِ الْمَصْنُوعَةِ عَلَى الطُّرُقَاتِ، وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ الشَّارِبُ إذْنَ أَرْبَابِهَا فِي ذَلِكَ لَفْظًا اعْتِمَادًا عَلَى دَلَالَةِ الْحَالِ لَكِنْ لَا يَتَوَضَّأُ مِنْهَا، لِأَنَّ الْعُرْفَ لَا يَقْتَضِيهِ إلَّا أَنْ يَكُونَ هُنَاكَ شَاهِدُ حَالٍ يَقْتَضِي ذَلِكَ فَلَا بَأْسَ بِالْوُضُوءِ حِينَئِذٍ.
الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ: جَوَازُ شَهَادَةِ الشَّاهِدِ عَلَى الْقَتْلِ الْمُوجِبِ لِلْقِصَاصِ أَنَّهُ قَتَلَهُ عَمْدًا عُدْوَانًا مَحْضًا وَهُوَ لَمْ يَقُلْ قَتَلَهُ عَمْدًا، وَالْعَمْدِيَّةُ صِفَةٌ قَائِمَةٌ بِالْقَلْبِ، فَجَازَ لِلشَّاهِدِ أَنْ يَشْهَدَ بِهَا اكْتِفَاءً بِالْقَرِينَةِ الظَّاهِرَةِ.
الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ: قَوْلُهُمْ فِي الرِّكَازِ إذَا كَانَ عَلَيْهِ عَلَامَةُ الْمُسْلِمِينَ سُمِّيَ كَنْزًا وَهُوَ كَاللُّقَطَةِ، وَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ شَكْلُ الصَّلِيبِ أَوْ الصُّوَرِ أَوْ اسْمُ مَلِكٍ مِنْ مُلُوكِ الرُّومِ فَهُوَ رِكَازٌ، فَهَذَا عَمَلٌ بِالْعَلَامَاتِ.
الْخَامِسَةَ عَشْرَةَ: إذَا اسْتَأْجَرَ دَابَّةً جَازَ لَهُ ضَرْبَهَا إذَا حَرَنَتْ فِي السَّيْرِ وَإِنْ لَمْ يَسْتَأْذِنْ مَالِكَهَا. وَكَذَلِكَ رُكُوبُهَا بِالْمَهَامِيزِ.
السَّادِسَةَ عَشْرَةَ: جَوَازُ إذْنِ الْمُسْتَأْجِرِ لِلدَّارِ لِأَضْيَافِهِ وَأَصْحَابِهِ فِي الدُّخُولِ وَالْمَبِيتِ وَإِنْ لَمْ يَتَضَمَّنْ ذَلِكَ عَقْدُ الْإِجَارَةِ.
السَّابِعَةَ عَشْرَةَ: جَازَ غَسْلُ الْمُسْتَأْجِرِ الثَّوْبَ الْمُسْتَأْجَرَ إذَا اتَّسَخَ وَإِنْ لَمْ يَسْتَأْذِنْ الْمُؤَجِّرَ فِي ذَلِكَ.
الثَّامِنَةَ عَشْرَةَ: أَنَّهُ يَجُوزُ لِلْوَكِيلِ عَلَى بَيْعِ السِّلْعَةِ قَبْضُ ثَمَنِهَا وَإِنْ لَمْ يَأْذَنْ لَهُ فِي ذَلِكَ لَفْظًا اعْتِمَادًا عَلَى قَرِينَةِ الْحَالِ.
التَّاسِعَةَ عَشْرَةَ: إذَا وَجَدْنَا هَدْيًا مُشْعَرًا مَنْحُورًا وَلَيْسَ عِنْدَهُ أَحَدٌ جَازَ الْأَكْلُ مِنْهُ لِلْقَرِينَةِ الظَّاهِرَةِ.
الْعِشْرُونَ: لَوْ اشْتَرَى طَعَامًا أَوْ خَشَبًا فِي دَارِ رَجُلٍ، فَلَهُ أَنْ يُدْخِلَ دَارِهِ مِنْ بَابِ الدَّوَابَّ وَالرِّجَالَ مَنْ يُحَوِّلُ ذَلِكَ وَإِنْ لَمْ يَأْذَنْ لَهُ الْمَالِكُ.
الْحَادِيَةُ وَالْعِشْرُونَ: الْقَضَاءُ بِالنُّكُولِ وَاعْتِبَارُهُ فِي الْأَحْكَامِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ إلَّا رُجُوعًا إلَى مُجَرَّدِ الْقَرِينَةِ الظَّاهِرَةِ، فَقُدِّمَتْ عَلَى أَصْلِ بَرَاءَةِ الذِّمَّةِ.
الثَّانِيَةُ وَالْعِشْرُونَ: جَوَازُ دَفْعِ اللُّقَطَةِ لِوَاصِفِ عِفَاصِهَا وَوِكَاءَهَا اعْتِمَادًا عَلَى مُجَرَّدِ الْقَرِينَةِ، قَالَ ابْنُ الْفَرَسِ وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي الْوَدِيعَةِ وَالسَّرِقَةِ وَشِبْهِهَا إذَا جُهِلَ صَاحِبُهَا، هَلْ تُقْبَلُ فِي ذَلِكَ الصِّفَةُ كَاللُّقَطَةِ أَمْ لَا؟.
الثَّالِثَةُ وَالْعِشْرُونَ: إذَا تَنَازَعَا جِدَارًا حُكِمَ بِهِ لِصَاحِبِ الْوَجْهِ وَمُعَاقِدِ الْقُمُطِ وَالطَّاقَاتِ وَالْجُذُوعِ وَذَلِكَ حُكْمٌ بِالْأَمَارَاتِ.
الرَّابِعَةُ وَالْعِشْرُونَ: قَالَ أَصْحَابُنَا: إذَا تَنَازَعَ الزَّوْجَانِ فِي مَتَاعِ الْبَيْتِ، فَإِنَّ لِلرَّجُلِ مَا يُعْرَفُ لِلرِّجَالِ وَلِلْمَرْأَةِ مَا يُعْرَفُ لِلنِّسَاءِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى ذَلِكَ فِي بَابِهِ.
الْخَامِسَةُ وَالْعِشْرُونَ: النَّظَرُ فِي أَمْرِ الْخُنْثَى وَالِاعْتِمَادُ فِيهِ عَلَى الْأَمَارَاتِ وَالْعَلَامَاتِ وَالْقَرَائِنِ الدَّالَّةِ عَلَى إحْدَى حَالَتَيْهِ.
السَّادِسَةُ وَالْعِشْرُونَ: مَعْرِفَةُ الْبِكْرِ بِصِمَاتِهَا اعْتِمَادًا عَلَى الْقَرِينَةِ الشَّاهِدَةِ بِذَلِكَ.
السَّابِعَةُ وَالْعِشْرُونَ: اعْتِبَارُ اللَّوْثِ وَالِاعْتِمَادُ عَلَيْهِ فِي الْإِقْدَامِ عَلَى الْقَسَامَةِ وَالْأَخْذِ بِالْقَوَدِ.
الثَّامِنَةُ وَالْعِشْرُونَ: إرْخَاءُ السِّتْرِ عَلَى الزَّوْجَةِ أَوْ الْخَلْوَةُ بِهَا، قَالَ أَصْحَابُنَا: إذَا دَخَلَ الرَّجُلُ بِامْرَأَتِهِ وَأَرْخَى السِّتْرَ عَلَيْهَا ثُمَّ طَلَّقَ وَقَالَ: لَمْ أُصِبْهَا، وَقَالَتْ: قَدْ وَطِئَنِي صُدِّقَتْ، وَكَانَ عَلَيْهِ الصَّدَاقُ كَامِلًا، وَاخْتُلِفَ هَلْ يَلْزَمُهَا يَمِينٌ أَمْ لَا؟.
التَّاسِعَةُ وَالْعِشْرُونَ: إذَا وُجِدَتْ وَثِيقَةُ الدَّيْنِ بِيَدِ الْمَطْلُوبِ مَمْحُوَّةً وَهُوَ يَدَّعِي أَنَّهُ دَفَعَ مَا فِيهَا، وَسَلَّمَهَا رَبُّ الدَّيْنِ إلَيْهِ، وَرَبُّ الدَّيْنِ مُنْكِرٌ لِذَلِكَ وَيَدَّعِي عَلَى سُقُوطِهَا، فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي ذَلِكَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ حُكْمُهَا فِي بَابِ الْقَضَاءِ بِشَهَادَةِ الْوَثِيقَةِ فَيَكُونُ الْقَوْلُ قَوْلَهُ مَعَ يَمِينِهِ.
الثَّلَاثُونَ: دَعْوَى الْمَرْأَةِ الِاسْتِكْرَاهَ فِي الزِّنَا وَهِيَ مُتَعَلِّقَةٌ بِالْمُدَّعَى عَلَيْهِ، أَوْ بِهَا أَثَرٌ أَوْ أَمَارَةٌ كَالصِّيَاحِ وَشَبَهِ ذَلِكَ، فَإِنَّ ذَلِكَ قَرِينَةٌ يُدْرَأُ عَنْهَا الْحَدُّ لِأَجْلِهَا.
الْحَادِيَةُ وَالثَّلَاثُونَ: قَالَ أَصْحَابُنَا: إذَا شَهِدَ شَاهِدَانِ فِي الصَّحْوِ فِي الْمِصْرِ الْكَبِيرِ عَلَى هِلَالِ رَمَضَانَ وَلَمْ يَرَهُ غَيْرُهُمَا، قَالَ سَحْنُونٌ: هُمَا شَاهِدَا سُوءٍ، فَإِذَا قُبِلَا فَعُدَّ ثَلَاثُونَ يَوْمًا وَلَمْ يُرَ الْهِلَالُ وَالسَّمَاءُ مُصْحِيَةٌ. قَالَ مَالِكٌ هُمَا شَاهِدَا سُوءٍ، لِأَنَّ ذَلِكَ قَرِينَةٌ ظَاهِرَةٌ فِي كَذِبِهِمَا.
الثَّانِيَةُ وَالثَّلَاثُونَ: اسْتِلْحَاقُ مَنْ يُكَذِّبُهُ الْعَقْلُ لِصِغَرِ الْمُسْتَلْحَقِ أَوْ الشَّرْعُ لِشُهْرَةِ نَسَبِهِ أَوْ تُكَذِّبُهُ الْعَادَةُ، كَمَا سَيَأْتِي فِي التَّاسِعَةِ وَالثَّلَاثِينَ.
الثَّالِثَةُ وَالثَّلَاثُونَ: إقْرَارُ الْمَرِيضِ لِوَارِثٍ أَوْ صَدِيقٍ مُلَاطِفٍ لَا يُقْبَلُ لِقِيَامِ قَرِينَةٍ فِي قَصْدِهِ نَفْعَهُمْ أَوْ اتِّصَالِ ذَلِكَ لِبَعْضِ وَرَثَتِهِ عَلَى يَدِ صَدِيقِهِ.
الرَّابِعَةُ وَالثَّلَاثُونَ: بَيْعُ الْمَضْغُوطِ وَإِقْرَارُهُ لَا يَجُوزُ لِقِيَامِ قَرِينَةِ الْإِكْرَاهِ.
الْخَامِسَةُ وَالثَّلَاثُونَ: وُجُوبُ إقَامَةِ الْحَدِّ عَلَى الْمَرْأَةِ إذَا ظَهَرَ بِهَا حَمْلٌ وَلَمْ يَكُنْ لَهَا زَوْجٌ، وَكَذَلِكَ الْأَمَةُ إذَا لَمْ يَكُنْ لَهَا زَوْجٌ وَلَا سَيِّدٌ مُعْتَرِفٌ أَنَّهُ وَطِئَهَا.
السَّادِسَةُ وَالثَّلَاثُونَ: وُجُوبُ الْحَدِّ عَلَى مَنْ وُجِدَ مِنْهُ رَائِحَةُ الْخَمْرِ أَوْ قَاءَهَا.
السَّابِعَةُ وَالثَّلَاثُونَ: مَا ذَهَبَ إلَيْهِ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى: مِنْ أَنَّهُ لَا يُقْبَلُ قَوْلُ الْمَرْأَةِ أَنَّ زَوْجَهَا لَمْ يَكُنْ يُنْفِقُ عَلَيْهَا فِيمَا مَضَى مِنْ الزَّمَانِ وَهُمَا فِي بَيْتٍ وَاحِدٍ، لِأَنَّ ذَلِكَ قَرِينَةٌ دَالَّةٌ عَلَى كَذِبِهَا.
الثَّامِنَةُ وَالثَّلَاثُونَ: انْعِقَادُ التَّبَايُعِ بِالْمُعَاطَاةِ مِنْ غَيْرِ لَفْظٍ اكْتِفَاءً بِالْقَرَائِنِ وَالْأَمَارَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى الرِّضَا: وَقَالَ بِهَذِهِ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ.
وَقَالَ بِهَا الْحَنَفِيَّةُ فِي الْمُحَقَّرَاتِ وَخَالَفَهُمْ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي ذَلِكَ.
التَّاسِعَةُ وَالثَّلَاثُونَ: أَنَّ مَالِكًا وَأَصْحَابَهُ رَحِمَهُمُ اللَّهُ مَنَعُوا سَمَاعَ الدَّعْوَى الَّتِي لَا تُشْبِهُ الصِّدْقَ عُرْفًا، بَلْ الْعُرْفُ يَدُلُّ عَلَى كَذِبِهَا كَدَعْوَى رَجُلٍ لِدَارٍ بِيَدِ حَائِزٍ يَتَصَرَّفُ بِالْهَدْمِ وَالْعِمَارَةِ مُدَّةً طَوِيلَةً نَحْوَ عَشْرِ سِنِينَ، وَالْمُدَّعِي مُشَاهَدٌ سَاكِتٌ، وَلَا ثَمَّ مَانِعٌ مِنْ خَوْفٍ وَلَا قَرَابَةٍ وَلَا صِهْرٍ فَإِنَّ ذَلِكَ قَرِينَةٌ دَالَّةٌ عَلَى كَذِبِ الدَّعْوَى، وَكَذَلِكَ لَوْ ادَّعَى رَجُلٌ عَلَى رَجُلٍ أَنَّهُ سَرَقَ مَتَاعَهُ وَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ مَنْ لَا يُتَّهَمُ، فَإِنَّ الْمُدَّعِيَ لَا تُسْمَعُ دَعْوَاهُ لِقِيَامِ شَاهِدِ الْحَالِ عَلَى كَذِبِهِ وَقَصْدِهِ الْأَذَى، وَيُؤَدَّبُ الْمُدَّعِي عَلَى خِلَافٍ فِي ذَلِكَ.
الْأَرْبَعُونَ: قَالَ أَصْحَابُنَا: إذَا رَأَيْنَا رَجُلًا مَذْبُوحًا فِي دَارٍ وَالدَّمُ يَجْرِي، وَلَيْسَ فِي الدَّارِ أَحَدٌ وَرَأَيْنَا رَجُلًا قَدْ خَرَجَ مِنْ عِنْدِهِ فِي حَالَةٍ مُنْكَرَةٍ، عَلِمْنَا أَنَّهُ الَّذِي قَتَلَهُ، وَكَانَ لَوْثًا يُوجِبُ الْقَسَامَةَ وَالْقَوَدَ لِلْقَرِينَةِ الظَّاهِرَةِ.
الْحَادِيَةُ وَالْأَرْبَعُونَ: قَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا: يَجُوزُ لِلرَّجُلِ أَنْ يُلَاعِنَ امْرَأَتَهُ وَيَشْهَدَ عَلَيْهَا بِالزِّنَا مُؤَكِّدًا لِذَلِكَ بِأَيْمَانِ اللِّعَانِ إذَا اعْتَقَدَ وُقُوعَ الزِّنَا وَإِنْ لَمْ يَكُنْ رَآهَا تَزْنِي، كَمَا يَجُوزُ لِلْأَعْمَى عَلَى الْمَشْهُورِ فِي لِعَانِهِ اعْتِمَادًا عَلَى الْقَرَائِنِ وَالْأَمَارَاتِ.
الثَّانِيَةُ وَالْأَرْبَعُونَ: أَنَّ مَالِكًا رَحِمَهُ اللَّهُ يَجْعَلُ الرَّهْنَ كَالشَّاهِدِ فِي قَدْرِ الدَّيْنِ إلَى مَبْلَغِ قِيمَةِ الرَّهْنِ.
الثَّالِثَةُ وَالْأَرْبَعُونَ: إذَا وَجَدَ فِي تَرِكَةِ أَبِيهِ بِخَطِّ أَبِيهِ أَنَّ لَهُ عِنْدَ زَيْدٍ كَذَا جَازَ لَهُ الدَّعْوَى بِذَلِكَ، فَإِنْ رَدَّ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ الْيَمِينَ عَلَيْهِ جَازَ لَهُ الْإِقْدَامُ عَلَى الْحَلِفِ، اعْتِمَادًا عَلَى صِحَّةِ مَا كَتَبَهُ أَبُوهُ لِمَا يَعْلَمُهُ مِنْ صِدْقِهِ وَتَثَبُّتِهِ فِيمَا يَضَعُ بِهِ خَطَّهُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ هَذَا فِي الدَّعَاوَى.
الرَّابِعَةُ وَالْأَرْبَعُونَ: إذَا صَادَ بَازِيًا فِي رِجْلَيْهِ سَبَّاقَانِ، أَوْ ظَبْيًا فِي أُذُنَيْهِ قُرْطَانِ أَوْ فِي عُنُقِهِ سِلْكُ جَوْهَرٍ، فَلَيْسَ لِوَاجِدِهِ فِيهِ شَيْءٌ وَعَلَيْهِ أَنْ يُعَرِّفَهُ كَاللُّقَطَةِ، لِأَنَّ ذَلِكَ قَرِينَةٌ عَلَى أَنَّهُ كَانَ مَمْلُوكًا لِغَيْرِهِ.
الْخَامِسَةُ وَالْأَرْبَعُونَ: لَوْ اشْتَرَى سَمَكَةً فَوَجَدَ فِي بَطْنِهَا جَوْهَرَةً مَثْقُوبَةً فَعَلَيْهِ تَعْرِيفُهَا، وَإِنْ كَانَتْ غَيْرَ مَثْقُوبَةٍ مَا يَعْلَمُ أَنَّ الْأَمْلَاكَ لَمْ تُدَاوِلْهَا، فَقَالَ بَعْضُ الشُّيُوخِ: هِيَ لِلْبَائِعِ.
وَقَالَ الْأَبْيَانِيُّ: هِيَ لِلْمُشْتَرِي، كَمَنْ بَاعَ حَجَرًا لَا يَعْلَمُ مَا هُوَ؟ فَإِذَا هُوَ جَوْهَرَةٌ فَهِيَ لِلْمُشْتَرِي مِنْ الذَّهَبِ لِابْنِ رَاشِدٍ.
السَّادِسَةُ وَالْأَرْبَعُونَ: لَوْ حَلَفَ لِزَوْجَتِهِ بِطَلَاقِ مَنْ يَتَزَوَّجُ فِي حَيَاتِهَا، ثُمَّ بَانَتْ مِنْهُ ثُمَّ تَزَوَّجَ، وَقَالَ: نَوَيْت مَا كَانَتْ فِي عِصْمَتِي، فَإِنَّهُ يُقْبَلُ ذَلِكَ مِنْهُ لِلْقَرِينَةِ الَّتِي تُصَدِّقُهُ فِي الْفُتْيَا وَالْقَضَاءِ مِنْ الْمَذْهَبِ.
السَّابِعَةُ وَالْأَرْبَعُونَ: لَوْ مَرَّ رَجُلٌ بِعَبْدٍ عَلَى الْعَشَّارِ فَمَسَكَهُ وَأَرَادَ أَنْ يَأْخُذَ عَلَيْهِ شَيْئًا، فَقَالَ سَيِّدُهُ: هُوَ حُرٌّ، فَذَلِكَ لَهُ إذَا ادَّعَى أَنَّهُ قَالَ ذَلِكَ خَوْفًا مِنْ الْعَشَّارِ.
الثَّامِنَةُ وَالْأَرْبَعُونَ: إذَا غَنِمَ الْمُسْلِمُونَ شَيْئًا مِنْ مَالِ الْمُشْرِكِينَ فَوُجِدَ عَلَيْهِ عَلَامَةُ الْمُسْلِمِينَ: كَالْمُصْحَفِ أَوْ الْفَرَسِ مَوْسُومٌ عَلَى فَخِذِهِ حَبْسٌ لِلَّهِ تَعَالَى، فَإِنَّ ذَلِكَ قَرِينَةٌ عَلَى أَنَّهُ لِمُسْلِمٍ، فَإِنْ عُرِفَ رَبُّهُ دُفِعَ لَهُ بِلَا ثَمَنٍ عَلَى مَا هُوَ مَذْكُورٌ فِي بَابِ الْجِهَادِ.
التَّاسِعَةُ وَالْأَرْبَعُونَ: قَالَ ابْنُ رَاشِدٍ إذَا ادَّعَى عَلَى رَجُلٍ أَنَّهُ تَخَلَّفَ عَنْ الْجَيْشِ فِي الْجِهَادِ، وَقَدْ غَنِمَ الْمُسْلِمُونَ وَأَرَادُوا مَنْعَهُ مِنْ نَصِيبِهِ، فَإِنْ ظَهَرَتْ أَمَارَاتٌ تَدُلُّ عَلَى تَخَلُّفِهِ أَوْ عَدَمِ تَخَلُّفِهِ، عُمِلَ عَلَى ذَلِكَ وَوَجَبَ الْمَصِيرُ إلَيْهِ، كَمَا لَوْ شَهِدَتْ عَلَيْهِ بَيِّنَةٌ وَإِلَّا دُيِّنَ.
الْخَمْسُونَ: نَحْكُمُ بِكُفْرِ مَنْ تَرَدَّدَ إلَى الْكَنِيسَةِ أَوْ لَبِسَ الزُّنَّارَ فِي بِلَادِ الْإِسْلَامِ أَوْ أَلْقَى الْمُصْحَفَ فِي الْقَاذُورَاتِ أَوْ لَطَّخَ الْحَجَرَ الْأَسْوَدَ بِالنَّجَاسَةِ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْأَفْعَالَ قَرِينَةٌ دَالَّةٌ عَلَى الْكُفْرِ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ فِي نَفْسِهَا كُفْرًا، نَقَلَهُ ابْنُ رَاشِدٍ وَابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ.

.فَصْلٌ بَيْعُ مَوَاضِعِ الْمَسَاجِدِ الْخَرِبَةِ:

فَصْلٌ: وَمِنْ فُرُوعِ هَذَا الْبَابِ قَالَ ابْنُ رَاشِدٍ: فِي الْمَذْهَبِ لَا يَجُوزُ بَيْعُ مَوَاضِعِ الْمَسَاجِدِ الْخَرِبَةِ، وَلَا بَأْسَ بِبَيْعِ نَقْضِهَا إذَا خِيفَ عَلَيْهِ الْفَسَادُ لِلضَّرُورَةِ إلَى ذَلِكَ، وَذَكَرَ ابْنُ مُزَيْنٍ أَنَّ نَقْضَهُ يُؤْخَذُ فَيَنْتَفِعُ بِهِ سَائِرُ الْمَسَاجِدِ وَيُتْرَكُ مِنْهُ مَا يَكُونُ عَلَمًا لَهُ لِئَلَّا يَنْدَرِسَ أَثَرُهُ، فَانْظُرْهُ كَيْفَ جَعَلَ مَا يَبْقَى مِنْ آثَارِهِ دَلِيلًا شَاهِدًا بِأَنَّهُ حَبْسٌ وَأَنَّهُ مَسْجِدٌ، وَيَكُونُ وُجُودُ مَا يَبْقَى كَوُجُودِ الْمَسْجِدِ بِكَمَالِهِ.
فرع:
وَفِي الطُّرَرِ: إذَا وَجَدَ رَجُلًا يَبِيعُ فَرَسًا عَلَيْهِ وَسْمُ الْحَبْسِ وَقَالَ: إنَّمَا وَسَمْته مَخَافَةَ الْعُمَّالِ وَلَمْ أَحْتَبِسْهُ، فَإِنْ عُرِفَ ذَلِكَ مِنْ نَاحِيَةِ النَّاسِ حَلَفَ وَأُطْلِقَ عَلَى بَيْعِهِ.
وَكَتَبَ الْقَاضِي بْنُ السَّلِيمِ إلَى الْقَاضِي أَبِي بَكْرِ بْنِ زَرْبٍ: فِي رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ الثَّغْرِ بِيَدِهِ فَرَسٌ مَوْسُومٌ فِي فَخِذِهِ حَبْسٌ لِلَّهِ تَعَالَى، رُفِعَ إلَى الْقَاضِي فَسُئِلَ عَنْ وَجْهِ تَمَلُّكِهِ لِلْفَرَسِ، فَقَالَ: شَرَيْته بِبِلَادِ الْبَرَابِرِ، فَلَمَّا جِئْت سِجِلْمَاسَةَ خِفْت أَنْ أَغْرَمَ عَلَيْهِ أَوْ يُنْزَعَ فَوَسَمْته، هَذَا رَجَاءَ أَنْ يُطْلَقَ.
فَكَتَبَ إلَيْهِ الْقَاضِي ابْنُ زَرْبٍ إنْ لَمْ يُعْرَفْ مِلْكُهُ لِلْفَرَسِ مِنْ قَبْلِ هَذِهِ السِّمَةِ وَإِلَّا أَقَامَ بَيِّنَةً بِمَا ادَّعَاهُ وَخُلِّيَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ، وَإِنْ لَمْ تَقُمْ بَيِّنَةٌ بِمَا ادَّعَاهُ فَأَمْضِهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ عَلَى مَا ظَهَرَ مِنْ وَسْمِهِ، وَلَا يُصَدَّقُ الْمُتَغَزِّي فِي هَذَا إلَّا بِبَيِّنَةٍ وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ مَا رُوِيَ: «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَسِمُ إبِلَ الصَّدَقَةِ وَحْدَهَا وَإِبِلَ الْجِزْيَةِ وَحْدَهَا»، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْوَسْمَ أَثَرٌ يُعْمَلُ بِهِ مَا لَمْ يُعَارِضْهُ مُعَارِضٌ. وَقَدْ حَكَمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْأَثَرِ فِي السَّيْفِ فِي قَضِيَّةِ ابْنَيْ عَفْرَاءَ، تَقَدَّمَ ذِكْرُهَا فِي بَابِ التَّعْرِيفِ بِالْبَيِّنَةِ وَحَقِيقَتِهَا.
وَفِي قِصَّةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُنَيْسٍ وَأَصْحَابِهِ: «لَمَّا دَخَلُوا الْحِصْنَ عَلَى ابْنِ أَبِي الْحَقِيقِ لِيَقْتُلُوهُ وَكَانَ ذَلِكَ لَيْلًا، فَوَقَعُوا فِيهِ بِالسُّيُوفِ، وَوَضَعَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُنَيْسٍ السَّيْفَ فِي بَطْنِهِ وَتَحَامَلَ عَلَيْهِ حَتَّى نَبَعَ ظَهْرُهُ، فَلَمَّا رَجَعُوا وَقَدْ قَتَلُوهُ نَظَرَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ إلَى سُيُوفِهِمْ، فَقَالَ: هَذَا قَتَلَهُ لِأَنَّهُ رَأَى عَلَى السَّيْفِ أَثَرَ الطَّعَامِ».
تنبيه:
فِيمَا ذَكَرْنَاهُ فِي الْوَسْمِ وَقَعَ فِي الطُّرَرِ لِابْنِ عَاتٍ فِي الرَّاعِي يَرْعَى لِقَوْمٍ فَتَخْتَلِطُ وَيَتَدَاعَوْا فِي شِيَاهٍ مِنْهَا، فَعَلَى قَوْلِ مَالِكٍ يَحْلِفُ مِنْ يُقِرُّ لَهُ الرَّاعِي أَنَّهَا لَهُ إذَا كَانَ عَدْلًا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَدْلًا وَلَمْ تَقُمْ لَهُ بَيِّنَةٌ حَلَفُوا وَكَانَتْ بَيْنَهُمْ، وَمَنْ نَكَلَ كَانَتْ لِلْحَالِفِ مِنْهُمْ.
وَفِي قَوْلِ أَبِي الْحَسَنِ الْقَوْلُ قَوْلُ الرَّاعِي إذَا لَمْ تَقُمْ بَيِّنَةٌ لِأَحَدِهِمْ، وَلَيْسَ الْوَسْمُ بِشَيْءٍ مَا أَرَادَ بِهِ، وَلَعَلَّ مُرَادُهُ أَنَّ الْوَسْمَ قَدْ يَتَّفِقُ فَلَا يَرْفَعُ النِّزَاعَ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَدْ قَالَ أَصْبَغُ فِيمَنْ وَهَبَ مِنْ غَنَمِهِ مِائَةً وَلَمْ يَغْرِزْهَا وَلَا وَسَمَهَا حَتَّى مَاتَ إنَّهُ لَا يَنْفُذُ، فَانْظُرْ مَفْهُومَ كَلَامِهِ أَنَّهَا لَوْ وُسِمَتْ تَمَيَّزَتْ وَصَحَّتْ الْهِبَةُ، اُنْظُرْ ابْنَ سَهْلٍ فِي الْجُزْءِ الثَّانِي فِي رَسْمِ الشَّهَادَاتِ فِي هِبَةِ نِصْفِ دَارٍ.
مَسْأَلَةٌ:
وَمِنْ الْحُكْمِ بِالْقَرَائِنِ أَنَّ الرَّاعِيَ إذَا عَامَلَهُ بَعْضُ أَهْلِ الْقَرْيَةِ وَلَمْ يُعَامِلْهُ بَعْضُهُمْ وَأَلْقَوْا بَقَرَهُمْ فَحَرَزَهَا الرَّاعِي حَتَّى تَمَّتْ الْمُدَّةُ فَلَهُ أَخْذُ أُجْرَتِهِ، وَلَا كَلَامَ لَهُمْ فِي تَرْكِ مُعَامَلَتِهِ لِأَنَّهُمْ يُحْمَلُونَ عَلَى الرِّضَا بِمُعَامَلَتِهِ، وَكَذَلِكَ إنْ رَعَى ثَوْرُ الْغَائِبِ أَوْ حَاضِرٍ بِغَيْرِ أَمْرِهِ كَانَ لَهُ أُجْرَتُهُ فِيمَا رَعَاهُ، وَلَا كَلَامَ لِصَاحِبِ الثَّوْرِ بِأَنْ يَقُولَ هَلَّا دَفَعْته عَنْ نَفْسِك.
مَسْأَلَةٌ:
وَمِنْ ذَلِكَ إذَا أَشْهَدَ الرَّجُلُ أَنَّ لِابْنِهِ الَّذِي فِي حِجْرِهِ عِنْدَهُ مِنْ غَلَّةِ الْمِلْكِ الَّذِي حَبَسَهُ عَلَيْهِ كَذَا وَكَذَا دِينَارًا وَاسْتَقَرَّتْ لَهُ بِيَدِهِ، فَإِقْرَارُهُ لِوَلَدِهِ بِذَلِكَ صَحِيحٌ إذَا أَشْهَدَ فِي صِحَّتِهِ، إلَّا أَنْ يَتَبَيَّنَ كَذِبُهُ بِأَنْ تَكُونَ الْغَلَّةُ الَّتِي أَشْهَدَ لَهُ بِهَا، لَا يُسْتَوْفَى مِثْلُهَا مِنْ الْحَبْسِ فِي الْمُدَّةِ الَّتِي ذَكَرَ مِنْ حِينِ تَارِيخِ الْوَقْفِ إلَى يَوْمِ الْإِشْهَادِ بِالْمَبْلَغِ، فَإِذَا تَبَيَّنَ كَذِبُهُ كَانَ لِلِابْنِ مِقْدَارُ الْغَلَّةِ وَرَجَعَ الْبَاقِي مِيرَاثًا.
مَسْأَلَةٌ:
وَمِنْ ذَلِكَ إذَا كَانَ تَحْتَ يَدِ الْأَبِ لِوَلَدِهِ أَوْ الْوَصِيِّ لِمَحْجُورِهِ مَالٌ وَعَلَى الصَّغِيرِ دَيْنٌ، فَادَّعَى الْأَبُ أَوْ الْوَصِيُّ نَفَاذَ الْمَالِ الَّذِي تَحْتَ يَدِهِ وَلَمْ يُعْلَمْ نَفَادُهُ وَاتُّهِمَ عَلَى كَتْمِهِ، فَإِنَّهُ يُحْبَسُ وَلَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ لِأَنَّهُ ادَّعَى خِلَافَ الظَّاهِرِ، وَسَيَأْتِي ذِكْرُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي مَسَائِلِ السِّيَاسَةِ فِي بَابِ الْوَصَايَا.
مَسْأَلَةٌ:
وَمِنْ ذَلِكَ إذَا بَاعَ ثَوْبًا مُرَابَحَةً ثُمَّ ادَّعَى أَنَّهُ غَلِطَ عَلَى نَفْسِهِ، وَأَنَّ ثَمَنَهُ أَكْثَرُ مِمَّا ذَكَرَ لَمْ يُصَدَّقْ فِي دَعْوَاهُ، قَالُوا: إلَّا أَنْ يَظْهَرَ مِنْ رَقْمِ الثَّوْبِ الَّذِي قَبَضَهُ الْمُشْتَرِي مَا يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى الْغَلَطِ.
قَالَ فِي الْمُدَوَّنَةِ: فَيَحْلِفُ الْبَائِعُ وَيُصَدَّقُ، وَزَادَ الْبَاجِيُّ أَوْ يُرَى مِنْ حَالِ الثَّوْبِ مَا يَدُلُّ عَلَى صِدْقِهِ لِرُخْصِهِ مَثَلًا فَيُصَدَّقُ فِي دَعْوَاهُ.
مَسْأَلَةٌ:
إذَا حَصَلَ فِي الْمَرَاكِبِ عَطَبٌ بِسَبَبِ الْعَدُوِّ فَقُتِلَ بَعْضُ أَصْحَابِ الْمَتَاعِ وَمَاتَ بَعْضُهُمْ وَوُجِدَ عَلَى بَعْضِ الرِّحَالِ مَكْتُوبٌ اسْمُ صَاحِبِهَا، فَهَلْ تَسْلَمُ لِوَرَثَتِهِ أَوْ لَا؟ قَالَ الشَّيْخُ أَبُو عِمْرَانَ الْفَاسِيُّ: إذَا كَانَ يَمْلِكُ مِثْلَ ذَلِكَ وَاعْتَرَفَ صَاحِبُ الْمَرْكَبِ بِأَنَّهُ لَهُمْ، حُكِمَ بِهِ لَهُمْ مِنْ الْحَاوِي فِي الْفَتَاوَى لِابْنِ عَبْدِ النُّورِ.
مَسْأَلَةٌ:
وَمِنْ ذَلِكَ إذَا وُلِدَ صَبِيٌّ فِي بَلَدِ الشِّرْكِ وَأُتِيَ بِهِ مَحْمُولًا مِثْلَ الصَّقَالِبَةِ وَالزِّنْجِ، فَادَّعَى رَجُلٌ أَنَّهُ وَلَدُهُ وَيُعْرَفُ أَنَّ الْمُدَّعِيَ لَمْ يَدْخُلْ تِلْكَ الْبِلَادَ قَطُّ، فَهَذَا وَشَبَهُهُ يُعْرَفُ بِهِ كَذِبُهُ، وَأَمَّا إذَا لَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ لَمْ يَدْخُلْ تِلْكَ الْبِلَادَ فَإِقْرَارُهُ جَائِزٌ.
مَسْأَلَةٌ:
وَكَذَلِكَ لَوْ بَاعَ رَجُلٌ صَبِيًّا ثُمَّ أَقَرَّ أَنَّهُ ابْنُهُ، فَقَامَتْ بَيِّنَةٌ أَنَّ أُمَّ هَذَا الْغُلَامِ لَمْ تَزَلْ مِلْكًا لِفُلَانٍ، أَوْ لَمْ تَزَلْ زَوْجَةً لِفُلَانٍ حَتَّى هَلَكَتْ عِنْدَهُ، اُسْتُدِلَّ بِهَا عَلَى كَذِبِ الْمُدَّعِي.
وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: أَمَّا الْأَمَةُ فَلَا أَدْرِي لَعَلَّهُ كَانَ زَوْجًا، وَأَمَّا الْحُرَّةُ فَلَا شَكَّ فِي كَذِبِهِ.
مَسْأَلَةٌ:
وَإِذَا كَانَ لَك مَالٌ فِي ذِمَّةِ رَجُلٍ فَأَمَرْته أَنْ يُنْفِقَهُ فِي عِمَارَةِ دَارٍ فَقَالَ أَنْفَقْته، وَفِي الدَّارِ أَثَرٌ فَإِنَّهُ يُصَدَّقُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ مِنْ ابْنِ يُونُسَ فِي بَابِ الْقِرَاضِ، وَلَعَلَّهُ يُرِيدُ أَنَّ ذَلِكَ الْأَثَرَ يُشْبِهُ أَنْ يُنْفَقَ فِيهِ مِثْلُ ذَلِكَ.
مَسْأَلَةٌ:
وَمِنْ ذَلِكَ إذَا وَهَبَ هِبَةً تَقْتَضِي أَنَّهُ يُرِيدُ بِهَا الثَّوَابَ، فَإِنَّ الْقَرَائِنَ الدَّالَّةَ عَلَى أَنَّهُ قَصَدَ الثَّوَابَ تَقُومُ مَقَامَ الشَّرْطِ، مِثْلَ أَنْ يَهَبَ الْفَقِيرُ لِغَنِيٍّ بِخِلَافِ الْعَكْسِ، فَإِنَّ هِبَةَ الْغَنِيِّ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ الثَّوَابَ مِنْ التَّقْرِيبِ عَلَى التَّهْذِيبِ.
مَسْأَلَةٌ:
وَمِنْ ذَلِكَ إذَا شَهِدَ وَحَلَفَ، فَفِي قَبُولِ شَهَادَتِهِ قَوْلَانِ لِقِيَامِ الْقَرِينَةِ عَلَى حِرْصِهِ عَلَى قَبُولِ شَهَادَتِهِ وَتَنْفِيذِهَا، وَكَذَلِكَ لَوْ خَاصَمَ الشَّاهِدُ الْمَشْهُودَ عَلَيْهِ فِي حَقِّ الْمَشْهُودِ لَهُ، فَإِنَّهُ لَا تُقْبَلُ لِقِيَامِ الْقَرِينَةِ عَلَى تُهْمَتِهِ، فَإِنْ خَاصَمَهُ فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى فَفِي قَبُولِ شَهَادَتِهِ قَوْلَانِ، وَكَذَلِكَ شَهَادَةُ الْبَدْوِيِّ لِلْقَرَوِيِّ لِقَرِينَةِ التُّهْمَةِ، إذَا أَشْهَدَهُ فِي الْحَضَرِ وَعَدَلَ عَنْ غَيْرِهِ مِنْ الشُّهُودِ، وَمَسَائِلُ هَذَا الْبَابِ يَكْثُرُ تَعَدُّدُهَا وَهِيَ مَذْكُورَةٌ فِي بَابِ الشَّهَادَاتِ.
مَسْأَلَةٌ:
وَمِنْ ذَلِكَ إذَا ادَّعَتْ الْأَمَةُ أَنَّهَا وَلَدَتْ مِنْ سَيِّدِهَا وَأَنْكَرَ وِلَادَتَهَا وَزَعَمَ أَنَّهَا الْتَقَطَتْهُ وَلَمْ تَقُمْ لَهَا بَيِّنَةٌ، فَقَالَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْ أَهْلِ الْمَذْهَبِ: يَنْظُرُ إلَيْهَا النِّسَاءُ فَإِنْ رَأَوْا عَلَيْهَا أَثَرَ الْوِلَادَةِ صُدِّقَتْ.
مَسْأَلَةٌ:
وَكَذَلِكَ الْمُسْتَحَاضَةُ إذَا تَغَيَّرَ عَلَيْهَا لَوْنُ الدَّمِ وَرَائِحَتُهُ حَكَمْنَا بِأَنَّهَا حَيْضَةٌ مُؤْتَنَفَةٌ، وَيُبْنَى عَلَى تِلْكَ الْأَمَارَةِ خُرُوجُهَا مِنْ الْعِدَّةِ وَحِلُّهَا لِلْأَزْوَاجِ.
مَسْأَلَةٌ:
وَمِنْ ذَلِكَ الْحُكْمُ بِصِحَّةِ بَيْعِ الْأَبْكَمِ الْأَصَمِّ وَلِعَانِهِ وَالشَّهَادَةِ عَلَيْهِ، لِأَنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ بِالْإِشَارَاتِ الْمُفْهِمَةِ، فَقَامَتْ تِلْكَ الْإِشَارَاتُ مَقَامَ اللَّفْظِ الصَّرِيحِ.
مَسْأَلَةٌ:
وَمِنْ ذَلِكَ إذَا وَجَبَ حَدٌّ عَلَى صَبِيٍّ وَشُكَّ فِي بُلُوغِهِ أَوْ طَلَبَ حَقًّا يَسْتَحِقُّهُ بِالْبُلُوغِ كَسَهْمِهِ مِنْ الْغَنِيمَةِ، وَادَّعَى أَنَّهُ قَدْ بَلَغَ فَإِنَّهُ يُنْظَرُ هَلْ أَنْبَتَ أَمْ لَا. وَالْأَصْلُ فِي ذَلِكَ قَضِيَّةُ بَنِي قُرَيْظَةَ، وَأَنَّ الصَّحَابَةَ كَانُوا يَقْتُلُونَ مِنْ الصَّبِيَّانِ مَنْ أَنْبَتَ وَذَلِكَ بِحَضْرَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى الْبُلُوغِ.
مَسْأَلَةٌ:
وَكَذَلِكَ لَوْ بَنَى مَسْجِدًا وَأَذَّنَ بِالصَّلَاةِ فِيهِ، فَذَلِكَ كَالتَّصْرِيحِ بِأَنَّهُ وَقْفٌ وَلَمْ يَخُصَّ زَمَانًا وَلَا شَخْصًا، وَلَا قَيَّدَ الصَّلَاةَ فِيهِ بِفَرْضٍ وَلَا نَفْلٍ، فَلَا يُحْتَاجُ إلَى شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ وَيُحْكَمُ بِوَقْفِيَّتِهِ.
مَسْأَلَةٌ:
ذَكَرَهَا بَعْضُ الْحَنَابِلَةِ وَهِيَ جَارِيَةٌ عَلَى قَوَاعِدِ الْمَذْهَبِ، قَالَ: فَإِنْ قِيلَ مَا يَقُولُونَ فِي كُتُبِ الْعِلْمِ: يُوجَدُ عَلَى ظُهُورِهَا وَهَوَامِشِهَا كِتَابَةُ الْوَقْفِ، هَلْ لِلْحَاكِمِ أَنْ يَحْكُمَ بِكَوْنِهَا وَقْفًا بِذَلِكَ؟ قِيلَ: هَذَا يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ قَرَائِنِ الْأَحْوَالِ.
فَإِذَا رَأَيْنَا كُتُبًا مُودَعَةً فِي خِزَانَةٍ فِي مَدْرَسَةٍ وَعَلَيْهَا كِتَابَةُ الْوَقْفِ وَقَدْ مَضَى عَلَيْهَا مُدَّةٌ طَوِيلَةٌ، كَذَلِكَ وَقَدْ اُشْتُهِرَتْ بِذَلِكَ لَمْ نَشُكَّ فِي كَوْنِهَا وَقْفًا، وَحُكْمُهَا حُكْمُ الْمَدْرَسَةِ فِي الْوَقْفِيَّةِ، فَإِنْ انْقَطَعَتْ كُتُبُهَا أَوْ فُقِدَتْ ثُمَّ وُجِدَتْ عَلَيْهَا تِلْكَ الْوَقْفِيَّةُ، وَشُهْرَةُ كُتُبِ الْمَدْرَسَةِ فِي الْوَقْفِيَّةِ مَعْلُومَةٌ، فَيَكْفِي فِي ذَلِكَ الِاسْتِفَاضَةُ فَإِنَّ الْوَقْفَ، يَثْبُتُ بِالِاسْتِفَاضَةِ وَيَثْبُتُ بِالسَّمَاعِ وَيَثْبُتُ مَصْرِفُهُ بِذَلِكَ.
وَأَمَّا إذَا رَأَيْنَا كِتَابًا لَا يُعْلَمُ مَقَرُّهُ وَلَا يُعْرَفُ مَنْ كَتَبَ عَلَيْهِ الْوَقْفِيَّةَ فَهَذَا يَجِبُ التَّوَقُّفُ فِي أَمْرِهِ حَتَّى يَتَبَيَّنَ حَالُهُ، وَهُوَ عَيْبٌ يَثْبُتُ لِلْمُشْتَرِي بِهِ الرَّدَّ.
وَفِي الطُّرَرِ لِأَبِي الْحَسَنِ الطَّنْجِيِّ عَلَى التَّهْذِيبِ فِيمَا غَنِمَهُ الْمُسْلِمُونَ مِنْ مَالِ الْمُشْرِكِينَ فَوَجَدُوا فَرَسًا فِي الْغَنِيمَةِ عَلَيْهِ مَوْسُومٌ حَبْسٌ لِلَّهِ، وَكَذَلِكَ غَيْرُهَا مِمَّا عَلَيْهِ عَلَامَةُ الْحَبْسِ.
قَالَ سَحْنُونٌ: مَا وُجِدَ عَلَيْهِ عَلَامَةُ الْحَبْسِ فَإِنَّهُ يَبْقَى حَبْسًا فِي السَّبِيلِ وَفِيهِ خِلَافٌ، وَقَوْلُ سَحْنُونٍ يُؤَيِّدُ مَا ذَكَرْنَاهُ، وَالْمُعَوَّلُ فِي ذَلِكَ عَلَى الْقَرَائِنِ، فَإِنْ قَوِيَتْ حُكِمَ بِهَا، وَإِنْ ضَعُفَتْ لَمْ يُلْتَفَتْ إلَيْهَا، وَإِنْ تَوَسَّطَتْ تُوُقِّفَ فِيهَا وَكُشِفَ عَنْهَا وَسُلِكَ طَرِيقُ الِاحْتِيَاطِ.
هَذَا كُلُّهُ مَا لَمْ يُعَارِضْ مُعَارِضٌ، فَإِنْ عَارَضَ ذَلِكَ شَيْءٌ نُظِرَ فِيهِ، انْتَهَى.
وَهَذَا مُوَافِقٌ لِمَا تَقَدَّمَ فِي الْجَوَابِ فِي مَسْأَلَةِ الْفَرَسِ الْحَبْسِ.
تنبيه:
فَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا فَيَنْبَغِي الِاعْتِمَادُ عَلَى مَا يُوجَدُ عَلَى أَبْوَابِ الرُّبُطِ وَالْمَدَارِسِ مِنْ الْأَحْجَارِ الْمَكْتُوبِ عَلَيْهَا الْوَقْفِيَّةُ وَتَلْخِيصُ شُرُوطِهَا، إذَا كَانَتْ تِلْكَ الْأَحْجَارُ قَدِيمَةً وَاشْتُهِرَ ذَلِكَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي بَابِ الْقَضَاءِ بِالْعُرْفِ وَالْعَادَةِ أَنَّهُ يُقْبَلُ قَوْلُ مُتَوَلِّي نَظَرِ الْوَقْفِ فِي مَصْرِفِهِ إذَا لَمْ يُوجَدْ كِتَابُ الْوَقْفِ وَذُكِرَ أَنَّ الْعَادَةَ جَرَتْ بِصَرْفِ غَلَّتِهِ فِي الْوُجُوهِ الَّتِي يَذْكُرُهَا، وَكَذَلِكَ فِي مَسْأَلَةِ مُتَقَبَّلِ الْحَمَّامِ، وَفِي مَسْأَلَةِ مَنْ كَانَ تَحْتَ يَدِهِ حَبْسٌ وَأَقَرَّ أَنَّهُ حَبْسٌ وَذَكَرَ أَنَّ مَصْرِفَهُ فِي وُجُوهٍ عَيَّنَهَا، فَإِنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ يُقْبَلُ وَيُعْمَلُ عَلَيْهِ إذَا لَمْ يُوجَدْ كِتَابُ الْوَقْفِ وَلَمْ يُعَارِضْهُ مُعَارِضٌ، فَلِذَلِكَ يَنْبَغِي الِاعْتِمَادُ عَلَى الْأَحْجَارِ الْمُتَحَقَّقِ أَنَّهَا قَدِيمَةٌ مَا لَمْ يُعَارِضْهَا مُعَارِضٌ.
فرع:
وَلَوْ بَنَى الْمَوْقُوفُ عَلَيْهِ فِي الْوَقْفِ أَوْ أَصْلَحَ فِيهِ شَيْئًا وَسَكَتَ عَنْهُ حَتَّى مَاتَ، فَإِنَّا نَحْكُمُ بِوَقْفِيَّتِهِ سَوَاءٌ كَانَ كَثِيرًا أَوْ يَسِيرًا وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ وَفَرَّقَ بَعْضُهُمْ بَيْنَ الْكَثِيرِ وَالْقَلِيلِ.
وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: هُوَ لِوَرَثَتِهِ، وَلَمْ يَرَ مَا قَالَ مَالِكٌ، وَعَنْ ابْنِ الْقَاسِمِ أَيْضًا أَنَّهُ حَبْسٌ، اُنْظُرْ ابْنَ رَاشِدٍ فِي شَرْحِ ابْنِ الْحَاجِبِ، لِأَنَّ سُكُوتَهُ عَنْ ذِكْرِ ذَلِكَ وَالْوَصِيَّةَ بِهِ لِأَوْلَادِهِ أَمَارَةٌ عَلَى أَنَّهُ أَرَادَ بِذَلِكَ إلْحَاقَهُ بِالْحَبْسِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
مَسْأَلَةٌ:
وَمِنْ هَذَا الْبَابِ التَّقْلِيدُ فِي الْقِبْلَةِ، قَالَ الشَّيْخُ أَبُو بَكْرٍ الطُّرْطُوشِيُّ فِي كِتَابِهِ تَعْلِيقَةُ الْخِلَافِ. حَكَى الْقَاضِي أَبُو الْحُسَيْنِ بْنُ الْقَصَّارِ، قَالَ مَذْهَبُ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ: إذَا دَخَلَ رَجُلٌ بَلَدًا خَرَابًا لَا أَحَدَ فِيهَا وَقَدْ مَضَى وَقْتُ الصَّلَاةِ، فَإِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ أَوْ لَمْ تَخْفَ دَلَائِلُ الْقِبْلَةِ، رَجَعَ إلَى اجْتِهَادِهِ وَلَمْ يَلْتَفِتْ إلَى تِلْكَ الْمَحَارِيبِ، وَإِنْ خَفِيَتْ عَلَيْهِ الدَّلَائِلُ أَوْ لَمْ يَكُنْ مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ، وَكَانَتْ الْقَرْيَةُ لِلْمُسْلِمِينَ صَلَّى إلَى تِلْكَ الْمَحَارِيبِ، لِأَنَّ الظَّاهِرَ مِنْ بِلَادِ الْمُسْلِمِينَ أَنَّ مَسَاجِدَهُمْ وَآثَارَهُمْ لَا تَخْفَى، وَأَنَّ قِبْلَتَهُمْ وَمَحَارِيبَهُمْ عَلَى مَا تُوجِبُهُ الشَّرِيعَةُ.
وَأَمَّا إذَا كَانَتْ مَحَارِيبَ مَنْصُوبَةً فِي بِلَادِ الْمُسْلِمِينَ الْعَامِرَةِ فِي الْمَسَاجِدِ الَّتِي تَكْثُرُ فِيهَا الصَّلَاةُ وَتَتَكَرَّرُ، وَيُعْلَمُ أَنَّ إمَامًا لِلْمُسْلِمِينَ بَنَاهَا فَإِنْ كَانَ الْعَالِمُ وَالْعَامِّيُّ يُصَلُّونَ إلَى تِلْكَ الْقِبْلَةِ فَلَا يُحْتَاجُ فِي ذَلِكَ إلَى اجْتِهَادٍ وَأَمَّا الْمَسَاجِدُ الَّتِي تَجْرِي هَذَا الْمَجْرَى، فَإِنَّ الْعَالِمَ إذَا كَانَ مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ فَسَبِيلُهُ أَنْ يَسْتَدِلَّ عَلَى الْجِهَةِ، فَإِنْ خَفِيَتْ عَلَيْهِ الدَّلَائِلُ صَلَّى إلَى تِلْكَ الْمَحَارِيبِ إذَا كَانَ بَلَدًا لِلْمُسْلِمِينَ عَامِرًا، لِأَنَّ هَذَا أَقْوَى مِنْ اجْتِهَادِهِ مَعَ خَفَاءِ الدَّلَائِلِ عَلَيْهِ. فَأَمَّا الْعَامِّيُّ فَيُصَلِّي فِي سَائِرِ الْمَسَاجِدِ إذْ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ.
تنبيه:
قَالَ الْقَرَافِيُّ: وَهَذَا شَرْطُهُ أَنْ لَا يَشْتَهِرَ الطَّعْنُ فِيهَا كَمُحَارِبِ الْقُرَى وَغَيْرِهَا بِالدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ، فَإِنَّ أَكْثَرَهَا مَا زَالَ الْعُلَمَاءُ قَدِيمًا وَحَدِيثًا يُنَبِّهُونَ عَلَى فَسَادِهَا، وَلِلزَّيْنِ الدِّمْيَاطِيِّ فِي ذَلِكَ كِتَابٌ وَلِغَيْرِهِ، وَقَدْ قَصَدَ الشَّيْخُ عِزُّ الدِّينِ بْنُ عَبْدِ السَّلَامِ تَغْيِيرَ مِحْرَابِ الشَّافِعِيِّ وَالْمَدْرَسَةِ وَمُصَلَّى خَوْلَانَ، فَعَالَجَهُ مَا مَنَعَهُ مِنْ ذَلِكَ، وَكَذَلِكَ مِحْرَابُ الْمَحَلَّةِ مَدِينَةِ الْغَرْبِيَّةِ وَالْفَيُّومِ وَمُنْيَةِ بْنِ خَصِيبٍ، وَهِيَ لَا تُعَدُّ وَلَا تُحْصَى وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقَلِّدَهَا عَالِمٌ وَلَا عَامِّيٌّ.
مَسْأَلَةٌ:
وَفِي أَحْكَامِ ابْنِ سَهْلٍ قَالَ ابْنُ حَبِيبِ بْنِ نَصْرٍ: سَأَلْت سَحْنُونَ عَنْ الزَّنْقَةِ غَيْرِ النَّافِذَةِ لِأَقْوَامٍ فِيهَا أَبْوَابُ دُورِهِمْ، وَدُبُرُ رَجُلٍ إلَيْهَا لَيْسَ لَهُ فِيهَا إلَّا حَائِطٌ دُبُرَ دَارِهِ، وَكَنِيفٌ قَدِيمٌ فِي الزَّنْقَةِ مُلْصَقٌ بِهَذَا الْحَائِطِ، وَلِلْكَنِيفِ قَنَاةٌ تَخْرُجُ مِنْ هَذِهِ الدَّارِ الَّتِي لَيْسَ لَهَا فِي الزُّقَاقِ إلَّا هَذَا الْكَنِيفُ، وَبِئْرٌ مُغَطًّى، وَالْقَنَاةُ لَمْ يَجْرِ فِيهَا شَيْءٌ مِنْ زَمَانٍ، فَأَرَادَ صَاحِبُ الدَّارِ فَتْحَ الْقَنَاةِ إلَى الْكَنِيفِ وَيَجْرِي فِيهَا الْعَذِرَةُ فَمَنَعَهُ أَهْلُ الزَّنْقَةِ، فَقَالَ: لَيْسَ لَهُمْ مَنْعَةٌ إلَّا أَنْ يَدَّعُوا الْكَنِيفَ فَيُكْشَفُ عَنْ دَعْوَاهُمْ، فَأَمَّا إنْ لَمْ يَدَّعُوهُ فَهُوَ لِصَاحِبِ الدَّارِ بِهَذِهِ الرُّسُومِ وَالْآثَارِ الَّتِي تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لِصَاحِبِ هَذِهِ الدَّارِ.
فرع:
وَإِذَا أُحْدِثَ عَلَى جَارِهِ بَابٌ أَوْ كُوَّةٌ وَثَبَتَ ضَرَرُ ذَلِكَ، فَإِنَّ الْبَابَ يُغْلَقُ غَلْقًا حَصِينًا وَتُقْلَعُ مِنْهُ الْعَتَبَةُ لِئَلَّا تَكُونَ حُجَّةً عِنْدَ تَقَادُمِ الزَّمَانِ، وَكَذَلِكَ ذَكَرُوا فِي الْكُوَّةِ إذَا سُدَّتْ أَنَّهُ يُقْلَعُ مِنْهَا الْعَتَبَةُ الْعُلْيَا لِئَلَّا يَكُونَ حُجَّةً، وَتُغَيَّرَ عَضَائِدُ الْبَابِ وَلَا يَكُونَ غَلْقُهُ إلَّا بِالْحِجَارَةِ وَالطُّوبِ وَقَلْعِ الْعَتَبِ حَتَّى لَا يُشَكَّ فِيهِ أَوْ يُرْتَابَ أَنَّهُ بَابٌ.
فرع:
وَقَالَ ابْنُ أَبِي زَيْدٍ فِي النَّوَادِرِ: قَالَ أَشْهَبُ إذَا تَدَاعَيَا جِدَارًا مُتَّصِلًا بِبِنَاءِ أَحَدِهِمَا، وَعَلَيْهِ جُذُوعٌ لِلْآخَرِ فَهُوَ لِمَنْ اتَّصَلَ بِبِنَائِهِ، وَلِصَاحِبِ الْجُذُوعِ مَوْضِعُ جُذُوعِهِ؛ لِأَنَّهُ حَوْزُهُ، وَيُقْضَى بِالْجِدَارِ لِمَنْ عَلَيْهِ عُقُودُ الْأَرْبِطَةِ، وَلِلْآخَرِ بِمَوْضِعِ جُذُوعِهِ، وَإِنْ كَانَ لِأَحَدِهِمَا عَشْرُ خَشَبَاتٍ عَلَيْهِ، وَلَا رُبُطَ وَلَا غَيْرُ ذَلِكَ فَهُوَ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ لَا عَلَى عَدَدِ الْخَشَبِ، وَتَبْقَى خُشْبَانُهَا بِحَالِهَا، وَإِنْ انْكَسَرَتْ خَشَبَةُ أَحَدِهِمَا رَدَّهَا مِثْلَ مَا كَانَتْ، وَلَا يُجْعَلُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَا تَحْتَ خَشَبِهِ مِنْهُ.
فرع:
وَلَوْ كَانَتْ عُقْدَةٌ لِأَحَدِهِمَا فِي ثَلَاثَةِ مَوَاضِعَ، وَلِلْآخَرِ فِي مَوْضِعٍ قُسِمَ بَيْنَهُمَا عَلَى عَدَدِ الْعُقُودِ، وَإِنْ لَمْ يُعْقَدْ لِأَحَدِهِمَا وَلِلْآخَرِ عَلَيْهِ خَشَبٌ مَعْقُودَةٌ بِعَقْدِ الْبِنَاءِ، أَوْ مَنْقُوبَةٌ فَعُقَدُ الْبِنَاءِ يُوجِبُ مِلْكَ الْحَائِطِ، لِأَنَّهُ فِي الْعَادَةِ إنَّمَا يَكُونُ لِلْمَالِكِ، وَقِيلَ: لَا يُوجِبُهُ فِي الْمَنْقُوبَةِ نَظَرًا لِأَنَّهَا طَارِئَةٌ عَلَى الْحَائِطِ.
مَسْأَلَةٌ:
وَالْكُوَى كَعُقَدِ الْبِنَاءِ يُوجِبُ الْمِلْكَ، وَكُوَى الضَّوْءِ الْمَنْفُوذَةِ لَا دَلِيلَ فِيهَا.
فرع:
قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ: إذَا لَمْ يَكُنْ لِأَحَدِهِمَا عُقَدٌ وَلِلْآخَرِ عَلَيْهِ خَشَبٌ وَلَوْ وَاحِدَةً فَهُوَ لَهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ إلَّا كُوًى مَنْفُوذَةٌ أَوْجَبَتْ الْمِلْكَ.
تنبيه:
قَالَ الْقَرَافِيُّ: الْمُدْرَكُ فِي هَذِهِ الْفَتَاوَى كُلِّهَا شَوَاهِدُ الْعَادَاتِ، فَمَنْ ثَبَتَ عِنْدَهُ عَادَةٌ قَضَى بِهَا، وَإِذَا اخْتَلَفَ الْعَوَائِدُ فِي الْأَعْصَارِ وَالْأَمْصَارِ وَجَبَ اخْتِلَافُ هَذِهِ الْأَحْكَامِ، فَإِنَّ الْقَاعِدَةَ الْمُجْمَعَ عَلَيْهَا أَنَّ كُلَّ حُكْمٍ مَبْنِيٌّ عَلَى عَادَةٍ، إذَا تَغَيَّرَتْ الْعَادَةُ تَغَيَّرَ الْحُكْمُ.
مَسْأَلَةٌ:
وَفِي أَحْكَامِ ابْنِ سَهْلٍ قَالَ: وَفِي كِتَابِ الْوَدِيعَةِ فِي سَمَاعِ يَحْيَى مِنْ قَوْلِ ابْنِ وَهْبٍ فِيمَنْ أَوْدَعَ رَجُلًا دَنَانِيرَ، وَعَهِدَ إلَيْهِ فِيهَا أَنْ لَا يَدْفَعَهَا إلَّا إلَى مَنْ أَتَى بِأَمَارَةٍ أَعْلَمَهُ بِهَا لَمْ يَطَّلِعْ عَلَيْهَا غَيْرُهُ، فَأَتَى رَجُلٌ بِتِلْكَ الْأَمَارَةِ فَدَفَعَ إلَيْهِ الْمَالَ وَمَاتَ الْمُودِعِ رَبُّ الْمَالِ، فَقَالَ وَرَثَتُهُ لِلْمُودَعِ: مَا صَنَعْت بِمَالِنَا؟ فَقَالَ: صَنَعْت بِهِ الَّذِي أَمَرَنِي أَبُوكُمْ، وَلَيْسَ عَلَيَّ أَنْ أُخْبِرَكُمْ بِمَا أَمَرَنِي بِهِ أَنَّهُ يَحْلِفُ، لَقَدْ فَعَلَ بِهِ الَّذِي أَمَرَهُ بِهِ فِي الْمَالِ لَمْ يَتَعَدَّهُ إلَى غَيْرِهِ وَيَبْرَأُ، قَالَ يَحْيَى: وَسَأَلْت عَنْهُ ابْنَ الْقَاسِمِ فَقَالَ مِثْلَهُ، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ صَدَّقُوهُ فِي الْأَمَارَةِ وَأَنَّ أَبَاهُمْ أَمَرَهُ بِذَلِكَ، فَلِذَلِكَ حَلَفَ أَنَّهُ فَعَلَ مَا أَمَرَهُ بِهِ وَبَرِيءَ وَأَمَّا لَوْ كَذَّبُوهُ فِي دَعْوَاهُ كُلِّهَا وَطَلَبُوا مَالَهُمْ لَكَانَ ذَلِكَ لَهُمْ.
مَسْأَلَةٌ:
وَلَوْ جَاءَ رَجُلٌ بِكِتَابِ الْمُودِعِ رَبِّ الْمَالِ إلَى الْمُودِعِ بِأَمَارَةٍ لِيَدْفَعَ إلَيْهِ الْوَدِيعَةَ، وَهُوَ يَعْرِفُ خَطَّهُ وَأَمَارَتَهُ فَصَدَّقَ كِتَابَهُ وَدَفَعَهَا إلَى الرَّسُولِ، ثُمَّ أَنْكَرَ رَبُّهَا حَلَفَ أَنَّهُ مَا أَمَرَهُ وَلَا كَتَبَ بِذَلِكَ إلَيْهِ وَأَنَّهُ لَا حَقَّ لَهُ عَلَيْهِ، ثُمَّ يَغْرَمُ الْمُودَعُ ثُمَّ يَرْجِعُ الْمُودَعُ إلَى الْقَابِضِ مِنْهُ، وَلَا يَمْنَعُهُ مِنْ ذَلِكَ تَصْدِيقُهُ فِيمَا أَتَى بِهِ، وَلَا مَعْرِفَتُهُ بِصِحَّةِ مَا جَاءَ بِهِ، وَشَهَادَتُهُ بِصِدْقِهِ، قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْمَوَّازِ: وَاَلَّذِي جَاءَهُ الْكِتَابُ وَإِنْ عَرَفَ خَطَّهُ وَأَمَارَتَهُ لَا يَدْفَعُ إلَيْهِ وَدِيعَةَ الْغَائِبِ وَلَا حَقَّ لَهُ عَلَيْهِ.
وَقَالَ ابْنُ عَبْدُوسٍ: إنْ دَفَعَهَا إلَى الرَّسُولِ ثُمَّ اجْتَمَعَ مَعَ رَبِّهَا فَأَعْلَمَهُ بِذَلِكَ فَسَكَتَ ثُمَّ طَالَبَهُ بَعْدُ، فَإِنَّهُ يَحْلِفُ مَا أَمَرَهُ فُلَانٌ بِقَبْضِهِ، وَمَا كَانَ سُكُوتُهُ رِضًا بِقَبْضِهِ ثُمَّ يُغَرِّمُهُ، وَلَوْ عَلِمَ بِقَبْضِهِ فَجَاءَ إلَى الدَّافِعِ وَقَالَ لَهُ: كَلِّمْ فُلَانًا الْقَابِضَ يَحْتَالُ لِي فِي الْمَالِ كَانَ رِضًا بِقَبْضِهِ بِهِ، وَالدَّافِعُ بَرِيءٌ مِنْ ابْنِ سَهْلٍ فِي بَابِ الْإِقْرَارِ.
فرع:
وَفِي الْمُتَيْطِيَّةِ: وَحَكَى ابْنُ حَبِيبٍ عَنْ سَحْنُونٍ فِيمَنْ قَالَ لِرَجُلٍ: وَكَّلَنِي فُلَانٌ عَلَى قَبْضِ دَيْنِهِ مِنْك وَعَدَدُهُ كَذَا، فَصَدَّقَهُ فِي الْوَكَالَةِ وَأَقَرَّ بِالدَّيْنِ أَنَّهُ يَلْزَمُ الدَّفْعُ إلَيْهِ، فَإِنْ قَدِمَ فُلَانٌ وَأَنْكَرَ التَّوْكِيلَ غُرِّمَ الْمُقِرُّ، لِأَنَّ الْحُكْمَ كَانَ بِإِقْرَارِهِ، وَهَذِهِ مَذْكُورَةٌ فِي بَابِ التَّصْدِيقِ.
تنبيه:
وَالْأَصْلُ فِي الْأَمَارَةِ مَا رُوِيَ: «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِجَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ حِينَ أَرَادَ السَّفَرَ إلَى خَيْبَرَ، إذَا أَتَيْت وَكِيلِي فَخُذْ مِنْهُ خَمْسَةَ عَشَرَ وَسْقًا، فَإِذَا طَلَبَ مِنْك آيَةً فَضَعْ يَدَك عَلَى تَرْقُوَتِهِ»، رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ فَأَقَامَ الْعَلَامَةَ مَقَامَ الْبَيِّنَةِ.

.فَصْلٌ فِيمَا ذَكَرَهُ فِي الْفِرَاسَةِ وَالْمَنْعِ مِنْ الْحُكْمِ بِهَا:

وَالْأَصْلُ فِي الْفِرَاسَةِ قَوْله تَعَالَى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ} [الحجر: 75]، «فَسَّرَ ذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: لِلْمُتَفَرِّسِينَ»، ذَكَرَهُ الْحَكِيمُ التِّرْمِذِيُّ فِي نَوَادِرِ الْأُصُولِ.
وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «اتَّقُوا فِرَاسَةَ الْمُؤْمِنِ فَإِنَّهُ يَنْظُرُ بِنُورِ اللَّهِ» وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «إنَّ لِلَّهِ عِبَادًا يَعْرِفُونَ النَّاسَ بِالتَّوَسُّمِ»، ذَكَرَهُمَا التِّرْمِذِيُّ. وَالْفِرَاسَةُ نَاشِئَةٌ عَنْ جَوْدَةِ الْقَرِيحَةِ وَحِدَّةِ النَّظَرِ وَصَفَاءِ الْفِكْرِ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنَّهُ دَخَلَ عَلَيْهِ قَوْمٌ مِنْ مُذْحَجٍ فِيهِمْ الْأَشْتَرُ، فَصَعَّدَ عُمَرُ فِيهِ النَّظَرَ وَصَوَّبَهُ وَقَالَ: أَيُّهُمْ هَذَا؟ فَقَالُوا: مَالِكُ بْنُ الْحَارِثِ، فَقَالَ: مَا لَهُ قَاتَلَهُ اللَّهُ أَنِّي لَأَرَى لِلْمُسْلِمِينَ مِنْهُ يَوْمًا عَصِيبًا، فَكَانَ مِنْهُ فِي الْفِتْنَةِ مَا كَانَ، وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ وَفْدٌ مِنْ الْيَمَنِ وَكَانَ عُمَرُ مَعَ الصَّحَابَةِ فِي الْمَسْجِدِ، فَأَشَارُوا إلَى رَجُلٍ مِنْ الْوَفْدِ وَقَالُوا لِعُمَرَ: هَلْ تَعْرِفُ هَذَا؟ فَقَالَ: لَعَلَّهُ سَوَادُ بْنُ قَارِبٍ، فَكَانَ كَذَلِكَ، وَكَانَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَطُوفُ بِالْبَيْتِ فَسَمِعَ امْرَأَةً تُنْشِدُ فِي الطَّوَافِ:
فَمِنْهُنَّ مَنْ تُسْقَى بِعَذْبٍ مُبَرَّدِ ** نِقَاحٍ فَتَلِكُمْ عِنْدَ ذَلِكَ قَرَّتْ

وَمِنْهُنَّ مَنْ تُسْقَى بِأَخْضَرَ آجِنٍ ** أُجَاجٍ وَلَوْلَا خَشْيَةُ اللَّهِ رَنَّتْ

فَتَفَرَّسَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَا تَشْكُوهُ فَبَعَثَ إلَى زَوْجِهَا فَاسْتَنْكَهَهُ فَإِذَا هُوَ أَبْخَرُ الْفَمِ فَأَعْطَاهُ خَمْسَمِائَةِ دِرْهَمٍ وَجَارِيَةً عَلَى أَنْ يُطَلِّقَهَا فَفَعَلَ.
رُوِيَ أَنَّ بَعْضَ الصَّحَابَةِ دَخَلَ عَلَى عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَكَانَ قَدْ مَرَّ بِالسُّوقِ فَنَظَرَ إلَى امْرَأَةٍ، فَلَمَّا نَظَرَ إلَيْهِ عُثْمَانُ قَالَ لَهُ: يَدْخُلُ أَحَدُكُمْ عَلَيْنَا وَفِي عَيْنَيْهِ أَثَرُ الزِّنَا، فَقَالَ لَهُ الرَّجُلُ: أَوَحْيٌ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قَالَ: لَا، وَلَكِنْ بُرْهَانٌ وَفِرَاسَةٌ، وَمِثْلُ هَذَا كَثِيرٌ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
فَإِنْ قُلْت: هَلْ الْقَافَةُ مِنْ هَذَا الْبَابِ لِكَوْنِهَا مَبْنِيَّةً عَلَى الْحَدْسِ؟ فَالْجَوَابُ: أَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ هَذَا الْبَابِ، بَلْ هِيَ مِنْ بَابِ قِيَاسِ الشَّبَهِ وَهُوَ أَصْلٌ مَعْمُولٌ بِهِ فِي الشَّرْعِ، وَنَقَلَ الْقُرْطُبِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ عَنْ الْقَاضِي أَبِي بَكْرِ بْنِ الْعَرَبِيِّ أَنَّهُ قَالَ: الْفِرَاسَةُ لَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا حُكْمٌ.
وَقَدْ كَانَ قَاضِي الْقُضَاةِ الشَّاشِيُّ الْمَالِكِيُّ بِبَغْدَادَ أَيَّامَ كُوفِيِّ الشَّامِيِّ يَحْكُمُ بِالْفِرَاسَةِ، جَرْيًا عَلَى طَرِيقِ الْقَاضِي إيَاسِ بْنِ مُعَاوِيَةَ، وَكَانَ إيَاسُ قَاضِيًا فِي أَيَّامِ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ لَهُ أَحْكَامٌ كَثِيرَةٌ بِطَرِيقِ الْفِرَاسَةِ.
قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: وَكَانَ شَيْخُنَا فَخْرُ الْإِسْلَامِ أَبُو بَكْرٍ الشَّاشِيُّ صَنَّفَ جُزْءًا بِالرَّدِّ عَلَيْهِ، كَتَبَهُ لِي بِخَطِّهِ وَأُعْطِينَاهُ وَذَلِكَ صَحِيحٌ، فَإِنَّ مَدَارِكَ الْأَحْكَامِ مَعْلُومَةٌ شَرْعًا مُدْرَكَةٌ قَطْعًا، وَلَيْسَتْ الْفِرَاسَةُ مِنْهَا انْتَهَى.
وَالْحُكْمُ بِالْفِرَاسَةِ مِثْلُ الْحُكْمِ بِالظَّنِّ وَالْحَزْرِ وَالتَّخْمِينِ، وَذَلِكَ فِسْقٌ وَجَوْرٌ مِنْ الْحَاكِمِ، وَالظَّنُّ يُخْطِئُ وَيُصِيبُ، وَإِنَّمَا أُجِيزَتْ شَهَادَةُ التَّوَسُّمِ فِي مَحِلٍّ مَخْصُوصٍ لِلضَّرُورَةِ.

.الْقِسْمُ الثَّالِثُ مِنْ الْكِتَابِ فِي الْقَضَاءِ بِالسِّيَاسَةِ الشَّرْعِيَّةِ:

وَالسِّيَاسَةُ نَوْعَانِ: سِيَاسَةٌ ظَالِمَةٌ فَالشَّرْعُ يُحَرِّمُهَا، وَسِيَاسَةٌ عَادِلَةٌ تُخْرِجُ الْحَقَّ مِنْ الظَّالِمِ وَتَدْفَعُ كَثِيرًا مِنْ الْمَظَالِمِ، وَتَرْدَعُ أَهْلَ الْفَسَادِ وَيُتَوَصَّلُ بِهَا إلَى الْمَقَاصِدِ الشَّرْعِيَّةِ، فَالشَّرْعِيَّةُ تُوجِبُ الْمَصْدَرَ إلَيْهِ وَالِاعْتِمَادَ فِي إظْهَارِ الْحَقِّ عَلَيْهَا، وَهِيَ بَابٌ وَاسِعٌ تَضِلُّ فِيهِ الْأَفْهَامُ وَتَزِلُّ فِيهِ الْأَقْدَامُ، وَإِهْمَالُهُ يُضَيِّعُ الْحُقُوقَ وَيُعَطِّلُ الْحُدُودَ، وَيُجَرِّئُ أَهْلَ الْفَسَادِ وَيُعِينُ أَهْلَ الْعِنَادِ.
وَالتَّوَسُّعُ فِيهِ يَفْتَحُ أَبْوَابَ الْمَظَالِمِ الشَّنِيعَةِ، وَيُوجِبُ سَفْكَ الدِّمَاءِ وَأَخْذَ الْأَمْوَالِ بِغَيْرِ الشَّرِيعَةِ، وَبِهَذَا سَلَكَتْ فِيهِ طَائِفَةٌ مَسْلَكَ التَّفْرِيطِ الْمَذْمُومِ، فَقَطَعُوا النَّظَرَ عَنْ هَذَا الْبَابِ إلَّا فِيمَا قَلَّ ظَنًّا مِنْهُمْ أَنَّ تَعَاطِيَ ذَلِكَ مُنَافٍ لِلْقَوَاعِدِ الشَّرْعِيَّةِ، فَسَدُّوا مِنْ طُرُقِ الْحَقِّ سَبِيلًا وَاضِحَةً، وَعَدَلُوا إلَى طَرِيقِ الْعِنَادِ فَاضِحَةً، لِأَنَّ فِي إنْكَارِ السِّيَاسَةِ الشَّرْعِيَّةِ وَالنُّصُوصِ الشَّرِيفَةِ تَغْلِيطًا لِلْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ.
وَطَائِفَةٌ سَلَكَتْ هَذَا الْبَابَ مَسْلَكَ الْإِفْرَاطِ، فَتَعَدَّوْا حُدُودَ اللَّهِ تَعَالَى وَخَرَجُوا عَنْ قَانُونِ الشَّرْعِ إلَى أَنْوَاعٍ مِنْ الظُّلْمِ وَالْبِدَعِ وَالسِّيَاسَةِ، وَتَوَهَّمُوا أَنَّ السِّيَاسَةَ الشَّرْعِيَّةَ قَاصِرَةٌ عَنْ سِيَاسَةِ الْخَلْقِ وَمَصْلَحَةِ الْأُمَّةِ، وَهُوَ جَهْلٌ وَغَلَطٌ فَاحِشٌ. فَقَدْ قَالَ عَزَّ مِنْ قَائِلٍ: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} [المائدة: 3]، فَدَخَلَ فِي هَذَا جَمِيعُ مَصَالِحِ الْعِبَادِ الدِّينِيَّةِ وَالدُّنْيَوِيَّةِ عَلَى وَجْهِ الْكَمَالِ، وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «تَرَكْت فِيكُمْ مَا إنْ تَمَسَّكْتُمْ بِهِ لَنْ تَضِلُّوا: كِتَابَ اللَّهِ وَسُنَّتِي».
وَطَائِفَةٌ تَوَسَّطَتْ وَسَلَكَتْ فِيهِ مَسْلَكَ الْحَقِّ وَجَمَعُوا بَيْنَ السِّيَاسَةِ وَالشَّرْعِ، فَقَمَعُوا الْبَاطِلَ وَدَحَضُوهُ، وَنَصَبُوا الشَّرْعَ وَنَصَرُوهُ، وَاَللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ.
وَهَذَا الْقِسْمُ يَشْتَمِلُ عَلَى فُصُولٍ:

.الْفَصْلُ الْأَوَّلُ فِي الدَّلَالَةِ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ ذَلِكَ مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ:

اعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى شَرَعَ الْأَحْكَامَ بِحِكَمٍ، مِنْهَا مَا أَدْرَكْنَاهُ وَمِنْهَا مَا خَفِيَ عَلَيْنَا رَعْيًا لِمَصَالِحِ الْعِبَادِ وَدَرْءًا لِمَفَاسِدِهِمْ، تَفَضُّلًا لَا وَاجِبًا وَهِيَ تَنْقَسِمُ إلَى خَمْسَةِ أَقْسَامٍ.
الْقِسْمُ الْأَوَّلُ: شُرِعَ لِكَسْرِ النَّفْسِ، كَالْعِبَادَاتِ.
الْقِسْمُ الثَّانِي: شُرِعَ لِجَلْبِ بَقَاءِ الْإِنْسَانِ كَالْإِذْنِ فِي الْمُبَاحَاتِ الْمُحَصَّلَةِ لِلرَّاحَةِ مِنْ الطَّعَامِ وَاللِّبَاسِ وَالْمَسْكَنِ وَالْوَطْءِ وَشِبْهِ ذَلِكَ.
الْقِسْمُ الثَّالِثُ: شُرِعَ لِدَفْعِ الضَّرُورَاتِ، كَالْبِيَاعَاتِ وَالْإِجَارَاتِ وَالْقِرَاضِ وَالْمُسَاقَاتِ لِافْتِقَارِ الْإِنْسَانِ، إلَى مَا لَيْسَ عِنْدَهُ مِنْ الْأَعْيَانِ وَاحْتِيَاجِهِ إلَى اسْتِخْدَامِ غَيْرِهِ فِي تَحْصِيلِ مَصَالِحِهِ.
الْقِسْمُ الرَّابِعُ: شُرِعَ تَنْبِيهًا عَلَى مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ، كَالْحَضِّ عَلَى الْمُوَاسَاةِ وَعِتْقِ الرِّقَابِ وَالْهِبَاتِ وَالْأَحْبَاسِ وَالصَّدَقَاتِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ.
الْقِسْمُ الْخَامِسُ: وَهُوَ الْمَقْصُودُ شُرِعَ لِلسِّيَاسَةِ وَالزَّجْرِ وَهُوَ سِتَّةُ أَصْنَافٍ: الصِّنْفُ الْأَوَّلُ: شُرِعَ لِصِيَانَةِ الْوُجُودِ، كَالْقِصَاصِ فِي النُّفُوسِ وَالْأَطْرَافِ، فَمِنْ ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 179]. مَعْنَاهُ أَنَّ الْقِصَاصَ الَّذِي كَتَبْته عَلَيْكُمْ إذَا أُقِيمَ ازْدَجَرَ النَّاسُ عَنْ الْقَتْلِ، قَالَ ابْنُ الْفَرَسِ فِي أَحْكَامِ الْقُرْآنِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ تَنْبِيهٌ عَلَى الْحِكْمَةِ فِي شَرْعِ الْقِصَاصِ وَإِبَانَةِ الْغَرَضِ مِنْهُ.
وَقَالَ قَتَادَةُ: جَعَلَ اللَّهُ تَعَالَى هَذَا الْقِصَاصَ حَيَاةً وَنَكَالًا وَعِظَةً لِأَهْلِ الْجَهْلِ، فَكَمْ رَجُلٍ هَمَّ بِدَاهِيَةٍ لَوْلَا مَخَافَةُ الْقِصَاصِ لَوَقَعَ بِهَا، وَلَكِنَّ الْقِصَاصَ حَجَزَ بَعْضَهُمْ عَنْ بَعْضٍ وَخَصَّ أُولِي الْأَلْبَابِ، وَإِنْ كَانَ الْخَطَّابُ عَامًّا؛ لِأَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْعُقُولِ الَّذِينَ يَنْظُرُونَ فِي الْعَوَاقِبِ، ثُمَّ قَالَ: {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 179] يَعْنِي الدِّمَاءَ، وَأَمَّا الْقِصَاصُ فِي الْأَطْرَافِ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} [المائدة: 45] الْآيَةَ لِيَزْدَجِرَ النَّاسُ عَنْ الْإِقْدَامِ عَلَى شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ.
وَمِنْ ذَلِكَ قِتَالُ الْخَوَارِجِ وَالْمُحَارِبِينَ وَالْكُفَّارِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ} [المائدة: 33] الْآيَةَ، وَفِي قِتَالِ الْكُفَّارِ زِيَادَةُ مَعْنًى هُوَ إعْلَاءُ كَلِمَةِ الْحَقِّ وَمَحْوُ الشِّرْكِ.
الصِّنْفُ الثَّانِي: مِنْ الْأَحْكَامِ: شُرِعَ حِفْظُ الْأَنْسَابِ كَحَدِّ الزِّنَا، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} [النور: 2]، وَبَيَّنَتْ السُّنَّةُ حُكْمَ التَّغْرِيبِ وَحَدَّ الزَّانِي الثَّيِّبِ.
الصِّنْفُ الثَّالِثُ: مِنْ الْأَحْكَامِ شُرِعَ لِصِيَانَةِ الْأَعْرَاضِ، لِأَنَّ صِيَانَتَهَا لَمِنْ أَكْبَرِ الْأَغْرَاضِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} [النور: 4]، وَأَلْحَقَ الشَّرْعُ بِذَلِكَ التَّعْزِيرَ عَلَى السَّبِّ وَالْأَذَى بِالْقَوْلِ عَلَى حَسَبِ اجْتِهَادِ الْإِمَامِ فِي ذَلِكَ.
الصِّنْفُ الرَّابِعُ: مِنْ الْأَحْكَامِ شُرِعَ لِصِيَانَةِ الْأَمْوَالِ، كَحَدِّ السَّرِقَةِ وَحَدِّ الْحِرَابَةِ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [المائدة: 38]، وَيُلْتَحَقُ بِذَلِكَ تَعْزِيرُ الْغُصَّابِ وَنَحْوِهِمْ.
الصِّنْفُ الْخَامِسُ: مِنْ الْأَحْكَامِ شُرِعَ لِحِفْظِ الْعَقْلِ، كَحَدِّ الْخَمْرِ وَقَدْ نَهَى اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ فِي قَوْله تَعَالَى: {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ} [المائدة: 90] إلَى قَوْلِهِ: {فَاجْتَنِبُوهُ} [المائدة: 90] ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} [المائدة: 91] وَوَرَدَتْ السُّنَّةُ بِحَدِّ الشَّارِبِ.
الصِّنْفُ السَّادِسُ: مِنْ الْأَحْكَامِ شُرِعَ لِلرَّدْعِ وَالتَّعْزِيرِ، نَحْوَ قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} [المائدة: 95] إلَى قَوْلِهِ: {لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ} [المائدة: 95]، أَيْ لِيَذُوقَ جَزَاءَ فِعْلِهِ وقَوْله تَعَالَى: {الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ} [المجادلة: 2] إلَى قَوْلِهِ: {وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْلِ وَزُورًا} [المجادلة: 2]، ثُمَّ شَرَعَ كَفَّارَةَ ذَلِكَ فِي قَوْله تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ} [المجادلة: 3] إلَى قَوْلِهِ: {وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ} [المجادلة: 4] وقَوْله تَعَالَى: {وَاللاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ} [النساء: 34] الْآيَةَ.
وَقِصَّةُ الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا وَغَيْرُ ذَلِكَ مِمَّا وَرَدَ بِهِ الْقُرْآنُ الْعَظِيمُ.
وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ مِنْ السُّنَّةِ مَا رَوَاهُ ابْنُ حَبِيبٍ فِي مُخْتَصَرِ الْوَاضِحَةِ عَنْ مُطَرِّفٍ قَالَ: حَدَّثَنَا مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ عَنْ أَبِي مَالِكٍ الْغِفَارِيِّ: «أَنَّ رَجُلَيْنِ مِنْ غِفَارٍ أَقْبَلَا يُرِيدَانِ الْإِسْلَامَ، حَتَّى إذَا كَانَا قَرِيبًا مِنْ الْمَدِينَةِ أَمْسَيَا فَبَاتَا، وَأَتَى أُنَاسٌ يَظْهَرُونَ إلَى الْمَدِينَةِ فَبَاتُوا قَرِيبًا مِنْهُمَا، فَلَمَّا كَانَ مِنْ السَّحَرِ قَامُوا لِيَذْهَبُوا فَقَعَدُوا قَرِيبًا مِنْ الْإِبِلِ، فَاتَّهَمُوا الْغِفَارِيَّيْنِ فَأَخَذُوهُمْ، فَأَتَوْا بِهِمَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَحَبَسَ الْوَاحِدَ وَأَرْسَلَ الْآخَرَ، فَوَجَدَهُمَا قَرِيبًا مِنْ الْمَكَانِ الَّذِي بَاتُوا فِيهِ فَأَتَوْا بِهِمَا. فَقَالَ الْغِفَارِيَّانِ: وَاَللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ إنْ كُنَّا لَبَرَاءً، فَقَالَ لَهُمَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اسْتَغْفِرُوا لِي، فَقَالَ أَحَدُهُمَا: غَفَرَ اللَّهُ لَك، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَلَك يَغْفِرُ اللَّهِ وَقَبِلَك اللَّهُ فِي سَبِيلِهِ وَقَالَ لِلْآخَرِ: اسْتَغْفِرْ لِي فَقَالَ: وَاَللَّهِ إنْ كُنَّا لَبَرَاءً، فَقَالَ لَهُ النَّاسُ اسْتَغْفِرْ لِرَسُولِ اللَّهِ وَيْحَك، فَقَالَ: غَفَرَ اللَّهُ لَك، فَسَكَتَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ».
وَمِنْ ذَلِكَ مَا وَرَدَ مِنْ أَخْذِ الرَّجُلِ بِجَرِيرَةِ غَيْرِهِ، فَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ، وَغَيْرِهِ عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ: «أَنَّ ثَقِيفَةَ كَانَتْ حُلَفَاءَ لِبَنِي غِفَارٍ فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَأَصَابَ الْمُسْلِمُونَ رَجُلًا مِنْ بَنِي غِفَارٍ وَمَعَهُ نَاقَةٌ لَهُ، فَأَتَوْا بِهِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ بِمَ أَخَذْتنِي وَأَخَذْت سَابِقَةَ الْحَاجِّ، فَقَالَ أَخَذْتُك بِجَرِيرَةِ حُلَفَائِك ثَقِيفٍ قَدْ كَانُوا أَسَرُوا رَجُلَيْنِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ، وَكَانَ النَّبِيُّ يَمُرُّ بِهِ وَهُوَ مَحْبُوسٌ فَيَقُولُ: يَا مُحَمَّدُ إنِّي مُسْلِمٌ، قَالَ: لَوْ كُنْت قُلْت ذَلِكَ وَأَنْتَ تَمْلِكُ أَمْرَك أَفْلَحْت، فَفَدَاهُ النَّبِيُّ بِرَجُلَيْنِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ».
وَمِنْ ذَلِكَ: «أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا أَجْلَى يَهُودَ بَنِي النَّضِيرِ مِنْ الْمَدِينَةِ، عَلَى أَنَّ لَهُمْ مَا حَمَلَتْ الْإِبِلُ مِنْ أَمْوَالِهِمْ غَيْرَ اللُّقَطَةِ وَالسِّلَاحِ كَانَ لِأَبِي الْحَقِيقِ، مَالٌ عَظِيمٌ بَلَغَ مَسْكَ ثَوْرٍ، أَيْ مِلْءَ جِلْدِ ثَوْرٍ مِنْ ذَهَبٍ وَحُلِيٍّ وَآنِيَةٍ مَصُوغَةٍ. فَلَمَّا فَتَحَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَيْبَرَ، حَاصَرَ الْحِصْنَ الَّذِي فِيهِ ابْنُ أَبِي الْحَقِيقِ، فَنَزَلَ فَصَالَحَ عَلَى حَقْنِ دِمَاءِ مَنْ فِي حِصْنِهِمْ مِنْ الْمُقَاتِلَةِ وَالذُّرِّيَّةِ عَلَى أَنْ يَخْرُجُوا بِذَرَارِيِّهِمْ، وَيُخَلُّوا بَيْنَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبَيْنَ مَا كَانَ لَهُمْ مِنْ مَالٍ وَأَرْضٍ، وَعَلَى تَرْكِ الْبَيْضَاءِ وَالصَّفْرَاءِ وَالْكُرَاعِ إلَّا ثَوْبًا عَلَى ظَهْرِ إنْسَانٍ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبَرِئَتْ ذِمَّةُ اللَّهِ وَذِمَّةُ رَسُولِهِ مِنْكُمْ إنْ كَتَمْتُمُونِي شَيْئًا فَصَالَحُوهُ عَلَى ذَلِكَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لِكِنَانَةَ بْنِ الرَّبِيعِ عَمِّ حُيَيِّ بْنِ أَخْطَبَ: مَا فَعَلَ مَسْكُ حُيَيٍّ الَّذِي جَاءَ بِهِ مِنْ النَّضِيرِ؟ فَقَالَ: أَذْهَبَتْهُ النَّفَقَاتُ وَالْحُرُوبُ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الْعَهْدُ قَرِيبٌ وَالْمَالُ كَثِيرٌ. أَرَأَيْت إنْ وَجَدْنَاهُ عِنْدَك أَقْتُلُك؟ قَالَ: نَعَمْ، فَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ الْيَهُودِ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ لَهُ: إنِّي رَأَيْت كِنَانَةَ يَطُوفُونَ بِهَذِهِ الْخَرِبَةِ كُلَّ غَدَاةٍ. فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْخَرِبَةِ، فَأَخْرَجَ مِنْهَا بَعْضَ كَنْزِهِمْ، ثُمَّ سَأَلَهُ عَمَّا بَقِيَ، فَأَبَى أَنْ يُؤَدِّيَهُ، فَأَمَرَ بِهِ الزُّبَيْرَ بْنَ الْعَوَّامِ فَقَالَ: عَذِّبْهُ حَتَّى تَسْتَأْصِلَ مَا عِنْدَهُ، وَكَانَ الزُّبَيْرُ يَقْدَحُ بِزَنْدٍ فِي صَدْرِهِ حَتَّى أَشْرَفَ عَلَى نَفْسِهِ، ثُمَّ دَفَعَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى مُحَمَّدِ بْنِ مَسْلَمَةَ، فَضَرَبَ عُنُقَهُ بِأَخِيهِ مَحْمُودِ بْنِ مَسْلَمَةَ».
وَإِنَّمَا فَعَلَ بِكِنَانَةَ لِأَنَّ الْكَنْزَ كَانَ عِنْدَهُ، وَصَاحِبُ الْكَنْزِ كَانَ مِنْ بَنِي قُرَيْظَةَ وَقُتِلَ مَعَهُمْ فِي غَزْوَةِ الْأَحْزَابِ، وَهَذِهِ الْقَضِيَّةُ ذَكَرَهَا ابْنُ هِشَامٍ وَغَيْرُهُ مِنْ أَصْحَابِ السِّيَرِ.
وَمِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ لَمَّا وَقَعَتْ قَضِيَّةُ الْإِفْكِ وَتَكَلَّمَ النَّاسُ بِهَا، اسْتَشَارَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ وَزَيْدَ بْنَ حَارِثَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، «فَقَالَ زَيْدٌ: أَهْلُك يَا رَسُولَ اللَّهِ وَلَا نَعْلَمُ إلَّا خَيْرًا وَهَذَا الْكَذِبُ وَالْبَاطِلُ. وَأَمَّا عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَإِنَّهُ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إنَّ النِّسَاءَ كَثِيرٌ، وَإِنَّك لَتَقْدِرُ أَنْ تَسْتَخْلِفَ، وَاسْأَلْ الْجَارِيَةَ فَإِنَّهَا سَتَصْدُقُك، فَدَعَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَرِيرَةَ لِيَسْأَلَهَا، فَقَامَ إلَيْهَا عَلِيٌّ فَضَرَبَهَا ضَرْبًا شَدِيدًا وَجَعَلَ يَقُولُ: اُصْدُقِي رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ فَتَقُولُ: وَاَللَّهِ لَا أَعْلَمُ إلَّا خَيْرًا وَمَا كُنْت أَعِيبُ عَلَى عَائِشَةَ، إلَّا أَنِّي كُنْت أَعْجِنُ الْعَجِينَ فَآمُرُهَا أَنْ تَحْفَظَهُ، فَتَنَامُ عَنْهُ فَتَأْتِي الشَّاةُ فَتَأْكُلُهُ» وَهَذَا مِنْ السِّيَاسَةِ لِأَنَّهُ ضَرَبَهَا لِتُقِرَّ بِمَا عِنْدَهَا.
وَمِنْ ذَلِكَ: «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَجَدَ فِي بَعْضِ غَزَوَاتِهِ رَجُلًا فَاتَّهَمَهُ بِأَنَّهُ جَاسُوسٌ لِلْعَدُوِّ فَعَاقَبُوهُ حَتَّى أَقَرَّ»، نَقَلَهُ الْقَرَافِيُّ فِي الذَّخِيرَةِ فِي بَابِ السِّيَاسَةِ.
وَمِنْ ذَلِكَ: «أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَلَغَهُ أَنَّ نَاسًا مِنْ الْمُنَافِقِينَ يُثَبِّطُونَ النَّاسَ عَنْهُ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ، فَبَعَثَ إلَيْهِمْ طَلْحَةَ بْنَ عُبَيْدِ اللَّهِ فِي نَفَرٍ مِنْ أَصْحَابِهِ وَأَمَرَهُ أَنْ يُحَرِّقَ عَلَيْهِمْ الْبَيْتَ فَفَعَلَ طَلْحَةُ ذَلِكَ، وَاقْتَحَمَ الضِّحَاكُ بْنُ خَلِيفَةَ مِنْ ظَهْرِ الْبَيْتِ فَانْكَسَرَتْ رِجْلُهُ، وَاقْتَحَمَ أَصْحَابُهُ فَأَفْلَتُوا».
وَمِنْ ذَلِكَ مَا رُوِيَ فِي جَامِعِ الْخِلَالِ، «أَنَّهُ حَبَسَ رَجُلًا فِي تُهْمَةِ دَمٍ يَوْمًا وَلَيْلَةً»، وَفِي سُنَنِ أَبِي دَاوُد: «أَنَّهُ حُبِسَ فِي تُهْمَةٍ».
وَفِي رِوَايَةٍ: «أَنَّهُ حَبَسَ رَجُلًا فِي تُهْمَةٍ سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ». وَفِي الْمُنْتَقَى لِلْبَاجِيِّ فِي بَابِ الْقَطْعِ فِي السَّرِقَةِ: «أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَبَسَ رَجُلًا اتَّهَمَهُ الْمَسْرُوقُ مِنْهُ بِسَرِقَةٍ وَكَانَ صَاحِبُهُ فِي السَّفَرِ».
وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَقَدْ هَمَمْت أَنْ آمُرَ رَجُلًا فَيُصَلِّيَ بِالنَّاسِ، ثُمَّ أَنْطَلِقَ مَعِي بِرِجَالٍ مَعَهُمْ حُزَمٌ مِنْ حَطَبٍ إلَى قَوْمٍ لَا يَشْهَدُونَ الصَّلَاةَ، فَأُحَرِّقَ عَلَيْهِمْ بُيُوتَهُمْ بِالنَّارِ»، رَوَاهُ أَبُو هُرَيْرَةَ فِي الصَّحِيحِ، وَعَنْهُ أَيْضًا: قَالَ سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «لَقَدْ هَمَمْت أَنْ آمُرَ فِتْيَانًا فَيَجْمَعُونَ حُزَمًا مِنْ حَطَبٍ، ثُمَّ آتِيَ قَوْمًا يُصَلُّونَ فِي بُيُوتِهِمْ لَيْسَ لَهُمْ عُذْرٌ فَأُحَرِّقَهَا عَلَيْهِمْ»، وَاخْتُلِفَ هَلْ هَذَا فِي الْمُؤْمِنِينَ أَوْ الْمُنَافِقِينَ؟ وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ فِي الْمُؤْمِنِينَ لِقَوْلِهِ: يُصَلُّونَ فِي بُيُوتِهِمْ، وَالْمُنَافِقُونَ لَا يُصَلُّونَ فِي بُيُوتِهِمْ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِمْ: {وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ} [البقرة: 14].
وَفَائِدَةُ قَوْلِهِ لَقَدْ هَمَمْت تَقْدِيمَ الْوَعِيدِ كَالتَّهْدِيدِ عَلَى الْعُقُوبَةِ، لِأَنَّ الْمُفْسِدَةَ إذَا ارْتَفَعَتْ وَانْدَفَعَتْ بِالْأَخَفِّ مِنْ الزَّوَاجِرِ لَمْ يُعْدَلْ إلَى الْأَعْلَى.
وَمِنْ ذَلِكَ مَا رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ فِي مُسْنَدِهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: «قَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إنَّ لِي جَارًا يُؤْذِينِي، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ انْطَلِقْ فَأَخْرِجْ مَتَاعَك إلَى الطَّرِيقِ فَانْطَلَقَ فَأَخْرَجَ مَتَاعَهُ فَاجْتَمَعَ النَّاسُ إلَيْهِ فَقَالُوا: مَا شَأْنُك؟ فَقَالَ لِي جَارٌ يُؤْذِينِي، فَجَعَلُوا يَقُولُونَ: اللَّهُمَّ الْعَنْهُ، اللَّهُمَّ أَخْرِجْهُ، فَبَلَغَهُ ذَلِكَ فَأَتَاهُ فَقَالَ: ارْجِعْ إلَى مَنْزِلِك فَوَاَللَّهِ لَا أُؤْذِيكَ».
وَمِمَّا وَرَدَ عَنْ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ فِي قِتَالِ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَنْ مَنَعَ الزَّكَاةَ وَاجْتِهَادِهِ فِي الْحُكْمِ بِقِتَالِهِمْ.
وَمِنْ ذَلِكَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَمَرَ بِتَحْرِيقِ قَصْرِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَمَّا بَلَغَهُ أَنَّهُ احْتَجَبَ عَنْ الْخُرُوجِ لِلْحُكْمِ بَيْنَ النَّاسِ وَصَارَ يَحْكُمُ فِي دَارِهِ، وَأَمَرَ أَيْضًا بِتَحْرِيقِ حَانُوتِ رُوَيْشِدٍ الثَّقَفِيِّ، الَّذِي كَانَ يَبِيعُ الْخَمْرَ وَقَالَ لَهُ: أَنْتَ فُوَيْسِقٌ وَلَسْت بِرُوَيْشِدٍ.
وَمِنْ ذَلِكَ مَا فَعَلَهُ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَمَّا خَافَ عَلَى الْأُمَّةِ أَنْ يَخْتَلِفُوا فِي الْقُرْآنِ وَيَفْتَرِقَ النَّاسُ فِيهِ، أَمَرَ بِتَحْرِيقِ الْمَصَاحِفِ وَجَمَعَ الْأُمَّةَ عَلَى مُصْحَفٍ وَاحِدٍ لَمَّا رَأَى لَهُمْ مِنْ الْمَصْلَحَةِ فِي ذَلِكَ، وَوَافَقَهُ عَلَيْهِ الصَّحَابَةُ وَرَأَوْا ذَلِكَ مَصْلَحَةً لِلْأُمَّةِ.
وَمِنْ ذَلِكَ مَا فَعَلَهُ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، لَمَّا بَعَثَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ وَالزُّبَيْرُ بْنُ الْعَوَّامِ فِي أَثَرِ الْمَرْأَةِ الَّتِي كَتَبَ مَعَهَا حَاطِبُ بْنُ أَبِي بَلْتَعَةَ كِتَابًا، وَجَعَلَ لَهَا عَلَيْهِ، جُعْلًا إلَى أَنْ تُوصِلَهُ إلَى قُرَيْشٍ يُخْبِرُهُمْ فِي الْكِتَابِ بِمَا عَزَمَ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الْمَسِيرِ إلَيْهِمْ فِي غَزْوَةِ الْفَتْحِ. فَجَاءَ الْخَبَرُ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، «فَخَرَجَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ فِي أَثَرِ الْمَرْأَةِ حَتَّى أَدْرَكَهَا، فَاسْتَنْزَلَاهَا وَالْتَمَسَا فِي رَحْلِهَا الْكِتَابَ فَلَمْ يَجِدَا شَيْئًا، فَقَالَ لَهَا عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَحْلِفُ بِاَللَّهِ مَا كَذَبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا كَذَبْنَا، وَلَتُخْرِجِي هَذَا الْكِتَابَ أَوْ لَأَكْشِفَنَّكِ، فَلَمَّا رَأَتْ الْجِدَّ مِنْهُ اسْتَخْرَجَتْ الْكِتَابَ مِنْ قُرُونِ رَأْسِهَا، وَكَانَ قَدْ جَعَلَتْهُ فِي شَعْرِهَا وَفَتَلَتْ عَلَيْهِ قُرُونَهَا فَدَفَعَتْهُ إلَيْهِ، فَأَتَى بِهِ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاعْتَذَرَ حَاطِبٌ بِأَنَّهُ إنَّمَا فَعَلَ ذَلِكَ مُصَانَعَةً لِمَالِهِ عِنْدَهُمْ مِنْ وَلَدٍ وَأَهْلٍ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ} [الممتحنة: 1]» الْآيَاتِ.
فَالطَّرِيقُ الَّتِي اسْتَخْرَجَ بِهَا الْكِتَابَ مِنْ السِّيَاسَةِ الشَّرْعِيَّةِ وَهِيَ التَّهْدِيدُ وَالْإِرْعَابُ.
وَمِنْ ذَلِكَ مَا وَقَعَ لِعَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي بَعْضِ الْحُكُومَاتِ، وَذَلِكَ أَنَّ رَجُلَيْنِ مِنْ قُرَيْشٍ دَفَعَا إلَى امْرَأَةٍ مِائَةَ دِينَارٍ وَدِيعَةً، وَقَالَا لَهَا: لَا تَدْفَعُهَا إلَى وَاحِدٍ مِنَّا دُونَ صَاحِبِهِ، فَلَبِثَا حَوْلًا وَجَاءَ أَحَدُهُمَا وَقَالَ: إنَّ صَاحِبِي قَدْ مَاتَ فَادْفَعِي إلَيَّ الدَّنَانِيرَ، فَأَبَتْ وَقَالَتْ: إنَّكُمَا قُلْتُمَا لِي: لَا تَدْفَعِيهَا إلَى وَاحِدٍ مِنَّا دُونَ صَاحِبِهِ، فَشَفَعَ إلَيْهَا بِأَهْلِهَا وَجِيرَانِهَا وَتَلَطَّفَ حَتَّى دَفَعَتْهَا إلَيْهِ، ثُمَّ جَاءَ الْآخَرُ بَعْدَ ذَلِكَ فَقَالَ: ادْفَعِي إلَيَّ الدَّنَانِيرَ، فَقَالَتْ: إنَّ صَاحِبَك جَاءَ وَادَّعَى أَنَّك قَدْ مِتّ وَدَفَعْتهَا إلَيْهِ، فَتَرَافَعَا إلَى عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَعَلِمَ أَنَّهُمَا قَدْ مَكَرَا بِهَا، فَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَلَيْسَ قَدْ قُلْتُمَا لَهَا لَا تَدْفَعِيهَا إلَى وَاحِدٍ مِنَّا دُونَ صَاحِبِهِ؟ فَقَالَ: فَاذْهَبْ فَجِئْ بِصَاحِبِك حَتَّى تَدْفَعَهَا إلَيْكُمَا، فَذَهَبَ وَلَمْ يَرْجِعْ.
وَمِنْ ذَلِكَ مَا وَقَعَ لِعَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَيْضًا، وَذَلِكَ أَنَّ إنْسَانًا شَكَا إلَى عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ نَفَرًا فَقَالَ: إنَّ هَؤُلَاءِ خَرَجُوا مَعَ أَبِي فِي سَفَرٍ فَعَادُوا وَلَمْ يَعُدْ أَبِي، فَسَأَلْتهمْ عَنْهُ فَقَالُوا: مَاتَ، فَسَأَلْتهمْ عَنْ مَالِهِ فَقَالُوا: مَا تَرَكَ شَيْئًا، وَكَانَ مَعَهُ مَالٌ كَثِيرٌ، فَارْتَفَعْنَا إلَى شُرَيْحٍ الْقَاضِي فَاسْتَحْلَفَهُمْ وَخَلَّى سَبِيلَهُمْ، فَدَعَا عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِالشُّرَطِ فَوَكَّلَ بِكُلِّ رَجُلٍ مِنْهُمْ رَجُلَيْنِ، وَأَوْصَاهُمْ أَنْ لَا يُمَكِّنُوا بَعْضَهُمْ يَدْنُوَا مِنْ بَعْضٍ، وَلَا يُمَكِّنُوا أَحَدًا يُكَلِّمُهُمْ، وَدَعَا كَاتِبَهُ، وَدَعَا أَحَدَهُمْ فَقَالَ: أَخْبِرْنِي عَنْ أَبِي هَذَا الْفَتَى، فِي أَيِّ يَوْمٍ خَرَجَ مَعَكُمْ، وَفِي أَيِّ مَنْزِلٍ نَزَلَ مَعَكُمْ، وَكَيْفَ كَانَ يَسِيرُ مَعَكُمْ، وَبِأَيِّ عِلَّةٍ مَاتَ، وَكَيْفَ أُصِيبَ بِمَالِهِ، وَسَأَلَهُ عَمَّنْ غَسَّلَهُ وَدَفَنَهُ وَمَنْ تَوَلَّى الصَّلَاةَ عَلَيْهِ وَأَيْنَ دُفِنَ، وَالْكَاتِبُ يَكْتُبُ، ثُمَّ كَبَّرَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَكَبَّرَ الْحَاضِرُونَ مَعَهُ وَالْمُتَّهَمُونَ لَا عِلْمَ لَهُمْ إلَّا أَنَّهُمْ ظَنُّوا أَنَّ صَاحِبَهُمْ قَدْ أَقَرَّ عَلَيْهِمْ، ثُمَّ دَعَا آخَرَ بَعْدَ أَنْ غَيَّبَ الْأَوَّلَ عَنْ مَجْلِسِهِ فَسَأَلَهُ كَمَا سَأَلَ صَاحِبَهُ، ثُمَّ غَيَّبَهُ وَطَلَبَ الْآخَرَ وَسَأَلَهُ حَتَّى عَرَفَ مَا عِنْدَ الْجَمِيعِ، فَوَجَدَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ يُخْبِرُ بِضِدِّ مَا أَخْبَرَ بِهِ صَاحِبُهُ، ثُمَّ أَمَرَ بِرَدِّ الْأَوَّلِ فَقَالَ يَا عَدُوَّ اللَّهِ قَدْ عَرَفْت غَدْرَك وَكَذِبَك بِمَا سَمِعْت مِنْ أَصْحَابِك، وَمَا يُنْجِيك مِنْ الْعُقُوبَةِ إلَّا الصِّدْقُ، ثُمَّ أَمَرَ بِهِ إلَى السِّجْنِ، وَكَبَّرَ وَكَبَّرَ الْحَاضِرُونَ بِتَكْبِيرِهِ، فَلَمَّا أَبْصَرَ الْقَوْمُ الْحَالَ لَمْ يَشُكُّوا أَنَّ صَاحِبَهُمْ أَقَرَّ عَلَيْهِمْ، ثُمَّ دَعَا آخَرَ مِنْهُمْ فَهَدَّدَهُ، فَقَالَ: وَاَللَّهِ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ لَقَدْ كُنْت كَارِهًا لِمَا صَنَعُوا، ثُمَّ دَعَا الْجَمِيعَ فَأَقَرُّوا بِالْقِصَّةِ، وَاسْتَدْعَى الْأَوَّلَ وَقِيلَ لَهُ: أَقَرَّ أَصْحَابُك وَلَا يُنْجِيك سِوَى الصِّدْقُ، فَأَقَرَّ بِمِثْلِ مَا أَقَرَّ بِهِ أَصْحَابُهُ، فَأَغْرَمَهُمْ الْمَالَ وَأَقَادَ مِنْهُمْ بِالْقَتْلِ، وَهَذَا مِنْ السِّيَاسَةِ الْحَسَنَةِ، وَسَيَأْتِي حُكْمُ تَفْرِيقِ الشُّهُودِ إذَا اسْتَرَابَ الْقَاضِي مِنْهُمْ.
وَمِنْ ذَلِكَ أَنَّ رَجُلًا ضَرَبَ رَجُلًا عَلَى رَأْسِهِ فَادَّعَى الْمَضْرُوبُ أَنَّهُ خَرِسَ، وَرُفِعَتْ الْقَضِيَّةُ إلَى عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقَالَ: يُخْرَجُ لِسَانُهُ وَيُنْخَسُ اللَّقَطَةَ فَإِنْ خَرَجَ الدَّمُ أَحْمَرَ فَهُوَ صَحِيحُ اللِّسَانِ، وَإِنْ خَرَجَ أَسْوَدَ فَهُوَ أَخْرَسُ.
وَمِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ قِيلَ لِعَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي فِدَاءِ أَسْرَى الْمُسْلِمِينَ مِنْ أَيْدِي الْمُشْرِكِينَ، فَقَالَ: يُفْدَى مِنْهُمْ مَنْ كَانَتْ جِرَاحُهُ بَيْنَ يَدَيْهِ دُونَ مَنْ كَانَتْ وَرَاءَهُ فَإِنَّهُ فَارٌّ.
وَمِنْ ذَلِكَ أَنَّ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَضَى فِي مَوْلُودٍ لَهُ رَأْسَانِ وَصَدْرَانِ وَحِقْوٌ وَاحِدٌ، فَقِيلَ لَهُ: أَيُوَرَّثُ مِيرَاثَ اثْنَيْنِ أَوْ مِيرَاثَ وَاحِدٍ؟ فَقَالَ: يُتْرَكُ حَتَّى يَنَامَ ثُمَّ يُصَاحُ، فَإِنْ انْتَبَهَا جَمِيعًا كَانَ لَهُ مِيرَاثٌ وَاحِدٌ، وَإِنْ انْتَبَهَ وَاحِدٌ وَبَقِيَ وَاحِدٌ كَانَ لَهُ مِيرَاثُ اثْنَيْنِ.
وَأَمَّا مَا ذَكَرُوهُ مِنْ سِيَاسَةِ الْخُلَفَاءِ وَالْمُلُوكِ وَالْقُضَاةِ، وَاسْتِخْرَاجِهِمْ الْحُقُوقَ بِالطُّرُقِ السِّيَاسِيَّةِ فَيَطُولُ الْكِتَابُ بِذِكْرِهِ.

.الْفَصْلُ الثَّانِي فِي أَحْكَامِ هَذَا الْبَابِ:

إذَا ثَبَتَ قِيَامُ الدَّلِيلِ عَلَى أَنَّ السِّيَاسَةَ فِي الْأَحْكَامِ مِنْ الطُّرُقِ الشَّرْعِيَّةِ، فَهَلْ لِلْقُضَاةِ أَنْ يَتَعَاطَوْا الْحُكْمَ بِهَا فِيمَا رُفِعَ إلَيْهِمْ مِنْ اتِّهَامِ اللُّصُوصِ وَأَهْلِ الشَّرِّ وَالتَّعَدِّي؟ وَهَلْ لَهُمْ الْكَشْفُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَرَائِمِ أَمْ لَا؟ وَهَلْ لَهُمْ الْحُكْمُ بِالْقَرَائِنِ الَّتِي يَظْهَرُ بِهَا الْحَقُّ، وَلَا يَقِفُوا عَلَى مُجَرَّدِ الْإِقْرَارِ وَقِيَامِ الْبَيِّنَاتِ؟ وَهَلْ لَهُمْ أَنْ يُهَدِّدُوا الْخَصْمَ إذَا ظَهَرَ أَنَّهُ مُبْطِلٌ أَوْ ضَرْبُهُ أَوْ سُؤَالُهُ عَنْ أَشْيَاءَ تَدُلُّ عَلَى صُورَةِ الْحَالِ؟ فَالْجَوَابُ مَا ذَكَرَهُ ابْنُ قَيِّمِ الْجَوْزِيَّةِ الْحَنْبَلِيُّ، مِنْ أَنَّ عُمُومَ الْوِلَايَاتِ وَخُصُوصَهَا وَمَا يَسْتَفِيدُهُ الْمُتَوَلِّي بِالْوِلَايَةِ يُتَلَقَّى مِنْ الْأَلْفَاظِ وَالْأَحْوَالِ وَالْعُرْفِ، وَلَيْسَ لِذَلِكَ حَدٌّ فِي الشَّرْعِ فَقَدْ يَدْخُلُ فِي وِلَايَةِ الْقَضَاءِ فِي بَعْضِ الْأَزْمِنَةِ وَالْأَمْكِنَةِ، مَا يَدْخُلُ فِي وِلَايَةِ الْحَرْبِ فِي زَمَانٍ وَمَكَانٍ آخَرَ وَبِالْعَكْسِ.
وَأَمَّا نُصُوصُ أَهْلِ الْمَذْهَبِ الْأَنْدَلُسِيِّينَ فَصَرِيحَةٌ، بِأَنَّ لَهُمْ تَعَاطِيَ ذَلِكَ عَلَى مَا سَنَذْكُرُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَنَقَلَ الْقَرَافِيُّ فِي كِتَابِهِ الذَّخِيرَةِ مَا ذَكَرَهُ الْمَاوَرْدِيُّ مِنْ الْأَحْكَامِ السُّلْطَانِيَّةِ، فِي الْكَلَامِ عَلَى وِلَايَةِ الْكَشْفِ عَنْ الْمَظَالِمِ وَفِي أَحْكَامِ الْجَرَائِمِ، وَكَلَامُهُ فِيهِمَا يَقْضِي أَنَّ الْقَاضِيَ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَتَكَلَّمَ فِي السِّيَاسَةِ وَلَا مَدْخَلَ لَهُ فِيهَا.
وَسَأَذْكُرُ مَا ذَكَرَهُ الْقَرَافِيُّ، ثُمَّ أُتْبِعُهُ نُصُوصَ أَهْلِ الْمَذْهَبِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى سَبِيلِ الِاخْتِصَارِ وَالِاقْتِصَارِ عَلَى مَا يَحْصُلُ بِهِ الْمَقْصُودُ، قَالَ الْقَرَافِيُّ فِي الذَّخِيرَةِ فِي الْوِلَايَةِ السِّيَاسِيَّةِ، وَهِيَ وِلَايَةُ الْكَشْفِ عَنْ الْمَظَالِمِ وَالْفَرْقُ بَيْنَ وَالِي الْمَظَالِمِ وَبَيْنَ الْقُضَاةِ مِنْ عَشْرَةِ أَوْجُهٍ:
الْأَوَّلُ: لَهُ يَعْنِي نَاظِرَ الْمَظَالِمِ مِنْ الْقُوَّةِ وَالْهَيْبَةِ مَا لَيْسَ لَهُمْ.
الثَّانِي: أَنَّهُ أَفْسَحُ مَجَالًا وَأَوْسَعُ مَقَالًا.
الثَّالِثُ: أَنَّهُ يَسْتَعْمِلُ مِنْ الْإِرْهَابِ وَكَشْفِ الْأَشْيَاءِ بِالْأَمَارَاتِ الدَّالَّةِ وَشَوَاهِدِ الْأَحْوَالِ اللَّائِحَةِ مِمَّا يُؤَدِّي إلَى ظُهُورِ الْحَقِّ بِخِلَافِهِمْ.
الرَّابِعُ: أَنَّهُ يُقَابِلُ مَنْ ظَهَرَ ظُلْمُهُ بِالتَّأْدِيبِ بِخِلَافِهِمْ.
الْخَامِسُ: أَنَّهُ يَتَأَنَّى فِي تَرْدَادِ الْخُصُومِ عِنْدَ اللَّبْسِ، لِيُمْعِنَ فِي الْكَشْفِ بِخِلَافِهِمْ إذَا سَأَلَهُمْ أَحَدُ الْخَصْمَيْنِ فَصْلَ الْحُكْمِ لَا يُؤَخِّرُهُ.
السَّادِسُ: لَهُ رَدُّ الْخُصُومِ إذَا أُعْضِلُوا إلَى وَسَاطَةِ الْأُمَنَاءِ لِيَفْصِلُوا بَيْنَهُمْ صُلْحًا عَنْ تَرَاضٍ، وَلَيْسَ لِلْقُضَاةِ إلَّا بِرِضَا الْخَصْمَيْنِ.
السَّابِعُ: لَهُ أَنْ يَفْسَخَ فِي مُلَازَمَةِ الْخَصْمَيْنِ إذَا وَضَحَتْ أَمَارَاتُ. التَّجَاحُدِ، وَيَأْذَنَ فِي إلْزَامِ الْكَفَالَةِ فِيمَا يَشْرَعُ فِيهِ التَّكَفُّلُ، لِيَنْقَادَ الْخُصُومُ إلَى التَّنَاصُفِ وَيَتْرُكُوا التَّجَاحُدَ بِخِلَافِهِمْ.
الثَّامِنُ: أَنَّهُ يَسْمَعُ شَهَادَةَ الْمَسْتُورِينَ بِخِلَافِهِمْ.
التَّاسِعُ: لَهُ أَنْ يُحَلِّفَ الشُّهُودَ إنْ ارْتَابَ فِيهِمْ بِخِلَافِ الْقُضَاةِ.
الْعَاشِرُ: أَنْ يَبْتَدِئَ بِاسْتِدْعَاءِ الشُّهُودِ وَسُؤَالِهِمْ عَمَّا عِنْدَهُمْ فِي الْقَضِيَّةِ بِخِلَافِهِمْ، لَا يَسْمَعُونَ الْبَيِّنَةَ حَتَّى يُرِيدَ الْمُدَّعِي إحْضَارَهَا، وَلَا يَسْمَعُونَهَا إلَّا بَعْدَ مَسْأَلَةِ الْمُدَّعِي لِسَمَاعِهَا، وَهَذَا تَلْخِيصُ مَا ذَكَرَهُ الْمَاوَرْدِيُّ، وَنُصُوصُ الْمَذْهَبِ تَقْتَضِي أَنَّ لِلْقَاضِي تَعَاطِيَ أَكْثَرِ هَذِهِ الْأُمُورِ، فَقَدْ قَالَ سَحْنُونٌ: يَنْبَغِي لِلْقَاضِي أَنْ يَشْتَدَّ حَتَّى يَسْتَنْطِقَ الْحَقَّ، وَلَا يَدَعَ مِنْ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى شَيْئًا، وَيَلِينَ فِي غَيْرِ ضَعْفٍ، نَقَلَهُ ابْنُ بَطَّالٍ فِي الْمُقْنِعِ، وَهَذَا نَصٌّ فِي اسْتِعْمَالِ الْقُوَّةِ وَالْهَيْبَةِ.
وَأَمَّا الْأَخْذُ بِقَرَائِنِ الْأَحْوَالِ، فَقَدْ نَقَلَ ابْنُ قَيِّمِ الْجَوْزِيَّةِ أَنَّ مَالِكًا رَحِمَهُ اللَّهُ ذَهَبَ إلَى التَّوَصُّلِ إلَى الْإِقْرَارِ بِالْحَقِّ بِمَا يَرَاهُ الْحَاكِمُ، وَذَلِكَ مُسْتَنِدٌ إلَى قَوْله تَعَالَى: {إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ} [يوسف: 26] الْآيَةَ، وَلِلْقَاضِي أَنْ يَأْخُذَ بِالْأَمَارَاتِ وَالْقَرَائِنِ فِي وُجُوهٍ كَثِيرَةٍ يَطُولُ ذِكْرُهَا، وَقَدْ أَفْرَدْت لَهَا بَابًا سَبَقَ ذِكْرُهُ.
وَفِي الْبَيَانِ وَسُئِلَ مَالِكٌ: أَيُكْرَهُ لِلسُّلْطَانِ أَنْ يَأْخُذَ النَّاسَ بِالتُّهْمَةِ فَيَخْلُو بِبَعْضِهِمْ فَيَقُولُ لَك الْأَمَانُ؟ وَأَخْبِرْنِي فَيُخْبِرُهُ فَقَالَ: إي وَاَللَّهِ إنِّي لَأَكْرَهُ ذَلِكَ أَنْ يَقُولَهُ لَهُمْ وَيُغْرِهِمْ، وَهُوَ مِنْ وَجْهِ الْخَدِيعَةِ، قَالَ ابْنُ رُشْدٍ: وَوَجْهُ الْكَرَاهَةِ أَنَّهُ إذَا قَالَ لَهُ ذَلِكَ فَهُوَ مِنْ نَوْعِ الْإِكْرَاهِ عَلَى الْإِخْبَارِ، وَلَعَلَّهُ يُخْبِرُهُ بِالْبَاطِلِ لِيَنْجُوَ مِنْ عِقَابِهِ، فَإِقْرَارُهُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ بَابِ الْإِقْرَارِ تَحْتَ الْوَعِيدِ وَالتَّهْدِيدِ لَا يَلْزَمُهُ، اُنْظُرْ تَمَامَ ذَلِكَ فِي بَابِ الْقَذْفِ.
وَأَمَّا مُقَابَلَةُ مَنْ ظَهَرَ ظُلْمُهُ بِالتَّأْدِيبِ فَهَذَا هُوَ الْمَذْهَبُ، وَذَكَرَ ابْنُ سَهْلٍ أَنَّ الْمُدَّعِيَ إذَا انْكَشَفَ لِلْحَاكِمِ أَنَّهُ مُبْطِلٌ فِي دَعْوَاهُ فَإِنَّهُ يُؤَدِّبُهُ، وَأَقَلُّ ذَلِكَ الْحَبْسُ لِيَنْدَفِعَ بِذَلِكَ أَهْلُ الْبَاطِلِ وَاللَّدَدِ عَنْ ذَلِكَ، قَالَ فِي شَهَادَةِ السَّمَاعِ فِي الْأَحْبَاسِ: وَالْمَذْهَبُ أَنَّ مَنْ بَاعَ زَوْجَتَهُ نُكِّلَ نَكَالًا شَدِيدًا وَتَطْلُقُ عَلَيْهِ بِوَاحِدَةٍ بَيِّنَةٍ، وَكَذَلِكَ إذَا آذَى أَحَدُ الْخَصْمَيْنِ صَاحِبَهُ نُكِّلَ وَأُدِّبَ، وَإِنْ آذَى الشُّهُودَ نُكِّلَ بِهِ أَيْضًا.
وَفِي مُفِيدِ الْحُكَّامِ مَنْ تَكَلَّمَ فِي أَحَدٍ بِمَا لَمْ يَكُنْ وَلَمْ يَأْتِ بِبَيِّنَةٍ أُدِّبَ، وَمَنْ تَكَلَّمَ فِي عَالِمٍ بِمَا لَا يَجِبُ ضُرِبَ أَرْبَعِينَ، وَفِي بَابِ الْعُقُوبَةِ بِالتَّعْزِيرِ ذُكِرَ شَيْءٌ مِنْ هَذِهِ الْمَسَائِلِ، وَأَمَّا تَأَنِّيه فِي تَرْدِيدِ الْخُصُومِ عِنْدَ اللُّبْسِ لِيُمْعِنَ فِي الْكَشْفِ فَهَذَا هُوَ الْمَذْهَبُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ هَذَا فِي بَابِ الْآدَابِ الَّتِي يَنْبَغِي لِلْقَاضِي الْأَخْذُ بِهَا.
وَمِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ إذَا طَالَ الْخِصَامُ فِي أَمْرٍ وَكَثُرَ التَّشْغِيبُ فِيهِ، فَلَا بَأْسَ لِلْقَاضِي أَنْ يُحَرِّقَ كُتُبَهُمْ إذَا رَجَا بِذَلِكَ تَقَارُبَ أَمْرِهِمْ، وَيَفْسَخُ مَا بِأَيْدِيهِمْ مِنْ الْحِجَجِ، وَيَأْمُرُهُمْ بِابْتِدَاءِ الْحُكُومَةِ وَهُوَ فِي الْمُتَيْطِيَّةِ وَغَيْرِهَا.
وَأَمَّا رَدُّ الْخُصُومِ إلَى وَسَاطَةِ الْأُمَنَاءِ لِيَفْصِلُوا بَيْنَهُمْ بِالصُّلْحِ، فَقَوَاعِدُ الْمَذْهَبِ وَمَسَائِلُهُ تَقْتَضِي ذَلِكَ، وَقَدْ ذَكَرْنَا فِي بَابِ آدَابِ الْقَاضِي: أَنَّ الْقَاضِيَ إذَا خَشِيَ مِنْ تَفَاقُمِ الْأَمْرِ بِإِنْفَاذِ الْحُكْمِ بَيْنَ الْخَصْمَيْنِ، أَوْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْفَضْلِ أَوْ بَيْنَهُمَا رَحِمٌ، سَوَّى بَيْنَهُمَا وَأَقَامَهُمَا وَأَمَرَهُمَا بِالصُّلْحِ.
وَقَدْ أَقَامَ سَحْنُونٌ رَجُلَيْنِ مِنْ صَالِحِي جِيرَانِهِ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَقَالَ: اُسْتُرَا عَلَى أَنْفُسِكُمَا وَلَا تُطْلِعَانِ عَلَى سِرِّكُمَا، ولابد مِنْ هَذَا كُلِّهِ فِي الْوَسَائِطِ.
وَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ رُدُّوا الْقَضَاءَ بَيْنَ ذَوِي الْأَرْحَامِ حَتَّى يَصْطَلِحُوا، فَإِنَّ فَصْلَ الْقَضَاءِ وَرِيثُ الضَّغَائِنِ، وَأَمَّا كَوْنُهُ يَفْسَخُ فِي مُلَازَمَةِ الْخَصْمَيْنِ إذَا وَضَحَتْ أَمَارَاتُ التَّجَاحُدِ وَالْكِتَابِ، فَعِنْدَنَا أَنَّهُ يُؤَدِّيهِمَا عَلَى ذَلِكَ.
وَأَمَّا كَوْنُهُ يَسْمَعُ شَهَادَاتِ الْمَسْتُورِينَ، فَالْمَذْهَبُ أَنَّ الْقَاضِيَ يَسْمَعُهَا أَيْضًا فِي مَوَاطِنَ عَدِيدَةٍ، وَقَدْ ذَكَرْت ذَلِكَ فِي بَابِ الْقَضَاءِ بِشَهَادَةِ التَّوَسُّمِ، وَفِي بَابِ الْقَضَاءِ بِشَهَادَةِ غَيْرِ الْعُدُولِ.
وَأَمَّا كَوْنُهُ يُحَلِّفُ الشُّهُودَ إذَا ارْتَابَ مِنْهُمْ فَقَدْ فَعَلَهُ قَاضِي الْقُضَاةِ ابْنُ بَشِيرٍ قَاضِي الْجَمَاعَةِ بِقُرْطُبَةَ، حَلَّفَ شُهُودًا فِي تَرِكَةٍ بِاَللَّهِ تَعَالَى أَنَّ مَا شَهِدُوا بِهِ لَحَقٌّ، وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ وَضَّاحٍ أَنَّهُ قَالَ: أَرَى لِفَسَادِ الزَّمَانِ أَنْ يُحَلِّفَ الْحَاكِمُ الشُّهُودَ، وَابْنُ وَضَّاحٍ مِمَّنْ أَخَذَ عَنْ سَحْنُونٍ، وَأَمَّا كَوْنُهُ يَسْتَدْعِي الشُّهُودَ وَيَسْأَلُهُمْ عَمَّا عِنْدَهُمْ، فَعِنْدَنَا أَنَّ لِلْقَاضِي أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ فِي مَوَاطِنَ ذَكَرْتهَا فِي السِّيَاسَةِ فِي الشَّهَادَاتِ، فَتَحَصَّلَ مِنْ هَذَا أَنَّ مَا نَقَلَهُ الْقَرَافِيُّ فِي الذَّخِيرَةِ لَيْسَ هُوَ مَذْهَبَ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ.

.فَصْلٌ الْفَرْق بَيْنَ نَظَرِ الْقَاضِي وَنَظَرِ وَالِي الْجَرَائِمِ:

فَصْلٌ: وَقَالَ الْقَرَافِيُّ أَيْضًا فِي الذَّخِيرَةِ مِمَّا نَقَلَهُ عَنْ الْمَاوَرْدِيِّ، فِي الْفَرْقِ بَيْنَ نَظَرِ الْقَاضِي وَنَظَرِ وَالِي الْجَرَائِمِ، قَالَ: وَيَمْتَازُ وَالِي الْجَرَائِمِ عَلَى الْقُضَاةِ بِتِسْعَةِ أَوْجُهٍ:
الْأَوَّلُ: سَمَاعُ قَذْفِ الْمَتْهُومِ مِنْ أَعْوَانِ الْأَمَارَاتِ مِنْ غَيْرِ تَحْقِيقِ الدَّعْوَى الْمُعْتَبَرَةِ، وَيَرْجِعُ إلَى قَوْلِهِمْ هَلْ هُوَ مِنْ أَهْلِ هَذِهِ التُّهْمَةِ أَوْ لَا؟ فَإِنْ نَزَّهُوهُ أَطْلَقَهُ أَوْ قَذَفُوهُ بَالَغَ فِي الْكَشْفِ بِخِلَافِ الْقَضَاءِ.
الثَّانِي: أَنَّهُ يُرَاعِي شَوَاهِدَ الْحَالِ وَأَوْصَافَ التَّهَوُّمِ فِي قُوَّةِ التُّهْمَةِ وَضَعْفِهَا، بِأَنْ يَكُونَ الْمُتَّهَمُ بِالزِّنَا مُتَصَنِّعًا لِلنِّسَاءِ فَتَقْوَى التُّهْمَةُ، أَوْ مُتَّهَمًا بِالسَّرِقَةِ وَفِيهِ آثَارُ ضَرْبٍ مَعَ قُوَّةِ بَدَنٍ وَهُوَ مِنْ أَهْلِ الدَّعَارَةِ فَتَقْوَى أَوْ لَا يَكُونَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ فَيَخِفُّ وَلَيْسَ ذَلِكَ لِلْقَضَاءِ.
الثَّالِثُ: تَعْجِيلُ حَبْسِ الْمَتْهُومِ لِلِاسْتِبْرَاءِ وَالْكَشْفِ وَمُدَّتُهُ شَهْرٌ، أَوْ بِحَسَبِ مَا يَرَاهُ بِخِلَافِ الْقُضَاةِ.
الرَّابِعُ: يَجُوزُ لَهُ مَعَ قُوَّةِ التُّهْمَةِ ضَرْبُ الْمَتْهُومِ ضَرْبَ تَقْرِيرٍ لَا ضَرْبَ حَدٍّ لِيَصْدُقَ، فَإِذَا أَقَرَّ وَهُوَ مَضْرُوبٌ اُعْتُبِرَتْ حَالُهُ، فَإِنْ ضُرِبَ لِيُقِرَّ لَمْ يُعْتَبَرْ إقْرَارُهُ تَحْتَ الضَّرْبِ، أَوْ لِيَصْدُقَ عَنْ حَالِهِ قَطَعَ ضَرْبَهُ وَاسْتَعَادَ إقْرَارَهُ، فَإِنْ أَقَرَّ بِخِلَافِ الْإِقْرَارِ الْأَوَّلِ أَخَذَهُ بِالثَّانِي، وَيَجُوزُ الْعَمَلُ بِالْإِقْرَارِ الْأَوَّلِ مَعَ كَرَاهَةٍ وَلَيْسَ ذَلِكَ لِلْقُضَاةِ.
الْخَامِسُ: أَنَّ لَهُ فِيمَنْ تَكَرَّرَتْ مِنْهُ الْجَرَائِمُ وَلَمْ يَنْزَجِرْ بِالْحُدُودِ، اسْتِدَامَةَ حَبْسِهِ إذَا أَضَرَّ النَّاسَ بِجَرِيمَةٍ حَتَّى يَمُوتَ، وَيَقُوتُهُ وَيَكْسُوهُ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ بِخِلَافِ الْقُضَاةِ.
السَّادِسُ: أَنَّ لَهُ إحْلَافَ الْمَتْهُومِ لِاخْتِبَارِ حَالِهِ، وَيُغْلِظُ عَلَيْهِ الْكَشْفَ وَيُحَلِّفُهُ بِالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ وَالصَّدَقَةِ كَأَيْمَانِ بَيْعَةِ السُّلْطَانِ، وَلَا يُحَلِّفُ الْقَاضِي أَحَدًا فِي غَيْرِ حَقٍّ، وَلَا يُحَلِّفُ إلَّا بِالْيَمِينِ بِاَللَّهِ تَعَالَى.
السَّابِعُ: أَنَّ لَهُ أَخْذَ الْمُجْرِمِ بِالتَّوْبَةِ قَهْرًا، وَيُظْهِرَ لَهُ مِنْ الْوَعِيدِ مَا يَقُودُهُ إلَيْهَا طَوْعًا، وَيَتَوَعَّدُهُ بِالْقَتْلِ لِأَنَّهُ إرْهَابٌ لَا تَحْقِيقٌ، وَيَجُوزُ أَنْ يَعِدَهُ بِالْأَدَبِ دُونَ الْقَتْلِ بِخِلَافِ الْقُضَاةِ.
الثَّامِنُ: أَنَّ لَهُ سَمَاعَ شَهَادَاتِ أَهْلِ الْمِهَنِ إذَا كَثُرَ عَدَدُهُمْ مِمَّنْ لَا يَسْمَعُهُمْ الْقَاضِي.
التَّاسِعُ: أَنَّ لَهُ النَّظَرَ فِي الْمُوَاثَبَاتِ وَإِنْ لَمْ تُوجِبْ غُرْمًا وَلَا حَدًّا، ثُمَّ إنْ لَمْ يَكُنْ بِوَاحِدٍ مِنْهُمَا أَثَرٌ سَمِعَ قَوْلَ السَّابِقِ بِالدَّعْوَى، وَإِنْ كَانَ بِأَحَدِهِمَا أَثَرٌ فَقِيلَ يَبْدَأُ سَمَاعَ دَعْوَى ذِي الْأَثَرِ، وَقَالَ الْأَكْثَرُ يَبْدَأُ بِسَمَاعِ السَّابِقِ وَالْمُبْتَدِئُ بِالْمُوَاثَبَةِ أَعْظَمُ جُرْمًا وَتَأْدِيبًا، وَيَخْتَلِفُ تَأْدِيبُهُمَا بِاخْتِلَافِهِمَا فِي الْجُرْمِ وَبِاخْتِلَافِهِمَا فِي الْهَيْبَةِ وَالتَّصَاوُنِ، وَإِنْ رَأَى الْمَصْلَحَةَ فِي قَمْعِ السَّفَلَةِ، بِإِشْهَارِهِمْ بِجَرَائِمِهِمْ فَعَلَ، فَهَذِهِ الْوُجُوهُ التِّسْعَةُ مُجَرَّدُ الِاتِّهَامِ بِالْجَرَائِمِ، وَيَظْهَرُ بِهَا الْفَرْقُ بَيْنَ الْأُمَرَاءِ وَالْقُضَاةِ. انْتَهَى.
وَاعْلَمْ أَنَّ لِلْقُضَاةِ تَعَاطِيَ كَثِيرٍ مِنْ هَذِهِ الْأُمُورِ، أَمَّا كَوْنُهُ يَسْمَعُ قَذْفَ الْمَتْهُومِ مِنْ أَعْوَانِ الْأَمَارَةِ، فَقَدْ اسْتَحَبُّوا لِلْقَاضِي أَنْ يَتَّخِذَ كَاشِفًا قَدْ ارْتَضَاهُ يَكْشِفُ لَهُ عَنْ أَحْوَالِ الشُّهُودِ فِي السِّرِّ، وَيَقْبَلَ مِنْهُ مَا نَقَلَ إلَيْهِ، وَقَالُوا: يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَسْتَبْطِنَ أَهْلَ الدِّينِ وَالْأَمَانَةِ وَالْعَدَالَةِ لِيَسْتَعِينَ بِهِمْ عَلَى مَا هُوَ بِسَبِيلِهِ، وَيَقْوَى عَلَى التَّوَصُّلِ إلَى مَا يَنُوبُهُ، وَقَدْ أَجَازُوا التَّجْرِيحَ بِوَاحِدٍ عَدْلٍ إذَا كَانُوا بِمَسْأَلَةِ الْقَاضِي، وَأَجَازُوا التَّجْرِيحَ فِي السِّرِّ، وَيَقْبَلُ الْقَاضِي ذَلِكَ مِنْ الْعَدْلِ الْوَاحِدِ، وَهَذَا نَحْوُ مَا ذَكَرَهُ فِي أَعْوَانِ الْأَمَارَاتِ.
وَأَمَّا كَوْنُهُ يُرَاعِي شَاهِدَ الْحَالِ، فَكَذَلِكَ عِنْدَنَا يَجُوزُ لِلْقَاضِي مُرَاعَاةُ شَوَاهِدِ الْأَحْوَالِ، وَقَدْ ذَكَرْته فِي بَابِ الْحُكْمِ بِالْقَرَائِنِ وَالدَّلَائِلِ، وَأَمَّا تَعْجِيلُ حَبْسِ الْمَتْهُومِ لِلِاسْتِبْرَاءِ وَالْكَشْفِ وَمُدَّتُهُ شَهْرٌ، فَذَلِكَ أَيْضًا لِلْقَاضِي، قَالَ ابْنُ سَهْلٍ فِي أَحْكَامِهِ: مَنْ أَتَى الْقَاضِيَ مُتَعَلِّقًا بِرَجُلٍ يَرْمِيهِ بِدَمِ وَلِيِّهِ، فَإِنَّ الْقَاضِيَ إذَا جَاءَهُ مِثْلُ هَذَا، فَإِنَّ الْمُدَّعِيَ يَحْتَاجُ إلَى أَنْ يُثْبِتَ أَنَّهُ وَلِيُّ الدَّمِ، فَإِنْ أَثْبَتَ لَهُ تَعَدُّدَهُ مِنْ الْمُدَّعِي دَمَهُ كَشَفَ هَلْ لَهُ بَيِّنَةٌ عَلَى دَعْوَاهُ؟ فَإِنْ ادَّعَى ثُبُوتَ ذَلِكَ مِنْ يَوْمِهِ أَوْ مِنْ الْغَدِ، أَمَرَ الْقَاضِي بِحَبْسِ الْمُدَّعِي. وَإِنْ أَثْبَتَ التَّعَدُّدَ وَلَمْ تَحْضُرْهُ بَيِّنَةٌ عَلَى الدَّمِ فَهُوَ عَلَى ضَرْبَيْنِ، إنْ كَانَ الْمُدَّعِي مُتَّهَمًا أَطَالَ فِي حَبْسِهِ خَمْسَةَ عَشْرَ يَوْمًا إلَى الثَّلَاثِينَ، إنْ كَانَ غَيْرَ مُتَّهَمٍ فَالْيَوْمَيْنِ أَوْ نَحْوَهُمَا، فَإِنْ أَتَى طَالِبُ الدَّمِ فِي دَاخِلِ الْمُدَّةِ بِسَبَبٍ قَوِيٍّ سَقَطَ هَذَا الْحُكْمُ وَوَجَبَتْ الزِّيَادَةُ فِي حَبْسِهِ عَلَى مَا يَرَاهُ.
وَأَمَّا كَوْنُهُ يَجُوزُ لَهُ مَعَ قُوَّةِ التُّهْمَةِ ضَرْبُ الْمَتْهُومِ ضَرْبَ تَقْرِيرٍ، فَذَلِكَ عِنْدَنَا يَجُوزُ لِلْقَاضِي تَعَاطِيهِ وَسَيَأْتِي ذِكْرُ ذَلِكَ قَرِيبًا فِي الدَّعَاوَى عَلَى أَهْلِ التُّهَمِ وَالْعُدْوَانِ، وَلَكِنْ لَا يَخْرُجُ بِذَلِكَ عَنْ صِفَةِ ضَرْبِ الْحُدُودِ، وَلَا يُعَاقِبُهُمْ بِغَيْرِ الْعُقُوبَاتِ الشَّرْعِيَّةِ.
فَفِي الْبَيَانِ سُئِلَ مَالِكٌ عَنْ عَذَابِ اللُّصُوصِ بِالدُّهْنِ وَبِهَذِهِ الْخَنَافِسِ الَّتِي تُحْمَلُ عَلَى بُطُونِهِمْ، فَقَالَ: لَا يَحِلُّ هَذَا، إنَّمَا هُوَ السَّوْطُ أَوْ السِّجْنُ قِيلَ لَهُ: أَرَأَيْت إنْ لَمْ تَجِدْ فِي ظَهْرِهِ مُضْرَبًا أَتَرَى أَنْ يُسَطَّحَ فَيُضْرَبَ فِي بَيْتِهِ؟ فَقَالَ: لَا وَاَللَّهِ مَا أَرَى ذَلِكَ، إنَّمَا عَلَيْك مَا عَلَيْك، وَإِنَّمَا هُوَ الضَّرْبُ فِي الظَّهْرِ بِالسَّوْطِ وَالسِّجْنُ، قِيلَ لَهُ: أَرَأَيْت إنْ مَاتَ بِالسَّوْطِ؟ قَالَ: إنَّمَا عَلَيْك مَا عَلَيْك.
مَسْأَلَةٌ:
وَمِنْ هَذَا الْفَصْلِ مَا ذَكَرَهُ اللَّخْمِيُّ فِي التَّبْصِرَةِ، إذَا شَهِدَ رَجُلٌ عَلَى آخَرَ فَقَالَ: رَأَيْته مَعَ فُلَانَةَ أَوْ بَيْنَ فَخِذَيْهَا وَكَانَ الشَّاهِدُ عَدْلًا لَمْ يُعَاقَبْ، وَإِنْ كَانَ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ مِمَّنْ يُظَنُّ بِهِ عُوقِبَ، وَلَكِنْ لَا يُعَاقَبُ عُقُوبَةَ تَقْرِيرٍ، بَلْ مِنْ بَابِ الْأَدَبِ وَالزَّجْرِ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ: إنَّ لَهُ فِيمَنْ تَكَرَّرَتْ الْجَرَائِمُ وَلَمْ يَنْزَجِرْ بِالْحُدُودِ اسْتِدَامَةَ حَبْسِهِ، فَذَلِكَ مِمَّا يَفْعَلُهُ الْقَاضِي، وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ سَهْلٍ فِي الْأَحْكَامِ مَا نَصُّهُ شَهِدَ عِنْدَ الْقَاضِي أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدٍ قَاضِي الْجَمَاعَةِ بِقُرْطُبَةَ: فُلَانٌ وَفُلَانٌ أَنَّهُمْ يَعْرِفُونَ فُلَانًا مِمَّنْ يَعْصِرُ الْخَمْرَ وَيَبِيعُهَا وَيُشْرِبُهَا وَيَدَّخِرُهَا، وَيَجْتَمِعُ إلَيْهِ أَهْلُ الشَّرِّ وَالْفَسَادِ، وَسَأَلَ الْقَاضِي عَنْ ذَلِكَ أَهْلَ الشُّورَى فَأَجَابُوا. أَمَّا شُرْبُ الْخَمْرِ فَفِيهِ الْحَدُّ ثَمَانُونَ سَوْطًا، وَأَمَّا بَيْعُهَا فَإِنَّ الْأَدَبَ عَلَى قَدْرِ مَا يَرْدَعُهُ عَنْ ذَلِكَ وَيَنْهَاهُ، وَأَمَّا أَهْلُ الشَّرِّ وَالْفَسَادِ فَأَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ، وَالْحَبْسُ حَتَّى ظَهَرَ مِنْهُ تَوْبَةٌ بَعْدَ الْإِعْذَارِ إلَيْهِ فِيمَا شُهِدَ بِهِ عَلَيْهِ.
وَذَكَرَ فِي مَسْأَلَةٍ قَبْلَهَا فِيمَنْ شُهِدَ عَلَيْهِ بِأَنَّهُ مِنْ أَهْلِ الْأَذَى لِلنَّاسِ وَالشَّرِّ وَالرَّدَى وَالْفَسَادِ وَالتَّعَدِّي عَلَى النَّاسِ، أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى مَنْ شُهِدَ عَلَيْهِ بِذَلِكَ الْأَدَبُ الْمُوجِعُ، وَالْحَبْسُ الطَّوِيلُ، فَإِنَّ الْإِغْلَاظَ عَلَى أَهْلِ الشَّرِّ وَالْقَمْعَ لَهُمْ وَالْأَخْذَ عَلَى أَيْدِيهِمْ مِمَّا يُصْلِحُ اللَّهُ بِهِ الْعِبَادَ وَالْبِلَادَ.
وَيُقَالُ مَنْ لَمْ يَمْنَعْ النَّاسَ مِنْ الْبَاطِلِ لَمْ يَحْمِلْهُمْ عَلَى الْحَقِّ، وَذَكَرَ أَيْضًا فِي مَسْأَلَةٍ أُخْرَى مَا نَصُّهُ شَهِدَ عِنْدَ الْقَاضِي شُهُودٌ أَنَّهُمْ قَالُوا لِفُلَانٍ: قَدْ سَاءَنَا مَا سَمِعْنَا عَنْ وَلَدَيْك مِنْ مَسِيرِهِمَا لِجَمَاعَةٍ مِنْ أَهْلِ الْفَسَادِ وَالشَّرِّ إلَى دَارٍ يَسْكُنُهَا فُلَانٌ، فَكَسَرُوا الْبَابَ وَهَجَمُوا عَلَى الْعِيَالِ، وَضَرَبُوا صَاحِبَ الدَّارِ حَتَّى أَشْفَقَ مِنْ الْمَوْتِ وَنَهَبُوا مَا فِي الدَّارِ، وَشَهَّدُوا شُهُودًا عَلَى الْفَعْلَةِ أَنَّهُمْ مِنْ أَهْلِ الْفَسَادِ وَالشَّرِّ وَشُرْبِ الْخَمْرِ وَالْعِيَاثَةِ، وَشَاوَرَ الْقَاضِي فِي ذَلِكَ فَأَجَابَهُ الْفُقَهَاءُ: بِأَنَّ هَذِهِ الشَّهَادَةَ تُوجِبُ الْأَدَبَ الْبَلِيغَ وَالْحَبْسَ الطَّوِيلَ عَلَى الْفَعَلَةِ، وَقَدْ ذَكَرْت هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ مُطَوَّلَةً فِي فَصْلِ عُقُوبَةِ الْمُحَارِبِينَ وَذَكَرْت لَهَا نَظَائِرَ.
وَأَمَّا كَوْنُهُ لَهُ إحْلَافُ الْمَتْهُومِ لِاخْتِبَارِ حَالِهِ وَأَنَّ لَهُ أَنْ يُحَلِّفَهُ بِالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ، فَإِنَّ لِلْقَاضِي أَنْ يُحَلِّفَ الْمُتَّهَمَ وَهُوَ مَشْهُورُ الْمَذْهَبِ.
وَأَمَّا كَوْنُ الْيَمِينِ بِالطَّلَاقِ فَإِنَّمَا ذَكَرُوهَا فِي الْوَالِي، يَأْخُذُ الرَّجُلَ شَارِبًا فَيَحْلِفُ بِالطَّلَاقِ مُكْرَهًا عَلَى أَنْ لَا يُشْرِبَ الْخَمْرَ، أَوْ لَا يَفْسُقَ أَوْ أَنْ لَا يَغُشَّ فِي عَمَلِهِ أَوْ لَا يَتَلَقَّى الرُّكْبَانَ.
وَذَكَرُوا ذَلِكَ فِي الْوَالِدِ يُحَلِّفُ وَلَدَهُ مُكْرِهًا لَهُ عَلَى الْيَمِينِ فِي أَشْبَاهِ هَذَا مِنْ تَأْدِيبِهِ إيَّاهُ، وَأَلْزَمُوا الْحَالِفَ بِالْيَمِينِ وَإِنْ كَانَ قَدْ أُكْرِهَ عَلَيْهَا، وَقَدْ ذَكَرْت ذَلِكَ فِي فَصْلِ الِاسْتِكْرَاهِ فِي الْأَيْمَانِ، وَكَانَ ابْنُ عَاصِمٍ مُحْتَسِبًا فِي الْأَنْدَلُسِ وَكَانَ يُحَلِّفُ النَّاسَ بِالطَّلَاقِ يُغَلِّظُ عَلَيْهِمْ بِهِ، قَالَ ابْنُ وَضَّاحٍ فَذَكَرْت ذَلِكَ لِسَحْنُونٍ فَقَالَ: مِنْ أَيْنَ أَخَذَ ذَلِكَ؟ فَقُلْت لَهُ: مِنْ الْأَثَرِ الْمَرْوِيِّ عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ: تَحْدُثُ لِلنَّاسِ أَقْضِيَةٌ بِقَدْرِ مَا أَحْدَثُوا مِنْ الْفُجُورِ، فَقَالَ سَحْنُونٌ: مِثْلُ ابْنِ عَاصِمٍ: يَتَأَوَّلُ هَذَا تَعْظِيمًا لِشَأْنِ ابْنِ عَاصِمٍ لِأَنَّهُ مِمَّنْ أَخَذَ عَنْ ابْنِ الْقَاسِمِ.
وَأَمَّا كَوْنُهُ يَأْخُذُ الْمُجْرِمَ بِالتَّوْبَةِ قَهْرًا فَلَمْ أَقِفْ عَلَيْهِ فِي حَقِّ الْقَاضِي.
وَأَمَّا كَوْنُهُ لَهُ سَمَاعُ شَهَادَاتِ أَهْلِ الْمِهَنِ، فَإِنَّ لِلْقَاضِي ذَلِكَ عِنْدَ الضَّرُورَةِ، وَأَمَّا كَوْنُهُ لَهُ النَّظَرُ فِي الْمُوَاثَبَاتِ فَمَسَائِلُ الْمَذْهَبِ تَقْتَضِي أَنَّ لَهُ ذَلِكَ، وَعَلَى الْجُمْلَةِ فَقَدْ قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ بْنُ الْأَمِينِ لِلْقَاضِي النَّظَرُ فِي جَمِيعِ الْأَشْيَاءِ إلَّا فِي قَبْضِ الْخَرَاجِ، وَاخْتُلِفَ هَلْ لَهُ قَبْضُ أَمْوَالِ الصَّدَقَاتِ وَصَرْفُهَا فِي مُسْتَحِقِّيهَا إذَا لَمْ يُحْظَرْ نَاظِرٌ أَمْ لَا؟ وَقَالَ ابْنُ سَهْلٍ فِي أَوَّلِ كِتَابِ الْأَحْكَامِ عَلَى الْقَاضِي مَدَارُ الْأَحْكَامِ، وَإِلَيْهِ النَّظَرُ فِي جَمِيعِ وُجُوهِ الْقَضَاءِ مِنْ الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ بِلَا تَحْدِيدٍ، وَذَكَرَ أَنَّهُ يَخْتَصُّ بِالنَّظَرِ فِي الْجِرَاحَاتِ وَالتَّدْمِيَاتِ وَقَدْ تَقَدَّمَ هَذَا.

.فَصْلٌ التَّوْسِعَة عَلَى الْحُكَّامِ فِي الْأَحْكَامِ السِّيَاسِيَّةِ:

فَصْلٌ: قَالَ الْقَرَافِيُّ: وَاعْلَمْ أَنَّ التَّوْسِعَةَ عَلَى الْحُكَّامِ فِي الْأَحْكَامِ السِّيَاسِيَّةِ لَيْسَ مُخَالِفًا لِلشَّرْعِ، بَلْ تَشْهَدُ لَهُ الْأَدِلَّةُ الْمُتَقَدِّمَةُ وَتَشْهَدُ لَهُ أَيْضًا الْقَوَاعِدُ مِنْ وُجُوهٍ.
أَحَدُهَا: أَنَّ الْفَسَادَ قَدْ كَثُرَ وَانْتَشَرَ بِخِلَافِ الْعَصْرِ الْأَوَّلِ، وَمُقْتَضَى ذَلِكَ اخْتِلَافُ الْأَحْكَامِ بِحَيْثُ لَا تَخْرُجُ عَنْ الشَّرْعِ بِالْكُلِّيَّةِ، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ» وَتَرْكُ هَذِهِ الْقَوَانِينِ يُؤَدِّي إلَى الضَّرَرِ، وَيُؤَكِّدُ ذَلِكَ جَمِيعُ النُّصُوصِ الْوَارِدَةِ بِنَفْيِ الْحَرَجِ.
وَثَانِيهَا أَنَّ الْمَصْلَحَةَ الْمُرْسَلَةَ قَالَ بِهَا مَالِكٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَجَمْعٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ، وَهِيَ: الْمَصْلَحَةُ الَّتِي لَا يَشْهَدُ الشَّرْعُ بِاعْتِبَارِهَا وَلَا بِإِلْغَائِهَا، وَيُؤَكِّدُ الْعَمَلَ بِالْمَصَالِحِ الْمُرْسَلَةِ أَنَّ الصَّحَابَةَ- رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ- عَمِلُوا أُمُورًا لِمُطْلَقِ الْمَصْلَحَةِ، لَا لِتَقَدُّمِ شَاهِدٍ بِالِاعْتِبَارِ نَحْوَ كِتَابَةِ الْمُصْحَفِ، وَلَمْ يَتَقَدَّمْ فِيهِ أَمْرٌ وَلَا تَسْتَطِيرُ وِلَايَةِ الْعَهْدِ مِنْ أَبِي بَكْرٍ لِعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، وَلَمْ يَتَقَدَّمْ فِيهِمَا أَمْرٌ وَلَا تَسْطِيرٌ، وَكَذَلِكَ تَرْكُ الْخِلَافَةِ شُورَى بَيْنَ سِتَّةٍ، وَتَدْوِينُ الدَّوَاوِينِ وَعَمَلُ السِّكَّةِ لِلْمُسْلِمِينَ وَاِتِّخَاذُ السِّجْنِ وَغَيْرُ ذَلِكَ مِمَّا فَعَلَهُ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَهَدْمُ الْأَوْقَافِ الَّتِي بِإِزَاءِ الْمَسْجِدِ يَعْنِي مَسْجِدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالتَّوْسِعَةُ بِهَا فِي الْمَسْجِدِ عِنْدَ ضِيقِهِ، وَحَرْقُ الْمَصَاحِفِ وَجَمْعُهُمْ عَلَى مُصْحَفٍ وَاحِدٍ، وَتَجْدِيدُ أَذَانٍ فِي الْجُمُعَةِ بِالسُّوقِ مِمَّا فَعَلَهُ عُثْمَانُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَغَيْرُ ذَلِكَ كَثِيرٌ جِدًّا فُعِلَ لِمُطْلَقِ الْمَصْلَحَةِ.
وَثَالِثُهَا: أَنَّ الشَّرْعَ شَدَّدَ فِي الشَّهَادَةِ أَكْثَرَ مِنْ الرِّوَايَةِ لِتَوَهُّمِ، الْعَدَاوَةِ، فَاشْتَرَطَ الْعَدَدَ وَالْحُرِّيَّةَ، وَوَسَّعَ فِي كَثِيرٍ مِنْ الْعُقُودِ لِلضَّرُورَةِ، كَالْعَرَايَا وَالْمُسَاقَاةِ وَالْقِرَاضِ وَغَيْرِهَا مِنْ الْعُقُودِ الْمُسْتَثْنَاةِ، وَضَيَّقَ فِي الشَّهَادَةِ فِي الزِّنَا، فَلَمْ يَقْبَلْ فِيهَا إلَّا أَرْبَعَةً يَشْهَدُونَ بِالزِّنَا كَالْمِرْوَدِ فِي الْمُكْحُلَةِ، وَقَبِلَ فِي الْقَتْلِ اثْنَيْنِ وَالدِّمَاءُ أَعْظَمُ، لَكِنَّ الْمَقْصُودَ السِّتْرُ، وَلَمْ يُحْوِجْ الزَّوْجَ الْمَلَاعِنَ إلَى بَيِّنَةٍ غَيْرِ أَيْمَانِهِ، وَلَمْ يُوَجِّهْ إلَيْهِ حَدَّ الْقَذْفِ بِخِلَافِ سَائِرِ الْقَذَفَةِ لِشِدَّةِ الْحَاجَةِ فِي الذَّبِّ عَنْ الْإِنْسَانِ، وَصَوْنِ الْعِيَالِ وَالْفُرُشِ عَنْ أَسْبَابِ الِارْتِيَابِ، وَهَذِهِ الْمُبَايِنَاتُ وَالِاخْتِلَافَاتُ كَثِيرَةٌ فِي الشَّرْعِ لِاخْتِلَافِ الْأَحْوَالِ.
فَلِذَلِكَ يَنْبَغِي أَنْ يُرَاعَى اخْتِلَافُ الْأَحْوَالِ وَالْأَزْمَانِ، فَتَكُونُ الْمُنَاسَبَةُ الْوَاقِعَةُ فِي هَذِهِ الْقَوَانِينِ السِّيَاسِيَّةِ مِمَّا شَهِدَتْ لَهَا الْقَوَاعِدُ بِالِاعْتِبَارِ، فَلَا تَكُونُ مِنْ الْمَصَالِحِ الْمُرْسَلَةِ بَلْ أَعْلَى رُتْبَةً فَتُلْحَقُ بِالْقَوَاعِدِ الْأَصْلِيَّةِ.
وَرَابِعُهَا: أَنَّ كُلَّ حُكْمٍ فِي هَذِهِ الْقَوَانِينِ وَرَدَ دَلِيلٌ يَخُصُّهُ أَوْ أَصْلٌ يُقَاسُ عَلَيْهِ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي أَدِلَّةِ الْبَابِ، قَالَ الْقَرَافِيُّ: وَنَصَّ ابْنُ أَبِي زَيْدٍ فِي النَّوَادِرِ عَلَى أَنَّهُ إذَا لَمْ نَجِدْ فِي جِهَةٍ غَيْرَ الْعُدُولِ أَقَمْنَا أَصْلَحَهُمْ وَأَقَلَّهُمْ فُجُورًا لِلشَّهَادَةِ عَلَيْهِمْ، وَيَلْزَمُ مِثْلُ ذَلِكَ فِي الْقُضَاةِ وَغَيْرِهِمْ لِئَلَّا تَضِيعَ الْمَصَالِحُ، وَمَا أَظُنُّ أَنَّهُ يُخَالِفُهُ أَحَدٌ فِي هَذَا، فَإِنَّ التَّكْلِيفَ مَشْرُوطٌ بِالْإِمْكَانِ، وَإِذَا جَازَ نَصْبُ الشُّهُودِ فَسَقَةً لِأَجْلِ عُمُومِ الْفَسَادِ جَازَ التَّوَسُّعُ فِي الْأَحْكَامِ السِّيَاسِيَّةِ، لِأَجْلِ كَثْرَةِ فَسَادِ الزَّمَانِ وَأَهْلِهِ.
قَالَ الْقَرَافِيُّ: وَلَا نَشُكُّ أَنَّ قُضَاةَ زَمَانِنَا وَشُهُودَهُمْ وَوُلَاتَهُمْ وَأُمَنَاؤُهُمْ، لَوْ كَانُوا فِي الْعَصْرِ الْأَوَّلِ مَا وَلُوا وَلَا عُرِّجَ عَلَيْهِمْ، وَوِلَايَةُ هَؤُلَاءِ فِي مِثْلِ ذَلِكَ الْعَصْرِ فُسُوقٌ فَإِنَّ خِيَارَ زَمَانِنَا هُمْ أَرَاذِلُ ذَلِكَ الزَّمَانِ، وَوِلَايَةُ الْأَرَاذِلِ فُسُوقٌ، فَقَدْ حَسُنَ مَا كَانَ قَبِيحًا، وَاتَّسَعَ مَا كَانَ ضَيِّقًا، وَاخْتَلَفَتْ الْأَحْكَامُ بِاخْتِلَافِ الْأَزْمَانِ.
وَخَامِسُهَا: أَنَّهُ يُعَضِّدُ ذَلِكَ مِنْ الْقَوَاعِدِ الشَّرْعِيَّةِ، إذْ الشَّرْعُ وَسَّعَ لِلْمُرْضِعِ فِي النَّجَاسَةِ اللَّاحِقَةِ لَهَا مِنْ الصَّغِيرِ، مِمَّا لَمْ نُشَاهِدْهُ كَثَوْبِ الْإِرْضَاعِ، وَوَسَّعَ فِي زَمَانِ الْمَطَرِ فِي الطِّينِ عَلَى مَا فِيهِ مِنْ الْقَذِرِ وَالنَّجَاسَةِ وَوَسَّعَ لِأَصْحَابِ الْقُرُوحِ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجَاسَتِهَا، وَوَسَّعَ لِلْغَازِي فِي بَوْلِ فَرَسِهِ، وَوَسَّعَ لِصَاحِبِ الْبَوَاسِيرِ فِي بَلَلِهَا، وَجَوَّزَ الشَّارِعُ تَرْكَ أَرْكَانِ الصَّلَاةِ وَشُرُوطِهَا إذَا ضَاقَ الْحَالُ كَصَلَاةِ الْخَوْفِ وَنَحْوِهَا، وَذَلِكَ كَثِيرٌ فِي الشَّرْعِ وَلِذَلِكَ قَالَ الشَّافِعِيُّ: مَا ضَاقَ شَيْءٌ إلَّا اتَّسَعَ يُشِيرُ إلَى هَذِهِ الْمَوَاطِنِ، فَكَذَلِكَ إذَا ضَاقَ عَلَيْنَا الْحَالُ فِي دَرْءِ الْمَفَاسِدِ، اتَّسَعَ كَمَا اتَّسَعَ فِي تِلْكَ الْمَوَاطِنِ.
وَسَادِسُهَا: أَنَّ أَوَّلَ بَدْءِ الْإِنْسَانِ فِي زَمَنِ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ الْحَالُ ضَعِيفًا، فَأُبِيحَتْ الْأُخْتُ لِأَخِيهَا، وَأَشْيَاءُ كَثِيرَةٌ وَسَّعَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهَا، فَلَمَّا اتَّسَعَ الْحَالُ وَكَثُرَتْ الذُّرِّيَّةُ حَرُمَ ذَلِكَ فِي زَمَانِ بَنِي إسْرَائِيلَ، وَحَرُمَ السَّبْتُ وَالشُّحُومُ وَالْإِبِلُ وَأُمُورٌ كَثِيرَةٌ، وَفَرَضَ عَلَيْهِمْ خَمْسِينَ صَلَاةً.
وَتَوْبَةُ أَحَدِهِمْ بِالْقَتْلِ لِنَفْسِهِ وَإِزَالَةِ النَّجَاسَةِ بِقَطْعِهَا إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ التَّشْدِيدَاتِ، ثُمَّ جَاءَ آخِرُ الزَّمَانِ فَضَعُفَ الْجَسَدُ وَقَلَّ الْجَلَدُ، فَلَطَفَ اللَّهُ بِعِبَادِهِ فَأُحِلَّتْ تِلْكَ الْمُحَرَّمَاتُ، وَخُفِّفَتْ الصَّلَوَاتُ، وَقُبِلَتْ التَّوْبَاتُ، فَقَدْ ظَهَرَ أَنَّ الْأَحْكَامَ وَالشَّرَائِعَ بِحَسَبِ اخْتِلَافِ الْأَزْمَانِ، وَذَلِكَ مِنْ لُطْفِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ بِعِبَادِهِ وَسُنَّتِهِ الْجَارِيَةِ فِي خَلْقِهِ، فَظَهَرَ أَنَّ هَذِهِ الْقَوَانِينَ لَا تَخْرُجُ عَنْ أُصُولِ الْقَوَاعِدِ، وَلَيْسَتْ بِدْعًا عَمَّا جَاءَ بِهِ الشَّرْعُ الْمُكَرَّمُ.

.الْفَصْلُ الثَّالِثُ فِي الدَّعَاوَى بِالتُّهَمِ وَالْعُدْوَانِ:

الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِذَلِكَ يَنْقَسِمُ إلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ:

.الْقِسْمُ الْأَوَّلُ: أَنْ يَكُونَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِذَلِكَ بَرِيئًا لَيْسَ مِنْ أَهْلِ تِلْكَ التُّهْمَةِ:

فَهَذَا النَّوْعُ لَا يَجُوزُ عُقُوبَتُهُ اتِّفَاقًا، وَاخْتَلَفُوا فِي عُقُوبَةِ الْمُتَّهَمِ عَلَى قَوْلَيْنِ:
وَالصَّحِيحُ مِنْهُمَا أَنَّهُ يُعَاقَبُ صِيَانَةً لِلْبُرْءِ لِتَسَلُّطِ أَهْلِ الشَّرِّ وَالْعُدْوَانِ عَلَى أَعْرَاضِ الْبَرَاءِ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ الْمُدَّعِي بِذَلِكَ لَا يُؤَدَّبُ، قَالَ أَصْبَغُ: إنْ كَانَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ مِنْ أَهْلِ الصَّلَاحِ وَالْبَرَاءِ، أُدِّبَ الْمُدَّعِي قَصَدَ أَذِيَّتَهُ أَوْ لَمْ يَقْصِدْهَا.
وَقَالَ مَالِكٌ لَا يُؤَدَّبُ إذَا كَانَ ذَلِكَ طَلَبًا لِحَقِّهِ، وَإِنْ قَالَهُ عَلَى وَجْهِ الْمُشَاتَمَةِ نُكِّلَ بِهِ.
وَقَالَ أَشْهَبُ إنْ اُتُّهِمَ الْمُدَّعِي أَنَّهُ أَرَادَ عَيْبَهُ وَشَتْمَهُ أُدِّبَ وَإِلَّا فَلَا.
[مَسْأَلَةٌ ادَّعَتْ امْرَأَةٌ عَلَى رَجُلٍ أَنَّهُ غَصَبَهَا عَلَى نَفْسِهَا]
مَسْأَلَةٌ:
وَلَوْ ادَّعَتْ امْرَأَةٌ عَلَى رَجُلٍ أَنَّهُ غَصَبَهَا عَلَى نَفْسِهَا، فَإِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الصَّلَاحِ وَالطَّهَارَةِ أُقِيمَ عَلَيْهَا حَدُّ الْقَذْفِ وَحَدُّ الزِّنَا، لِإِقْرَارِهَا عَلَى نَفْسِهَا وَسَيَأْتِي ذَلِكَ.
[مَسْأَلَةٌ ادَّعَى غَصْبًا عَلَى رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ الْخَيْرِ وَالدِّينِ]
مَسْأَلَةٌ:
وَكَذَلِكَ لَوْ ادَّعَى غَصْبًا عَلَى رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ الْخَيْرِ وَالدِّينِ أُدِّبَ.
وَقَالَ أَشْهَبُ: لَا يُؤَدَّبُ، وَهَلْ يَحْلِفُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فِي هَذِهِ الصُّوَرِ أَمْ لَا؟ قَالُوا: إنْ كَانَ الْمُدَّعَى بِهِ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى لَمْ يَحْلِفْ، وَإِنْ كَانَ حَقًّا لِآدَمِيِّ فَعَنْ مَالِكٍ قَوْلَانِ مَبْنِيَّانِ عَلَى جَوَازِ سَمَاعِ هَذِهِ الدَّعْوَى، وَالصَّحِيحُ أَنَّهَا لَا تُسْمَعُ فِي هَذِهِ الصُّوَرِ، وَلَا يَحْلِفُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ لِئَلَّا يَتَطَرَّقَ الْأَرَاذِلُ وَالْأَشْرَارُ إلَى أَذِيَّةِ أَهْلِ الْفَضْلِ وَالِاسْتِهَانَةِ بِهِمْ.
تنبيه:
قَالَ ابْنُ الْهِنْدِيِّ: الْأَيْمَانُ الَّتِي فِيهَا التُّهَمُ وَالظُّنُونُ لَا تَجِبُ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، حَتَّى يَثْبُتَ أَنَّهُ مِمَّنْ تَلْحَقُهُ مِثْلُ هَذِهِ التُّهْمَةِ، فَإِذَا ثَبَتَ ذَلِكَ حَلَفَ وَلَيْسَ لَهُ رَدُّ الْيَمِينِ.
تنبيه:
قَالَ ابْنُ سَهْلٍ: إذَا كَانَتْ الدَّعْوَى فِي تَعَدٍّ يَنْسُبُهُ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ، لَمْ تَجِبْ الْيَمِينُ فِي هَذَا بِالْخُلْطَةِ، وَإِنَّمَا تَجِبُ إذَا كَانَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ مِمَّنْ يُتَّهَم بِذَلِكَ وَيُنْسَبُ إلَيْهِ وَيَكُونُ مَعْرُوفًا بِهِ، قَالَ ابْنُ لُبَابَةَ وَسَوَاءٌ ثَبَتَ عَلَيْهِ الْغَصْبُ وَالتَّعَدِّي أَوْ لَمْ يَثْبُتْ، إلَّا أَنْ يُعْرَفَ بِذَلِكَ وَادُّعِيَ بِهِ عَلَيْهِ قَبْلَ ذَلِكَ، أَمَّا لَوْ اعْتَلَّ أَحَدُ الْخَصْمَيْنِ عَلَى صَاحِبِهِ بِأَنَّهُ مِنْ أَهْلِ التُّهْمَةِ، لِأَنَّهُ قَدْ أَنْكَرَ صَدَاقَ بِنْتِهِ مَثَلًا وَأَثْبَتَهُ عَلَيْهِ بَعْدَ ذَلِكَ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ زَلَّتِهِ غَيْرُ هَذَا فَلَيْسَتْ بِزَلَّةٍ يَبْلُغُ بِهَا أَنْ يُعَدَّ فِي أَهْلِ الرَّيْبِ الَّتِي تَلْزَمُ الْيَمِينُ فِيهَا بِسَبَبِ التُّهَمِ.
قَالَ ابْنُ لُبَابَةَ: وَإِذَا كَانَ الْقَاضِي لَا يَعْرِفُهُ فَلْيَكْشِفْ عَنْهُ سِرًّا وَجَهْرًا.
وَفِي مُفِيدِ الْحُكَّامِ قَالَ مُطَرِّفٌ: إنَّمَا حُلِّفَ فِي السَّرِقَةِ مَنْ اُتُّهِمَ بِالرِّضَا بِهَا وَبِعَارِهَا، فَإِنْ أَبَى سُجِنَ حَتَّى يَرَى الْإِمَامُ فِيهِ رَأْيَهُ، وَإِنْ لَمْ يُتَّهَمْ بِالرِّضَا بِهَا وَبِعَارِهَا لَمْ يُحَلَّفْ، وَإِنْ اُتُّهِمَ بِأَنَّهُ لَمْ يَتَوَرَّعْ مِنْ مَالِ غَيْرِهِ إذَا أَمْكَنَهُ فَلَا يُحَلَّفُ.
[مَسْأَلَةٌ الْأَيْمَانُ فِي التُّهَمِ لَا تُرَدُّ]
لِأَنَّ الدَّعْوَى لَا تَحْقِيقَ فِيهَا وَلَا قَطْعَ بَلْ هِيَ ظَنٌّ، فَإِذَا امْتَنَعَ الْمُتَّهَمُ مِنْ الْيَمِينِ حُبِسَ حَتَّى يَحْلِفَ لِأَنَّهُ حَابِسٌ نَفْسَهُ.
فرع:
قَالَ ابْنُ لُبَابَةَ وَأَصْحَابُهُ: كُلُّ مَا كَانَ مِنْ دَعْوَى مَنْصُوصَةٍ قَطَعَ الْمُدَّعِي بِأَخْذِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ لِذَلِكَ الشَّيْءِ الْمُدَّعَى بِهِ، كَانَ لِلْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِذَلِكَ رَدُّ الْيَمِينِ عَلَى الْمُدَّعِي، وَمَا لَمْ يَكُنْ مَنْصُوصًا مِنْ يَمِينِ تُهْمَةٍ حُلِّفَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ عَلَى ذَلِكَ، فَإِنْ نَكَلَ شَدَّدَ الْقَاضِي عَلَيْهِ بِمَا يَرَاهُ مِنْ الْحَبْسِ أَوْ غَيْرِهِ.
فرع:
قَالَ ابْنُ سَهْلٍ: وَإِنْ لَمْ يُحَقِّقْ الْمُدَّعِي دَعْوَاهُ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ وَإِنَّمَا اتَّهَمَهُ بِخِيَانَةٍ وَشِبْهِهَا وَلَمْ يَقْطَعْ عَلَيْهِ، فَلَا تَجِبُ الْيَمِينُ إلَّا أَنْ يَكُونَ مِمَّنْ يُتَّهَمُ فِي دِينِهِ بِاسْتِحْلَالِ مَا لَا يَحِلُّ، وَسَيَأْتِي فِي الْقِسْمِ الثَّالِثِ مَا يُوضِحُ مَسَائِلَ هَذَا الْقِسْمِ الْأَوَّلِ.

.الْقِسْمُ الثَّاني وَهُوَ الْمُتَّهَمُ بِالْفُجُورِ كَالسَّرِقَةِ:

وَقَطْعِ الطُّرُقِ وَالْقَتْلِ وَالزِّنَا، وَهَذَا الْقِسْمُ لابد أَنْ يَكْشِفُوا وَيُسْتَقْضَى عَلَيْهِمْ بِقَدْرِ تُهْمَتِهِمْ وَشُهْرَتِهِمْ بِذَلِكَ، وَرُبَّمَا كَانَ بِالضَّرْبِ وَبِالْحَبْسِ دُونَ الضَّرْبِ عَلَى قَدْرِ مَا اُشْتُهِرَ عَنْهُمْ.
قَالَ ابْنُ قَيِّمِ الْجَوْزِيَّةِ الْحَنْبَلِيُّ: مَا عَلِمْت أَحَدًا مِنْ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ يَقُولُ: إنَّ هَذَا الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِهَذِهِ الدَّعَاوَى وَمَا أَشْبَهَهَا يُحَلَّفُ، وَيُرْسَلُ بِلَا حَبْسٍ وَلَا غَيْرِهِ وَلَيْسَ تَحْلِيفُهُ وَإِرْسَالُهُ مَذْهَبًا لِأَحَدٍ مِنْ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ وَلَا غَيْرِهِمْ، وَلَوْ حَلَّفْنَا كُلُّ وَاحِدٍ مُتَّهَمٍ وَأَطْلَقْنَا وَخَلَّيْنَا سَبِيلَهُ مَعَ الْعِلْمِ بِاشْتِهَارِهِ بِالْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ وَكَثْرَةِ سَرِقَاتِهِ، وَقُلْنَا: إنَّا لَا نَأْخُذُهُ إلَّا بِشَاهِدَيْ عَدْلٍ، كَانَ الْفِعْلُ مُخَالِفًا لِلسِّيَاسَةِ الشَّرْعِيَّةِ.
وَمَنْ ظَنَّ أَنَّ الشَّرْعَ تَحْلِيفُهُ وَإِرْسَالُهُ فَقَدْ غَلِطَ غَلَطًا فَاحِشًا مُخَالِفًا لِنُصُوصِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلِإِجْمَاعِ الْأُمَّةِ، وَلِأَجْلِ هَذَا الْغَلَطِ الْفَاحِشِ تَجَرَّأَ الْوُلَاةُ عَلَى مُخَالَفَةِ الشَّرْعِ، وَتَوَهَّمُوا أَنَّ السِّيَاسَةَ الشَّرْعِيَّةَ قَاصِرَةٌ عَنْ سِيَاسَةِ الْخَلْقِ وَمَصْلَحَةِ الْأُمَّةِ، فَتَعَدَّوْا حُدُودَ اللَّهِ تَعَالَى وَخَرَجُوا مِنْ الشَّرْعِ إلَى أَنْوَاعٍ مِنْ الظُّلْمِ وَالْبِدَعِ فِي السِّيَاسَةِ عَلَى وَجْهٍ لَا يَجُوزُ.
وَسَبَبُ ذَلِكَ الْجَهْلُ بِالشَّرِيعَةِ، وَقَدْ صَحَّ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ مَنْ تَمَسَّكَ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ لَنْ يَضِلَّ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي أَوَّلِ الْبَابِ مِنْ أَفْعَالِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا يَدُلُّ عَلَى عُقُوبَةِ الْمُتَّهَمِ وَحَبْسِهِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا النَّوْعَ مِنْ الْمُتَّهَمِينَ يَجُوزُ حَبْسُهُ وَضَرْبُهُ لِمَا قَامَ عَلَى ذَلِكَ مِنْ الدَّلِيلِ الشَّرْعِيِّ.
[مَسْأَلَةٌ كَانَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ مُتَّهَمًا]
مَسْأَلَةٌ:
وَفِي الْمُنْتَقَى إذَا كَانَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ مُتَّهَمًا فَفِي الْمُوَازِيَةِ عَنْ أَشْهَبَ: يُمْتَحَنُ بِالسِّجْنِ وَالْأَدَبِ، زَادَ ابْنُ سَهْلٍ وَامْتِحَانُهُ بِقَدْرِ مَا اُتُّهِمَ فِيهِ وَعَلَى قَدْرِ حَالِهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُجْلَدُ بِالسَّوْطِ مُجَرَّدًا.
وَقَالَ أَصْبَغُ: لَا يُعَذَّبُ، قَالَهُ الْبَاجِيُّ وَظَاهِرُهُ نَفْيُ الضَّرْبِ.
وَأَمَّا الْحَبْسُ فَيُسْجَنُ بِقَدْرِ رَأْيِ الْإِمَامِ، وَقَالَ مَالِكٌ: وَلَا يُسْجَنُ حَتَّى يَمُوتَ، وَكَتَبَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ أَنْ يُسْجَنَ حَتَّى يَمُوتَ، يَعْنِي إذَا لَمْ يُقِرُّوا بِهِ، قَالَ اللَّيْثُ وَقَالَ مُطَرِّفٌ وَابْنُ الْمَاجِشُونِ وَابْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ وَأَصْبَغُ فِيمَنْ سُرِقَ لَهُ مَتَاعٌ فَاتَّهَمَ رَجُلًا مَعْرُوفًا بِذَلِكَ، لِأَنَّ سَجْنَهُ صَرْفُ أَذَاهُ عَنْ النَّاسِ إذَا كَانَ مَعْرُوفًا بِذَلِكَ لِتَكَرُّرِهِ مِنْهُ مَعَ إصْرَارِهِ عَلَى الْإِنْكَارِ وَإِتْلَافِ أَمْوَالِ النَّاسِ، فَيَجِبُ أَنْ يُقْبَضَ عَلَيْهِمْ بِالسِّجْنِ، وَلَيْسَ بَعْضُ الْأَوْقَاتِ بِأَوْلَى بِذَلِكَ مِنْ بَعْضٍ مَعَ تَسَاوِي حَالِهِ فِيهِمَا، قَالَ الْبَاجِيُّ: وَعَلَيْهِ يَمِينٌ مَعَ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِنْ الْأَدَبِ وَالسِّجْنِ.
رَوَى ابْنُ حَبِيبٍ وَابْنُ الْمَوَّازِ عَنْ أَصْبَغَ أَنَّهُ يُهَدَّدُ وَيُسْجَنُ وَيُحَلَّفُ، وَرَوَى ابْنُ الْمَوَّازِ عَنْ أَشْهَبَ لَا يَمِينَ عَلَيْهِ، فَوَجْهُ إثْبَاتِ الْيَمِينِ أَنَّهَا تَلْزَمُهُ لِمَا اُدُّعِيَ عَلَيْهِ بِهِ مِنْ الْحَقِّ الْمَالِيِّ، وَوَجْهُ نَفْيِهَا أَنَّ الدَّعْوَى إنَّمَا تَعَلَّقَتْ بِالسَّرِقَةِ وَقَدْ ثَبَتَ بِسَبَبِهَا مِنْ الْعُقُوبَةِ مَا يُنَافِي الْيَمِينَ كَمَا يُنَافِيهَا الْقَطْعُ فِي السَّرِقَةِ.
وَفِي الْمُدَوَّنَةِ أَنَّ الْمُتَّهَمَ بِالسَّرِقَةِ الْمَوْصُوفَ بِهَا يُحَلَّفُ وَيُهَدَّدُ وَيُسْجَنُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُتَّهَمًا وَلَا مَوْصُوفًا بِهَا لَمْ يُتَعَرَّضْ لَهُ، وَإِنْ كَانَ مَنْ لَا يُشَارُ إلَيْهِ بِذَلِكَ أُدِّبَ الْمُدَّعِي.
وَفِي الْوَاضِحَةِ قَالَ مُطَرِّفٌ: مَنْ شُهِدَ عَلَيْهِ بِأَنَّهُ مَوْصُوفٌ بِالسَّرِقَةِ فَإِنَّهُ يُحْبَسُ بِالسِّجْنِ حَتَّى يَمُوتَ، وَأَمَّا الَّذِي لَا يُعْرَفُ حَالُهُ فَلَا يُسْجَنُ حَتَّى يُسْأَلَ عَنْهُ، وَإِنْ سُجِنَ فَلَا يُطَالُ سَجْنُهُ.
[مَسْأَلَة وُجِدَ عِنْدَ الْمُتَّهَمِ بَعْضُ الْمَتَاعِ الْمَسْرُوقِ]
مَسْأَلَةٌ:
وَفِي أَحْكَامِ ابْنِ سَهْلٍ: إذَا وُجِدَ عِنْدَ الْمُتَّهَمِ بَعْضُ الْمَتَاعِ الْمَسْرُوقِ، وَادَّعَى الْمُتَّهَمُ أَنَّهُ اشْتَرَاهُ وَلَا بَيِّنَةَ لَهُ فَهُوَ مُتَّهَمٌ بِالسَّرِقَةِ، وَلَا سَبِيلَ لِلْمُدَّعِي إلَّا فِيمَا بِيَدَيْهِ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مَعْرُوفٍ بِذَلِكَ فَعَلَى السُّلْطَانِ حَبْسُهُ وَالْكَشْفُ عَنْهُ، وَإِنْ كَانَ مَعْرُوفًا بِالسَّرِقَةِ حُبِسَ أَبَدًا حَتَّى يَمُوتَ بِالسِّجْنِ.
[مَسْأَلَةٌ اُدُّعِيَ عَلَيْهِ بِسَرِقَةٍ وَاتُّهِمَ بِهَا]
مَسْأَلَةٌ:
وَقَالَ ابْنُ الْمَوَّازِ مَنْ اُدُّعِيَ عَلَيْهِ بِسَرِقَةٍ وَاتُّهِمَ بِهَا كُشِفَ عَنْهُ، وَاسْتُقْصِيَ عَلَيْهِ بِقَدْرِ تُهْمَتِهِ وَشُهْرَتِهِ بِذَلِكَ وَبِمَا كَانَ فِيهِ مِنْ الضَّرَرِ، وَهَذَا قَوْلُ الْعُلَمَاءِ.
وَقَالَهُ مَالِكٌ وَاللَّيْثُ، قَالَ ابْنُ وَهْبٍ قَالَ اللَّيْثُ: مَنْ وُجِدَ مَعَهُ مَتَاعٌ مَسْرُوقٌ وَقَالَ اشْتَرَيْته، فَإِنْ كَانَ مُتَّهَمًا عُوقِبَ.
وَقَالَ أَشْهَبُ: إذَا شُهِدَ فِيهِ أَنَّهُ مُتَّهَمٌ فَإِنَّهُ يُمْتَحَنُ بِقَدْرِ مَا اُتُّهِمَ فِيهِ وَعَلَى قَدْرِ حَالِهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَجْلِدُهُ بِالسَّوْطِ مُجَرَّدًا.
[مَسْأَلَة كَانَ الشَّاهِدُ يَشْهَدُ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ أَنَّهُ مُتَّهَمٌ]
مَسْأَلَةٌ:
وَإِذَا كَانَ الشَّاهِدُ يَشْهَدُ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ أَنَّهُ مُتَّهَمٌ، فَإِنْ كَانَ الْوَالِي غَيْرَ عَدْلٍ فَلَا يُذْهَبُ بِهِ إلَيْهِ وَلَا يُشْهَدُ عَلَيْهِ عِنْدَهُ، إلَّا أَنْ يُعْرَفَ أَنَّهُ لَا يَأْخُذُهُ بِغَيْرِ حَقٍّ.
مَسْأَلَةٌ:
قَالَ ابْنُ حَبِيبٍ عَنْ أَصْبَغَ: إنَّ مَنْ جَاءَ إلَى الْوَالِي بِرَجُلٍ فَقَالَ: هَذَا سَرَقَ مَتَاعِي، فَقَالَ: إنْ كَانَ مَوْصُوفًا بِذَلِكَ مُتَّهَمًا هُدِّدَ وَامْتُحِنَ وَحُلِّفَ، وَقَالَ أَشْهَبُ لَا يَمِينَ عَلَيْهِ.
[مَسْأَلَةٌ شَهِدَتْ عَلَيْهِ بَيِّنَةٌ أَنَّهُ سَارِقٌ مَعْرُوفٌ بِالسَّرِقَةِ مُتَّهَمٌ بِهَا]
مَسْأَلَةٌ:
قَالَ ابْنُ حَبِيبٍ: قَالَ ابْنُ الْمَاجِشُونِ: مَنْ شَهِدَتْ عَلَيْهِ بَيِّنَةٌ أَنَّهُ سَارِقٌ مَعْرُوفٌ بِالسَّرِقَةِ، مُتَّهَمٌ بِهَا وَقَدْ سُجِنَ فِيهَا غَيْرَ مَرَّةٍ، إلَّا أَنَّهُمْ حِينَ شَهِدُوا عَلَيْهِ لَمْ يَجِدُوا مَعَهُ سَرِقَةً، فَقَالَ: لَا قَطْعَ عَلَيْهِ بِهَذِهِ الشَّهَادَةِ، وَلَكِنْ عَلَيْهِ الْحَبْسُ الطَّوِيلُ.

.فَصْلٌ حُكْمُ الْمُتَّهَمِ بِالْغَصْبِ وَالْعُدْوَانِ:

فَصْلٌ: وَهَذَا حُكْمُ الْمُتَّهَمِ بِالْغَصْبِ وَالْعُدْوَانِ وَقَطْعِ الطَّرِيقِ فِي الْكَشْفِ وَالِاخْتِبَارِ لِحَالِهِمْ وَمَا اُدُّعِيَ بِهِ عَلَيْهِمْ.
مَسْأَلَةٌ:
وَفِي الْمُتَيْطِيَّةِ: وَيُضْرَبُ السَّارِقُ حَتَّى يُخْرِجَ الْأَعْيَانَ الَّتِي سَرَقَهَا.
مَسْأَلَةٌ:
وَمَنْ اتَّهَمَ رَجُلًا أَنَّهُ غَصَبَهُ مَالًا فَأَنْكَرَ، فَإِنْ كَانَ مِمَّنْ يَلِيقُ بِهِ ذَلِكَ هُدِّدَ وَسُجِنَ، فَإِنْ لَمْ يُخْرِجْ شَيْئًا أُطْلِقَ وَفَائِدَتُهُ لَعَلَّهُ أَنْ يُخْرِجَ عَيْنَ مَا غَصَبَ إنْ كَانَ يُعْرَفُ بِعَيْنِهِ، وَأَمَّا الَّذِي لَا يُعْرَفُ بِعَيْنِهِ فَلَا فَائِدَةَ فِي تَهْدِيدِهِ، إذْ لَوْ أَخْرَجَ شَيْئًا بَعْدَ التَّهْدِيدِ لَا يُعْرَفُ بِعَيْنِهِ، لَمْ يُؤْخَذْ مِنْهُ حَتَّى يُقِرَّ بِهِ وَهُوَ آمِنٌ غَيْرُ خَائِفٍ.

.فَصْلٌ وَاخْتُلِفَ فِيمَنْ يَتَوَلَّى ضَرْبَ الْمُتَّهَمِ:

فَقَالَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَشْهَبُ وَغَيْرُهُ: إنَّهُ يَضْرِبُهُ الْوَالِي وَالْقَاضِي، وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ مَا ذَكَرَهُ ابْنُ حَبِيبٍ قَالَ: أُتِيَ هِشَامُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ وَهُوَ قَاضِي الْمَدِينَةِ بِرَجُلٍ مُتَّهَمٍ خَبِيثٍ، مَعْرُوفٍ بِاتِّبَاعِ الصِّبْيَانِ، قَدْ لَصِقَ بِغُلَامٍ فِي الزِّحَامِ، فَبَعَثَ إلَى مَالِكٍ يَسْتَشِيرُهُ فِيهِ، فَأَمَرَ مَالِكٌ الْقَاضِيَ بِعُقُوبَتِهِ فَضَرَبَهُ أَرْبَعَمِائَةِ سَوْطٍ وَبِهِ قَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ.
وَقَالَ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ: يَضْرِبُهُ الْوَالِي دُونَ الْقَاضِي، وَكَذَلِكَ الْحَبْسُ رَاجِعٌ إلَى الْوَالِي وَذَهَبَ إلَيْهِ جَمَاعَةٌ مِنْ الْحَنَابِلَةِ، وَوَجْهُ ذَلِكَ عِنْدَهُمْ أَنَّ الضَّرْبَ الْمَشْرُوعَ هُوَ ضَرْبُ الْحُدُودِ وَالتَّعْزِيرَاتِ، وَذَلِكَ إنَّمَا يَكُونُ بَعْدَ ثُبُوتِ أَسْبَابِهِمَا وَتَحَقُّقِهِمَا، فَيَتَعَلَّقُ ذَلِكَ بِالْقَاضِي وَمَوْضِعُ وِلَايَةِ الْوَالِي الْمَنْعُ مِنْ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ وَقَمْعُ أَهْلِ الشَّرِّ وَالْعُدْوَانِ، وَذَلِكَ لَا يَتِمُّ إلَّا بِالْعُقُوبَةِ لِلْمُتَّهَمِينَ الْمَعْرُوفِينَ بِالْإِجْرَامِ بِخِلَافِ وِلَايَةِ الْحُكَّامِ، فَإِنَّ مَوْضُوعَهَا إيصَالُ الْحُقُوقِ وَإِثْبَاتُهَا، فَكُلُّ وَالٍ أَمَرَ يَفْعَلُ مَا إلَيْهِ فُوِّضَ. انْتَهَى مِنْ كَلَامِ ابْنِ قَيِّمِ الْجَوْزِيَّةِ الْحَنْبَلِيِّ، وَهَذَا الَّذِي نَقَلَهُ عَنْ الشَّافِعِيَّةِ هُوَ كَلَامُ الْمَاوَرْدِيِّ فِي الْأَحْكَامِ السُّلْطَانِيَّةِ، وَهُوَ الَّذِي نَقَلَهُ الْقَرَافِيُّ مِنْ أَصْحَابِنَا فِي الذَّخِيرَةِ، وَاَلَّذِي نَقَلَهُ ابْنُ قَيِّمِ الْجَوْزِيَّةِ عَنْ مَذْهَبِنَا صَحِيحٌ، فَإِنَّ لِلْقَاضِي ضَرْبَ الْمُتَّهَمِ كَمَا سَتَقِفُ عَلَيْهِ فِي فُرُوعِ هَذَا الْبَابِ.
وَفِي أَحْكَامِ ابْنِ سَهْلٍ مِنْ ذَلِكَ مَا وَضَّحَ صِحَّةَ نَقْلِهِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ الْوِلَايَاتِ تَخْتَلِفُ بِحَسَبِ الْعُرْفِ وَالِاصْطِلَاحِ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي كَلَامِ ابْنِ قَيِّمِ الْجَوْزِيَّةِ أَنَّ عُمُومَ الْوِلَايَاتِ وَخُصُوصَهَا لَيْسَ لَهُ حَدٌّ فِي الشَّرْعِ، وَأَنَّ وِلَايَةَ الْقَضَاءِ مِنْ بَعْضِ الْبِلَادِ وَبَعْضِ الْأَوْقَاتِ، تَتَنَاوَلُ وِلَايَةَ وَالِي الْحَرْبِ وَبِالْعَكْسِ، وَذَلِكَ بِحَسَبِ الْعُرْفِ وَالِاصْطِلَاحِ وَالتَّنْصِيصِ فِي الْوِلَايَاتِ.
وَكَلَامُ ابْنِ سَهْلٍ وَابْنِ حَبِيبٍ وَغَيْرِهِمَا مِنْ أَصْحَابِنَا مَبْنِيٌّ عَلَى عُرْفِ بِلَادِ الْأَنْدَلُسِ فِي وِلَايَةِ الْقَضَاءِ، فَإِنْ كَانَتْ وِلَايَةُ قَضَاءٍ فِي قُطْرٍ آخَرَ تَمْنَعُ مِنْ تَعَاطِي هَذِهِ السِّيَاسَاتِ نَصًّا أَوْ عُرْفًا، فَلَيْسَ لِلْقَاضِي تَعَاطِي ذَلِكَ، وَإِلَّا فَلَهُ أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ، لِأَنَّهُ دَعْوَى شَرْعِيَّةٌ حُكْمُهَا الِاخْتِبَارُ بِالْحَبْسِ وَالضَّرْبِ، فَلْيُسَوَّغْ لَهُ الْحُكْمُ فِيهَا كَغَيْرِهَا مِنْ الْحُكُومَاتِ.

.الْقِسْمُ الثَّالِثُ الْمُتَّهَمُ مَجْهُولَ الْحَالِ وَالْوَالِي لَا يعرفه بِبِرٍّ وَلَا بِفُجُورٍ:

الْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ الْمُتَّهَمُ مَجْهُولَ الْحَالِ وَالْوَالِي لَا يَعْرِفُهُ بِبِرٍّ وَلَا بِفُجُورٍ، فَإِذَا اُدُّعِيَ عَلَيْهِ تُهْمَةٌ فَهَذَا يُحْبَسُ حَتَّى يَنْكَشِفَ حَالُهُ، هَذَا حُكْمُهُ عِنْدَ عَامَّةِ عُلَمَاءِ الْإِسْلَامِ، وَالْمَنْصُوصُ عِنْدَ أَكْثَرِ الْأَئِمَّةِ أَنَّهُ يَحْبِسُهُ الْقَاضِي وَالْوَالِي، وَهُوَ مَنْصُوصٌ لِمَالِكٍ وَأَصْحَابِهِ.
[مَسْأَلَةٌ رَجُلٍ سُرِقَ مَتَاعُهُ فَاتَّهَمَ بِهِ رَجُلًا مِنْ جِيرَانِهِ]
مَسْأَلَةٌ:
قَالَ ابْنُ حَبِيبٍ: سَأَلْت مُطَرِّفًا عَنْ رَجُلٍ سُرِقَ مَتَاعُهُ فَاتَّهَمَ بِهِ رَجُلًا مِنْ جِيرَانِهِ، أَوْ رَجُلًا غَرِيبًا لَا يُعْرَفُ حَالُهُ، أَتَرَى الْإِمَامَ يَحْبِسُهُ حَتَّى يَسْأَلَ عَنْهُ وَيَتَبَيَّنَ؟ قَالَ: نَعَمْ، أَرَى ذَلِكَ عَلَى الْإِمَامِ، وَأَرَى أَلَّا يُطِيلَ حَبْسَهُ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَبَسَ رَجُلًا اتَّهَمَهُ الْمَسْرُوقُ مِنْهُ بِسَرِقَةٍ، وَقَدْ صَحِبَهُ فِي السَّفَرِ. قَالَ ابْنُ حَبِيبٍ، وَقَدْ قَالَهُ ابْنُ الْمَاجِشُونِ وَأَصْبَغُ وَابْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ، قَالَ فَضْلٌ: جَعَلَ ادِّعَاءَهُ السَّرِقَةَ هَا هُنَا مِثْلَ مَا لَوْ ادَّعَى أَنَّهُ جَرَحَهُ أَوْ قَتَلَ لَهُ وَلِيًّا وَحَبَسَهُ ابْتِدَاءً.
مَسْأَلَةٌ:
قَالَ الْبَاجِيُّ: وَإِذَا كَانَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ مَجْهُولَ الْحَالِ، فَظَاهِرُ مَا فِي الْمُدَوَّنَةِ يَقْتَضِي أَنْ لَا أَدَبَ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ وَعَلَيْهِ الْيَمِينُ. وَفِي الْوَاضِحَةِ: مَا يَقْتَضِي أَنَّهُ يُخَلِّي سَبِيلَهُ دُونَ يَمِينٍ، وَذَلِكَ أَنَّهُ قَالَ: إنْ كَانَ مُتَّهَمًا مَوْصُوفًا بِذَلِكَ هُدِّدَ وَسُجِنَ وَأُحْلِفَ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ لَمْ يَعْرِضْ لَهُ، وَإِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الصَّلَاحِ أُدِّبَ الْمُدَّعِي.

.فَصْلٌ: حَبْسَ الْمُتَّهَمِ:

وَاعْلَمْ أَنَّ حَبْسَ الْمُتَّهَمِ لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ قَوْلِ مُطَرِّفٍ وَأَرَى أَنْ لَا يُطِيلَ حَبْسَهُ، قَالَ ابْنُ حَبِيبٍ: قُلْت لَهُ: يَعْنِي مُطَرِّفًا، فَإِنْ كَانَ الْمُتَّهَمُ مَنْبُوذًا بِالسَّرِقَةِ مُتَّهَمًا بِهَا قَالَ فَذَلِكَ أَطْوَلُ لِحَبْسِهِ.

.الْفَصْلُ الرَّابِعُ فِي فُرُوعٍ تَتَعَلَّقُ بِالدَّعْوَى عَلَى أَهْلِ الْغَصْبِ وَالتَّعَدِّي وَالْفَسَادِ:

مَسْأَلَةٌ:
إذَا غَصَبَ رَجُلٌ لِرَجُلٍ عَقَارًا وَغَيَّرَ مَعَالِمَهُ حَتَّى لَا يَعْرِفَ حُدُودَهُ، فَإِنْ عَيَّنَ الشُّهُودُ الدَّارَ الْمَغْصُوبَةَ أَوْ نَاحِيَتَهَا، حِيلَ بَيْنَ الْغَاصِبِ وَبَيْنَ ذَلِكَ كُلِّهِ وَوَقَفَ ذَلِكَ الْمُدَّعَى فِيهِ، وَقِيلَ لِلْمُدَّعَى عَلَيْهِ: أَبْرِزْ لِلْقَائِمِ دَارِهِ، فَمَا عَيَّنَهُ الْغَاصِبُ مِنْ ذَلِكَ وَحَلَفَ عَلَيْهِ أَخَذَهُ الْمَشْهُودُ لَهُ، وَإِنْ أَبَى مِنْ الْيَمِينِ، حَلَفَ الْمَشْهُودُ لَهُ عَلَى مَا يَقْطَعُهُ وَيَحُوزُهُ مِنْ ذَلِكَ وَيَأْخُذُهُ، فَإِنْ أَبَى الْغَاصِبُ أَنْ يُبْرِزَ شَيْئًا لِلْمَغْصُوبِ مِنْهُ، أُخِذَتْ الدَّارُ مِنْ يَدِهِ حَتَّى يُقِرَّ بِشَيْءٍ وَيَحْلِفَ عَلَيْهِ، وَقَالَهُ مُطَرِّفٌ.
وَرَوَى يَحْيَى عَنْ ابْنِ الْقَاسِمِ: أَنَّهُ يُكَلِّفُ الْمَشْهُودَ عَلَيْهِ مَا شَهِدُوا فِيهِ أَنَّهُ غَصَبَهُ، فَإِنْ حَازَ شَيْئًا لَهُ بَالٌ حَلَفَ عَلَيْهِ، وَلَمْ يَكُنْ لِلْمَشْهُودِ أَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ، وَإِنْ حَازَ شَيْئًا لَا قَدْرَ لَهُ وَلَا بَالَ، قِيلَ لِلْمَشْهُودِ لَهُ: خُذْ مَا شَهِدَ لَك بِهِ وَاحْلِفْ عَلَيْهِ، وَانْزِلْ فِيهِ وَالظَّالِمُ أَحَقُّ أَنْ يُحْمَلَ عَلَيْهِ، قَالَ أَحْمَدُ بْنُ سَعِيدٍ الْهِنْدِيُّ: وَقَدْ حَضَرْت الْفُتْيَا بِذَلِكَ.
وَرَوَى أَصْبَغُ عَنْ ابْنِ الْقَاسِمِ: أَنَّهُ يُشَدَّدُ عَلَى الْغَاصِبِ وَيُحْبَسُ وَيُضَيَّقُ عَلَيْهِ، فَإِنْ حَازَ شَيْئًا حَلَفَ عَلَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ أَكْثَرُ، فَإِنْ اسْتَبْلَجَ فِي الْإِبَايَةِ عَنْ الْحِيَازَةِ وَأَصَرَّ عَلَى الْإِنْكَارِ حَلَفَ أَنَّهُ لَمْ يَغْصِبْ شَيْئًا وَبَرِئَ، وَقَدْ تَقَدَّمَتْ الْمَسْأَلَةُ قَبْلَ هَذَا مِنْ الْوَاضِحَةِ، وَزَادَ فِيهَا: أَنَّ الْمُدَّعِيَ إذَا قَالَ: لَا أَعْرِفُ حُدُودَهَا لِأَنَّهُ قَدْ غَيَّرَ مَعَالِمَهَا وَحُدُودَهَا، فَإِنَّهُ يُحَالُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْأَرْضِ جَمِيعِهَا إذَا خَلَطَهَا بِمِلْكِهِ حَتَّى يُقِرَّ لَهُ بِحَقِّهِ مِنْهَا.
قَالَ وَقَدْ قَالَ مَالِكٌ فِي غَيْرِ الْغَاصِبِ: فَالْغَاصِبُ أَحَقُّ بِالْحَمْلِ عَلَى هَذَا مَعَ مَا يَلْزَمُهُ مِنْ الْأَدَبِ الْمُوجِعِ، وَالْعُقُوبَةِ الْبَالِغَةِ وَالسَّجْنِ الطَّوِيلِ فِيمَا يَثْبُتُ عَلَيْهِ مِنْ الْغَصْبِ وَاهْتِضَامِ الْمُسْلِمِينَ حُقُوقَهُمْ.
فرع:
وَفِي مُخْتَصَرِ الْوَاضِحَةِ: فِي الرَّجُلِ يُقْضَى لَهُ بِالْأَرْضِ، فَيَدَّعِي خَصْمُهُ أَنَّهُ قَدْ تَزِيدُ فِي أَرْضِهِ أَكْثَرَ مِمَّا قُضِيَ لَهُ بِهِ وَأَنْكَرَ ذَلِكَ الْمُقْضِي، فَإِنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الْمُقْضَى عَلَيْهِ، وَعَلَى الْمُقْضَى لَهُ الْبَيِّنَةُ أَنَّ الَّذِي فِي يَدَيْهِ مِمَّا قُضِيَ بِهِ، لِأَنَّهُ عَلَيْهِ أَنْ يَحُوزَ بِبَيِّنَةٍ مَا قُضِيَ لَهُ بِهِ وَيَنْصِبُ حُدُودَهُ عَلَى حَوْزِهِ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ بَيِّنَةٌ فَالْمَقْضِيُّ عَلَيْهِ أَحَقُّ بِأَرْضِهِ.
[مَسْأَلَةٌ لَوْ أَقَرَّ الْغَاصِبُ أَنَّهُ غَصَبَهُ دِينَارًا]
حُكِمَ بِدِينَارٍ جَيِّدٍ وَازِنٍ مِنْ نَقْدِ ذَلِكَ الْبَلَدِ، فَإِنْ كَانَ فِيهِ نُقُودٌ مُخْتَلِفَةٌ لَزِمَهُ دِينَارٌ مِنْ أَيِّ الْأَصْنَافِ شَاءَ، وَيَحْلِفُ أَنَّ الْمُدَّعِيَ الطَّالِبَ عَلَيْهِ أَعْلَى مِنْهُ، وَكَذَلِكَ فِي الدَّرَاهِمِ، فَإِنْ كَانَتْ دَرَاهِمُ الْبَلَدِ رَدِيئَةً كُلَّهَا نَاقِصَةً كُلَّهَا لَزِمَهُ مِنْهَا.
[مَسْأَلَةٌ قَالَ غَصَبْته دَرَاهِمَ ثُمَّ كَانَتْ رَدِيئَةً]
مَسْأَلَةٌ:
وَلَوْ قَالَ غَصَبْته دَرَاهِمَ ثُمَّ كَانَتْ رَدِيئَةً لَمْ يُصَدَّقْ، قَالَ مُحَمَّدٌ: إذَا لَمْ يَصِلْ الْكَلَامَ.
[مَسْأَلَةٌ قَالَ غَصَبْته دَابَّةً]
مَسْأَلَةٌ:
وَلَوْ قَالَ غَصَبْته دَابَّةً قَبْلَ قَوْلِهِ فِي الْخَيْلِ وَالْبَرَاذِينِ وَالْهُجُنِ وَالْبِغَالِ وَالْحَمِيرِ، دُونَ حِمَارِ الْوَحْشِ إلَّا أَنْ يَصِلَ إقْرَارُهُ بِذَلِكَ، وَلَا يُقْبَلُ فِي الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ وَالْعَبِيدِ وَالْإِبِلِ.
[مَسْأَلَةٌ رَجُلٌ ادَّعَى عَلَى رَجُلٍ أَنَّهُ أَضَرَّ بِهِ وَأَنَّهُ أَفْسَدَ عَلَيْهِ زَوْجَتَهُ]
وَأَنَّ زَوْجَتَهُ خَرَجَتْ مِنْ عِنْدِهِ إلَى ذَلِكَ الرَّجُلِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ وَنَقَلَتْ مَالَهُ إلَى ذَلِكَ الرَّجُلِ فَطَلَبَ الْقَاضِي الْبَيِّنَةَ عَلَى ذَلِكَ، فَشَهِدَ عَلَيْهِ رَجُلٌ أَنَّهُ يَعْرِفُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ مِنْ أَهْلِ الْإِضْرَارِ بِالْمُدَّعِي وَالْإِسَاءَةِ إلَيْهِ، وَأَنَّهُ اضْطَرَبَ عَلَيْهِ الصَّوْتُ اضْطِرَابًا فَاحِشًا، وَأَنَّ زَوْجَةَ الْمُدَّعِي لَمَّا خَرَجَتْ عَنْهُ إنَّمَا زَالَتْ إلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، وَأَنَّ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ مِمَّنْ يُعْرَفُ بِالشَّرِّ وَيُنْسَبُ إلَى الْأَفْعَالِ الَّتِي ادَّعَى بِهَا عَلَيْهِ، وَشَهِدَتْ عَلَيْهِ بَيِّنَةُ شُهْرَتِهِ بِذَلِكَ فَاسْتَغْنَى الْقَاضِي فِي ذَلِكَ فَأَجَابُوهُ: بِأَنَّ الَّذِي يَجِبُ فِي ذَلِكَ أَنْ يُشَدِّدَ عَلَى هَذَا الْمَرْمِيِّ بِالشَّرِّ بِالْحَبْسِ الطَّوِيلِ وَالنَّكَالِ بَعْدَ الْإِعْذَارِ إلَيْهِ، فَإِنْ ظَهَرَتْ زَوْجَةُ الْمُدَّعِي وَرَدَّ مَتَاعَهُ فَنِعِمَّا، وَإِنْ لَمْ يَرُدَّ مِنْهُ شَيْئًا وَمَضَى عَلَى إنْكَارِهِ حَلَفَ فِي مَقْطَعِ الْحَقِّ أَنَّهُ لَمْ يَأْخُذْ مِنْ مَالِهِ شَيْئًا، وَلَا صَارَ إلَيْهِ مِنْهُ شَيْئًا بَعْدَ طُولِ حَبْسِهِ، فَالْمُبَالَغَةُ فِي نَكَالِهِ لِلرِّيبَةِ الَّتِي وَقَعَتْ عَلَيْهِ مِنْ تِلْكَ الشَّهَادَاتِ مِمَّا اُتُّهِمَ بِهِ مِنْ الْأَوَّلِ مِنْ أَحْكَامِ ابْنِ سَهْلٍ.
[مَسْأَلَةٌ رَجُلٍ هَدَمَ بَيْتَ رَجُلٍ فِي قَرْيَةٍ لَيْسَ فِيهَا صَاحِبُ الْبَيْتِ]
مَسْأَلَةٌ:
وَفِي أَحْكَامِ ابْنِ سَهْلٍ فِي رَجُلٍ هَدَمَ بَيْتَ رَجُلٍ فِي قَرْيَةٍ لَيْسَ فِيهَا صَاحِبُ الْبَيْتِ، وَشَهِدَتْ الْبَيِّنَةُ أَنَّهُمْ سَمِعُوا صَاحِبَ الْبَيْتِ يَقُولُ لِلَّذِي هَدَمَ الْبَيْتَ: مَا دَعَاك إلَى هَدْمِ بَيْتِي الَّذِي يُقِرُّ بِهِ كَذَا وَكَذَا. وَأَخَذَ خَشَبَهُ وَعَتَبَهُ، فَقَالَ الْهَادِمُ: أَبُوك أَذِنَ لِي فِي ذَلِكَ وَلَمْ يَدَّعِ شَيْئًا غَيْرَ هَذَا، فَرَفَعَهُ إلَى الْحَاكِمِ وَأَثْبَتَ قَوْلَهُ ذَلِكَ عِنْدَ الْحَاكِمِ، فَادَّعَى أَنَّ عِنْدَهُ مَدْفَعًا لِمَا شَهِدَ بِهِ عَلَيْهِ، فَضَرَبَ لَهُ الْحَاكِمُ آجَالًا وَاسِعَةً وَتَلَوَّمَ عَلَيْهِ فَلَمْ يَأْتِ بِشَيْءٍ، فَعَجَزَهُ وَأَمَرَهُ بِرَمِّ مَا نَقَضَ مِنْ ذَلِكَ وَإِعَادَتِهِ إلَى مِثْلِ حَالِهِ، وَأَنْ يَصِفَ مَا نَقَضَهُ لِيُقَامَ عَلَى تِلْكَ الصِّفَةِ، أَوْ يُؤْخَذُ بِقِيمَةِ ذَلِكَ فَنَكَلَ عَنْ الصِّفَةِ، وَادَّعَى الْجَهْلَ بِهَا لَدَدًا وَتَوَرُّكًا عَنْ الْحَقِّ، وَزَعَمَ أَنَّهُ بَاعَهُ وَلَمْ يَحْضُرْ نَقْضَهُ. فَسَأَلَ الْحَاكِمُ الْفُقَهَاءَ هَلْ يَجْبُرُهُ وَيُشَدِّدُ عَلَيْهِ فِي ذِكْرِ الصِّفَةِ بِالْحَبْسِ وَالْجَلْدِ ثُمَّ يُحَلِّفُهُ عَلَيْهَا؟
فَأَجَابُوهُ: بِأَنَّ هَذَا الْمُعْتَدِيَ يُقَالُ لَهُ: لَا يَصِحُّ فِي مَعْقُولٍ سَامِعٍ مِنْك مَا حَكَيْت مِنْ التَّجَاهُلِ، وَلَا شَكَّ أَنَّك لَمْ تَنْقُضْ إلَّا مَا أَحَطْت بِهِ عِلْمًا وَهَذَا مِنْك لَدَدٌ، وَلِلْمُلَدِّ حُكْمٌ قَالَ بِهِ أَهْلُ الْعِلْمِ مِنْ حِمْلِ السَّوْطِ عَلَيْهِ يَتَبَيَّنُ لَدَدُهُ مِنْ غَيْرِهِ، فَإِنْ انْزَجَرَ بِالْأَدَبِ عَنْ التَّجَاهُلِ غُرِّمَ قِيمَةَ مَا اسْتَهْلَكَ، وَإِنْ مَضَى فِي تَجَاهُلِهِ حَمَلَ التَّأْدِيبَ عَلَيْهِ فِي تَجَاهُلِهِ بِمَا شَهِدَ الذِّهْنُ عَلَى مَعْرِفَتِهِ، وَيُؤَدَّبُ أَيْضًا عَلَى تَعَدِّيه وَجُرْأَتِهِ.
وَإِذَا تَجَافَى الْحَاكِمُ عَنْ مِثْلِ هَذَا، ذَهَبَتْ الْحُقُوقُ وَاجْتَرَأَ الْمُلِدُّ عَلَى إضْرَارِهِمْ، وَقَالَ لِلْمُدَّعِي: صِفْ ذَلِكَ إنْ كَانَ يُحِيطُ بِمَعْرِفَةِ مَا اسْتَهْلَكَ وَيُغَرَّمُ الْمُتَعَدِّي قِيمَتَهُ عَلَى الصِّفَةِ، وَإِذَا ادَّعَى جَهْلًا فَهُوَ أَعْذَرُ مِنْ الْمُتَعَدِّي، فَإِنْ تَمَادَى التَّجَاهُلُ مِنْ الْفَرِيقَيْنِ فَأَنْزِلْهُ أَوْسَطَ قِيمَةٍ عَلَى مَا يُسْتَدَلُّ عَلَيْهِ مِنْ وَجْهٍ لِمُعَايَنَةِ الْمَوْضِعِ، وَمَعْرِفَةِ قَدْرِ مَا كَانَ فِيهِ، وَإِنْ كَانَتْ الْعَيْنُ غَائِبَةً، لِأَنَّهُ إذَا أَخَذْنَا وَسَطَ الْقِيمَةِ فَكَأَنَّ الْعَيْنَ قُوِّمَتْ.
[مَسْأَلَةٌ جَزَاءُ الَّذِينَ قَدْ عُرِفُوا بِالْفَسَادِ وَالْجُرْمِ]
مَسْأَلَةٌ:
كَانَ مَالِكٌ يَقُولُ فِيمَا رَوَاهُ عَنْهُ مُطَرِّفٌ فِي هَؤُلَاءِ الَّذِينَ قَدْ عُرِفُوا بِالْفَسَادِ وَالْجُرْمِ، أَنَّ الضَّرْبَ مَا يُنَكِّلُهُمْ، وَلَكِنْ أَرَى أَنْ يَحْبِسَهُمْ السُّلْطَانُ فِي السُّجُونِ وَيُثْقِلُهُمْ بِالْحَدِيدِ وَلَا يُخْرِجُهُمْ مِنْهُ أَبَدًا، فَذَلِكَ خَيْرٌ لَهُ وَلِأَهْلَيْهِمْ وَلِلْمُسْلِمِينَ، حَتَّى تَظْهَرَ تَوْبَةُ أَحَدِهِمْ وَتَثْبُتُ عِنْدَ السُّلْطَانِ، فَإِذَا صَلُحَ وَظَهَرَتْ تَوْبَتُهُ أَطْلَقَهُ مِنْ النَّوَادِرِ فِي بَابِ الدَّعَاوَى.
[مَسْأَلَةٌ شُهِدَ عِنْدَ الْحَاكِمِ عَلَى رَجُلٍ أَنَّهُ مِنْ أَهْلِ الشَّرِّ وَالْأَذَى لِلنَّاسِ]
مَسْأَلَةٌ:
وَفِي أَحْكَامِ ابْنِ سَهْلٍ: وَإِذَا شُهِدَ عِنْدَ الْحَاكِمِ عَلَى رَجُلٍ أَنَّهُ مِنْ أَهْلِ الشَّرِّ وَالْأَذَى لِلنَّاسِ، وَمِنْ أَهْلِ الْفَسَادِ وَالرَّدَى، فَيَجِبُ عَلَيْهِ الْأَدَبُ الْمُوجِعُ وَالْحَبْسُ الطَّوِيلُ، وَيَجِبُ الْإِغْلَاظُ عَلَى أَهْلِ الشَّرِّ وَالْقَمْعُ لَهُمْ وَالْأَخْذُ عَلَى أَيْدِيهِمْ، فَإِنَّ ذَلِكَ مِمَّا يُصْلِحُ اللَّهُ بِهِ الْعِبَادَ وَالْبِلَادَ، وَذَلِكَ بَعْدَ الِاعْتِذَارِ فِي ذَلِكَ إلَى الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ، قَالَهُ ابْنُ لُبَابَةٍ وَابْنُ وَلِيَدٍ.
وَقَالَ بِهِ خَالِدُ بْنُ وَهْبٍ وَقَالَ: يُقَالُ مَنْ لَمْ يَمْنَعْ النَّاسَ مِنْ الظَّالِمِ لَمْ يَحْمِلْهُمْ عَلَى الْحَقِّ.
[مَسْأَلَةٌ رُفِعَ لِلْقَاضِي رَجُلٌ يَعْرِفُهُ بِالسَّرِقَةِ وَالدَّعَارَةِ]
مَسْأَلَةٌ:
قَالَ سَحْنُونٌ: وَإِذَا رُفِعَ لِلْقَاضِي رَجُلٌ يَعْرِفُهُ بِالسَّرِقَةِ وَالدَّعَارَةِ، وَادَّعَى ذَلِكَ عَلَيْهِ رَجُلٌ فَحَبَسَهُ لِاخْتِبَارِ ذَلِكَ، فَأُقِرَّ فِي السِّجْنِ بِمَا اُدُّعِيَ عَلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ فَذَلِكَ يَلْزَمُهُ، وَهَذَا الْحَبْسُ خَارِجٌ عَنْ الْإِكْرَاهِ وَفِي الْمُتَيْطِيَّةِ: فَلَوْ اعْتَرَفَ بَعْدَ أَنْ مَرَّ عَلَيْهِ شَهْرَانِ فَقَالَ سَحْنُونٌ: يُؤْخَذُ بِاعْتِرَافِهِ، وَقِيلَ: لَا يُؤْخَذُ بِاعْتِرَافِهِ، سَوَاءٌ عَيَّنَ الْمُدَّعَى فِيهِ أَوْ لَمْ يُعَيِّنْهُ لِأَنَّهُ مُكْرَهٌ، وَقِيلَ: إنْ عَيَّنَ الْمُدَّعَى فِيهِ أُخِذَ بِاعْتِرَافِهِ، وَإِنْ لَمْ يُعَيِّنْهُ مَا يُؤْخَذُ بِهِ، وَلَمْ يُفَرِّقْ سَحْنُونٌ بَيْنَ التَّعْيِينِ وَغَيْرِهِ.
وَقَالَ: لَا يَعْرِفُ هَذَا إلَّا مَنْ يَنْفُوَا بِهِ، يُرِيدُ الْقُضَاةَ وَمَنْ شَابَهَهُمْ، كَأَنَّهُ يَقُولُ: إنَّ ذَلِكَ الْإِكْرَاهَ كَانَ بِوَجْهٍ جَائِزٍ، وَإِذَا كَانَ مِنْ الْحَقِّ عُقُوبَتُهُ وَسِجْنُهُ لِمَا عُرِفَ مِنْ حَالِهِ، كَانَ مِنْ الْحَقِّ أَنْ يُؤْخَذَ بِاعْتِرَافِهِ.
[مَسْأَلَةٌ فَاسِقٍ تَأْوِي إلَيْهِ الْفُسَّاقُ وَأَهْلُ الْخَمْرِ مَا يَصْنَعُ بِهِ]
مَسْأَلَةٌ:
سُئِلَ مَالِكٌ عَنْ فَاسِقٍ يَأْوِي إلَيْهِ الْفُسَّاقُ وَأَهْلُ الْخَمْرِ مَا يَصْنَعُ بِهِ؟ قَالَ يُخْرَجُ عَنْ مَنْزِلِهِ وَيُكْرَى عَلَيْهِ، قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ يَتَقَدَّمُ إلَيْهِ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا فَإِنْ لَمْ يَنْتَهِ أُخْرِجَ أُكْرِيَ عَلَيْهِ، وَرُوِيَ عَنْ مَالِكٍ: أَنَّهَا تُبَاعُ، وَهِيَ رِوَايَةٌ فِي الْوَاضِحَةِ، وَلَوْ كَانَتْ الدَّارُ مَعَهُ بِالْكِرَاءِ أُخْرِجَ مِنْهَا، وَأُكْرِيَتْ عَلَيْهِ وَلَمْ يُفْسَخْ كِرَاؤُهُ فِيهَا.
[مَسْأَلَةٌ الْمُسْلِمِ الْخَمَّارِ الَّذِي يَبِيعُ الْخَمْرَ]
مَسْأَلَةٌ:
وَرُوِيَ عَنْ يَحْيَى أَنَّهُ قَالَ: أَرَى أَنْ يُحَرَّقَ بَيْتُ الْخَمَّارِ، قَالَ وَقَدْ أَخْبَرَنِي بَعْضُ أَصْحَابِنَا أَنَّ مَالِكًا رَحِمَهُ اللَّهُ كَانَ يَسْتَحِبُّ أَنْ يُحَرَّقَ بَيْتُ الْمُسْلِمِ الْخَمَّارِ الَّذِي يَبِيعُ الْخَمْرَ، قِيلَ لَهُ فَالنَّصْرَانِيُّ يَبِيعُ الْخَمْرَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ، قَالَ: فَإِذَا تَقَدَّمَ إلَيْهِ فَلَمْ يَنْتَهِ فَأَرَى أَنْ يُحَرَّقَ عَلَيْهِ بَيْتُهُ بِالنَّارِ، وَحَدَّثَنِي اللَّيْثُ: أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حَرَّقَ بَيْتَ رُوَيْشِدٍ الثَّقَفِيِّ لِأَنَّهُ كَانَ يَبِيعُ الْخَمْرَ، وَقَالَ لَهُ: أَنْتَ فُوَيْسِقٌ وَلَسْت بِرُوَيْشِدٍ.
[مَسْأَلَةٌ كَانَ عِنْدَهُ وَثِيقَةٌ لِرَجُلٍ بِإِثْبَاتِ حَقٍّ]
مَسْأَلَةٌ:
وَمِنْ الطُّرَرِ قَالَ ابْنُ مُحْرِزٍ: مَنْ كَانَ عِنْدَهُ وَثِيقَةٌ لِرَجُلٍ بِإِثْبَاتِ حَقٍّ فَلَمْ يَرُدَّهَا إلَيْهِ مُتَعَدِّيًا عَلَيْهِ بِحَبْسِهَا حَتَّى افْتَقَرَ الرَّجُلُ أَوْ مَاتَ وَلَا شَيْءَ عِنْدَهُ فَإِنَّهُ يَضْمَنُهُ، وَأَبْيَنُ مِنْ هَذَا فِي التَّعَدِّي وَالْإِتْلَافِ، لَوْ تَعَدَّى عَلَى وَثِيقَةِ رَجُلٍ قَطَعَهَا أَوْ أَفْسَدَهَا فَتَلِفَ الْحَقُّ بِقَطْعِهَا، فَإِنَّهُ يَضْمَنُ مَا فِيهَا، وَيَضْمَنُ أَيْضًا مِنْ كَانَتْ عِنْدَهُ شَهَادَةٌ بِإِحْيَاءِ حَقٍّ لِرَجُلٍ فَلَمْ يَشْهَدْ حَتَّى تَلِفَ مِنْهُ.
وَكَذَلِكَ لَوْ مَرَّ رَجُلٌ بِإِنْسَانٍ مَعَهُ صَيْدٌ وَهُوَ مُفْتَقِرٌ إلَى سِكِّينٍ يُذَكِّي بِهَا الصَّيْدَ، وَمَعَ الْمَارِّ سِكِّينٌ فَلَمْ يَدْفَعْهَا لَهُ حَتَّى مَاتَ الصَّيْدُ، فَفِي تَضْمِينِ الْمَارِّ خِلَافٌ، وَكَذَلِكَ لَوْ تَرَكَ الْمُوَاسَاةَ بِخَيْطِ لِجَائِفَةٍ وَنَحْوِهَا حَتَّى مَاتَ، فَفِي الضَّمَانِ قَوْلَانِ، وَهَذِهِ قَاعِدَةٌ تَحْتَهَا فُرُوعٌ كَثِيرَةٌ.
[مَسْأَلَةٌ امْرَأَةٍ اشْتَكَتْ عِنْدَ الْقَاضِي مِنْ رَجُلٍ أَنَّهُ أَخَذَ وَلَدَهَا صَغِيرًا]
مَسْأَلَةٌ:
وَفِي أَحْكَامِ ابْنِ سَهْلٍ فِي امْرَأَةٍ اشْتَكَتْ عِنْدَ الْقَاضِي مِنْ رَجُلٍ ذَكَرَتْ أَنَّهُ أَخَذَ وَلَدَهَا صَغِيرًا وَغَرَّبَهُ عَنْهَا، فَأَقَرَّ الرَّجُلُ بِتَغْرِيبِ الصَّبِيِّ، وَادَّعَى أَنَّهَا امْرَأَتُهُ وَأَنَّهُ تَزَوَّجَهَا بِقُرْطُبَةَ، وَالدَّعْوَى عِنْدَ قَاضِي قُرْطُبَةَ، وَصَدَّقَتْهُ الْمَرْأَةُ وَلَمْ يَثْبُتْ التَّنَاكُحُ عِنْدَ الْقَاضِي، وَقَالَتْ الْمَرْأَةُ: إنَّمَا فَعَلَ ذَلِكَ بِالصَّبِيِّ لِتُبِيحَ لَهُ نَفْسَهَا بِلَا نَفَقَةٍ يُقِيمُهَا لَهَا، وَلَا عَائِدٍ يَعُودُ عَلَيْهَا بِهِ، فَأَمَرَ الْقَاضِي بِحَبْسِهِ إلَى أَنْ يُحْضَرَ الصَّبِيَّ، خَشِيَ الْقَاضِي ارْتِحَالَهُ فَتُضْطَرُّ الْمَرْأَةُ إلَى اتِّبَاعِهِ وَالْخُرُوجِ مَعَهُ إلَى حَيْثُ أَحَبَّ، وَالْمُسَاعَدَةُ لَهُ عَلَى مَا أَرَادَ بِسَبَبِ شَفَقَتِهَا عَلَى وَلَدِهَا، فَكَتَبَ الْقَاضِي إلَى الْفُقَهَاءِ الْمُشَاوِرِينَ بِذَلِكَ فَأَجَابُوهُ: بِأَنَّ التَّشْدِيدَ عَلَيْهِ بِالسِّجْنِ صَوَابٌ وَرُشْدٌ، قَالَهُ ابْنُ لُبَابَةَ وَمُحَمَّدُ بْنُ وَلِيَدٍ وَأَيُّوبُ بْنُ سُلَيْمَانَ.
قَالَ الْقَاضِي ابْنُ سَهْلٍ: لَيْتَ شَعْرِي، مَا الَّذِي مَنَعَ الْقَاضِي وَمَنَعَ الْقَاضِي وَمَنَعَ الْفُقَهَاءَ مِنْ كَشْفِهِمَا عَنْ تَنَاكُحِهِمَا مِنْ عَقْدِهِ بَيْنَهُمَا، وَعَنْ الْوَلِيِّ وَالشُّهُودِ لِأَنَّهُمَا ذَكَرَا أَنَّ التَّنَاكُحَ بِقُرْطُبَةَ، وَلَمْ يَثْبُتْ عِنْدَ الْقَاضِي فَكَانَ يَنْبَغِي الْكَشْفُ عَنْ ذَلِكَ، فَإِنْ بَانَ لَهُ كَذِبَهُمَا وَأَقَرَّا بِأَنَّ ذَلِكَ الْوَلَدَ مِنْهُمَا وَأَقَرَّ بِدُخُولِهِ بِهَا وَوَطْئِهِ إيَّاهَا، أَقَامَ الْحَدَّ عَلَيْهِمَا، عَلَى مَا فِي الْمُدَوَّنَةِ وَغَيْرِهَا فِي حَامِلٍ ادَّعَتْ أَنَّهَا مُسْتَكْرَهَةٌ، فَإِنَّهَا لَا تُصَدَّقُ وَتُحَدُّ بِخِلَافِ مَا لَوْ كَانَا طَارِئَيْنِ، فَإِنَّهُ لَا يَعْرِضُ لَهُمَا فَهَذَا مِنْهُمْ تَقْصِيرٌ.
[مَسْأَلَةٌ أَكْرَهَ رَجُلًا أَنْ يَدْخُلَ بَيْتًا فَيُخْرِجَ مِنْهُ مَتَاعًا فَفَعَلَ ثُمَّ عُزِلَ]
مَسْأَلَةٌ:
وَلَوْ أَكْرَهَ عَامِلٌ رَجُلًا عَلَى أَنْ يَدْخُلَ بَيْتًا فَيُخْرِجَ مِنْهُ مَتَاعًا لِيَدْفَعَهُ إلَيْهِ فَفَعَلَ ثُمَّ عُزِلَ، فَقَالَ سَحْنُونٌ: لِرَبِّ الْمَتَاعِ أَنْ يَأْخُذَ مَنْ شَاءَ مِنْهُمَا، فَإِنْ أَخَذَهُ مِنْ الْمَأْمُورِ رَجَعَ بِهِ عَلَى الْآمِرِ، وَلَوْ أَقَامَ الْمَأْمُورُ فِي غَيْبَةِ رَبِّ الْمَتَاعِ فَلَهُ أَخْذُهُ مِنْ الْآمِرِ.
[مَسْأَلَةٌ السَّارِقُ إذَا تَرَكَ بَابَ الدَّارِ مَفْتُوحًا فَيُؤْخَذُ مِنْهَا شَيْءٌ]
مَسْأَلَةٌ:
وَالسَّارِقُ إذَا تَرَكَ بَابَ الدَّارِ مَفْتُوحًا وَلَيْسَ فِي الدَّارِ أَحَدٌ فَيُؤْخَذُ مِنْهَا شَيْءٌ فَإِنَّهُ يَضْمَنُهُ.
[مَسْأَلَةٌ أَخْبَرَ رَجُلٌ لُصُوصًا بِمَطْمُورَةِ رَجُلٍ]
مَسْأَلَةٌ:
لَوْ أَخْبَرَ رَجُلٌ لُصُوصًا بِمَطْمُورَةِ رَجُلٍ، أَوْ أَخْبَرَ بِهَا غَاصِبًا فَبَحَثَ عَنْهَا أَوْ عَنْ مَالِهِ، وَلَوْلَا خَبَرُهُ مَا عُرِفَتْ، فَفِي تَضْمِينِهِ قَوْلَانِ لِلْمُتَأَخِّرِينَ وَبِالتَّضْمِينِ قَالَ ابْنُ أَبِي زَيْدٍ.
[مَسْأَلَةٌ اعْتَدَى عَلَى رَجُلٍ فَقَدَّمَهُ إلَى السُّلْطَانِ وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهُ يَتَجَاوَزُ فِي ظُلْمِهِ]
مَسْأَلَةٌ:
وَمَنْ اعْتَدَى عَلَى رَجُلٍ فَقَدَّمَهُ إلَى السُّلْطَانِ وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهُ يَتَجَاوَزُ فِي ظُلْمِهِ وَيُغَرِّمُهُ مَالًا، فَالْأَكْثَرُونَ عَلَى أَنَّ عَلَيْهِ الْأَدَبَ وَأَنَّهُ آثِمٌ، وَأَفْتَى بَعْضُ الشُّيُوخِ أَنَّ الشَّاكِيَ إنْ كَانَ ظَالِمًا فِي شَكْوَاهُ فَإِنَّهُ يَضْمَنُ مَا غَرَّمَ بِغَيْرِ حَقٍّ، وَإِنْ كَانَ مَظْلُومًا وَلَمْ يَقْدِرْ أَنْ يَنْتَصِفَ إلَّا بِالسُّلْطَانِ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ، وَمَا أَخَذَ مِنْهُ الْأَعْوَانُ مِثْلُ مَا أَخَذَ مِنْهُ السُّلْطَانُ فِي الْحُكْمِ، فَمَتَى قَدَرَ عَلَيْهِ أَوْ عَلَيْهِمْ أَخَذَ مِنْهُمْ مَا أَخَذُوهُ مِنْهُ.
فرع:
قَالَ ابْنُ أَبِي زَيْدٍ: وَأَمَّا الرَّجُلُ يَأْتِي إلَى السُّلْطَانِ فَيُخْبِرُهُ بِأَسْمَاءِ قَوْمٍ وَمَوَاضِعِهِمْ، وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّ الَّذِي يَطْلُبُهُمْ بِهِ فَأَرَاهُ ضَامِنًا لِمَا غَرِمُوهُ، وَعَلَيْهِ الْعُقُوبَةُ الْمُوجِعَةُ.
[فَائِدَةٌ فِي الْفَرْقِ بَيْنَ الْمُعْتَدِي وَالْغَاصِبِ]
وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا: أَنَّ التَّعَدِّيَ جِنَايَةٌ عَلَى بَعْضِ السِّلْعَةِ، وَالْغَصْبُ جِنَايَةٌ عَلَى السِّلْعَةِ كُلِّهَا، وَأَيْضًا فَالْمُعْتَدِي ضَامِنٌ يَوْمَ التَّعَدِّي لِأَنَّ يَدَهُ كَانَتْ عَلَيْهَا بِإِذْنِ رَبِّهَا قَبْلَهُ، وَالْغَاصِبُ ضَامِنٌ يَوْمَ الْغَصْبِ وَأَيْضًا فَالْمُتَعَدِّي إنْ أَتَى بِهَا سَالِمَةً ضَمِنَهَا، وَالْغَاصِبُ إنْ أَتَى بِهَا سَالِمَةً لَمْ يَضْمَنْهَا، قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ: وَقَدْ جَعَلَ غَيْرُ ابْنِ الْقَاسِمِ الْغَاصِبَ كَالْمُتَعَدِّي، إذَا أَمْسَكَهَا عَنْ أَسْوَاقِهَا حَتَّى نَقَصَتْ مِنْ قِيمَتِهَا.
وَأَيْضًا فَالْمُتَعَدِّي لَا يَضْمَنُ إلَّا فِي الْفَسَادِ الْكَثِيرِ، وَالْغَاصِبُ يَضْمَنُ الْيَسِيرَ إذَا شَاءَ الْمَغْصُوبُ مِنْهُ ذَلِكَ، وَإِلَّا أَخَذَ سِلْعَتَهُ نَاقِصَةً وَلَا يَغْرَمُ شَيْئًا، وَأَيْضًا فَالْمُتَعَدِّي يَلْزَمُهُ وَكِرَاءُ مَا تَعَدَّى عَلَيْهِ وَأُجْرَتُهُ بِكُلِّ حَالٍ عِنْدَ مَالِكٍ، وَقَالَ فِي الْغَاصِبِ: لَا كِرَاءَ عَلَيْهِ وَفِي بَعْضِ هَذِهِ الْأَوْجُهِ خِلَافٌ.
[مَسْأَلَةٌ وَالْغَصْبُ مُحَرَّمٌ ابْتِدَاءً]
وَالضَّمَانُ وَالْأَدَبُ بَعْدَ الْوُقُوعِ وَلَا يُؤَدَّبُ غَيْرُ الْبَالِغِ، وَقِيلَ يُؤَدَّبُ كَمَا يُؤَدَّبُ الصَّغِيرُ فِي الْمَكْتَبِ.
[مَسْأَلَةٌ قَامَتْ بَيِّنَةٌ عَلَى رَجُلٍ أَنَّهُ انْتَهَبَ صُرَّةً]
مَسْأَلَةٌ:
لَوْ قَامَتْ بَيِّنَةٌ عَلَى رَجُلٍ أَنَّهُ انْتَهَبَ صُرَّةً ثُمَّ قَالَ: كَانَ فِيهَا كَذَا، وَقَالَ رَبُّهَا كَذَا، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْغَاصِبِ مَعَ يَمِينِهِ، قَالَهُ مَالِكٌ وَقَالَ عَنْهُ ابْنُ الْقَاسِمِ إذَا طَرَحَ الصُّرَّةَ فِي مُتْلَفٍ وَلَمْ يَدْرِ كَمْ فِيهَا. أَوْ لَمْ يَطْرَحْهَا وَاخْتَلَفَا فِي قَدْرِهَا، أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الْمُنْتَهَبِ فِي يَمِينِهِ.
وَقَالَ مُطَرِّفٌ وَابْنُ كِنَانَةَ وَأَشْهَبُ فِي هَذَا وَشَبَهِهِ، أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الْمُنْتَهَبِ مِنْهُ إذَا ادَّعَى مَا يُشْبِهُ أَنَّهُ يَمْلِكُهُ يُرِيدُونَ وَيَحْلِفُ وَفِي بَابِ الْقَضَاءِ بِاللَّوْثِ فِي الْأَمْوَالِ شَيْءٌ مِنْ هَذِهِ الْمَسَائِلِ وَكَذَلِكَ فِي بَابِ الْقَضَاءِ بِالشَّهَادَاتِ الْمَجْهُولَةِ وَالنَّاقِصَةِ شَيْءٌ مِنْ مَسَائِلِ الْغَصْبِ.
[مَسْأَلَةٌ أَخَذَ وَاحِدٌ مِنْ الْمُغِيرِينَ الْغَصْب]
مَسْأَلَةٌ:
وَإِذَا أَخَذَ وَاحِدٌ مِنْ الْمُغِيرِينَ ضَمِنَ جَمِيعَ مَا قَامَتْ بِهِ الْبَيِّنَةُ، وَأُحْلِفَ الْمُغَارُ عَلَيْهِ فِيمَا يُشْبِهُ أَنَّهُ لَهُ أَوْ يَمْلِكُهُ، وَلَوْ أُخِذُوا كُلُّهُمْ وَهُمْ أَوْلِيَاءٌ لَمْ يَضْمَنْ كُلُّ وَاحِدٍ إلَّا مَا يَنُوبُهُ، قَالَ ابْنُ الْمَاجِشُونِ وَأَصْبَغُ.
[مَسْأَلَةٌ أَقَرَّ أَنَّهُ غَصَبَ عَبْدَ فُلَانٍ هُوَ وَرَجُلَانِ سَمَّاهُمَا، وَصَدَّقَهُ رَبُّ الْعَبْدِ]
مَسْأَلَةٌ:
قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ فِيمَنْ أَقَرَّ أَنَّهُ غَصَبَ عَبْدَ فُلَانٍ هُوَ وَرَجُلَانِ سَمَّاهُمَا، وَصَدَّقَهُ رَبُّ الْعَبْدِ أَنَّ هَذَا يَضْمَنُ جَمِيعَ قِيمَةِ الْعَبْدِ، وَلَا يُلْتَفَتُ إلَى مَنْ كَانَ حَضَرَ مَعَهُ إلَّا أَنْ يَقُومَ عَلَيْهِمْ بَيِّنَةٌ أَوْ أَقَرُّوا، ثُمَّ إنْ قَامَتْ عَلَيْهِمْ الْبَيِّنَةُ وَبَعْضُهُمْ عَدِيمٌ فَيُؤْخَذُ مِنْ الْمَلِيءِ جَمِيعُ الْقِيمَةِ وَيُطْلَبُ هُوَ وَأَصْحَابُهُ.
[مَسْأَلَةٌ أَتْلَفَ الْمُتَعَدِّي شَيْئًا]
مَسْأَلَةٌ:
إذَا أَتْلَفَ الْمُتَعَدِّي شَيْئًا ضَمِنَهُ وَإِنْ أَفْسَدَ فَسَادًا كَثِيرًا فَرَبُّهُ بِالْخِيَارِ وَالتَّضْمِينِ وَأَخْذِ الْأَرْشِ.
وَقَالَ أَشْهَبُ: لَيْسَ إلَّا التَّضْمِينُ أَوْ أَخْذُ مَتَاعِهِ دُونَ أَرْشٍ، وَقَالَهُ ابْنُ الْقَاسِمِ مَرَّةً ثُمَّ رَجَعَ عَنْهُ وَإِنْ أَفْسَدَهُ فَسَادًا يَسِيرًا، وَأَفَاتَ الْغَرَضَ الْمَقْصُودَ فَهُوَ كَالْكَثِيرِ، وَذَلِكَ كَقَطْعِ ذَنَبِ بَغْلَةِ الْقَاضِي وَطَيْلَسَانِ ذِي الْهَيْئَةِ، وَهَذَا كُلُّهُ مَعَ الْأَدَبِ وَالتَّعْزِيرِ عَلَى قَدْرِ فَسَادِهِ وَجَرَاءَتِهِ وَعَادَتِهِ، وَإِنْ لَمْ يَفُتْ الْغَرَضُ فَلَيْسَ لَهُ غَيْرُ الْأَرْشِ، وَإِذَا كَانَ الْفَسَادُ يَسِيرًا فِي الثَّوْبِ فلابد أَنْ يَرْفُوَهُ أَوْ يَخِيطَهُ إنْ كَانَ مِمَّا تَصْلُحُ فِيهِ الْخَيَّاطَةُ، وَحِينَئِذٍ يُعْطِي الْأَرْشَ، وَكَذَلِكَ الْقَصْعَةُ يُشَعِّبُهَا، وَأَمَّا الْفَسَادُ الْكَثِيرُ فَلَا يَرْفُوهُ.
وَقَالَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ: إذَا اخْتَارَ أَخْذَ الثَّوْبِ وَمَا نَقَصَهُ فلابد أَنْ يُرْفَأَ أَوْ يُخَاطَ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ الْيَسِيرِ وَالْكَثِيرِ، وَمَا ذَكَرَهُ هُوَ خِلَافُ مَا يَظْهَرُ مِنْ قَوْلِهِمْ، وَقَدْ يَغْرَمُ فِيهِ أَكْثَرَ مِنْ قِيمَتِهِ.
[مَسْأَلَةٌ جَنَى رَجُلٌ عَلَى عَبْدِ رَجُلٍ جِنَايَةً مُفْسِدَةً]
مَسْأَلَةٌ:
لَوْ جَنَى رَجُلٌ عَلَى عَبْدِ رَجُلٍ جِنَايَةً مُفْسِدَةً غُرِّمَ قِيمَتَهُ وَعَتَقَ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَرِهَ سَيِّدُهُ عَلَى الْأَصَحِّ، وَقِيلَ: إنْ اخْتَارَ أَخْذَهُ فَلَهُ ذَلِكَ.
[مَسْأَلَةٌ امْرَأَة رَمَتْ رَجُلًا أَنَّهُ اخْتَدَعَهَا وَافْتَضَّهَا]
مَسْأَلَةٌ:
وَفِي أَحْكَامِ ابْنِ سَهْلٍ فِي امْرَأَةٍ رَمَتْ رَجُلًا أَنَّهُ اخْتَدَعَهَا وَافْتَضَّهَا، وَشَهِدَ فِي ذَلِكَ الرَّجُلِ جَمَاعَةٌ مِنْ خِيَارِ النَّاسِ مِمَّنْ يَعْرِفُهُ أَنَّهُ مِنْ أَهْلِ الطَّهَارَةِ وَالْحَالَةِ الْحَسَنَةِ، وَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ أَنْ يُنْسَبَ إلَيْهِ مِنْ هَذَا شَيْءٌ، وَشَهِدَ عَلَى الْمَرْأَةِ أَنَّ هَذِهِ الْمَرْأَةَ مَنْسُوبٌ إلَيْهَا الرَّدَى، فَأَجَابَ الْمُشَاوِرُونَ فِي ذَلِكَ بِأَنَّ الْحَدَّ وَاجِبٌ عَلَى الْمَرْأَةِ لِلرَّجُلِ الَّذِي رَمَتْهُ حَدُّ الْفِرْيَةِ ثَمَانُونَ سَوْطًا قَالَ ابْنُ لُبَابَةَ وَتُضْرَبُ لِإِقْرَارِهَا بِالزِّنَا مِائَةً إذَا لَمْ تَكُنْ مُحْصَنَةً فَيَكُونُ عَلَيْهَا مِائَةٌ وَثَمَانُونَ سَوْطًا يُرِيدُ إنْ قَامَتْ عَلَى دَعْوَاهَا، وَإِنْ رَجَعَتْ عَنْ ذَلِكَ لَمْ يَلْزَمْهَا إلَّا حَدُّ الْقَذْفِ.
قَالَ ابْنُ الْمَوَّازِ: فِي الْجَارِيَةِ إنْ جَاءَتْ بِهِ مُتَعَلِّقَةً بِهِ تَدْمَى أَوْ لَا تَدْمَى وَهُوَ مِمَّنْ لَا يُتَّهَمُ بِذَلِكَ، حُدَّتْ لِلْقَذْفِ لَا لِلزِّنَا، قَالَهُ ابْنُ الْقَاسِمِ وَابْنُ وَهْبٍ، وَقَالَهُ مَالِكٌ.
وَقَالَ ابْنُ الْمَاجِشُونِ: لَا يَلْزَمُهُ صَدَاقٌ وَلَا أَدَبٌ، وَلَا تُحَدُّ هِيَ لِمَا رَمَتْهُ بِهِ.
وَقَالَ أَصْبَغُ: وَإِنْ كَانَ مُتَّهَمًا فَلَهَا عَلَيْهِ صَدَاقُ الْمِثْلِ، قَالَهُ ابْنُ الْمَاجِشُونِ وَأَشْهَبُ.
وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ لَا صَدَاقَ لَهَا إلَّا أَنْ يَشْهَدَ رَجُلَانِ أَنَّهُ احْتَمَلَهَا وَغَابَ عَلَيْهَا، فَتَحْلِفُ وَتَأْخُذُ صَدَاقَهَا إنْ ادَّعَتْ أَنَّهُ أَصَابَهَا، وَيَوْجَعُ هُوَ ضَرَبَا، وَقَالَهُ مَالِكٌ وَانْظُرْ الْمُنْتَقَى لِلْبَاجِيِّ فَفِيهِ ذِكْرُ مَا اخْتَارَهُ هُوَ فِي ذَلِكَ.
[مَسْأَلَةٌ الرَّجُلِ يَدُلُّ عَلَى الرَّجُلِ فَيَأْخُذُ مِنْ بُسْتَانِهِ غَرْسًا فَيَغْرِسُهُ فِي أَرْضِهِ]
مَسْأَلَةٌ:
وَفِي مُخْتَصَرِ الْوَاضِحَةِ قَالَ ابْنُ حَبِيبٍ: وَقَالَ لِي أَصْبَغُ فِي الرَّجُلِ يَدُلُّ عَلَى الرَّجُلِ فَيَأْخُذُ مِنْ بُسْتَانِهِ غَرْسًا مِنْ أَصْلِهِ فَيَغْرِسُهُ فِي أَرْضِهِ، فَيُنْكِرُ ذَلِكَ الْمَأْخُوذُ مِنْ بُسْتَانِهِ وَلَا يَحْتَمِلُ دَلَالَتَهُ عَلَيْهِ، إنْ كَانَ يُحْدِثَانِ مَا غَرَسَهُ الْمُدِلُّ فِي أَرْضِهِ، وَقَبْلَ أَنْ يَطُولَ زَمَانُهُ فَأَرَاهُ أَحَقَّ بِهِ، وَإِنْ كَانَ قَدْ ثَبَتَ وَعَلَّقَ، وَأَمَّا إنْ تَطَاوَلَ أَمْرُهُ فَإِنَّمَا لَهُ قِيمَتُهُ بَائِنًا يَوْمَ اقْتَلَعَهُ وَلَا سَبِيلَ لَهُ إلَى أَخْذِهِ، لِأَنَّ دَلَالَتَهُ عَلَيْهِ إذَا كَانَ مِنْ أَهْلِ الدَّلَالَةِ عَلَيْهِ شُبْهَةٌ تَمْنَعُ قَلْعَهُ.
فرع:
قَالَ وَلَوْ كَانَ غَيْرَ عَدْلٍ وَلَكِنْ اقْتَلَعَهُ غَصْبًا وَتَعَدِّيًا كَانَ أَحَقَّ بِغَرْسِهِ، وَإِنْ ثَبَتَ فِي أَرْضِ هَذَا وَطَالَ زَمَنُهُ وَثَبَتَتْ زِيَادَتُهُ لِأَنَّهُ شَبِيهٌ بِعَيْنِهِ قَدْ زَادَ وَنَمَا وَشَبَّ، فَهُوَ كَالصَّغِيرِ يُغْصَبُ وَيُسْرَقُ، فَيَجِدُهُ صَاحِبُهُ وَقَدْ كَبِرَ وَشَبَّ فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ إنْ شَاءَ إلَّا أَنْ يَشَاءَ أَنْ يُسْلِمَهُ وَيَأْخُذَ قِيمَتَهُ ثَابِتًا يَوْمَ قَلْعِهِ فَيَكُونُ لَهُ.
فرع:
قَالَ: وَلَوْ لَمْ يَكُنْ غَرْسًا وَلَكِنَّهُ امْتِلَاخٌ امْتَلَخَهُ مِنْ شَجَرِ رَجُلٍ غَصْبًا وَتَعَدِّيًا بِلَا إذْنٍ مِنْ صَاحِبِهِ وَلَا دَلَالَةَ عَلَيْهِ، فَإِنْ أَقَامَ الْمَأْخُوذُ ذَلِكَ مِنْ شَجَرِهِ عَلَى حَقِّهِ، بِحِدْثَانِ مَا أُخِذَ وَمَا اغْتَرَسَهُ الْآخِذُ وَإِنْ كَانَ قَدْ عَلَّقَ فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ، وَإِنْ كَانَ بَعْدَ طُولِ زَمَانٍ وَبَعْدَ نَمَاءٍ وَزِيَادَةٍ، فَلَا أَرَى لَهُ سَبِيلًا إلَى أَخْذِهِ بِعَيْنِهِ، وَلَكِنْ لَهُ قِيمَتُهُ يَوْمَ امْتِلَاخِهِ مِنْ شَجَرِهِ عُودًا مَيِّتًا مَكْسُورًا إذَا لَمْ يَكُنْ يَضُرُّ شَجَرَهُ، لِأَنَّهُ كَالْحَبِّ الْمَيِّتِ يَغْصِبُهُ الرَّجُلُ فَيَزْرَعُهُ فِي أَرْضِهِ فَيَنْبُتُ فَإِنَّمَا الزَّرْعُ لِلْغَاصِبِ، وَعَلَيْهِ لِلْمَغْصُوبِ رَدُّ كَيْلِهِ مِنْ حَبٍّ مِثْلِهِ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ أَضَرَّ بِالشَّجَرِ فَعَلَيْهِ مَعَ قِيمَةِ الْعُودِ الَّذِي أَخَذَ قِيمَتَهُ، مَا نَقَصَ الشَّجَرُ وَمَا وَهِيَ مِنْهَا إنْ كَانَ ذَلِكَ أَوْهَاهَا، إذْ لَا يُشْبِهُ الِامْتِلَاخُ الْغَرْسَ عِرْقٌ حَيٌّ أُخِذَ وَهُوَ حَيٌّ، وَاغْتُرِسَ وَهُوَ حَيٌّ، وَنَبَتَ حَيًّا، وَالِامْتِلَاخُ قَضِيبٌ مَيِّتٌ، وَرَأَى عَلَيْهِ مَعَ ذَلِكَ الْعُقُوبَةَ عَلَى أَخْذِهِ إيَّاهُ بِغَيْرِ إذْنِ صَاحِبِهِ، وَلَوْ كَانَ فَعَلَ ذَلِكَ مُدِلًّا غَيْرَ غَاصِبٍ فَإِنِّي أَرَى أَنْ يَتَحَلَّلَهُ مِنْ ذَلِكَ، فَإِنْ حَلَّلَهُ وَإِلَّا غَرِمَ قِيمَتَهُ عُودًا مَكْسُورًا يَوْمَ امْتَلَخَهُ، كَانَ ذَلِكَ بِحِدْثَانِهِ أَوْ بِغَيْرِ حِدْثَانِهِ.
تنبيه:
قَالَ فَضْلُ بْنُ سَلَمَةَ: إنَّمَا يَجْعَلُهُ سَحْنُونٌ لَهُ إذَا كَانَ لَوْ قَلَعَهُ وَغَرَسَهُ نَبَتَ، فَإِنْ كَانَ لَا يَنْبُتُ إنْ قَلَعَهُ وَغَرَسَهُ فَإِنَّمَا لَهُ قِيمَتُهُ وَلَا سَبِيلَ إلَى قَلْعِهِ، وَقَدْ كَانَ رَبِيعَةُ يَقُولُ فِي مِثْلِ هَذَا: وَإِنْ نَبَتَ فَإِنَّمَا لَهُ قِيمَتُهُ أَوْ غَرْسُ مِثْلِهِ.
[مَسْأَلَةٌ رَجُلًا اغْتَصَبَ غَرْسًا مِنْ أَرْضِ رَجُلٍ، ثُمَّ بَاعَهُ]
مَسْأَلَةٌ:
قَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ: قَالَ أَصْبَغُ: وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا اغْتَصَبَ غَرْسًا مِنْ أَرْضِ رَجُلٍ، ثُمَّ بَاعَهُ فَاشْتَرَاهُ مَنْ لَا يَعْرِفُ أَنَّهُ اغْتَصَبَهُ فَغَرَسَهُ فِي أَرْضِ نَفْسِهِ، ثُمَّ اسْتَحَقَّهُ صَاحِبُهُ وَقَدْ عُلِّقَ وَثَبَتَ خَيْرُ مُسْتَحَقِّهِ فِي ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ، إنْ شَاءَ أَخَذَ مِنْ الْغَاصِبِ قِيمَتَهُ يَوْمَ اقْتَلَعَهُ ثَابِتًا عَلَى أَصْلِهِ وَهَيْئَتِهِ الَّتِي كَانَ، وَإِنْ شَاءَ أَخَذَ مِنْهُ الثَّمَنَ الَّذِي بَاعَهُ بِهِ، وَإِنْ شَاءَ اقْتَلَعَهُ وَأَخَذَ غَرْسَهُ، وَذَلِكَ مَا لَمْ يَطُلْ زَمَانُهُ فِي أَرْضِ الْمُشْتَرِي، وَتَتَبَيَّنُ زِيَادَتُهُ وَنَمَاؤُهُ فَلَا يَكُونُ لَهُ أَخْذُهُ حِينَئِذٍ، وَلَكِنْ لَهُ عَلَى مُبْتَاعِهِ قِيمَتُهُ يَوْمَ غَرَسَهُ فِي أَرْضِهِ وَلَيْسَ قِيمَتُهُ الْيَوْمَ، لِأَنَّ لَهُ فِيهِ سَقْيًا وَعِلَاجًا وَعَمَلًا، وَبِهِ بَلَغَ هَذَا الْمَبْلَغَ، فَإِنْ أَخَذَ ذَلِكَ مِنْ الْمُبْتَاعِ رَجَعَ الْمُبْتَاعُ عَلَى الْغَاصِبِ بِالثَّمَنِ الَّذِي أَعْطَاهُ.
تنبيه:
قَالَ فَضْلُ بْنُ سَلَمَةَ: جَعَلُوا زِيَادَةَ ذَلِكَ عِنْدَ الْمُبْتَاعِ خِلَافَ مَا هِيَ عِنْدَ الْغَاصِبِ، أَفَرَأَيْت الصَّغِيرَ يَكْبَرُ؟ هَلْ يُفَرِّقُ بَيْنَ الْمُشْتَرِي وَالْغَاصِبِ؟.
مَسْأَلَةٌ:
قَالَ أَصْبَغُ: فِي الْبُسْتَانِ وَالْحَدِيقَةِ مِنْ الزَّيْتُونِ أَوْ مِنْ أَيِّ أَنْوَاعِ الشَّجَرِ كَانَتْ يَعْدُو عَلَيْهَا، عَادٍ فَيَقْطَعُ شَجَرَهَا وَيُفْسِدُهَا، إنْ كَانَ الْفَسَادُ فِي الشَّجَرِ يَسِيرًا قُوِّمَ عَلَيْهِ فِي الشَّجَرِ الَّتِي قَطَعَ، وَأَفْسَدَ قِيمَتَهَا ثَابِتَةً حِينَ قَطَعَهَا وَنَظَرَ إلَى قِيمَةِ الْبُسْتَانِ وَالْحَدِيقَةِ، قَبْلَ أَنْ يَقْطَعَ مِنْهَا مَا قَطَعَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُفْسِدَ مِنْهَا مَا أَفْسَدَ، وَنَظَرَ إلَى قِيمَتِهَا بَعْدَ الْقَطْعِ وَالْفَسَادِ، فَأَيُّ ذَلِكَ إنْ كَانَ أَكْثَرَ وَأَسْخَطَ حُمِلَ ذَلِكَ عَلَيْهِ مَعَ الْعُقُوبَةِ الْمُوجِبَةِ.
وَهَكَذَا حَدَّثَنِي ابْنُ وَهْبٍ عَنْ يُونُسَ عَنْ رَبِيعَةَ وَهُوَ أَحْسَنُ مَا فِيهِ عِنْدَنَا، قَالَ أَصْبَغُ: وَأَنْكَرَ مَالِكٌ مَا ذُكِرَ مِنْ تَضْعِيفِ الْقِيمَةِ عَلَى مُفْسِدِ الشَّجَرِ وَقَاطِعِهَا، وَقَالَ لَيْسَ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ إلَّا قِيمَةُ مَا أَفْسَدَ.
[مَسْأَلَةٌ أَفْسَدَ ثَمَرَةً قَبْلَ أَنْ يَبْدُوَ صَلَاحُهَا]
مَسْأَلَةٌ:
وَمَنْ أَفْسَدَ ثَمَرَةً قَبْلَ أَنْ يَبْدُوَ صَلَاحُهَا غُرِّمَ قِيمَتَهَا يَوْمَ أَفْسَدَهَا عَلَى الرَّجَاءِ أَنْ يُتِمَّ، وَعَلَى الْخَوْفِ أَنْ لَا يُتِمَّ، كَمَا يَكُونُ ذَلِكَ فِي الزَّرْعِ الْأَخْضَرِ هَذَا كُلُّهُ مَعَ الْأَدَبِ مِنْ السُّلْطَانِ بِقَدْرِ سَفَهِهِ وَإِفْسَادِهِ.
[مَسْأَلَةٌ يَقْطَعُ شَجَرَة الرَّجُل مِنْ فَوْقِ أَصْلِهَا]
مَسْأَلَةٌ:
قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ سَحْنُونٍ حِينَ سُئِلَ عَنْ الَّذِي يَقْطَعُ شَجَرَةَ الرَّجُلِ مِنْ فَوْقِ أَصْلِهَا، فَقَالَ: لَا يُقْضَى عَلَيْهِ السَّاعَةَ وَلَكِنْ يُنْتَظَرُ بِالشَّجَرَةِ، فَإِنْ عَادَتْ لِهَيْئَتِهَا كَمَا كَانَتْ أَوَّلًا فَلَا شَيْءَ عَلَى الْقَاطِعِ، يُرِيدُ سِوَى الْأَدَبِ، وَإِنْ هِيَ عَادَتْ وَلَمْ تَتِمَّ عَلَى حَالِهَا الْأَوَّلِ وَغُرِّمَ مَا نَقَصَ، قِيلَ لَهُ: قُطِعَتْ فُرُوعُهَا أَوْ مِنْ فَوْقِ أَصْلِهَا يَنْتَظِرُ بِهَا عَشْرَ سِنِينَ أَوْ أَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ أَوْ أَكْثَرَ، قَالَ: نَعَمْ مِنْ مُخْتَصَرِ الْوَاضِحَةِ.
[مَسْأَلَةٌ أَسْكَنَ مُعَلِّمًا دَارَ رَجُلٍ ظُلْمًا لِيُعَلِّمَ لَهُ فِيهَا وَلَدَهُ ثُمَّ مَاتَ الظَّالِمُ]
مَسْأَلَةٌ:
قَالَ ابْنُ حَبِيبٍ وَقَالَ لِي مُطَرِّفٌ وَابْنُ الْمَاجِشُونِ وَأَصْبَغُ: فِي ظَالِمٍ أَسْكَنَ مُعَلِّمًا دَارَ رَجُلٍ ظُلْمًا، لِيُعَلِّمَ لَهُ فِيهَا وَلَدَهُ ثُمَّ مَاتَ الظَّالِمُ أَوْ مَاتَ الْمُعَلِّمُ، فَصَاحِبُ الدَّارِ مُخَيَّرٌ فِي كِرَاءِ دَارِهِ إنْ شَاءَ أَخَذَهُ مِنْ مَالِ الْمُعَلِّمِ.
[مَسْأَلَةٌ رَجُلٍ اسْتَجْهَلَ عِنْدَ سُلْطَانٍ مُتَعَدٍّ فَضَرَبَهُ أَوْ أَغْرَمَهُ]
مَسْأَلَةٌ:
قَالَ ابْنُ حَبِيبٍ: وَقَالَ لِي مُطَرِّفٌ فِي رَجُلٍ اسْتَجْهَلَ عِنْدَ سُلْطَانٍ مُتَعَدٍّ فَضَرَبَهُ أَوْ أَغْرَمَهُ، ثُمًّ انْتَصَفَ الْمُسْتَجْهِلُ عِنْدَ سُلْطَانٍ غَيْرِهِ فَلَا يُغَرِّمُهُ مَا أُغْرِمَ بِسَبَبِهِ، وَلَكِنْ عَلَيْهِ الْعُقُوبَةُ.

.الْفَصْلُ الْخَامِسُ فِي بَابِ الْغَصْبِ وَالتَّعَدِّي مِنْ بَيْعِ الْمَضْغُوطِ وَإِيمَانِ الْإِكْرَاهِ:

وَفِي مُخْتَصَرِ الْوَاضِحَةِ بَيْعُ الْمُسْتَكْرَهِ غَيْرُ جَائِزٍ عَلَيْهِ، وَلَا لَازِمٍ بِمَنْزِلَةِ الطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ إذَا اُسْتُكْرِهَ عَلَيْهِ، وَكُلُّ ذَلِكَ مَوْضُوعٌ عَنْهُ لَا يَلْزَمُهُ مِنْهُ شَيْءٌ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وُضِعَ عَنْ أُمَّتِي ثَلَاثٌ الْخَطَأُ وَالنِّسْيَانُ وَمَا اُسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ»، فَإِذَا أَلْجَأَ الظَّالِمُ رَجُلًا إلَى أَخْذِ مَالِهِ بِغَيْرِ حَقٍّ، وَاضْطَرَّهُ حَتَّى بَاعَ مَالَهُ فَذَلِكَ غَيْرُ جَائِزٍ عَلَيْهِ، وَهُوَ أَوْلَى بِكُلِّ مَا بَاعَهُ فِي تِلْكَ الْحَالِ وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ مِنْ ثَمَنِ ذَلِكَ، وَلِيَتْبَعَ الْمُشْتَرِيَ بِالثَّمَنِ ذَلِكَ الظَّالِمُ الَّذِي أَخَذَهُ أَوْ وَصَلَ إلَيْهِ، قَالَ مُطَرِّفٌ وَابْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ وَأَصْبَغُ: وَسَوَاءٌ وَصَلَ ثَمَنُ الْمَتَاعِ إلَى الْمَضْغُوطِ ثُمَّ دَفَعَهُ الْمَضْغُوطُ إلَى الَّذِي أَلْجَأَهُ إلَى الْبَيْعِ بِتَعَدِّيهِ عَلَيْهِ، أَوْ كَانَ الظَّالِمُ هُوَ الَّذِي تَوَلَّى قَبْضَ الثَّمَنِ مِنْ الْمُبْتَاعِ فَإِذَا بِمَتَاعِهِ بِيَدِ مَنْ ابْتَاعَهُ، أَوْ بِيَدِ مَنْ اشْتَرَاهُ مِنْ الَّذِي ابْتَاعَهُ، فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ الثَّمَنِ، وَلِيُرَاجِعْ بِهِ الْبَاعَةَ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ، حَتَّى يَرْجِعَ الْمَتَاعُ الْأَوَّلُ عَلَى الظَّالِمِ الَّذِي وَصَلَ الثَّمَنُ إلَيْهِ، وَلَوْ كَانَ الَّذِي فَعَلَ بِهَذَا الْمَظْلُومِ مَا فَعَلَ، إنَّمَا هُوَ بَعْضُ أَعْوَانِ الظَّالِمِ فِي الْمَغْرَمِ الَّذِي أَغْرَمَهُ، حَتَّى بَاعَ مَتَاعَهُ وَدَفَعَ الثَّمَنَ إلَى الْمُوَكَّلِ، فَإِنَّ لِلْمُبْتَاعِ إذَا أَخَذَ الْمَتَاعَ مِنْ يَدِهِ أَنْ يَأْخُذَ بِالثَّمَنِ مَنْ شَاءَ مِنْ الْمُوَكِّلِ أَوْ الْوَكِيلِ، إذَا أَثْبَتَ أَنَّ الثَّمَنَ وَصَلَ إلَى الْمُوَكِّلِ، أَوْ أَثْبَتَ أَنَّهُ أَمَرَ بِذَلِكَ الْوَكِيلَ بِقَبْضِ ذَلِكَ الْمَالِ، وَتِلْكَ التَّسْمِيَةُ مِنْ هَذَا الْمَظْلُومِ.
تنبيه:
وَحَدُّ الْإِكْرَاهِ الَّذِي لَا يَلْزَمُ مَعَهُ بَيْعُ مَتَاعِهِ هُوَ الْحَبْسُ أَوْ الْكَبْلُ أَوْ الضَّرْبُ أَوْ التَّهْدِيدُ بِذَلِكَ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ إلَّا أَنَّهُ قَدْ تَوَقَّعَ ذَلِكَ، أَوْ تَوَقَّعَ عَلَيْهِ لِمَا يَعْرِفُ مِنْ عَدَاءِ ذَلِكَ الظَّالِمِ وَأَخْذِهِ أَمْوَالَ النَّاسِ بِغَيْرِ حَقٍّ، وَانْتِهَاكِ حُرْمَتِهِمْ بِالضَّرْبِ وَالرَّهَقِ، فَمَا بَاعَ فِي هَذَا عُرِفَ بَيْعُهُ، وَأَنَّ الثَّمَنَ قَدْ وَصَلَ مِنْهُ أَوْ مِنْ الْمُبْتَاعِ إلَى الظَّالِمِ أَوْ إلَى الْمُوَكَّلِ بِهِ مِنْ جِهَةِ الظَّالِمِ، فَهُوَ يَرْجِعُ فِي مَتَاعِهِ إذَا وَجَدَ إلَيْهِ بِالْحَقِّ سَبِيلًا.
مَسْأَلَةٌ:
قَالَ سَحْنُونٌ فِي الْأَمِيرِ الْغَاصِبِ يَقُولُ لِلرَّجُلِ: ائْتِنِي بِأَلْفِ دِينَارٍ وَإِلَّا ضَرَبْت عُنُقَك، وَلَا يَجِدُ الرَّجُلُ مَا يُعْطِيه فَيَبِيعُ دَارِهِ بِأَلْفِ دِينَارٍ فَيُعْطِيهَا الْأَمِيرَ، فَإِنَّ الْبَيْعَ مُنْتَقِضٌ وَيَغْرَمُ الْبَائِعُ لِمَنْ اشْتَرَى مِنْهُ الدَّارَ الثَّمَنَ الَّذِي أَخَذَ مِنْهُ، وَيَأْخُذُ دَارِهِ ثُمَّ يَتْبَعُ ذَلِكَ الْأَمِيرَ بِمَا أَعْطَاهُ.
تنبيه:
قَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ: قَالُوا وَلَوْ ادَّعَى الْمُوَكَّلُ أَنَّهُ لَمْ يَرْضَ مَا أُمِرَ بِهِ فِي الْمَظْلُومِ أَنَّهُ تُوَقَّعُ عَلَى نَفْسِهِ الْعُقُوبَةُ مِنْ الظَّالِمِ إذَا لَمْ يُعْطِهِ فِيمَا أَمَرَهُ بِهِ، وَهُوَ مِنْ أَعْوَانِ الظَّالِمِ أَوْ مِنْ غَيْرِ أَعْوَانِهِ لَا بِعُذْرٍ فِي ذَلِكَ، لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «لَا طَاعَةَ لِمَخْلُوقٍ فِي مَعْصِيَةِ الْخَالِقِ» فَمَنْ أَمَرَهُ الْوَالِي بِقَتْلِ رَجُلٍ ظُلْمًا أَوْ قَطْعِهِ أَوْ جَلْدِهِ أَوْ أَخْذِ مَالَهُ أَوْ بَيْعِ مَتَاعِهِ فَلَا يَفْعَلُ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ وَإِنْ عَلِمَ أَنَّهُ عَصَاهُ وَقَعَ بِهِ فِي نَفْسِهِ أَوْ ظَهْرِهِ أَوْ مَالِهِ، فَإِنْ أَطَاعَهُ وَجَبَ عَلَيْهِ الْقَوَدُ وَالْقَطْعُ وَالْغُرْمُ وَغُرِّمَ ثَمَنَ مَا بَاعَ قَالَ فَضْلُ بْنُ سَلَمَةَ: اُنْظُرْ هَذَا وَانْظُرْ مَا قَالَهُ ابْنُ الْمَاجِشُونِ فِي دِيوَانِهِ فِي السُّلْطَانِ يَأْمُرُ رَجُلًا يَقْتُلُ رَجُلًا ظُلْمًا، أَنَّ السُّلْطَانَ يَقْتُلُ الْمَأْمُورَ.
فرع:
وَمَنْ أُكْرِهَ عَلَى قَتْلِ ابْنِهِ أَوْ أَخِيهِ وَالْقَاتِلُ وَارِثُهُ، فَإِنَّ ذَلِكَ يَمْنَعُهُ مِنْ الْمِيرَاثِ وَلَا يَرْفَعُ عَنْهُ حُكْمَ الْقَوَدِ.
تنبيه:
قَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ قَالُوا وَكَذَلِكَ إنْ اسْتَكْرَهَهُ عَلَى أَنْ يَزْنِيَ وَحَمَلَ السَّيْفَ عَلَى رَأْسِهِ، أُقِيمَ الْحَدُّ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ وَوَجَبَ عَلَيْهِ إثْمُهُ، وَلَيْسَ هَذَا مِنْ الِاسْتِكْرَاهِ الْمَوْضُوعِ عَنْ صَاحِبِهِ، وَإِنَّمَا الْمَوْضُوعُ عَنْ صَاحِبِهِ إثْمُ مَا رَكِبَ بِالِاسْتِكْرَاهِ فِي الْأَيْمَانِ وَالطَّلَاقِ وَالْبَيْعِ وَالْإِفْطَارِ فِي رَمَضَانَ وَشُرْبِ الْخَمْرِ وَتَرْكِ الصَّلَاةِ. كَمَا إذَا عَدَا قَوْمٌ عَلَى رَجُلٍ وَاسْتَكْرَهُوهُ عَنْ الصَّلَاةِ وَقَالُوا لَهُ: إنْ صَلَّيْت وَأَنْت مَعَنَا ضَرَبْنَا عُنُقَك، وَأَشْبَاهُ هَذَا مِمَّا هُوَ لِلَّهِ تَعَالَى.
مَسْأَلَةٌ:
قَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ قَالُوا: وَلَوْ لَمْ يَعْرِفْ هَلْ وَصَلَ الثَّمَنُ إلَى الظَّالِمِ فِي مَغْرَمِهِ ذَلِكَ، أَوْ صَرَفَهُ الْمَضْغُوطُ فِي مَصَالِحِهِ؟ حُمِلَ عَلَى أَنَّ الثَّمَنَ وَصَلَ إلَى الظَّالِمِ إذَا كَانَ عَدَاؤُهُ عَلَيْهِ مَعْرُوفًا، حَتَّى بَاعَ مَتَاعَهُ مُسْتَكْرَهًا إلَّا أَنْ يَسْتَيْقِنَ أَنَّهُ أَدْخَلَهُ فِي مَتَاعِهِ فِي غَيْرِ مَغْرَمِهِ، فَلَا يَصِيرُ حِينَئِذٍ إلَى مَتَاعِهِ إلَّا بِدَفْعِ مَا قَبَضَ فِيهِ مِنْ الثَّمَنِ، قَالُوا: وَسَوَاءٌ كَانَ الْمَضْغُوطُ فِي وَقْتِ بَيْعِهِ مَتَاعَهُ مُظَاهِرًا أَوْ مُغْرِبًا عَنْ أَعْيُنِ النَّاسِ أَوْ خَارِجًا مِنْ الْحَبْسِ بِغَيْرِ كَبْلٍ وَلَا حَدِيدٍ، فَوَقَفَ فِي السُّوقِ لِبَيْعِ مَتَاعِهِ وَمَعَهُ الْحَرَسُ، فَإِذَا أَمْسَى رَدُّوهُ إلَى الْحَبْسِ، أَوْ كَانَ قَدْ أَعْطَى حَمِيلًا بِضَمَانِ ذَلِكَ الْمَغْرَمِ حَتَّى يَتَنَفَّسَ فِيهِ وَيَجْمَعَهُ، أَوْ كَانَ هَارِبًا فَأَخَذَ مَتَاعَهُ فَأَمَرَ أَهْلَهُ بِبَيْعِهِ، كُلُّ ذَلِكَ عِنْدَنَا سَوَاءٌ، وَلَا يُلْتَفَتُ إلَى الْمُبْتَاعِ وَلَا إلَى جَهْلِهِ بِذَلِكَ، غَيْرَ أَنَّهُ إذَا عَلِمَ فَقَدْ شَارَكَ فِي إثْمِ ذَلِكَ، وَسَوَاءٌ كَانَ هَذَا الْمَظْلُومُ ذَا مَالٍ نَاضٍّ يُغْنِيه عَنْ بَيْعِ مَتَاعِهِ أَوْ رَقِيقِهِ فِي الْمَغْرَمِ، غَيْرَ أَنَّهُ يَظْهَرُ مَا يَمْلِكُ مَا حَمَلَ إلَّا بِبَيْعِ ذَلِكَ خَوْفًا أَنْ يَزْدَادَ عَلَيْهِ، أَوْ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ الْأَمْرُ فِيهِمَا وَاحِدٌ.
فرع:
وَفِي مَعِينِ الْحُكَّامِ: وَلَوْ أَمَرَهُ رَجُلٌ عَلَى قَبْضِ مَالَ، وَعَلَى دَفْعِهِ لَآخَرَ فَقَبَضَهُ فَهَلَكَ بِيَدِهِ قَبْلَ دَفْعِهِ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ.
تنبيه:
الْفَرْقُ بَيْنَ مُشْتَرٍ عَلِمَ بِالْإِكْرَاهِ وَبَيْنَ مَنْ لَمْ يَعْلَمْ بِهِ، أَنَّ مَنْ لَا يَعْلَمُ لَا يَضْمَنُ مَا لَا يُغَابُ عَلَيْهِ إذَا ادَّعَى تَلَفَهُ وَالْغَلَّةُ لَهُ، وَمَنْ عَلِمَ يَضْمَنُ ذَلِكَ كُلَّهُ وَيَسْتَوِيَانِ فِيمَا أَكَلَاهُ أَوْ لَبِسَاهُ.
مَسْأَلَةٌ:
وَلَوْ تَسَلَّفَ الْمَضْغُوطُ فِي فِكَاكِ الْمَضْغُوطِ نَفْسِهِ لَزِمَهُ مَا تَسَلَّفَ.
مَسْأَلَةٌ:
وَلَوْ هَرَبَ الْمَضْغُوطُ فَأَخَذَ الْحَمِيلَ بِمَا تَحَمَّلَ حَتَّى بَاعَ مَتَاعَهُ فَحُكْمُهُ فِي ذَلِكَ حُكْمُ الْمَضْغُوطِ لِأَنَّهُ مَظْلُومٌ مَأْخُوذٌ بِغَيْرِ حَقٍّ، وَلَا رُجُوعَ لِلْحَمِيلِ عَلَى الْمَضْغُوطِ مِنْ مَعِينِ الْحُكَّامِ.
مَسْأَلَةٌ:
وَأَمَّا مَا بَاعَتْهُ امْرَأَةُ الْمَضْغُوطِ أَوْ وَلَدُهُ أَوْ وَلَدَاهُ أَوْ قَرِيبُهُ مِنْ مَتَاعِ نَفْسِهِ فِي افْتِكَاكِ الْمَضْغُوطِ مِمَّا هُوَ فِيهِ مِنْ الْعَذَابِ فَبَيْعُهُ مَاضٍ لَا رُجُوعَ لَهُ فِيهِ لِأَنَّهُ لَوْ شَاءَ لَمْ يَفْعَلْ وَلَهُ أَجْرُ مَا احْتَسَبَ.
مَسْأَلَةٌ:
وَمَنْ أُكْرِهَ عَلَى هِبَةِ نِصْفِ دَارٍ أَوْ عَبْدٍ فَوَهَبَ جَمِيعَ ذَلِكَ أَوْ عَلَى أَنْ يَهَبَ أَلْفًا فَوَهَبَ أَلْفًا وَخَمْسَمِائَةٍ فَهُوَ كُلُّهُ بَاطِلٌ، وَكَذَلِكَ لَوْ أُكْرِهَ عَلَى أَنْ يَبِيعَ أَمَتَهُ مِنْ فُلَانٍ فَوَهَبَهَا لَهُ، أَوْ عَلَى أَنْ يُقِرَّ لَهُ بِأَلْفٍ فَوَهَبَ لَهُ أَلْفًا فَذَلِكَ كُلُّهُ بَاطِلٌ.
مَسْأَلَةٌ:
وَلَوْ أَنَّ هَذَا الْمَأْخُوذَ ظُلْمًا قِيلَ لَهُ: إنْ أَهَلَّ نَاحِيَتَك قَدْ جَلُّوا عَنْ جِبَايَتِهِمْ، وَمَا عَلَيْهِمْ مِنْ وَظَائِفِهِمْ أَوْ جِزْيَتِهِمْ إنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ، فَأَدِّ إلَيْنَا ذَلِكَ عَنْهُمْ، وَمَا أَشْبَهَ هَذَا مِنْ الظُّلْمِ؟ فَيَقُولُ: أَنَا أُؤَدِّي فَخَلِّ عَنِّي حَتَّى أَتَحَيَّلَ فِيهِ، فَيُخَلِّيه بِلَا حَمِيلٍ وَلَا كَفِيلٍ وَلَا حَرَسٍ، فَيُقِيمُ بِبَيْعِ رَقِيقِهِ وَمَتَاعِهِ فِي أَدَاءِ مَا جُعِلَ عَلَيْهِ وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَفِرَّ عَنْهُ، غَيْرَ أَنَّهُ يَتَوَقَّعُ فِي هُرُوبِهِ أَنْ يُخَالِفَهُ إلَى مَنْزِلِهِ بِالنَّسْفِ وَالِاجْتِيَاحِ وَالْمَعَرَّةِ فِي أَهْلِهِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ يَتَوَقَّعُ مَا قَدْ فُعِلَ بِغَيْرِهِ، فَإِنَّ هَذَا بِمَنْزِلَةِ الْمُوَكَّلِ بِهِ الْمَحْبُوسِ، لِأَنَّهُ غَيْرُ آمِنٍ مَعَرَّتَهُ فَهُوَ كَأَسِيرِهِ، وَسَوَاءٌ أَمَرَهُ بِبَيْعِ مَتَاعِهِ أَوْ أَمَرَ بِذَلِكَ غَيْرَهُ مِنْ أَعْوَانِهِ.
مَسْأَلَةٌ:
وَأَمَّا مَا أَعْتَقَهُ الْمُبْتَاعُ مِنْ رَقِيقِ الْمَضْغُوطِ أَوْ دَبَّرَهُ أَوْ كَاتَبَهُ ثُمَّ أَنْصَفَ اللَّهُ تَعَالَى الْمَضْغُوطَ مِنْ حَقِّهِ كَانَ أَوْلَى بِرَقِيقِهِ، وَيَبْطُلُ مَا أَحْدَثَ الْمُبْتَاعُ فِيهِمْ، كَانَ الْمُبْتَاعُ عَالِمًا بِحَالِهِ أَوْ جَاهِلًا.
مَسْأَلَةٌ:
وَإِذَا سَخَطَ الْأَمِيرُ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ فَأَصَابَ مِنْهُمْ رِجَالًا بِالْقَتْلِ وَنَفَى سَائِرَهُمْ عَنْ دُورِهِمْ وَقُرَاهُمْ، وَشَرَّدَهُمْ إلَى قَاضِي بَلَدِهِمْ فَلَبِثُوا عَلَى هَذَا الْبَلَاءِ، ثُمًّ إنَّ الْأَمِيرَ آمَنَ مِنْهُمْ مَنْ أَرَادَ شِرَاءَ قَرْيَتِهِ مِنْهُ أَوْ دَارِهِ، فَيَدْخُلُ الْبَلَدَ آمِنًا حَتَّى يَشْتَرِيَ مِنْهُ دَارِهِ وَيَنْقُدَهُ ثَمَنَهُ، ثُمًّ يَأْمُرُ بِالْخُرُوجِ إلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ مِنْ التَّشْرِيدِ، وَمِنْهُمْ مَنْ تَرَكَ وَأَذِنَ لَهُمْ فِي السُّكْنَى فَلَا نَرَى بَيْعَهُمْ ذَلِكَ جَائِزًا عَلَيْهِمْ، وَنَرَاهُمْ أَحَقَّ بِمَا بَاعُوا مِثْلَ غَاصِبِ الْمَنْزِلِ مِنْ الرَّجُلِ يَشْتَرِيه مِنْهُ قَبْلَ أَنْ يَرُدَّهُ عَلَيْهِ وَيُمَلِّكَهُ إيَّاهُ، إلَّا أَنْ تَكُونَ رُدَّتْ عَلَيْهِمْ قَبْلَ الشِّرَاءِ مِنْهُمْ رَدَّا بَيِّنًا، وَأَمِنُوا مِنْ الظُّلْمِ إنْ شَاءُوا بَاعُوا وَإِنْ شَاءُوا أَمْسَكُوا وَيَسْكُنُونَهَا وَلَا يَنْفُونَ عَنْهَا، قَالَهُ مُطَرِّفٌ وَابْنُ الْمَاجِشُونِ وَابْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ وَأَصْبَغُ، قَالُوا: وَلَهُمْ أَنْ يُقَاصُّوا فِي الْأَثْمَانِ الَّتِي أَخَذُوهَا بِمَا أُخِذَ مِنْ غَلَّاتِهِمْ وَكِرَاءِ أَرْضِهِمْ وَدُورِهِمْ الَّتِي سُكِّنَتْ بِمَنْزِلَةِ الْغَصْبِ سَوَاءٌ.

.فَصْلٌ فِي بَيْعِ الظَّالِمِ مَالَ نَفْسِهِ عِنْدَ الْمُصَادَرَةِ:

قَالَ ابْنُ حَبِيبٍ: قَالَ لِي مُطَرِّفٌ وَابْنُ الْمَاجِشُونِ وَابْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ وَأَصْبَغُ: فِي الْعُمَّالِ يُوَلُّونَ بِطَلَبَةٍ مِنْهُمْ أَوْ كُرْهٍ فَيَأْخُذُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِغَيْرِ حَقٍّ، وَيَسِيرُونَ فِيهِ سِيرَةَ الظُّلْمِ ثُمَّ يُعْزَلُونَ عَلَى سَخْطَةٍ مِنْ الْوَالِي عَلَيْهِمْ، فَيُرْهِقُهُمْ وَيُعَذِّبُهُمْ فِي غُرْمٍ يُغَرَّمُهُمْ انْتِقَامًا لِلَّهِ تَعَالَى مِنْهُمْ، وَلِيَرُدَّهُ عَلَى أَهْلِ الَّذِينَ أُخِذَ مِنْهُمْ بِغَيْرِ حَقٍّ أَوْ يُغَرِّمُهُمْ لِنَفْسِهِ عَلَى غَيْرِ تَحَرِّي الْحَقِّ وَالْعَدْلِ، فَيَلْجَئُوا فِي ذَلِكَ إلَى بَيْعِ أَمْتِعَتِهِمْ وَرَقِيقِهِمْ، فَذَلِكَ مَاضٍ عَلَيْهِمْ سَائِغٌ لِمَنْ ابْتَاعَهُ بِمَنْزِلَةِ مَا بَاعَهُ الْمَضْغُوطُ فِي الْحَقِّ الَّذِي يَلْزَمُهُ، أَوْ الدَّيْنِ الَّذِي ثَبَتَ عَلَيْهِ، لِأَنَّ إغْرَامَهُمْ ذَلِكَ كَانَ مِنْ الْحَقِّ لِلْوَالِي الَّذِي وَلَّاهُمْ، وَأَنْ يَرُدَّ ذَلِكَ إلَى أَرْبَابِهِ، فَإِنْ احْتَبَسَ الْوَالِي ذَلِكَ لِنَفْسِهِ فَإِنَّمَا هُوَ ظَالِمٌ لِلرَّعِيَّةِ فِي ذَلِكَ.
وَلَيْسَ ذَلِكَ بِنَافِعٍ أُولَئِكَ الْعُمَّالِ الظَّلَمَةِ فِيمَا بَاعُوهُ ضَغْطَةً فِي مَغْرَمِهِمْ، وَلَا حُجَّةَ لَهُمْ فِي أَنْ يَقُولُوا إنَّمَا كُنَّا نَأْخُذُ ذَلِكَ لِمَنْ وَلَّانَا، وَيُقَادُ مِنْهُمْ لِكُلِّ مَنْ جَلَدُوا وَقَطَعُوا بِغَيْرِ حَقٍّ.
فرع:
وَكَذَلِكَ الْعَامِلُ الَّذِي يَتَقَبَّلُ الْكُورَةَ وَالْبَلْدَةَ بِشَيْءٍ مُعَيَّنٍ مَضْمُونٍ فِي مَالِهِ يُلْزِمَهُ نَفْسَهُ، فَإِنْ اسْتَوْفَاهَا مِنْ الْقَوْمِ الَّذِينَ يُتَقَبَّلُ عَمَلُهُمْ، فَلَهُ مَا زَادَ وَعَلَيْهِ مَا نَقَصَ، فَيَخْرُجُ فِي عَمَلِهِ عَلَى هَذَا فَيَأْخُذُ مَا شَاءَ مِنْ أَمْوَالِهِمْ، غَيْرَ أَنَّ ذَلِكَ بِأَسْبَابِ وَظَائِفَ وَعِلَلٍ وَأَشْيَاءَ قَدْ سَمَّوْهَا وَأُمُورٍ قَدْ جَرَوْا عَلَيْهَا، فَرُبَّمَا عَزْلَهُ الْوَالِي لِلْوَقْتِ الَّذِي يُقْبَلُ إلَيْهِ فَيَعْجَزُ عَنْ تِلْكَ الْقُبَالَةِ فَمَا بَاعَ فِي ذَلِكَ مِنْ مَتَاعِهِ طَوْعًا أَوْ كُرْهًا مُعَذَّبًا عَلَيْهِ أَوْ مُطْلَقًا فِيهِ فَهُوَ مَاضٍ غَيْرُ مَرْدُودٍ، وَهُوَ أَقْبَحُ وَبَيْعُهُ أَحْرَزُ مِنْ الَّذِي قَبْلَهُ.
وَكَذَلِكَ مُتَقَبِّلُ الْمَعَادِنِ بَعْدَ مُسَمَّاةٍ مِنْ الدَّنَانِيرِ إذَا أَخْرَجَهُمْ الَّذِي وَلَّاهُمْ ذَلِكَ فَعَجَزُوا عَنْهُ، حَتَّى عُذِّبُوا وَبِيعَ مَتَاعُهُمْ وَرَقِيقُهُمْ فَذَلِكَ مَاضٍ عَلَيْهِمْ.

.فَصْلٌ فِي الِاسْتِكْرَاهِ فِي الْأَيْمَانِ:

وَفِي مُخْتَصَرِ الْوَاضِحَةِ قَالَ ابْنُ حَبِيبٍ: قَالَ لِي مُطَرِّفٌ وَابْنُ الْمَاجِشُونِ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ نَافِعٍ وَإِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي أُوَيْسٍ: سَمِعْنَا مَالِكًا يَقُولُ وَجَمِيعُ أَصْحَابِهِ بِالْمَدِينَةِ: مَنْ أُكْرِهَ عَلَى يَمِينٍ أَنْ يَحْلِفَ بِهَا، وَهُدِّدَ بِضَرْبٍ أَوْ سِجْنٍ وَجَاءَ مِنْ ذَلِكَ وَعِيدٌ بَيِّنٌ تَقَعُ فِيهِ الْمَخَافَةُ أَوْ خَافَ ذَلِكَ، وَإِنْ لَمْ يُوقَفْ عَلَيْهِ فَلَا يَمِينَ عَلَيْهِ وَكَأَنَّهُ لَمْ يَحْلِفْ، وَقَالَهُ ابْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ وَأَصْبَغُ وَرَوَيَاهُ عَنْ ابْنِ وَهْبٍ وَابْنِ الْقَاسِمِ وَأَشْهَبَ قَالَ مُطَرِّفٌ: وَسَمِعْنَا مَالِكًا يَقُولُ: السِّجْنُ إكْرَاهٌ، وَالْقَيْدُ إكْرَاهٌ، وَالْوَعِيدُ الْمَخُوفُ إكْرَاهٌ بِمَنْزِلَةِ الضَّرْبِ وَالْوَهْنِ لَا يَجُوزُ عَلَى صَاحِبِهِ يَمِينٌ وَلَا بَيْعٌ، وَقَالَهُ أَصْحَابُ مَالِكٍ كُلُّهُمْ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ.
تنبيه:
قَالَ ابْنُ الْمَاجِشُونِ وَأَصْبَغُ: وَسَوَاءٌ حَلَفَ هَذَا الْمُكْرَهُ فِيمَا هُوَ لِلَّهِ تَعَالَى طَاعَةٌ أَوْ مَعْصِيَةٌ.
وَقَالَ مُطَرِّفٌ: إنَّمَا تَكُونُ الْيَمِينُ عَنْهُ سَاقِطَةً إذَا حَلَفَ فَمَا هُوَ لِلَّهِ مَعْصِيَةً، فَأَمَّا إنْ حَلَفَ فِيمَا هُوَ لِلَّهِ طَاعَةً، مِثْلُ أَنْ يَأْخُذَ الْوَالِي الرَّجُلَ شَارِبًا، فَيُحَلِّفُهُ بِالطَّلَاقِ مُطْلَقًا عَلَى أَنْ لَا يَشْرَبَ الْخَمْرَ وَلَا يَفْسُقَ وَأَنْ لَا يَغُشَّ فِي عَمَلِهِ أَوْ لَا يَتَلَقَّى الرُّكْبَانَ أَوْ الْوَلَدَ، يَحْلِفُ وَلَدُهُ مُكْرِهًا لَهُ عَلَى الْيَمِينِ فِي أَشْبَاهِ هَذَا مِنْ تَأْدِيبِهِ إيَّاهُ، فَإِنِّي أَرَى الْيَمِينَ تَلْزَمُهُ.
وَإِنْ كَانَ قَدْ تَكَلَّفَ مِنْهَا الْمُحَلِّفُ مَا لَيْسَ عَلَيْهِ وَهُوَ مِنْهُ خَطَأٌ، قَالَ ابْنُ حَبِيبٍ: وَبِهَذَا أَقُولُ وَهُوَ اسْتِحْسَانٌ.
وَقَالَ ابْنُ الْمَاجِشُونِ وَأَصْبَغُ وَهُوَ الْقِيَاسُ.
وَفِي الْبَيَانِ وَسُئِلَ مَالِكٌ عَنْ الْمَجْلُودِ فِي الْخَمْرِ وَالْفِرْيَةِ، أَتَرَى أَنْ يُحَلَّفُوا؟ قَالَ: لَا، وَأَنَا أَكْرَهُهُ، قِيلَ لَهُ: رُبَّمَا كَانَ الرَّجُلُ الْمَاجِنُ الْخَبِيثُ يَرَى أَنْ يُكْسَرَ بِذَلِكَ وَيَنْزَجِرَ فَلَمْ يُرِدْ ذَلِكَ.
وَقَالَ: إنَّمَا هَذِهِ عُقُوبَاتٌ وَعَذَابٌ أَحْدَثَهَا الْحَجَّاجُ، وَمِثْلُهُ قِيلَ لَهُ: أَتَرَى أَنْ يُطَافَ بِهِمْ وَبِشُرَّابِ الْخَمْرِ؟ قَالَ إذَا كَانَ فَاسِقًا مُدْمِنًا، فَأَرَى أَنْ يُطَافَ بِهِمْ وَنُعْلِنُ أَمْرَهُمْ وَيُفْضَحُونَ.
مَسْأَلَةٌ:
وَسُئِلَ ابْنُ الْمَاجِشُونِ فِي السُّلْطَانِ يُحَلِّفُ أَصْحَابَ الطَّعَامِ أَنْ لَا يُجَهَّزُوا إلَّا إلَى الْمَدِينَةِ، فَيَحْلِفُونَ لَهُ خَوْفًا مِنْ عُقُوبَتِهِ، ثُمَّ وُجِدَ بَعْضُهُمْ قَدْ جَهَّزَ إلَى غَيْرِ الْمَدِينَةِ، أَوْ وَجَدَ رَجُلًا لَمْ يَكُنْ حَلَفَ مَعَهُ قَدْ جَهَّزَ إلَى غَيْرِ الْمَدِينَةِ، فَيَحْلِفُ لَهُ بِالطَّلَاقِ فَرْقًا مِنْ عُقُوبَتِهِ مَا جَهَّزَ إلَى غَيْرِ الْمَدِينَةِ شَيْئًا، فَقَالَ مَا يَنْبَغِي لَهُمْ أَنْ يَعْصُوا السُّلْطَانَ فِي صَلَاحِ الْعَامَّةِ فَإِذَا وَقَعَ مَا وَصَفْت لَك مِنْ الْمَعْصِيَةِ وَالْيَمِينِ عَلَيْهَا، قَبْلَ وُقُوعِهَا أَوْ بَعْدَ مَا وَقَعَتْ فَرْقًا مِنْ الْعُقُوبَةِ وَالْحَبْسِ، إنْ لَمْ يَحْلِفْ فَقَدْ دَخَلَ فِي الْإِكْرَاهِ الَّذِي يُسْقِطُ الْحِنْثَ، وَعَلَيْهِ الْمَأْثَمُ فِيمَا أَضَرَّ بِالْجَمَاعَةِ. قَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ حَبِيبٍ: وَذَلِكَ أَنَّ النَّهْيَ بِالتَّجْهِيزِ إلَى غَيْرِ الْمَدِينَةِ مُسْتَحْسَنٌ مِنْ الْعَقْلِ، وَلَيْسَ نَرَاهُ بِلَازِمٍ لِلسُّلْطَانِ أَنْ يُلْزِمَهُ النَّاسَ، وَلَا التَّجْهِيزَ إلَى غَيْرِهِ بِالْحُرُمِ عَلَيْهِ.
قَالَ: وَأَمَّا لَوْ كَانَ مِمَّا يَجِبُ النَّهْيُ عَنْهُ وَيَحْرُمُ فِعْلُهُ عَلَى مَنْ فَعَلَهُ أُلْزِمَتْ فِيهِ الْيَمِينُ، وَإِنْ أَخَافَهُمْ عَلَيْهَا إنْ لَمْ يَحْلِفُوا، بِذَلِكَ نَقُولُ فِي مِثْلِ ذَلِكَ وَقَالَهُ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ.
مَسْأَلَةٌ:
وَإِذَا كَانَ وَالِيًا يَجُورُ فِي الزَّكَاةِ وَيَأْخُذُ أَكْثَرَ مِمَّا فَرَضَهُ اللَّهُ تَعَالَى، أَوْ يَأْخُذُهَا فِي غَيْرِ أَوَانِهَا، أَوْ يَكُونُ قَدْ وَظَّفَ الصَّدَقَاتِ عَلَى أَهْلِ الْقُرَى فَهُوَ يَأْخُذُ عَلَى تِلْكَ الْوَظَائِفِ، فَيَدَّعِي الرَّجُلُ أَنَّهُ لَمْ يَزْرَعْ أَوْ أَنَّهُ لَيْسَتْ لَهُ مَاشِيَةٌ أَوْ بَعْضَ هَذِهِ الْأُمُورِ، فَيَقُولُ لَهُ: احْلِفْ عَلَى مَا تَدَّعِي، فَإِنْ كَانَ إنْ لَمْ يَحْلِفْ لَهُ أَمِنَ مِنْ أَنْ يُعَاقِبَهُ فِي نَفْسِهِ بِضَرْبٍ أَوْ سَجْنٍ أَوْ مَعَرَّةٍ تُصِيبُهُ مِنْهُ، فَحَلَفَ فَالْيَمِينُ تَلْزَمُهُ فِيمَا حَلَفَ بِهِ، يَحْنَثُ بِحِنْثِهَا أَوْ يَبَرُّ بِبِرِّهَا، وَلْيُصَدَّقْ وَلَا يَأْنَفُ كَاذِبًا، وَإِنْ كَانَ يَعْلَمُ أَنَّهُ إذَا صَدَقَ أَخَذَ مَالَهُ بِغَيْرِ حَقٍّ فَلَا يَقِي مَالَهُ بِيَمِينِهِ، وَإِنْ كَانَ إنْ لَمْ يَحْلِفْ عَاقَبَهُ فِي بَدَنِهِ إمَّا بِضَرْبٍ أَوْ سَجْنٍ أَوْ بَعْضِ الْمَعَرَّةِ، فَقَدْ دَخَلَ عَلَيْهِ الْإِكْرَاهُ الَّذِي لَا تَلْزَمُهُ فِيهِ الْيَمِينُ إنْ كَانَ كَاذِبًا، وَإِنْ كَانَ أَصْلُ مَا اُسْتُحْلِفَ عَلَيْهِ الْمَالُ أَنَّ ذَلِكَ يُفْضِي مِنْهُ إلَى بَدَنِهِ إذَا هُوَ لَمْ يَحْلِفْ، وَلَكِنْ لَا أُحِبُّ أَنْ يُعَجِّلَ بِالْيَمِينِ حَتَّى يَرَى مَوْضِعَ شِدَّةٍ، فَإِنَّهُ كُلَّمَا اشْتَدَّ عَلَيْهِ الْأَمْرُ اتَّسَعَتْ عَلَيْهِ الْيَمِينُ.
قَالُوا: وَإِنَّمَا يَجُوزُ لِلرَّجُلِ أَنْ يَدْرَأَ بِيَمِينِهِ عَنْ بَدَنِهِ لَا عَنْ مَالِهِ.
وَقَالَ ابْنُ الْمَاجِشُونِ لَا حِنْثَ عَلَيْهِ وَإِنْ دَرَأَ عَنْ مَالِهِ وَلَمْ يَخَفْ عَلَى نَفْسِهِ، قَالَ ابْنُ حَبِيبٍ: وَقَوْلُ مُطَرِّفٍ الَّذِي قَدَّمْنَاهُ أَحَبُّ إلَيَّ، وَقَدْ قَالَهُ ابْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ وَأَصْبَغُ وَأَخْبَرَانِيهِ عَنْ ابْنِ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ قَالَ ابْنُ حَبِيبٍ إلَّا مَا كَانَ مِنْ الْمَالِ قَادِحًا كَثِيرًا، مِثْلَ سُلْطَانٍ يَجْتَاحُ الرَّجُلَ أَوْ الْقَوْمَ يَعْرِضُونَ لِمَالِ الرَّجُلِ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ فَلَا تَلْزَمُ فِيهِ الْيَمِينُ أَيْضًا، وَكَذَلِكَ سَمِعْت أَصْبَغَ أَيْضًا.
مَسْأَلَةٌ:
قَالَ فَضْلٌ: وَجَدْت لِابْنِ مُزَيْنٍ فِي أَحَدِ كُتُبِهِ الْخَمْسَةِ، قَالَ يَحْيَى: سَمِعْت أَبَا زَيْدٍ قَاضِيَ الْمَدِينَةِ يَسْأَلُ عَنْ الرَّجُلِ يَخَافُ مِنْ اللُّصُوصِ فَيُغَيِّبُ مَالُهُ فَيَأْخُذُونَهُ، فَيَقُولُونَ لَهُ غَيَّبْتَ عَنَّا مَالَك، فَيَقُولُ: مَا غَيَّبْت شَيْئًا، فَيَقُولُونَ: فَاحْلِفْ لَنَا، فَيَحْلِفُ لَهُمْ بِالطَّلَاقِ أَنَّهُ لَمْ يُغَيِّبْ عَنْهُمْ شَيْئًا، وَهُوَ إنْ لَمْ يَحْلِفْ عَذَّبُوهُ، وَإِنْ أَطْلَعَهُمْ عَلَى مَالِهِ أَخَذُوهُ، فَقَالَ هَذَا مُكْرَهٌ لَا حِنْثَ عَلَيْهِ، قَالَ: قُلْت لَهُ أَوَ يَكُونُ الْإِكْرَاهُ فِي الْأَمْوَالِ؟ قَالَ: نَعَمْ، قُلْت: أَتَحْفَظُ هَذَا؟ قَالَ: نَعَمْ هُوَ الَّذِي عَرَفْنَا.
قَالَ يَحْيَى: وَسَأَلَتْ عَنْهُ أَصْبَغَ فَقَالَ: إنْ كَانَ الْمَالُ كَثِيرًا لَهُ بَالٌ فَيَحْلِفُ وَلَا حِنْثَ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ يَسِيرًا فَلَا أُحِبُّ لَهُ أَنْ يَحْلِفَ، هَذَا الَّذِي رَأَيْت مِنْهُ اسْتِحْسَانًا وَرَأَيْت مَذْهَبَهُ عَلَى أَنَّهُ لَوْ حَلَفَ لَمْ يَرَهُ حَانِثًا.
مَسْأَلَةٌ:
قَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ قَالَ لِي مُطَرِّفٌ وَابْنُ الْمَاجِشُونِ وَابْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ وَأَصْبَغُ: وَلَوْ بَدَرَ الْحَالِفُ لِلْوَالِي الظَّالِمِ فَحَلَفَ لَهُ مُسَلِّمًا بِهَا مِنْ غَيْرِ أَنْ يَسْتَحْلِفَهُ يُرِيدُ أَنْ يُذْهِبَ عَمَّنْ خَافَ عَلَيْهِ فِي بَدَنِهِ أَوْ مَالِهِ فَهِيَ تَلْزَمُهُ.
مَسْأَلَةٌ:
قَالَ: وَسَأَلْت ابْنَ الْمَاجِشُونِ عَنْ رَجُلٍ أَخَذَهُ ظَالِمٌ فَحَلَفَ لَهُ بِطَلَاقِ امْرَأَتِهِ أَلْبَتَّةَ، خَوْفًا مِنْ قَتْلِهِ أَوْ ضَرْبِهِ أَوْ أَخْذِ مَالَهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَسْتَحْلِفَهُ الظَّالِمُ فَصَدَّقَهُ وَتَرَكَهُ وَهُوَ كَاذِبٌ فِي يَمِينِهِ، فَقَالَ إنْ كَانَ تَبَرَّعَ بِيَمِينِهِ رَجَاءَ أَنْ يُنَجِّيَهُ مِنْ ظُلْمِهِ فَقَدْ دَخَلَ فِي الْإِكْرَاهِ. وَلَا أَرَى عَلَيْهِ شَيْئًا، وَإِنْ كَانَ لَمْ يَحْلِفْ عَلَى رَجَاءِ النَّجَاةِ بِيَمِينِهِ فَأَرَاهُ حَانِثًا.
فرع:
قَالَ مُطَرِّفٌ وَابْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ وَأَصْبَغُ: وَلَوْ حَلَفَ النَّاسُ عِنْدَ خُرُوجِهِمْ عَلَى مَا مَعَهُمْ مِنْ نَاضِّهِمْ لِيَأْخُذُوا مِنْهُ الزَّكَاةَ فِيمَا يَزْعُمُونَ، وَذَلِكَ فِي غَيْرِ إبَّانٍ وَلَا أَوَانٍ، وَلَعَلَّ الرَّجُلَ قَدْ أَدَّاهَا قَبْلَ ذَلِكَ بِيَسِيرٍ فِي وَقْتِهَا، فَيُسْتَحْلَفُ الرَّجُلُ أَدَّى مَا مَعَهُ، أَوْ يَكُونُ قَدْ دَسَّ مَالَهُ مَعَ غَيْرِهِ فَيَحْلِفُ أَنَّهُ لَمْ يُغَيِّبْ عَنْهُ مِنْ مَالِهِ شَيْئًا، فَإِنْ كَانَ إنْ لَمْ يَحْلِفْ رَدَّهُ وَلَمْ يُجْزِهِ فَقَطْ فَالْيَمِينُ تَلْزَمُهُ، وَإِنْ كَانَ ضَرُورَةً يُرِيدُ الْحَجَّ، فَإِنْ شَاءَ فَلْيَحْلِفْ عَلَى الصِّدْقِ وَإِنْ شَاءَ فَلِيَرْجِعْ، إلَّا أَنْ يَخْشَى إنْ لَمْ يَحْلِفْ الْعُقُوبَةَ مِنْهُمْ فَذَلِكَ يَدْرَأُ عَنْهُمْ حِنْثَ الْيَمِينِ، قَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ وَبِهِ أَقُولُ.
مَسْأَلَةٌ:
وَإِذَا اسْتَخْفَى الرَّجُلُ عِنْدَ الرَّجُلِ مِنْ السُّلْطَانِ الْجَائِرِ الَّذِي يُرِيدُ دَمَهُ أَوْ مَالَهُ أَوْ عُقُوبَتَهُ فِي بَدَنِهِ، فَسَأَلَهُ السُّلْطَانُ عَنْهُ فَسَتَرَ عَلَيْهِ وَجَحَدَ أَنْ يَكُونَ عِنْدَهُ، فَقَالَ لَهُ: احْلِفْ أَنَّهُ لَيْسَ عِنْدَك، فَيَحْلِفُ لَهُ أَنَّهُ لَيْسَ عِنْدِي، لِيَدْفَعَ عَنْ نَفْسِهِ وَدَمِهِ أَوْ مَا دُونَ ذَلِكَ مِنْ مَالِهِ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ إنْ كَانَ خَائِفًا عَلَى نَفْسِهِ إنْ لَمْ يَحْلِفْ وَإِنْ كَانَ آمِنًا عَلَى نَفْسِهِ وَإِنَّمَا أَرَادَ أَنْ يَقِيَهُ بِيَمِينِهِ، فَقَدْ أُجِرَ فِيمَا فَعَلَ وَلَزِمَهُ الْحِنْثُ فِيمَا حَلَفَ بِهِ، وَكَذَلِكَ فَعَلَ مَالِكٌ فِي هَذَا بِعَيْنِهِ.

.الْفَصْلُ السَّادِسُ فِي أَدَبِ مَنْ وَجَدَ مَعَ امْرَأَةٍ أَوْ صَبِيٍّ أَوْ وَجَدَ مَعَهُ رَائِحَةَ نَبِيذٍ:

مَسْأَلَةٌ:
وَفِي الْبَيَانِ، وَإِذَا شَهِدَ رَجُلَانِ أَنَّهُمَا رَأَيَا رَجُلًا وَامْرَأَةً تَحْتَ لِحَافٍ، أَوْ شَهِدَا أَنَّهُمَا رَأَيَا رِجْلَيْهَا عَلَى عُنُقِهِ أَوْ شَيْئًا هُوَ أَدْنَى مِنْ رُؤْيَةِ الْمِرْوَدِ فِي الْمُكْحُلَةِ، عُوقِبَ الرَّجُلُ وَالْمَرْأَةُ وَلَمْ يَكُنْ عَلَى الشَّهِيدَيْنِ شَيْءٌ لِأَنَّهُمَا لَمْ يَقْذِفَا.
مَسْأَلَةٌ:
وَسُئِلَ عَنْ الرَّجُلِ يُوجَدُ مَعَ الْمَرْأَةِ فِي بَيْتٍ وَاحِدٍ وَهُمَا مُتَّهَمَانِ، قَالَ يُضْرَبَانِ ضَرْبًا جَيِّدًا وَجِيعًا، قِيلَ: بِثِيَابِهِمَا قَالَ: لَا بَلْ عَلَى مَا يُضْرَبُ الْمَحْدُودُ.
مَسْأَلَةٌ:
قَالَ مَالِكٌ: كَانَتْ لَنَا امْرَأَةٌ بِالْمَدِينَةِ لَهَا زَوْجٌ، فَكَانَ يَدْخُلُ عَلَيْهَا فِي كُلِّ يَوْمٍ وَمَعَهُ صَبِيٌّ فَيَرْقَى بِهِ إلَى السَّطْحِ، فَقَالَتْ لَهُ: امْرَأَتُهُ مَا شَأْنُ هَذَا الصَّبِيِّ؟ فَقَالَ: إنَّهُ ابْنُ صِدِّيقٍ لِي أَتَحَدَّثُ مَعَهُ، ثُمًّ إنَّهُ جَاءَ بِهِ فَذَهَبَتْ لِتَنْظُرَ مَا يَصْنَعُ فَوَجَدَتْهُ عَلَى الصَّبِيِّ، فَذَهَبَتْ بِهِ إلَى الْأَمِيرِ وَأَعْلَمَتْهُ، فَاسْتَشَارَ فُقَهَاءَ الْمَدِينَةِ فَكُلُّهُمْ قَالَ: نَرَى عَلَيْهَا الْحَدَّ بِمَا رَمَتْهُ بِهِ، وَلَا نَرَى عَلَيْهِ شَيْئًا، وَاسْتَشَارَ مَالِكًا وَبَعَثَ إلَيْهِ بِالْمَرْأَةِ فَأَخْبَرَتْهُ بِالْخَبَرِ، فَأَشَارَ عَلَيْهِ مَالِكٌ أَنْ يُخَلِّيَ سَبِيلَهَا، وَأَنْ يَضْرِبَ زَوْجَهَا خَمْسَةً وَسَبْعِينَ سَوْطًا فَفَعَلَ بِهِ ذَلِكَ قَالَ أَصْبَغُ: هُوَ الْحَقُّ وَالصَّوَابُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى قَالَ أَصْبَغُ وَلَا أَظُنُّ ضَرَبَهُ مَالِكٌ إلَّا لِأَمْرٍ أَقَرَّ بِهِ عَلَى نَفْسِهِ، وَإِنَّمَا سَقَطَ عَنْهَا الْحَدُّ لِلْغَيْرَةِ وَهِيَ شَبَهُ الْجُنُونِ، وَلَوْ كَانَ غَيْرَ زَوْجَتِهِ كَانَ عَلَيْهَا الْحَدُّ.
وَفِي مُخْتَصَرِ الْوَاضِحَةِ قَالَ ابْنُ حَبِيبٍ: وَحَدَّثَنِي صَعْصَعَةُ عَنْ الْأَوْزَاعِيِّ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ: أَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ضَرَبَ رَجُلًا دُونَ الْمِائَةَ وُجِدَ مَعَ امْرَأَةٍ بَعْدَ الْعَتَمَةِ، فَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ وَقَالَ مَكْحُولٌ ضَرَبَهُ مِائَةً.
مَسْأَلَةٌ:
قَالَ ابْنُ حَبِيبٍ: وَأَخْبَرَنِي مُطَرِّفٌ أَنَّهُ سَمِعَ مَالِكًا يَقُولُ: مَنْ وُجِدَ بِهِ رَائِحَةُ نَبِيذٍ لَا يَدْرِي أَمُسْكِرٌ أَوْ غَيْرُهُ، أَوْ وُجِدَ عَلَى مُشْتَرِيه وَلَمْ يُسْكِرْ وَلَمْ يَدْرِ مَا كَانَ نَبِيذُهُمْ وَمَا أَشْبَهَ هَذَا مِنْ اللَّطْخِ الْبَيِّنِ، فَإِنَّهُ إنْ كَانَ مُعْتَادًا لِذَلِكَ ضُرِبَ سَبْعِينَ أَوْ خَمْسًا وَسَبْعِينَ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُعْتَادًا فَخَمْسِينَ سَوَاءٌ كَانَ عَبْدًا أَوْ حُرًّا، إلَّا أَنَّ الْحُدُودَ إذَا وَقَعَتْ اُنْتُهِيَ فِيهَا إلَى مَا أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ، وَإِذَا لَمْ تَقَعْ الْحُدُودُ بِأَعْيَانِهَا وَجَاءَتْ التُّهَمُ لَزِمَ الْإِمَامَ أَنْ يُبَالِغَ فِي الْعُقُوبَةِ، وَلَوْ كَانَ الْأَدَبُ فِي مِثْلِ هَذَا إنَّمَا يُؤْخَذُ عَلَى قَدْرِ الْحُدُودِ، وَلَعَلَّ ذَلِكَ ظَهَرَ حَتَّى يَسْتَخِفَّ بِهِ أَهْلُ الْفِسْقِ، قَالَ مَالِكٌ وَهُوَ الَّذِي رَأَيْت النَّاسَ يَعْمَلُونَ بِهِ.
فرع:
قَالَ مُطَرِّفٌ: وَمِنْ ذَلِكَ النَّصْرَانِيُّ يُوجَدُ يَزْنِي بِالْمُسْلِمَةِ فَلَا يُقْتَصَرُ بِهِ عَلَى ضَرْبِ مِائَةٍ، قَالَ بَلْ يُضَاعَفُ لَهُ الْعَذَابُ.
فرع:
وَمِنْ ذَلِكَ أَنْ يُوجَدَ الرَّجُلُ سَكْرَانًا فِي شَهْرِ رَمَضَانَ نَهَارًا، يُضْرَبُ الْحَدَّ ثُمَّ يُضْرَبُ عُقُوبَةَ الْخَمْسِينَ وَنَحْوِهَا، وَقَدْ أُتِيَ عَلِيٌّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِالنَّجَاشِيِّ الشَّاعِرِ وَقَدْ شَرِبَ فِي رَمَضَانَ، فَضَرَبَهُ الْحَدَّ ثُمَّ ضَرَبَهُ عِشْرِينَ أَوْ بِضْعَ عَشْرَةَ.
وَقَالَ: هَذَا لِاجْتِرَائِك عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ، وَقَدْ جَاءَ أَنَّهُ ضَرَبَهُ الْحَدَّ ثُمَّ سَجَنَهُ ثُمَّ أَخْرَجَهُ مِنْ الْغَدِ فَضَرَبَهُ عِشْرِينَ، وَقَالَ هَذِهِ الْعِشْرُونَ لِجَرَاءَتِك عَلَى اللَّهِ تَعَالَى وَفِطْرِك فِي رَمَضَانَ.
مَسْأَلَةٌ:
قَالَ ابْنُ حَبِيبٍ قَالَ مُطَرِّفٌ: وَلَقَدْ أُتِيَ هِشَامُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ وَهُوَ قَاضِي الْمَدِينَةِ بِرَجُلٍ خَبِيثٍ مَعْرُوفٍ بِاتِّبَاعِ الصِّبْيَانِ، قَدْ لَصَقَ بِغُلَامٍ فِي ازْدِحَامِ النَّاسِ حَتَّى أَفْضَى، فَبَعَثَ بِهِ هِشَامٌ إلَى مَالِكٍ وَقَالَ: أَتَرَى أَنْ أَقْتُلَهُ؟ فَقَالَ مَالِكٌ: أَمَّا الْقَتْلُ فَلَا، وَلَكِنَّنِي أَرَى أَنْ تُعَاقِبَهُ عُقُوبَةً مُوجِعَةً، فَأَمَرَ بِهِ هِشَامٌ فَجُلِدَ أَرْبَعَمِائَةِ سَوْطٍ وَأَلْقَاهُ فِي السِّجْنِ، فَمَا لَبِثَ أَنْ مَاتَ فَذَكَرَ ذَلِكَ لَمَالِكٍ فَمَا اسْتَنْكَرَهُ.
مَسْأَلَةٌ:
قَالَ مُطَرِّفٌ: وَكَانَ مَالِكٌ يَرَى إذَا أَخَذَ السَّكْرَانُ فِي الْأَسْوَاقِ وَالْجَمَاعَاتِ، قَدْ سَكِرَ وَتَسَلَّطَ بِسُكْرِهِ وَآذَى النَّاسَ أَوْ رَوَّعَهُمْ بِسَيْفٍ شَهَرَهُ أَوْ حِجَارَةٍ رَمَاهَا وَإِنْ لَمْ يَضْرِبْ أَحَدًا، أَنْ تُعَظَّمَ عُقُوبَتُهُ يُضْرَبُ حَدَّ السُّكْرِ ثُمَّ يُضْرَبُ الْخَمْسِينَ وَأَكْثَرَ مِنْهَا عَلَى قَدْرِ جُرْمِهِ، قَالَ فَضْلُ بْنُ سَلَمَةَ: وَقَدْ حَكَى عَنْ مُطَرِّفٍ عَنْ مَالِكٍ فِي وَاضِحَتِهِ أَنَّهُ يُضْرَبُ الْخَمْسِينَ وَالْمِائَةَ وَالْمِائَتَيْنِ وَنَحْوَ ذَلِكَ، وَيَكُونُ الْحَدُّ مِنْهُمَا وَفِيهِمَا، قَالَ فَضْلٌ: وَحَكَى أَبُو زَيْدِ بْنُ إبْرَاهِيمَ عَنْ أَصْبَغَ مِثْلَهُ، إذَا كَانَ مِثْلُهُ يَحْمِلُ ذَلِكَ فِي فَوْرِهِ، وَزَادَ عَنْ مُطَرِّفٍ أَنَّهُ إذَا فَعَلَهُ قَبْلَ ذَلِكَ فَأَدَبُهُ أَشَدُّ مِنْ الَّذِي لَمْ يَفْعَلْهُ إلَّا مَرَّةً.
فرع:
وَذُكِرَ عَنْ مُطَرِّفٍ أَنَّ مَالِكًا كَانَ يَقُولُ: فِي هَؤُلَاءِ الَّذِينَ عُرِفُوا بِالْفَسَادِ وَالْجَرَائِمِ أَنَّ الضَّرْبَ عَلَى مَا يُنَكِّلُهُمْ، وَلَكِنْ أَرَى أَنْ يَحْبِسَهُمْ السُّلْطَانُ فِي السُّجُونِ وَيُثْقِلَهُمْ بِالْحَدِيدِ وَلَا يَخْرُجُهُمْ مِنْهُ أَبَدًا، فَذَلِكَ خَيْرٌ لَهُمْ وَلِأَهْلِيهِمْ وَلِلْمُسْلِمِينَ حَتَّى تَظْهَرَ تَوْبَةُ أَحَدِهِمْ وَتَثْبُتُ عِنْدَ السُّلْطَانِ فَيُطْلِقَهُ.
فرع:
قَالَ مُطَرِّفٌ عَنْ أَصْبَغَ: أَرَى أَنَّ أَقْصَى الْأَدَبِ الْمِائَتَانِ فِي الْفَسَادِ الْبَيِّنِ الْمَارِقِ الْمَعْلُومِ.
مَسْأَلَةٌ:
قَالَ مُطَرِّفٌ: وَكَانَ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَرَى فِيمَنْ أَسَرَ الْجَارِيَةَ أَوْ الْغُلَامَ مِنْ الدَّارِ وَالنَّاسُ يَنْظُرُونَ حَتَّى يَغِيبَ عَلَيْهَا أَوْ عَلَيْهِ، فَلَا يُدْرَى مَا فَعَلَ أَنْ يُضْرَبَ الثَّلَاثَمِائَةِ وَالْأَرْبَعمِائَةِ بِكْرًا كَانَتْ أَوْ ثَيِّبًا، وَكَانَ الْحُكَّامُ يَحْكُمُونَ بِذَلِكَ عِنْدَنَا بِمَشُورَةِ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى.
مَسْأَلَةٌ:
قَالَ مُطَرِّفٌ: وَمِنْ أَمْرِ النَّاسِ عِنْدَنَا الشُّهْرَةُ لِأَهْلِ الْفِسْقِ رِجَالًا كَانُوا أَوْ نِسَاءً، وَالْإِعْلَانُ بِجَلْدِهِمْ فِي الْحُدُودِ، وَمَا يَلْزَمُهُمْ مِنْ الْعُقُوبَةِ وَكَشْفِ وَجْهِ الْمَرْأَةِ عِنْدَ ذَلِكَ وَنَزْعِ مَا كَانَ عَلَيْهَا مِنْ الثِّيَابِ الَّتِي تَلْبَسُهَا لِتَتَّقِيَ الضَّرْبَ، إلَّا أَنَّهُ يُتْرَكُ عَلَيْهَا مَا يُوَارِيهَا وَلَا يَصِفُهَا وَلَا يَحْجُبُهَا مِنْ الضَّرْبِ، وَتُشَدُّ فِي مِكْتَلٍ إذَا ضُرِبَتْ لِئَلَّا تَبْدُوَ عَوْرَتُهَا، وَكَذَلِكَ يُشَهَّرُ الرَّجُلُ بِلَا مُثْلَةٍ وَلَا حَدَثٍ مَشْهُورٍ.
مَسْأَلَةٌ:
وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ الْبُحْتُرِيُّ وَهُوَ أَمِيرُ الْمَدِينَةِ إذَا أُتِيَ بِرَجُلٍ قَدْ أَخَذَ مَعَهُ الْجَرَّةَ مِنْ الْمُسْكِرِ، أَمَرَ بِهِ فَصُبَّ عَلَى رَأْسِهِ عِنْدَ بَابِهِ كَيْمَا يُعْرَفَ بِذَلِكَ وَيُشْهَرَ بِهِ.
مَسْأَلَةٌ:
وَإِذَا وُجِدَ مِنْ رَجُلٍ رَائِحَةٌ وَأَشْكَلَ أَنْ تَكُونَ رَائِحَةَ مُسْكِرٍ أَوْ غَيْرَ مُسْكِرٍ، نَظَرَ الْإِمَامُ فِي حَالِ الرَّجُلِ، فَإِنْ كَانَ لَا بَأْسَ بِحَالِهِ خَلَّى عَنْهُ، فَقَدْ يَجُوزُ لِلصَّالِحِ شُرْبُ حُلْوِ النَّبِيذِ الَّذِي لَا يُسْكِرُ وَرُبَّمَا وُجِدَتْ لَهُ رَائِحَةٌ، وَإِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْأَسْفَاهِ وَالظُّنُونِ فَلْيَطْلُبْ اخْتِبَارَ صِحَّتِهِ، بِأَنْ يَسْتَقْرِئَهُ مَا لَا يُخْطِئُ مِثْلُهُ أَنْ يَكُونَ قَارِئًا مِمَّا يُصَلَّى بِهِ مِنْ قِصَارِ الْمُفَصَّلِ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ، فَإِذَا اعْتَدَلَتْ قِرَاءَتُهُ خَلَّى عَنْهُ، وَإِنْ لَمْ يَقْرَأْ مَا يُعْلَمُ أَنَّهُ يَقْرَؤُهُ وَالْتَأَتَ فِي قِرَاءَتِهِ تَبَيَّنَ أَنَّهُ شَرِبَ مُسْكِرًا وَصَارَتْ حَالُهُ فِي ذَلِكَ شَاهِدَةً عَلَيْهِ، فَعَلَيْهِ الْحَدُّ وَإِنْ لَمْ يَتَحَقَّقْ ذَلِكَ مِنْ أَمْرِهِ، إلَّا أَنَّ التُّهْمَةَ قَائِمَةٌ عَلَيْهِ، ضَرَبَهُ ضَرْبًا دُونَ الْحَدِّ عُقُوبَةً لَهُ بِالتُّهْمَةِ، فِي وُقُوعِ الظِّنَّةِ عَلَيْهِ إذَا كَانَ مِنْ أَهْلِهَا فِي حَالِهِ أَيْضًا.
وَهَكَذَا سَمِعْت ابْنَ الْمَاجِشُونِ وَغَيْرَهُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ يَسْتَحْسِنُونَ هَذَا عِنْدَ الْإِشْكَالِ مِنْ أَمْرِ الشَّارِبِ، وَأَمَّا إذَا خَفَتَ الشَّهَادَةَ عَلَيْهِ بِأَنَّهُ شَرِبَ مُسْكِرًا وَشَهِدَ عَلَى الرَّائِحَةِ أَنَّهَا رَائِحَةُ مُسْكِرٍ، فَإِنَّ الْحَدَّ يُقَامُ عَلَيْهِ بِذَلِكَ وَإِنْ لَمْ يَتَغَيَّرْ، وَلَمْ يَخْتَلِطْ عَقْلُهُ وَلَا يَسْتَقِرُّ أَوْ لَا يُسْتَبْرَأُ بِشَيْءٍ.
وَفِي الْبَيَانِ وَسَأَلْتُهُ عَنْ الِاسْتِنْكَاهِ الْعَمَلِ بِهِ هَلْ قَالَ: نَعَمْ؟ وَذَلِكَ رَأْسُ الْفِقْهِ، قَالَ أَصْبَغُ وَهُوَ رَأْيٌ فِيمَنْ اسْتَنْكَرَ سُكْرَهُ وَاسْتَنْكَرَ اخْتِلَاطَهُ، وَقَدْ حَضَرْت الْعُمَرِيَّ الْقَاضِيَ أَمَرَ بِالِاسْتِنْكَاهِ فِي مَجْلِسِهِ بِمَحْضَرِ جَمَاعَةٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ، فِيهِمْ ابْنُ وَهْبٍ فَخَتَلَهُ الْمُسْتَنْكِهُ بِالْكَلَامِ وَالسُّؤَالِ وَالْمُرَاجَعَةِ وَالْمُفَارَهَةِ، ثُمَّ أَدْخَلَ شِقَّ أَنْفِهِ فِي شَدْقِهِ وَشَمَّهُ ثُمَّ قَطَعَ عَلَيْهِ أَنَّهَا خَمْرٌ، قَالَ أَصْبَغُ: وَأَحَبُّ إلَيَّ أَنْ يَكُونَ اثْنَيْنِ كَالشَّهَادَةِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ إلَّا وَاحِدٌ أَمْضَى عَلَيْهِ الْحَدَّ، إذَا كَانَ الْإِمَامُ هُوَ الَّذِي أَمَرَهُ بِاسْتِنْكَاهِهِ حِينَ اسْتَرَابَهُ، وَوَكَّلَهُ بِهِ فَإِنْ كَانَ إنَّمَا هُوَ شَاهِدٌ يُؤَدِّي عِلْمُهُ بِالِاسْتِنْكَاهِ فلابد مِنْ اثْنَيْنِ.
مَسْأَلَةٌ:
قَالَ مُطَرِّفٌ: وَسَمِعْت مَالِكًا يَقُولُ: وَسُئِلَ عَنْ الرَّجُلِ يُوجَدُ مَعَ الْقَوْمِ عِنْدَ الشَّرَابِ وَلَمْ يَشْرَبْ، وَلَمْ يُوجَدْ مِنْهُ رَائِحَةٌ وَلَعَلَّهُ يَقُولُ: إنِّي صَائِمٌ، فَقَالَ مَالِكٌ: مَا لِلصَّائِمِ يَدْخُلُ فِي مِثْلِ هَذَا فَأَرَى أَنْ يُعَاقَبَ بِحَضْرَةِ ذَلِكَ.
مَسْأَلَةٌ:
قَالَ فَضْلُ بْنُ سَلَمَةَ: قَالَ أَبُو زَيْدٍ قَالَ مُطَرِّفٌ: كَانَ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَأْمُرُ السُّلْطَانُ إذَا أُتِيَ بِالرَّجُلِ وَبِهِ الرَّائِحَةُ مِنْ الشَّرَابِ، وَلَمْ يَثْبُتْ عَلَيْهِ أَنَّهُ سَكْرَانُ وَكَانَ قَدْ حُدَّ فِي ذَلِكَ، أَنْ يُضْرَبَ أَدَبًا خَمْسَةً وَسَبْعِينَ سَوْطًا.
وَقَالَ أَصْبَغُ لَا أَرَى بِهِ بَأْسًا إذَا كَانَ سَفِيهًا.
مَسْأَلَةٌ:
قَالَ مُطَرِّفٌ: وَكَانَ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى قَدْ حَدَّدَ فِيمَنْ لَمْ يُوجَدْ فِي شَرَابٍ قَطُّ إذَا وُجِدَتْ مِنْهُ رَائِحَةُ شَرَابٍ أَنْ يُضْرَبَ خَمْسِينَ جَلْدَةً أَدَبًا، كَانَ مِنْ الْأَحْرَارِ أَوْ مِنْ الْعَبِيدِ اجْتِهَادًا لِتَغْيِيرِ الْمُنْكَرِ.
وَقَالَ أَصْبَغُ: قَوْلُهُ هَذَا فِي الْحُرِّ خَمْسِينَ حَسَنٌ إذَا أَشْكَلَتْ الرَّائِحَةُ وَأَشْبَهَتْ الْخُمُورَ، وَأَمَّا الْعَبْدُ فَلَا أَرَى أَنْ يَبْلُغَ بِهِ هَذَا فِي الرَّائِحَةِ، لِأَنَّ حَدَّهُ فِي ثُبُوتِ الْخَمْرِ دُونَ ذَلِكَ إلَّا أَنْ يَكُونَ مُعْلِنًا بِذَلِكَ سِكِّيرًا مَعْرُوفًا.

.الْفَصْلُ السَّابِعُ فِي حُكْمِ الَّذِي يَجِدُ مَعَ امْرَأَتِهِ رَجُلًا أَوْ فِي بَيْتِهِ سَارِقًا فَيَقْتُلُهُمَا:

وَفِي مُخْتَصَرِ الْوَاضِحَةِ قَالَ ابْنُ حَبِيبٍ: وَسَمِعْت ابْنَ الْمَاجِشُونِ يَقُولُ: وَسُئِلَ عَنْ رَجُلٍ وَجَدَ رَجُلًا عِنْدَ زَوْجَتِهِ فَقَاتَلَهُ فَكَسَرَ رِجْلَهُ أَوْ جَرَحَهُ، هَلْ عَلَيْهِ قِصَاصٌ؟ فَقَالَ: لَا، وَهُوَ جُبَارٌ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ، فَإِنْ قَتَلَهُ كَانَ عَلَيْهِ الْقَوَدُ إلَّا أَنْ يَكُونَ مَعَهُ شُهُودٌ عَلَى دُخُولِ الْفَرْجِ فِي الْفَرْجِ فَلَا يَكُونُ عَلَيْهِ قَوَدٌ، وَإِنَّمَا عَلَيْهِ الْأَدَبُ مِنْ السُّلْطَانِ لِافْتِيَاتِهِ عَلَيْهِ بِتَعْجِيلِ قَتْلِهِ.
قَالَ الْبَاجِيُّ فِي الْمُنْتَقَى: وَعِنْدَ ابْنِ الْقَاسِمِ هَذَا جُبَارٌ فِي الثَّيِّبِ وَالْبِكْرِ إذَا جَاءَ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ بِأَنَّهُ وَطِئَهَا، فَإِنَّهُ لَا يُقْتَصُّ مِنْهُ وَلَا يُقْتَلُ بِقَتْلِ الثَّيِّبِ وَالْبِكْرِ مَعَ قِيَامِ الْبَيِّنَةِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ مَنْ حَلَّ بِهِ مِثْلُ هَذَا يَخْرُجُ مِنْ عَقْلِهِ وَلَا يَكَادُ يَمْلِكُ نَفْسَهُ وَالْحَائِرُ أَحَقُّ أَنْ يُحْمَلَ عَلَيْهِ.
وَإِذَا قُلْنَا: لَا يُقْتَلُ بِالْبِكْرِ فَقَدْ قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ فِي الْمُدَوَّنَةِ عَلَيْهِ الدِّيَةُ فِي الْبِكْرِ، وَقَالَهُ ابْنُ كِنَانَةَ وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ بِكْرًا إذَا كَانَ قَدْ أَكْثَرَ التَّشَكِّي مِنْهُ.
وَقَالَ عَنْ ابْنِ الْقَاسِمِ دِيَتُهُ هَدَرٌ فِي الثَّيِّبِ وَالْبِكْرِ، وَقَدْ أَهْدَرَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ غَيْرَ مَا دَمٍ فِي مِثْلِ هَذَا التَّعَدِّي، وَقِيلَ: يُؤَدَّبُ كَمَا يُؤَدَّبُ مَنْ قَتَلَ مَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ الْقَتْلُ دُونَ الْإِمَامِ فِي الثَّيِّبِ، وَيُقْتَلُ فِي الْبِكْرِ.
[مَسْأَلَةٌ السَّارِقِ يَدْخُلُ حَرِيمَ الرَّجُلِ فَيَسْرِقُ بَعْضَ مَتَاعِهِ فَيَشْعُرُ بِهِ]
مَسْأَلَةٌ:
قَالَ أَصْبَغُ: فِي السَّارِقِ يَدْخُلُ حَرِيمَ الرَّجُلِ فَيَسْرِقُ بَعْضَ مَتَاعِهِ فَيَشْعُرُ بِهِ، فَيَخْرُجُ فِي أَثَرِهِ حَتَّى إذَا أَرْهَقَهُ تَحَوَّلَ إلَيْهِ السَّارِقُ فَدَافَعَهُ عَنْ نَفْسِهِ، وَامْتَنَعَ مِنْهُ وَقَاتَلَهُ ابْتِغَاءَ النَّجَاةِ مِنْهُ بِسَيْفٍ أَوْ سِكِّينٍ أَوْ عَصًا أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ، فَيَقْتُلُهُ الرَّجُلُ فِي مَتَاعِهِ ذَلِكَ حِينَ لَمْ يَجِدْ إلَى أَخْذِهِ سَبِيلًا، فَإِنَّ دَمَهُ هَدَرٌ وَلَا شَيْءَ عَلَى قَاتِلِهِ مِنْ قَوَدٍ وَلَا دِيَةٍ وَذَلِكَ إنْ كَانَ مَعَهُ الْمَتَاعُ الَّذِي سَرَقَ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ مَتَاعٌ وَإِنَّمَا أَرَادَ النَّجَاةَ بِنَفْسِهِ فَعَلَيْهِ الدِّيَةُ، إذَا كَانَ قَتْلُهُ إيَّاهُ بِمَوْضِعِهِ الَّذِي فِيهِ سَرَقَ وَمَا أَشْبَهَهُ.
وَأَمَّا لَوْ كَانَ قَدْ تَبَاعَدَ مِنْهُ بِهَرَبِهِ وَلَحِقَ بِالصَّحْرَاءِ، وَلَا مَتَاعَ مَعَهُ فَاتَّبَعَهُ مَعَهُ حَتَّى أَدْرَكَهُ فَوَاقَعَهُ السَّارِقُ أَوْ لَمْ يُوَاقِعْهُ السَّارِقُ فَقَتَلَهُ، فَعَلَيْهِ الْقَوَدُ لِأَنَّهُ قَتَلَهُ عَلَى غَيْرِ مَتَاعٍ كَانَ لَهُ مَعَهُ، أَرَادَ اسْتِنْقَاذَهُ مِنْهُ وَلَا لِخَوْفٍ مِنْ عَدَائِهِ عَلَيْهِ وَلَوْ كَانَ مَعَهُ مَتَاعُهُ كَانَ دَمُهُ هَدَرًا.
قَالَ: وَلَوْ أَسَرَهُ وَظَفِرَ بِهِ ثُمَّ بَدَا لَهُ فَقَتَلَهُ فَعَلَيْهِ الْقَوَدُ كَانَ مَعَهُ مَتَاعٌ أَوْ لَمْ يَكُنْ، قَالَ: وَلَوْ كَانَ حِينَ وَلَّى السَّارِقُ هَارِبًا عَنْهُ رَمَاهُ لِيُوهِنَهُ بِرَمْيِهِ فَيُدْرِكَهُ فَأَصَابَتْ الرَّمْيَةُ نَفْسَهُ فَقَتَلَهُ فَدَمُهُ هَدَرٌ وَإِنْ لَمْ يُوَاقِعْهُ، سَوَاءٌ كَانَ الْمَتَاعُ مَعَهُ أَوْ لَمْ يَكُنْ، فَفِيهِ الدِّيَةُ إنْ كَانَ بِمَوْضِعِهِ أَوْ فِي الدَّرْبِ، وَإِنْ كَانَ قَدْ بَعُدَ وَلَحِقَ بِالصَّحْرَاءِ أَوْ مَا أَشْبَهَ ذَلِكَ فَفِيهِ الْقَوَدُ.

.الْفَصْلُ الثَّامِنُ فِي الْكَشْفِ عَنْ الْفَاسِقِ وَاللِّصِّ وَالْبَحْثِ عَنْهُ:

وَفِي مُفِيدِ الْحُكَّامِ قَالَ عِيسَى: فِي الْحَاكِمِ يُرْفَعُ إلَيْهِ بِأَنَّ فِي بَيْتِ فُلَانٍ خَمْرًا إنْ أَخْبَرَهُ بِذَلِكَ وَاحِدٌ أَوْ مَنْ لَا تَجُوزُ شَهَادَتُهُ، فَلْيَكُفَّ عَنْ ذَلِكَ وَلَا يَهْتِكَ بِهَذَا سِتْرَ مُسْلِمٍ، وَإِنْ شَهِدَ شُهُودٌ عَلَى الْبَتِّ كَشَفَ عَنْ ذَلِكَ فَأَرَاقَهَا وَضَرَبَهُ ضَرْبًا دُونَ الْحَدِّ، وَإِنْ قَالُوا لِلْحَاكِمِ بَلَغَنَا ذَلِكَ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَشْهُورًا بِالشَّرِّ وَلَهُ حُرْمَةٌ وَيُعْلِمُهُ بِمَا قِيلَ عَنْهُ وَيُحَذِّرُهُ أَنْ يَبْلُغَهُ عَنْهُ مِثْلُ ذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ مُتَّهَمًا كَشَفَ عَنْهُ، فَإِنْ وَجَدَ ذَلِكَ كَمَا قِيلَ أَدَّبَهُ، وَإِنْ لَمْ يُوجَدْ كَذَلِكَ زَجَرَهُ وَتَوَعَّدَهُ.
قَالَ ابْنُ حَبِيبٍ: وَسَمِعْت مُطَرِّفًا وَأَصْبَغَ يَقُولَانِ فِي السُّلْطَانِ يُرْفَعُ إلَيْهِ أَنَّ فِي بَيْتِ فُلَانٍ خَمْرًا، إنْ كَانَ مَأْثُورًا بِذَلِكَ أَوْ بَيْتًا مَشْهُورًا بِالْخَمْرِ وَالسَّفَهِ، فَيَرَى السُّلْطَانُ أَنْ يَتَعَاهَدَهُ وَيَتَعَاهَدَ الْكَشْفَ عَنْ بَيْتِهِ ذُكِرَ لَهُ عَنْهُ شَيْءٌ أَوْ لَمْ يُذْكَرْ، وَإِنْ رَأَى أَنْ يُنْقَلَ عَنْ مَكَانِهِ ذَلِكَ وَيُشَرَّدَ بِهِ فَعَلَ كَانَ ذَلِكَ الْمَنْزِلُ لَهُ أَوْ لَمْ يَكُنْ، فَإِنْ كَانَ لَهُ أَكْرَاهُ عَلَيْهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَخْرَجَهُ مِنْهُ، قَالَ: وَإِنْ كَانَ الْبَيْتُ غَيْرَ مَأْثُورٍ بِذَلِكَ وَلَا مُشَارٍ إلَيْهِ بِمِثْلِ هَذَا فَلَا أَرَى أَنْ يَكْشِفَهُ وَإِنْ شَهِدُوا عَلَى الْبَيْتِ.
مَسْأَلَةٌ:
وَعَنْ مَالِكٍ: فِي الشُّرْطِيِّ يَأْتِيه رَجُلٌ يَدْعُوهُ إلَى نَاسٍ فِي بَيْتٍ عَلَى شَرَابٍ، فَقَالَ: إنْ كَانَ بَيْتًا لَا يُعْلَمُ ذَلِكَ مِنْهُ فَلَا يَتْبَعُهُ، وَإِنْ كَانَ مَعْلُومًا بِذَلِكَ وَقَدْ تَقَدَّمَ فِيهِ فَلِيَتْبَعْهُ.
وَفِي مُخْتَصَرِ الْوَاضِحَةِ قَالَ ابْنُ حَبِيبٍ: وَحَدَّثَنِي الْخُزَامِيُّ وَالْمَدِينِيُّ عَنْ سُفْيَانَ عَنْ أَيُّوبَ السِّخْتِيَانِيِّ عَنْ عِكْرِمَةَ: أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ- رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا- أَخَذَ سَارِقًا فَأَرْسَلَهُ، وَقَالَ: أَسْتُرُهُ لَعَلَّ اللَّهَ يَسْتُرُ عَلِيَّ وَحَدَّثَانِي عَنْ سُفْيَانَ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ عِكْرِمَةَ أَنَّ عَمَّارَ بْنَ يَاسِرٍ فَعَلَ مِثْلَ ذَلِكَ، وَقِيلَ لِابْنِ مَسْعُودٍ هَلْ لَك فِي الْوَلِيدِ بْنِ عُتْبَةَ يَعْصِرُ بِجَنَّتِهِ خَمْرًا، فَقَالَ إنَّ اللَّهَ نَهَى أَنْ نَتَجَسَّسَ، وَلَكِنْ أَنْ يَظْهَرَ إلَيْنَا فَعَلَيْنَا أَنْ نَأْخُذَهُ.
فرع:
قَالَ ابْنُ وَهْبٍ عَنْ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ: فِي الْجَارِ يُظْهِرُ شُرْبَ الْخَمْرِ وَغَيْرَهُ أَنَّهُ يُنْهَى، فَإِنْ انْتَهَى وَإِلَّا رُفِعَ أَمْرُهُ إلَى الْإِمَامِ.
فرع:
قَالَ ابْنُ وَهْبٍ السِّتْرُ وَاجِبٌ إلَّا عَلَى الْإِمَامِ وَالْوَالِي وَأَحَدِ الشُّهُودِ الْأَرْبَعَةِ فِي الزِّنَا.
فرع:
قَالَ ابْنُ حَبِيبٍ وَسَمِعْت ابْنَ الْمَاجِشُونِ يَقُولُ فِي اللُّصُوصِ وَقُطَّاعِ الطَّرِيقِ: أَرَى أَنْ يُطْلَبُوا فِي مَظَانِّهِمْ وَيُعَانُ عَلَيْهِمْ حَتَّى يُقْتَلُوا أَوْ يُنْفَوْا مِنْ الْأَرْضِ بِالْهَرَبِ.
تنبيه:
وَهَلْ لِلْقَاضِي أَنْ يَتَعَاطَى هَذَا الْكَشْفَ فَظَاهِرُ كَلَامِهِمْ أَنَّ ذَلِكَ لِلْوَالِي وَالشُّرَطِيِّ دُونَ الْقَاضِي، وَذَكَر الْقَرَافِيُّ أَنَّ لِلْمُحْتَسِبِ أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ، لِأَنَّ قَاعِدَةَ وِلَايَتِهِ الْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنْ الْمُنْكَرِ.

.الْفَصْلُ التَّاسِعُ فِي الْمَسَائِلِ السِّيَاسِيَّةِ وَالزَّوَاجِرِ الشَّرْعِيَّةِ:

الْوَاقِعَةِ فِي أَبْوَابِ الْفِقْهِ فَمِنْ ذَلِكَ مَا وَقَعَ فِي بَابِ الطَّهَارَةِ.
مَسْأَلَةٌ:
قَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرِ بْنُ الْعَرَبِيِّ: تَارِكُ الطَّهَارَةِ يُقْتَلُ، لِأَنَّ الصَّلَاةَ لَا تَتِمُّ إلَّا بِهَا، قَالَ وَعِنْدِي أَنَّهُ يُوَضَّأُ مُكْرَهًا، فَقَدْ قِيلَ: إنَّ الْوُضُوءَ يَصِحُّ بِغَيْرِ نِيَّةٍ.
مَسْأَلَةٌ:
مَنْ نَكَّسَ وُضُوءَهُ عَامِدًا، فَفِي بُطْلَانِ وُضُوئِهِ قَوْلَانِ: وَرَاعَى فِي الْقَوْلِ بِالْبُطْلَانِ أَنَّ ذَلِكَ عُقُوبَةٌ لَهُ لِئَلَّا يَعُودَ، قَالَهُ ابْنُ رَاشِدٍ عَنْ بَعْضِهِمْ، قَالَ: وَفِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّ الْعُقُوبَةَ بِإِبْطَالِ الْأَعْمَالِ لَمْ تَرِدْ وَفِي النَّفْسِ مِنْهُ شَيْءٌ.
مَسْأَلَةٌ:
الْعَاصِي بِسَفَرِهِ كَقَاطِعِ الطَّرِيقِ وَالْآبِقِ وَالْعَاقِّ لِوَالِدَيْهِ بِالسَّفَرِ أَوْ الْمُخَالِفِ لِشَيْخِهِ الَّذِي فَوَّضَ إلَيْهِ أُمُورَهُ عَلَى مَا ذَكَرَهُ بَعْضُهُمْ لَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ مِنْهُمْ التَّيَمُّمُ عَلَى الْأَصَحِّ، لِأَنَّ مَا كَانَ مَعْصِيَةً لَا يُجْعَلُ سَبَبًا فِي الرُّخَصِ فَيَجِبُ عَلَيْهِ الرُّجُوعُ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ، فَإِذَا عَزَمَ عَلَى التَّوْبَةِ جَازَ لَهُ ذَلِكَ.
مَسْأَلَةٌ:
وَكَذَلِكَ لَا يَجُوزُ الْمَسْحُ عَلَى الْخُفَّيْنِ لِلْعَاصِي بِسَفَرِهِ وَمِمَّا وَقَعَ فِي بَابِ الصَّلَاةِ.
مَسْأَلَةٌ:
جَاحِدُ الصَّلَاةِ كَافِرٌ بِاتِّفَاقٍ، قَالَ فِي الْمَوَّازِيَّةِ: وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ: رُكُوعُهَا وَسُجُودُهَا سُنَّةٌ غَيْرُ وَاجِبٍ، وَهَلْ يُسْتَتَابُ ثَلَاثًا أَمْ لَا؟ رِوَايَتَانِ وَإِذَا لَمْ يَتُبْ بَعْدَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ قُتِلَ كُفْرًا، وَحُكْمُهُ حُكْمُ جَاحِدِهَا وَالْمُعْتَرِفُ بِوُجُوبِهَا الْمُمْتَنِعُ مِنْ فِعْلِهَا، أَمَّا أَنْ يَمْتَنِعَ قَوْلًا أَوْ فِعْلًا فَيَقُولُ: لَا أُصَلِّي، وَيُصَدِّقُ قَوْلُهُ فِعْلَهُ، وَأَمَّا أَنْ يَقُولَ: أَنَا أُصَلِّي وَلَكِنَّهُ يَكْذِبُ وَلَا يَفْعَلُ، فَالْأَوَّلُ يُقْتَلُ حَدًّا لَا كُفْرًا.
وَقَالَ ابْنُ حَبِيبٍ يَقْتُلُ عَلَى أَنَّهُ كَافِرٌ، وَإِذَا قُلْنَا: إنَّهُ يُقْتَلُ حَدًّا فَيُورَثُ وَيُدْفَنُ فِي مَقَابِرِ الْمُسْلِمِينَ، وَتَبْقَى زَوْجَتُهُ فِي حُكْمِ الْعِصْمَةِ، وَعَلَى قَوْلِ ابْنِ حَبِيبٍ لَا يُورَثُ وَلَا يُغَسَّلُ وَلَا يُصَلَّى عَلَيْهِ وَلَا يُدْفَنُ فِي مَقَابِرِ الْمُسْلِمِينَ، وَيَحْكُمُ بِفَسْخِ نِكَاحِهِ مِنْ زَوْجَتِهِ..

.فَصْلٌ فِي كَيْفِيَّةِ عُقُوبَةِ جَاحِدُ الصَّلَاةِ:

فَصْلٌ فِي كَيْفِيَّةِ عُقُوبَتِهِ:
قَالَ ابْنُ رَاشِدٍ: وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ يُقْتَلُ بِالسَّيْفِ لِأَنَّهُ الْمُتَعَارَفُ، وَقَالَ الزَّنَاتِيُّ مَنْ امْتَنَعَ مِنْ الصَّلَاةِ مَعَ إقْرَارِهِ بِهَا فَإِنَّهُ يُقْتَلُ، وَلَكِنْ لَا يُعَالِجُ بِضَرْبِ الرَّقَبَةِ فِي سَاعَةٍ وَاحِدَةٍ كَمَا يُفْعَلُ بِغَيْرِهِ مِمَّنْ اسْتَوْجَبَ الْقَتْلَ، بَلْ يُشَارُ عَلَيْهِ بِالسَّيْفِ وَيُنْخَسُ بِهِ وَيُدْمَى مَرَّةً لَعَلَّهُ يَرْتَدِعُ عِنْدَ مُعَايَنَةِ الْقَتْلِ وَأَسْبَابِهِ.
وَقَالَ غَيْرُهُ وَيُنْخَسُ بِالسَّيْفِ حَتَّى يُصَلِّيَ أَوْ يَمُوتَ.
وَفِي التَّفْرِيعِ لِابْنِ الْجَلَّابِ إنْ امْتَنَعَ هُدِّدَ وَضُرِبَ، فَإِنْ امْتَنَعَ قُتِلَ فَيُبْدَأُ بِالتَّهْدِيدِ لَعَلَّهُ يَرْجِعُ ثُمَّ بِالضَّرْبِ ثُمَّ بِالْقَتْلِ، وَالْوَقْتُ الَّذِي يُفْعَلُ بِهِ ذَلِكَ فِيهِ خِلَافٌ مَذْكُورٌ فِي مَحِلِّهِ، فِي مُخْتَصَرِ الْوَقَارِ أَنَّهُ يُضْرَبُ حَتَّى يَمُوتَ تَحْتَ السَّوْطِ لَعَلَّهُ إذَا أَوْجَعَتْهُ السِّيَاطُ يَتُوبُ وَهُوَ أَعْدَلُ مِنْ الْقَوْلِ بِضَرْبِ عُنُقِهِ، قَالَ وَهَذَا حُكْمُ تَارِكِ الْغُسْلِ مِنْ الْجَنَابَةِ.
وَأَمَّا الثَّانِي: وَهُوَ مَنْ يَقُولُ أَنَا أُصَلِّي وَلَمْ يَفْعَلْ فَفِي قَتْلِهِ قَوْلَانِ، وَمَنْ يَقُولُ بِعَدَمِ الْقَتْلِ قَالَ يُبَالَغُ فِي عُقُوبَتِهِ، وَنَقَلَهُ اللَّخْمِيُّ عَنْ ابْنِ حَبِيبٍ، وَهَذَا الْقَوْلُ لَا وَجْهَ لَهُ وَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَقُولَ أَنَا أُصَلِّي وَلَا يَفْعَلُ، أَوْ يَقُولُ لَا أُصَلِّي لِأَنَّ الصَّلَاةَ عُدِمَتْ فِي الْوَجْهَيْنِ وَالِاعْتِبَارُ بِالْفِعْلِ لَا بِالْقَوْلِ.
مَسْأَلَةٌ:
وَإِذَا خَافَ قَاطِعُ الطَّرِيقِ مِنْ الْإِمَامِ لَمْ يُجْزِهِ لَهُ أَنْ يُصَلِّيَ صَلَاةَ الْخَوْفِ، لِأَنَّ سَبَبَ خَوْفِهِمْ الْمَعْصِيَةُ الَّتِي تُلَبَّسُوا بِهَا فَيَجِبُ عَلَيْهِمْ الْإِقْلَاعُ عَنْهَا.
مَسْأَلَةٌ:
الْعَاصِي بِسَفَرِهِ مِمَّنْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُمْ لَا يُشْرَعُ لَهُ الْقَصْرُ، وَلَا يَكُونُ سَفَرُهُ مُبِيحًا لِقَصْرِ الصَّلَاةِ عَلَى الْمَشْهُورِ، وَالْخِلَافُ أَيْضًا يَجْرِي فِي السَّفَرِ الْمَكْرُوهِ كَالسَّفَرِ لِصَيْدِ اللَّهْوِ.
مَسْأَلَةٌ:
وَيَلْتَحِقُ بِذَلِكَ أَنَّ الْعَاصِيَ بِسَفَرِهِ لَا يُرَخَّصُ لَهُ فِي أَكْلِ الْمَيْتَةِ عِنْدَ الضَّرُورَةِ إلَيْهَا زَجْرًا لَهُ، لِيُقْلِعَ عَمَّا هُوَ مُتَلَبِّسٌ بِهِ مِنْ الْمَعْصِيَةِ مِنْ قَطْعِ الطَّرِيقِ أَوْ أَخْذِ الْمَكْسِ أَوْ الْإِبَاقِ أَوْ الْعُقُوقِ، وَفِي جَوَازِ أَكْلِهِ الْمَيْتَةَ وَامْتِنَاعِهِ مِنْهَا حَتَّى يَمُوتَ جُوعًا خِلَافٌ كَثِيرٌ، وَشَهَّرَ بَعْضُهُمْ جَوَازَ الْإِقْدَامِ عَلَى الْأَكْلِ، قَالَ ابْنُ الْفَرَسِ وَابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ وَهُوَ الصَّحِيحُ.
[مَسْأَلَةٌ فِي الْوِتْرِ]
قَالَ أَصْبَغُ: مَنْ أَدَامَ تَرْكَ الْوِتْرِ أُدِّبَ عَلَى ذَلِكَ، وَقَالَ سَحْنُونٌ تَسْقُطُ شَهَادَتُهُ.
[مَسْأَلَةٌ فِي الْإِمَامَةِ]
وَلَا يُصَلِّي الْإِمَامُ عَلَى أَرْفَعِ مَا عَلَيْهِ أَصْحَابُهُ مِثْلُ: الدَّكَّةِ تَكُونُ فِي الْمِحْرَابِ، لِأَنَّ الْإِمَامَةَ حَالَةٌ تَقْتَضِي التَّرَفُّعَ فَإِذَا انْضَافَ إلَى ذَلِكَ عَلَوْهُ عَلَيْهِمْ فِي الْمَكَانِ دَلَّ عَلَى قَصْدِهِ الْكِبْرَ، وَفِعْلُ الْإِمَامِ ذَلِكَ لِلْكِبْرِ حَرَامٌ بِلَا خِلَافٍ مُبْطِلٌ لِلصَّلَاةِ.
مَسْأَلَةٌ:
وَلَا يُصَلَّى خَلْفَ أَهْلِ الْبِدَعِ رَدْعًا لَهُمْ وَقِيلَ لِفَسَادِ عَقِيدَتِهِمْ.
[مَسْأَلَةٌ فِي الْجَنَائِزِ]
وَلَا تُشْهَدُ جَنَائِزُ أَهْلِ الْبِدَعِ رَدْعًا لَهُمْ.
[مَسْأَلَةٌ فِي صَلَاةِ الْجُمُعَةِ]
قَالَ ابْنُ الْجَلَّابِ: وَمَنْ فَاتَتْهُ الْجُمُعَةُ فَلَا يُصَلِّي الظُّهْرَ فِي جَمَاعَةٍ إلَّا أَنْ يَكُونَ لَهُ عُذْرٌ فِي التَّأْخِيرِ عَنْهَا، قَالَ الشَّارْمَسَاحِيُّ: وَوَجْهُهُ أَنْ يُحْرَمَ مَنْ تَخَلَّفَ عَنْهَا لِغَيْرِ عُذْرٍ أَجْرَ الْجَمَاعَةِ حَتَّى يَنْتَهِيَ عَنْ ذَلِكَ.
مَسْأَلَةٌ:
وَلَا يَتَنَفَّلُ أَحَدٌ عَقِبَ الْجُمُعَةِ سَدًّا لِلذَّرِيعَةِ، لِئَلَّا يَتَطَرَّقَ أَهْلُ الْبِدَعِ إلَى صَلَاةِ الْجُمُعَةِ أَرْبَعًا.
مَسْأَلَةٌ:
إذَا كَانَ لِلْمَسْجِدِ إمَامٌ رَاتِبٌ فِي بَعْضِ الصَّلَاةِ، فَلَا تَجُوزُ الْجَمَاعَةُ لِغَيْرِهِ فِي تِلْكَ الصَّلَاةِ، قَالَ ابْنُ بَشِيرٍ وَلَا خِلَافَ فِي مَنْعِ ذَلِكَ، وَاخْتُلِفَ فِي عِلَّةِ الْمَنْعِ هَلْ هُوَ جَمَاعَةٌ مِنْ تَطَرُّقِ أَهْلِ الْبِدَعِ أَوْ حِمَايَةٌ مِنْ الْأَذَى لِلْأَئِمَّةِ، وَفَائِدَةُ ذَلِكَ إذْنُ الْأَئِمَّةِ، هَلْ يُبِيحُ ذَلِكَ أَمْ لَا؟ فَعَلَى الْأَوْلَى لَا يَجُوزُ، وَعَلَى الثَّانِي يَجُوزُ.

.فَصْلٌ وَمِمَّا وَقَعَ فِي بَابِ الزَّكَاةِ:

مَسْأَلَةٌ:
مَنْ جَحَدَ وُجُوبَ الزَّكَاةِ فَهُوَ كَافِرٌ بِاتِّفَاقٍ، وَأَمَّا مَنْ أَقَرَّ بِهَا وَلَمْ يُخْرِجْهَا فَقَالَ ابْنُ حَبِيبٍ يُقْتَلُ تَارِكُهَا، وَعَلَى أَصْلِهِ يُقْتَلُ كُفْرًا، وَفَرَّقَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا بَيْنَ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ، بِأَنَّ الزَّكَاةَ تَدْخُلُهَا النِّيَابَةُ وَهِيَ حَقٌّ لِلْآدَمِيِّينَ، يُتَوَصَّلُ إلَى صَرْفِهَا إلَيْهِمْ بِأَنْ يَبِيعَ الْإِمَامُ عَلَيْهِ مَالَهُ وَيَأْخُذُهَا مِنْهُ جَبْرًا، بِخِلَافِ الصَّلَاةِ فَإِنَّهَا لَا تَدْخُلُهَا النِّيَابَةُ.
مَسْأَلَةٌ:
الْهَارِبُ بِمَاشِيَتِهِ عَنْ السَّاعِي إذَا هَرَبَ بِهَا وَهِيَ أَلْفُ شَاةٍ، ثُمَّ ظُفِرَ بِهِ فِي السَّنَةِ الْخَامِسَةِ وَهِيَ أَرْبَعُونَ، وَقَالَ: لَمْ تَزَلْ عَلَى ذَلِكَ مِنْ حِينِ هَرَبْت، وَمِنْ حِينِ هَرَبْت كَانَ هَلَاكُهَا لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ، وَزُكِّيَتْ عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ حِينَ هَرَبَ إلَّا فِي الْعَامِ الَّذِي ظُفِرَ بِهِ فِيهِ وَهِيَ أَرْبَعُونَ، فَيُزَكَّى عَنْهُ بِشَاةٍ وَاحِدَةٍ لِأَنَّهُ مُتَّهَمٌ فِي قَوْلِهِ هَلَكَتْ مِنْ حِينِ هَرَبْت، فَلَا يُصَدَّقُ وَالظَّالِمُ أَحَقُّ أَنْ يُحْمَلَ عَلَيْهِ.
مَسْأَلَةٌ:
وَلَوْ هَرَبَ وَهِيَ أَرْبَعُونَ ثُمَّ وَجَدَهَا فِي الْعَامِ الْخَامِسِ أَلْفَ شَاةٍ، وَقَالَ: أَفْسَدْت لِلزَّائِدِ عَلَى الْأَرْبَعِينَ فِي هَذَا الْعَامِ، قَبْلَ قَوْلِهِ عِنْدَ ابْنِ الْقَاسِمِ وَلَمْ يُقْبَلْ عِنْدَ ابْنِ حَبِيبٍ إذْ لَمْ يُعْرَفْ ذَلِكَ إلَّا بِقَوْلِهِ، وَيُؤْخَذُ عَنْ الْعَامِ الَّذِي هَرَبَ فِيهِ شَاةٌ عَنْ الْأَرْبَعِينَ، وَيُؤْخَذُ مِنْهُ لِكُلِّ عَامٍ عَشْرٌ عَشْرٌ عُقُوبَةً لَهُ وَزَجْرًا لِأَنَّهُ مُتَّهَمٌ مُتَعَدٍّ بِهُرُوبِهِ.
مَسْأَلَةٌ:
إذَا امْتَنَعَ مِنْ إخْرَاجِ الزَّكَاةِ وَهُوَ مَقْدُورٌ عَلَيْهِ، وَفَرْعُنَا عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّهُ يُؤْخَذُ مِنْهُ كُرْهًا، فَإِنَّهَا تُؤْخَذُ مِمَّا يَظْهَرُ لَهُ مِنْ الْأَمْوَالِ كَالنَّخْلِ وَالزَّرْعِ وَالْمَاشِيَةِ، وَأَمَّا مَا يُخْفِي فَإِنْ عُلِمَ بِهِ وَعُلِمَ أَنَّهُ لَا يُؤَدِّي زَكَاتَهُ أُخِذَتْ مِنْهُ أَيْضًا، وَإِذَا ظَهَرَ الْفَقْدُ وَاطَّلَعَ مِنْهُ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ وَلَمْ يَعْلَمْ مِقْدَارَ الْوَاجِبِ عَلَيْهِ، وَلَمْ يُوجَدْ مَالُهُ عُوقِبَ أَوْ حُبِسَ حَتَّى يُؤَدِّيَ مَا عَلَيْهِ، فَإِنْ ظَهَرَ لَهُ مَالٌ وَادَّعَى أَنَّ عَلَيْهِ الدَّيْنَ أَوْ ادَّعَى الرِّقَّ عُمِلَ عَلَى مَا يَظْهَرُ مِنْ صِدْقِهِ أَوْ كَذِبِهِ، فَإِنْ أَشْكَلَ أَمْرُهُ لَمْ تُؤْخَذْ مِنْهُ وَفِي تَحْلِيفِهِ قَوْلَانِ.
مَسْأَلَةٌ:
وَمَسَائِلُ الْخُلْطَةِ فِي الْجَمْعِ وَالتَّفْرِيقِ النَّاقِصَيْنِ مِنْ الزَّكَاةِ، وَتَحْلِيفِهِمْ إذَا أَشْكَلَ أَمْرُهُمْ يَطُولُ ذِكْرُهَا.

.فَصْلٌ وَمِمَّا وَقَعَ فِي بَابِ الصِّيَامِ:

مَسْأَلَةٌ:
حُكْمُ الصِّيَامِ كَالصَّلَاةِ فِي الْجَحْدِ وَتَرْكِ الْقَتْلِ.
مَسْأَلَةٌ:
لَا يَتَرَخَّصُ بِالْفِطْرِ مَنْ سَافَرَ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ سَفَرَ مَعْصِيَةٍ.
مَسْأَلَةٌ:
مَنْ رَأَى هِلَالَ شَوَّالٍ وَحْدَهُ نَوَى الْفِطْرَ وَلَمْ يُفْطِرْ ظَاهِرًا وَلَا خُفْيَةً، وَإِنْ أَمِنَ الظُّهُورَ عَلَيْهِ عَلَى الْمَشْهُورِ سَدًّا لِلذَّرِيعَةِ وَهَذَا إذَا كَانَ فِي الْحَضَرِ، فَإِنْ اُطُّلِعَ عَلَى فِطْرِهِ لَمْ يَكُنْ ذَكَرَ ذَلِكَ لِغَيْرِهِ، وَكَانَ غَيْرَ مَأْمُونٍ عُوقِبَ وَإِنْ ذَكَرَهُ أَوْ كَانَ مَأْمُونًا لَمْ يُعَاقَبْ، وَعُنِّفَ وَغُلِّظَ عَلَيْهِ فِي التَّعْنِيفِ.
مَسْأَلَةٌ:
وَإِذَا أَكْرَهَ زَوْجَتَهُ عَلَى الْجِمَاعِ أُلْزِمَ بِأَنْ يُكَفِّرَ عَنْهَا، وَإِنْ وَطِئَ أَمَتَهُ كَفَّرَ عَنْهَا وَلَوْ كَانَتْ مُطَاوِعَةً لَهُ لِأَنَّ طَوْعَهَا لَا يُعْتَبَرُ وَهِيَ مَعَهُ كَالْمُكْرَهَةِ.
مَسْأَلَةٌ:
وَلَوْ أُكْرِهَ الرَّجُل عَلَى الْجِمَاعِ وَجَبَتْ الْكَفَّارَةُ عَلَى مَنْ أَكْرَهَهُ وَفِيهِ خِلَافٌ..
مَسْأَلَةٌ:
وَإِذَا وَطِئَ الْعَبْدُ مَنْ تَلْزَمُهُ الْكَفَّارَةُ عَنْهَا فَهِيَ جِنَايَةٌ فِي رَقَبَتِهِ، فَإِنْ أَسْلَمَهُ سَيِّدُهُ وَإِلَّا فَدَاهُ بِالْأَقَلِّ مِنْ ذَلِكَ أَوْ قِيمَتِهِ.
مَسْأَلَةٌ:
وَتَجِبُ الْعُقُوبَةُ عَلَى مَنْ ظُهِرَ عَلَيْهِ بِالْفِطْرِ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ مُتَعَمِّدًا، فَإِنْ جَاءَ تَائِبًا مُسْتَفْتِيًا فَفِي عُقُوبَتِهِ قَوْلَانِ وَالظَّاهِرُ نَفْيُهَا.
[مَسْأَلَةٌ فِي الِاعْتِكَافِ]
إذَا وَطِئَ الْمُعْتَكِفُ أُدِّبَ.
مَسْأَلَةٌ:
وَلَا يَنْبَغِي لِلْقَاضِي أَنْ يُخْرِجَ مُعْتَكِفًا مِنْ مُعْتَكَفِهِ، لِمَا يُطْلَبُ مِنْهُ مِنْ دَيْنٍ أَوْ حَدٍّ حَتَّى يُتِمَّ اعْتِكَافَهُ، إلَّا أَنْ يَتَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ إنَّمَا اعْتَكَفَ لَدَدًا وَفِرَارًا مِنْ الْحَقِّ فَيَرَى فِيهِ رَأْيَهُ.

.فَصْلٌ وَمِمَّا وَقَعَ فِي بَابِ الْحَجِّ:

مَسْأَلَةٌ:
مَنْ جَحَدَ وُجُوبَهُ كَفَرَ، وَأَمَّا مَنْ تَرَكَهُ فَإِنَّهُ لَا يُقْتَلُ لِأَنَّ الْأَدِلَّةَ الدَّالَّةَ عَلَى التَّرَاخِي قَوِيَّةٌ.
مَسْأَلَةٌ:
وَلَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ مَنْ تَرَكَهُ لِغَيْرِ عُذْرٍ اسْتِخْفَافًا، وَسَحْنُونٌ يَقُولُ: إنَّهُ إذَا أَخَّرَهُ السِّنِينَ الْكَثِيرَةَ لِغَيْرِ عُذْرٍ نَحْوَ الْعِشْرِينَ إلَى سِتِّينَ، فَإِنَّهَا جُرْحَةٌ تَرُدُّ شَهَادَتَهُ.
مَسْأَلَةٌ:
وَفِي الْبَيَانِ: وَإِذَا زَنَى الْبِكْرُ فَلَمْ يُوجَدْ إلَّا بِمَكَّةَ وَهُوَ مُحْرِمٌ حَاجٌّ فَإِنَّهُ يُقَامُ عَلَيْهِ الْحَدُّ، وَيُنْفَى وَلَا يُتْرَكُ حَتَّى يُكْمِلَ الْحَجَّ، لِأَنَّ التَّغْرِيبَ مِنْ تَمَامِ الْحَدِّ، وَلَعَلَّهُ أَحْرَمَ فِرَارًا مِنْ السَّجْنِ، اُنْظُرْهَا فِي بَابِ الْقَذْفِ مِنْ الْبَيَانِ، وَانْظُرْ تَمَامَهَا وَحُكْمَ حَجِّهِ.
مَسْأَلَةٌ:
إذَا أَكْرَهَ زَوْجَتَهُ وَهِيَ مُحْرِمَةٌ فَوَطِئَهَا، لَزِمَهُ أَنْ يُحْجِجْهَا وَأَنْ يُكَفِّرَ عَنْهَا وَذَلِكَ بِسَبَبِ تَعْدِيهِ عَلَيْهَا، وَإِذَا قَضَى تِلْكَ الْحَجَّةَ هُوَ وَزَوْجَتُهُ، فَارَقَهَا مِنْ حِينِ الْإِحْرَامِ إلَى حِينِ التَّحَلُّلِ خَوْفَ مُوَاقَعَةِ الْفِعْلِ ثَانِيَةً.
مَسْأَلَةٌ:
وَإِذَا هَلَكَ هَدْيُ التَّطَوُّعِ قَبْلَ مَحِلِّهِ فَلِيَتَصَدَّقْ بِهِ وَلَا يَأْكُلْ مِنْهُ، لِأَنَّهُ يُتَّهَمُ أَنْ يَكُونَ أُعْطِيَهُ لِيَأْكُلَ مِنْهُ، فَإِنْ أَكَلَ مِنْهُ أَبْدَلَهُ لِقُوَّةِ التُّهْمَةِ.
[مَسْأَلَةٌ جَزَاءِ الصَّيْدِ فِي الْإِحْرَامِ]
مَسْأَلَةٌ:
وَمِنْ ذَلِكَ مَا جَاءَ فِي جَزَاءِ الصَّيْدِ فِي الْإِحْرَامِ، وَقَالَ تَعَالَى فِيهِ: {لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ} [المائدة: 95].
مَسْأَلَةٌ:
مِنْ الصَّيْدِ:
وَمَنْ صَادَ حَمَامَةً مِنْ حَمَامِ مَكَّةَ أَوْ مِنْ حَمَامِ الْحَرَمِ، فَعَلَيْهِ شَاةٌ يُخْرِجُهَا بِغَيْرِ حُكْمَيْنِ وَلَيْسَ فِيهَا صَدَقَةٌ وَلَا تَخْيِيرٌ، لِأَنَّ الشَّاةَ فِيهَا مِنْ بَابِ التَّغْلِيظِ عَلَيْهِ.
مَسْأَلَةٌ:
وَمَنْ تَرَكَ التَّسْمِيَةَ عِنْدَ الْإِرْسَالِ عَامِدًا مُتَهَاوِنًا، لَمْ يَجُزْ لَهُ أَكْلُ ذَلِكَ الصَّيْدِ تَغْلِيظًا عَلَيْهِ فِي تَرْكِ اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى.
مَسْأَلَةٌ:
لَوْ رَمَى صَيْدًا فَمَرَّ بِهِ إنْسَانٌ وَأَمْكَنَتْهُ ذَكَاتُهُ فَلَمْ يَفْعَلْ، ثُمَّ جَاءَ صَاحِبُهُ فَوَجَدَهُ قَدْ مَاتَ لَمْ يُؤْكَلْ عَلَى الْمَنْصُوصِ وَيَضْمَنُهُ الْمَارُّ لِأَنَّهُ فَوَّتَهُ عَلَى صَاحِبِهِ، وَقِيلَ لَا يَضْمَنُ بِنَاءً عَلَى أَنَّ التَّرْكَ كَالْفِعْلِ أَوْ لَا.
[مَسْأَلَةٌ مِنْ الذَّبَائِحِ]:
مَنْ تَرَكَ التَّسْمِيَةَ فِي الذَّبْحِ عَامِدًا مُتَهَاوِنًا لَمْ تُؤْكَلْ ذَبِيحَتُهُ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مُتَهَاوِنٍ فَكَذَلِكَ عَلَى الْمَشْهُورِ.
[مَسْأَلَةٌ مِنْ الْأَطْعِمَةِ]:
إذَا نَزَلَتْ بِرَجُلٍ مَخْمَصَةٌ وَوَجَدَ طَعَامًا مَعَ رَجُلٍ فَسَاوَمَهُ فِيهِ فَلَمْ يَبِعْهُ مِنْهُ، وَاسْتَطْعَمَهُ فَلَمْ يُطْعِمْهُ، فَإِنَّهُ يَجُوزُ لَهُ قِتَالُهُ، فَإِنْ مَاتَ رَبُّ الطَّعَامِ فَدَمُهُ هَدَرٌ، وَإِنْ مَاتَ الْجَائِعُ وَجَبَ الْقِصَاصُ، وَإِنْ أَخَذَهُ مِنْهُ قَهْرًا فَعَلَيْهِ قِيمَتُهُ.
[مَسْأَلَةٌ مِنْ الْأَيْمَانِ]:
وَسُئِلَ مَالِكٌ عَمَّنْ حَلَفَ بِطَلَاقِ امْرَأَتِهِ لِيَجْلِدَنَّهَا خَمْسِينَ سَوْطًا، قَالَ لَوْ اسْتَشَارَنِي السُّلْطَانُ لَأَمَرْته أَنْ يَمْنَعَهُ مِنْ ضَرْبِهَا، وَلَأَمَرْته أَنْ يُطَلِّقَهَا وَلَا يُمَكَّنُ مِنْ جَلْدِهَا، وَكَذَلِكَ لَوْ حَلَفَ بِالطَّلَاقِ لِيَضْرِبَنهَا مِثْلَ الثَّلَاثِينَ، طَلُقَتْ عَلَيْهِ إذَا كَانَ بِغَيْرِ شَيْءٍ تَسْتَوْجِبُهُ، وَيُمَكَّنُ مِنْ ذَلِكَ فِي مِثْلِ الْعَشَرَةِ، وَلَوْ لَمْ يَصِلْ ذَلِكَ إلَى السُّلْطَانِ حَتَّى ضَرَبَهَا، عُوقِبَ بِالضَّرْبِ وَالزَّجْرِ وَلَمْ تَطْلُقْ عَلَيْهِ إلَّا أَنْ يَكُونَ بِهَا مِنْ الضَّرْبِ آثَارٌ قَبِيحَةٌ، أَوْ أَمْرٌ يُشَهِّرُ مِثْلَهَا مِنْ الْحَرَائِرِ، فَتَطْلُقُ لِلضَّرَرِ إذَا تَبَيَّنَ ذَلِكَ وَطَلَبَتْ هِيَ الْفِرَاقَ، وَكَذَلِكَ لَوْ حَلَفَ بِحُرِّيَّةِ عَبْدِهِ لَيَضْرِبَنهُ ضَرْبًا كَثِيرًا دُونَ شَيْءٍ أَذَنْبَهُ، لَمْ يُمَكَّنْ مِنْ ذَلِكَ وَقِيلَ: يُمَكَّنُ وَهُوَ بَعِيدٌ اُنْظُرْ الْبَيَانَ وَمُخْتَصَرَ الْوَاضِحَةِ.
[مَسَائِلُ مِنْ الْجِهَادِ]:
لَا يُقْتَلُ مُسْتَأْمَنٌ إلَّا أَنْ يَكُونَ جَاسُوسًا فَيُقْتَلُ.
مَسْأَلَةٌ:
وَقَالَ سَحْنُونٌ: فِي الْمُسْلِمِ يَكْتُبُ لِأَهْلِ الْحَرْبِ بِأَخْبَارِنَا، يُقْتَلُ وَلَا يُسْتَتَابُ وَلَا دِيَةَ لِوَرَثَتِهِ كَالْمُحَارَبِ، وَقِيلَ: يُجْلَدُ نَكَالًا وَيُطَالُ سَجْنُهُ وَيُنْفَى مِنْ الْمَوْضِعِ الَّذِي كَانَ فِيهِ، وَقِيلَ: يُقْتَلُ إلَّا أَنْ يَتُوبَ، وَقِيلَ: إلَّا أَنْ يُعْذَرَ بِجَهْلٍ، وَقِيلَ: يُقْتَلُ إنْ كَانَ مُعْتَادًا لِذَلِكَ وَإِنْ كَانَتْ فَلْتَةً ضُرِبَ وَنُكِّلَ.
مَسْأَلَةٌ:
إذَا خَرَجَتْ سَرِيَّةٌ مِنْ الْجَيْشِ بِغَيْرِ إذْنِ الْإِمَامِ، قَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ يُؤَدِّبُهُمْ الْإِمَامُ وَيَحْرِمُهُمْ مِمَّا غَنِمُوهُ.
وَقَالَ سَحْنُونٌ: إلَّا أَنْ يَكُونُوا جَمَاعَةً لَا يُخَافُ عَلَيْهِمْ فَلَا يَحْرُمُهُمْ مِمَّا غَنِمُوهُ يُرِيدُ وَقَدْ أَخْطَئُوا.
مَسْأَلَةٌ:
وَيُقَاتِلُ الْعَدُوَّ بِكُلِّ نَوْعٍ وَبِالنَّارِ إنْ لَمْ يَكُنْ غَيْرُهَا وَخِيفَ مِنْهُمْ، فَإِنْ لَمْ يُخَفْ فَقَوْلَانِ.
مَسْأَلَةٌ:
لَمْ يُخْتَلَفْ فِي رَمْيِ مَرَاكِبِهِمْ بِالْمَنْجَنِيقِ وَكَذَلِكَ حُصُونُهُمْ، وَإِنْ كَانَ فِيهِمْ مُسْلِمُونَ وَحُكْمُ تَتَرُّسِهِمْ بِالْمُسْلِمِينَ، وَقَطْعِ أَشْجَارِ الْعَدُوِّ وَإِتْلَافِ مَا عَجَزُوا عَنْهُ مِنْ أَمْوَالِهِمْ، وَمَا يُوجِبُهُ عَقْدُ الذِّمَّةِ عَلَيْهِمْ وَكَثِيرٌ مِنْ الْمَسَائِلِ السِّيَاسِيَّةِ.

.فَصْلٌ فِيمَا وَقَعَ فِي بَابِ النِّكَاحِ وَتَوَابِعِهِ:

مَسْأَلَةٌ:
إذَا دَخَلَ الرَّجُلُ بِزَوْجَتِهِ قَبْلَ الْإِشْهَادِ عَلَى النِّكَاحِ فُسِخَ النِّكَاحُ بِطَلْقَةٍ بَائِنَةٍ.
وَقَالَ ابْنُ حَبِيبٍ: يُحَدُّ إنْ ثَبَتَ الْوَطْءُ عَالِمَيْنِ كَانَا أَوْ جَاهِلَيْنِ مَا لَمْ يَكُنْ أَمْرُهُمَا فَاشِيًا، قَالَ ابْنُ حَبِيبٍ: وَلَمْ أَجِدْ مَنْ يَقُولُ ذَلِكَ.
وَفِي الطُّرَرِ لِابْنِ عَاتٍ: إذَا أَقَرَّا بِالنِّكَاحِ وَلَمْ يَقُمْ عَلَى أَصْلِهِ بَيِّنَةٌ وَهُمَا غَيْرُ طَارِئَيْنِ، فَإِنْ لَمْ يَطُلْ كَوْنُهُ مَعَهَا وَلَمْ يَشْتَهِرْ فَوُجُودُهَا مَعَهُ رِيبَةٌ، تُوجِبُ عَلَيْهِمَا الْأَدَبَ أَوْ الْحَدَّ، إنْ تَقَارَّا عَلَى الْوَطْءِ، وَكَذَلِكَ إنْ لَمْ يُعْلَمْ مِنْهُمَا إقْرَارٌ بِالنِّكَاحِ لِأَنَّ كَوْنَهَا فِي بَيْتِهِ وَتَحْتَ حِجَابِهِ، كَالْإِقْرَارِ مِنْهُمَا بِالنِّكَاحِ أَوْ أَقْوَى، وَشَهَادَةُ الْوَلِيِّ لَهَا بِالنِّكَاحِ لَا تُفِيدُ لِأَنَّهُ يُتَّهَمُ أَنْ يُرِيدَ السَّتْرَ عَلَى وَلِيَّتِهِ.
مَسْأَلَةٌ:
وَنِكَاحُ السِّرِّ بَاطِلٌ وَيُعَاقَبُ الزَّوْجَانِ وَالشُّهُودُ بِمَا كَتَمُوا.
وَقَالَ ابْنُ يُونُسَ: لَا يُعَاقَبُ الشَّاهِدَانِ إذَا جَهِلَا، وَتَفْسِيرُ نِكَاحِ السِّرِّ مَشْهُورٌ فِي مَحِلِّهِ.
مَسْأَلَةٌ:
قَالَ أَصْبَغُ فِي الَّذِي يَنْكِحُ نِكَاحَ الْمُتْعَةِ، أَوْ نِكَاحَ الْمَرْأَةِ عَلَى عَمَّتِهَا أَوْ خَالَتِهَا وَشِبْهُ ذَلِكَ، أَوْ يَنْكِحُ الْمَرْأَةَ فِي عِدَّتِهَا عَامِدًا عَالِمًا بِالتَّحْرِيمِ، أَوْ جَاهِلًا لَا حَدَّ عَلَيْهِ وَفِيهِ الْعُقُوبَةُ الْمُوجِعَةُ، وَالْعَالِمُ بِالتَّحَرُّمِ أَشَدُّ عُقُوبَةً مِنْ الْجَاهِلِ وَأَعْظَمُ.
مَسْأَلَةٌ:
وَإِذَا تَكَرَّرَتْ شَكْوَى الْمَرْأَةِ وَذَكَرَتْ إضْرَارَ زَوْجِهَا بِهَا، وَرَفَعَتْ ذَلِكَ إلَى الْحَاكِمِ وَعَجَزَتْ عَنْ إثْبَاتِ مَا تَدَّعِيه، فَإِنَّ الْحَاكِمَ يَأْمُرُ زَوْجَهَا بِإِسْكَانِهَا بَيْنَ قَوْمٍ صَالِحِينَ، وَيُكَلِّفُهُمْ تَفَقُّدَ خَبَرِهَا وَاسْتِعْلَامَ ضَرَرِهَا فَإِنْ كَانَتْ سَاكِنَةً مَعَهُ فِي مِثْلِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَمْ يَلْزَمْهُ نَقْلُهَا إلَى غَيْرِهِمْ، يَعْنِي وَكَلَّفَهُمْ تَفَقُّدَ حَالِهَا، فَإِنْ ظَهَرَ لَهُمْ أَنَّهُ الظَّالِمُ، رَفَعُوا ذَلِكَ إلَيْهِ فَزَجَرَهُ الْحَاكِمُ وَأَدَّبَهُ وَسَجَنَهُ وَعَاقَبَهُ بِمَا يَرَاهُ، فَإِنْ عَمِيَ عَلَى الْحَاكِمِ خَبَرُهُمَا وَطَالَ تَكَرُّرُهَا وَلَمْ يَعْلَمْ الظَّالِمَ مِنْهُمَا، لَمْ يَسَعْهُ أَنْ يَنْظُرَ فِي أَمْرِهِمَا بِغَيْرِ الْحَكَمَيْنِ، وَمَسْأَلَةُ الْحَكَمَيْنِ مَشْهُورَةٌ.
مَسْأَلَةٌ:
وَمَنْ بَاعَ زَوْجَتَهُ، فَقَالَ مَالِكٌ فِي الْمَبْسُوطِ: يُنَكَّلُ نَكَالًا شَدِيدًا وَتَطْلُقُ عَلَيْهِ بِوَاحِدَةٍ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَرْتَجِعَهَا وَلَا يَتَزَوَّجَهَا وَلَا غَيْرَهَا حَتَّى تُعْرَفَ تَوْبَتُهُ وَصَلَاحُهُ، مَخَافَةَ إنْ رَاجَعَهَا أَوْ تَزَوَّجَ غَيْرَهَا أَنْ يَبِيعَهَا، وَفِي الْمَسْأَلَةِ تَفْصِيلٌ بَيْنَ أَنْ يَبِيعَهَا هَازِلًا أَوْ جَادًّا وَحُكْمُ حَدِّهَا إنْ أَقَرَّتْ بِوَطْءِ الْمُشْتَرِي لَهَا أَوْ ادَّعَتْ أَنَّهَا مُكْرَهَةٌ، لَيْسَ هَذَا مَحِلُّهُ.
مَسْأَلَةٌ:
وَمَنْ نَكَحَ امْرَأَتَهُ الْمُطَلَّقَةَ لَمْ يُحَدَّ، عَالِمًا كَانَ أَوْ جَاهِلًا لِاخْتِلَافِ النَّاسِ فِي ذَلِكَ، وَأَمَّا الَّذِي يَنْكِحُ امْرَأَتَهُ الْمُطَلَّقَةَ ثَلَاثًا، فَإِنْ كَانَ عَالِمًا حُدَّ لِأَنَّهُ لَمْ يُخْتَلَفْ فِيهِ، وَإِنْ كَانَ جَاهِلًا لَمْ يُحَدَّ وَهَذَا اسْتِحْسَانٌ، وَالْقِيَاسُ فِيهِ أَنْ يُحَدَّ وَلَا يُعْذَرُ.
مَسْأَلَةٌ:
وَإِذَا كَانَ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ عِذْيَوْطًا وَهُوَ الَّذِي يَكُونُ مِنْهُ الْحَدَثُ عِنْدَ الْجِمَاعِ، فَإِنَّ لِلْآخِرِ أَنْ يَرُدَّهُ بِهَذَا الْعَيْبِ، فَإِذَا اخْتَلَفَ الزَّوْجَانِ وَنَفَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ذَلِكَ عَنْ نَفْسِهِ، فَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ نَصْرٍ: يُطْعَمُ أَحَدُهُمَا تِينًا وَالْآخَرُ فَقُّوسًا، فَيَعْلَمُ بِذَلِكَ مَنْ هُوَ صَاحِبُ الْعَيْبِ.
مَسْأَلَةٌ:
وَإِذَا فَعَلَ الزَّوْجُ بِزَوْجَتِهِ مَا يُوجِبُ الْقِصَاصَ لَهَا مِنْهُ وَكَانَ شِرِّيرًا يُخَافُ عَلَيْهَا مِنْهُ إذَا اقْتَضَتْ مِنْهُ، فَإِنَّهَا تَطْلُقُ عَلَيْهِ.
مَسْأَلَةٌ:
وَيَجِبُ عَلَى زَوْجَةِ الْمَظَاهِرِ أَنْ تَمْنَعَهُ مِنْ نَفْسِهَا، فَإِنْ خَشِيَتْ مِنْهُ رَفَعَتْ أَمْرَهَا إلَى الْحَاكِمِ فَيَمْنَعُهُ مِنْ ذَلِكَ وَيُؤَدِّبُهُ إنْ رَأَى ذَلِكَ.
مَسْأَلَةٌ:
وَفِي التَّهْذِيبِ: مَنْ قَالَ لِزَوْجَتِهِ: أَنْتِ سَائِبَةٌ أَوْ مِنِّي عَتِيقَةٌ، فَلْيَحْلِفْ عَلَى مَا أَرَادَ بِذَلِكَ إنْ كَانَ طَلَاقًا أَوْ غَيْرَ طَلَاقٍ، فَإِذَا حَلَفَ نُكِّلَ عُقُوبَةً مُوجِعَةً، وَيُنَكَّلُ مَنْ قَالَ مِثْلَ هَذَا مِنْ أَيْمَانِ اللَّبْسِ، لِأَنَّهُ لَبَّسَ عَلَى نَفْسِهِ وَعَلَى حُكَّامِ الْمُسْلِمِينَ.
مَسْأَلَةٌ:
إذَا أَشْهَدَ أَنَّهُ قَدْ خَيَّرَ زَوْجَتَهُ ثُمَّ ذَهَبَ فَوَطِئَهَا قَبْلَ أَنْ تَعْلَمَ فَلَهَا الْخِيَارُ إذَا عَلِمَتْ، وَيُعَاقَبُ الزَّوْجُ عَلَى فِعْلِهِ لِوَطْئِهِ قَبْلَ عِلْمِ مَا عِنْدَهَا، لِأَنَّهُ فَرْجُ الْخِيَارِ فِيهِ لِغَيْرِهِ.
مَسْأَلَةٌ:
وَإِذَا كَانَ الرَّتْقُ مِنْ قِبَلِ الْخِتَانِ فَإِنَّهُ يَبُطُّ عَلَيْهَا أَحَبَّتْ الْمَرْأَةُ أَوْ كَرِهَتْ، إذَا قَالَ النِّسَاءُ أَنَّ ذَلِكَ لَا يَضُرُّهَا.
مَسْأَلَةٌ:
وَإِذَا نَاكَرَتْ الْمَرْأَةُ الرَّجُلَ فِي وُجُودِ الْعَيْبِ فِي فَرْجِهَا، فَفِي الْمَسْأَلَةِ خِلَافٌ مَشْهُورٌ، فَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ هِيَ مُصَدَّقَةٌ وَلَا يَنْظُرُ إلَيْهَا النِّسَاءُ، قَالَ ابْنُ الْهِنْدِيِّ وَعَلَيْهَا الْيَمِينُ.
وَقَالَ سَحْنُونٌ وَابْنُ الْقَاسِمِ: يَقُولُ لَا يَنْظُرُ إلَيْهَا النِّسَاءُ، وَقَدْ قَالَ: إنَّهَا تُرَدُّ بِهِ، فَكَيْفَ يُعْرَفُ إلَّا بِنَظَرِهِنَّ؟ وَقَدْ رُوِيَ عَنْ ابْنِ زِيَادٍ عَنْ مَالِكٍ: أَنَّ النِّسَاءَ يَنْظُرْنَ إلَيْهَا، قَالَ ابْنُ لُبَابَةَ: وَالنَّظَرُ إلَيْهَا هُوَ الصَّوَابُ وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ، وَهُوَ رِوَايَةُ ابْنِ وَهْبٍ عَنْ مَالِكٍ وَصِفَةُ النَّظَرِ إلَيْهَا عَلَى قَوْلِ سَحْنُونٍ: أَنْ تَجْعَلَ الْمَرْأَةُ الْمِرْآةَ أَمَامَ فَرْجِهَا وَقَدْ فَتَحْت فَخْذَيْهَا، وَتَجْلِسُ امْرَأَتَانِ مِنْ خَلْفِهَا يَنْظُرَانِ فِي الْمِرْآةِ وَيَقُلْنَ لَهَا: افْتَحِيهِ بِيَدِك، فَإِنْ نَظَرْنَ فِيهِ شَيْئًا شَهِدْنَ بِهِ، اُنْظُرْ الْمُتَيْطِيَّ.
مَسْأَلَةٌ:
وَكَذَلِكَ إذَا ادَّعَى الزَّوْجُ أَنَّهُ وَجَدَ زَوْجَتَهُ ثَيِّبًا وَكَذَّبَتْهُ، فَقِيلَ الْقَوْلُ قَوْلُهَا مَعَ الْيَمِينِ، وَقِيلَ: تُكْشَفُ لِتَنْظُرَ النِّسَاءُ إلَيْهَا، وَلَا حَدَّ عَلَى الزَّوْجِ فِيمَا رَمَاهَا بِهِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُصَرِّحْ بِقَذْفِهَا، وَالْعُذْرَةُ قَدْ تَزُولُ بِغَيْرِ الْجِمَاعِ، فَإِنْ زَعَمَتْ أَنَّهُ فُعِلَ ذَلِكَ بِهَا عُرِضَ عَلَى النِّسَاءِ، فَإِنْ شَهِدْنَ أَنَّ الْأَمْرَ قَرِيبٌ يُمْكِنُ مِنْ فِعْلِهِ دِينَتْ وَحَلَفَتْ، وَإِنْ كَانَ بَعِيدًا فَلَهُ رَدُّهَا بِهِ، وَاخْتُلِفَ فِي تَحْلِيفِ الزَّوْجِ فَقِيلَ: شَهَادَةُ النِّسَاءِ بِالْقِدَمِ تَرْفَعُ عَنْهُ الْيَمِينَ، وَقِيلَ لابد أَنْ يَحْلِفَ.
مَسْأَلَةٌ:
إذَا ادَّعَتْ الْمَرْأَةُ أَنَّ زَوْجَهَا حَصُورٌ أَوْ عِنِّينٌ أَوْ مَجْبُوبٌ فَقِيلَ: يُخْتَبَرُ بِالْجَسِّ عَلَى الثَّوْبِ، وَقِيلَ يُنْظَرُ إلَيْهِ كَمَا يَنْظُرُ إلَى الْمَرْأَةِ، قَالَهُ الْبَاجِيُّ.
وَقَالَ سَحْنُونٌ: الْقَوْلُ قَوْلُهُ وَلَا يُخْتَبَرُ، فَإِذَا أَثْبَتَ ذَلِكَ بِإِقْرَارِهِ أَوْ انْكَشَفَ عَنْهُ طَلَّقَهَا عَلَيْهِ الْإِمَامُ، وَقِيلَ لَهَا إيقَاعُ الطَّلَاقِ دُونَ أَمْرِ الْإِمَامِ.
مَسْأَلَةٌ:
فَإِذَا ادَّعَتْ عَلَيْهِ الِاعْتِرَاضَ وَأَنْكَرَ فَهُوَ مُصَدَّقٌ، وَاخْتُلِفَ هَلْ عَلَيْهِ يَمِينٌ أَوْ لَا؟ وَرُوِيَ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ يُدِينُ فِي الثَّيِّبِ وَيَنْظُرُ النِّسَاءُ إلَى الْبِكْرِ، وَرَوَى عَنْهُ الْوَاقِدِيُّ فِي مُخْتَصَرِ مَا لَيْسَ فِي الْمُخْتَصَرِ، أَنَّهُ لَا يُصَدَّقُ فِي الثَّيِّبِ وَتُجْعَلُ مَعَهَا امْرَأَةٌ تُنْظَرُ إذَا غَشِيَهَا الزَّوْجُ، وَأَجَازَ قَوْلَ امْرَأَةٍ وَاحِدَةٍ، وَقِيلَ فِي الثَّيِّبِ: إنَّهُ يُطْلَى ذَكَرُهُ بِالزَّعْفَرَانِ ثُمَّ يُرْسَلُ عَلَيْهَا، فَإِذَا فَرَغَ نَظَرَ النِّسَاءُ إلَى فَرْجِهَا، فَإِنْ وُجِدَ فِيهِ الزَّعْفَرَانُ بِحَيْثُ لَا يَكُونُ إلَّا بِالْمَسِيسِ قُضِيَ لَهُ عَلَيْهَا.
وَفِي الْإِمْلَاءِ: عَلَى الْجَلَّابِ قَالَ ابْنُ اللَّبَّادِ فِي كَلَامِهِ عَلَى التَّهْذِيبِ: إنَّ الْمَرْأَةَ تُرْبَطُ وَتُلْقَى عَلَى ظَهْرِهَا، وَيُكَتَّفُ هُوَ مِنْ خَلْفِ ظَهْرِهِ وَيُطْلَقُ عَلَيْهَا، قَالَ بَعْضُهُمْ: لِئَلَّا يُوصِلَ بِيَدِهِ إلَى هُنَاكَ، أَوْ تَمْسَحُهُ هِيَ عَنْهُ، قَالَ صَاحِبُ الْإِمْلَاءِ: وَمَا قَالَهُ ابْنُ اللَّبَّادِ فِي الْبَطْحِ وَالرَّبْطِ وَالتَّكْتِيفِ لَمْ يَقُلْهُ غَيْرُهُ، وَلَا هُوَ مُقْتَضَى مَا فِي الْمُدَوَّنَةِ، وَالْمَرْأَةُ لَا تَكْتُمُ ذَلِكَ إنْ فَعَلَهُ بِهَا، بَلْ تَجْعَلُ الصُّفْرَةَ فِي قُبُلِهَا وَيُرْسَلُ عَلَيْهَا، ثُمَّ يُنْظَرُ إلَى وُجُودِ الصُّفْرَةِ بِذَكَرِهِ بِحَيْثُ لَا يَكُونُ إلَّا بِالْمُخَالَطَةِ أَوْ بِالْجِمَاعِ، وَذَلِكَ مِمَّا لَا يَخْفَى أَنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى الْوُصُولِ إلَى ذَلِكَ بِأُصْبُعِهِ ثُمَّ يَنْقُلُهُ إلَى ذَكَرِهِ، وَالْمَرْأَةُ تَسْكُتُ عَلَى ذَلِكَ.
مَسْأَلَةٌ:
وَفِي مُخْتَصَرِ الْوَاضِحَةِ قَالَ ابْنُ حَبِيبٍ: قَالَ أَصْبَغُ فِي امْرَأَةِ الْمَعْقُودِ تَدَّعِي أَنَّهَا لَا تُمَكِّنُهُ مِنْ نَفْسِهَا، وَأَنَّهُ لَا يَقْوَى عَلَى مَسِيسِهَا، أَوْ يُقِرُّ الْمَعْقُودُ بِأَنَّهُ لَا يَمَسُّ وَيَدَّعِي أَنَّهَا تَدْفَعُهُ عَنْ نَفْسِهَا، وَلَوْلَا ذَلِكَ لَقَوِيَ عَلَى مَسِيسِهَا، قَالَ اُسْتُحْسِنَ لِلسُّلْطَانِ أَنْ تُجْعَلَ فِي الْقُرْبِ مِنْهُمْ إذْ خَلَا بِهَا امْرَأَةٌ أَوْ نِسَاءٌ، فَإِنْ سَمِعْنَ امْتِنَاعَهَا فَأَمَرَ بِهَا فَرُبِطَتْ لَهُ وَشُدَّتْ وَزَجَرْنَهَا وَأَمَرْنَهَا أَنْ تَلِينَ لَهُ فِي ذَلِكَ، قَالَ ابْنُ حَبِيبٍ وَهُوَ عِنْدِي حَسَنٌ مِنْ الْحُكْمِ فِي مِثْلِهِ.
مَسْأَلَةٌ:
قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ مَنْ أَنْكَحَ ابْنَهُ بِنْتَ رَجُلٍ وَالِابْنُ سَاكِتٌ حَتَّى فَرَغَ الْأَبُ مِنْ النِّكَاحِ وَأَنْكَرَهُ، وَقَالَ لَمْ آمُرُهُ وَلَا أَرْضَى بِمَا صَنَعَ وَصَمْتِي لِعِلْمِي أَنَّهُ لَا يَلْزَمُنِي حَلِفٌ وَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلُهُ، قَالَ ابْنُ أَبِي زَيْدٍ فَإِنْ نَكَلَ الِابْنُ عَنْ الْيَمِينِ لَمْ يَلْزَمْهُ شَيْءٌ، وَإِنَّمَا كُلِّفَ الْيَمِينَ رَجَاءَ أَنْ يُقِرَّ بِصَنِيعِ أَبِيهِ فَيُؤْخَذُ بِإِقْرَارِهِ، فَهَذَا مِنْ السِّيَاسَةِ، وَفِي الْمَسْأَلَةِ خِلَافٌ مَشْهُورٌ.
مَسْأَلَةٌ:
إذَا بَاعَ أَمَتَهُ مِنْ ظَالِمٍ قَبْلَ دُخُولِ زَوْجِهَا بِهَا، فَمَنَعَ الظَّالِمُ زَوْجَهَا مِنْ الدُّخُولِ لَمْ يَلْزَمْهُ صَدَاقٌ، وَيَرُدُّهُ السَّيِّدُ إنْ قَبَضَهُ، اُنْظُرْ الطُّرَرَ لِابْنِ عَاتٍ.
مَسْأَلَةٌ:
إذَا ادَّعَتْ الْمَرْأَةُ عَلَى زَوْجِهَا أَنَّهُ طَلَّقَهَا وَأَنْكَرَ، فَأَقَامَتْ عَلَيْهِ شَاهِدًا وَاحِدًا فَطُولِبَ بِالْيَمِينِ عَلَى تَكْذِيبِهَا فَنَكَلَ عَلَى الْيَمِينِ، فَإِنَّهُ يُسْجَنُ حَتَّى يَحْلِفَ أَوْ يَطُولَ أَمْرُهُ، وَالطُّولُ سَنَةٌ، وَقِيلَ يُحْبَسُ أَبَدًا حَتَّى يَحْلِفَ أَوْ يُطَلِّقَ.
مَسْأَلَةٌ:
إذَا طَلَّقَ الْمَرِيضُ زَوْجَتَهُ ثُمَّ مَاتَ فَإِنَّهَا تَرِثُهُ لِأَنَّهُ يُتَّهَمُ أَنَّ قَصْدَهُ حِرْمَانُهَا مِنْ الْمِيرَاثِ، فَيُعَاقَبُ بِنَقِيضِ مَقْصُودِهِ.
مَسْأَلَةٌ:
وَإِذَا مَثَّلَ الرَّجُلُ بِزَوْجَتِهِ طَلُقَتْ عَلَيْهِ، وَالْمُثْلَةُ مَذْكُورَةٌ فِي بَابِ الْعِتْقِ.
مَسْأَلَةٌ:
وَمَنْ تَعَمَّدَ الْمَقَامَ عِنْدَ إحْدَى زَوْجَتَيْهِ شَهْرًا حَيْفًا لَمْ يُحَاسَبْ بِهِ، وَزُجِرَ عَنْ ذَلِكَ وَابْتَدَأَ الْعَدْلُ فَإِنْ عَادَ نُكِّلَ، وَحَيْثُ يُنَكَّلُ تَسْقُطُ شَهَادَتُهُ وَحَيْثُ لَا فَلَا.

.فَصْلٌ فِي مَسَائِلَ مِنْ الْبُيُوعِ:

مَسْأَلَةٌ:
إذَا بَاعَ النَّصْرَانِيُّ خَمْرًا مِنْ مُسْلِمٍ فَإِنَّهَا تُهْرَاقُ عَلَيْهِ، قَالَ سَحْنُونٌ: وَيُنْزَعُ الثَّمَنُ مِنْ النَّصْرَانِيِّ إنْ قَبَضَهُ، وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ إنْ قَبَضَهُ لَمْ يُنْزَعْ مِنْهُ.
مَسْأَلَةٌ:
وَإِنْ كَانَ الْبَائِعُ مُسْلِمًا وَبَاعَهَا مِنْ نَصْرَانِيٍّ أُرِيقَتْ، فَإِنْ فَاتَتْ بِيَدِ النَّصْرَانِيِّ، فَقَالَ مَالِكٌ: لَا يُؤْخَذُ الثَّمَنُ مِنْهُ يَعْنِي مِنْ النَّصْرَانِيِّ.
وَقَالَ أَيْضًا: يُؤْخَذُ مِنْهُ وَيُتَصَدَّقُ بِهِ، وَاسْتَحَبَّهُ ابْنُ الْقَاسِمِ.
وَقَالَ ابْنُ الْمَوَّازِ لَا يُؤْخَذُ مِنْهُ، فَإِنْ أَخَذَ الْمُسْلِمُ الثَّمَنَ رُدَّ عَلَى النَّصْرَانِيِّ وَأُغْرِمَ خَمْرًا مِثْلَهَا فَتُهْرَاقُ، فَإِنْ بَاعَهَا الْمُسْلِمُ مِنْ مُسْلِمٍ أُرِيقَتْ وَيُرَدُّ الثَّمَنُ لِلْمُبْتَاعِ، وَإِنْ فَاتَتْ تُصُدِّقَ بِالثَّمَنِ.
مَسْأَلَةٌ:
وَيُمْنَعُ الْمُسْلِمُونَ مِنْ بَيْعِ آلَةِ الْحَرْبِ يَعْنِي مِنْ الْحَرْبِيِّينَ، وَيَلْحَقُ بِذَلِكَ بَيْعُ الْخَشَبَةِ لِمَنْ يَعْمَلُ مِنْهَا صَلِيبًا، وَبَيْعُ الدَّارِ لِمَنْ يَعْمَلُهَا كَنِيسَةً وَالْعِنَبُ لِمَنْ يَعْصِرُهُ خَمْرًا.
مَسْأَلَةٌ:
وَيُؤَدَّبُ مَنْ يَبِيعُ آلَاتِ اللَّهْوِ وَيُفْسَخُ الْبَيْعُ وَيُكْسَرُ وَيُؤَدَّبُ أَهْلُ ذَلِكَ، وَكَذَلِكَ الصُّوَرُ الْمَنْهِيُّ عَنْ اتِّخَاذِهَا إذَا كَانَ مَا فِيهَا تَبَعًا لَهَا، فَإِنْ كَانَتْ تَبَعًا كَاَلَّتِي فِي الثِّيَابِ وَالْبُسُطِ جَازَ.
مَسْأَلَةٌ:
وَأَمَّا الْبَنَاتُ الَّتِي يَلْعَبُ بِهَا الْجَوَارِي، فَقَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ: أَرْخَصَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي بَيْعِهَا. وَعَنْ مَالِكٍ: كَرَاهَتُهُ، وَرَأَى أَنَّ الرُّخْصَةَ فِي اللَّعِبِ بِهَا إلَّا أَنْ تَكُونَ تَتَّخِذُ مَتْجَرًا، وَذَلِكَ إذَا لَمْ يَكُنْ مَخْرُوطَةً مُصَوِّرَةً مُخَلَّقَةً مُجَسَّدَةً لَهَا أَعْضَاءٌ، وَالْمُرَخَّصُ فِيهِ أَنْ يَكُونَ مَنْقُوشًا فِيهَا بِالْمِدَادِ صُورَةُ الْوَجْهِ، وَكَذَلِكَ يُكْرَهُ بَيْعُ الدَّوَّامَاتِ وَشَبَهِهَا لِلصِّبْيَانِ، اُنْظُرْ الْمُتَيْطِيَّةَ. قَالَ ابْنُ رُشْدٍ: إنَّمَا كُرِهَ ذَلِكَ لِأَنَّهُ لَا يَدْرِي هَلْ أَذِنَ لَهُمْ آبَاؤُهُمْ فِي ذَلِكَ أَمْ لَا؟ وَلَوْ عُلِمَ رِضَا آبَائِهِمْ بِذَلِكَ لَمْ يَكُنْ لِلْكَرَاهَةِ وَجْهٌ.
مَسْأَلَةٌ:
قَالَ مَالِكٌ: يُنْهَى الَّذِي يَتَلَقَّى السِّلَعَ، فَإِنْ عَادَ أُدِّبَ وَلَا يُنْزَعُ مِنْهُ شَيْءٌ، وَرَوَى ابْنُ وَهْبٍ عَنْهُ: تُنْزَعُ وَتُبَاعُ لِأَهْلِ السُّوقِ وَالرِّبْحُ بَيْنَهُمْ، وَالْوَضِيعَةُ عَلَى الْمُتَلَقِّي لِئَلَّا يَسْتَبِدَّ أَهْلُ الْقُوَّةِ بِالسِّلَعِ دُونَ الضُّعَفَاءِ.
مَسْأَلَةٌ:
قَالَ سَحْنُونٌ: سَأَلْت ابْنَ الْقَاسِمِ عَنْ الَّذِي يَبِيعُ عَلَى بَيْعِ أَخِيهِ، أَوْ يَخْطُبُ عَلَى خِطْبَتِهِ، أَوْ يَتَلَقَّى الرُّكْبَانَ فَيَشْتَرِي مِنْهُمْ، أَوْ بَيْعَ حَاضِرٍ لِبَادٍ، قَالَ أَمَّا إذَا بَاعَ عَلَى بَيْعِ أَخِيهِ أَوْ خَطَبَ عَلَى خِطْبَةِ أَخِيهِ لَمْ أَرَ أَنْ يُفْسَخَ، وَرَأَيْت أَنْ يُؤَدَّبَ صَاحِبُ هَذَا الْبَيْعِ، وَأَمَّا أَنْ يَبِيعَ حَاضِرٌ لِبَادٍ فَأَرَى أَنْ يَمْضِيَ الْبَيْعُ وَيُؤَدَّبُ أَهْلُ ذَلِكَ.
وَرَوَى ابْنُ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ يُفْسَخُ وَيُؤَدَّبُ الْحَاضِرُ إذَا بَاعَ لِلْبَادِي، زَادَ فِي رِوَايَةِ عِيسَى: إذَا كَانَ مُعْتَادًا.
وَقَالَ ابْنُ وَهْبٍ يُزْجَرُ وَلَا يُؤَدَّبُ وَإِنْ كَانَ عَالِمًا بِمَكْرُوهِهِ، وَأَمَّا إنْ تَلْقَى الرُّكْبَانَ فَأَرَى أَنْ تُعْرَضَ السِّلْعَةُ عَلَى أَرْبَابِهَا بِالثَّمَنِ، فَإِنْ أَخَذُوهَا بِهِ وَإِلَّا رَدُّوهَا عَلَى بَائِعِهَا، وَأَدَّبَهُ ضَرْبًا وَجِيعًا إلَّا أَنْ يُعْذَرَ بِجَهَالَةٍ. وَاخْتُلِفَ إذَا لَمْ يَقْصِدْ التَّلَقِّي وَإِنَّمَا مَرُّوا عَلَى بَابِهِ، فَقِيلَ: بِالْمَنْعِ، وَقِيلَ: يَجُوزُ فِي عَدَمِ الْقَصْدِ، مِنْ شَرْحِ الْجَلَّابِ.
مَسْأَلَةٌ:
وَالنَّجَشُ فِي الْبَيْعِ مَمْنُوعٌ حَرَامٌ وَيَأْثَمُ فَاعِلُهُ، وَإِنْ كَانَ مَعْرُوفًا بِذَلِكَ أُدِّبَ وَهُوَ أَنْ يُعْطِيَ الرَّجُلُ ثَمَنًا فِي سِلْعَةٍ لَيْسَ لَهُ قَصْدٌ فِي شِرَائِهَا، بَلْ لِيَقْتَدِيَ بِهِ وَيَغُرَّ غَيْرَهُ.
مَسْأَلَةٌ:
وَمِنْ غَشَّ فِي سِلْعَتِهِ أَهْلَ السُّوقِ، فَقَالَ مَالِكٌ: أَرَى أَنْ يَتَصَدَّقَ بِهَا عَلَى الْمَسَاكِينِ بِغَيْرِ ثَمَنٍ، إذَا كَانَ الْبَائِعُ هُوَ الَّذِي غَشَّ فِي السِّلْعَةِ، قِيلَ لَهُ: فَالزَّعْفَرَانُ وَالْمِسْكُ أَتَرَاهُ مِثْلُهُ؟ قَالَ: مَا أَشْبَهَهُ بِذَلِكَ إذَا كَانَ هُوَ الَّذِي غَشَّهُ فَأَرَاهُ مِثْلَ اللَّبَنِ الْمَغْشُوشِ، يَعْنِي يَتَصَدَّقُ بِهِ.
وَسُئِلَ ابْنُ الْقَاسِمِ عَنْ هَذَا فَقَالَ: أَمَّا الشَّيْءُ الْخَفِيفُ مِنْ ذَلِكَ فَلَا أَرَى بَأْسًا، وَأَمَّا إذَا كَثُرَ ثَمَنُهُ فَلَا أَرَى ذَلِكَ وَعَلَى صَاحِبِهِ الْعُقُوبَةُ، لِأَنَّهُ قَدْ تَذْهَبُ فِي ذَلِكَ أَمْوَالٌ عِظَامٌ، وَأَفْتَى ابْنُ الْقَطَّانِ الْقُرْطُبِيُّ فِي الْمَلَاحِمِ الرَّدِيئَةِ النَّسْجِ بِالْإِحْرَاقِ بِالنَّارِ، وَأَفْتَى ابْنُ عَتَّابٍ بِتَقْطِيعِهَا خِرَقًا وَإِعْطَائِهَا لِلْمَسَاكِينِ إذَا تَقَدَّمَ إلَى مُسْتَعْمَلِيهَا فَلَمْ يَنْتَهُوا عَنْ ذَلِكَ.
مَسْأَلَةٌ:
وَقَدْ شَدَّدَ مَالِكٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ الْكَرَاهَةَ فِي التِّجَارَةِ إلَى أَرْضِ الْحَرْبِ لِجَرْيِ أَحْكَامِ الْمُشْرِكِينَ عَلَيْهِمْ.
قَالَ ابْنُ حَبِيبٍ: وَأُخِذَ مِنْ قَوْلِ مَالِكٍ وَأَصْحَابِهِ: أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الْخُرُوجُ إلَيْهَا تَاجِرًا وَلَا غَيْرَهُ إلَّا الْمُفَادَاةُ، وَيَنْبَغِي أَنْ يَمْنَعَ الْإِمَامُ النَّاسَ مِنْ ذَلِكَ، وَيُشَدِّدَ فِي ذَلِكَ وَيَجْعَلَ الرَّصْدَ فِيهِ، وَقَدْ اتَّفَقُوا أَنَّهُ إذَا كَانَ يَعْلَمُ أَنَّهُ تَجْرِي عَلَيْهِ أَحْكَامُ الْكُفَّارِ فَإِنَّ ذَلِكَ جُرْحَةٌ فِيهِ، وَالْخِلَافُ إذَا لَمْ يُعْلَمْ لِمَا فِيهِ مِنْ الذِّلَّةِ وَالصَّغَارِ، وَقَدْ أَوْجَبَ ابْنُ الْقَاسِمِ عَلَيْهِ الْعُقُوبَةَ الشَّدِيدَةَ، لِأَنَّ الْخُرُوجَ إلَيْهِمْ لِلتِّجَارَةِ مِنْ الْكَبَائِرِ عَلَى مَا ذَهَبَ إلَيْهِ سَحْنُونٌ.
مَسْأَلَةٌ:
وَلَا يُبَاعُ مِنْ الْحَرْبِيِّينَ آلَةُ الْحَرْبِ مِنْ دِرْعٍ أَوْ سِلَاحٍ أَوْ سُرُوجٍ أَوْ غَيْرِهِمَا مِمَّا يَتَّقُونَ بِهِ فِي الْحَرْبِ، قَالَ الْحَسَنُ: مَنْ حَمَلَ إلَيْهِمْ طَعَامًا فَهُوَ فَاسِقٌ، وَمَنْ حَمَلَ إلَيْهِمْ سِلَاحًا فَلَيْسَ بِمُؤْمِنٍ، أَيْ لَيْسَ بِكَامِلِ الْإِيمَانِ: وَقَالَ سَحْنُونٌ: وَمَنْ أَهْدَى إلَيْهِمْ سِلَاحًا فَهُوَ شَرِيكُهُمْ فِي جِهَادِ الْمُسْلِمِينَ، وَمَنْ بَاعَ مِنْهُمْ سِلَاحًا فَكَأَنَّمَا أَخَذَ رِشْوَةً عَلَى دِمَاءِ الْمُسْلِمِ، قَالَ ابْنُ حَبِيبٍ لَا يُبَاعُ مِنْهُمْ السِّلَاحُ فِي هُدْنَةٍ وَلَا فِي غَيْرِ هُدْنَةٍ، وَأَمَّا الطَّعَامُ فَفِي الْهُدْنَةِ يَجُوزُ قَالَهُ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنِ الْمَاجِشُونِ، وَأَمَّا عَلَى قَوْلِ ابْنِ الْقَاسِمِ فَإِنْ بِيعَ مِنْهُمْ الطَّعَامُ فَإِنَّهُ يُبَاعُ عَلَيْهِمْ مِنْ مُسْلِمٍ، وَقِيلَ: يُفْسَخُ.
مَسْأَلَةٌ:
وَإِذَا ابْتَاعَ الذِّمِّيُّ أَوْ الْمُعَاهَدُ مُسْلِمًا أَوْ مُصْحَفًا، أُجْبِرَ عَلَى بَيْعِهِ مِنْ مُسْلِمٍ وَلَا يُنْقَضُ شِرَاؤُهُ.
وَقَالَ ابْنُ حَبِيبٍ: يُفْسَخُ الْبَيْعُ وَيُعَاقَبُ، وَقَالَ فِي مُخْتَصَرِ مَا لَيْسَ فِي الْمُخْتَصَرِ، وَلَوْ بَاعَهُ الذِّمِّيُّ نُقِضَ الْبَيْعُ وَإِنْ تَدَاوَلَهُ الْأَمْلَاكُ، قَالَ اللَّخْمِيُّ: عُقُوبَةٌ لَهُ.
مَسْأَلَةٌ:
وَتَفْرِيقُ الْأُمِّ مِنْ وَلَدِهَا بِالْبَيْعِ لَا يَجُوزُ مَا لَمْ يَسْتَغْنِ عَنْ أُمِّهِ، فَإِنْ وَقَعَ ذَلِكَ فَقِيلَ يُفْسَخُ وَيُعَاقِبَانِ، لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ ذَلِكَ وَفِيهِ مِنْ الْخِلَافِ مَا هُوَ مَذْكُورٌ فِي مَحِلِّهِ.
مَسْأَلَةٌ:
وَقَالَ سَحْنُونٌ فِي الَّذِي يَبِيعُ كَرْمَهُ مِنْ النَّصْرَانِيِّ أَنَّهُ يُبَاعُ عَلَيْهِ بِمَنْزِلَةِ شِرَائِهِ الْعَبْدَ الْمُسْلِمِ، قَالَ أَشْهَبُ: اُنْظُرْ فِي كِتَابِ السُّلْطَانِ مِنْ الْبَيَانِ وَالتَّحْصِيلِ.
مَسْأَلَةٌ:
قَالَ عِيسَى وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الذِّمَّةِ فَرَّقُوا بَيْنَ الْأَوْلَادِ وَالْأُمَّهَاتِ مَنَعَهُمْ السُّلْطَانُ مِنْ ذَلِكَ، لِأَنَّهُ تَظَالُمٌ فَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ بِحُكْمِ الْإِسْلَامِ، وَرَوَى عِيسَى عَنْ ابْنِ الْقَاسِمِ أَيْضًا فِي الْبَهَائِمِ وَأَوْلَادِهَا: مِثْلَ أَوْلَادِ بَنِي آدَمَ، وَاخْتُلِفَ فِي تَفْرِقَةِ الْأَبِ مِنْ وَلَدِهِ، وَمَنْعُ التَّفْرِقَةِ أَحْسَنُ، وَلَمْ يُخْتَلَفْ فِي جَوَازِ التَّفْرِقَةِ فِيمَا عَدَا الْأَبَوَيْنِ الْأَقَارِبِ كَالْجَدِّ وَالْجَدَّةِ وَالْخَالِ وَالْخَالَةِ وَالْعَمِّ وَالْعَمَّةِ.
مَسْأَلَةٌ:
فَإِذَا جَاعَ الرَّجُلُ وَبَاعَ امْرَأَتَهُ وَأَقَرَّتْ بِذَلِكَ حَتَّى وَطِئَهَا الْمُشْتَرِي أَنَّهُمَا يُعْذَرَانِ بِالْجُوعِ، وَتَكُونُ تَطْلِيقَةً بَائِنَةً حِينَ وَطِئَهَا غَيْرُهُ، وَلَوْ لَمْ يَجُعْ لَرَأَيْت أَنْ يُدْرَأَ الْحَدُّ عَنْهُمَا بِالشُّبْهَةِ، قَالَهُ فَضْلُ بْنُ سَلَمَةَ يَعْنِي أَنَّهُ لَا يَكُونُ لَهَا صَدَاقٌ عَلَى قَوْلِ ابْنِ الْقَاسِمِ لِشُبْهَةِ الشِّرَاءِ حِينَ أُسْقِطَ الْحَدُّ عَنْهُمَا، وَأَنَّهُ لِقَوْلٍ بَعِيدٍ إلَّا أَنْ يَكُونَ ذَهَبَ فِي ذَلِكَ إلَى أَنَّهُ إنَّمَا بَاعَهَا فِي سَنَةِ الْمَجَاعَةِ عَلَى مَا قِيلَ: إنَّهُ لَا يُقْطَعُ مَنْ سَرَقَ فِي سَنَةِ الْمَجَاعَةِ.
وَذَكَرَ ابْنُ الْقَاسِمِ أَنَّ مَالِكًا لَمْ يَرَ الْعَمَلَ عَلَيْهِ، قَالَ أَصْبَغُ: وَلَسْت أَقُولُ بِهِ وَالْحَدُّ لَازِمٌ لَهُمَا وَلَا عُذْرَ لَهُمَا فِي ذَلِكَ بِجُوعٍ وَلَا غَيْرِهِ، وَأَرَاهَا بَائِنًا مِنْ زَوْجِهَا بِالثَّلَاثِ: لِأَنَّهَا كَالْمَوْهُوبَةِ، وَسَوَاءٌ وَطِئَهَا الْمُشْتَرِي أَوْ لَمْ يَطَأْهَا، إذَا كَانَ بَيْعُهَا عَزْمًا مِنْ زَوْجِهَا، وَكَذَلِكَ لَوْ زَوْجُهَا عَازِمًا عَلَى ذَلِكَ بَانَتْ مِنْهُ بِالثَّلَاثِ، وَطِئَهَا النَّاكِحُ أَوْ لَمْ يَطَأْهَا، غَيْرَ أَنَّ الْحَدَّ فِي النِّكَاحِ مَدْرُوءٌ عَنْهَا لِشُبْهَةِ النِّكَاحِ، لِأَنَّهَا بَانَتْ مِنْ زَوْجِهَا بِإِنْكَاحِهَا إيَّاهُ، فَوَقَعَ نِكَاحُهَا وَبَيْنُونَتُهَا مِنْ زَوْجِهَا مَعًا فَدَرَأَتْ شُبْهَةُ النِّكَاحِ عَنْهَا الْحَدَّ، وَيَرْجِعُ هَذَا الزَّوْجُ الثَّانِي عَلَيْهِ بِجَمِيعِ مَا أَصْدَقَهَا إلَّا رُبْعَ دِينَارٍ إذَا كَانَ جَاهِلًا، أَمَّا لَوْ عَلِمَ لَكَانَتْ عَلَيْهِ الْعُقُوبَةُ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَيْءٌ مِمَّا أَعْطَاهَا، وَلَا حَدَّ عَلَيْهِ لِلشُّبْهَةِ الْمَذْكُورَةِ.
وَكَذَلِكَ يَرْجِعُ مُبْتَاعُ الْمَرْأَةِ مِنْ زَوْجِهَا بِجَمِيعِ الثَّمَنِ، إنْ شَاءَ عَلَى الزَّوْجِ الْبَائِعِ وَإِنْ شَاءَ عَلَى الْمَرْأَةِ، وَلَا يَدْعُ غَيْرَهُ، وَلَوْ كَانَ عَالِمًا كَانَ عَلَيْهِ الْحَدُّ وَرَجَعَ بِالثَّمَنِ كُلِّهِ أَيْضًا.
مَسْأَلَةٌ:
لَوْ أَقَرَّ حُرٌّ لِرَجُلٍ أَنَّهُ مَمْلُوكُهُ فَبَاعَهُ الْمُقَرُّ لَهُ بِالرِّقِّ، وَاقْتَسَمَا الثَّمَنَ ثُمَّ مَاتَ الْبَائِعُ وَثَبَتَتْ حُرِّيَّةُ الْمُقِرِّ رَجَعَ الْمُبْتَاعُ عَلَى الْمُقِرِّ بِجَمِيعِ الثَّمَنِ عُقُوبَةً لَهُ.
مَسْأَلَةٌ:
إذَا أَخْرَجَ السَّيِّدُ عَبْدَهُ الصَّغِيرَ فَبَاعَهُ فِي غَيْرِ بَلَدِ الْأُمِّ وَثَبَتَ ذَلِكَ عِنْدَ الْحَاكِمِ، أَمَرَهُ الْحَاكِمُ بِالْخُرُوجِ إلَى مَوْضِعِ الصَّبِيِّ وَاسْتِرْجَاعِهِ إلَى أُمِّهِ، فَإِنْ أَبَى مِنْ الْخُرُوجِ أُدِّبَ بِالسَّوْطِ وَالسِّجْنِ، وَلَهُ أَنْ يُوَكِّلَ مَنْ يَنُوبُ عَنْهُ، فَإِنْ خِيفَ أَنْ يَتَغَيَّبَ إذَا خَرَجَ أَخَذَ بِحَمِيلٍ، فَإِنْ لَمْ يَأْتِ بِهِ سُجِنَ، وَقِيلَ: بَلْ يُسْجَنُ إلَى أَنْ يُحَضِّرَهُ، وَهَذَا إذَا كَانَتْ الْأُمُّ أَمَتُهُ، فَإِنْ كَانَتْ حُرَّةً فَقِيلَ عَلَيْهِ أَنْ يَخْرُجَ فِي طَلَبِهِ، وَقِيلَ: بَلْ يُقَالُ لِأُمِّهِ: اُخْرُجِي إلَيْهِ إنْ شِئْت، وَيَكْتُبُ لَهَا الْحَاكِمُ بِمَا ثَبَتَ عِنْدَهُ مِنْ أَنَّهَا أُمُّهُ، وَأَنْ يَحْمِلَهَا عَلَى مَا يَجِبُ لَهَا مِنْ زِيَارَتِهِ، قَالَ ابْنُ حَبِيبٍ وَيُؤَدَّبُ أَيْضًا بِمَا أَقْدَمَ عَلَيْهِ.
[مَسْأَلَةٌ اشْتَرَى رَجُلٌ مِنْ السِّمْسَارِ سِلْعَةً فَاسْتُحِقَّتْ مِنْ يَدِ الْمُشْتَرِي]
مَسْأَلَةٌ:
وَإِذَا اشْتَرَى رَجُلٌ مِنْ السِّمْسَارِ سِلْعَةً فَاسْتُحِقَّتْ مِنْ يَدِ الْمُشْتَرِي، أَوْ ظَهَرَ بِهَا عَيْبٌ فَلَا عُهْدَةَ عَلَى السِّمْسَارِ وَالتِّبَاعَةُ عَلَى رَبِّهَا، فَإِنْ لَمْ يَعْرِفْ كَانَتْ مُصِيبَةُ ذَلِكَ مِنْ الْمُشْتَرِي، قَالَ ابْنُ أَبِي زَمَنِينَ: فَإِذَا سُئِلَ السِّمْسَارُ عَنْ رَبِّ السِّلْعَةِ فَقَالَ: لَا أَعْرِفُهُ، حَلَفَ أَنَّهُ مَا يَعْرِفُهُ، كَذَا رَأَيْت لِلْكَثِيرِ مِنْ أَشْيَاخِنَا قَالَ: وَيَنْبَغِي عَلَى أُصُولِهِمْ إنْ نَكَلَ عَنْ الْيَمِينِ وَاسْتَرَابَ مِنْهُ السُّلْطَانُ أَنْ يُعَاقِبَهُ بِالسَّجْنِ عَلَى مَا يَرَاهُ.
مَسْأَلَةٌ:
وَإِذَا أَوْقَفَ الْجَارِيَةَ لِلْبَيْعِ وَقَالَ: إنَّمَا أَبِيعُهَا عُرْيَانَةً، وَأَنْزِعُ عَنْهَا هَذَا الْإِزَارَ الَّذِي عَلَيْهَا فَاشْتَرَاهَا الْمُبْتَاعُ عَلَى ذَلِكَ فَالْبَيْعُ جَائِزٌ، وَيُعْطِيه إيَّاهَا بِمَا يُوَارِيهَا ذَلِكَ الْإِزَارَ أَوْ غَيْرَهُ، وَإِنْ أَبَى مِنْ ذَلِكَ كُلِّفَ إيَّاهُ، فَإِنْ أَبَى فَالسَّوْطُ.
مَسْأَلَةٌ:
وَالْمَنْعُ مِنْ تَلَقِّي الرُّكْبَانِ وَتَأْدِيبِهِمْ عَلَى ذَلِكَ، وَالْمَنْعُ مِنْ الْحُكْرَةِ وَالتَّسْعِيرَةِ وَالْبَيْعِ بَعْدَ نِدَاءِ الْجُمُعَةِ وَشَبَهِ ذَلِكَ مِنْ الْبُيُوعِ الْفَاسِدَةِ يَطُولُ الْكِتَابُ بِذِكْرِهِ وَهُوَ مَشْهُورٌ مَعْلُومٌ.

.فَصْلٌ فِي مَسَائِلَ مِنْ بَابِ الْمِدْيَانِ:

مَسْأَلَةٌ:
وَإِذَا اتَّهَمَ الْحَاكِمُ الْمِدْيَانَ أَنَّهُ غَيَّبَ مَالًا أَطَالَ سَجْنَهُ، وَقَدْ رُوِيَ أَنَّهُ يُؤَدَّبُ، قَالَ سَحْنُونٌ: فَإِنْ قَالَ: أَنَا فَقِيرٌ وَلَيْسَ ظَاهِرُهُ كَذَلِكَ وَيَأْتِي بِشُهُودٍ عَلَى أَنَّهُ فَقِيرٌ، إلَّا أَنَّهُمْ لَمْ يُزَكُّوا فَإِنَّهُ يُسْجَنُ أَبَدًا حَتَّى تُزَكَّى شُهُودُهُ، وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهُ حَمِيلٌ.
مَسْأَلَةٌ:
قَالَ أَصْبَغُ فِي الْمُلِدِّ مِنْ الْخُصُومِ، وَذَكَرَ بِمَحْضَرِنَا عَنْ أَبِي الطَّاهِرِ بْنِ حَزْمٍ الْقَاضِي: أَنَّهُ عَلَّقَهُ عَلَى رَجُلٍ وَاحِدٍ، فَقِيلَ لِأَشْهَبَ أَتَرَى ذَلِكَ؟ فَقَالَ: أَمَّا الْمُلِدُّ الظَّالِمُ فَنَعَمْ، قَالَ ابْنُ رُشْدٍ: وَهَذَا كَمَا قَالَ، وَوَاجِبٌ عَلَى الْإِمَامِ أَنْ يَمْنَعَ مِنْ ذَلِكَ وَيُعَاقِبَ عَلَيْهِ بِمَا يُؤَدِّي إلَيْهِ اجْتِهَادُهُ.
مَسْأَلَةٌ:
وَرَوَى ابْنُ كِنَانَةَ عَنْ مَالِكٍ فِي الرَّجُلِ يُسْتَعْدَى عَلَى غَرِيمِهِ فِي دَيْنٍ لَهُ عَلَيْهِ، أَنَّهُ يُحْبَسُ لَهُ بِالْمَعْرُوفِ إلَّا أَنْ يَكُونَ مُعْدَمًا لَا شَيْءَ لَهُ فَلَا يُحْبَسُ، وَرَوَى ابْنُ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ: أَنَّهُ إذَا ثَبَتَ عِنْدَ الْقَاضِي اللَّدَدُ مِنْ الْغَرِيمِ فَإِنَّهُ يَحْبِسُهُ، وَيُؤَدَّبُ بِالضَّرْبِ الْمُوجِعِ وَذَلِكَ إذَا اتَّهَمَهُ أَنَّهُ خَبَّأَ مَالًا أَوْ غَيَّبَهُ، وَيَحْبِسُهُ أَبَدًا حَتَّى يُؤَدِّيَ أَوْ يَتَبَيَّنَ أَنَّهُ لَا مَالَ لَهُ وَقَالَ مَالِكٌ فِي الْمُدَوَّنَةِ لَا يُحْبَسُ الْحُرُّ وَلَا الْعَبْدُ فِي الدَّيْنِ إلَّا بِمِقْدَارِ مَا يَسْتَبْرِئُ أَمْرَهُ، فَإِذَا اتَّهَمَهُ بِأَنَّهُ خَبَّأَ مَالًا حَبَسَهُ وَإِلَّا خَلَّى سَبِيلَهُ.
مَسْأَلَةٌ:
وَقَالَ سَحْنُونٌ: لَا يُمَكَّنُ الرَّجُلُ مِنْ دُخُولِ امْرَأَتِهِ إلَيْهِ فِي الْحَبْسِ وَإِنْ كَانَ مَسْجُونًا فِي حَقِّهَا، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ السَّجْنِ التَّضْيِيقُ، وَلَا تَضْيِيقَ عَلَيْهِ مَعَ تَمْكِينِهِ مِنْ لَذَّتِهِ، وَلَوْ حُبِسَ الزَّوْجَانِ بِمَوْضِعٍ خَالٍ وَطَلَبَ الْغُرَمَاءُ أَنْ يُفَرَّقَ بَيْنَهُمَا، فَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ: ذَلِكَ لِلزَّوْجَيْنِ، وَاسْتَحْسَنَ مَا قَالَهُ سَحْنُونٌ فِيمَنْ كَانَ مَعْرُوفًا بِاللَّدَدِ.
مَسْأَلَةٌ:
فِي بَيْعِ مِلْكِ الْغَرِيمِ وَفِي الْمُتَيْطِيَّةِ: وَإِذَا أَثْبَتَ الطَّالِبُ مَالًا لِلْغَرِيمِ تُعَيِّنُهُ الْبَيِّنَةُ، وَحِيزَ عَنْهُ وَقَفَ الْغَرِيمُ عَلَى ذَلِكَ، فَإِنْ أَقَرَّ بِذَلِكَ الْمَالِ أَمَرَهُ الْحَاكِمُ بِبَيْعِهِ وَقَضَى دَيْنَهُ، فَإِنْ أَبَى ضَيَّقَ عَلَيْهِ بِالضَّرْبِ وَالسَّجْنِ حَتَّى يَبِيعَ، وَلَا يَبِيعُهُ الْقَاضِي كَبَيْعِهِ عَلَى الْمُفْلِسِ، لِأَنَّ الْمُفْلِسَ ضُرِبَ عَلَى يَدَيْهِ وَمُنِعَ مِنْ مَالِهِ فَلِذَلِكَ بِيعَ عَلَيْهِ وَهَذَا بِخِلَافِهِ، قَالَ الشَّيْخُ أَبُو بَكْرِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ: وَإِنْ أَنْكَرَ الْغَرِيمُ الْمِلْكَ وَعَجَزَ عَنْ الدَّفْعِ فِي شَهَادَةِ مَنْ شَهِدَ لَهُ بِالْمِلْكِ، فَقَالَ بَعْضُ الْمُوَثَّقِينَ: عِنْدِي أَنَّهُ يَبِيعُهُ عَلَيْهِ وَلَا يَضْطَرُّهُ إلَى بَيْعِ مَا يَنْتَفِي مِنْهُ.
مَسْأَلَةٌ:
وَفِي كِتَابِ مُحَمَّدٍ قَالَ مَالِكٌ: إذَا زَعَمَ الْغَرِيمُ أَنَّهُ أُصِيبَ مَالُهُ، وَشَهِدَ لَهُ شُهُودٌ أَنَّهُ مَا عِنْدَهُ شَيْءٌ أَرَى أَنْ يُسْجَنَ وَلَا يُعَجَّلَ سَرَاحُهُ مِنْ السِّجْنِ.
وَقَالَ ابْنُ الْمَاجِشُونِ: ولابد مِنْ سَجْنِ الْغَرِيمِ وَلَا يَتِمُّ التَّفْلِيسُ إلَّا بِهِ، وَإِنْ شَهِدَ أَنَّهُ لَا شَيْءَ عِنْدَهُ.
مَسْأَلَةٌ:
قَالَ اللَّخْمِيُّ وَالْمَعْرُوفُ مِنْ الْمَذْهَبِ أَنَّ الْغَرِيمَ مَحْمُولٌ عَلَى الْيَسَارِ مِنْ غَيْرِ اعْتِبَارٍ بِحَالِهِ وَلَا السَّبَبِ الْمُوجِبِ لِلدَّيْنِ.
مَسْأَلَةٌ:
قَالَ مَالِكٌ: مَنْ تَعَمَّدَ إتْلَافَ أَمْوَالِ النَّاسِ يُقَامُ مِنْ السُّوقِ، قَالَ أَبُو الْحَسَنِ: وَعَلَى هَذَا يُقَامُ لِلنَّاسِ كَمَا قِيلَ فِي السَّفِيهِ إذَا حُجِرَ عَلَيْهِ.
مَسْأَلَةٌ:
وَإِذَا زَعَمَ الطَّالِبُ أَنَّ فِي مَسْكَنِ غَرِيمِهِ وَفَاءَ حَقِّهِ، قَالَ ابْنُ سَهْلٍ فِي الْأَحْكَامِ: وَقَدْ شَاهَدْت الْفُتْيَا وَالْحُكْمَ بِطُلَيْطُلَةَ، إذْ دَعَا الطَّالِبُ إلَى تَفْتِيشِ مَسْكَنِ الْمَطْلُوبِ عِنْدَ ادِّعَائِهِ الْعُدْمَ أَنْ يُفَتَّشَ مَسْكَنُهُ، فَمَا أُلْقِيَ فِيهِ مِنْ مَتَاعِ الرَّجُلِ بِيعَ عَلَيْهِ وَأُنْصِفَ الطَّالِبُ، لَا يَخْتَلِفُ فُقَهَاؤُهُمْ فِي ذَلِكَ، وَكُنْت أُنْكِرُهُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَاسْتُبْصِرُوا فِيهِ وَلَمْ يَرْجِعُوا عَنْهُ فَسَأَلْت ابْنَ عَتَّابٍ عَنْهُ فَأَنْكَرَهُ وَلَمْ يَرَهُ، وَكَذَلِكَ أَنْكَرَهُ ابْنُ مَالِكٍ وَقَالَ لِي: أَرَأَيْت إنْ كَانَ الَّذِي يُلْقَى فِي بَيْتِهِ وَدَائِعُ؟ فَقُلْت: ذَلِكَ مَحْمُولٌ عِنْدَهُمْ عَلَى أَنَّهُ مِلْكُهُ حَتَّى يَثْبُتَ خِلَافُهُ، فَقَالَ: يَلْزَمُ إذًا تَوْقِيفُهُ وَالِاسْتِثْنَاءُ بِهِ حَتَّى يَعْلَمَ هَلْ لَهُ طَالِبٌ أَمْ لَا؟ وَأَعْلَمْت ابْنَ الْقَطَّانِ بِذَلِكَ فَقَالَ لِي: مَا يَبْعُدُ وَلَمْ يُنْكِرْهُ وَأَنَا أَرَاهُ حَسَنًا فِيمَنْ ظَاهِرُهُ الْإِلْدَادُ وَالْمَطْلُ وَاسْتِسْهَالُ الْكَذِبِ.
مَسْأَلَةٌ:
وَسُئِلَ اللَّخْمِيُّ عَنْ رَجُلٍ ادَّعَى عَلَى آخَرَ بِمَالٍ طَائِلٍ، فَأَنْكَرَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فَأَخْرَجَ الْمُدَّعِي صَحِيفَةً مَكْتُوبًا فِيهَا إقْرَارُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِدَعْوَى الْمُدَّعِي أَنَّهَا بِخَطِّ الْمَطْلُوبِ فَأَنْكَرَ ذَلِكَ، وَلَمْ يُوجَدْ مَنْ يَشْهَدُ عَلَيْهِ، فَطَلَبَ الْمُدَّعِي عَلَى أَنْ يُجْبَرَ الْمَطْلُوبُ، عَلَى أَنْ يَكْتُبَ بِحَضْرَةِ الْعُدُولِ وَيُقَابِلُوا مَا كَتَبَهُ بِمَا أَظْهَرَهُ الْمُدَّعِي.
فَأَفْتَى اللَّخْمِيُّ: بِأَنَّهُ يُجْبَرُ عَلَى ذَلِكَ، وَعَلَى أَنَّهُ يُطِيلُ مَا يَكْتُبُ طُولًا لَا يُمْكِنُ أَنْ يَسْتَعْمِلَ مَعَهُ خَطًّا غَيْرَ خَطِّهِ.
وَأَفْتَى عَبْدُ الْحَمِيدِ بْنُ الصَّائِغِ: أَنَّهُ لَا يُجْبَرُ عَلَى ذَلِكَ، وَاحْتَجَّ الْمَازِرِيُّ لِقَوْلِ عَبْدِ الْحَمِيدِ بِأَنَّ إلْزَامَهُ بِذَلِكَ كَإِلْزَامِهِ إحْضَارَ بَيِّنَةٍ تَشْهَدُ عَلَيْهِ بِمَا قَالَهُ خَصْمُهُ، وَأَشَارَ اللَّخْمِيُّ إلَى الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا بِأَنَّ الْبَيِّنَةَ هُوَ يَقْطَعُ بِكَذِبِهَا، فَلَا يَلْزَمُهُ أَنْ يَسْعَى فِي أَمْرٍ يَقْطَعُ بِبُطْلَانِهِ، وَأَمَّا خَطُّهُ فَهُوَ صَادِرٌ عَنْهُ بِإِقْرَارِهِ، وَالْعُدُولُ يُقَابِلُونَ مَا يَكْتُبُهُ الْآنَ بِمَا يُحْضِرُهُ الْمُدَّعِي وَيَشْهَدُونَ بِمُوَافَقَتِهِ وَمُخَالَفَتِهِ.
مَسْأَلَةٌ:
وَإِذَا تَغَيَّبَ الْخَصْمُ عَنْ حُضُورِ مَجْلِسِ الْحُكْمِ وَاخْتَفَى فِي دَارِهِ فَالْحُكْمُ فِي ذَلِكَ مَذْكُورٌ فِي بَابِ الْقَضَاءِ بِالنُّكُولِ عَنْ مَجْلِسِ الْحُكْمِ.
مَسْأَلَةٌ:
لَا يُؤَاجَرُ الْغَرِيمُ فِي الدَّيْنِ، وَفَصَّلَ اللَّخْمِيُّ فَقَالَ: إنْ كَانَ الْغَرِيمُ تَاجِرًا فَلَا يُؤَاجَرُ فِيمَا عَلَيْهِ، قَالَ وَعَلَى هَذَا تَكَلَّمَ مَالِكٌ، وَإِنْ كَانَ صَانِعًا فَدَايَنَ لِيَعْمَلَ وَيَقْضِيَ مِنْ عَمَلِهِ، فَعُطِّلَ أُجْبِرَ عَلَى الْعَمَلِ وَإِنْ أَلَدَّ اُسْتُؤْجِرَ فِي صَنْعَتِهِ تِلْكَ.
مَسْأَلَةٌ:
إذَا طَلَبَ رَجُلٌ دَيْنَهُ مِنْ رَجُلٍ، فَاسْتَظْهَرَ الْمَطْلُوبَ بِالْعَقْدِ الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ وَقَالَ: دَفَعْت الْحَقَّ لِلطَّالِبِ وَأَخَذْت عَقْدِي، وَجَحَدَ الطَّالِبُ وَادَّعَى أَنَّهُ سَقَطَ مِنْهُ، فَالْحُكْمُ فِي ذَلِكَ مَذْكُورٌ فِي بَابِ الْقَضَاءِ بِشَهَادَةٍ عَلَى الْوَثِيقَةِ اسْتِيفَاءَ الْحَقِّ، وَسَنَذْكُرُ بَعْضَ مَسَائِلِ الْمِدْيَانِ فِي الْكَلَامِ عَلَى حَبْسِ الْمُمْتَنِعِ مِنْ أَدَاءِ الْحَقِّ.
تنبيه:
وَلَمَّا كَانَ الْحَبْسُ يَتَنَوَّعُ بِحَسَبِ الْحُقُوقِ وَالْجِنَايَاتِ أَفْرَدْنَا لِلْكَلَامِ عَلَيْهِ فَصْلًا وَأَضَفْنَا إلَيْهِ مَسَائِلَ مِنْ هَذَا الْبَابِ.

.فَصْلٌ فِيمَا وَقَعَ فِي بَابِ الْحَمَالَةِ:

مَسْأَلَةٌ:
إذَا اُتُّهِمَ حَمِيلُ الْوَجْهِ بِمَعْرِفَةِ مَكَانِ الْمَطْلُوبِ وَحَلَفَ أَنَّهُ مَا قَصَّرَ فِي طَلَبِهِ وَلَا دَلَّسَ، فَإِنَّهُ يُحْبَسُ عَلَى قَدْرِ مَا يَرَاهُ الْإِمَامُ، قَالَ الشَّيْخُ أَبُو الْحَسَنِ: إذَا قَوِيَتْ الدَّلَائِلُ فِي تُهْمَتِهِ بِمَعْرِفَةِ مَكَانِهِ وَأَنَّهُ لَهَى عَنْ طَلَبِهِ، وَفَرَّطَ فِي إحْضَارِهِ لَزِمَهُ غُرْمُ مَا عَلَيْهِ بِالتَّفْرِيطِ.
مَسْأَلَةٌ:
إذَا أَرَادَ الْغَرِيمُ سَفَرًا فَتَعَلَّقَ بِهِ صَاحِبُ الْحَقِّ، وَقَالَ: أَخَافُ أَنْ يَحِلَّ الْأَجَلُ وَأَنْت غَائِبٌ، وَطَلَبَ مِنْهُ حَمِيلًا فَإِنَّ الْإِمَامَ يَنْظُرُ فِي ذَلِكَ، فَإِنْ رَأَى أَنَّ الْأَجَلَ يَحِلُّ قَبْلَ قُدُومِهِ لِبُعْدِ الْمَكَانِ أَمَرَهُ بِالْحَمِيلِ وَإِلَّا لَمْ يَلْزَمْهُ حَمِيلٌ، وَأُحْلِفَ بِاَللَّهِ مَا أَرَادَ سَفَرًا إلَّا سَفَرَ مِثْلِ مَا يَخْرُجُ النَّاسُ إلَيْهِ فِيمَا يَزْعُمُ مِنْ ذَلِكَ وَخَلَّى سَبِيلَهُ.

.فَصْلٌ وَوَقَعَ فِي بَابِ الرَّهْنِ مَسَائِلُ:

مِنْهَا مَسْأَلَةٌ:
إذَا رَهَنَ رَجُلٌ فِيمَا عَلَيْهِ رَهْنًا فَعَلَيْهِ تَسْلِيمُهُ، وَيَجْبُرُهُ الْقَاضِي عَلَى دَفْعِ الرَّهْنِ وَيَحْبِسُهُ حَتَّى يَدْفَعَ ذَلِكَ، اُنْظُرْ ابْنَ عَبْدِ السَّلَامِ.
مَسْأَلَةٌ:
لَوْ دَفَعَ الْمُرْتَهِنُ إلَى الرَّاهِنِ رَهْنَهُ ثُمَّ جَاءَ بَعْدَ ذَلِكَ، فَقَالَ أَعْطَيْته رَهْنَهُ قَبْلَ أَنْ يُوفِيَنِي حَقِّي، فَقَالَ مَالِكٌ فِي الْعُتْبِيَّةِ: أَرَى أَنَّهُ يَحْلِفُ الرَّاهِنُ وَيَسْقُطُ عَنْهُ مَا ادَّعَى رَبُّ الدَّيْنِ، وَكَذَلِكَ إنْ أَنْكَرَ الْمُرْتَهِنُ أَنْ يَكُونَ قَبَضَ مِنْهُ شَيْئًا مِنْ حَقِّهِ، وَقَالَ: دَفَعْت إلَيْهِ الرَّهْنَ عَلَى أَنْ يُوفِيَنِي حَقِّي فَلَمْ يَفْعَلْ، وَفِي نَوَازِلِ سَحْنُونٍ أَنَّهُ إنْ قَامَ عَلَيْهِ بِقُرْبِ مَا دَفَعَ الرَّهْنَ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ.
مَسْأَلَةٌ:
وَإِذَا أَخَذَ رَبُّ الدَّيْنِ مِنْ الْغَرِيمِ رَهْنًا بِهِ ثُمَّ وُجِدَ فِي يَدِ الرَّاهِنِ، وَقَالَ الْمُرْتَهِنُ: إنَّهُ سَقَطَ مِنِّي وَلَمْ أَدْفَعْهُ إلَيْهِ، كَانَ الْقَوْلُ قَوْلُهُ إذَا كَانَ قِيَامُهُ عَلَيْهِ بِالْقُرْبِ.
مَسْأَلَةٌ:
إذَا دَفَعَ الْغَرِيمُ دَيْنًا وَطَلَبَ رَهْنَهُ، فَجَاءَ الْمُرْتَهِنُ بِهِ فَقَالَ: لَيْسَ هَذَا رَهْنِي، لِأَنَّ دَيْنَك أَلْفٌ وَرَهَنْتُك مَا يُسَاوِيه، وَهَذَا لَا يُسَاوِي مِائَةً، قَالَ أَصْبَغُ: إذَا تَبَايَنَ هَكَذَا رَأَيْت الْقَوْلَ قَوْلَ الرَّاهِنِ؛ لِأَنَّهُ ادَّعَى مَا يُشْبِهُ.
وَقَالَ أَشْهَبُ الْقَوْلُ قَوْلُ الْمُرْتَهِنِ.
وَفِي مُخْتَصَرِ الْوَاضِحَةِ: أَنَّ قَوْلَ أَشْهَبَ شَاذٌّ مُنْحَرِفٌ عَنْ الْقِيَاسِ.
مَسْأَلَةٌ:
وَالرَّهْنُ كَالشَّاهِدِ عَلَى مَبْلَغِ الدَّيْنِ، وَالْمَسْأَلَةُ مَذْكُورَةٌ فِي بَابِ الْقَضَاءِ بِشَهَادَةِ الرَّهْنِ عَلَى مَبْلَغِ الدَّيْنِ.
مَسْأَلَةٌ:
وَمَنْ رَهَنَ دَيْنًا لَهُ عَلَى رَجُلٍ فلابد مِنْ جَمْعِ الرَّاهِنِ بَيْنَ الْمُرْتَهِنِ. وَمَنْ عَلَيْهِ الدَّيْنُ الْمَرْهُونُ لِيُقِرَّ بِالدَّيْنِ وَيَلْزَمَ أَنْ لَا يَدْفَعَ ذَلِكَ إلَّا بَعْدَ تَخْلِيصِ الْمُرْتَهِنِ بِحَقِّهِ، فَإِنْ دَفَعَ الدَّيْنَ لِلرَّاهِنِ تَعَدِّيًا غَرِمَ الدَّيْنَ ثَانِيًا لِأَنَّهُ أَتْلَفَهُ عَلَى الْمُرْتَهِنِ.
مَسْأَلَةٌ:
وَسُئِلَ أَشْهَبُ عَنْ رَجُلٍ أَتَى مَكَّةَ وَقَصْدَ إلَى زَمْزَمَ، فَوَجَدَ رَجُلًا مَعَهُ قَدَحٌ فَقَالَ: نَاوِلْنِي قَدَحَك هَذَا، فَقَالَ لَهُ: إنِّي أَخَافُ عَلَيْهِ، فَقَالَ: هَذَا كِسَائِي عِنْدَك حَتَّى أَعُودَ إلَيْك بِهِ، فَوَضْعَ الْكِسَاءَ وَأَخَذَ الْقَدَحَ ثُمَّ رَجَعَ فَلَمْ يَجِدْ الرَّجُلَ، قَالَ: لَوْ أَتَى السُّلْطَانَ حَتَّى يَأْمُرَهُ إنْ كَانَ صَادِقًا أَنْ يَبِيعَ الْقَدَحَ وَيَقْبِضَ ثَمَنَهُ مِنْ ثَمَنِ الثَّوْبِ، قِيلَ لَهُ: هُوَ صَادِقٌ وَهَذَا صَحِيحٌ، أَفَلَا يَقْبِضُ دُونَ السُّلْطَانِ؟ قَالَ: لَا، قَالَ: وَيَأْمُرُهُ السُّلْطَانُ، قَالَ نَعَمْ يَأْمُرُهُ مِنْ غَيْرِ حُكْمٍ عَلَى الْغَائِبِ وَيَقُولُ لَهُ: إنْ كُنْت صَادِقًا فَافْعَلْ، فَإِنْ جَاءَ الرَّجُلُ كَانَ عَلَى خُصُومَتِهِ، قَالَ ابْنُ رُشْدٍ: هَذِهِ مَسْأَلَةٌ صَحِيحَةٌ عَلَى أُصُولِهِمْ، فَإِنْ بَاعَ الْقَدَحَ بِأَمْرِ السُّلْطَانِ وَقَبَضَ ثَمَنَهُ مِنْ ثَمَنِ كِسَائِهِ، فَقَدِمَ صَاحِبُ الْقَدَحِ بِالْكِسَاءِ وَأَقَرَّ بِمَا قَالَ الْبَائِعُ الَّذِي بَاعَهُ بِأَمْرِ السُّلْطَانِ، لَمْ يَكُنْ لَهُ إلَّا مَا بَاعَ بِهِ الْقَدَحَ لِبَيْعِهِ إيَّاهُ بِأَمْرِ السُّلْطَانِ، وَلَوْ بَاعَهُ بِغَيْرِ أَمْرِهِ كَانَتْ لَهُ قِيمَتُهُ وَهَذِهِ سِيَاسَةٌ وَلَيْسَتْ بِحُكْمٍ.

.فَصْلٌ وَوَقَعَ فِي بَابِ الْغَصْبِ:

مَسَائِلُ تَقَدَّمَتْ فِي أَوَّلِ هَذَا الْقَسَمِ، وَاعْلَمْ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْغَاصِبِ مَعَ رَدِّ مَا أَخَذَ الْأَدَبُ عَلَى قَدْرِ اجْتِهَادِ الْحَاكِمِ لِيَكُونَ ذَلِكَ زَجْرًا لَهُ وَلِغَيْرِهِ، وَلَا يُسْقِطُ مِنْهُ عَفْوُ الْمَغْصُوبِ مِنْهُ، إلَّا أَنْ يَكُونَ الْغَاصِبُ غَيْرَ مُكَلَّفٍ فَيَسْقُطُ عَنْهُ الْأَدَبُ، وَقَدْ قِيلَ: إنَّ الْإِمَامَ يُؤَدِّبُ الصَّغِيرَ الَّذِي يَعْقِلُ مِثْلَ هَذَا، كَمَا يُؤَدَّبُ الصَّغِيرُ فِي الْمَكْتَبِ.

.فَصْلٌ وَوَقَعَ فِي بَابِ الِاسْتِحْقَاقِ:

مَسْأَلَةٌ:
إذَا اسْتَحَقَّتْ أَمَةٌ مِنْ رَجُلٍ فَأَرَادَ الْمُسْتَحَقُّ مِنْهُ أَنْ يَضَعَ قِيمَتَهَا، وَأَنْ يَذْهَبَ فَيُطَالِبُ بِهَا الَّذِي اشْتَرَاهَا مِنْهُ، فَإِنْ كَانَ غَيْرَ مَأْمُونٍ أَلْزَمَهُ الْحَاكِمُ أَنْ يَسْتَأْجِرَ أَمِينًا مِنْ مَالِهِ لِيَتَوَجَّهَ بِهَا مَعَهُ.
مَسْأَلَةٌ:
إذَا ادَّعَتْ جَارِيَةٌ الْحُرِّيَّةَ وَذَكَرَتْ أَنَّهَا مِنْ مَوْضِعٍ سَمَّتْهُ، وَأَنَّ مُتَغَلِّبًا بِتِلْكَ الْجِهَةِ أَغَارَ عَلَيْهِمْ فَسَبَاهَا فِيمَنْ سَبَى وَأَنَّهَا حُرَّةٌ وَعُلِمَ صِحَّةُ مَا ذَكَرَتْ مِنْ التَّغَلُّبِ عَلَى أَهْلِ تِلْكَ النَّاحِيَةِ، وَذَكَرَ الَّذِي هِيَ بِيَدِهِ أَنَّهُ ابْتَاعَهَا فِي ذَلِكَ الْجَانِبِ الَّذِي زَعَمَتْ أَنَّهَا مِنْ أَهْلِهِ، فَهَلْ يَكُونُ إثْبَاتُ الرِّقِّ عَلَى الَّذِي أُلْقِيَتْ بِيَدِهِ أَمْ عَلَيْهَا هِيَ إثْبَاتُ الْحُرِّيَّةِ؟ فَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ وَلِيَدٍ وَيَحْيَى بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَمُحَمَّدُ بْنُ غَالِبٍ وَعُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ يَحْيَى وَأَيُّوبُ بْنُ سُلَيْمَانَ وَسَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ وَأَحْمَدُ بْنُ يَحْيَى بْنِ أَبِي عِيسَى عَلَى الْمُدَّعِي لِرِقِّهَا إثْبَاتَ دَعْوَاهُ لِتَصْدِيقِهِ إيَّاهَا عَلَى ذِكْرِ النَّاحِيَةِ، وَقَدْ قَالَ سَحْنُونٌ بِهَذَا.
وَقَالَ رَبِيعَةُ تَحْدُثُ لِلنَّاسِ أَقْضِيَةٌ لِمَا يُحْدِثُونَ.
وَقَالَ ابْنُ لُبَابَةَ: الْبَيِّنَةُ عَلَى مُدَّعِيَةِ الْحُرِّيَّةِ إذْ هِيَ فِي مِلْكِ الرَّجُلِ مَعْرُوفَةُ الرِّقِّ، قَالَ: وَقَدْ كَانَ عَبْدُ الْأَعْلَى يُفْتِي بِغَيْرِ هَذَا لِفَسَادِ الزَّمَانِ وَلَسْت أَرَاهُ.
مَسْأَلَةٌ:
وَمِنْ هَذَا الْمَعْنَى: مَا وَقَعَ فِي مَسَائِلِ ابْنِ زَرْبٍ فِي عَبْدٍ زَعَمَ أَنَّهُ حُرٌّ وَعُلِمَ أَنَّهُ قَدْ كَانَ فِي بَلَدٍ بَيْعُ الْأَحْرَارِ فِيهَا فَاشٍ، قَالَ ابْنُ زَرْبٍ يَخْرُجُ الْمَمْلُوكُ عَنْ يَدِ الَّذِي هُوَ بِيَدِهِ حَتَّى يُقِيمَ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ ابْتَاعَهُ مِمَّنْ كَانَ لَهُ مِلْكًا، فَجَعَلَ الْإِثْبَاتَ عَلَى السَّيِّدِ، قَالَ وَبِذَلِكَ كَانَ شُيُوخُ بَلَدِنَا يُفْتُونَ فِيمَا يَقَعُ بِبَلَدِ ابْنِ حَفْظُونٍ لِأَنَّهُ كَانَ فِيهَا بَيْعُ الْأَحْرَارِ، فَكَانُوا يُكَلِّفُونَ السَّيِّدَ إقَامَةَ الْبَيِّنَةِ عَلَى صِحَّةِ ابْتِيَاعِهِ.
مَسْأَلَةٌ:
إذَا جَعَلَ ظَالِمٌ مَغْرَمًا عَلَى جَوَازِ طَرِيقٍ وَكَانَ لابد مِنْهُ، مَنْ أَدَّى عَنْ أَصْحَابِهِ شَيْئًا رَجَعَ عَلَيْهِمْ بِهِ مِنْ زِيَادَاتِ مَعِينِ الْحُكَّامِ.

.فَصْلٌ فِي بَابِ الصُّلْحِ:

مَسْأَلَةٌ:
إذَا أَقَرَّ الْغَرِيمُ فِي السِّرِّ وَجَحَدَ فِي الْعَلَانِيَةِ فَصَالَحَهُ، صَاحِبُ الْحَقِّ عَلَى أَنْ يُؤَخِّرَهُ سَنَةً وَيُقِرَّ لَهُ، وَأَشْهَدَ الطَّالِبُ أَنَّهُ إنَّمَا يُصَالِحُهُ لِغَيْبَةِ بَيِّنَتِهِ، فَإِذَا قَدِمَتْ قَامَ بِهَا فَقِيلَ: لَهُ ذَلِكَ إذَا عَلِمَ أَنَّهُ كَانَ يَطْلُبُهُ وَيَجْحَدُهُ وَقِيلَ: لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ وَلَا يَنْفَعُهُ مَا أَشْهَدَ بِهِ فِي السِّرِّ، وَقَدْ أَبْطَلَ مَالِكٌ الْبَيِّنَةَ إذَا وَجَدَهَا بَعْدَ الصُّلْحِ قَالَ: إلَّا أَنْ يُقِرَّ بَعْدَ الْإِنْكَارِ فَيُؤْخَذُ بِبَاقِي الْحَقِّ.
وَقَالَ أَصْبَغُ لَا يَنْفَعُ إشْهَادُ السِّرِّ إلَّا عَلَى مَنْ لَا يُنْتَصَفُ مِنْهُ كَالسُّلْطَانِ وَالرَّجُلِ الْقَاهِرِ وَمَا سِوَى ذَلِكَ، فَإِشْهَادُ السِّرِّ بَاطِلٌ، وَفِي بَابِ الْقَضَاءِ بِشَهَادَةِ الِاسْتِرْعَاءِ كَثِيرٌ مِنْ هَذِهِ الْمَسَائِلِ.
مَسْأَلَةٌ:
وَمَنْ قَتَلَ قَتِيلًا فِي حِرَابَةٍ فَأُخِذَ قَبْلَ أَنْ يَتُوبَ لَمْ يَجُزْ عَفْوُ الْأَوْلِيَاءِ وَلَا صُلْحُهُمْ عَلَى مَا قَالَهُ الْقَاضِي عِيَاضٌ. مَعْنَى ذَلِكَ أَنَّهُمْ إنْ صَالَحُوهُ، وَقَدْ تَابَ قَبْلَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ، فَصُلْحُهُمْ جَائِزٌ بِخِلَافِ مَا إذَا لَمْ يَتُبْ حَتَّى قُدِرَ عَلَيْهِ، لِأَنَّ حَدَّ الْحِرَابَةِ حَقٌّ لِلَّهِ تَعَالَى.
مَسْأَلَةٌ:
إذَا صَالَحَهُ عَلَى الْإِنْكَارِ وَذَكَر أَنَّ الْوَثِيقَةَ الْمَشْهُودَ فِيهَا بِالدَّيْنِ قَدْ ضَاعَتْ ثُمَّ وَجَدَ الْوَثِيقَةَ بَعْدَ الصُّلْحِ فَلَهُ الْقِيَامُ بِلَا خِلَافٍ.
مَسْأَلَةٌ:
وَكَذَلِكَ لَوْ ادَّعَى رَجُلٌ عَلَى رَجُلٍ شَيْئًا فِي ذِمَّتِهِ أَوْ فِي يَدِهِ، فَأَنْكَرَهُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فَصَالَحَهُ الْمُدَّعِي عَلَى شَيْءٍ ثُمَّ أَقَرَّ لَهُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِذَلِكَ الشَّيْءِ، فَلَهُ الْقِيَامُ فِيمَا أَقَرَّ بِهِ بِلَا خِلَافٍ وَالظَّالِمُ أَحَقُّ أَنْ يُحْمَلَ عَلَيْهِ.
مَسْأَلَةٌ:
وَلَوْ قَالَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ لِلْمُدَّعِي أَحْضِرْ الْوَثِيقَةَ وَخُذْ حَقَّك، فَقَالَ: قَدْ ضَاعَتْ وَأَنَا أُصَالِحُك، فَفَعَلَ ثُمَّ وَجَدَهَا لَمْ يَكُنْ لَهُ رُجُوعٌ بِشَيْءٍ بِخِلَافِ الْأَوَّلِ.

.فَصْلٌ وَمِمَّا وَقَعَ فِي الشَّرِكَةِ:

مَسْأَلَةٌ:
إذَا قَالَ أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ: ضَاعَ الْمَالُ مِنِّي، فَقَيَّدَ عَلَيْهِ شَرِيكُهُ الْإِنْكَارَ بِالشَّهَادَةِ ثُمَّ قَالَ دَفَعْته إلَيْهِ فَقَيَّدَ ذَلِكَ عَلَيْهِ أَيْضًا، فَقَالَ عِنْدَ ذَلِكَ: إنَّمَا دَفَعْته مِنْ مَالِي بَعْدَ الضَّيَاعِ فَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: إنَّهُ لَا يَصَدَّقُ وَأَرَاهُ ضَامِنًا.
مَسْأَلَةٌ:
وَقَالَ فِي ثَلَاثَةِ شُرَكَاءَ وَلِيَ أَحَدُهُمْ بَيْعَ السِّلْعَةِ وَقَبْضَ ثَمَنِهَا، فَقَالَ شَرِيكَاهُ: أَعْطِنَا حَقَّنَا مِنْهَا، فَقَالَ نَعَمْ هُوَ فِي كُمِّي أَتَسَوَّقُ بِهِ، ثُمَّ أُعْطِيكُمْ، فَذَهَبَ ثُمًّ أَتَى فَقَالَ: قُطِعَتْ مِنْ كُمِّي أَنَّهُ ضَامِنٌ إذْ سَأَلُوهُ فَلَمْ يَفْعَلْ.

.فَصْلٌ وَمِمَّا وَقَعَ فِي الْوَكَالَةِ:

إذَا خَاصَمَ الرَّجُلُ لِنَفْسِهِ وَقَعَدَ مَعَ الْخَصْمِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يُوَكِّلَ إلَّا أَنْ يَمْرَضَ أَوْ يُرِيدَ سَفَرًا، قَالَ ابْنُ الْعَطَّارِ وَيَحْلِفُ أَنَّهُ مَا اسْتَعْمَلَ السَّفَرَ لِيُوَكِّلَ، فَإِنْ نَكَلَ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يُوَكِّلَ فَالْيَمِينُ هُنَا مِنْ السِّيَاسَةِ الشَّرْعِيَّةِ.
وَقَالَ ابْنُ الْفَخَّارِ لَا يَمِينَ عَلَيْهِ، قَالَ: وَلَهُ أَنْ يُوَكِّلَ إذَا أَخْرَجَهُ خَصْمُهُ أَوْ شَاتَمَهُ فَحَلَفَ أَنْ لَا يُخَاصِمُهُ بِنَفْسِهِ، قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ: وَلَوْ حَلَفَ أَنْ لَا يُخَاصِمُهُ لِغَيْرِ عُذْرٍ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يُوَكِّلَ.
مَسْأَلَةٌ:
كَانَ سَحْنُونٌ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى لَا يَقْبَلُ مِنْ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ أَنْ يُقِيمَ وَكِيلًا إلَّا لِعُذْرٍ، كَامْرَأَةٍ لَا يَخْرُجُ مِثْلُهَا أَوْ مَرِيضٍ أَوْ مُرِيدٍ سَفَرًا، وَمَنْ كَانَ فِي شُغْلِ الْأَمِيرِ كَالْحَاجِبِ وَنَحْوِهِ، أَوْ كَانَ عَلَى خُطَّةٍ لَا يَسْتَطِيعُ مُفَارَقَتِهَا كَمَا ذَكَرْنَا مِنْ الْحُجَّةِ وَغَيْرِهَا.
وَفِي هَذَا سَدُّ كَثِيرٍ مِنْ ذَرَائِعِ الْفَسَادِ، وَالْمَشْهُورُ الْمَعْمُولُ بِهِ أَنَّ الْوَكَالَةَ تُقْبَلُ مِنْ الطَّالِبِ وَالْمَطْلُوبِ، لَكِنْ إذَا رَأَى الْقَاضِي أَنَّ تَوْكِيلَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ لَدَدٌ وَلَيٌّ مِنْ الِانْقِيَادِ لِلشَّرْعِ فَيَنْبَغِي لَهُ الْعَمَلُ بِقَوْلِ سَحْنُونٍ، فَقَدْ كَانَ مِنْ الْأَئِمَّةِ الْمُقْتَدَى بِهِمْ وَمِنْ قُضَاةِ الْعَدْلِ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى.
مَسْأَلَةٌ:
وَمَسَائِلُ التَّعَدِّي فِي بَابِ الْوَكَالَةِ وَاخْتِلَافِ الْمُوَكِّلِ وَالْوَكِيلِ يَطُولُ ذِكْرُهَا.

.فَصْلٌ وَمِمَّا وَقَعَ فِي بَابِ الْإِقْرَارِ:

وَبَابُ الْإِقْرَارِ مِنْ أَعْظَمِ الْأَبْوَابِ الْمُشْتَمِلَةِ عَلَى الْمَسَائِلِ السِّيَاسِيَّةِ وَاسْتِيعَابُهَا يَطُولُ.
مَسْأَلَةٌ:
وَصِيغَةُ الْإِقْرَارِ تَكُونُ بِاللَّفْظِ أَوْ مَا يَقُومُ مَقَامَهُ مِنْ إشَارَاتٍ وَالْكِتَابَةِ وَالسُّكُوتِ، فَالْإِشَارَةُ تَكُونُ مِنْ الْأَبْكَمِ وَمِنْ الْمَرِيضِ، فَإِذَا قِيلَ لَهُ: لِفُلَانٍ عِنْدَك كَذَا فَأَشَارَ بِرَأْسِهِ أَنْ نَعَمْ فَهُوَ إقْرَارٌ، وَلَوْ كَتَبَ رِسَالَةً لِرَجُلٍ بِأُمُورٍ أَنْفَذَ مَا فِيهَا إذَا قَامَتْ الْبَيِّنَةُ أَنَّهُ خَطُّهُ وَإِنْ كَانَ مُنْكِرًا، وَيُؤْخَذُ بِالْمَالِ وَالطَّلَاقِ وَغَيْرِهِ خَلَا الْحُدُودَ، فَلَهُ أَنْ يَرْجِعَ عَنْهَا إذْ يُؤْخَذُ بِغُرْمِ السَّرِقَةِ وَلَا يُقْطَعُ.
وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي بَابِ الْقَضَاءِ بِالْإِقْرَارِ كَثِيرٌ مِنْ هَذَا، وَذَكَرْنَا حُكْمَ الْكِتَابَةِ وَالسُّكُوتِ، وَإِقْرَارُ الرَّشِيدِ الْبَالِغِ الطَّائِعِ لَازِمٌ، وَإِقْرَارُ الْمُكْرَهِ لَا يَلْزَمُهُ وَكَذَلِكَ الصَّغِيرِ، وَالرُّجُوعُ عَنْ الْإِقْرَارِ فِي السَّرِقَةِ قَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ، وَكَذَلِكَ فِي الزِّنَا، وَأَمَّا مَا لَوْ أَقَرَّ بِمَالٍ ثُمَّ عَقَّبَ الْإِقْرَارَ بِمَا يُبْطِلُهُ وَيَرْفَعُ حُكْمَهُ بَطَلَ، إلَّا أَنْ يُخَالِفَهُ الْمُقَرُّ لَهُ مِثْلَ أَنْ يَقُولَ لَهُ: عِنْدِي أَلْفٌ مِنْ ثَمَنِ خَمْرٍ أَوْ خِنْزِيرٍ، فَلَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ إلَّا أَنْ يَقُولَ الطَّالِبُ بَلْ هِيَ مِنْ ثَمَنِ بُرٍّ، فَتَلْزَمُ الْمُقِرَّ مَعَ يَمِينِ الطَّالِبِ، وَكَذَا لَوْ قَالَ لَهُ: عَلَيَّ أَلْفٌ بَاطِلًا وَزُورًا، فَقَالَ الطَّالِبُ كِذْبٌ قَوْلُهُ بَاطِلًا وَزُورًا، فَإِنَّ ذَلِكَ لَازِمٌ لِلْمُقِرِّ مَعَ يَمِينِ الطَّالِبِ، وَلَوْ قَالَ: أَلْفٌ مِنْ ثَمَنِ خِنْزِيرٍ ثُمَّ بَيَّنَهُ أَنَّهُ مِنْ مُعَامَلَةِ رِبَوِيٍّ لَمْ تُقْبَلْ بَيِّنَتُهُ، لِأَنَّهُ بِإِقْرَارِهِ بِالْأَلْفِ كَذَّبَ كُلَّ بَيِّنَةٍ تَقُومُ لَهُ فَيَلْزَمُ الْمَالَ وَيُؤَاخَذُ بِإِقْرَارِهِ.
وَقَالَ ابْنُ سَحْنُونٍ تُقْبَلُ الْبَيِّنَةُ وَيُرَدُّ إلَى رَأْسِ مَالِهِ، وَهَذَا بَابٌ وَاسِعٌ مَذْكُورٌ فِي مَحِلِّهِ، وَكَذَلِكَ الْأَقَارِيرُ الْمُتَّهَمُ فِيهَا بِالتَّوْلِيجِ لِوَلَدِهِ وَزَوْجَتِهِ وَصَدِيقِهِ الْمُلَاطِفِ، وَقَدْ ذَكَرْنَا كَثِيرًا مِنْ مَسَائِلِ الْإِقْرَارِ فِي هَذَا الْكِتَابِ فِي مَوَاضِعَ مُتَفَرِّقَةٍ.

.فَصْلٌ وَمِمَّا وَقَعَ فِي بَابِ الشُّفْعَةِ:

مَسْأَلَةٌ:
الْأَخْذُ بِالشُّفْعَةِ هُوَ مِنْ بَابِ دَفْعِ الضَّرَرِ عَنْ الشَّرِيكِ، وَيُجْبَرُ الْمُشْتَرِي عَلَى تَسَلُّمِ الْحِصَّةِ الْمُسْتَشْفَعِ فِيهَا، قَالَ ابْنُ رُشْدٍ: قَالَ اللَّخْمِيُّ: إذَا كَتَمَ الْمُشْتَرِي الثَّمَنَ فَإِنْ ذَكَرَ مَا يُشْبِهُ وَإِلَّا فَالشَّفِيعُ بِالْخِيَارِ فِي أَخْذِ الشِّقْصِ وَلَا يَدْفَعُ شَيْئًا حَتَّى يَثْبُتَ الثَّمَنُ، فَإِنْ لَمْ يُثْبِتْهُ سُجِنَ، وَفِيهَا مَسَائِلُ تَتَعَلَّقُ بِالسِّيَاسَةِ إذَا أَظْهَرَا ثَمَنًا وَأَخْفَيَا غَيْرَهُ، وَاحْتَالَ الْمُشْتَرِي بِحِيلَةٍ عَلَى إسْقَاطِ الشُّفْعَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ.

.فَصْلٌ وَمِمَّا وَقَعَ فِي بَابِ الْقِرَاضِ:

إذَا اشْتَرَى الْعَامِلُ مَنْ يُعْتَقُ عَلَى رَبِّ الْمَالِ عَالِمًا، فَإِنَّهُ يُعْتَقُ عَلَى الْعَامِلِ وَيُغَرَّمُ ثَمَنَهُ وَحِصَّتَهُ مِنْ رِبْحِ الْمَالِ إنْ كَانَ لَهُ رِبْحٌ، وَوَلَاؤُهُ لِرَبِّ الْمَالِ، وَإِنَّمَا أُغْرِمَ ذَلِكَ لِتَعَدِّيهِ.

.فَصْلٌ وَمِمَّا يَقَعُ فِي بَابِ الْإِجَارَةِ:

مَسْأَلَةٌ:
فِي مُسْتَأْجَرِ الدَّارِ يُطَّلَعُ مِنْهُ عَلَى سَرِقَةٍ أَوْ شُرْبٍ أَوْ فِسْقٍ، فَإِنَّ الْإِمَامَ يَمْنَعُهُ مِنْ ذَلِكَ وَيَكُفُّ أَذَاهُ عَنْ الْجِيرَانِ وَعَنْ رَبِّ الدَّارِ، وَإِنْ رَأَى أَنْ يُخْرِجَهُ أَخْرَجَهُ وَأَكْرَاهَا عَلَيْهِ وَيَلْزَمُهُ الْكِرَاءُ قَالَ ابْنُ حَبِيبٍ: وَكَذَلِكَ إذَا أَظْهَرَ الطَّنَابِيرَ وَالزَّمْرَ وَشُرْبَ الْخَمْرِ وَبَيْعِهَا فَيَمْنَعُهُ وَيُعَاقِبُهُ، فَإِنْ لَمْ يَنْتَهِ أَخْرَجَهُ وَأَكْرَاهَا عَلَيْهِ وَلَا يُفْسَخُ الْكِرَاءُ وَقَالَهُ مَالِكٌ، وَالْفَاسِقُ يُعْلِنُ مِثْلَ ذَلِكَ فِي دَارِ نَفْسِهِ أَنَّهُ يُعَاقِبُهُ عَلَى ذَلِكَ، فَإِنْ لَمْ يَنْتَهِ بَاعَ عَلَيْهِ الدَّارَ ابْنُ شَاسٍ، وَإِذَا رَأَى أَنْ يُكْرِيَهَا عَلَيْهِ فَعَلَ ثُمَّ لَا يَتَوَقَّفُ ذَلِكَ عَلَى حُضُورِ مَنْ يُكْرِيهَا، بَلْ يُخْرِجُهُ وَيُؤَدِّي الْأُجْرَةَ وَيَنْتَظِرُ حُضُورَ الرَّاغِبِ.
مَسْأَلَةٌ:
وَلَوْ اسْتَأْجَرَ عَبْدًا لِلْخِدْمَةِ فَوَجَدَهُ سَارِقًا فَلَهُ الرَّدُّ بِخِلَافِ الْمُسَاقِي يُوجَدُ سَارِقًا.
مَسْأَلَةٌ:
وَمَنْ اكْتَرَى أَرْضًا سَنَةً فَقَبَضَهَا ثُمَّ غَصَبَهَا مِنْهُ السُّلْطَانُ فَمُصِيبَتُهَا مِنْ رَبِّهَا وَلَا كِرَاءَ لَهُ فِيمَا بَقِيَ، قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: وَسَوَاءٌ غَصَبَ الدَّارَ مِنْ أَصْلِهَا أَوْ أَخْرَجَهُ مِنْهَا وَسَكَّنَهَا لَا يُرِيدُ إلَّا السُّكْنَى حَتَّى يَرْتَحِلَ قَالَ: وَكَذَلِكَ الْحَوَانِيتُ يَأْمُرُ السُّلْطَانُ أَنْ يُغَلِّقَهَا وَقِيلَ: الْمُصِيبَةُ مِنْ الْمُكْتَرِي، وَقِيلَ بِالْفَرْقِ بَيْنَ أَنْ يَغْصِبَ أَصْلَ الدَّارِ فَمُصِيبَتُهَا مِنْ رَبِّهَا، وَإِنْ غَصَبَ السُّكْنَى فَمِنْ الْمُكْتَرَى، وَهُوَ اخْتِيَارُ ابْنِ حَارِثٍ وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ.
مَسْأَلَةٌ:
وَفِي مُخْتَصَرِ الْوَاضِحَةِ: فِي أَجِيرِ الْفِرَاءِ يَبِيعُ الْفَرْوَ مُدَّعِيًا أَنَّهُ لَهُ مِمَّا عَمِلَ لِنَفْسِهِ، وَيُنْكِرُ ذَلِكَ الْمُسْتَأْجَرُ لَهُ، فَإِنْ كَانَ مِثْلُهُ يَعْمَلُ لِنَفْسِهِ وَيَبِيعُ وَهُوَ أَجِيرٌ كَمَا هُوَ فَالثَّمَنُ لَهُ كَانَ الَّذِي اسْتَأْجَرَهُ حَاضِرًا أَوْ غَائِبًا بَعْدَ أَنْ يَحْلِفَ بِاَللَّهِ أَنَّ الَّذِي ادَّعَاهُ الْأَجِيرُ لَيْسَ كَمَا ادَّعَى.
مَسْأَلَةٌ:
حَارِسُ الْأَنْدَرِ وَالدُّورِ لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ فِيمَا سَرَقَ إلَّا أَنْ تُلْجِئَ قَوْمًا ضَرُورَةٌ إلَى مَنْ يُخَافُ عَلَى الطَّعَامِ مِنْهُ فَيَسْتَأْجِرُوهُ لِشَرِّهِ أَوْ لِيَدْفَعَ شَرَّ قَوْمٍ آخَرِينَ فَيَلْزَمُهُ الضَّمَانُ، أَوْ تُعْلَمُ مِنْهُ الْخِيَانَةُ فَيَضْمَنُ قَالَهُ اللَّخْمِيُّ.
مَسْأَلَةٌ:
وَفِي الْبَيَانِ قَالَ ابْنُ رُشْدٍ وَإِذَا عُثِرَ عَلَى إجَارَةِ مِثْلَ، الْمِزْمَارِ وَالْعُودِ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ فُسِخَتْ الْإِجَارَةُ فَإِنْ كَانَ دَفَعَ الْأُجْرَةَ فَقِيلَ تُرَدُّ عَلَى الْمُسْتَأْجَرِ وَقِيلَ تُؤْخَذُ وَيُتَصَدَّقُ بِهَا وَإِنْ لَمْ يُعْثَرْ عَلَى ذَلِكَ حَتَّى فَاتَتْ الْأُجْرَةُ بِالْعَمَلِ فَيُؤَدَّبَانِ جَمِيعًا، وَيُتَصَدَّقُ بِالْأُجْرَةِ عَلَى كُلِّ حَالٍ قُبِضَتْ أَوْ لَمْ تُقْبَضْ أَدَبًا لَهُمَا.
مَسْأَلَةٌ:
إذَا اسْتَرْشَدَ رَجُلٌ صَيْرَفِيًّا فِي دِينَارٍ أَوْ دِرْهَمٍ فَأَخْبَرَهُ أَنَّهُ طَيِّبٌ وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهُ رَدِيءٌ، أَوْ أَرَادَ شِرَاءَ ثَوْبٍ فَسَأَلَ الْخَيَّاطَ هَلْ يَكْفِيه فَقَالَ: نَعَمْ، وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهُ لَا يَكْفِيه فَاشْتَرَاهُ، أَوْ دَلَّهُ عَلَى جَرَّةِ زَيْتٍ فَصَبَّ زَيْتَهُ وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهَا مَكْسُورَةٌ، وَكَذَلِكَ مَنْ دَلَّ رَجُلًا عَلَى مَالِ رَجُلٍ مَدْفُونٍ فَفِي ضَمَانِهِمْ قَوْلَانِ، وَالْأَدَبُ وَالْعُقُوبَةُ لَازِمَةٌ لَهُمْ عَلَى كُلِّ حَالٍ، وَلَعَلَّهُ يُرِيدُ إنْ دَلَّ عَلَى الْمَالِ بِالْقَوْلِ، وَأَمَّا إنْ مَشَى إلَيْهِ أَوْ أَشَارَ إلَيْهِ فَقَالُوا: إنَّهُ يَضْمَنُ وَهُوَ فِي زِيَادَاتِ مَعِينِ الْحُكَّامِ، وَكَذَا مَنْ تَصَدَّى لِدَلَالَةِ الطَّرِيقِ وَهُوَ جَاهِلٌ فَإِنَّهُ يَلْزَمُهُ الْأَدَبُ وَلَا شَيْءَ لَهُ.

.فَصْلٌ وَوَقَعَ فِي بَابِ الْقِسْمَةِ:

مَسْأَلَةٌ:
فِي الشَّرِيكَيْنِ يَطْلُبُ أَحَدُهُمَا الْقِسْمَةَ وَيَتَغَيَّبُ الْآخَرُ، قَالَ ابْنُ لُبَابَةَ وَابْنُ وَلِيَدٍ وَابْنُ غَالِبٍ: إذَا تَوَرَّكَ أَحَدُ الشُّرَكَاءِ عَنْ الْحُضُورِ لِلْقِسْمَةِ وَظَهَرَ ذَلِكَ لِلْقَاضِي بِاتِّصَالِ تَوَرُّكِهِ أَوْ بِطُولِ التَّرَدُّدِ فِي طَلَبِهِ لِحُضُورِ ذَلِكَ، فَلَمْ يَحْضُرْ أَمَرَ الْقَاضِي بِالْقَسَمِ عَلَيْهِ وَأَقَامَ لَهُ وَكِيلًا يَقْبِضُ لَهُ نَصِيبَهُ فَيَبْعَثُ الْقَاضِي قَاسِمًا يَرْضَاهُ، وَرَجُلَيْنِ مِمَّنْ تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمَا عَلَى الشَّرِيكَيْنِ يَحْضُرَانِ الْقَسْمَ، وَوَكِيلًا يُقِيمُهُ وَيُوَكِّلُهُ لِلْغَائِبِ وَكَالَةً يَشْهَدُ لَهُ الْقَاضِي بِهَا، وَيَذْكُرُ فِي كِتَابِ الْقَسْمِ الْمَعْنَى الَّذِي وَكَّلَهُ لِأَجْلِهِ مِنْ ثُبُوتِ التَّوَرُّكِ عِنْدَهُ، فَمَا حَصَلَ لِلْغَائِبِ قَبَضَهُ وَكِيلُهُ وَكَانَ قَبْضُهُ لَهُ بِأَمْرِ الْقَاضِي كَقَبْضِهِ لِنَفْسِهِ لَوْ كَانَ حَاضِرًا.
مَسْأَلَةٌ:
إذَا قُسِّمَ الْمَاءُ بَيْنَ الشُّرَكَاءِ بِالْقِدْرِ فَقَالَ أَحَدُهُمْ: إنَّمَا يَجِبُ لِي قِدْرَانِ، وَأَرْضِي بَعِيدَةٌ عَنْ مَخْرَجِ الْمَاءِ فَإِذَا سَرَحَ الْقِدْرُ إلَى أَرْضِي شَرِبَ ذَلِكَ أَسْفَلُ السَّوَاقِي وَمَاذِيَانَاتِهَا وَهِيَ جَنْبَاتُهَا قَبْلَ أَنْ يَصِلَ إلَى أَرْضِي فَأَخِّرُوا نَصِيبِي، فَالْعَدْلُ فِي ذَلِكَ أَنْ لَا يُقَدَّمُ صَاحِبُ النَّصِيبِ حَتَّى تُرْوَى أَسْفَلُ السَّوَاقِي وَجَنْبَاتُهَا، وَقِيلَ: إنَّمَا يَأْخُذُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْمَاءَ فِي أَدْنَى رَأْسِ أَرْضِهِ، مِنْ الْجُزْءِ الثَّانِي مِنْ الْمُتَيْطِيَّةِ فِي بَابِ الْبَيْعِ.
مَسْأَلَةٌ:
وَالْأَشْيَاءُ الَّتِي لَا تَنْقَسِمُ أَوْ فِي قِسْمَتِهَا ضَرَرٌ، يَجُوزُ أَنْ يُجْبَرَ عَلَى الْبَيْعِ مَنْ أَبَاهُ إذَا طَلَبَ الْبَيْعَ أَحَدُهُمَا وَاسْتُثْنِيَ مِنْ ذَلِكَ مَسَائِلُ وَإِنَّمَا جُبِرَ عَلَى الْبَيْعِ مَنْ أَبَاهُ دَفَعَا لِلضَّرَرِ اللَّاحِقِ لِلطَّالِبِ، لِأَنَّهُ إذَا بَاعَ نَصِيبَهُ مُفْرَدًا نَقَصَ ثَمَنُهُ وَإِذَا قُلْنَا: يُجْبَرُ مَنْ أَبَى الْبَيْعَ. فَإِنَّهُ إذَا وَقَفَ الْمَبِيعُ عَلَى ثَمَنٍ وَأَرَادَ طَالِبُ الْبَيْعِ أَخْذَهُ بِمَا وَقَفَ عَلَيْهِ لَمْ يُمَكَّنْ مِنْ ذَلِكَ.
لِأَنَّ النَّاسَ قَدْ يَتَحَيَّلُونَ بِطَلَبِ الْبَيْعِ إلَى إخْرَاجِ النَّاسِ عَنْ أَمْلَاكِهِمْ، وَأَمَّا إنْ طَلَبَ الشِّرَاءَ مَنْ أَبَى الْبَيْعَ فَلَهُ ذَلِكَ وَقَدْ ذَكَرُوا صُوَرًا أَجَازُوا فِيهَا لِطَالِبِ الْبَيْعِ الْأَخْذَ بِمَا انْتَهَى إلَيْهِ الثَّمَنُ يَطُولُ ذِكْرُهَا.

.فَصْلٌ وَوَقَعَ فِي بَابِ الْوَدِيعَةِ:

مَسْأَلَةٌ:
إذَا ادَّعَى رَجُلٌ عَلَى رَجُلٍ أَنَّهُ أَوْدَعَهُ ثِيَابًا فَأَنْكَرَ، فَشَهِدَتْ بَيِّنَةٌ أَنَّهُ أَوْدَعَهُ أَعْكَامًا لَا يَدْرُونَ مَا فِيهَا وَيَظُنُّونَهَا ثِيَابًا فَفِي الطُّرَرِ أَنَّهُ يُسْجَنُ وَيُهَدَّدُ، فَإِنْ أَقَرَّ بِشَيْءٍ وَإِلَّا حَلَفَ صَاحِبُ الْوَدِيعَةِ عَلَى مَا يُشْبِهُ أَنَّهُ يَمْلِكُ مِثْلَهُ، وَيَأْخُذُهُ بِذَلِكَ وَالظَّالِمُ أَحَقُّ أَنْ يُحْمَلَ عَلَيْهِ، وَقِيلَ: إنَّهُ يُحَلِّفُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بَعْدَ أَنْ يَسْتَبْرِئَ أَمْرَهُ بِالضَّرْبِ وَالسَّجْنِ وَالتَّضْيِيقِ عَلَيْهِ فِيهِ وَالتَّشْدِيدِ، وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ مِنْ غَرَامَةِ الْمَالِ.

.فَصْلٌ وَوَقَعَ فِي بَابِ الْعَارِيَّةِ:

مَسْأَلَةٌ:
فِي الْخَادِمِ أَوْ الرَّجُلِ الْحُرِّ يَأْتِي الْقَوْمَ فَيَسْتَعِيرُهُمْ حُلِيًّا، وَيَزْعُمُ أَنَّ أَهْلَهُ بَعَثُوهُ فَيُعِيرُونَهُ فَيَهْلِكُ الْحُلِيُّ مِنْهُ وَيَجْحَدُ أَهْلُهُ أَنْ يَكُونُوا بَعَثُوهُ، أَوْ يُقِرُّونَ أَنَّهُمْ بَعَثُوهُ، وَأَنَّ الْمَتَاعَ هَلَكَ قَبْلَ أَنْ يَصِلَ إلَيْهِمْ، فَقَالَ: إنْ صَدَّقَهُ الَّذِينَ بَعَثُوهُ فَهُمْ ضَامِنُونَ وَلَا شَيْءَ عَلَى الرَّسُولِ، وَإِنْ جَحَدُوا وَحَلَفُوا مَا بَعَثُوهُ وَحَلَفَ الرَّسُولُ إنْ كَانَ حُرًّا لَقَدْ بَعَثُوهُ فَلَا شَيْءَ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا، لِأَنَّ الَّذِينَ بَعَثُوهُ لَمْ يُقِرُّوا بِشَيْءٍ، وَلِأَنَّ الرَّسُولَ قَدْ صَدَّقَهُ الَّذِينَ أَعْطَوْهُ فِيمَا جَاءَ بِهِ مِنْ الرِّسَالَةِ، فَلَيْسَ عَلَيْهِ أَكْثَرُ مِنْ الْيَمِينِ أَنَّهُمْ بَعَثُوهُ، وَإِنْ زَعَمَ الرَّسُولُ أَنَّهُ أَوْصَلَهُ إلَى الَّذِينَ بَعَثُوهُ وَجَحَدُوا لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِمْ وَلَا عَلَيْهِ إلَّا الْيَمِينُ وَيَبْرَءُونَ وَقَالَ أَشْهَبُ: إنْ زَعَمَ الْعَبْدُ أَنَّهُ أَوْصَلَ ذَلِكَ إلَى سَيِّدِهِ وَأَنْكَرَ السَّيِّدُ، قَالَ: أَرَاهُ فَاجِرًا خِلَافًا وَذَلِكَ جِنَايَةٌ فِي رَقَبَتِهِ.
وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: إنْ أَقَرَّ السَّيِّدُ غُرِّمَ، وَإِنْ أَنْكَرَ كَانَ ذَلِكَ فِي رَقَبَةِ الْعَبْدِ؛ لِأَنَّهُ خَدَعَ الْقَوْمَ.

.فَصْلٌ وَوَقَعَ فِي بَابِ الْأَقْضِيَةِ:

مَسْأَلَةٌ:
قَالَ ابْنُ حَبِيبٍ: إنَّ لِلْإِمَامِ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ قُضَاتِهِ وَعُمَّالِهِ مَا وَجَدَ فِي أَيْدِيهِمْ زَائِدًا عَلَى مَا ارْتَزَقُوهُ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ، وَأَنَّهُ يُحْصِي مَا عِنْدَ الْقَاضِي حِينَ وِلَايَتِهِ وَيَأْخُذُ مِنْهُ مَا اكْتَسَبَهُ زَائِدًا عَلَى رِزْقِهِ، وَتَأَوَّلَ أَنَّ مُقَاسَمَةَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَمُشَاطَرَتِهِ لِعُمَّالِهِ كَأَبِي مُوسَى وَأَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، إنَّمَا كَانَتْ لَمَّا أَشْكَلَ عَلَيْهِ مِقْدَارُ مَا اكْتَسَبُوا بِالْعِمَالَةِ مِنْ ابْنِ عَبْدِ السَّلَامِ.
مَسْأَلَةٌ:
يُسْتَحَبُّ لِلْقَاضِي أَنْ يَسْتَعْمِلَ الْفِرَاسَةَ وَيُرَاقِبَ أَحْوَالَ الْخَصْمَيْنِ عِنْدَ الْإِدْلَاءِ بِالْحُجَجِ وَدَعْوَى الْحُقُوقِ فَإِنْ تَوَسَّمَ فِي أَحَدِ الْخَصْمَيْنِ أَنَّهُ أَبْطَنَ شُبْهَةً فَلِيَتَلَطَّفْ فِي الْكَشْفِ وَالْفَحْصِ عَنْ حَقِيقَةِ مَا تَوَهُّمَ فِيهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ وَجْهُ الْعَمَلِ فِي ذَلِكَ أَوَّلَ الْكِتَابِ فِي سِيرَةِ الْقَاضِي مَعَ الْخُصُومِ فَانْظُرْهُ.
مَسْأَلَةٌ:
وَفِي الْمُقْنِعِ لِابْنِ بَطَّالٍ قَالَ سَحْنُونٌ: يَنْبَغِي لِلْقَاضِي أَنْ يَشْتَدَّ حَتَّى يَسْتَنْطِقَ الْحَقَّ، وَلَا يَدْعُ مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى وَيَلِينُ فِي غَيْرِ ضَعْفٍ.
مَسْأَلَةٌ:
نَقَلَ ابْنُ قَيِّمِ الْجَوْزِيَّةِ: أَنَّ مَالِكًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ذَهَبَ إلَى التَّوَصُّلِ إلَى الْإِقْرَارِ بِالْحَقِّ بِمَا يَرَاهُ الْحَاكِمُ، وَذَلِكَ مُسْتَنِدٌ إلَى قَوْله تَعَالَى: {إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ} [يوسف: 26] الْآيَةَ.
مَسْأَلَةٌ:
قَالَ ابْنُ رَاشِدٍ مَتَى ارْتَابَ الْقَاضِي وَتَوَهَّمَ غَلَطَ الشُّهُودِ سَأَلَهُمْ عَنْ التَّفْصِيلِ، فَإِنْ أَصَرُّوا عَلَى الْكَلَامِ الْأَوَّلِ أَمْضَاهُ.
مَسْأَلَةٌ:
قَالَ مُطَرِّفٌ وَابْنُ الْمَاجِشُونِ لَا يُحَلِّفُ الْقَاضِي الشَّاهِدَ عَدْلًا كَانَ أَوْ غَيْرَ عَدْلٍ أَمَّا الْعَدْلُ فَقَوْلُهُ كَافٍ، وَأَمَّا غَيْرُ الْعَدْلِ تَنْفَعُ فِيهِ الْيَمِينُ، وَنَقَلَ تَحْلِيفَ الشُّهُودِ عَنْ ابْنِ وَضَّاحٍ، وَعَنْ قَاضِي الْجَمَاعَةِ بِقُرْطُبَةَ مُحَمَّدُ بْنُ بَشِيرٍ شَيْخُ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَتَّابٍ، قَالَ أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ حَزْمٍ: وَحَلَّفَ ابْنُ بَشِيرٍ هَذَا شُهُودًا فِي تَرِكَةٍ بِاَللَّهِ تَعَالَى أَنَّ مَا شَهِدُوا بِهِ الْحَقُّ.
وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ وَضَّاحٍ أَنَّهُ قَالَ: أَرَى لِفَسَادِ الزَّمَانِ أَنْ يُحَلِّفَ الْحَاكِمُ الشُّهُودَ، وَابْنُ وَضَّاحٍ أَخَذَ عَنْ سَحْنُونٍ، وَقَدْ جَاءَ فِي رُجُوعِ الشُّهُودِ عَنْ الشَّهَادَةِ إذَا أَنْكَرُوا، أَنَّهُمْ رَجَعُوا فَطَلَبَ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ يَمِينَهُمْ أَنَّهُمْ يَرْجِعُونَ عَمَّا شَهِدُوا بِهِ عَلَيْهِ، فَفِي لُزُومِ الْيَمِينِ قَوْلَانِ وَمَذْهَبُ ابْنِ الْقَاسِمِ وَسَحْنُونٍ وَابْنِ الْمَوَّازِ وَابْنِ الْمَاجِشُونِ: أَنَّهُ يَلْزَمُهُمْ الْيَمِينُ إذَا أَتَى بِلَطْخٍ يُقَوِّي دَعْوَاهُ وَإِلَّا فَلَا تَلْزَمُ الْيَمِينُ.
وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ لَا تَتَوَجَّهُ الدَّعْوَى بِطَلَبِ الْيَمِينِ وَالْأَوَّلُ الْمَشْهُورُ.
مَسْأَلَةٌ:
قَالَ ابْنُ وَضَّاحٍ: قُلْت لِسَحْنُونٍ أَنَّ ابْنَ عَجْلَانَ قَالَ لِي: أَنَّهُ يُحَلِّفُ الْيَهُودِيَّ يَوْمَ السَّبْتِ وَالنَّصْرَانِيَّ يَوْمَ الْأَحَدِ: وَقَالَ إنِّي رَأَيْتهمْ يَرْهَبُونَ ذَلِكَ فَقَالَ لِي سَحْنُونٌ وَمِنْ أَيْنَ أَخَذَهُ ابْنُ عَجْلَانَ؟ قَالَ: قُلْت مِنْ قَوْلِ مَالِكٍ يَحْلِفُونَ حَيْثُ يُعَظِّمُونَ، فَسَكَتَ. قَالَ ابْنُ وَضَّاحٍ فَكَأَنَّهُ أَعْجَبَهُ، وَقُلْت لَهُ أَيْضًا: أَنَّ ابْنَ عَاصِمٍ عِنْدَنَا يُحَلِّفُ النَّاسَ بِالطَّلَاقِ يُغْلِظُ عَلَيْهِمْ، فَقَالَ لِي: وَمِنْ أَيْنَ أَخَذَ ذَلِكَ؟ قُلْت لَهُ: مِنْ الْأَثَرِ الْمَرْوِيِّ مِنْ قَوْلِ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ: تَحْدُثُ لِلنَّاسِ أَقْضِيَةٌ بِقَدْرِ مَا أَحْدَثُوا مِنْ الْفُجُورِ، فَقَالَ لِي مِثْلُ ابْنِ عَاصِمٍ يَتَأَوَّلُ هَذَا قَالَهُ ابْنُ الْهِنْدِيِّ فِي وَثَائِقِهِ وَابْنُ عَاصِمٍ هَذَا حُسَيْنُ بْنُ عَاصِمٍ، رَوَى عَنْ ابْنِ الْقَاسِمِ وَأَشْهَبَ: وَدَخَلَ الْأَنْدَلُسَ وَكَانَ مُحْتَسِبًا بِهَا فِي السُّوقِ.
مَسْأَلَةٌ:
وَإِذَا تَغَيَّبَ الْخَصْمُ عَنْ حُضُورِ مَجْلِسِ الْحُكْمِ، فَاَلَّذِي يُقَابَلُ بِهِ مِنْ الْأَحْكَامِ السِّيَاسِيَّةِ مَذْكُورٌ فِي بَابِ الْقَضَاءِ بِالنُّكُولِ عَنْ حُضُورِ مَجْلِسِ الْحَاكِمِ.
مَسْأَلَةٌ:
مَنْ اسْتَخِفَّ بِأَعْوَانِ الْقَاضِي وَتَعَدَّى عَلَيْهِمْ، فَإِنَّهُ تَجِبُ عُقُوبَتُهُ بِانْتِهَاكِ حُرْمَتِهِمْ وَاسْتِخْفَافِهِ بِقُضَاةِ الْمُسْلِمِينَ وَتُعِدِّيهِ عَلَى الرُّسُلِ وَعَلَى الطَّالِبِ لَهُمْ، وَإِذَا لَمْ يَحْسِمْ مِثْلَ هَذَا مَا يُؤْمَنُ أَغْلَظُ مِنْهُ مِمَّا يَقُودُ إلَى فِتْنَةٍ فَيُبَالِغُ فِي التَّغْلِيظِ عَلَى مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ وَيُعَاقَبُ فَاعِلُهُ بِأَبْلَغِ الْعُقُوبَةِ، قَالَهُ ابْنُ لُبَابَةَ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ يَحْيَى وَمُحَمَّدُ بْنُ وَلِيَدٍ وَأَيُّوبُ بْنُ سُلَيْمَانَ وَابْنُ مُعَاذٍ وَيَحْيَى بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ مِنْ أَحْكَامِ ابْنِ سَهْلٍ.

.فَصْلٌ وَوَقَعَ فِي بَابِ الشَّهَادَةِ:

مَسْأَلَةٌ:
الشَّهَادَةُ عَلَى السَّرِقَةِ لَا تُقْبَلُ مُجْمَلَةً، بَلْ لابد أَنْ يَسْأَلَ الْحَاكِمُ الشَّاهِدَيْنِ عَنْ السَّرِقَةِ مَا هِيَ وَكَيْفَ أَخَذَهَا وَمِنْ أَيْنَ وَإِلَى أَيْنَ؟ قَالَ اللَّخْمِيُّ: فَإِنْ غَابَا قَبْلَ أَنْ يَسْأَلَهُمَا لَمْ يَقْطَعْ السَّارِقَ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ دُونَ النِّصَابِ أَوْ مِنْ غَيْرِ حِرْزٍ فَإِنْ قَالَا: إنَّهَا مِمَّا يَجِبُ فِيهِ الْقَطْعُ وَغَابَا قَبْلَ أَنْ يَسْأَلَهُمَا لَمْ يَقْطَعْ، إلَّا أَنْ يَكُونَا مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ وَمَذْهَبُهُمَا مَذْهَبُ الْحَاكِمِ.
فرع:
وَكَذَلِكَ الشَّهَادَةُ عَلَى الزِّنَا وَاللِّوَاطِ، فَيَسْأَلُهُمَا الْحَاكِمُ وَيَسْتَفْسِرُهُمْ كَمَا يَسْأَلُهُمْ فِي السَّرِقَةِ قَالَهُ ابْنُ رَاشِدٍ.
تنبيه:
فِي الْمُقْنِعِ لِابْنِ بَطَّالٍ: وَلَا يَسْأَلُهُمْ الْحَاكِمُ عَمَّا أَكَلُوا فِي ذَلِكَ الْمَجْلِسِ، وَهَلْ كَانَ فِي لَيْلٍ أَوْ نَهَارٍ وَلَا عَنْ لِبَاسِهِ؟ وَلَا يُسْأَلُونَ هَلْ زَنَى بِامْرَأَةٍ؟ إذْ لَا يَجْهَلُ أَحَدٌ أَنَّ الزِّنَا لَا يَكُونُ إلَّا بِالْمَرْأَةِ، وَأَنْ يُسْأَلُوا هَلْ رَأَيْتُمُوهُ يُدْخِلُ الْفَرْجَ فِي الْفَرْجِ كَالْمِرْوَدِ فِي الْمُكْحُلَةِ؟ وَأَمَّا غَيْرُ ذَلِكَ فَلَا يَسْأَلُ عَنْهُ عَدْلٌ وَلَا غَيْرُهُ، وَهَذَا مِنْ الزِّيَادَةِ فِي تَفْنِينِهِمْ.
فرع:
وَتَعَمُّدُ الشُّهُودِ النَّظَرَ إلَى فَرْجِهَا لَيْسَ بِجُرْحَةٍ تُسْقِطُ الشَّهَادَةَ إذْ لَا تُمْكِنُ الشَّهَادَةُ إلَّا هَكَذَا، قَالَ اللَّخْمِيُّ وَتَعَمُّدُ النَّظَرِ حَسَنٌ فِيمَنْ كَانَ مَعْرُوفًا بِالْفَسَادِ وَأَمَّا مَنْ لَمْ يَكُنْ مَعْرُوفًا بِذَلِكَ فَفِيهِ نَظَرٌ، فَيَنْبَغِي أَنْ يُقَالَ: لَا يَكْشِفُوا عَنْ ذَلِكَ وَلَا يَطْلُبُوا تَحْقِيقَ الشَّهَادَةِ لِمَا نُدِبُوا إلَيْهِ مِنْ السِّتْرِ، فَيَنْبَغِي التَّجَاوُزُ عَنْهُمْ إلَّا أَنْ يُقَالَ: أَنَّهُمْ يُحَقِّقُونَ الشَّهَادَةَ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَقْذِفَهُ شَخْصٌ، فَيَقُودُونَ بِالشَّهَادَةِ لِدَرْءِ الْحَدِّ عَنْهُمْ، وَالسِّتْرُ أَوْلَى لِأَنَّ مُرَاعَاةَ قَذْفِهِ مِنْ النَّارِ الْوُقُوعُ.
فرع:
وَمِنْ الْمَجْمُوعَةِ قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ وَأَشْهَبُ وَعَبْدُ الْمَلِكِ: وَإِذَا سَأَلَ الْحَاكِمُ الشُّهُودَ عَنْ صِفَةِ الزِّنَا فَأَبَوْا وَلَمْ يَزِيدُوا عَلَى أَنْ يَشْهَدُوا عَلَيْهِ بِالزِّنَا تُرَدُّ شَهَادَتُهُمْ وَلْيُحَدُّوا، قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: لَا يُحَدُّونَ إلَّا بَعْدَ كَشْفِ الشَّهَادَةِ، قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ لَا تُحَدُّ الشُّهُودُ عَلَيْهِ إلَّا بَعْدَ كَشْفِ شَهَادَتِهِمْ حَتَّى يَدُلَّ تَفْسِيرُهُمْ أَنَّهُ الزِّنَا وَيَقُولُونَ مِثْلَ الْمِرْوَدِ فِي الْمُكْحُلَةِ، فَإِنْ اسْتَرَابَ مِنْ غَيْرِ الْعَدْلِ سَأَلَهُ عَنْ غَيْرِ هَذَا مِمَّا يَرْجُو فِيهِ بَيَانًا مِنْ اخْتِلَافِ شَهَادَتِهِ.
فرع:
وَقِيلَ لِابْنِ الْقَاسِمِ أَتَرَى لِلْقَاضِي أَنْ يُمْسِكَ الْكِتَابَ الَّذِي فِيهِ شَهَادَاتُ الشُّهُودِ وَيَقُولُ لَهُمْ: أَخْبِرُونِي بِشَهَادَتِكُمْ قَالَ: لَا وَلَيْسَ كُلُّ النَّاسِ يَعْرِفُ شَهَادَتَهُ حَتَّى يَقْرَأَهَا وَيَذْكُرَهَا فَإِذَا عَرَفَ شَهِدَ وَلَوْ قَرَأَهَا، قِيلَ لَهُ: اسْتَظْهِرْهَا مَا قَدَرَ وَمَا كَانَ ذَلِكَ عَلَيْهِ.
مَسْأَلَةٌ:
شَهَادَاتُ الِاسْتِرْعَاءِ لابد أَنْ يَكُونَ الشُّهُودُ يَسْتَحْضِرُونَهَا إذَا كَانَتْ الْوَثِيقَةُ مَبْنِيَّةٌ عَلَى مَعْرِفَةِ الشُّهُودِ لِذَلِكَ، وَذَلِكَ فِي عُقُودِ الِاسْتِرْعَاءِ الَّتِي يَكْتُبُ فِيهَا يَشْهَدُ الْمُسْلِمُونَ مِنْ هَذَا الْكِتَابِ مِنْ الشُّهُودِ أَنَّهُمْ يَعْرِفُونَ كَذَا وَكَذَا فَإِنْ رَأَى الْحَاكِمُ رِيبَةً تُوجِبُ التَّثْبِيتَ فَيَنْبَغِي أَنْ يَقُولَ لَهُمْ: مَا تَشْهَدُونَ بِهِ، فَإِنْ ذَكَرُوا شَهَادَتَهُمْ بِأَلْسِنَتِهِمْ عَلَى مَا فِي الْوَثِيقَةِ جَازَتْ وَإِلَّا رَدَّهَا، وَلَيْسَ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَفْعَلَ هَذَا وَلَا بِكُلِّ الشُّهُودِ، وَإِنَّمَا يَنْبَغِي أَنْ يَفْعَلهُ مَعَ مَنْ تُخْشَى عَلَيْهِ الْخَدِيعَةُ، قَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرِ بْنُ زَرْبٍ وَرُبَّمَا فَعَلْته.
فرع:
وَأَمَّا إذَا كَانَتْ الْوَثِيقَةُ مُنْعَقِدَةٌ مِنْ إشْهَادِ الشُّهُودِ كَالصَّدَقَةِ وَالِابْتِيَاعِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، فَلَا يَنْبَغِي أَنْ تُؤْخَذَ الشُّهُودُ بِحِفْظِ مَا فِي الْوَثِيقَةِ وَحَسْبُهُمْ أَنْ يَقُولُوا: إنَّ شَهَادَتَهُمْ فِيهَا حَقٌّ وَأَنَّهُمْ يَعْرِفُونَ مَنْ أَشْهَدَهُمْ، وَلَا يَمْسِكُ الْقَاضِي الْكِتَابَ وَيَسْأَلُهُمْ عَنْ شَهَادَتِهِمْ مِنْ أَحْكَامِ ابْنِ سَهْلٍ.
مَسْأَلَةٌ:
وَفِي الطُّرَرَ: إذَا وَقَعَ الْوَثِيقَةَ بَشْرٌ أَوْ ضَرْبٌ أَوْ مَحْوٌ فِي غَيْرِ مَوْضِعِ الْعَدَدِ، مِثْلَ: عَدَدِ الدَّنَانِيرِ أَوْ أَجَلِهَا أَوْ تَارِيخِ الْوَثِيقَةِ لَمْ يَضُرَّ الْوَثِيقَةَ وَلَا يُوهِنُهَا، وَإِنْ لَمْ يُعْتَذَرْ مِنْهُ وَإِنْ كَانَ فِي تِلْكَ الْمَوَاضِعِ سُئِلَتْ الْبَيِّنَةُ، فَإِنْ حَفِظَتْ الشَّيْءَ بِعَيْنِهِ الَّذِي وَقَعَ فِيهِ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَرَوْا الْوَثِيقَةَ مَضَتْ، وَسَأَلُوا عَنْ الْبَشْرِ إذَا كَانَ فِيهَا فَإِنْ حَفِظُوهُ مَضَتْ أَيْضًا وَإِنْ لَمْ يُحَفِّظُوهُ سَقَطَتْ الْوَثِيقَةُ.
مَسْأَلَةٌ:
وَإِذَا شَهِدَتْ بَيِّنَةُ الرَّجُلِ أَنَّهُ كُفْءٌ لِيَتِيمَةٍ أَرَادَ نِكَاحَهَا، لَمْ يَكُنْ لِلْحَاكِمِ أَنْ يَسْأَلَهُمْ مِنْ أَيْنَ عَلِمُوا ذَلِكَ، وَوَجَبَ نِكَاحُهَا مِنْهُ مِنْ ابْنِ سَهْلٍ.
مَسْأَلَةٌ:
وَلَا يَنْبَغِي لِلْقَاضِي أَنْ يُفَرِّقَ الشُّهُودَ إلَّا عَنْ تُهْمَةٍ، وَيَفْعَلُهُ فِي رِفْقٍ كَشْفًا رَفِيقًا عَنْ كُلِّ مَا يُرِيدُ حَتَّى تَصِحَّ لَهُ بَرَاءَتُهُمَا مِنْ التُّهْمَةِ، أَوْ تَحَقُّقِ الرِّيبَةِ عَلَيْهِمَا فَيُبْطِلُ شَهَادَتَهُمَا قَالَهُ ابْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ.
فرع:
قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: كُلُّ الشُّهُودِ لَا يُسْأَلُونَ وَلَا يُفَرَّقُونَ إنْ كَانُوا عُدُولًا، إلَّا الشُّهُودُ عَلَى الزِّنَا فَإِنَّهُمْ يُفَرَّقُونَ وَيُسْأَلُونَ.
وَقَالَ أَشْهَبُ لَا يُفَرَّقُ بَيْنَ الشُّهُودِ فِي حَدٍّ وَلَا غَيْرِهِ إلَّا أَنْ يُسْتَرَابَ مِنْ شَهَادَتِهِمْ، فَلَهُ أَنْ يَسْتَدِلَّ عَلَى صِحَّةِ ذَلِكَ بِالتَّفْرِقَةِ بَيْنَهُمْ. وَفِي تَنْبِيهِ الْحُكَّامِ: أَنَّ الْقَاضِيَ إذَا اسْتَرَابَ مِنْ الشُّهُودِ كَشَفَ عَنْ حَقِيقَةِ مَا اتَّهَمَهُمْ بِهِ، فَإِنْ ظَهَرَ لَهُ حَقِيقَةُ مَا تَوَهُّم عَمِلَ عَلَى مَا ظَهَرَ لَهُ بِمَا يَقْتَضِيه مُوجِبُ الشَّرْعِ وَإِنْ لَمْ يَظْهَرَ لَهُ شَيْءٌ وَعَظَهُمْ وَخَوَّفَهُمْ بِاَللَّهِ وَذَكَّرَهُمْ إنْ رَأَى لِذَلِكَ مَحِلًّا.
مَسْأَلَةٌ:
إذَا شَهِدَتْ الْبَيِّنَةُ أَنَّ فُلَانًا افْتَرَى عَلَى فُلَانٍ أَوْ شَتَمَهُ أَوْ آذَاهُ أَوْ سَفِهَهُ، فَلَا يَجُوزُ ذَلِكَ حَتَّى يَكْشِفُوا عَنْ حَقِيقَتِهِ، إذْ قَدْ يَظُنُّونَ مَا قَالُوا وَهُوَ عَلَى خِلَافِ مَا ظَنُّوا قَالَ أَصْبَغُ: إلَّا أَنْ تَفُوتَ الْبَيِّنَةُ، وَلَا يُقْدَرُ عَلَى إعَادَتِهِمْ فَلْيُعَاقَبْ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ عَلَى أَخَفِّ مَا يَلْزَمُ فِي ذَلِكَ.
مَسْأَلَةٌ:
وَإِذَا شَهِدَ عَلَى دَابَّةٍ فَلَا يَمْتَحِنَهُمْ بِإِدْخَالِهَا فِي دَوَابَّ وَيُكَلِّفُهُمْ إخْرَاجَهَا مِنْ بَيْنِهَا، وَإِنْ سَأَلَهُ الْخَصْمُ ذَلِكَ فَلَا يَفْعَلْ، وَهَذَا عَلَى مَا ذَكَرَهُ ابْنُ الْمَوَّازِ: أَنَّ الْقَاضِيَ إذَا اتَّهَمَ الشُّهُودَ فَلَا يُفَرِّقُ بَيْنَهُمْ، سَأَلَهُ الْخَصْمُ ذَلِكَ أَوْ لَمْ يَسْأَلْهُ، وَلَا يُدْخِلُ عَلَيْهِمْ بِذَلِكَ رُعْبًا، لِأَنَّ الشَّاهِدَ إذَا فُعِلَ بِهِ ذَلِكَ اخْتَلَطَ عَقْلُهُ وَحَصَلَ لَهُ الرُّعْبُ، وَلَكِنْ يَسْتَمِعُ مِنْهُمْ وَيَسْأَلُ عَنْهُمْ.
وَفِي الطُّرَرِ خِلَافُ ذَلِكَ عَنْ سَحْنُونٍ قَالَ: وَإِذَا شَهِدُوا بِنِكَاحٍ أَوْ إقْرَارٍ أَوْ إبْرَاءٍ، وَقَالُوا: شَهِدْنَا عَلَى مَعْرِفَةٍ مِنَّا لَعَيْنِهَا وَنَسَبِهَا، فَسَأَلَ الْخَصْمُ أَنْ يُدَخِّلَهَا الْقَاضِي فِي نِسَاءٍ لِتُخْرِجَهَا الشُّهُودُ فَقَالُوا: لَا نَدْرِي هَلْ نَعْرِفُهَا الْيَوْمَ أَمْ لَا؟ وَقَدْ تَغَيَّرَتْ حَالُهَا أَوْ قَالُوا لَا نَتَكَلَّفُ ذَلِكَ، فَقَالَ سَحْنُونٌ لابد أَنْ يُخْرِجُوهَا بِعَيْنِهَا وَقَالَ غَيْرُهُ: لَا يَلْزَمُهُمْ ذَلِكَ كَمَا تَقَدَّمَ.
مَسْأَلَةٌ:
وَإِذَا شَهِدَتْ بَيِّنَةٌ عَلَى رَجُلٍ غَائِبٍ وَتَضَمَّنَتْ شَهَادَتُهُمْ مَعْرِفَةَ عَيْنِهِ، ثُمَّ قَدِمَ الْغَائِبُ فَسَأَلَ أَنْ تَشْهَدَ الْبَيِّنَةُ عَلَى عَيْنِهِ، لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ لَهُ إذَا كَانَ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ مَشْهُورٌ، أَوْ إنْ لَمْ يَكُنْ مَشْهُورًا وَتَوَقَّعَ الْحَاكِمُ فِي شَهَادَتِهِمْ شَيْئًا لَزِمَهُمْ أَنْ يَعُودُوا فَيَشْهَدُوا عَلَى عَيْنِهِ، وَكَذَلِكَ إذَا شَهِدَتْ الْبَيِّنَةُ عَلَى حَاضِرٍ بِمَعْرِفَةِ الْعَيْنِ وَكَانَ مَشْهُورًا لَمْ يَلْزَمْهُمَا ذَلِكَ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

.فَصْلٌ وَمِمَّا وَقَعَ فِي بَابِ الْوَقْفِ:

مَسْأَلَةٌ:
وَفِي الْمُتَيْطِيَّةِ: إذَا بَاعَ الْمُحْبَسُ عَلَيْهِ الْحَبْسَ وَهُوَ عَالِمٌ بِهِ فَإِنَّهُ يُعَاقَبُ بِالْأَدَبِ وَالسَّجْنِ عِنْدَ ثُبُوتِ الْحَبْسِ وَثُبُوتِ الْبَيْعِ إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ فِي بَيْعِهِ عُذْرٌ يُعْذَرُ بِهِ، وَيَرْجِعُ الْمُبْتَاعُ عَلَيْهِ فَيَسْتَوْفِي مِنْهُ الثَّمَنَ، فَإِنْ كَانَ مُعْدَمًا وَثَبَتَ عُدْمُهُ وَحَلَفَ بِمَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْحَلِفُ بِهِ، فَلِلْمُبْتَاعِ اسْتِغْلَالُ الْحَبْسِ حَيَاةَ الْمُحْبَسِ عَلَيْهِ حَتَّى يَسْتَوْفِيَ ثَمَنَهُ فَيَدْفَعُ إلَيْهِ غَلَّتَهُ عَامًا بِعَامٍ، فَإِنْ اسْتَوْفَى ثَمَنَهُ رَجَعَتْ الْغَلَّةُ إلَى الْبَائِعِ وَإِنْ مَاتَ الْبَائِعُ قَبْلَ أَنْ يَسْتَوْفِيَ ثَمَنَهُ رَجَعَ الْحَبْسُ إلَى الْمَرْجِعِ الْمَذْكُورِ، وَلَمْ يَكُنْ لِلْمُبْتَاعِ مِنْ الْغَلَّةِ بَعْدَ مَوْتِ الْبَائِعِ مِنْهُ شَيْءٌ، وَلَا رُجُوعَ لَهُ عَلَى مَنْ رَجَعَ إلَيْهِ الْحَبْسُ بِشَيْءٍ، وَإِنَّمَا يُرْجَعُ إلَى مَالِ الْبَائِعِ إنْ كَانَ لَهُ مَالٌ، وَإِلَّا فَهِيَ مُصِيبَةٌ نَزَلَتْ بِهِ.
مَسْأَلَةٌ:
وَفِي مُخْتَصَرِ الْوَاضِحَةِ قَالَ مَالِكٌ فِي الْعَبْدِ الْمُحْبَسِ فِي خِدْمَةِ الْمَسْجِدِ: إذَا أَحْدَثَ فَسَادًا أَوْ إبَاقًا لَمْ أَرَ بَأْسًا أَنْ يُبَاعَ وَيُشْتَرَى بِثَمَنِهِ مِثْلُهُ يَقُومُ مَقَامَهُ، وَيَكُونُ مَكَانَهُ قَالَهُ ابْنُ الْمَاجِشُونِ وَمُطَرِّفٌ وَابْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ وَأَصْبَغُ.
مَسْأَلَةٌ:
وَفِي الْمُتَيْطِيَّةِ عَنْ كِتَابِ ابْنِ حَبِيبٍ قَالَ مُطَرِّفٌ فِي مَنْزِلٍ حُبِسَ عَلَى الْمَسَاكِينِ، فَرُفِعَ إلَى قَاضٍ فَجَهِلَ فَبَاعَهُ وَفَرَّقَ ثَمَنَهُ عَلَى الْمَسَاكِينِ، ثُمَّ رُفِعَ ذَلِكَ إلَى قَاضٍ غَيْرِهِ بَعْدَهُ، أَرَى أَنْ يَفْسَخَ الْبَيْعَ وَيَرُدَّ الْمَنْزِلَ حَبْسًا وَيَدْفَعَ الثَّمَنَ لِلْمُشْتَرِي مِنْ غَلَّةِ الْحَبْسِ وَلَا شَيْءَ عَلَى الْقَاضِي، لِأَنَّ خَطَأَ الْإِمَامِ فِي الْأُصُولِ عَلَى الِاجْتِهَادِ هَدَرٌ.
مَسْأَلَةٌ:
وَمَنْ كَسَرَ خَشَبًا مِنْ خَشَبِ الْحَبْسِ فَعَلَيْهِ أَنْ يَرُدَّ الْبُنْيَانَ وَالْخَشَبَ كَمَا كَانَ، وَلَا تُؤْخَذُ مِنْهُ الْقِيمَةُ خَوْفًا مِنْ أَنْ تُؤْخَذَ الْقِيمَةُ فَلَا يُرَدُّ عَلَى حَالِهِ فَيُؤَدِّي ذَلِكَ إلَى تَغْيِيرِ هَيْئَةِ الْحَبْسِ عَنْ الْأَوَّلِ، مِنْ ابْنِ سَهْلٍ فِي مَسْأَلَةِ وَكِيلٍ بَاءَ عَلَى يَتِيمٍ أَمْوَالَهُ.

.فَصْلٌ فِيمَا وَقَعَ فِي بَابِ الْعِتْقِ:

مَسْأَلَةٌ:
وَإِذَا مَثَّلَ الرَّجُلُ رَقِيقَهُ عَمْدًا مُثْلَةً تَشِينُهُ عَتَقَ عَلَيْهِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ مَا قَالَهُ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ: بَلَغَنِي أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَعْتَقَ أَمَةً ضَرَبَتْهَا سَيِّدَتُهَا بِنَارٍ فَأَصَابَتْهَا، قَالَ ابْنُ وَهْبٍ وَضَرَبَ عُمَرُ سَيِّدَتَهَا، وَأَعْتَقَ عُمَرُ أَيْضًا أَمَةَ رَجُلٍ أَحْمَى رَضْفًا وَأَقْعَدَهَا عَلَيْهِ فَأَحْرَقَ فَرْجَهَا، وَجَاءَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْتَقَ بِالْمُثْلَةِ قَالَ ابْنُ رَاشِدٍ: وَلَا شَكَّ أَنَّ الْمُثْلَةَ إنْ كَانَتْ بِإِبَانَةِ عُضْوٍ وَإِفْسَادِهِ، أَوْ أَنْزَلَ بِهِ مَا شَوَّهَ خِلْقَتَهُ وَسَاءَ مَنْظَرُهُ، وَكَانَ ذَلِكَ مِمَّا لَا يَزُولُ وَلَا يَعُودُ لِهَيْئَتِهِ فَهُوَ شَيْنٌ يُوجِبُ الْعِتْقَ إذَا فَعَلَهُ عَمْدًا.
مَسْأَلَةٌ:
قَالَ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ ظَاهِرُ كَلَامِ ابْنِ الْحَاجِبِ وَغَيْرِهِ أَنَّهُ يَكْفِي فِي الْعَمْدِ قَصْدُهُ إلَى الضَّرْبِ.
وَقَالَ عِيسَى فِي شَرْحِ ابْنِ مُزَيْنٍ: وَلَا يَكُونُ مُثْلَةً بِرَمْيِهِ أَوْ ضَرْبِهِ وَإِنْ عَامِدًا لِذَلِكَ، إلَّا أَنْ يَكُونَ عَامِدًا لِلْمُثْلَةِ مِثْلَ أَنْ يُضْجِعَهُ فَيُمَثِّلُ بِهِ وَصَحَّحَهُ اللَّخْمِيُّ.
فرع:
قَالَ سَحْنُونٌ: إذْ ضَرَبَ رَأْسَهُ فَنَزَلَ الْمَاءُ فِي عَيْنَيْهِ لَمْ يُعْتَقْ عَلَيْهِ.
فرع:
قَالَ ابْنُ رَاشِدٍ وَلَوْ حَذَفَهُ بِسَيْفٍ أَوْ سِكِّينٍ فَأَبَانَ بِذَلِكَ مِنْهُ عُضْوًا لَمْ يُعْتَقْ بِذَلِكَ، وَإِنَّمَا يُعْتَقُ بِمِثْلِ مَا يُسْتَقَادُ لِلِابْنِ مِنْ أَبِيهِ، لِأَنَّ الْغَالِبَ مِنْ الْإِنْسَانِ الشَّفَقَةُ عَلَى مَالِهِ، وَقَدْ يُرِيدُ تَهْدِيدَهُ بِذَلِكَ، وَلَا يُرِيدُ خُرُوجَهُ عَنْ مِلْكِهِ بِالْعِتْقِ بِالْمُثْلَةِ، وَقَدْ يُرِيدُ الْمُثْلَةَ الْخَفِيفَةَ قَالَ: وَلَوْ كَانَ الشَّيْنُ يَسِيرًا أَوْ كَثِيرًا وَلَكِنَّهُ يَعُودُ لِهَيْئَةٍ فَلَا عِتْقَ عَلَيْهِ.
فرع:
وَإِذَا وَقَعَتْ الْمُثْلَةُ خَطَأً فَلَا عِتْقَ عَلَيْهِ وَإِنَّمَا يَكُونُ مَعَ الْعَمْدِ، فَإِنْ احْتَمَلَ فِعْلُهُ الْأَمْرَيْنِ أُحْلِفَ مَا أَرَادَ ذَلِكَ وَتُرِكَ.
مَسْأَلَةٌ:
وَيُشْتَرَطُ فِي الْمُمَثَّلِ بِعَبْدِهِ أَنْ يَكُونَ بَالِغًا عَاقِلًا حُرًّا رَشِيدًا مُسْلِمًا لَا دَيْنَ عَلَيْهِ.
وَفِي مُثْلَةِ السَّفِيه قَوْلَانِ وَفِي مُثْلَةِ الذِّمِّيِّ بِعَبْدِهِ الذِّمِّيِّ قَوْلَانِ.
فرع:
وَقَطْعُ الْأُذُنِ وَشِقِّهَا وَقَطْعِ الْأُنْمُلَةِ وَالظُّفْرِ وَوَسْمِ وَجْهِهِ بِالنَّارِ شَيْنٌ وَوَسْمُ ذِرَاعِهِ بِالنَّارِ لَيْسَ بِشَيْنٍ.
وَفِي وَسْمِ وَجْهِهِ بِغَيْرِ نَارٍ قَوْلَانِ، وَقَلْعِ الْأَسْنَانِ وَسَحْلِهَا بِالْمِبْرَدِ شَيْنٌ، وَفِي السِّنِّ الْوَاحِدَةِ قَوْلَانِ، وَحَلْقُ رَأْسِ الْأَمَةِ وَلِحْيَةِ الْعَبْدِ لَيْسَ بِشَيْنٍ إلَّا فِي التَّاجِرِ الْمُحْتَرَمِ وَالْأَمَةِ الرَّفِيعَةِ.
فرع:
مَا ذَكَرَهُ مِنْ الْحُكْمِ فِي قَلْعِ الْأَسْنَانِ لَا يَجْرِي فِي الرَّحَا، فَلَوْ قَلَعَ رَحًا أَوْ أَثْنَتَيْنِ فَلَا يُعْتَقُ بِذَلِكَ، لِأَنَّ شَيْنَ ذَلِكَ غَيْرُ ظَاهِرٍ.
فرع:
قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: لَا يُعْتَقُ بِالْمُثْلَةِ إلَّا بِالْحُكْمِ.
وَقَالَ أَشْهَبُ يُعْتَقُ بِالْمُثْلَةِ.
وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ الْمُثْلَةُ الْمَشْهُورَةُ لَا تَفْتَقِرُ إلَى الْحُكْمِ، وَأَمَّا مَا يُشَكُّ فِيهِ فلابد مِنْ الْحَاكِمِ، لِأَنَّ الْحَاكِمَ يَجْتَهِدُ فِي ذَلِكَ هَلْ مِمَّا يُوجِبُ الْعِتْقَ أَمْ لَا؟.
مَسْأَلَةٌ:
وَوَقَعَ فِي الْمُسْتَخْرَجَةِ فِيمَنْ فَرَّ عَبْدُهُ إلَى الْعَدُوِّ فَغَزَا الْمُسْلِمُونَ تِلْكَ الْبَلْدَةَ فَرَآهُ سَيِّدُهُ فِي جَيْشِ الْعَدُوِّ فَقَالَ سَيِّدُهُ لِشُهُودٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ: إنِّي أُرِيدُ أَنْ أَدْعُوَهُ إلَى الْخُرُوجِ وَالرُّجُوعِ مَعِي عَلَى أَنْ أُعْتِقَهُ، وَأَنَا غَيْرُ مُلْتَزَمٍ لِذَلِكَ وَإِنَّمَا أُرِيدُ اسْتِخْرَاجَهُ، ثُمَّ قَالَ لِلْعَبْدِ اُخْرُجْ إلَيَّ وَأَنْت حُرٌّ، فَسُئِلَ مَالِكٌ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ: لَا يَلْزَمُ السَّيِّدَ الْعِتْقُ وَالْمَمْلُوكُ رَقِيقٌ.

.فَصْلٌ وَمِمَّا وَقَعَ فِي بَابِ الْكِتَابَةِ:

مَسْأَلَةٌ:
وَإِذَا كُوتِبَ عَبِيدٌ كِتَابَةً وَاحِدَةً فَبَعْضُهُمْ حَمِيلٌ عَنْ بَعْضٍ، فَإِنْ قَالَ بَعْضُهُمْ: عَجَزْت وَأَلْقَى بِيَدِهِ، فَإِنَّ لِأَصْحَابِهِ أَنْ يَسْتَعْمِلُوهُ فِيمَا يُطِيقُ مِنْ الْعَمَلِ وَيَسْتَعِينُونَ بِذَلِكَ فِي كِتَابَتِهِمْ حَتَّى يُعْتَقَ بِعِتْقِهِمْ أَوْ يُرَقَّ بِرِقِّهِمْ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ مَعَهُ وَلَدٌ فِي الْكِتَابَةِ فَلَيْسَ لَهُ تَعْجِيزُ نَفْسِهِ، وَيُؤْخَذُ بِالسَّعْيِ عَلَيْهِمْ صَاغِرًا مَقْهُورًا وَإِنْ ظَهَرَ مِنْهُ لَدَدٌ يُعَاقَبُ اُنْظُرْ الْبَاجِيَّ.

.فَصْلٌ وَمِمَّا وَقَعَ فِي بَابِ الْوَصَايَا:

مَسْأَلَةٌ:
إذَا شَهِدَ عَلَى الْمُوصِي أَنَّهُ قَصَدَ الْأَضْرَارَ بِمَا أَوْصَى بِهِ بَطَلَتْ وَصِيَّتُهُ، وَلَوْ أَوْصَى لِغَيْرِ وَارِثٍ مِنْ الزِّيَادَاتِ الْمُلْحَقَةِ مِنْ مَعِينِ الْحُكَّامِ.
مَسْأَلَةٌ:
إذَا كَانَ تَحْتَ يَدِ الْأَبِ لِوَلَدِهِ أَوْ الْوَصِيِّ لِمَحْجُورِهِ مَالٌ وَعَلَى الصَّغِيرِ دَيْنٌ، فَادَّعَى الْأَبُ أَوْ الْوَصِيُّ نَفَادَ الْمَالِ الَّذِي تَحْتَ يَدِهِ وَلَمْ يُعْلَمْ نُفَادُهُ وَاتُّهِمَ عَلَى كَتْمِهِ، فَإِنَّهُ يُحْبَسُ وَلَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ لِأَنَّهُ ادَّعَى خِلَافَ الظَّاهِرِ، وَيَشْهَدُ لِذَلِكَ مَا تَقَدَّمَ فِي أَوَّلِ قِصَّةِ مَالِ حُيَيِّ بْنِ أَخْطَبَ، الَّذِي عُوقِبَ بِسَبَبِهِ كِنَانَةُ بْنُ الرَّبِيعِ لِمَا ادَّعَى أَنَّهُ أَذْهَبَتْهُ النَّفَقَاتُ وَالْحُرُوبُ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْعَهْدُ قَرِيبٌ وَالْمَالُ كَثِيرٌ وَأَمَرَ بِعُقُوبَتِهِ».
مَسْأَلَةٌ:
قَالَ مَالِكٌ فِي رَجُلٍ أَوْصَى إلَى زَوْجَتِهِ فَتَزَوَّجَتْ، فَخِيفَ عَلَى الْمَالِ فَإِنَّهَا تَكْشِفُ عَمَّا قَبْلَهَا، وَإِنْ كَانَ لَا لُبْسَ بِحَالِهَا لَمْ تَكْشِفْ وَإِنْ عَزَلَتْ الْوَلَدَ فِي بَيْتٍ وَأَقَامَتْ لَهُمْ خَادِمًا، وَمَنْ يَصْلُحُهُمْ فَهِيَ أَوْلَى بِهِمْ، وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ عُزِلُوا عَنْهَا.
وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ إنْ كَانَ الْمَالُ كَثِيرًا وَخِيفَ مِنْ نَاحِيَتِهَا نُزِعَ مِنْهَا، وَإِنْ رُضِيَ حَالُهَا وَكَانَ الْمَالُ يَسِيرًا لَمْ يُؤْخَذْ مِنْهَا، قَالَ مُحَمَّدٌ: وَلَمْ تُكْشَفْ وَهِيَ عَلَى الْوَصِيَّةِ عَلَى كُلِّ حَالٍ، وَلَوْ قَالَ الْمَيِّتُ: إنْ تَزَوَّجْت فَانْزِعُوا الْوَلَدَ مِنْهَا وَأَرَادَتْ النِّكَاحَ، فَإِنْ عَزَلَتْهُمْ فِي مَكَان عِنْدَهَا مَعَ خَادِمٍ وَنَفَقَةٍ فَهِيَ أَوْلَى بِهِمْ، وَإِلَّا نُزِعُوا مِنْهَا فِي الطُّرَرِ إذَا عُلِمَ أَنَّهَا صَالِحَةُ الْحَالِ وَافِرَةُ الْمَالِ ظَاهِرَةُ السَّدَادِ حَسَنَةُ النَّظَرِ بِمَحْجُورِهَا، بَعْدَ أَنْ أَقَرَّتْ أَنْ تُحْصِيَ الْمَالَ عِنْدَهَا بِالْإِشْهَادِ عَلَيْهِ، فَإِنْ جَهِلَ حَالُهَا شُرِكَ مَعَهَا فِي النَّظَرِ غَيْرُهَا، وَيَكُونُ الْمَالُ عِنْدَهُ وَلَمْ يُتْرَكْ عِنْدَهَا، لِأَنَّ الْمَرْأَةَ إذَا تَزَوَّجَتْ غُلِبَتْ عَلَى جُلِّ أَمْرِهَا، وَلَا تُعْزَلُ بِالتَّزْوِيجِ عَنْ الْإِيصَاءِ إلَّا أَنْ يَثْبُتَ عَلَيْهَا مَا يُوجِبُ ذَلِكَ.
فرع:
وَلَوْ أَسْنَدَ الْوَصِيَّةَ إلَيْهَا عَلَى أَنَّهَا لَا تَتَزَوَّجُ فَتَزَوَّجَتْ فُسِخَتْ الْوَصِيَّةُ، قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: وَكَذَلِكَ لَوْ أَوْصَى لِأُمِّ وَلَدِهِ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ عَلَى أَنَّهَا لَا تَتَزَوَّجُ، فَإِنْ تَزَوَّجَتْ أُخِذَتْ مِنْهَا.
مَسْأَلَةٌ:
قَالَ أَصْبَغُ: إنْ كَانَ الْوَصِيُّ غَيْرَ عَدْلٍ وَهُوَ مِمَّنْ يُرْجَى مِنْهُ حُسْنُ النَّظَرِ كَالْقَرِيبِ وَالْمَوْلَى وَشِبْهُ ذَلِكَ، فَأَرَى أَنْ يُجْعَلَ مَعَهُ غَيْرُهُ وَيَكُونُ الْمَالُ بِيَدِ الشَّرِيكِ، وَقَالَهُ مُطَرِّفٌ وَابْنُ الْمَاجِشُونِ: وَقِيلَ يُعْزَلُ.
مَسْأَلَةٌ:
قَالَ بَعْضُ الْأَنْدَلُسِيِّينَ إذَا أَوْصَى بِتَنْفِيذِ ثُلُثِهِ لِفَاسِقٍ أَوْ سَارِقٍ، لَمْ يَكُنْ لِلْقَاضِي عَزْلُهُ لَكِنْ يُطَالِبُهُ بِالْإِشْهَادِ عَلَى تَنْفِيذِهِ.
مَسْأَلَةٌ:
لَوْ تَبَيَّنَ لِلْقَاضِي جِنَايَةُ الْوَصِيِّ سَقَطَتْ وِلَايَتُهُ، وَيُقِيمُ الْقَاضِي غَيْرَهُ، فَإِنْ كَانَ مَعَهُ شَرِيكٌ، فَقَالَ مَالِكٌ: إذَا عُزِلَ أَحَدُ الْوَصِيَّيْنِ لِجِنَايَةٍ فَلَا يُجْعَلُ مَعَ الْآخَرِ غَيْرُهُ إلَّا أَنْ يَضْعُفَ، وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ يُجْعَلُ مَعَهُ غَيْرُهُ وَإِلَيْهِ مَالَ سَحْنُونٌ.
مَسْأَلَةٌ:
إذَا شُهِدَ عَلَى الْوَصِيِّ أَنَّهُ بَوَّرَ أَرْضَ الْيَتِيمِ وَأَخَذَ لِنَفْسِهِ الزَّرِيعَةَ، فَإِنْ شَهِدُوا عَلَيْهِ بِمَبْلَغِهَا أَخَذَ بِمِثْلِ ذَلِكَ إلَّا أَنْ يَتَبَيَّنَ أَنَّهُ صَرَفَهَا فِي نَفَقَةِ الْيَتِيمِ، وَإِنْ لَمْ يَعْلَمُوا كَيْلَهَا صُدِّقَ مَعَ يَمِينِهِ فِي مَبْلَغِهَا، فَإِنْ أَنْكَرَ شَهَادَتَهُمْ وَهُمْ لَا يَعْرِفُونَ مَكِيلَتَهَا، كُلِّفَ الْإِقْرَارَ عَلَى كُلِّ حَالٍ وَضُيِّقَ عَلَيْهِ بِالسَّجْنِ وَالْأَدَبِ الْمُوجِعِ الشَّدِيدِ حَتَّى يُقِرَّ، وَإِنْ دَامَ عَلَى الْإِنْكَارِ وَلَمْ يُحَقِّقْ الشُّهُودُ قَلِيلًا وَلَا كَثِيرًا مِنْ كَيْلِ الزَّرِيعَةِ حَلَفَ عَلَى ذَلِكَ وَخَلَّى سَبِيلَهُ، وَتَمَامُهَا فِي أَحْكَامِ ابْنِ سَهْلٍ وَمَسَائِلُ مِنْ هَذَا الْمَعْنَى.
مَسْأَلَةٌ:
وَأَمَّا فِسْقُ الْوَصِيِّ فَمُوجِبٌ لِلْعَزْلِ، وَقَالَ الْمَخْزُومِيُّ: لَيْسَ لِلْقَاضِي عَزْلُهُ وَلَكِنْ يَجْعَلُ مَعَهُ غَيْرَهُ.
مَسْأَلَةٌ:
إذَا عَزْلَ الْقَاضِي الْوَصِيَّ لِأَمْرٍ كَرِهَهُ مِنْهُ أَوْ لِعُذْرٍ عَذَرَهُ بِهِ فَلَا يُكْتَبُ لَهُ بَرَاءَةً مِمَّا كَانَ جَرَى عَلَى يَدَيْهِ، وَإِنْ أَتَى بِالْبَيِّنَةِ حَتَّى يَبْلُغَ الْيَتِيمُ مَبْلَغَ الدَّفْعِ عَنْ نَفْسِهِ.
مَسْأَلَةٌ:
وَإِذَا قَامَ مُحْتَسِبٌ وَطَلَب أَنْ يُكْشَفَ حَجْرُ الْوَصِيِّ لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ إلَّا أَنْ يَكُونَ الْوَصِيُّ لَا مَالَ لَهُ، أَوْ عَلَيْهِ دَيْنٌ يَخْشَى أَنْ يَقْضِيَهُ مِنْ مَالِ مَحْجُورِهِ، وَلَا وَفَاءَ عِنْدَهُ وَشِبْهُ ذَلِكَ. وَهَذَا إذَا كَانَ أَصْلُ الْمَالِ عِنْدَهُ مَعْرُوفًا، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعْرُوفًا وَجَبَ تَعَرُّفُ قَدْرِ مَا عِنْدَهُ، وَكَذَلِكَ الْأَبُ فِي وَلَدِهِ الصَّغِيرِ حَكَاهُ فِي الطُّرَرِ.
مَسْأَلَةٌ:
وَإِذَا اتَّهَمَ الْقَاضِي الْأَوْصِيَاءَ نَزَعَ الْمَالَ وَجَعَلَهُ عِنْدَ غَيْرِهِمْ، قَالَ أَصْبَغُ: وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ فِيهِ نَظَرٌ وَكَانَ ذَلِكَ عَزْلًا لَهُمْ، وَكَذَلِكَ إذَا اخْتَلَفُوا فَإِنَّهُ يَجْعَلُهُ عِنْدَ غَيْرِهِمْ، قَالَ بَعْضُهُمْ: وَالْأَحْسَنُ فِي ذَلِكَ عِنْدَ الِاخْتِلَافِ أَنْ يَجْعَلَهُ الْقَاضِي عِنْدَ أَمِينٍ وَيَأْمُرُهُمَا جَمِيعًا بِأَنْ يُنَفِّذَاهُ فِي وَجْهِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْفَرِدَ بِهِ أَحَدُهُمَا دُونَ صَاحِبِهِ.
مَسْأَلَةٌ:
وَإِذَا عَزَلَ الْقَاضِي الْوَصِيَّ لِجُرْحَةٍ، فَأَرَادَ الْمُوَلَّى عَلَيْهِ أَنْ يَكْشِفَ الْوَصِيَّ عَمَّيْ كَانَ لَهُ بِيَدِهِ فَلَهُ ذَلِكَ، وَيُسْأَلُ الْوَصِيُّ عَنْ ذَلِكَ، فَإِنْ رَدَّ بِإِقْرَارٍ أَوْ إنْكَارٍ قَيَّدَ الْقَاضِي ذَلِكَ عَلَيْهِ، وَإِنْ أَبَى مِنْ الرَّدِّ بَاءَ بِإِقْرَارِهِ، فَإِنَّ الْمَرْوِيَّ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ يَحْمِلُ السَّوْطَ عَلَيْهِ حَتَّى يُنْكِرَ أَوْ يُقِرَّ.
وَقَالَ أَصْبَغُ: يُقَالُ لَهُ إنْ تَمَادَيْت عَلَى امْتِنَاعِك قَضَيْنَا لِصَاحِبِك عَلَيْك بِمَا يَدَّعِيه مَعَ يَمِينِهِ مِنْ أَحْكَامِ ابْنِ سَهْلٍ.
مَسْأَلَةٌ:
وَإِذَا كَانَ لِلْمَحْجُورِ جَنَّاتٌ تَحْتَاجُ إلَى سَقْيٍ وَعِلَاجٍ فَفَرَّطَ فِيهَا الْوَصِيُّ أَوْ النَّاظِرُ لَهُ حَتَّى فَسَدَتْ، فَإِنَّهُ يَضْمَنُ ذَلِكَ لِتَفْرِيطِهِ فِيهَا وَإِهْمَالِهَا، قَالَهُ صَاحِبُ الطُّرَرِ وَذَكَرَهَا ابْنُ سَهْلٍ فِي بَابِ مَسَائِلِ الْمَحْجُورِ بِأَبْسَطِ مِنْ هَذَا وَأَنَّهُ يُؤَدَّبُ.
مَسْأَلَةٌ:
وَإِذَا تَصَدَّقَ عَلَى الْمَحْجُورِ بِشَيْءٍ وَقَبَضَهُ الْوَصِيُّ فَقَامَ وَارِثُهُ وَطَلَبَ أَنْ يَأْخُذَ نُسْخَةَ عَقْدِ الصَّدَقَةِ فَقَالَ بَعْضُ الْأَشْيَاخِ: لَيْسَ لَهُ أَنْ يَسْتَكْشِفَ الْوَصِيَّ عَمَّا بِيَدِهِ وَلَا يَأْخُذَ نُسَخَ عُقُودِهِ، وَعَلَى الْوَصِيِّ أَنْ يَشْهَدَ لِمَحْجُورِهِ لِمَالِهِ بِيَدِهِ، فَإِنْ أَبَى أَجْبَرَهُ الْحَاكِمُ.
مَسْأَلَةٌ:
وَإِذَا عَلِمَ الْوَصِيُّ بِأَنَّ فِي ذِمَّةِ الْوَصِيِّ دَيْنًا أَوْ حَقًّا وَأَمْكَنَهُ إيصَالُ ذَلِكَ إلَى رَبِّهِ أَوْصَلَهُ إلَيْهِ، وَإِنْ لَمْ يُمْكِنْهُ ذَلِكَ رَفَعَ ذَلِكَ إلَى الْحُكَّامِ وَكَانَ شَاهِدًا لِصَاحِبِ الْحَقِّ.

.فَصْلٌ: وَمِمَّا وَقَعَ فِي بَابِ الْمَوَارِيثِ:

مَسْأَلَةٌ:
وَلَا يَرِثُ قَاتِلُ الْعَمْدِ مِنْ الْمَالِ وَلَا مِنْ الدِّيَةِ عُقُوبَةً لَهُ.
وَيَرِثُ قَاتِلُ الْخَطَأِ مِنْ الْمَالِ دُونَ الدِّيَةِ، قَالَ الْقَاضِي أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ الْوَهَّابِ: وَإِنَّمَا قُلْنَا: قَاتِلُ الْعَمْدِ لَا يَرِثُ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَيْسَ لِلْقَاتِلِ شَيْءٌ»، وَرَوَى لَيْسَ لِلْقَاتِلِ مِيرَاثٌ، وَلِأَنَّ التُّهْمَةَ تُؤَثِّرُ فِي الْمِيرَاثِ فِي الْإِدْخَالِ وَالْإِخْرَاجِ، وَالْقَاتِلُ عَمْدًا مُتَّهَمٌ بِاسْتِعْجَالِ الْمِيرَاثِ فَمُنِعَ مِنْهُ وَعُومِلَ بِنَقِيضِ مَا اُتُّهِمَ بِهِ مِنْ الِاسْتِعْجَالِ، وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ التُّهْمَةَ تُؤَثِّرُ فِي الْإِدْخَالِ وَالْإِخْرَاجِ، أَنَّ الْمُتَزَوِّجَ فِي الْمَرَضِ الْمَخُوفِ يُفْسَخُ نِكَاحُهُ وَلَا تَرِثُهُ زَوْجَتُهُ لِلتُّهْمَةِ بِإِدْخَالِ وَارِثٍ لِلضَّرَرِ.
مَسْأَلَةٌ:
وَكَذَلِكَ إذَا تَزَوَّجَ مَرِيضَةً فَإِنَّهُ يُفْسَخُ النِّكَاحُ وَلَا يَرِثُهَا إنْ مَاتَتْ لِأَنَّهَا تُتَّهَمُ بِإِدْخَالِ وَارِثٍ لِلضَّرَرِ.
مَسْأَلَةٌ:
وَكَذَلِكَ إنْ طَلَّقَ زَوْجَتَهُ بِالثَّلَاثِ فِي مَرَضِهِ ثُمَّ مَاتَ وَرِثَتْهُ، لِأَنَّهُ يُتَّهَمُ أَنَّهُ أَرَادَ إخْرَاجَهَا مِنْ الْمِيرَاثِ فَعُوقِبَ بِنَقِيضِ مَقْصُودِهِ.
مَسْأَلَةٌ:
وَكَذَلِكَ الْأَعَاجِمُ إذَا سُبُوا لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُمْ فِي أَنْسَابِهِمْ فِي بَابِ التَّوَارُثِ إلَّا مَعَ قِيَامِ الْبَيِّنَةِ، فَأَمَّا بِقَوْلِ الْقَائِلِ مِنْهُمْ هَذَا أَخِي وَشِبْهُ ذَلِكَ فَلَا يُقْبَلُ، لِأَنَّهُمْ يُتَّهَمُونَ فِي إرَادَةِ قَطْعِ اسْتِحْقَاقِنَا لِإِرْثِهِمْ، فَتَبَيَّنَ تَأْثِيرُ التُّهْمَةِ فِي الْإِدْخَالِ وَالْإِخْرَاجِ فِي الْمَوَارِيثِ.
مَسْأَلَةٌ:
قَاتِلُ الْخَطَأِ لَا يَرِثُ مِنْ الدِّيَةِ لِأَنَّ الدِّيَةَ وَاجِبَةٌ عَلَيْهِ لِجِنَايَتِهِ، وَالْعَاقِلَةُ تَحْمِلُهَا عَنْهُ تَخْفِيفًا وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَجْنِيَ جِنَايَةً يَسْتَحِقُّ بِهَا مَالًا لِأَنَّ الْجِنَايَةَ إنْ لَمْ تُلْزِمْهُ مَالًا. فَلَا أَقَلَّ مِنْ أَنْ لَا تُفِيدَ اسْتِجْلَابَ مَالٍ.
مَسْأَلَةٌ:
وَكَذَلِكَ اللِّعَانُ يَقْطَعُ التَّوَارُثَ بَيْنَ الْأَبِ وَالْوَلَدِ، لِأَنَّهُ قَطْعٌ لِنَسَبِ الْوَلَدِ مِنْهُ قَطْعُ التَّوَارُثِ بَيْنَهُمَا وَبَقِيَ الْإِرْثُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أُمِّهِ.
مَسْأَلَةٌ:
وَمِنْ ذَلِكَ الْعَلَامَاتُ الَّتِي يُعْرَفُ بِهَا الْخُنْثَى الْمُشْكِلُ وَهِيَ أَنَّهُ إنْ كَانَ كَبِيرًا فَإِنَّهُ يُؤْمَرُ أَنْ يَبُولَ إلَى حَائِطٍ أَوْ مِنْ فَوْقِ حَائِطٍ، فَإِنْ ضَرَبَ بَوْلُهُ الْحَائِطَ أَوْ كَانَ جَالِسًا فَوْقَهُ فَخَرَجَ بَوْلُهُ عَنْ الْحَائِطِ فَهِيَ ذَكَرٌ، وَإِنْ أَسْلَسَ بَيْنَ فَخْذَيْهِ فَهُوَ أُنْثَى، وَإِنْ كَانَ صَغِيرًا فَإِنَّهُ يُكْشَفُ عَنْ عَوْرَتِهِ وَيُنْظَرُ إلَى مَبَالِهِ، وَذَكَرُوا غَيْرَ ذَلِكَ مِنْ الْعَلَامَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى تَمَيُّزِ الذَّكَرِ مِنْ الْأُنْثَى يَطُولُ ذِكْرُهَا.

.الْفَصْلُ الْعَاشِرُ فِي الْجِنَايَاتِ:

وَهِيَ: الْجِنَايَةُ عَلَى النَّفْسِ، وَالْجِنَايَةُ عَلَى الْعَقْلِ، وَالْجِنَايَةُ عَلَى الْمَالِ، وَالْجِنَايَةُ عَلَى النَّسَبِ، وَالْجِنَايَةُ عَلَى الْعِرْضِ، وَجِنَايَةُ الْمُحَارَبِينَ، وَالْجِنَايَةُ فِي الْأَدْيَانِ، وَيَنْدَرِجُ فِي ذَلِكَ: حُكْمُ الْخَوَارِجِ وَالرِّدَّةِ، وَحُكْمُ الزِّنْدِيقِ، وَحُكْمُ مَنْ سَبَّ اللَّهَ تَعَالَى وَالْمَلَائِكَةَ وَالْأَنْبِيَاءَ وَالصَّحَابَةَ، وَحُكْمُ السَّاحِرِ، وَحُكْمُ الْعَائِنِ.
وَالْكَلَامُ هُنَا فِي الْجِنَايَةِ عَلَى النَّفْسِ فَهِيَ عَلَى قِسْمَيْنِ:
الْأَوَّلُ: فِي الْقَتْلِ.
الثَّانِي: فِي الْجِرَاحِ وَالْأَطْرَافِ.

.الْقِسْمُ الْأَوَّلُ فِي الْقَتْلِ:

الْأَوَّلُ: فِي الْقَتْلِ.
وَهُوَ ضَرْبَانِ: عَمْدٌ وَخَطَأٌ.

.الْأَوَّلُ فِي الْعَمْدِ:

وَلَا خِلَافَ فِي أَنَّ قَتْلَ النَّفْسِ حَرَامٌ، وَقَدْ شُرِعَ فِيهِ الْقِصَاصُ لِلْحِكْمَةِ الَّتِي ذَكَرَهَا اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ الْعَزِيزِ فِي قَوْله تَعَالَى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} [البقرة: 179]، ثُمَّ الْقِصَاصُ يَتَوَقَّفُ عَلَى وُجُودِ السَّبَبِ وَالشَّرْطِ وَانْتِفَاءِ الْمَانِعِ، فَالسَّبَبُ فِي الْقَتْلِ الْعَمْدِ الْعُدْوَانُ الْمَحْضُ فَالْعَمْدُ يُخْرِجُ الْخَطَأَ، وَالْعُدْوَانُ يُخْرِجُ الِاسْتِيفَاءَ وَيُخْرِجُ مَنْ كَانَ غَرِيقًا ثُمَّ أَلْقَاهُ خَوْفًا عَلَى نَفْسِهِ، وَبِالْمَحْضِ يَخْرُجُ شِبْهُ الْعَمْدِ وَهُوَ خَاصٌّ لِلْآبَاءِ مَعَ الْأَبْنَاءِ، وَالسَّبَبُ أَنْ يَفْعَلَ فِعْلًا يَنْشَأُ عَنْهُ الْمَوْتُ، كَمَنْعِهِ مِنْ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ، وَكَإِلْقَاءِ السُّمِّ فِي طَعَامِهِ، وَكَسِحْرِهِ حَتَّى يَمُوتَ وَأَشْبَاهِ ذَلِكَ.
وَأَمَّا الشَّرْطُ فَيَشْتَمِلُ عَلَى أَرْبَعَةِ أَشْيَاءَ:
الْأَوَّلُ: أَنْ يَكُونَ الْقَاتِلُ مُلْتَزِمًا لِأَحْكَامِنَا فَلَا قِصَاصَ عَلَى الْمُحَارَبِ مِنْ الْكُفَّارِ.
الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ عَاقِلًا.
الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ الْمَقْتُولُ لَمْ يَأْذَنْ لِقَاتِلِهِ فِي الْقَتْلِ.
الرَّابِعُ: أَنْ يَكُونَ الْقَتِيلُ مَعْصُومَ الدَّمِ.
وَأَمَّا الْمَوَانِعُ فَخَمْسَةَ عَشَرَ: الْأَوَّلُ: شَرَفُ الدِّينِ: فَلَا يُقْتَلُ مُسْلِمٌ بِكَافِرٍ.
الثَّانِي: الْأُبُوَّةُ: فَلَا يُقْتَلُ الْأَبُ بِوَلَدِهِ إلَّا أَنْ يُضْجِعَهُ وَيَذْبَحَهُ، وَكَذَلِكَ الْأُمُّ وَالْأَجْدَادُ.
الثَّالِثُ: شَرَفُ الْحُرِّيَّةِ: فَلَا يُقْتَلُ حُرٌّ بِعَبْدٍ.
الرَّابِعُ: تَعَذُّرُ إظْهَارِ الْقَاتِلِ مِثْلُ أَنْ تَشْهَدَ جَمَاعَةٌ عَلَى الرَّجُلِ فَيَدْخُلَ فِي جَمَاعَةٍ فَلَمْ يُعْرَفْ، فَيَحْلِفَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ خَمْسِينَ يَمِينًا أَوْ يَغْرَمُونَ الدِّيَةَ بِغَيْرِ قَسَامَةٍ، قَالَ سَحْنُونٌ لَا شَيْءَ عَلَيْهِمْ لِبُطْلَانِ الشَّهَادَةِ.
الْخَامِسُ: دَعْوَى الْوَلِيِّ خِلَافَ مَا قَالَهُ الْمَقْتُولُ عَمْدًا أَوْ خَطَأً.
السَّادِسُ: أَنْ يَظْهَرَ اللَّوْثُ فِي أَصْلِ الْقَتْلِ دُونَ وَصْفِهِ، مِثْلُ أَنْ يَقُولَ: قَتَلَنِي فُلَانٌ وَلَمْ يَقُلْ عَمْدًا وَلَا خَطَأً، فَقَالَ بَعْضُ الْأَوْلِيَاءِ عَمْدًا وَقَالَ بَعْضُهُمْ خَطَأً مَانِعٌ مِنْ الْقَتْلِ.
السَّابِعُ: إقَامَةُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ كَانَ غَائِبًا حِينَ الْقَتْلِ.
الثَّامِنُ: نُكُولُ الْأَوْلِيَاءِ عَنْ الْقَسَامَةِ.
التَّاسِعُ: رُجُوعُ الْمُدْمِي عَنْ التَّدْمِيَةِ.
الْعَاشِرُ: اخْتِيَارُ الْأَوْلِيَاءِ الْوَاحِدَ مِنْ الْجَمَاعَةِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِمْ، وَذَلِكَ مُسْقِطٌ الْقَتْلَ عَنْ بَقِيَّتِهِمْ.
الْحَادِيَ عَشَرَ: عَفْوُ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ.
الثَّانِيَ عَشَرَ: صِحَّةُ الْمُدْمَى صِحَّةُ بَيِّنَةٍ.
الثَّالِثَ عَشَرَ: عَفْوُ بَعْضِ الْمُسْتَحِقِّينَ لِلدَّمِ.
الرَّابِعَ عَشَرَ: مِيرَاثُ الْقَاتِلِ بَعْضَ دَمِهِ، كَرَجُلٍ قَتَلَ أَبَاهُ فَاسْتَحَقَّ دَمَهُ إخْوَتُهُ فَمَاتَ أَحَدُهُمْ.
الْخَامِسَ عَشَرَ: أَنْ يَكُونَ الْوَلِيُّ ابْنًا، وَقَدْ قَالَ مَالِكٌ يُكْرَهُ لَهُ أَنْ يَخْلُفَهُ فَكَيْفَ يَقْتُلُهُ؟

.الضَّرْبُ الثَّانِي فِي قَتْلِ الْخَطَأِ:

وَهُوَ الْفِعْلُ بِغَيْرِ قَصْدٍ، إمَّا مُبَاشَرَةٌ كَسُقُوطِهِ عَلَيْهِ، أَوْ تَقَلُّبِ الْمَرْأَةِ عَلَى وَلَدِهَا وَهِيَ نَائِمَةٌ وَشِبْهُ ذَلِكَ، وَإِمَّا تَسَبُّبًا كَإِهْمَالِ الصَّئُولِ وَإِهْمَالِ الْحَائِطِ الْمَائِلِ وَنَحْوِ ذَلِكَ.

.فَصْلٌ مَا يَثْبُت بِهِ قَتْل الْعَمْدِ وَالْخَطَأِ:

فَصْلٌ: وَيَثْبُتُ قَتْلُ الْعَمْدِ وَالْخَطَأِ بِالْبَيِّنَةِ وَبِالْإِقْرَارِ وَبِالْقَسَامَةِ مَعَ اللَّوْثِ، وَيَتَرَتَّبُ عَلَيْهِمَا شَيْئَانِ، إمَّا الْعَمْدُ فَيَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ الْقَوَدُ إنْ طَلَبَهُ الْأَوْلِيَاءُ، وَالضَّرْبُ وَالسَّجْنُ إنْ عَفَوْا، وَإِنْ مَنَعَ مَانِعٌ مِنْ الْقَتْلِ مِنْ عَفْوٍ أَوْ عَدَمِ مُسَاوَاةٍ كَالْمُسْلِمِ يَقْتُلُ الْكَافِرَ، وَالْحُرِّ يَقْتُلُ الْعَبْدَ، وَالْعَبْدِ يَقْتُلُ الْحُرَّ فَيُسْتَرَقُّ، وَكَجَمَاعَةٍ أَقْسَمَ الْأَوْلِيَاءُ عَلَى أَحَدِهِمْ، فَفِي ذَلِكَ كُلِّهِ ضَرْبُ مِائَةٍ وَسَجْنُ عَامٍ، وَإِنْ كَانَ أَحَدُ أَبَوَيْنِ عَلَى الْمَشْهُورِ.
وَقَالَ أَصْبَغُ: يُجْلَدُ الْعَبْدُ وَالْأَمَةُ وَلَا يُسْجَنَانِ، وَمَبْدَأُ السُّنَّةِ فِي السِّجْنِ مِنْ يَوْمِ الْعَفْوِ سِوَى مَا مَضَى مِنْ سَجْنِهِ قَبْلَ ثُبُوتِ الدَّمِ، عَلَيْهِ وَأَمَّا قَتْلُ الْخَطَأِ فَيَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ وَالدِّيَةُ وَأَمَّا الْكَفَّارَةُ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ سَلِيمَةٍ مِنْ الْعُيُوبِ مُحَرَّرَةٍ لَهُ خَلِيَّةٍ مِنْ شَوَائِبِ الْعِتْقِ، وَإِنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ، فَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ انْتَظَرَ الْقُدْرَةَ، وَأَمَّا الدِّيَةُ فِي النَّفْسِ الْكَامِلَةِ إنْ كَانَ الْجَانِي مِنْ أَهْلِ الْعَمُودِ فَمِائَةٌ مِنْ الْإِبِلِ مُخَمَّسَةٍ عِشْرُونَ بِنْتَ مَخَاضٍ وَعِشْرُونَ بِنْتَ لَبُونٍ وَعِشْرُونَ حِقَّةً وَعِشْرُونَ جَذَعَةً وَعِشْرُونَ ابْنَ لَبُونٍ، وَإِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الذَّهَبِ كَأَهْلِ الشَّامِ وَمِصْرَ وَأَهْلِ الْمَغْرِبِ فَأَلْفُ دِينَارٍ، وَإِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْوَرِقِ كَالْعِرَاقِ وَفَارِسٍ وَخُرَاسَانَ فَاثْنَا عَشَرَ أَلْفًا فِضَّةً خَالِصَةً، وَأَمَّا النَّفْسُ النَّاقِصَةُ فَهُوَ الْجَنِينُ مُضْغَةً كَانَ أَوْ غَيْرَهَا، فَفِيهِ الْغُرَّةُ إنْ كَانَ حُرًّا مُسْلِمًا وَنِصْفُ الْغُرَّةِ إنْ كَانَ حُرًّا ذِمِّيًّا، وَفِي جَنِينِ الرَّقِيقِ عُشْرُ قِيمَةِ الْأُمِّ، وَدِيَةُ الْمَرْأَةِ نِصْفُ دِيَةِ الرَّجُلِ، وَكَذَلِكَ الْيَهُودِيُّ وَالنَّصْرَانِيُّ وَدِيَةُ الْمَجُوسِيِّ ثَمَانُمِائَةِ دِرْهَمٍ، وَدِيَةُ نِسَاءِ كُلِّ صِنْفٍ نِصْفُ دِيَةِ رِجَالِهِمْ.

.الْقِسْمُ الثَّانِي فِي الْجِرَاحِ وَالْأَطْرَافِ وَالْمَنَافِعِ:

وَهُوَ يَنْقَسِمُ إلَى عَمْدٍ وَخَطَأٍ.
[أَمَّا الْعَمْدُ]
فَمُوجِبُهُ الْقِصَاصُ وَالْأَدَبُ إذَا أُمِنَ مِنْ تَنَاهِيهِ إلَى الْمَوْتِ، وَكُلُّ شَخْصَيْنِ يَجْرِي بَيْنَهُمَا الْقِصَاصُ فِي النَّفْسِ يَجْرِي بَيْنَهُمَا الْقِصَاصُ وَالْأَدَبُ فِي الْجِرَاحِ، وَكَذَلِكَ أَرْبَعَةٌ جُرْحٌ وَكَسْرٌ وَإِبَانَةُ عُضْوٍ وَإِزَالَةُ مَنْفَعَةٍ، وَالْجِرَاحُ تِسْعَةٌ مَشْهُورَةٌ وَذِكْرُ الْقِصَاصِ فِيهَا مَعْلُومٌ، وَالْكَسْرُ الْمُرَادُ بِهِ هَاشِمَةُ الْجَسَدِ وَالْقِصَاصُ مِنْهُ فِيمَا كَانَ مِنْهُ غَيْرُ مَخُوفٍ، كَعَظْمِ الْعَضُدِ دُونَ الْفَخِذِ، وَعِظَامُ الصَّدْرِ وَالْعُنُقِ وَالصُّلْبِ وَإِبَانَةُ عُضْوٍ فِيهِ الْقِصَاصُ مَا لَمْ يَكُنْ مَخُوفًا، وَإِزَالَةُ الْمَنْفَعَةِ كَالسَّمْعِ وَالْبَصَرِ وَالْعَقْلِ وَالشَّمِّ وَالصَّوْتِ وَالذَّوْقِ وَقُوَّةِ الْجِمَاعِ، وَمَنْفَعَةِ الْجُلُوسِ وَالنُّطْقِ، فَهَذِهِ عَشَرَةٌ وَالْوَاجِبُ فِيهَا مُقَدَّرٌ مَعْلُومٌ.
وَأَمَّا مَا يَتَعَذَّرُ فِيهِ الْعَدْلُ فِي الْقِصَاصِ، كَنُقْصَانِ بَعْضِ الْعَقْلِ وَبَعْضِ السَّمْعِ وَبَعْضِ الْبَصَرِ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِمَّا لَا يُوصَلُ فِيهِ إلَى حَقِيقَةِ الْمِثْلِ، فَمَا كَانَ مِنْ ذَلِكَ عَلَى وَجْهِ الْعَمْدِ وَفِي خَطَئِهِ عَقْلٌ مُسَمًّى فَفِيهِ ذَلِكَ الْعَقْلُ، وَمَا لَمْ يَكُنْ لَهُ عَقْلٌ مُسَمًّى فَفِيهِ حُكُومَةٌ مِنْ تَنْبِيهِ الْحُكَّامِ، وَأَمَّا الْخَطَأُ فَالْوَاجِبُ فِيهِ الدِّيَةُ أَوْ الْحُكُومَةُ عَلَى مَا هُوَ مُفَصَّلٌ فِي كُتُبِ الْفِقْهِ، وَبَسْطِ هَذَا الْبَابِ وَذِكْرِ الْمُقَدَّرَاتِ وَمَا فِيهَا، وَأَحْكَامُ كُلِّ قِسْمٍ مِنْ هَذَا الْبَابِ يُخْرِجُنَا عَنْ الْمَقْصُودِ، وَالْغَرَضُ هُنَا ذِكْرُ مَسَائِلَ تَتَعَلَّقُ بِالسِّيَاسَةِ.

.فَصْلٌ فِي أَحْكَامِ الْجِرَاحِ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهَا:

وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي مَسَائِلِ اللَّوْثِ وَالْقَسَامَةِ، وَنَذْكُرُ هُنَا بَعْضَ مَسَائِلِ التَّدْمِيَةِ وَالدَّعَاوَى فِي هَذَا الْبَابِ.
مَسْأَلَةٌ:
وَفِي الطُّرَرِ: وَإِذَا أَدْمَى الرَّجُلُ عَلَى جَمَاعَةٍ سُجِنُوا كُلُّهُمْ؛ لِأَنَّهُ لَا يُعْلَمُ عَلَى مَنْ يُقْسَمُ مِنْهُمْ وَلَا يَكُونُ لِلْوَرَثَةِ أَنْ يَقْسِمُوا إلَّا عَلَى وَاحِدٍ وَيَقْتُلُونَهُ، مَضَتْ بِذَلِكَ السُّنَّةُ وَلَيْسَ لَهُمْ أَنْ يَحْلِفُوا ثُمَّ يَتَخَيَّرُوا، وَإِنَّمَا يُقَالُ لَهُمْ: احْلِفُوا عَلَى مَنْ شِئْتُمْ وَاقْتُلُوهُ، وَيُضْرَبُ الْآخَرُونَ مِائَةً كُلَّ وَاحِدٍ وَيُسْجَنُونَ عَامًا إذَا مَاتَ الْمَقْتُولُ مُطْلَقِينَ مِنْ غَيْرِ حَدِيدٍ.
وَرُوِيَ عَنْ أَشْهَبَ أَنَّهُمْ يَقْسِمُونَ عَلَى الْجَمِيعِ وَلَا يَقْتُلُونَ إلَّا وَاحِدًا يَخْتَارُونَهُ، وَإِنَّمَا وَجَبَ السِّجْنُ عُقُوبَةً؛ لِأَنَّهُ لَمَّا زَالَ عَنْهُ الْقَتْلُ، حَلَّتْ عَلَيْهِ الْعُقُوبَةُ وَوَجَبَ سِجْنُهُ عَامًا، فَإِنْ كَانَ جَرِيحًا أَوْ مَرِيضًا سُجِنُوا مُحَدَّدِينَ وَهِيَ رِوَايَةُ أَبِي زَيْدٍ، عَنْ ابْنِ الْمَاجِشُونِ قَالَ: لابد لِلْمَسْجُونِ فِي الدَّمِ مِنْ الْحَدِيدِ حَتَّى يَرَى مَا يَكُونُ، فَإِنْ سَقَطَ عَنْهُ الدَّمُ لِعَفْوٍ وَقَسَامَةٍ عَلَى غَيْرِهِ، أَطْلَقَهُ الْإِمَامُ مِنْ الْحَدِيدِ وَضَرَبَهُ مِائَةً وَسَجَنَهُ عَامًا مُسْتَقْبِلًا مِنْ غَيْرِ حَدِيدٍ، وَكَذَا فِي مُخْتَصَرِ الْوَاضِحَةِ.
مَسْأَلَةٌ:
وَفِي الطُّرَرِ عَنْ ابْنِ مُزَيْنٍ فِي الْمَرْأَةِ تُدْمِي عَلَى زَوْجِهَا أَنَّهُ لَا يُقَامُ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ الْقَوَدُ، لِأَنَّ الرَّجُلَ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَضْرِبَ زَوْجَتَهُ فِيمَا أَذِنَ اللَّهُ أَنْ يَضْرِبَهَا فِيهِ حَيْثُ قَالَ تَعَالَى: {فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ} [النساء: 34] وَقَدْ يَأْتِي مِنْ ذَلِكَ مَا يَتَّصِلُ بِالْمَوْتِ وَقَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ} [القصص: 15]، فَلَمَّا أُبِيحَ لَهُ ضَرْبُهَا فِيمَا يَجُوزُ أَنْ يَضْرِبَهَا فِيهِ، سَقَطَتْ مِنْهُ تَدْمِيَتُهَا؛ لِأَنَّ الَّذِي تُرِيدُ أَنْ تُدْمَى بِهِ قَدْ يَكُونُ أَصْلُهُ الضَّرْبَ الَّذِي أَجَازَهُ اللَّهُ تَعَالَى، وَالْقَوَدُ مِنْ أَجَلِّ الْحُدُودِ، وَلَا يُقَامُ الْقَوَدُ وَالْحُدُودُ إلَّا بِأَمْرٍ بَيِّنٍ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ادْرَءُوا الْحُدُودَ بِالشُّبُهَاتِ»، قَالَ يَحْيَى بْنُ مُزَيْنٍ وَهَذَا الَّذِي عَلِمْنَاهُ مِنْ مَشَايِخِنَا الَّذِي حَمَلْنَا عَنْهُمْ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالْفِقْهِ.
فرع:
قَالَ ابْنُ حَبِيبٍ: وَقَدْ أَجَازَ اللَّهُ تَعَالَى لِلرِّجَالِ ضَرْبَ نِسَائِهِمْ عِنْدَ النُّشُوزِ، فَإِذَا أَصَابَ إحْدَاهُنَّ مِنْ ضَرْبِ زَوْجِهَا فَقْءُ عَيْنٍ أَوْ كَسْرُ سِنٍّ أَوْ شَجَّةٍ لَهَا عَقْلٌ، أَنَّهُ لِعَقْلِ ذَلِكَ ضَامِنٌ، إلَّا أَنَّهُ لَا قِصَاصَ فِي ذَلِكَ إنْ تَعَمَّدَ ضَرْبَهَا مَا لَمْ يَتَعَمَّدْ فَقْءَ عَيْنِهَا فَكَذَلِكَ مُعَلِّمُ الصِّبْيَانِ يَضْرِبُ أَحَدَهُمْ فِيمَا يَجُوزُ لَهُ ضَرْبُهُ، فَيُصِيبُهُ بِعُودِ الذُّرَةِ أَوْ بِطَرَفِ شِرَاكِهَا فَيُصِيبُ عَيْنَهُ فَيَفْقَؤُهَا، أَنَّهُ لِعَقْلِ ذَلِكَ ضَامِنٌ، وَلَا قِصَاصَ عَلَيْهِ إنْ تَعَمَّدَ ضَرْبَهُ الَّذِي جَازَ لَهُ مِنْ تَأْدِيبِهِ مِنْ الْمُقَرَّبِ.
وَقَالَ الْمُشَاوِرُ إذَا أَدَّبَ الرَّجُلُ زَوْجَتَهُ أَوْ الْمُعَلِّمُ صِبْيَانَهُ فِي ذَنْبٍ اسْتَحَقَّا بِهِ الْأَدَبَ، فَلَكَزَ أَوْ لَطَمَ فَمَاتَا لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِمَا شَيْءٌ، وَإِنْ ضُرِبَا فَفَقَأَ عَيْنًا أَوْ كَسَرَ ضِرْسًا فَعَلَيْهِمَا الْعَقْلُ، لِأَنَّ فِعْلَهُمَا آلَ إلَى مَا لَمْ يُؤْذَنْ لَهُمَا فِيهِ وَقَوْلُ الصَّالِحِ فِي الْأَدَبِ مَقْبُولٌ مِنْ الطُّرَرِ.
مَسْأَلَةٌ:
قَالَ أَبُو زَيْدِ بْنُ إبْرَاهِيمَ: إنَّ مَنْ ادَّعَى عَلَى رَجُلٍ أَنَّهُ جَرَحَهُ أَوْ شَجَّهُ وَلَا بَيِّنَةَ لَهُ، سُجِنَ حَتَّى يَعْرِفَ مَا يَصِيرُ إلَيْهِ، فَإِنْ بَرِئَ وَعُفِيَ عَنْهُ فلابد لِلسُّلْطَانِ أَنْ يَسْتَحْلِفَهُ أَنَّهُ لَمْ يَجْرَحْهُ، فَإِنْ حَلَفَ خَلَّى سَبِيلَهُ، فَإِنْ لَمْ يَحْلِفْ أَوْ أَقَرَّ أَدَّبَهُ فِيمَا اجْتَرَأَ عَلَيْهِ.
فرع:
وَإِنْ قَالَ الْمَجْرُوحُ: لَيْسَ هَذَا الَّذِي جَرَحَنِي أَوْ شُبِّهَ عَلَيَّ، فَلَيْسَ يَنْجُو مِنْ سِجْنِ السُّلْطَانِ إلَّا أَنْ يَحْلِفَ أَنَّهُ لَمْ يَفْعَلْ أَوْ يُقِرَّ أَوْ يَأْبَى الْيَمِينَ، وَإِلَّا فلابد مِنْ الْيَمِينِ أَوْ الْأَدَبِ، أَمَّا لَوْ قَالَ الْمُدْمِي فُلَانٌ أَوْ فُلَانٌ شَكَّ فِي أَحَدِهِمَا بَطَلَتْ التَّدْمِيَةُ.
فرع:
وَكَذَا لَوْ ادَّعَى عَلَى رَجُلٍ وَلَا بَيِّنَةَ لَهُ وَلَا لَطْخَ بِمَا يُخَافُ مِنْهُ الْمَوْتُ، فلابد مِنْ سِجْنِهِ حَتَّى يُعْرَفَ أَمْرُهُ؛ لِأَنَّ الْقَسَامَةَ تَجِبُ فِيهِ، حُكِيَ عَنْ ابْنِ الْمَاجِشُونِ.
وَقَالَ أَصْبَغُ: لَا سِجْنَ إلَّا بِشُبْهَةٍ أَوْ لَطْخٍ، وَلَيْسَ الْجُرْحُ كَالنَّفْسِ إذَا قَالَ: دَمِي عِنْدَ فُلَانٍ فَذَلِكَ يُسْجَنُ؛ لِأَنَّهُ يَسْتَحِقُّ الْقَسَامَةَ بِمَوْتِهِ، وَالْأَوَّلُ لَمْ يَسْتَحِقَّ إلَّا بِشُبْهَةٍ أَوْ لَطْخٍ بَيِّنٍ.
تنبيه:
قَالَ ابْنُ الْعَطَّارِ: وَلَقَدْ اسْتَطَالَ بِمَذْهَبِ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ أَهْلُ الشَّرِّ وَالْبَطَالَةِ عَلَى أَهْلِ الْعَافِيَةِ وَالِانْقِبَاضِ وَالصِّيَانَةِ، وَجَعَلُوا التَّدْمِيَةَ جُنَّةً لَهُمْ وَرُبَّمَا بَطَلَتْ بِهِ الْحُقُوقُ، فَإِذَا طَلَبَ الرَّجُلُ مِنْهُمْ بِدَيْنٍ أَوْ بِوَجْهٍ مِنْ وُجُوهِ الْحَقِّ، تَرَاقَدَ وَتَمَارَضَ وَقَالَ: دَمِي عِنْدَ فُلَانٍ، حَتَّى يَفْتَدِيَ الطَّالِبُ بِالدَّيْنِ مِنْهُ بِمَا لَهُ عِنْدَهُ، لِأَنَّهُ يُصَدَّقُ وَهُوَ بِهَذِهِ الْحَالِ فِي تَلَفِ مُهْجَةِ آخَرَ.
وَلَوْ قَالَ أَرْوَعُ النَّاسِ فِي مَرَضِهِ وَخِلَالَ نَزْعِهِ: لِي عِنْدَ فُلَانٍ دِرْهَمٌ وَاحِدٌ، لَمْ يُصَدَّقْ وَلَمْ يُؤْخَذْ بِقَوْلِهِ، وَإِنَّمَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْيَمِينُ فِي إنْكَارِ دَعْوَاهُ، وَلَوْ أَنَّ قَائِلًا قَالَ: لَا يُصَدَّقُ فِي مِثْلِ هَذَا إلَّا أَهْلُ الْفَضْلِ الْمَشْهُورِ وَالْوَرِعِ الْمَعْرُوفِ، إذَا ادَّعَوْا عَلَى مَنْ تَأْخُذُهُ الظِّنَّةُ وَتَقْرُبُ مِنْهُ التُّهْمَةُ لَكَانَ حَسَنًا مِنْ الْقَوْلِ، وَمِنْ حُجَّةِ مَالِكٍ فِي قَبُولِ أَنَّ فَاعِلَ هَذَا إنَّمَا يَطْلُبُ مَوَاضِعَ الْخَلَوَاتِ وَأَوْقَاتِ الْغَفَلَاتِ؛ لِئَلَّا يُرَى، وَمِنْ جِهَةِ أَنَّ أَحَدًا لَا يَقُولُ عِنْدَ الْمَوْتِ إلَّا حَقًّا، وَخَالَفَ مَالِكًا فِي ذَلِكَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ وَقَالَ: لَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ، وَاحْتَجَّ بِقَوْلِ مَالِكٍ فِي الَّتِي ادَّعَتْ أَنَّ رَجُلًا صَالِحًا اسْتَكْرَهَهَا فَقَدْ قَالَ مَالِكٌ فِي تِلْكَ لَا يُقْبَلُ قَوْلُهَا وَأَوْجَبَ حَدَّهَا، وَيَقُولُ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ أَخَذَ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ يَحْيَى اللَّيْثِيُّ، وَتَقَدَّمَ فِي بَابِ الْقَضَاءِ بِاللَّوْثِ فِي الدِّمَاءِ مَا وَقَعَ لِلشَّيْخِ أَبِي بَكْرٍ اللُّؤْلُؤِيِّ فِي التَّدْمِيَةِ وَرُجُوعِهِ عَنْ الْفَتْوَى بِهَا.
مَسْأَلَةٌ:
قَالَ الْأَبْهَرِيُّ: مَنْ أُخِذَ فِي تُهْمَةِ قَتْلٍ فَاعْتَرَفَ عِنْدَ السُّلْطَانِ بِغَيْرِ ضَرْبٍ، ثُمَّ أَخْرَجَ الْمَقْتُولَ مِنْ بِئْرٍ أَوْ مَدْفِنٍ، فَلَمَّا أَمَرَ بِهِ لِيُقْتَلَ قَالَ: مَا قَتَلْته، وَلَكِنِّي رَأَيْت مَنْ قَتَلَهُ قُتِلَ وَلَا يَنْفَعُهُ إنْكَارُهُ، وَكَذَلِكَ السَّارِقُ لِأَنَّ حُكْمَ الْإِقْرَارِ قَدْ ثَبَتَ عَلَيْهِ وَلَزِمَهُ، فَلَا يَنْفَعُهُ رُجُوعُهُ بَعْدَ إقْرَارِهِ وَلَا يَدْفَعُ عَنْهُ مَا لَزِمَهُ مِنْ الْقَتْلِ كَالْمَالِ يَقْرَبُهُ ثُمَّ يُنْكِرُ.
فرع:
وَمَنْ اُتُّهِمَ بِقَتْلِ نَفْسٍ فَأُخِذَ فَاعْتَرَفَ بِلَا مِحْنَةٍ، ثُمَّ سُجِنَ ثُمَّ أُخْرِجَ لِلْقَتْلِ فَقَالَ: إنَّمَا اعْتَرَفْت خَوْفًا مِنْ الضَّرْبِ وَأَعُوذُ بِاَللَّهِ أَنْ أَقْتُلَهُ، لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ إلَّا أَنْ يَأْتِيَ بِأَمْرٍ مَعْرُوفٍ، لِأَنَّ الْإِقْرَارَ قَدْ لَزِمَ كَلُزُومِ الْإِقْرَارِ بِالدَّيْنِ، لِأَنَّ الدَّمَ حَقُّ الْآدَمِيِّ كَالدَّيْنِ.
تنبيه:
وَلَوْ عُفِيَ عَنْهُ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ سِجْنُ سَنَةٍ وَجَلْدُ مِائَةٍ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. مِنْ الطُّرَرِ.
مَسْأَلَةٌ:
وَفِي أَحْكَامِ ابْنِ سَهْلٍ عَنْ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ: فِي رَجُلَيْنِ شَهِدَا أَنَّهُ حَضَرَ بِهِمَا ثَلَاثَةُ رِجَالٍ يَحْمِلُونَ خَشَبَةً وَمَعَهُمْ صَبِيٌّ وَهُوَ ابْنٌ لِأَحَدِهِمْ، فَلَمَّا غَابُوا عَنْهُمَا سَمِعَا وَقْعَ الْخَشَبَةِ فِي الْأَرْضِ وَبُكَاءَ الصَّبِيِّ، فَاتَّبَعَاهُمْ فَوَجَدَا الْخَشَبَةَ فِي الْأَرْضِ وَالصَّبِيَّ فِي حِجْرِ أَبِيهِ فِي اللَّوْثِ وَمَاتَ مِنْ سَاعَتِهِ، أَنَّهَا شَهَادَةٌ قَاطِعَةٌ تَجِبُ بِهَا الدِّيَةُ عَلَى عَوَاقِلِهِمْ، وَإِنْ لَمْ يَشْهَدُوا بِالْمُعَايَنَةِ.
فرع:
قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: وَمِثْلُهَا أَنَّهُمَا لَوْ شَهِدَا أَنَّهُمَا رَأَيَا رَجُلًا خَرَجَ مُسْتَسِرًّا مِنْ دَارٍ فِي حَالٍ رَثَّةٍ فَاسْتَنْكَرَا ذَلِكَ، فَدَخَلَ الْعُدُولُ مِنْ سَاعَتِهِمْ الدَّارَ، فَوَجَدُوا قَتِيلًا يَسِيلُ دَمُهُ وَلَا أَحَدَ فِي الدَّارِ غَيْرُهُ وَغَيْرُ الْخَارِجِ، فَهَذِهِ شَهَادَةٌ جَائِزَةٌ يُقْطَعُ الْحُكْمُ بِهَا وَإِنْ لَمْ تَكُنْ مَعَ الْمُعَايَنَةِ.
فرع:
وَمِثْلُ ذَلِكَ لَوْ رَأَى الْعُدُولُ الْمُتَّهَمَ يُجَرِّدُ الْمَقْتُولَ وَيُعَرِّيهِ، وَإِنْ لَمْ يَرَوْهُ حِينَ أَصَابَهُ، فَإِنَّ هَذَا لَوْثٌ تَجِبُ مَعَهُ الْقَسَامَةُ بِخِلَافِ الْمَسْأَلَتَيْنِ الْأُولَيَيْنِ فَإِنَّهَا شَهَادَةٌ تَامَّةٌ صَدَرَتْ مِنْ حَاكِمٍ إلَى الْفُقَهَاءِ يَسْتَشِيرُهُمْ فِيمَا يَأْخُذُ بِهِ، وَذَكَرَ أَنَّهُ يَأْتِيهِ الرَّجُلُ بِنَفْسِهِ يَزْعُمُ أَنَّ فُلَانًا تَوَلَّى ضَرْبَهُ وَعَفْجَ بَطْنِهِ، حَتَّى صَارَ بِذَلِكَ فِي مَوْقِفِ الْمَوْتِ، أَوْ يَأْتِي وَلِيُّهُ عَنْهُ بِمِثْلِ ذَلِكَ وَيَدْعُو إلَى السَّمَاعِ مِنْ بَيِّنَةٍ عَلَى ذَلِكَ وَيَطْلُبُ الْقِيَامَ بِذَلِكَ حُبِسَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، وَقَدْ يَأْتِيهِ رَجُلٌ آخَرُ يَدَّعِي عَلَى رَجُلٍ وَبِهِ جِرَاحَاتٌ غَلِيظَةٌ مَخُوفَةٍ، وَقَدْ يَأْتِيهِ رَجُلٌ آخَرُ عَلَيْهِ جُرْحٌ سَهْلٌ قَدْ أَسَالَ دَمَهُ فَأَجَابُوهُ: بِأَنَّ الَّذِي تَقُولُ بِهِ: إنَّ الزَّمَانَ فَسَدَ وَإِنَّ هَذِهِ الْحَالَةَ إنَّمَا يُسْرِعُ إلَيْهَا مَنْ لَا خَشْيَةَ تَمْنَعُهُ مِنْ رُكُوبِ الْبَاطِلِ، وَيَنْبَغِي أَنْ تَسْلُكَ حَالَةً يَكُونُ فِيهَا خَلَاصٌ لَك إنْ شَاءَ اللَّهُ وَأَدَاءٌ لِلْحَقِّ إلَى ذَوِي الْحُقُوقِ.
فَمَنْ جَاءَك وَعَلَيْهِ جِرَاحٌ مَخُوفَةٌ، فَاحْبِسْ الْمُدْمَى عَلَيْهِ حَتَّى تَصِحَّ الْجُرُوحُ أَوْ يَتَبَيَّنَ حَالَةٌ يَجِبُ بِهَا إطْلَاقُهُ.
وَمَنْ جَاءَك مُعَافًى مِنْ الْجِرَاحِ يَدَّعِي عَلَى رَجُلٍ ضَرْبًا مُؤْلِمًا قَدْ بَلَغَ مِنْهُ مَبْلَغَ الْخَوْفِ عَلَى نَفْسِهِ بِغَيْرِ سَبَبٍ ظَاهِرٍ، فَأَلْزِمْ الْقِيَامَ بِالْبَيِّنَةِ عَلَى دَعْوَاهُ، فَإِنْ أَثْبَتَ تَعَدِّيَ الْمُدَّعِي مَعَهُ وَلَمْ يَكُنْ عِنْدَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ مَدْفَعٌ فِي الْبَيِّنَةِ فَعَزِّرْهُ، وَإِنْ رَأَيْت حَبْسَهُ فَذَلِكَ إلَيْك عَلَى مَا يَظْهَرُ لَك مِنْ شَنَاعَةِ مَا ثَبَتَ عَلَيْهِ.
وَمَنْ جَاءَك بِجُرْحٍ خَفِيفٍ وَهُوَ مِمَّنْ يُظَنُّ أَنَّهُ يَفْعَلُ هَذَا بِنَفْسِهِ فَاسْلُكْ بِهِ سَبِيلَ مَنْ جَاءَك مُعَافًى مِنْ الْجِرَاحِ، فَإِذَا نَظَرْت بِهَذِهِ الطَّرِيقَةِ كَانَ نَظَرًا يَدْفَعُ اللَّهُ بِهِ أَهْلَ الشَّرِّ وَيَدْرَأُ بِهِ الْبَطْشَ وَيَنْفَعُ بِهِ الْعَامَّةَ وَيَذُبُّ بِهِ عَنْ دِمَائِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، قَالَ بِذَلِكَ مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ بْنِ لُبَابَةَ وَابْنُ غَالِبٍ وَابْنُ وَلِيدٍ وَابْنُ مُعَاذٍ.
وَقَالَ بِهِ أَيُّوبُ بْنُ سُلَيْمَانَ، إلَّا فِي الْمُدَّعِي الضَّرْبَ الْمُؤْلِمَ غَيْرَ الظَّاهِرِ أَوْ الْجُرْحَ الْخَفِيفَ.
فَإِنَّهُ إنْ ادَّعَى عَلَى مَنْ يُشْبِهُ أَنَّهُ يَدَّعِي عَلَيْهِ بِذَلِكَ فَإِنَّهُ يُحْبَسُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِالْبَيِّنَةِ عَلَى ذَلِكَ، وَإِنْ لَمْ يَدَّعِهِ عَلَى مَنْ يُشْبِهُ ذَلِكَ فَكَمَا قَالَ أَصْحَابُهُ.
وَقَالَ يَحْيَى بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ إذَا قَصَدَ رَجُلًا فَاضِلًا قَدْ عُرِفَ بِالْخَيْرِ لَا يُقَارِفُ الدِّمَاءَ فَإِنِّي أُبْطِلُ التَّدْمِيَةَ وَلَسْت أَقْبَلُهَا مِنْهُ، قَالَ مُحَمَّدٌ وَمَا عِنْدِي بَيْنَهُمَا فَرْقٌ وَصُدِّقَ إنْ شَاءَ اللَّهُ، قَالَ الْقَاضِي أَبُو الْأَصْبَغِ تَرَكَ يَحْيَى بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ الْمَصِيرَ إلَى قَوْلِ ابْنِ الْقَاسِمِ وَغَيْرِهِ، وَالْوُقُوفَ عِنْدَهُ وَالْفَتْوَى بِهِ.
وَصَارَ إلَى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ فِي كَثِيرٍ مِنْ مَسَائِلِهِ، وَكَانَ يَجِبُ أَنْ يَذْكُرَ الْمَشْهُورَ وَيَخْتَارَ قَوْلَ مَنْ رَأَى الْحَقَّ فِي قَوْلِهِ، وَأَمَّا أَنْ يَعْرِضَ عَنْ مَشْهُورِ الْمَذْهَبِ وَيَتَعَدَّى إلَى غَيْرِهِ فَذَلِكَ تَقْصِيرٌ، وَمَا أَظُنُّ إلَّا أَنَّهُ غَابَ عَنْهُ قَوْلُ ابْنِ الْقَاسِمِ وَغَيْرِهِ، وَالْمَنْصُوصُ أَنَّهُ قِيلَ: دَمِي عِنْدَ فُلَانٍ؟ فَسُمِّيَ رَجُلًا أَوْرَعَ أَهْلُ تِلْكَ الْبِلَادِ مِمَّنْ لَا يُتَّهَمُ فِي الدِّمَاءِ وَلَا غَيْرِهَا، وَلَيْسَ هُوَ مَشْهُورًا بِشَيْءٍ مِنْ الشَّرِّ، قَالَ: لَمْ أَسْمَعْ مَالِكًا يُحَاشِي أَحَدًا مِنْ أَحَدٍ وَرَأَى أَنَّهُ مُصَدَّقٌ فِي كُلِّ مَنْ ادَّعَى عَلَيْهِ، وَلَمْ يَذْكُرْ لَنَا مَالِكٌ كَانَ الْمَقْتُولُ مَسْخُوطًا أَوْ غَيْرَ مَسْخُوطٍ، وَهُوَ سَوَاءٌ، وَلَيْسَ كَالشَّاهِدِ لِأَنَّهُ لَيْسَ يُتَّهَمُ، وَالْمَرْأَةُ كَالرِّجَالِ فِي ذَلِكَ فِي الْعَمْدِ وَالْخَطَأِ وَفِي ذَلِكَ الْقَسَامَةُ.
فرع:
وَفِي تَفْسِيرِ ابْنِ مُزَيْنٍ قَالَ: وَسَأَلْته يُرِيدُ عِيسَى بْنَ دِينَارٍ عَنْ صِفَةِ الضَّرْبِ الَّذِي إذَا ادَّعَاهُ الرَّجُلُ أَنَّهُ ضُرِبَ بِهِ أَوْ قَامَتْ بِهِ بَيِّنَةٌ وَجَبَتْ الْقَسَامَةُ، قَالَ: الضَّرْبُ كُلُّهُ قُلْت لَهُ: أَمِنْ ذَلِكَ اللَّطْمَةُ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ} [القصص: 15]، قُلْت: فَإِنْ ادَّعَى أَنَّ فُلَانًا ضَرَبَهُ، وَمِنْ ضَرْبِهِ يَمُوتُ وَلَيْسَ بِهِ أَثَرُ ضَرْبٍ فِي شَيْءٍ مِنْ جَسَدٍ قَلِيلٍ وَلَا كَثِيرٍ، قَالَ: يُحْمَلُ مِنْ ذَلِكَ مَا يُحْمَلُ وَتَكُونُ فِيهِ الْقَسَامَةُ عَلَى سُنَّتِهَا قُلْت: وَإِنْ لَمْ يُعْلَمْ مُنَازَعَةٌ بَيْنَ الْمُدَّعِي وَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ، قَالَ: وَأَنَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَصَلَ إلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ، قُلْت: وَإِنْ رَمَى بِذَلِكَ صَالِحًا مِنْ النَّاسِ لَا يُتَّهَمُ بِشَيْءٍ قَالَ: وَإِنْ رَمَى بِذَلِكَ خَيْرَ النَّاسِ حَالًا فَرُبَّمَا حَدَثَتْ الْبَلَايَا وَرُبَّمَا كَانَ الضَّرْبُ الَّذِي يُخْفِي أَثَرَهُ وَهُوَ يَكِيدُ صَاحِبَهُ، فَالْقَسَامَةُ تَجِبُ بِقَوْلِهِ، وَيَدِينُ مِنْ ذَلِكَ مَا يَدِينُ مِنْ ذَلِكَ مَا يَدِينُ، وَأَصْدَقُ مَا يَكُونُ الْمَرْءُ عِنْدَ نُزُولِ الْمَوْتِ وَفِرَاقِ الدُّنْيَا.
وَقَالَ أَصْبَغُ: مَنْ قَالَ سَقَانِي فُلَانٌ سُمًّا وَمِنْهُ أَمُوتُ أَقْسَمَ عَلَى قَوْلِهِ وَوَجَبَ الْقَوَدُ وَفِي الْعُتْبِيَّةِ فِي آخِرِ سَمَاعِ عِيسَى عَنْ ابْنِ الْقَاسِمِ: لَا قَسَامَةَ فِي مِثْلِ هَذَا إلَّا فِي الضَّرْبِ الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ، وَالْآثَارِ الْبَيِّنَةِ مِنْ الْجِرَاحِ وَأَثَرِ الضَّرْبِ.
وَفِي أَحْكَامِ ابْنِ سَهْلٍ كَثِيرٌ مِنْ هَذِهِ الْمَسَائِلِ بِالْوَقَائِعِ النَّادِرَةِ.
مَسْأَلَةٌ:
مَنْ أَتَى الْقَاضِيَ مُتَعَلِّقًا بِرَجُلٍ يَرْمِيهِ بِدَمِ وَلِيِّهِ، وَأَنَّهُ أَحَقُّ النَّاسِ بِالْقِيَامِ بِدَمِهِ فَيَحْتَاجُ أَنْ يُثْبِتَ أَنَّهُ وَلِيُّ الدَّمِ، فَإِذَا ثَبَتَ تَعَدُّدُهُ مِنْ الْمُدَّعِي سَأَلَهُ الْقَاضِي: هَلْ لَهُ بَيِّنَةٌ عَلَى دَعْوَاهُ؟ فَإِنْ ادَّعَى ثُبُوتَ ذَلِكَ مِنْ يَوْمِهِ أَوْ مِنْ الْغَدِ أَمَرَ الْقَاضِي بِحَبْسِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، وَإِنْ أَثْبَتَ التَّعَدُّدَ وَلَمْ تَحْضُرْهُ بَيِّنَةٌ عَلَى الدَّمِ فَهُوَ فِي حَبْسِهِ عَلَى ضَرْبَيْنِ، إنْ كَانَ الْمُدْمَى عَلَيْهِ مُتَّهَمًا حُبِسَ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا إلَى الثَّلَاثِينَ فِي رِوَايَةِ ابْنِ زُونَانِ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ الْحَسَنِ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مُتَّهَمٍ فَالْيَوْمَيْنِ أَوْ نَحْوَهُمَا، فَإِنْ أَتَى طَالِبُ الدَّمِ فِي آخِرِ الْمُدَّةِ بِسَبَبٍ قَوِيٍّ سَقَطَ وَوَجَبَتْ الزِّيَادَةُ فِي حَبْسِهِ عَلَى مَا يَرَاهُ الْقَاضِي مِمَّا يُرْجَى بِهِ تَحْقِيقُ الدَّعْوَى أَوْ غَيْرُ ذَلِكَ، هَذَا الَّذِي يَجِبُ النَّظَرُ بِهِ.
مَسْأَلَةٌ:
وَفِي كِتَابِ ابْنِ حَبِيبٍ سَمِعْت مُطَرِّفًا يَقُولُ: مَنْ ادَّعَى عَلَى رَجُلٍ أَنَّهُ شَجَّهُ أَوْ ضَرَبَهُ ضَرْبًا يَخَافُ مِنْهُ عَلَى نَفْسِهِ، وَقَدْ عُرِفَتْ الْعَدَاوَةُ بَيْنَهُمَا فَلَا يُحْبَسُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِقَوْلِ الْمُدَّعَى، إلَّا أَنْ يَأْتِيَ بِلَطْخٍ بَيِّنٍ وَشُبْهَةٍ قَوِيَّةٍ، أَوْ يَكُونَ الْمُدَّعِي بِحَالَةٍ يُخَافُ عَلَيْهِ فِيهَا الْمَوْتُ، وَقَدْ أَشَرْنَا بِذَلِكَ عَلَى حُكَّامِنَا فَحُكِمَ بِهِ.
وَقَالَهُ ابْنُ الْمَاجِشُونِ وَأَصْبَغُ.
مَسْأَلَةٌ:
رَجُلٌ شُهِدَ عَلَيْهِ لَوْثٌ مِنْ بَيِّنَةٍ لَمْ يَعْرِفْ أَحَدٌ مِنْهُمْ أَنَّهُ رَمَى حَجَرًا، فَمَضَى الْحَجَرُ عُلُوًّا حَتَّى وَاقَعَ امْرَأَةً مَجْهُولَةَ الْمَوْضِعِ لَا يُعْلَمُ لَهَا وَلِيٌّ فَمَاتَتْ مِنْ سَاعَتِهَا، وَلَمْ تَرْمِ أَحَدًا بِدَمِهَا، فَرُفِعَ ذَلِكَ إلَى الْقَاضِي فَحَضَرَ الْمُدْمِي وَالْقَوْمُ الَّذِينَ زَعَمُوا أَنَّهُمْ عَايَنُوا رَمْيَهُ، فَكَشَفَ الْقَاضِي عَنْ رَمْيَتِهِ هَلْ كَانَتْ عَمْدًا أَوْ خَطَأً؟ فَلَمْ يَعْلَمُوا ذَلِكَ فَحَبَسَهُ الْقَاضِي مُدَّةَ شَهْرٍ وَنِصْفٍ، فَسَأَلَ الْمَحْبُوسُ النَّظَرَ فِي أَمْرِهِ مِمَّا يَجِبُ لَهُ وَعَلَيْهِ وَهُوَ يُنْكِرُ الرَّمْيَةَ الْمَنْسُوبَةَ إلَيْهِ فَاسْتَشَارَ الْحَاكِمُ الْفُقَهَاءَ فَأَجَابُوا: بِأَنَّ اللَّوْثَ مُخْتَلَفٌ فِيهِ فَقَدْ قَالُوا هُوَ الشَّاهِدُ الْعَدْلُ.
وَقَالَ بَعْضُهُمْ: يَثْبُتُ بِشَهَادَةِ غَيْرِ الْعُدُولِ، وَقَدْ حَبَسَهُ مُثْبِتًا فِي أَمْرِهِ وَطَالِبًا لِوَلِيٍّ إنْ كَانَ لَهَا وَهَذَا صَوَابٌ، وَبَعْدَ أَنْ طَالَ الْحَبْسُ هَكَذَا وَلَمْ يَأْتِ وَلِيٌّ وَجُهِلَتْ الرَّمْيَةُ فَلَمْ يُعْلَمْ هَلْ كَانَتْ عَمْدًا أَوْ خَطَأً فَالصَّوَابُ عِنْدَنَا أَنْ يُؤْخَذَ بِقَوْلِ مَنْ أَلْغَى شَهَادَةَ غَيْرِ الْعُدُولِ، وَأَخَذَ فِي اللَّوْثِ بِأَنَّهُ الشَّاهِدُ الْعَدْلُ، وَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا لَمْ يَجِبْ عَلَى هَذَا شَيْءٌ إلَّا أَنْ يَتَعَدَّلَ مِنْ الشُّهُودِ وَاحِدٌ، وَإِنْ كَانُوا مِمَّنْ لَا يُرْجَى فِيهِمْ تَعْدِيلٌ رَأَيْنَا اسْتِحْسَانًا أَنْ يَحْلِفَ بِاَللَّهِ تَعَالَى مَا رَمَى هَذِهِ الرَّمْيَةَ وَلَا كَانَ مَا قَالَهُ الشُّهُودُ، قَالَ بِذَلِكَ مُحَمَّدُ بْنُ غَانِمٍ.
وَمِنْ تَمَامِ جَوَابِ مُحَمَّدِ بْنِ غَانِمٍ وَإِنْ أَخَذْت فِي اللَّوْثِ بِاللَّفِيفِ وَقَامَ بِذَلِكَ ثَابِتُ النَّسَبِ، أَقْسَمَ عَلَيْهِ وَكَانَتْ الدِّيَةُ عَلَى عَاقِلَتِهِ وَاَلَّذِي أَخْتَارُهُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ اللَّوْثَ الشَّاهِدُ الْعَدْلُ.
وَقَالَ ابْنُ لُبَابَةَ إذَا ثَبَتَ لَهَا وَلِيٌّ كَانَ الْقَوْلُ مَا قَالَهُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ غَانِمٍ، وَإِنْ لَمْ يَثْبُتْ لَهَا وَلِيٌّ لَمْ يَكُنْ فِيهَا شَيْءٌ، لِأَنَّهُ لَا تَكُونُ قَسَامَةٌ لِمَنْ لَا وَلِيَّ لَهُ، وَإِنَّمَا تَثْبُتُ بِشَهَادَةِ عَدْلَيْنِ وَبِذَلِكَ قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ، وَاَلَّذِي ذَهَبَ إلَيْهِ ابْنُ غَالِبٍ مِنْ الِاسْتِظْهَارِ بِالْيَمِينِ، إنْ كَانَ أَرَادَ يَمِينًا وَاحِدَةً فَمُشْكِلٌ، لِأَنَّ الدِّمَاءَ لَا تَنْدَفِعُ إلَّا بِخَمْسِينَ يَمِينًا، وَهَذَا إذَا لَمْ يَثْبُتْ لَهَا وَلِيٌّ لَمْ يَكُنْ فِيهَا قَسَامَةٌ، فَإِذَا سَقَطَتْ الْقَسَامَةُ سَقَطَ رَدُّهَا مِمَّنْ طُلِبَ بِهَا.
وَقَالَ أَيُّوبُ بْنُ سُلَيْمَانَ: أَصْلُ قَوْلِ مَالِكٍ فِي اللَّوْثِ أَنَّهُ اللَّفِيفُ وَالْبَيِّنَةُ غَيْرُ الْعَادِلَةِ، وَهُوَ الَّذِي قَالَهُ فِي كِتَابِهِ وَعَلَيْهِ جَمَاعَةُ أَصْحَابِهِ، إلَّا مَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ الْقَاسِمِ مِنْ قَوْلِهِ بِالشَّاهِدِ الْعَدْلِ، فَإِنْ ثَبَتَ لِهَذِهِ الْمَرْأَةِ وَلِيٌّ كَانَ هُوَ الْمُحَلِّفُ لِهَذَا الْمُدْمِي، وَإِنْ لَمْ يَثْبُتْ لَهَا وَلِيٌّ، فَالْمُسْلِمُونَ أَوْلِيَاؤُهَا وَوَارِثُوهَا، كَمَا يَرِثُونَ مَالَهَا يَرِثُونَ دَمَهَا، ولابد لِهَذَا الْمَحْبُوسِ مِنْ أَنْ يَحْلِفَ خَمْسِينَ مَا رَمَاهَا عَمْدًا، ثُمَّ تَكُونُ دِيَتُهَا عَلَى عَاقِلَتِهَا، فَإِنْ أَبَى عَنْ الْيَمِينِ حُبِسَ حَتَّى يَحْلِفَ، وَلَا يَبْطُلُ دَمُ مُسْلِمٍ.
وَقَدْ رَوَى يَحْيَى عَنْ ابْنِ الْقَاسِمِ: فِي الْمُسْلِمِ يَقْتُلُ الْمُسْلِمَ عَمْدًا وَلَا وَلِيَّ لَهُ إلَّا الْمُسْلِمُونَ، أَيَجُوزُ لِلْإِمَامِ أَنْ يَعْفُوَ عَنْ الْقَتْلِ؟ قَالَ: لَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يُهْدِرَ دَمَ مُسْلِمٍ وَلَكِنْ يَسْتَقِيدُ لَهُ، فَكَمَا يَسْتَقِيدُ لِمَنْ لَا وَلِيَّ لَهُ إلَّا الْمُسْلِمُونَ، فَكَذَلِكَ يُسْتَحْلَفُ هَذَا الْمَحْبُوسُ.
وَقَالَ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ أَيُّ الْقَوْلَيْنِ أَخَذْت بِهِ فِي اللَّوْثِ، رَجَوْت أَنْ يَكُونَ مُوَفَّقًا فِيهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، فَأَمَّا الْيَمِينُ يُرِيدُ الَّتِي قَالَ ابْنُ غَالِبٍ اسْتِحْسَانًا، فَإِنَّهُ إذَا لَمْ يَثْبُتْ لَهَا وَلِيٌّ وَأَخَذْت بِقَوْلِ مَنْ رَأَى اللَّوْثَ الشَّاهِدِ الْعَدْلِ فَمَا أَرَى عَلَيْهِ يَمِينًا.
مَسْأَلَةٌ:
رَجُلٌ حُبِسَ فِي دَمٍ فَشُهِدَ لَهُ بِأَنَّهُ مِنْ أَهْلِ الْعَفَافِ وَالطَّهَارَةِ وَاسْتِقَامَةِ الطَّرِيقَةِ، بَعِيدٌ مِنْ الَّذِي نُسِبَ إلَيْهِ مِنْ مُقَارَفَةِ الدَّمِ مُلَازِمٌ لِلْخَيْرِ وَأَهْلِهِ، وَاَلَّذِي وَشَى بِهِ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ حِقْدٌ وَأُمُورٌ دُنْيَوِيَّةٌ، وَأَجَابَ الْفُقَهَاءُ فِي ذَلِكَ بِأَنَّ الشَّهَادَةَ بِذَلِكَ تُوجِبُ الْإِطْلَاقَ مِنْ الْحَبْسِ، لِأَنَّ مِنْ قَوْلِ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي الرَّجُلِ يَرْمِي الرَّجُلَ بِالدَّمِ هَلْ يُحْبَسُ؟ فَقَالَ: إنْ كَانَ الْمُدْمَى بِهِ مُتَّهَمًا يُحْبَسُ الشَّهْرَ وَنَحْوَهُ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مُتَّهَمٍ لَمْ يُحْبَسْ إلَّا الْيَوْمَ وَالْيَوْمَيْنِ، وَإِنْ لَمْ يُحَقَّقْ عَلَيْهِ شَيْءٌ أُطْلِقَ، فَهَذَا مَا قَالُوا مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ بَيِّنَةٌ تَشْهَدُ لِلْمُدْمِي بِالطَّهَارَةِ وَالِاسْتِقَامَةِ، فَكَيْفَ وَقَدْ شُهِدَ لِهَذَا بِنَفْيِ الرِّيبَةِ عَنْهُ، مَعَ مَا انْضَافَ إلَى ذَلِكَ مِنْ طُولِ حَبْسِهِ أَكْثَرَ مِنْ سَنَتَيْنِ؟ فَتَرَى أَنَّ إطْلَاقَ هَذَا الْمَحْبُوسِ وَاجِبٌ وَحَقٌّ لَازِمٌ، لَا يَحِلُّ حَبْسُهُ سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى قَالَ بِذَلِكَ ابْنُ لُبَابَةَ وَابْنُ وَلِيدٍ وَأَيُّوبُ بْنُ سُلَيْمَانَ.
وَقَالَ عُبَيْدُ اللَّهِ إنْ كَانَ لَمْ يَشْهَدْ عَلَيْهِ بِشَهَادَةٍ تُوجِبُ حَبْسَهُ، فَإِطْلَاقُهُ وَاجِبٌ لَا يَجِبُ حَبْسُهُ.
مَسْأَلَةٌ:
فِي أَحْكَامِ ابْنِ سَهْلٍ فِي سَجْنِ رَجُلٍ يُقَالُ لَهُ ابْنُ بُرَيْهِنَةَ فِي تَدْمِيَةٍ، فَأَجَابَ الْفُقَهَاءُ فِيهَا: فَهَمُّنَا وَفَّقَ اللَّهُ الْقَاضِيَ مَا شُهِدَ بِهِ عَلَى ابْنِ بُرَيْهِنَةَ الْمَرْمِيِّ بِالدَّمِ، بِزَعْمِ الشُّهُودِ الَّذِينَ لَمْ يَعْرِفْ مِنْهُمْ أَحَدًا، وَلَا شَهِدُوا شَهَادَةً يَجِبُ بِهَا أَخْذُهُ بِالدَّمِ، وَفَهِمْنَا شَهَادَةَ فُلَانٍ عَلَيْهِ وَمَا رَمَاهُ بِهِ مِنْ أَنَّهُ مِنْ أَهْلِ الْعِثَايَةِ وَالْفَسَادِ، فَرَأَيْنَا هَذِهِ الشَّهَادَةَ خَاصَّةً يَجِبُ بِهَا حَبْسُ الْمُدْمِي حَبْسًا طَوِيلًا مَعَ تَظَاهُرِ الشَّهَادَاتِ عَلَيْهِ، مِمَّنْ لَمْ تَعْرِفْهُمْ حَبْسًا يَكُونُ كَالتَّخْلِيدِ حَتَّى تَظْهَرَ تَوْبَتُهُ، وَذَكَرْت أَنَّ لَهُ فِي الْحَبْسِ عَامَيْنِ، وَأَنَّ جَمَاعَةً مِنْ أَهْلِ الْحَبْسِ ذَكَرُوا لَك أَنَّهُ مِنْ أَهْلِ الصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ وَتِلَاوَةِ الْقُرْآنِ، وَأَنَّ حُسِّنَتْ عِنْدَهُمْ، فَإِذَا شَهِدُوا عِنْدَك بِجَمَاعَتِهِمْ، فَإِنَّهُ يَسْتَوْجِبُ الْإِطْلَاقَ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُحْبَسْ عَنْ ثُبُوتِ شَيْءٍ عَلَيْهِ.
مَسْأَلَةٌ:
فِي ثَلَاثِ رِجَالٍ تَرَامَوْا بِدَمٍ، فَقَالَ أَحَدُهُمْ: إنَّ هَذَيْنِ قَتَلَا ابْنَ عَمِّي، وَقَالَ أَحَدُ الِاثْنَيْنِ إنَّ هَذَا قَتَلَ ابْنَ عَمِّي، فَأَمَرَ الْحَاكِمُ بِهِمْ إلَى السِّجْنِ لِيَكْشِفَ عَنْ حَالِهِمْ، فَلَمْ يَمْضِ الْيَوْمُ حَتَّى بَعَثُوا إلَى الْحَاكِمِ أَنَّا قَدْ اصْطَلَحْنَا وَإِنَّمَا كَانَ شَرٌّ وَقَعَ بَيْنَنَا وَقَدْ تَهَادَرْنَا وَاصْطَلَحْنَا فَاسْتَشَارَ الْحَاكِمُ فِيهِمْ الْفُقَهَاءَ فَأَجَابُوهُ: بِأَنَّ الَّذِي عِنْدَنَا فِي أَمْرِ الثَّلَاثَةِ أَنْ يُطْلَقُوا وَيُخَلَّى سَبِيلُهُمْ، إذْ قَدْ تَصَالَحُوا وَتَعَافَوْا مِنْ دَعْوَاهُمْ، وَرَجَعُوا إلَى أَنَّ ذَلِكَ إنْ كَانَ مِنْ شَرٍّ وَقَعَ بَيْنَهُمْ، وَلَمْ يَكُنْ لِمَا ادَّعَوْا وَجْهٌ يَظْهَرُ وَلَا سَبَبٌ يَدُلُّ وَلَا سَبِيلٌ إلَى حَبْسِهِمْ، بَعْدَ هَذَا قَالَهُ أَيُّوبُ بْنُ سُلَيْمَانَ، وَكَذَلِكَ قَالَ يَحْيَى بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَمَنْ تَرَكَ إثْبَاتَ طَلَبِهِ، فَلَيْسَ عَلَى الْقُضَاةِ إجْبَارُهُ عَلَى طَلَبِ حَقِّهِ، إلَّا أَنْ يَكُونَ الْقَاضِي اسْتَرَابَ أَمْرَهُمْ بِشَاهِدٍ عَلِمَهُ بِشَيْءٍ مِنْ شَأْنِهِمْ، فَأَمَّا إذَا لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ إلَّا مَا كَانَ مِنْ دَعْوَاهُمْ فَلَا سَبِيلَ عَلَيْهِمْ.
مَسْأَلَةٌ:
رَجُلٌ شَكَا بِوَلَدِهِ أَنَّهُ غَيْرُ بَارٍّ بِهِ فَحَبَسَهُ الْحَاكِمُ تَأْدِيبًا لَهُ، ثُمَّ بَعْدَ حَبْسِهِ ذَكَرَ عَنْهُ أَنَّهُ قَتَلَ امْرَأَةَ أَحَدٍ مِنْ أَهْلِ الْعَدْلِ وَلَا قَامَ أَحَدٌ بِدَمِهَا وَإِنَّمَا جَرَى خَبَرٌ شَاذٌّ وَمَضَى لِحَبْسِهِ عَشَرَةُ أَشْهُرٍ، فَطَلَبَ أَبُوهُ إطْلَاقَهُ، فَأَفْتَى الْعُلَمَاءُ بِأَنَّ فِي دُونِ هَذَا الْحَبْسِ مَا يُؤَدِّبُهُ.
مَسْأَلَةٌ:
رَجُلَانِ قَتَلَا أُخْتَهُمَا وَشُهِدَ بِذَلِكَ عَلَيْهِمَا، وَكَشَفَ الْقَاضِي عَنْ أَمْرِهِمَا فَلَمْ يَخْتَلِفَا أَنَّهُمَا قَتَلَاهَا لِرِيبَةٍ اتَّهَمَاهَا بِهَا. فَسَأَلَ الْقَاضِي الْفُقَهَاءَ عَمَّا يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَفْعَلَهُ بِالْمَشْهُودِ عَلَيْهِ. فَأَجَابَهُ: الْفُقَهَاءُ: أَنَّهُ يَجِبُ حَبْسُهُمَا وَالْكَشْفُ عَمَّا نُسِبَ إلَيْهِمَا مِنْ قَتْلِهِمَا لَهَا بِبَيِّنَةِ عَدْلٍ، تَقْطَعُ عَلَى مُعَايَنَةِ الْقَتْلِ وَعَلَى سَمَاعِ صَوْتِهَا إذَا طُرِحَتْ فِي الْغَدِيرِ مِمَّنْ يَعْرِفُ صَوْتَهَا أَنَّ أَخَوَيْهَا يَقْتُلَانِهَا، وَاسْتِغَاثَتِهَا لِهَذَا وَقَامَ بِالدَّمِ مَنْ يَجِبُ الْقِيَامُ لَهُ، وَحِينَئِذٍ يَظْهَرُ فِي أَمْرِهِمَا بِمَا تُوجِبُ السُّنَّةُ فِي ذَلِكَ.
مَسْأَلَةٌ:
رَجُلٌ رَمَى بِقَتْلِ أَخِيهِ سِتَّةَ نَفَرٍ فَحَبَسَهُمْ الْأَمِيرُ، ثُمَّ صَرَفَ النَّظَرَ فِيهِمْ إلَى الْقَاضِي وَأَمَرَهُ يَنْظُرُ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ، فَأَحْضَرَ الْقَاضِي الْمَرْمِيِّينَ وَالرَّامِيَ لَهُمْ، فَذَكَرَ لِلْقَاضِي أَنَّ أَخَاهُ مَرَّ بِقَرْيَةٍ لِلْمَبِيتِ بِهَا فَأَصْبَحَ مَقْتُولًا، وَرَمَى بِدَمِهِ سِتَّةَ نَفَرٍ مِنْ أَهْلِ الْقَرْيَةِ وَسَمَّاهُمْ.
وَقَالَ: إنِّي لَا أَعْرِفُهُمْ بِأَعْيَانِهِمْ، فَأَنْكَرُوا كُلُّهُمْ قَتْلَ أَخِيهِ، ثُمَّ إنَّ الْمُدَّعِيَ أَبْرَأَ اثْنَيْنِ مِنْ السِّتَّةِ مِنْ دَمِ أَخِيهِ وَهُوَ لَا يَعْرِفُهُمَا بِأَعْيَانِهِمَا، وَإِنَّمَا ذَكَرَ اسْمَهُمَا، وَقَدْ تَقَدَّمَ حَبْسُ الْأَمِيرِ لَهُمْ قَبْلَ ارْتِفَاعِهِمْ إلَى الْقَاضِي، مُدَّةَ ذِكْرِ السِّتَّةِ النَّفَرِ أَنَّهَا عِشْرُونَ شَهْرًا.
وَقَالَ الْمُدَّعِي: إنَّمَا حُبِسُوا لِأَجْلِي مُنْذُ سَنَةٍ وَمَا قَارَبَهَا، فَأَجَابَ الْفُقَهَاءُ: إنْ لَمْ يَأْتِ الْقَائِمُ بِدَمِ أَخِيهِ بِبَيِّنَةٍ أَوْ بِلَوْثٍ يَجِبُ بِهِ الدَّمُ مَعَ الْقَسَامَةِ، حَتَّى مَضَتْ الْمُدَّةُ الَّتِي أَقَرَّ الْمُدَّعِي أَنَّهُمْ حُبِسُوا فِيهَا أَكْثَرَ مِنْ سَنَةٍ فَلَا مَعْنَى لِحَبْسِهِمْ، وَلَا يَحِلُّ حَبْسُ مَرْمِيٍّ بِدَمٍ هَذِهِ الْمُدَّةَ، إنَّمَا قَالَ أَهْلُ الْعِلْمِ إنْ كَانَ الْمَرْمِيُّ بِالدَّمِ مُتَّهَمًا حُبِسَ الشَّهْرَ وَنَحْوَهُ، فَإِنْ لَمْ يُؤْتَ عَلَيْهِ بِبَيِّنَةٍ فِي دَاخِلِ الشَّهْرِ أُطْلِقَ، وَهَؤُلَاءِ قَدْ حُبِسُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ مِمَّا لَا يَجُوزُ حَبْسُهُمْ لَهُ، وَفِي دُونِ ذَلِكَ مَا كَانَ فِيهِ اسْتِبْرَاءُ الدَّمِ، وَهَذَا الطَّالِبُ لَا يَعْرِفُ الْمَرْمِيَّ عَلَيْهِمْ بِأَعْيُنِهِمْ، وَأَبْرَأَ اثْنَيْنِ لَا يَعْرِفُهُمَا بِأَعْيَانِهِمَا فَأَيُّ شَيْءٍ أَضْعَفُ مِنْ هَذَا الطَّالِبِ؟ وَفِي إطْلَاقِ هَؤُلَاءِ مِمَّنْ لَمْ يَقُمْ عَلَيْهِمْ شُبْهَةٌ وَلَا سَبَبٌ يُوجِبُ حَبْسًا ثَوَابٌ، فَإِنَّ السِّجْنَ مَقْرُونٌ بِالْعَذَابِ الْأَلِيمِ، يُشِيرُ إلَيْهِ قَوْله تَعَالَى: {إِلا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [يوسف: 25]. فَوَاجِبٌ عَلَى الْقَاضِي إنْهَاءُ ذَلِكَ إلَى الْأَمِيرِ.
مَسْأَلَةٌ:
رَجُلٌ أَصْبَحَ فِي دَارِهِ مَقْتُولًا عَلَى فِرَاشِهِ، وَمَشَى ابْنُهُ مُنْذِرًا لِجِيرَانِهِ لِلصَّلَاةِ عَلَيْهِ لَهِجًا بِأَنَّهُ طُرِقَ لَيْلًا وَقُتِلَ، فَأَنْكَرَ ذَلِكَ الْوَزِيرُ وَأَمَرَ صَاحِبَ الْمَدِينَةِ بِالنُّهُوضِ إلَى دَارِهِ، فَنَهَضَ إلَيْهَا، فَوَجَدَ الْقَتِيلَ مَذْبُوحًا فِيهِ نَيِّفٌ عَلَى سِتِّينَ ضَرْبَةً بِسِكِّينٍ، وَتَتَبَّعَ الدَّارَ فَلَمْ يَجِدْ فِيهَا أَثَرَ نُزُولٍ وَلَا خُرُوجٍ، وَلَقِيَ فِي الدَّارِ ثِيَابَهُ مُخَبَّأَةً فِي بَعْضِ أَرْكَانِ الدَّارِ، وَسِكِّينَ أَقْلَامِهِ وَغُرْفَةً فِيهَا دَمٌ، وَفِي سَرَاوِيلِ بَعْضِ بَنَاتِهِ بَعْضَ دَمٍ، فَاسْتَنْطَقَهُنَّ فَقَالَتْ وَاحِدَةٌ مِنْهُنَّ عَنْ أُخْرَى هَذِهِ قَتَلَتْهُ وَأَعَنَّاهَا نَحْنُ وَقَالَتْ: كَانَ حَقِيقًا بِالْقَتْلِ مُنْذُ أَعْوَامٍ وَكَانَ ابْنَاهُ سَاكِنَيْنِ مَعَهُ فِي الدَّارِ، أَحَدُهُمَا الْمُنْذِرُ بِالصَّلَاةِ عَلَيْهِ وَالْآخَرُ ضَعِيفُ الْأَعْضَاءِ ضَرَبَتْهُ رِيحٌ، فَقَالَ هَذَا الضَّعِيفُ طَرَقَهُ لُصُوصٌ فَقَتَلُوهُ، ثُمَّ رَجَعَ إلَى أَنْ قَالَ: إنَّمَا قَتَلَهُ النِّسَاءُ وَأَخُوهُ الَّذِي أَنْذَرَ بِالصَّلَاةِ كَانَ وَاقِفًا خَلْفَ بَابِ الْبَيْتِ وَثَبَتَ مَوْتُهُ وَوِرَاثَتُهُ، وَأَنَّ ابْنَيْ أَخِيهِ أَحَقُّ النَّاسِ بِالْقِيَامِ بِدَمِهِ مَعَ ابْنِهِ الضَّعِيفِ، وَيُشَاوِرُ صَاحِبَ الْمَدِينَةِ فِي ذَلِكَ، فَأَفْتَى ابْنُ عَتَّابٍ: أَنَّهُ لَا قَتْلَ عَلَى مَنْ كَانَ مَعَهُ فِي الدَّارِ مِنْ نِسَائِهِ وَابْنَيْهِ، إلَّا أَنَّ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ الْقَسَامَةَ أَنَّهُ مَا قَتَلَهُ وَلَا مَا لَا عَلَى قَتْلِهِ وَلَا شَارَكَ، فِيهِ ثُمَّ يُطَالُ سِجْنُهُمْ.
قَالَ ابْنُ عَتَّابٍ: وَلَمَّا كَانَ قَوْلُ الْمَرْأَةِ عَنْ الْأُخْرَى هَذِهِ قَتَلَتْهُ وَأَعَنَّاهَا نَحْنُ قَوْلًا مُحْتَمَلًا، فَيَحْتَمِلُ أَنْ نَعْنِيَ أَنَّهَا أَعَانَتْ بِقَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ لَمْ يَكُنْ عَامِلًا فِي قَتْلِهَا وَلِأَنَّهَا لَمْ تَقُلْ هَذَا إلَّا بَعْدَ ضَرْبِهِنَّ بِالسَّوْطِ وَغَيْرِهِ وَفَزَعِهِنَّ مِنْ ذَلِكَ، فَحَضَرَ الْوَزِيرُ مَسْجِدَ ابْنِ عَتَّابٍ وَأَمَرَ بِإِحْضَارِ ابْنَيْ الْمَقْتُولِ وَبَنِي عَمِّهِمَا، وَأَقْسَمَ الْوَلَدُ الْكَبِيرُ وَأُمُّ وَلَدِهِ الْمَقْتُولِ فِي دَاخِلِ الْمَقْصُورَةِ بِالْجَامِعِ عِنْدَ مَقْطَعِ الْحَقِّ، عَافَانَا اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ.
وَأَفْتَى ابْنُ الْقَطَّانِ وَابْنُ مَالِكٍ بِأَنَّ لِابْنِهِ الضَّعِيفِ الْقِيَامَ بِالدَّمِ، قَالَ الْقَاضِي وَفِي هَذَا نَظَرٌ لِقَوْلِهِمَا أَوَّلًا طَرَقَهُ لُصُوصٌ فَقَتَلُوهُ ثُمَّ رَجَعَ عَنْ ذَلِكَ أَحَدُهُمَا.
مَسْأَلَةٌ:
فِي رَجُلٍ وَامْرَأَةٍ لَيْسَ مَعَهُمَا فِي الدَّارِ غَيْرُهُمَا مُدَّةً نَحْوَ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ، ثُمَّ إنَّ الْمَرْأَةَ أَصْبَحَتْ مَكْتُوفَةً مَذْبُوحَةً فِي الدَّارِ، وَذَكَرَ الشُّهُودُ أَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ زَوْجَهَا غَابَ عَنْ سُكْنَى دَارِهِ وَالْمَبِيتِ لَيْلَةً وَاحِدَةً إلَى حِينِ وُقُوعِ ذَلِكَ، فَقَامَ جَدُّهَا لِأُمِّهَا وَادَّعَى عِنْدَ الْأَمِيرِ أَنَّ زَوْجَهَا قَتَلَهَا، فَأَنْكَرَ الزَّوْجُ ذَلِكَ، فَأَحْضَرَ أَوْلِيَاءَهَا وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إنَّهُ لَا يُقْسِمُ فِي ذَلِكَ إنْ وَجَبَتْ لَهُ الْقَسَامَةُ.
وَقَالَ بَعْضُهُمْ أَنَا أُقْسِمُ عَلَى ذَلِكَ، فَشَاوَرَ الْأَمِيرُ الْفُقَهَاءَ فِي ذَلِكَ فَأَجَابُوهُ نَرَى وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ لِلصَّوَابِ: إطَالَةَ سِجْنِ الزَّوْجِ مُوثَقًا فِي الْكَبْلِ مُضَيَّقًا عَلَيْهِ فِي الْحَبْسِ زَمَانًا، بِقَدْرِ مَا يُؤَدِّيك إلَيْهِ اجْتِهَادُك لَعَلَّ أَنْ يُقِرَّ فِي خِلَالِ ذَلِكَ لَطْخَ الدَّمِ بِهِ، فَإِنْ طَالَ حَبْسُهُ وَبَقِيَ عَلَى حَالِهِ، فَحِينَئِذٍ يُقْسِمُ فِي مَقْطَعِ الْحَقِّ بِالْجَامِعِ خَمْسِينَ يَمِينًا أَنَّهُ مَا قَتَلَهَا وَلَا شَارَكَ فِي دَمِهَا ثُمَّ خُلِّيَ سَبِيلُهُ وَاَللَّهُ حَسِيبُهُ.
وَأَجَابَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ: بِأَنَّ وَلِيَّهَا وَرَجُلًا آخَرَ وَرِجَالًا مِنْ عَصَبَتِهَا يَحْلِفُونَ فِي مَقْطَعِ الْحَقِّ بَعْدَ طُولِ الْحَبْسِ، بِمَحْضَرِ الْأَمِيرِ وَمَحْضَرِ مَلَأٍ مِنْ النَّاسِ عَلَى عَيْنِ فَطِيسٍ وَبِمَحْضَرِهِ، وَاَللَّهِ الَّذِي لَا إلَهَ إلَّا هُوَ، لَقَدْ قَتَلَهَا عَمْدًا خَمْسِينَ يَمِينًا وَإِنْ كَانَ وَلِيُّ الدَّمِ صَغِيرًا لَمْ يَبْلُغْ بَقِيَ الزَّوْجُ فِي السِّجْنِ حَتَّى يَبْلُغَ، وَيَحْلِفُ مَعَ رَجُلٍ آخَرَ مِنْ عَصَبَتِهَا وَهَذَا الْقَوْلُ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ أَوْلِيَاءَ الدَّمِ أَوْلَى بِالْبُدَاءَةِ بِالْيَمِينِ، قَالَ ابْنُ سَهْلٍ: وَآلَ أَمْرُ هَذَا الزَّوْجِ إلَى الْمُصَالَحَةِ بِعِدَّةٍ مِنْ الذَّهَبِ أَدَّاهَا وَخُلِّيَ عَنْهُ.
مَسْأَلَةٌ:
لَوْ أَكْذَبَ الْمُدْمِي نَفْسَهُ فَلَا عُقُوبَةَ عَلَيْهِ لِمَا فِيهِ مِنْ الْمَصْلَحَةِ، لِأَنَّهُ لَوْ أُدِّبَ لَأَدَّى إلَى أَنْ لَا يَرْجِعَ أَحَدٌ عَنْ ذَلِكَ، وَبِمِثْلِ هَذَا احْتَجَّ سَحْنُونٌ فِي تَرْكِ أَدَبِ الشَّاهِدِ إذَا رَجَعَ عَنْ شَهَادَةٍ، وَلَمْ يُعْذَرْ بِشُبْهَةٍ وَلَوْ أُدِّبَ لَمْ يَرْجِعْ أَحَدٌ.
مَسْأَلَةٌ:
وَهَذَا بِخِلَافِ مَنْ ادَّعَى بَاطِلًا ثُمَّ تَبَيَّنَ بُطْلَانَ دَعْوَاهُ، فَإِنَّ ابْنَ سَهْلٍ حَكَى فِي الْأَحْكَامِ لَهُ أَنَّ الْحَاكِمَ يُؤَدِّبُهُ عَلَى قَدْرِ اجْتِهَادِهِ.
مَسْأَلَةٌ:
مَنْ ادَّعَى عَلَى رَجُلٍ أَنَّهُ جَرَحَهُ أَوْ ضَرَبَهُ ضَرْبًا زَعَمَ أَنَّهُ يُخَافُ مِنْهُ الْمَوْتَ، كَأَنْ كَانَ بِالْمُدَّعِي أَثَرٌ مَخُوفٌ أَوْ جِرَاحٌ، سُجِنَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ وَسُئِلَ الْمُدَّعِي عَلَى بَيِّنَتِهِ وَأُجِّلَ لَهُ بِقَدْرِ بُعْدِهَا وَقُرْبِهَا، فَإِنْ جَاءَ بِبَيِّنَةٍ اقْتَصَّ لَهُ، وَإِنْ لَمْ يَأْتِ بِبَيِّنَةٍ وَجَاءَ بِلَطْخٍ وَأَسْبَابٍ أَوْ بِشَاهِدٍ وَاحِدٍ وَبَيِّنَةٍ غَيْرِ قَاطِعَةٍ، تَمَادَى فِي سَجْنِهِ وَإِلَّا أَطْلَقَهُ.
وَكَذَلِكَ إنْ ادَّعَى أَنَّهُ قَتَلَ لَهُ وَلِيًّا إنْ كَانَ مُتَّهَمًا سَجَنَهُ مَكَانَهُ وَدَعَاهُ بِالْبَيِّنَةِ، فَإِنْ جَاءَ بِهَا نَظَرَ لَهُ، وَإِنْ لَمْ يَأْتِ بِهَا وَجَاءَ بِلَطْخٍ أَوْ سَبَبٍ تَمَادَى فِي سَجْنِهِ، وَإِنْ لَمْ يَأْتِ إلَّا بِمَنْ يَشْهَدُ أَنَّ هَذَا قُتِلَ لَهُ وَلِيٌّ وَلَا يَدْرُونَ مَنْ قَتَلَهُ، سُجِنَ إنْ كَانَ مُتَّهَمًا دُونَ سِجْنِ الَّذِي جُنِيَ عَلَيْهِ بِلَطْخٍ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُتَّهَمًا لَمْ يُسْجَنْ نَدْبًا حَتَّى يَشْهَدَ أَنَّهُ قُتِلَ لَهُ وَلِيٌّ، فَيُسْجَنُ وَيُسْأَلُ الْبَيِّنَةَ وَيُؤَجَّلُ بِقَدْرِ مَا يُذْكَرُ بَعْدَهَا، فَإِنْ جَاءَ إلَى الْأَجَلِ بِمَا اسْتَوْجَبَ بِهِ السَّجْنَ وَإِلَّا أَطْلَقَهُ، وَلَا يَسْجُنُهُ أَبَدًا إنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ أَهْلِ التُّهَمِ.
مَسْأَلَةٌ:
قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: فِي صَبِيٍّ عَبِثَ بِسَقَّاءٍ عَلَى عُنُقِهِ قُلَّةٌ، حَتَّى سَقَطَتْ الْقُلَّةُ عَلَى الصَّبِيِّ فَمَاتَ فَلَا شَيْءَ عَلَى السَّقَّا وَإِنْ سَقَطَتْ عَلَى غَيْرِ الصَّبِيِّ فَقَتَلَتْهُ، فَدِيَتُهُ عَلَى عَاقِلَةِ الصَّبِيِّ مِنْ الْمُنْتَخَبِ فِي الْأَحْكَامِ اُنْظُرْ الطُّرَرَ.
مَسْأَلَةٌ:
قَالَ ابْنُ مُزَيْنٍ قُلْت لِأَصْبَغَ يُؤَدَّبُ الصِّبْيَانُ فِي تَعَدِّيهِمْ وَشَتْمِهِمْ وَقَذْفِهِمْ وَجِرَاحَاتِهِمْ الْعَمْدِ وَقَتْلِهِمْ، قَالَ: نَعَمْ يُؤَدَّبُونَ إذَا كَانُوا قَدْ عَقَلُوا أَوْ رَاهَقُوا.
مَسْأَلَةٌ:
وَفِي الطُّرَرِ: إذَا كَانَ الْمَرْمِيُّ بِالدَّمِ مِنْ أَهْلِ التُّهَمِ يُحْبَسُ الشَّهْرَ وَنَحْوَهُ، وَلَوْ قَوِيَتْ التُّهْمَةُ لَحُبِسَ الْحَبْسَ الطَّوِيلَ، قَالَ ابْنُ حَبِيبٍ فِي الْوَاضِحَةِ: عَلَيْهِ الْحَبْسُ الطَّوِيلُ جِدًّا حَتَّى يُبَيِّنَ بَرَاءَتَهُ أَوْ يَأْتِيَ عَلَيْهِ السُّنُونَ الْكَثِيرَةُ، قَالَ مَالِكٌ: وَلَقَدْ كَانَ الرَّجُلُ يُحْبَسُ فِي الدَّمِ بِاللَّطْخِ وَالشُّبْهَةِ، حَتَّى إنَّ أَهْلَهُ لَيَتَمَنَّوْنَ مَوْتَهُ مِنْ طُولِ حَبْسِهِ.
مَسْأَلَةٌ:
مِنْ الْمُتَيْطِيَّةِ: إذَا لَمْ يَكُنْ بِالْمُدْمَى أَثَرُ جُرْحٍ وَلَا ضَرْبٍ وَلَمْ يُعْرَفْ ضَرْبُ فُلَانٍ لَهُ قَبْلَ ذَلِكَ، فَفِي الْعُتْبِيَّةِ مِنْ رِوَايَةِ عِيسَى عَنْ ابْنِ الْقَاسِمِ: أَنَّهُ لَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ عَلَى فُلَانٍ إلَّا بِالْبَيِّنَةِ عَلَى ذَلِكَ أَوْ بِأَمْرٍ بَيِّنٍ.
وَقَالَ أَصْبَغُ: تُقْسِمُ مَعَ قَوْلِهِ كَانَ بِهِ أَثَرٌ أَوْ لَمْ يَكُنْ، وَبِمَا تَقَدَّمَ مِنْ قَوْلِ ابْنِ الْقَاسِمِ الْعَمَلُ وَبِهِ الْحُكْمُ.
مَسْأَلَةٌ:
وَمِنْ مُخْتَصَرِ الْوَاضِحَةِ قَالَ أَصْبَغُ: وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا مِنْ هَؤُلَاءِ الْحُوَاةِ طَرَحَ حَيَّةٍ مَسْمُومَةً عَلَى رَجُلٍ فَإِنَّهُ يُقْتَلُ طَارِحُهَا إذَا قَتَلَتْ، وَلَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ إنْ قَالَ: كُنْت أَلْعَبُ، لِأَنَّهُمْ يَعْرِفُونَ مَا بِأَيْدِيهِمْ، وَإِنَّمَا الَّذِي يَكُونُ لَعِبًا مَا يَفْعَلُ الشَّبَابُ فِيمَا بَيْنَهُمْ مِنْ تَفْزِيعِ بَعْضِهِمْ بَعْضًا بِطَرْحِ الْحَيَّةِ الصَّغِيرَةِ الَّتِي لَا يُعْرَفُ مِنْهَا مَا يَعْرِفُ هَؤُلَاءِ فَتَقْتُلُ، فَهَذَا الَّذِي يُشْكِلُ وَيُجْعَلُ خَطَأً، وَأَرَى الْقَسَامَةَ عَلَى طَرْحِ الْحَيَّةِ أَنَّهُ مَا تَعَمَّدَ الْقَتْلَ.
مَسْأَلَةٌ:
وَسَأَلَ ابْنُ الْمَاجِشُونِ عَنْ الْقَوْمِ يَخْرُجُونَ فِي النُّزْهَةِ فَيَلْعَبُونَ وَيُجَرْجِرُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، فَيُدْفَعُ أَحَدُهُمْ فَيَمُوتُ أَوْ تَنْكَسِرُ يَدُهُ أَوْ رِجْلُهُ، فَقَالَ: يُعَدُّ ذَلِكَ خَطَأً وَفِيهِ الْعَقْلُ.
مَسْأَلَةٌ:
وَسَأَلَ ابْنُ الْمَاجِشُونِ أَيْضًا: عَنْ الْقَوْمِ يَتَمَاقَلُونَ فِي نَهْرٍ أَوْ بَحْرٍ، أَيْ يُغَطِّسُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا فَيَمُوتُ رَجُلٌ مِنْهُمْ، قَالَ: يُعَدُّ خَطَأً وَفِيهِ الدِّيَةُ، وَلَوْ كَانَ عَمْدًا يُشْهَدُ عَلَيْهِ أَنَّ فَاعِلَ ذَلِكَ تَعَمَّدَ أَنْ يُمِيتَهُ، كَانَ الْقَوَدُ فِيهِ بِأَنْ يُغَطَّسَ حَتَّى يَمُوتَ، قَالَ: فَلَوْ كَانُوا سِتَّةَ نَفَرٍ فَشَهِدَ الثَّلَاثَةُ مِنْهُمْ عَلَى الِاثْنَيْنِ أَنَّهُمَا مَقَلَاهُ حَتَّى مَاتَ، وَشَهِدَ الِاثْنَانِ عَلَى الثَّلَاثَةِ مِنْهُمْ عَلَى الِاثْنَيْنِ أَنَّهُمَا مَقَلَاهُ حَتَّى مَاتَ، وَشَهِدَ الِاثْنَانِ عَلَى الثَّلَاثَةِ أَنَّهُمْ قَتَلُوهُ، فَقَالَ: لَا شَهَادَةَ لِبَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ، وَلَكِنَّ الدِّيَةَ عَلَيْهِمْ، لِأَنَّهُمْ تَقَارُّوا أَنَّ مَوْتَهُ كَانَ مِنْ قِبَلِهِمْ وَسَبَبِهِمْ إلَّا أَنَّهُمْ تَرَامَوْا بِهِ فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ مِنْهُمْ فِي شَهَادَةِ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ عَلَى التَّعَمُّدِ لِقَتْلِهِ فَالدِّيَةُ فِي أَمْوَالِهِمْ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ مِنْهُمْ فِي شَهَادَتِهِمْ عَلَى اللَّعِبِ فَالدِّيَةُ عَلَى عَوَاقِلِهِمْ.
وَذَكَرَ ابْنُ حَبِيبٍ عَنْ مُطَرِّفٍ وَابْنِ الْمَاجِشُونِ وَأَصْبَغَ: أَنَّ الدِّيَةَ عَلَيْهِمْ فِي أَمْوَالِهِمْ جَمِيعًا يُؤْخَذُ ذَلِكَ مِنْهُمْ عَلَى جِهَةِ الْإِقْرَارِ وَلَيْسَ عَلَى جِهَةِ الشَّهَادَةِ عُدُولًا كَانُوا أَوْ غَيْرَ عُدُولٍ، عَمْدًا فَطَرَأَ ذَلِكَ فِي شَهَادَاتِهِمْ، وَخَطَأً وَهَذَا فِي الْكِبَارِ، فَأَمَّا لَوْ كَانُوا صِغَارًا أَسْقَطَ ذَلِكَ وَلَمْ يَثْبُتْ، لِأَنَّ الصِّغَارَ لَا إقْرَارَ لَهُمْ.
وَفِي شَرْحِ الْجَلَّابِ لِلْقَرَافِيِّ قَالَ مَالِكٌ: سِتَّةُ صِبْيَةٍ غَرِقَ فِي الْبَحْرِ وَاحِدٌ مِنْهُمْ، فَشَهِدَ ثَلَاثَةٌ عَلَى اثْنَيْنِ، وَاثْنَانِ عَلَى ثَلَاثَةٍ أَنَّهُمْ غَرَّقُوهُ، فَالْعَقْلُ عَلَيْهِمْ كُلِّهِمْ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ يَدْرَأُ عَنْ نَفْسِهِ، وَلَيْسَ الْبَعْضُ أَوْلَى مِنْ الْبَعْضِ، فَلَزِمَتْ الدِّيَةُ عَوَاقِلَهُمْ وَهَذَا خِلَافُ مَا تَقَدَّمَ فِي الْوَاضِحَةِ.
مَسْأَلَةٌ:
وَإِذَا تَعَارَضَ بَيِّنَتَانِ مِنْ الصِّبْيَانِ فِي شَجَّةٍ هَلْ شَجَّهَا فُلَانٌ أَوْ فُلَانٌ؟ سَقَطَتَا؛ لِأَنَّ كُلَّ فَرِيقٍ يَنْفِي مَا يُثْبِتُهُ الْآخَرُ وَأَرْشُ الشَّجَّةِ عَلَى جَمَاعَةِ الصِّبْيَانِ.
مَسْأَلَةٌ:
قَالَ ابْنُ حَبِيبٍ قَالَ ابْنُ الْمَاجِشُونِ: مَنْ ادَّعَى عَلَى قَوْمٍ أَنَّهُمْ ضَرَبُوهُ وَلَمْ يَكُنْ عَلَى ضَرْبِهِ بَيِّنَةٌ فَحَبَسَهُمْ السُّلْطَانُ فِي السِّجْنِ ثُمَّ الْمَضْرُوبُ بَرَّأَ بَعْضَهُمْ، أَطْلَقَ السُّلْطَانُ مَنْ بَرَّأَ وَحَبَسَ مَنْ لَمْ يُبَرِّئْ.
مَسْأَلَةٌ:
إذَا ادَّعَى رَجُلٌ عَلَى رَجُلٍ أَنَّهُ شَجَّهُ أَوْ جَرَحَهُ وَلَا بَيِّنَةَ، سُجِنَ لَهُ حَتَّى يُعْرَفَ مَا يَصِيرُ إلَيْهِ، فَإِنْ بَرِئَ وَعُفِيَ عَنْهُ فلابد لِلسُّلْطَانِ أَنْ يَسْتَحْلِفَهُ أَنَّهُ لَمْ يَجْرَحْهُ، فَإِنْ حَلَفَ خَلَّى سَبِيلَهُ، وَإِنْ لَمْ يَحْلِفْ أَوْ أَقَرَّ أَدَّبَهُ، وَلَوْ قَالَ الْمَجْرُوحُ: لَيْسَ هُوَ الَّذِي جَرَحَنِي أَوْ أُشْبِهَ عَلَيَّ لَمْ يَنْجُ مِنْ السِّجْنِ حَتَّى يَحْلِفَ أَنَّهُ لَمْ يَفْعَلْ، أَوْ يُقِرَّ أَوْ يَأْبَى عَنْ الْيَمِينِ فَيُؤَدَّبَ، نَقَلَهُ ابْنُ رَاشِدٍ عَنْ الطُّرَرِ.
مَسْأَلَةٌ:
قَالَ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ: مَنْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ الْقَسَامَةُ فَعُفِيَ عَنْهُ قَبْلَ أَنْ يُقْسِمُوا أَوْ بَعْدَ أَنْ أَقْسَمُوا عَلَيْهِ، فَعَلَيْهِ جَلْدُ مِائَةٍ وَسَجْنُ سَنَةٍ مُسْتَأْنَفَةٍ مِنْ بَعْدِ الضَّرْبِ، لَا يُعْتَدُّ فِيهَا بِمَا يَكُونُ مِنْ السِّجْنِ قَبْلَ ذَلِكَ وَإِنْ طَالَ.
تنبيه:
قَالَ ابْنُ الْمَاجِشُونِ: وَإِنَّمَا يَكُونُ ضَرْبُ مِائَةٍ وَسَجْنُ سَنَةٍ فِيمَنْ قَتَلَ الْحُرَّ الْمُسْلِمَ أَوْ الْعَبْدَ الْمُسْلِمَ، فَأَمَّا غَيْرُ الْمُسْلِمِ فَلَا يَجِبُ ذَلِكَ عَلَيْهِ، وَلَكِنْ فِيهِ الْأَدَبُ الْمُؤْلِمُ قَالَهُ عَبْدُ الْمَلِكِ: وَبِهِ نَقُولُ مِنْ مُخْتَصَرِ الْوَاضِحَةِ.
مَسْأَلَةٌ:
وَلَوْ سَقَتْ وَلَدُهَا فَشَرِقَ فَمَاتَ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهَا، وَكَذَا لَوْ انْقَلَبَتْ عَلَى وَلَدِهَا وَهِيَ نَائِمَةٌ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهَا غَيْرُ الْكَفَّارَةِ.
مَسْأَلَةٌ:
إذَا ادَّعَى رَجُلٌ أَنَّ سَمْعَهُ نَقَصَ مِنْ ضَرْبَةٍ أَوْ جِنَايَةٍ فَإِنَّهُ يُخْتَبَرُ بِالصِّيَاحِ، وَالطَّرِيقُ فِي ذَلِكَ: أَنْ تُسَدَّ الْأُذُنُ الصَّحِيحَةُ وَيُصَاحَ بِهِ مِنْ أَمَامِهِ مَا دَامَ يَسْمَعُ، وَتُقَاسُ تِلْكَ الْمَسَافَةِ ثُمَّ يُصَاحُ بِهِ مِنْ جَانِبِهِ الْأَيْمَنِ حَتَّى يَقُولَ لَا أَسْمَعُ شَيْئًا، ثُمَّ يُبْعَدُ عَنْهُ وَيُصَاحُ بِهِ حَتَّى يَقُولَ: لَا أَسْمَعُ شَيْئًا، وَكَذَلِكَ مِنْ الْجَانِبِ الْأَيْسَرِ، ثُمَّ تُقَاسُ تِلْكَ الْجِهَاتُ فَإِذَا اسْتَوَتْ الْمَسَافَاتُ الَّتِي بَلَغَ سَمْعُهُ إلَيْهَا وَلَمْ يَخْتَلِفْ قَوْلُهُ عُلِمَ صِدْقُهُ، وَحِينَئِذٍ تُسَدُّ الْأُذُنُ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهَا وَتُفْتَحُ الصَّحِيحَةُ وَيُصَاحُ بِهِ فَإِذَا عُلِمَ انْتِهَاءُ صَوْتِهِ قَدَّرَ أَهْلِ الْمَعْرِفَةِ مَا نَقَصَ مِنْ سَمْعِهِ، بِأَنْ يَنْظُرُوا مَا بَيْنَ الصَّحِيحَةِ وَالْمُصَابَةِ، وَيُنْسَبُ ذَلِكَ إلَى الدِّيَةِ فَيَأْخُذُ مِنْ الْجَانِي مَا يَنُوبُهُ مِنْهَا بَعْدَ يَمِينِهِ، فَإِنْ اخْتَلَفَ قَوْلُهُ فِي الْجِهَاتِ بِأَمْرٍ بَيِّنٍ فَلَا شَيْءَ لَهُ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ دَالٌّ عَلَى كَذِبِهِ، وَقِيلَ لَهُ الْأَقَلُّ مَعَ يَمِينِهِ.
فرع:
فَإِنْ ادَّعَى، ذَهَابَ بَعْضِ بَصَرِهِ فَيُخْتَبَرُ نَقْصُهُ بِأَنْ نُغْلِقَ الصَّحِيحَةَ، وَتُجْعَلَ بَيْضَةً أَوْ نَحْوَهَا أَمَامَهُ وَيُبْعَدُ بِهَا عَنْهُ حَتَّى يَنْتَهِيَ مِقْدَارُ بَصَرِهِ إلَيْهَا ثُمَّ يُجْعَلُ أَيْضًا كَذَلِكَ مِنْ أَمَاكِنَ مُخْتَلِفَةٍ، وَعِنْدِي أَنَّ فِي ذَلِكَ نَظَرًا، لِأَنَّ الْعَيْنَ تَنْظُرُ مِنْ أَمَامِهَا أَكْثَرَ مِمَّا تَنْظُرُ عَلَى جَنَبَاتِهَا فَكَذَلِكَ إذَا نَقَصَ بَعْضُ بَصَرِهَا، فَكَذَلِكَ تَسْمَعُ مِنْ جَانِبِهِ أَكْثَرَ مِمَّا تَسْمَعُ مِنْ الْجَانِبِ الْآخَرِ، وَهَذَا مِنْ الْأَمْرِ الْمَحْسُوسِ الَّذِي لَا يَسْتَنْكِرُهُ أَحَدٌ ثُمَّ تُقَاسُ تِلْكَ الْجِهَاتُ كَمَا تَقَدَّمَ فِي السَّمْعِ.
فرع:
فَإِنْ ادَّعَى ذَهَابَ جَمِيعِ الْبَصَرِ وَالْعَيْنُ قَائِمَةٌ، فَإِنَّهُ يُخْتَبَرُ بِأَنْ يُشَارَ إلَى بَصَرِهِ وَهُوَ عَلَى غَفْلَةٍ، فَإِنْ تَحَرَّكَ بَصَرُهُ تَبَيَّنَ كَذِبُهُ، لِأَنَّ شَأْنَ الْعَيْنِ إذَا أُشِيرَ إلَيْهَا تَنْقَبِضُ.
فرع:
فَإِنْ ادَّعَى ذَهَابَ جَمِيعِ سَمْعِهِ فَيُخْتَبَرُ بِالصَّوْتِ الْمُرْعِبِ وَهُوَ عَلَى غَفْلَةٍ.
فرع:
وَكَذَلِكَ الذَّوْقُ إذَا ادَّعَى ذَهَابَهُ، فَإِنَّهُ يُخْتَبَرُ بِالْمُرِّ الْمُنَفِّرِ الَّذِي لَا يُمْكِنُ الصَّبْرُ عَلَيْهِ فَإِنْ صَبَرَ وَلَمْ يَنْفِرْ صُدِّقَ، وَالظَّالِمُ أَحَقُّ أَنْ يُحْمَلَ عَلَيْهِ.

.فَصْلٌ فِي الْجِنَايَةِ عَلَى الْعَقْلِ وَالشُّرْبِ:

وَقَدْ تَقَدَّمَ مِنْ هَذَا الْبَابِ جُمْلَةُ مَسَائِلَ، وَإِذَا كَانَ شَارِبُ الْخَمْرِ أَوْ النَّبِيذِ حُرًّا مُسْلِمًا مُكَلَّفًا، وَشَرِبَهُ مُخْتَارًا مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ وَلَا عُذْرٍ فَإِنَّهُ يُجْلَدُ ثَمَانِينَ سَوْطًا، فَإِنْ كَانَ عَبْدًا فَأَرْبَعِينَ، وَإِنْ كَانَ كَافِرًا وَوُجِدَ سَكْرَانَ تُرِكَ، وَإِذَا أَعْلَنَ بِذَلِكَ عُوقِبَ، قَالَهُ الْبَاجِيُّ فِي مُخْتَصَرِ الْمُدَوَّنَةِ.
وَيَجِبُ الْحَدُّ بِشُرْبِ الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ، وَلَا حَدَّ عَلَى مُكْرَهٍ وَمُضْطَرٍّ إلَى الْإِسَاغَةِ وَإِنْ قُلْنَا: إنَّهُ حَرَامٌ.
وَفِي الْبَدْوِيِّ يَدَّعِي جَهْلَ التَّحْرِيمِ قَوْلَانِ بِخِلَافِ مُدَّعِي جَهْلِ الْحَدِّ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا حَدَّ عَلَى مُجْتَهِدٍ يَرَى حِلَّ النَّبِيذِ وَمُقَلِّدِهِ، وَمَنْ ظَنَّ أَنَّ مُسْكِرًا شَرَابٌ آخَرُ فَلَا حَدَّ، وَيَثْبُتُ بِشَهَادَةِ رَجُلَيْنِ وَبِالْإِقْرَارِ وَبِالشَّهَادَةِ عَلَى الشَّمِّ مِمَّنْ يَعْرِفُهَا، بِأَنْ يَكُونَ مِمَّنْ شَرِبَهَا فِي حَالِ كُفْرِهِ أَوْ كَانَ قَدْ شَرِبَهَا فَتَابَ وَحْدَهُ.
وَقَالَ الْبَاجِيُّ: لَا يُحْتَاجُ إلَى ذَلِكَ، قَالَ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ: وَهُوَ الصَّحِيحُ إذْ لَا تَخْفَى رَائِحَتُهَا عَلَى كَثِيرٍ مِنْ النَّاسِ، وَلَا يَخْلُفُ فِي حَالِ سُكْرِهِ كَانَ شَارِبًا أَوْ زَانِيًا أَوْ قَاذِفًا، فَإِنْ أَخْطَأَ الْإِمَامُ فَجَلَدَهُ أَجْزَاهُ إنْ كَانَ سُكْرُهُ خَفِيفًا وَإِلَّا لَمْ يُجْزِهِ.
فَصْلٌ: وَأَمَّا الْحَشِيشَةُ، فَفِيهَا الْأَدَبُ بِقَدْرِ اجْتِهَادِ الْحَاكِمِ، لِأَنَّهَا تُغَطِّي الْعَقْلَ بِخِلَافِ الْعَقَاقِيرِ الْهِنْدِيَّةِ فَإِنْ أُكِلَتْ لِتَغْطِيَةِ الْعَقْلِ امْتَنَعَ أَكْلُهَا حِينَئِذٍ.
فَصْلٌ: وَاعْلَمْ أَنَّ الْمُسْكِرَاتِ يَمْتَنِعُ قَلِيلُهَا وَكَثِيرُهَا، وَالْأَشْيَاءُ الَّتِي تُغَطِّي الْعَقْلَ يَمْتَنِعُ مِنْهَا الْقَدْرُ الَّذِي يُغَطِّي الْعَقْلَ وَلَا يَمْتَنِعُ الْقَلِيلُ.
فرع:
وَاعْلَمْ أَنَّ لَبَنَ الْخَيْلِ إذَا كَانَ قَارِصًا قَدْ يُغَطِّي عَلَى الْعَقْلِ حَرُمَ، وَإِنْ شُرِبَ لِغَيْرِ ذَلِكَ بَقِيَ عَلَى حُكْمِ الْإِبَاحَةِ، وَيَمْتَنِعُ مِنْهُ الْقَدْرُ الَّذِي يُغَطِّي الْعَقْلَ وَإِنْ لَمْ يَقْصِدْ ذَلِكَ، وَهَذَا الْكَلَامُ جَارٍ فِي الْمُرَقِّدَاتِ.
فرع:
وَالظَّاهِرُ جَوَازُ مَا سُقِيَ مِنْ الْمُرَقِّدِ لِقَطْعِ عُضْوٍ وَنَحْوِهِ، لِأَنَّ ضَرَرَ الْمُرَقِّدِ مَأْمُونٌ وَضَرَرَ الْعُضْوِ غَيْرُ مَأْمُونٍ.
مَسْأَلَةٌ:
وَلَا تَسْقُطُ الْحُدُودُ بِالتَّوْبَةِ وَلَا بِطُولِ الزَّمَانِ، وَلَوْ تَكَرَّرَ الشُّرْبُ مِنْهُ مِرَارًا وَأُقِيمَ الْحَدُّ عَلَيْهِ تَدَاخَلَتْ فِيهِ الْحُدُودُ الْمُتَقَدِّمَةُ، وَكَذَلِكَ فِي الزِّنَا وَالْقَذْفِ.

.فَصْلٌ فِي السَّرِقَةِ وَالسَّارِقِ:

وَهُوَ كُلُّ بَالِغٍ عَاقِلٍ لَا شُبْهَةَ لَهُ فِي الْمَالِ، فَيَنْدَرِجُ الْحُرُّ وَالْعَبْدُ وَالذِّمِّيُّ وَالْمُعَاهَدُ، وَكَذَلِكَ الْحَرْبِيُّ إنْ دَخَلَ بِأَمَانٍ فَسَرَقَ، قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: يُقْطَعُ.
وَقَالَ أَشْهَبُ: لَا يُقْطَعُ، وَيَخْرُجُ مِنْ ذَلِكَ: الصَّبِيُّ وَالْمَجْنُونُ وَالْأَبُ وَالسَّيِّدُ وَالشَّرِيكُ إذَا سَرَقَ قَدْرَ حَقِّهِ، وَالْغَرِيمُ إذَا سَرَقَ جِنْسَ حَقِّهِ مِنْ غَرِيمِهِ الْمُمَاطِلِ، وَفِي السَّارِقِ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ، وَمِنْ الْمَغْنَمِ قَدْرَ مَا يَسْتَحِقُّهُ قَوْلَانِ، وَيَخْرُجُ مِنْ ذَلِكَ أَيْضًا السَّارِقُ لِجُوعٍ أَصَابَهُ، وَفِي خُرُوجِ الْجَدِّ لِلْأَبِ قَوْلَانِ لِابْنِ الْقَاسِمِ وَأَشْهَبَ، وَفِي خُرُوجِ الْعَبْدِ أَيْضًا قَوْلَانِ لِمَالِكٍ وَأَبِي مُصْعَبٍ.
مَسْأَلَةٌ:
وَلَوْ سَرَقَ الزَّوْجُ لِزَوْجَتِهِ شَيْئًا مِمَّا شَوَّرَهَا بِهِ، وَلَمْ يُبَيِّنْ لَهَا جَرَى عَلَى الْقَوْلَيْنِ فِي وُجُوبِ ذَلِكَ لَهَا بَعْدَ الْعَقْدِ أَوْ لَا.

.فَصْلٌ فِي حُكْمِ الْمَسْرُوقِ:

وَفِي اخْتِصَاصِ الْقَطْعِ بِمَا يُتَمَلَّكُ قَوْلَانِ، وَفَائِدَتُهُ هَلْ يَجِبُ الْقَطْعُ عَلَى سَارِقِ الْحُرِّ الصَّغِيرِ مِنْ حِرْزٍ مِثْلِهِ؟ وَالْمَشْهُورُ أَنَّهُ يُقْطَعُ.
فَصْلٌ: وَيُشْتَرَطُ فِي الْمَالِ ثَلَاثَةُ شُرُوطٍ:
الْأَوَّلُ أَنْ يَكُونَ مِمَّا يَنْتَفِعُ بِهِ فَلَا قَطْعَ فِي آلَةِ لَهْوٍ إلَّا أَنْ يَكُونَ قِيمَتُهَا بَعْدَ الْكَسْرِ نِصَابًا.
وَفِي جَلْدِ الْمَيْتَةِ بَعْدَ الدِّبَاغِ خِلَافٌ.
وَفِي الْكَلْبِ الْمَأْذُونِ قَوْلَانِ.
مَسْأَلَةٌ:
وَيُقْطَعُ سَارِقُ لَحْمِ الْأُضْحِيَّةِ، سَوَاءٌ سَرَقَهَا مِنْ رَبِّهَا أَوْ مِمَّنْ تَصَدَّقَ بِهَا عَلَيْهِ، قَالَهُ أَشْهَبُ، وَقِيلَ: إنْ سَرَقَ مِنْ رَبِّهَا فَلَا قَطْعَ.
الشَّرْطُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ نِصَابًا وَهُوَ رُبْعُ دِينَارٍ مِنْ الذَّهَبِ، أَوْ ثَلَاثَةُ دَرَاهِمَ مِنْ الْفِضَّةِ أَوْ عَرْضًا يُسَاوِي أَحَدَهُمَا فِي أَحَدِ قَوْلَيْنِ، وَفِي الْمُدَوَّنَةِ إنَّمَا يَقُومُ الْعَرْضُ بِالدَّرَاهِمِ.
فرع:
وَلَوْ سَرَقَ دَنَانِيرَ ظَنَّهَا فُلُوسًا لَا تَبْلُغُ رُبْعَ دِينَارٍ قُطِعَ.
فرع:
وَلَوْ أَخْرَجَ مِنْ الْحِرْزِ نِصَابًا لَكِنْ فِي مَرَّاتٍ، فَقَالَ أَشْهَبُ: لَا يُقْطَعُ حَتَّى يُخْرِجَهُ فِي مَرَّةٍ، وَقَالَ سَحْنُونٌ إنْ كَانَ فِي فَوْرٍ وَاحِدٍ قُطِعَ وَهَذِهِ حِيلَةٌ.
فرع:
وَلَوْ أَخْرَجَ نِصَابًا مِنْ حِرْزَيْنِ لَمْ يُقْطَعْ.
فرع:
وَلَوْ سَرَقَ نِصَابًا مَعَ صَبِيٍّ أَوْ مَجْنُونٍ قُطِعَ وَحْدَهُ، وَلَوْ سَرَقَ مَعَ مَنْ لَهُ شُبْهَةٌ فِي الْمَالِ أَوْ فِي الدُّخُولِ كَالْعَبْدِ وَالْأَبِ لَمْ يُقْطَعْ.
فرع:
وَيُقَوَّمُ الْحَمَامُ الْمُرَادُ لِحَمْلِ الْكُتُبِ لَا لِلَّعِبِ عَلَى مَا هُوَ عَلَيْهِ، وَأَمَّا حَمَامٌ عُرِفَ بِالسَّبْقِ، أَوْ طَائِرٌ عُرِفَ بِالْإِجَابَةِ إذَا دُعِيَ، فَإِنَّمَا يُقَوَّمُ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ فِيهِ بِخِلَافِ الْبُزَاةِ.
وَقَالَ أَشْهَبُ: بَلْ يُقَوَّمُ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ فِيهَا.
الشَّرْطُ الثَّالِثُ: أَنْ يُخْرِجَهُ مِنْ الْحِرْزِ، وَلَا قَطْعَ فِيمَا سُرِقَ مِنْ غَيْرِ الْحِرْزِ، وَكُلُّ شَيْءٍ مَعَ حَافِظٍ فَحَافِظُهُ حِرْزُهُ، وَأَفْنِيَةُ الْحَوَانِيتِ حِرْزٌ لِمَا وُضِعَ فِيهَا لِلْبَيْعِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ حَانُوتٌ كَانَ مَعَهُ صَاحِبُهُ أَمْ لَا، وَمَرْبِطُ الدَّابَّةِ حِرْزٌ لَهَا إذَا كَانَ مُتَّخَذًا لِذَلِكَ، كَفِنَائِهِ وَبَابِ دَارِهِ وَمَوْقِفُ الشَّاةِ فِي السُّوقِ حِرْزٌ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ مَرْبُوطَةً، وَظَهْرُ الدَّابَّةِ وَالرَّحْلُ حِرْزٌ لِمَا عَلَيْهِ، وَالسَّفِينَةُ حِرْزٌ لِمَا فِيهَا وَالْمَسْجِدُ حِرْزٌ لِبَابِهِ وَسَقْفِهِ، وَفِي قَنَادِيلِهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ: قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ هُوَ حِرْزٌ لَهَا.
وَقَالَ أَشْهَبُ: لَيْسَ بِحِرْزٍ، وَقِيلَ: حِرْزٌ إنْ كَانَ عَلَيْهِ غَلْقٌ.
وَفِي الْحُصُرِ خَمْسَةُ أَقْوَالٍ: الثَّلَاثَةُ الْمُتَقَدِّمَةُ، وَالْفَرْقُ بَيْنَ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، وَالتَّفْرِقَةُ بَيْنَ أَنْ يَرْبِطَ بَعْضَهَا بِبَعْضٍ أَوْ لَا.
فرع:
وَالْحَمَامُ لَيْسَ بِحِرْزٍ لِلثِّيَابِ، إلَّا أَنْ يَكُونَ حَارِسٌ أَوْ يُنَقَّبُ أَوْ يُتَسَوَّرُ.
فرع:
وَالثَّوْبُ الْمَنْشُورُ عَلَى الزُّقَاقِ لَيْسَ فِي حِرْزٍ وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ حِرْزٌ، وَاضْطَرَبَتْ الرِّوَايَةُ فِي حَبْلِ الصَّبَّاغِ وَالْقَصَّارِ، وَلَا قَطْعَ فِي الثِّيَابِ الْمَبْسُوطَةِ عَلَى شَاطِئِ الْوَادِي، وَلَا فِي الْخِفَافِ فِي الْوَلَائِمِ وَالْجَمَاعَاتِ إلَّا أَنْ يَكُونَ لِذَلِكَ حَارِسٌ فَيُقْطَعُ.
فرع:
وَالدَّارَاتُ الْبُيُوتُ وَالْفُنْدُقُ الْمَأْذُونُ فِي سَاحَتِهِ، إذَا أَخْرَجَ السَّارِقُ مِنْ بُيُوتِهَا شَيْئًا إلَى السَّاحَةِ قُطِعَ مُطْلَقًا عِنْدَ مُحَمَّدٍ.
وَقَالَ سَحْنُونٌ: إنْ كَانَ مِنْ مَكَانِهَا قُطِعَ وَإِلَّا لَمْ يُقْطَعْ حَتَّى يُخْرِجَهُ مِنْ بَابِهَا، وَاتَّفَقَا أَنَّ السَّاكِنَ إذَا أَخْرَجَ شَيْئًا مِمَّا فِي السَّاحَةِ مِنْ بَابِهَا أَنَّهُ لَا يُقْطَعُ، وَإِنْ أَخْرَجَهُ غَيْرُهُ قُطِعَ.
فرع:
وَلَوْ سَرَقَ ثَمَرًا مِنْ رَأْسِ نَخْلَةٍ وَالْحَائِطُ لَا غَلْقَ عَلَيْهِ لَمْ يُقْطَعْ، قَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ: وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ عَلَيْهِ غَلْقٌ فَإِنْ عَمِلَهُ رَبُّهُ فِي الْمِرْبَدِ فَسَرَقَ مِنْهُ قُطِعَ.
فرع:
وَلَوْ سَرَقَ مِنْ زَرْعٍ قَائِمٍ لَمْ يُقْطَعْ، وَلَوْ حَصَدَ وَرَبَطَ قَتًّا وَتُرِكَ فِي الْحَائِطِ لِيُنْقَلَ إلَى الْجَرِينِ فَرِوَايَتَانِ.
فرع:
وَلَا يُقْطَعُ الضَّيْفُ وَلَا مَنْ أَدْخَلَهُ رَبُّ الْحَانُوتِ لِيَعْرِضَ عَلَيْهِ الْمَتَاعَ لِوُجُودِ الْإِذْنِ.
فرع:
وَالْكُمُّ وَالْجَيْبُ حِرْزٌ لِمَا فِيهِمَا.

.فَصْلٌ فِي الْعُقُوبَةِ فِي السَّرِقَةِ:

وَهِيَ الْقَطْعُ وَذَلِكَ لِلْإِمَامِ، وَمَحَلُّهُ الْيَدُ الْيُمْنَى مِنْ الْكُوعِ وَيُكْوَى مَوْضِعُ الْقَطْعِ، فَإِنْ عَادَ قُطِعَتْ رِجْلُهُ الْيُسْرَى، فَإِنْ عَادَ قُطِعَتْ يَدُهُ الْيُسْرَى، فَإِنْ عَادَ قُطِعَتْ رِجْلُهُ الْيُمْنَى، فَإِنْ عَادَ عُزِّرَ وَحُبِسَ. وَقَالَ أَبُو مُصْعَبٍ يُقْتَلُ.
مَسْأَلَةٌ:
وَيَثْبُتُ حُكْمُ السَّرِقَةِ بِالْإِقْرَارِ وَالشَّهَادَةِ، أَمَّا الْإِقْرَارُ، فَإِنْ كَانَ طَوْعًا وَتَمَادَى عَلَيْهِ عَمَلٌ بِمُقْتَضَاهُ فَإِنْ أَقَرَّ بَعْدَ أَنْ هَدَّدَ، فَقَالَ مَالِكٌ: لَا يُؤْخَذُ بِهِ.
وَقَالَ سَحْنُونٌ: إنْ كَانَ السُّلْطَانُ يَعْدِلُ فَسَجَنَهُ فَأَقَرَّ فِي السِّجْنِ أُلْزِمَ.
وَقَالَ: لَا يَعْرِفُ هَذَا إلَّا مَنْ اُبْتُلِيَ بِهِ.
وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: إذَا أَخْرَجَ الْمَتَاعَ وَالْقَتِيلَ لَمْ يَلْزَمْهُ الْإِقْرَارُ إلَّا أَنْ يُقِرَّ بَعْدَ أَمْنٍ مِنْ الْعُقُوبَةِ وَيَعْرِفَ ذَلِكَ أَوْ يُقِرَّ وَيُخْبِرَ بِأَمْرٍ يُعْرَفُ بِهِ وَجْهُ مَا أَقَرَّ بِهِ، وَعَيَّنَ الشَّيْءَ وَكَأَنَّهُ يُرِيدُ إذَا أَخْرَجَ الْمَتَاعَ أَوْ الْقَتِيلَ بِانْفِرَادِهِ لَمْ يُؤَاخَذْ بِهِ إلَّا أَنْ يَنْضَافَ إلَى ذَلِكَ مِنْ إخْبَارِهِ مَا يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ ذَلِكَ، مِثْلُ أَنْ يَقُولَ: اجْتَرَأْت أَوْ فَعَلْت كَذَا وَعَلَى صِفَةِ كَذَا، فَيَذْكُرُ مِنْ بِسَاطِ الْأَمْرِ وَمُنْتَهَاهُ مَا يُعْلِمُ أَنَّهُ خَارِجٌ مِنْ إقْرَارِ الْمُكْرَهِ وَمَا لَا يَكُونُ كَذِبًا وَإِذَا لَمْ يَذْكُرْ مَا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ لَهُ كَانَ لَهُ فِي التَّعْيِينِ مَنْدُوحَةٌ مِنْ التَّبْصِرَةِ لِلَّخْمِيِّ.
وَفِي الْمَوَّازِيَّةِ إنْ عَيَّنَهَا قُطِعَ إلَّا أَنْ يَقُولَ: دَفَعَهَا إلَى فُلَانٍ، وَإِنَّمَا أَقْرَرْت لِمَا أَصَابَنِي مِنْ الْأَلَمِ.
قَالَ مَالِكٌ: فَلَوْ أَخْرَجَ دَنَانِيرَ لَمْ يُقْطَعْ لِأَنَّهَا لَا تُعْرَفُ، وَقَالَ أَشْهَبُ: لَا يُقْطَعُ وَإِنْ ثَبَتَ عَلَى إقْرَارِهِ، وَإِنْ عَيَّنَ السَّرِقَةَ إلَّا أَنْ يَعْرِفَ أَنَّهَا لِلْمَسْرُوقِ مِنْهُ، وَإِنْ أَقَرَّ طَوْعًا ثُمَّ رَجَعَ لِشُبْهَةٍ سَقَطَ الْحَدُّ دُونَ الْغُرْمِ، وَإِنْ رَجَعَ بِغَيْرِ شُبْهَةٍ فَكَذَلِكَ عَلَى ظَاهِرِ الْمُدَوَّنَةِ وَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ التَّعْيِينِ وَعَدَمِهِ.
وَرُوِيَ أَنَّهُ لَا يَسْقُطُ، وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ فِي الْعُتْبِيَّةِ: إنْ عَيَّنَ السَّرِقَةَ لَمْ يُقْبَلْ مِنْهُ رُجُوعٌ، وَلَمْ يُفَرَّقْ بَيْنَ عَرْضٍ وَلَا عَيْنٍ.
وَقَالَ أَيْضًا: لَيْسَ فِي الدَّنَانِيرِ تَعْيِينٌ، اُنْظُرْ فِي ابْنِ يُونُسَ اسْتِيعَابَ وُجُوهِ الْإِقْرَارِ، وَلِابْنِ رُشْدٍ فِي الْمُقَدِّمَاتِ فِي ذَلِكَ تَفْصِيلٌ جَامِعٌ مُفِيدٌ وَأَمَّا الشَّهَادَةُ، فَإِنْ كَانَتْ تَامَّةً وَجَبَ الْقَطْعُ وَالْغُرْمُ وَلَا تُقْبَلُ مُجْمَلَةً، وَقَدْ ذَكَرْنَا حُكْمَ ذَلِكَ فِي السِّيَاسَةِ فِي الشَّهَادَاتِ.

.فَصْلٌ الضَّمَانُ:

وَيَجِبُ عَلَى السَّارِقِ رَدُّ مَا أَخَذَ إنْ كَانَ قَائِمًا فَإِنْ تَلِفَ وَكَانَ دُونَ النِّصَابِ رَدَّ مِثْلَهُ أَوْ قِيمَتَهُ، وَيُتْبَعُ بِذَلِكَ وَإِنْ كَانَ مُقِرًّا وَكَانَ نِصَابًا فَقَالَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ الْمَدَنِيِّينَ الْحُكْمُ فِيهِ كَمَا تَقَدَّمَ وَاخْتَارَهُ أَبُو إِسْحَاقَ، وَالْمَشْهُورُ التَّفْصِيلُ، قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ: إذَا قُطِعَ وَهُوَ عَدِيمٌ وَذَهَبَ عَيْنُ مَا أَخَذَ لَمْ يَضْمَنْ وَلَا يَجْتَمِعُ عَلَيْهِ عُقُوبَتَانِ قَطْعٌ وَغُرْمٌ، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ طَرَأَ عَلَيْهِ مِنْ يَوْمِ السَّرِقَةِ إلَى يَوْمِ الْقَطْعِ عُدْمٌ لَمْ يَضْمَنْ وَإِنْ كَانَ الْيَوْمَ مُوسِرًا هَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ، وَاشْتَرَطَ أَشْهَبُ تَمَادِيَ الْعُدْمِ إلَى يَوْمِ الْحُكْمِ بِالْغُرْمِ، فَلَوْ حَدَثَ لَهُ عُسْرٌ بَعْدَ الْقَطْعِ وَقَبْلَ الْحُكْمِ عَلَيْهِ بِالْغُرْمِ لَمْ يَلْزَمْهُ عِنْدَهُ شَيْءٌ.
مَسْأَلَةٌ:
قَالَ ابْنُ حَبِيبٍ: سَأَلْت أَصْبَغَ عَنْ الرَّجُلِ يُلْفِي فِي جَوْفِ اللَّيْلِ وَمَعَهُ مَتَاعٌ فَيُؤْخَذُ فَيَقُولُ: فُلَانٌ أَرْسَلَنِي إلَى مَنْزِلِهِ فَأَخَذْت لَهُ هَذَا الْمَتَاعَ، قَالَ مَالِكٌ: إنْ كَانَ الَّذِي مَعَهُ الْمَتَاعُ يُعْرَفُ مِنْهُ انْقِطَاعٌ إلَى رَبِّ الْمَتَاعِ، وَيُشْبِهُ مَا قَالَ لَمْ يُقْطَعْ، وَإِنْ لَمْ يُعْرَفْ مِنْهُ مَا ذُكِرَ قُطِعَ، وَمَعْنَى قَوْلِ مَالِكٍ: وَيُشْبِهُ مَا قَالَ أَنْ يُؤْخَذَ، وَقَدْ دَخَلَ إلَى الْمَتَاعِ مِنْ مَدْخَلِهِ غَيْرَ مُسْتَسِرٍّ. وَأَتَاهُ فِي حِينٍ يُمْكِنُ إرْسَالُهُ فِيهِ مَعَ الِانْقِطَاعِ الَّذِي يُعْرَفُ فَهَاهُنَا لَا يُقْطَعُ، وَأَمَّا إنْ كَانَ أَخَذَهُ مُسْتَسِرًّا وَدَخَلَ إلَيْهِ مِنْ غَيْرِ مَدْخَلٍ أَوْ فِي حِينٍ لَا يُعْرَفُ قُطِعَ وَإِنْ كَانَ لَهُ إلَيْهِ انْقِطَاعٌ، قَالَ: وَأَمَّا إذَا لَمْ يُعْرَفْ مِنْهُ إلَيْهِ انْقِطَاعٌ قُطِعَ فِي الْوَجْهَيْنِ جَمِيعًا، إلَّا أَنْ يُصَدِّقَهُ صَاحِبُ الْمَتَاعِ فَلَا يُقْطَعُ، إذَا كَانَ دُخُولُهُ مِنْ حِينٍ يُعْرَفُ وَدَخَلَ مِنْ غَيْرِ مَدْخَلٍ مُسْتَسِرٍّ، وَإِنْ كَانَ دَخَلَ مِنْ غَيْرِ مَدْخَلٍ وَفِي حِينٍ لَا يُعْرَفُ، أَوْ دَخَلَ مُسْتَسِرًّا قُطِعَ وَإِنْ صَدَّقَهُ صَاحِبُ الْمَتَاعِ.
فرع:
وَمَنْ سَرَقَ مَتَاعًا وَقَامَتْ عَلَيْهِ بِذَلِكَ بَيِّنَةٌ فَقَالَ: كُنْت أَوْدَعْته عِنْدَ صَاحِبِ الْمَنْزِلِ، فَرَوَى عِيسَى عَنْ ابْنِ الْقَاسِمِ: أَنَّهُ يُقْطَعُ وَإِنْ صَدَّقَهُ صَاحِبُ الْمَنْزِلِ.
وَقَالَ عِيسَى: أَحَبُّ إلَيَّ إنْ صَدَّقَهُ صَاحِبُ الْمَنْزِلِ أَنْ لَا يُقْطَعَ.
فرع:
قَالَ أَشْهَبُ: لَوْ ادَّعَى عَلَيْهِ وَدِيعَةً أَوْ غَيْرَهَا فَجَحَدَ فَأَخَذَهَا مِنْ بَيْتِهِ عَلَى وَجْهِ السَّرِقَةِ، فَإِنَّهُ يُقْطَعُ إلَّا أَنْ يُقِيمَ بَيِّنَةً أَنَّهُ أَوْدَعَهُ ذَلِكَ وَإِنْ لَمْ يَشْهَدُوا بِمِلْكِهِ لَهَا.
مَسْأَلَةٌ:
وَمَنْ سُرِقَ لَهُ حُلِيٌّ فَوَجَدَهُ عِنْدَ صَائِغٍ، وَزَعَمَ الصَّائِغُ أَنَّ رَجُلًا جَاءَهُ بِهِ فَأَنْكَرَ ذَلِكَ الرَّجُلُ فَلَا قَطْعَ عَلَى الصَّائِغِ، لِأَنَّ مَنْ وُجِدَ عِنْدَهُ مَتَاعُهُ وَزَعَمَ أَنَّهُ لَهُ، أَوْ اشْتَرَاهُ أَوْ وُهِبَ لَهُ فَاسْتَحَقَّهُ مُسْتَحِقٌّ، وَزَعَمَ أَنَّهُ سُرِقَ لَهُ فَإِنَّهُ لَا يَخْلُو أَنْ يَكُونَ مُتَّهَمًا أَوْ غَيْرَ مُتَّهَمٍ، فَإِنْ كَانَ غَيْرَ مُتَّهَمٍ فَقَدْ تَقَدَّمَ قَوْلُ ابْنِ الْقَاسِمِ: فِيمَنْ تُوجَدُ مَعَهُ السَّرِقَةُ فَيَقُولُ: ابْتَعْتهَا مِنْ السُّوقِ وَلَا أَعْرِفُ بَائِعَهَا، وَهِيَ ذَاتُ بَالٍ أَوْ لَا بَالَ لَهَا، وَادَّعَى الْمُسْتَحِقُّ أَنَّهَا أَكْثَرُ مِمَّا وُجِدَ مَعَهُ، أَنَّهَا تُرَدُّ إلَى رَبِّهَا بِالْبَيِّنَةِ بَعْدَ أَنْ يَحْلِفَ أَنَّهَا مَا خَرَجَتْ مِنْ مِلْكِهِ، وَأَنَّ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ إنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْقِصَّةِ خُلِّيَ سَبِيلُهُ وَلَا يَمِينَ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ مِنْ أَهْلِ الصَّلَاحِ وَالْبَرَاءَةِ أُدِّبَ الْمُدَّعِي.
وَقَالَ مَالِكٌ: لَا يُؤَدَّبُ إذَا كَانَ ذَلِكَ طَلَبًا مِنْهُ لِحَقِّهِ، وَإِنْ كَانَ عَلَى وَجْهِ الْمُشَاتَمَةِ نَكَلَ.

.فَصْلٌ الزِّنَا وَاللَّوْطُ وَمَا فِي مَعْنَاهُمَا:

وَالزِّنَا مُحَرَّمٌ بِنَصِّ الْقُرْآنِ وَيَجِبُ فِيهِ الْعُقُوبَةُ وَالصَّدَاقُ إنْ كَانَتْ الْمَرْأَةُ مُكْرَهَةً أَوْ غَيْرَ عَالِمَةٍ، وَيُشْتَرَطُ فِي تَوَجُّهِ الْعُقُوبَةِ سَبْعَةُ شُرُوطٍ: الْأَوَّلُ: الْبُلُوغُ، فَلَا حَدَّ عَلَى صَبِيٍّ وَلَا صَبِيَّةٍ وَيُعَاقَبَانِ، وَلَا تُحَدُّ الْبَالِغَةُ بِوَطْءِ صَبِيٍّ وَإِنْ قَوِيَ عَلَى الْجِمَاعِ وَيُحَدُّ الْبَالِغُ بِوَطْءِ الصَّبِيَّةِ إذَا كَانَ مِثْلُهَا يُوطَأُ.
وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: يُحَدُّ وَإِنْ كَانَتْ بِنْتَ خَمْسٍ، وَأَوْجَبَ فِي الْمُدَوَّنَةِ الْحَدَّ بِالْإِنْبَاتِ، وَلَمْ يَرَ ذَلِكَ ابْنُ الْقَاسِمِ وَقَالَ: أَحَبُّ إلَيَّ أَنْ لَا يُحْكَمَ بِالْإِنْبَاتِ، وَإِذَا قُلْنَا: يُحْكَمُ بِالْإِنْبَاتِ، فلابد أَنْ يَكُونَ إنْبَاتًا بَيِّنًا بِشَعْرٍ أَسْوَدَ.
فرع:
وَمَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ مُوجِبُ حَدٍّ وَقَدْ أَنْبَتَ وَلَمْ يَبْلُغْ أَقْصَى سِنِّ مَنْ يَحْتَلِمُ وَادَّعَى أَنَّهُ لَمْ يَحْتَلِمْ فَفِي حَدِّهِ قَوْلَانِ لِمَالِكٍ، وَالْأَصَحُّ سُقُوطُ الْحَدِّ لِأَجْلِ الشَّكِّ مِنْ مُفِيدِ الْحُكَّامِ، قَالَ: وَقَالَ ابْنُ رُشْدٍ:
وَلَا اخْتِلَافَ عِنْدِي أَنَّهُ يُعْتَبَرُ بِالْإِنْبَاتِ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ الْأَحْكَامِ يُرِيدُ، كَالصَّوْمِ وَالصَّلَاةِ وَالْحَجِّ.
الثَّانِي: الْعَقْلُ، فَلَا حَدَّ عَلَى مَجْنُونٍ وَيُعَاقَبُ إنْ لَمْ يَكُنْ مُطْبِقًا فَكَانَ فِي حَالَةٍ يَرُدُّهُ الزَّجْرُ، وَتُحَدُّ الْمَرْأَةُ إنْ كَانَتْ عَاقِلَةً كَمَا يُحَدُّ الزَّانِي بِالْمَجْنُونَةِ.
الثَّالِثُ: الْإِسْلَامُ، فَلَا حَدَّ عَلَى النَّصْرَانِيِّ وَيُرَدُّ إلَى أَهْلِ دِينِهِ يُعَاقِبُونَ إنْ أَعْلَنُوا الزِّنَا.
وَقَالَ الْمُغِيرَةُ: يُحَدُّ حَدَّ الْبِكْرِ وَلَوْ زَنَى بِمُسْلِمَةٍ طَائِعَةٍ عُوقِبَ.
وَقَالَ رَبِيعَةُ: ذَلِكَ نَقْضُ الْعَهْدِ، وَقِيلَ يُحَدُّ وَيُقْتَلُ إذَا أَكْرَهَ الْحُرَّةَ الْمُسْلِمَةَ لِنَقْضِ الْعَهْدِ، فَإِنْ أَكْرَهَ أَمَةً مُسْلِمَةً فَفِي قَتْلِهِ قَوْلَانِ.
الرَّابِعُ: الطَّوْعُ، فَلَا حَدَّ عَلَى الْمُكْرَهِ فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ وَبِالْحَدِّ قَالَ سَحْنُونٌ وَمُطَرِّفٌ، وَاخْتَارَ اللَّخْمِيُّ نَفْيَ الْحَدِّ قَالَ: وَيَأْثَمُ، فَإِذَا أَكْرَهَتْهُ لَمْ يَأْثَمْ وَلَا حَدَّ عَلَى الْمُكْرَهَةِ وَلَهَا الصَّدَاقُ.
الْخَامِسُ: أَنْ يَكُونَ الْوَاطِئُ عَالِمًا بِالتَّحْرِيمِ عَلَى قَوْلِ أَصْبَغَ فَلَا حَدَّ عِنْدَهُ عَلَى الْأَعْجَمِيِّ، وَمَنْ كَانَ حَدِيثَ الْعَهْدِ بِالْإِسْلَامِ وَهُوَ الْقِيَاسُ وَالْمَشْهُورُ الْحَدُّ.
السَّادِسُ: أَنْ يَكُونَ الْوَطْءُ فِي فَرْجِ آدَمِيٍّ، فَلَا حَدَّ عَلَى مَنْ وَطِئَ بَيْنَ الْفَخِذَيْنِ، وَلَا حَدَّ أَيْضًا فِي اسْتِمْنَاءٍ وَفِيهِمَا الْأَدَبُ.
مَسْأَلَةٌ:
وَلَا حَدَّ أَيْضًا فِي الْمُسَاحَقَةِ، قَالَ الْبَاجِيُّ: لَيْسَ فِي عُقُوبَتِهِمَا حَدٌّ وَذَلِكَ إلَى اجْتِهَادِ الْإِمَامِ، وَهَذَا فِي الْعُتْبِيَّةِ مِنْ رِوَايَةِ عِيسَى عَنْ ابْنِ الْقَاسِمِ وَقَالَ ابْنُ شِهَابٍ: سَمِعْت رِجَالًا مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ يَقُولُونَ: تُجْلَدَانِ مِائَةً، وَوَجْهُ قَوْلِ ابْنِ الْقَاسِمِ أَنَّ الْحَدَّ لَا يَجِبُ إلَّا بِالْتِقَاءِ الْخِتَانَيْنِ، وَذَلِكَ غَيْرُ مُتَصَوَّرٍ فِي الْمَرْأَتَيْنِ فَلَزِمَ فِيهِ التَّعْزِيرُ.
وَقَالَ أَصْبَغُ:
يُجْلَدَانِ خَمْسِينَ وَنَحْوَهَا، وَهَذَا تَقْدِيرٌ عَلَى مَا رَآهُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ، قَالَ الْبَاجِيُّ: وَالصَّوَابُ أَنَّهُ مَوْقُوفٌ عَلَى اجْتِهَادِ الْإِمَامِ عَلَى مَا قَالَهُ ابْنُ الْقَاسِمِ.
مَسْأَلَةٌ:
وَمَنْ وَطِئَ امْرَأَةً فِي دُبُرِهَا فَحُكْمُ ذَلِكَ حُكْمُ الزِّنَا، يُرْجَمُ الْمُحْصَنُ مِنْهُمَا وَيُجْلَدُ غَيْرُ الْمُحْصَنِ، وَيُغَرَّبُ الرَّجُلُ إنْ جُلِدَ، قَالَهُ ابْنُ الْمَوَّازِ وَرَوَاهُ أَبُو حَبِيبٍ عَنْ ابْنِ الْمَاجِشُونِ، وَذَلِكَ إذَا جَاوَزَ الْخِتَانُ الشَّرَجَ وَوَجْهُهُ أَنَّهُ أَحَدُ فَرْجَيْ الْمَرْأَةِ كَالْقُبُلِ.
وَقَالَ الْقَاضِي أَبُو الْحَسَنِ: حُكْمُ ذَلِكَ حُكْمُ اللِّوَاطِ يُرْجَمَانِ أَحْصَنَا أَمْ لَمْ يُحْصِنَا، لِأَنَّهُ وَطْءٌ مُحَرَّمٌ فِي دُبُرٍ كَالرَّجُلَيْنِ.
مَسْأَلَةٌ:
وَمَنْ وَطِئَ مَيِّتَةً فَعَلَيْهِ الْحَدُّ عَلَى الْمَشْهُورِ، وَحَكَى ابْنُ شَعْبَانَ أَنَّهُ لَا يُحَدُّ.
مَسْأَلَةٌ:
وَلَا حَدَّ فِي وَطْءِ الْبَهِيمَةِ عَلَى الْمَشْهُورِ، وَحَكَى ابْنُ شَعْبَانَ أَنَّ فِيهِ الْحَدَّ، وَإِذَا فَرَّعْنَا عَلَى الْمَشْهُورِ فَإِنَّهُ يُعَزَّرُ وَيُعَاقَبُ، وَالْبَهِيمَةُ كَغَيْرِهَا مِنْ الْبَهَائِمِ فِي جَوَازِ الذَّبْحِ وَالْأَكْلِ بِاتِّفَاقٍ إنْ كَانَتْ مِمَّا يُؤْكَلُ.
مَسْأَلَةٌ:
وَمَنْ زَنَى بِذَاتِ مَحْرَمٍ فَعَلَيْهِ الْحَدُّ مَعَ الْأَدَبِ الشَّدِيدِ لِمَا انْتَهَكَ مِنْ الْحُرْمَةِ هَذَا مَذْهَبُ ابْنِ عَبْدِ الْحَكَمِ وَأَبَاهُ ابْنُ الْقَاسِمِ وَأَشْهَبُ وَقَالَا: لَا يُزَادُ عَلَى الْحَدِّ.
مَسْأَلَةٌ:
وَمَنْ نَكَحَ خَامِسَةً أَوْ امْرَأَتَهُ الْمُطَلَّقَةَ ثَلَاثًا قَبْلَ زَوْجٍ أَوْ سَائِرَ الْمُحَرَّمَاتِ الْمُتَّفَقِ عَلَى تَحْرِيمِهَا، فَإِنْ كَانَ عَالِمًا حُدَّ، وَإِنْ ادَّعَى الْجَهْلَ بِالتَّحْرِيمِ وَمِثْلُهُ يَجْهَلُ ذَلِكَ لَمْ يُحَدَّ.
مَسْأَلَةٌ:
وَلَا حَدَّ فِي نِكَاحِ الْمُتْعَةِ عَلَى الْأَصَحِّ وَفِيهِ الْعُقُوبَةُ الْمُوجِعَةُ وَالْعَالِمُ أَشَدُّ مِنْ الْجَاهِلِ.
مَسْأَلَةٌ:
وَلَا يُحَدُّ مَنْ نَكَحَ امْرَأَةً عَلَى عَمَّتِهَا أَوْ خَالَتِهَا وَيُعَاقَبُ وَيُفْسَخُ النِّكَاحُ، وَعُقُوبَةُ الْعَالِمِ بِالتَّحْرِيمِ أَشَدُّ مِنْ عُقُوبَةِ الْجَاهِلِ وَأَعْظَمُ قَالَهُ أَصْبَغُ، وَكَذَلِكَ الَّذِي يَنْكِحُ امْرَأَتَهُ الْمَبْتُوتَةَ لَا يُحَدُّ، عَالِمًا كَانَ أَوْ جَاهِلًا لِاخْتِلَافِ النَّاسِ فِي ذَلِكَ، وَكَذَلِكَ لَا حَدَّ عَلَى مَنْ نَكَحَ امْرَأَةً فِي عِدَّتِهَا عَلَى الْأَصَحِّ.
مَسْأَلَةٌ:
وَلَا حَدَّ عَلَى مَنْ وَطِئَ أَمَةً لَهُ شِرْكٌ وَيَلْزَمُهُ الْأَدَبُ، وَفِيمَنْ وَطِئَ جَارِيَةً مِنْ الْمَغْنَمِ وَهُوَ مِنْ الْغَانِمِينَ قَوْلَانِ.
مَسْأَلَةٌ:
وَلَوْ زَنَى بِحَرْبِيَّةٍ حُدَّ، وَقَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ: لَا يُحَدُّ.
السَّابِعُ: الْإِحْصَانُ وَهُوَ خَاصٌّ بِالزِّنَا، أَمَّا اللِّوَاطُ فَلَا وَالْإِحْصَانُ عِبَارَةٌ عَنْ خَمْسَةِ أَوْصَافٍ: الْحُرِّيَّةُ وَالتَّزْوِيجُ. وَالْوَطْءُ الْمُبَاحُ وَالتَّكْلِيفُ وَالْإِسْلَامُ فَلَا اعْتِبَارَ بِالْعَبْدِ فِي نَفْسِهِ، وَتُحْصِنُ الْحُرَّةُ كَمَا تُحْصِنُ الْأَمَةُ الزَّوْجَةُ الْحُرَّ وَلَا اعْتِبَارَ بِالْوَطْءِ بِالْمِلْكِ الْفَاسِدِ كَوَطْءِ الْحَائِضِ وَالْمُحْرِمَةِ وَالصَّائِمَةِ عِنْدَ ابْنِ الْقَاسِمِ.
وَقَالَ ابْنُ الْمَاجِشُونِ: تُحْصِنُ وَوَطْءُ الصَّبِيِّ لَا يُحْصِنُ الْبَالِغَ.
وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ: إنْ كَانَتْ تُطِيقُ وَلَوْ كَانَ أَحَدُهُمَا مَجْنُونًا فَالْعَاقِلُ مِنْهُمَا مُحْصَنٌ عِنْدَ مَالِكٍ وَابْنِ الْقَاسِمِ.
وَقَالَ أَشْهَبُ الْمُرَاعَى الزَّوْجُ، فَإِنْ كَانَ عَاقِلًا فَهُمَا مُحْصَنَانِ، فَإِذَا زَنَتْ فِي إفَاقَتِهَا رُجِمَتْ، وَإِنْ كَانَ مَجْنُونًا لَمْ يَكُونَا مُحْصَنَيْنِ.
وَقَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ: إذَا صَحَّ الْعَقْدُ فَلَا اعْتِبَارَ بِجُنُونِهِمَا، فَإِذَا حَصَلَ الْوَطْءُ ثُمَّ زَنَى أَحَدُهُمَا فِي إفَاقَتِهِ رُجِمَ وَالزَّوْجَةُ النَّصْرَانِيَّةُ تُحْصِنُ الْمُسْلِمَ، وَالنَّصْرَانِيُّ لَا يُحْصِنُ الْمُسْلِمَةَ.

.فَصْلٌ مَا يَثْبُتُ بِهِ الزِّنَا:

فَصْلٌ: وَيَثْبُتُ الزِّنَا بِالْإِقْرَارِ وَبِالشَّهَادَةِ وَبِظُهُورِ الْحَمْلِ، فَأَمَّا الْإِقْرَارُ فَيَكْفِي وَلَوْ أَقَرَّ بِهِ مَرَّةً وَاحِدَةً إذَا تَمَادَى عَلَيْهَا، فَإِنْ رَجَعَ عَنْ الْإِقْرَارِ بِشُبْهَةٍ أَوْ أَمْرٍ يُعْذَرُ بِهِ قُبِلَ مِنْهُ وَإِنْ أَكْذَبَ نَفْسَهُ فَرَاوِيَتَانِ ابْنُ الْقَاسِمِ لَا يَجِبُ عَلَى الْقَاضِي اسْتِفْسَارُهُ.
وَقَالَ الْمَازِرِيُّ: وَاخْتَارَ بَعْضُ مَشَايِخِي الْقَوْلَ بِهِ بِالِاسْتِفْسَارِ تَعَلُّقًا بِمَا فِي بَعْضِ طُرُقِ الْحَدِيثِ، مِنْ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَالَ لِلْمُقِرِّ بِالزِّنَا: أَنِكْتَهَا، وَأَمَّا الشَّهَادَةُ فَقَدْ ذَكَرْت صِفَتَهَا فِي السِّيَاسَةِ فِي الشَّهَادَاتِ، وَأَمَّا الْحَمْلُ فَقَدْ ذَكَرْته فِي بَابِ الْقَضَاءِ بِشَهَادَةِ الْحَمْلِ عَلَى الزِّنَا.

.فَصْلٌ فِي عُقُوبَةُ الزَّانِي:

فَصْلٌ: وَأَمَّا عُقُوبَةُ الزَّانِي فَنَوْعَانِ: جَلْدٌ وَرَجْمٌ، فَالْجَلْدُ يَخْتَصُّ بِالْبِكْرِ وَهُوَ لِلْحُرِّ وَالْحُرَّةِ، وَنِصْفُهَا لِمَنْ فِيهِ شَائِبَةُ رِقٍّ، وَيُزَادُ لِلذَّكَرِ الْحُرِّ التَّغْرِيبُ عَامًا، فَيُبْعَثُ بِهِ إلَى غَيْرِ بَلَدِهِ وَيُكْتَبُ لِقَاضِيهَا فَيَحْبِسُهُ فِيهَا عَامًا، فَإِذَا مَضَى لِحَبْسِهِ سَنَةٌ فَيُخَلَّى وَالسَّنَةُ مِنْ يَوْمِ يُحْبَسُ، وَيَنْبَغِي لِلْقَاضِي الَّذِي يَحْبِسُهُ أَنْ يَكْتُبَ الْيَوْمَ الَّذِي يَحْبِسُهُ فِيهِ وَالشَّهْرَ وَالسَّنَةَ لِئَلَّا يَنْسَى، وَلِمَنْ يَأْتِي بَعْدُ مِنْ الْقُضَاةِ، وَلَوْ ظَهَرَتْ تَوْبَةُ الزَّانِي قَبْلَ أَنْ تَنْقَضِيَ السَّنَةُ لَمْ يُخْرَجْ حَتَّى تَنْقَضِيَ، وَلَيْسَ عَلَيْهِ أَنْ يُدْخَلَ فِي الْحَدِيدِ، وَهَذَا بِخِلَافِ الْمُحَارَبِ إذَا نُفِيَ إلَى بَلَدٍ لِيُحْبَسَ فِيهِ، فَإِنَّهُ يَكْتُبُ إلَى قَاضِيهِ إذَا ظَهَرَتْ تَوْبَتُهُ وَتَبَيَّنَتْ فَخَلِّهِ.
مَسْأَلَةٌ:
وَنَفَقَةُ الزَّانِي وَالْمُحَارَبِ وَكِرَاؤُهُمَا إذَا غُرِّبَا إلَى بَلَدٍ لِيُحْبَسَا فِيهِ مِنْ مَالِهِمَا، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُمَا مَالٌ فَمِنْ بَيْتِ الْمَالِ.
فرع:
قَالَ ابْنُ رَاشِدٍ: قَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا وَأَقَلُّ النَّفْيِ مَسِيرُ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ، وَأَمَّا الرَّجْمُ فَيَخْتَصُّ بِالثَّيِّبِ وَيُرْجَمُ بِأَكْبَرِ حَجَرٍ يَقْدِرُ الرَّامِي عَلَيْهِ وَيَجْتَنِبُ الْوَجْهَ، وَتُؤَخَّرُ الْحَامِلُ حَتَّى تَضَعَ، وَلَا يُقْتَلُ بِصَخْرَةٍ وَلَا بِحَصَاةٍ خَفِيفَةٍ، وَلَا يُؤَخَّرُ لِمَرَضٍ بِخِلَافِ الْجَلْدِ، وَيُنْتَظَرُ لِلْجَلْدِ اعْتِدَالُ الْهَوَاءِ كَمَا سَيَأْتِي فِي الْقَذْفِ، وَرُوِيَ لَا يُؤَخَّرُ فِي الْحَرِّ.
مَسْأَلَةٌ:
وَلَا يُقِيمُ الْحَدَّ إلَّا الْحَاكِمُ، وَلِلسَّيِّدِ أَنْ يُقِيمَ عَلَى عَبْدِهِ وَأَمَتِهِ حَدَّ الزِّنَا وَالْخَمْرِ وَالْقَذْفِ، إذَا ثَبَتَ عِنْدَهُ بِالْإِقْرَارِ أَوْ بِالْبَيِّنَةِ أَوْ بِظُهُورِ الْحَمْلِ وَفِي حَدِّهِ لَهُمَا بِالرُّؤْيَةِ رِوَايَتَانِ، فَإِنْ كَانَ الْعَبْدُ زَوْجًا لِحُرَّةٍ أَوْ أَمَةٍ لِغَيْرِ سَيِّدِهِ، أَوْ كَانَتْ الْأَمَةُ زَوْجَةً لِحُرٍّ أَوْ عَبْدٍ لِغَيْرِ السَّيِّدِ لَمْ يُقِمْهُ عَلَيْهِمَا غَيْرُ الْإِمَامِ، وَلَا يُقِيمُ السَّيِّدُ حَدَّ السَّرِقَةِ وَلَا يُقِيمُ عَلَيْهِ الْقِصَاصَ، وَإِذَا كَانَ لِلسَّيِّدِ إقَامَةُ الْحُدُودِ فَإِقَامَةُ التَّعْزِيرَاتِ لَهُ مِنْ بَابِ أَوْلَى.
مَسْأَلَةٌ:
قَالَ الزَّنَاتِيُّ فِي شَرْحِ الرِّسَالَةِ، وَإِذَا أَقَامَ السَّيِّدُ عَلَى عَبْدِهِ حَدَّ الْقَذْفِ وَالْخَمْرِ فَلْيُحْضِرْ رَجُلَيْنِ، وَيُحْضِرُ فِي الزِّنَا أَرْبَعَةً لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [النور: 2] وَأَقَلُّهَا أَرْبَعَةٌ وَلِأَنَّ الْعَبْدَ عَسَى أَنْ يُعْتَقَ يَوْمًا ثُمَّ يَشْهَدُ بَيْنَ النَّاسِ، فَيُحَدُّ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ مَا يَرُدُّ بِهِ شَهَادَتَهُ أَوْ يَقْذِفُهُ أَحَدٌ بِمَا حُدَّ بِهِ، فَيَتَخَلَّصُ مِنْ الْحَدِّ بِشَهَادَةِ مَنْ حَضَرَ حَدَّهُ.
مَسْأَلَةٌ:
قَالَ ابْنُ حَبِيبٍ: سَمِعْت أَصْبَغَ يَقُولُ فِي صِبْيَانٍ: أَمْسَكُوا جَارِيَةً لِصَبِيٍّ حَتَّى افْتَضَّهَا أَنَّ عَلَيْهِ وَعَلَيْهِمْ الْحَدَّ، وَمَا شَانَهَا ذَلِكَ وَعَابَهَا عِنْدَ الْأَزْوَاجِ فِي جَمَالِهَا، لِأَنَّهُ جُرْحٌ وَلَيْسَ بِوَطْءٍ فَيَكُونُ لَهَا صَدَاقُ مِثْلِهَا، وَلَوْ فَعَلَ ذَلِكَ بِثَيِّبٍ لَمْ يَكُنْ لَهَا شَيْءٌ وَعَلَيْهِ، وَعَلَى الصِّبْيَانِ الَّذِينَ أَمْسَكُوهَا لَهُ الْأَدَبُ، قَالَ وَكَذَلِكَ يُؤَدَّبُ الصِّبْيَانُ فِي كُلِّ تَعَدٍّ كَانَ مِنْهُمْ إذَا كَانُوا قَدْ رَاهَقُوا وَعَقَلُوا.

.فَصْلٌ مَنْ عَمِلَ عَمَلَ قَوْمِ لُوطٍ:

فَصْلٌ: وَأَمَّا مَنْ عَمِلَ عَمَلَ قَوْمِ لُوطٍ فَحَدُّهُ الرَّجْمُ. وَرُوِيَ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَالَ: «الَّذِي يَعْمَلُ عَمَلَ قَوْمِ لُوطٍ اُرْجُمُوهُمَا الْأَعْلَى وَالْأَسْفَلُ».
وَقَالَ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ: إنَّهُ سَمِعَ ابْنَ شِهَابٍ يَقُولُ الْعَمَلُ فِيمَنْ عَمِلَ عَمَلَ قَوْمِ لُوطٍ، أَنْ يُرْجَمَ الْفَاعِلُ وَالْمَفْعُولُ بِهِ أَحْصَنَا أَوْ لَمْ يُحْصِنَا.
قَالَ ابْنُ حَبِيبٍ: وَإِنَّمَا جَاءَ فِيهِمْ الرَّجْمُ وَإِنْ لَمْ يُحْصِنَا، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى رَجَمَ قَوْمَ لُوطٍ عَلَى ذَلِكَ الْعَمَلِ مَنْ أَحْصَنَ وَمَنْ لَمْ يُحْصِنْ، فَصَارَ ذَلِكَ عُقُوبَةَ ذَلِكَ الْعَمَلِ، وَقَدْ جَاءَ حَدِيثٌ بِتَحْرِيقِهِمْ بِالنَّارِ إلَّا أَنَّ مَالِكًا لَا يَرَى الْعَمَلَ بِهِ، وَكَتَبَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إلَى خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ: بِتَحْرِيقِهِمْ بَعْدَ أَنْ اسْتَشَارَ الصَّحَابَةَ فِي ذَلِكَ، وَحَرَّقَهُمْ ابْنُ الزُّبَيْرِ فِي إمَارَتِهِ، ثُمَّ حَرَّقَهُمْ هِشَامُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ، ثُمَّ حَرَّقَهُمْ الْعَشْرِيُّ بِالْعِرَاقِ.
قَالَ ابْنُ حَبِيبٍ: وَمَنْ أَخَذَ بِهَذَا لَمْ يُخْطِئْ، وَالرَّجْمُ جَاءَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرَأْيُ مَالِكٍ وَابْنِ شِهَابٍ عَلَيْهِ الْعَمَلُ، قَالَ ابْنُ حَبِيبٍ: وَحَدَّثَنِي مُطَرِّفٌ بِسَنَدِهِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «نَفَى مُخَنَّثًا إلَى أَرْضٍ مُصَالَحَةٍ لَيْسَ فِيهَا أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْإِسْلَامِ»، قَالَ ابْنُ حَبِيبٍ فِي تَأْوِيلِ ذَلِكَ: عِنْدَنَا أَنَّهُ كَانَ مُتَّهَمًا مَشْهُورًا مِنْ غَيْرِ أَنْ يَثْبُتَ عَلَيْهِ فِعْلُ ذَلِكَ بِبَيِّنَةٍ، وَجَاءَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ أَنَّهُ قَالَ: «كَانَ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُخَنَّثَانِ فَنَفَاهُمَا إلَى عِيرٍ وَهُوَ جَبَلٌ مِنْ جِبَالِ الْمَدِينَةِ».
مَسْأَلَةٌ:
وَفِي مُفِيدِ الْحُكَّامِ: وَمَنْ أَتَى غُلَامًا أَوْ امْرَأَةً فِي غَيْرِ الْفَرْجِ بُولِغَ فِي أَدَبِهِ عَلَى قَدْرِ سَفَهِهِ.

.فَصْلٌ فِي الْقَذْفِ وَالتَّعْرِيضِ بِهِ وَصِفَةُ إقَامَةِ الْحُدُودِ:

وَفِي مُخْتَصَرِ الْوَاضِحَةِ عَنْ مَالِكٍ: أَنَّ رَجُلَيْنِ اسْتَبَّا فِي زَمَانِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقَالَ أَحَدُهُمَا لِلْآخَرِ: وَاَللَّهِ مَا أَبِي بِزَانٍ وَلَا أُمِّي بِزَانِيَةٍ، فَاسْتَشَارَ فِي ذَلِكَ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ فَقَالَ قَائِلٌ: مَدَحَ أَبَاهُ وَأُمَّهُ.
وَقَالَ الْآخَرُونَ: قَدْ كَانَ لِأَبِيهِ وَأُمِّهِ مَدْحٌ سِوَى هَذَا، نَرَى أَنْ تَجْلِدَهُ الْحَدَّ فَجَلَدَهُ عُمَرُ الْحَدَّ ثَمَانِينَ.
فرع:
وَسُئِلَ ابْنُ الْمَاجِشُونِ عَنْ رَجُلٍ قَالَ لِرَجُلٍ فِي مُنَازَعَةٍ أَنَا فُلَانُ بْنُ فُلَانٍ أَنَا أَبِي لَا يُعْرَفُ، فَقَالَ: إنْ قَالَهُ لِرَجُلٍ مَجْهُولٍ لَا يُعْرَفُ بِالْبَلَدِ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ، وَإِنْ قَالَهُ لِرَجُلٍ يَعْرِفُ الْبَلَدَ فَعَلَيْهِ الْحَدُّ.
مَسْأَلَةٌ:
قَالَ مُطَرِّفٌ عَنْ مَالِكٍ مَنْ قَالَ لِرَجُلٍ وَهُوَ يُنَازِعُهُ تُكَلِّمُنِي وَقَدْ نَكَحْت أُمَّك وَكَانَتْ زَوْجَتِي، إنْ لَمْ تَقُمْ الْبَيِّنَةُ عَلَى أَنَّهُ تَزَوَّجَهَا حُدَّ الْقَذْفَ.
وَقَالَ ابْنُ الْمَاجِشُونِ: لَا أَرَى عَلَيْهِ حَدًّا إلَّا الْعُقُوبَةَ الشَّدِيدَةَ، لِأَنَّهُ لَوْ أَتَى بِالْبَيِّنَةِ عَلَى أَنَّهُ نَكَحَهَا اكْتَفَى بِشَهِيدَيْنِ، وَلَوْ كَانَ قَذْفًا مَا خَرَجَ مِنْ ذَلِكَ بِدُونِ أَرْبَعَةٍ، قَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ حَبِيبٍ: وَقَوْلُ مَالِكٍ أَحَبُّ إلَيَّ لِأَنَّهُ تَعْرِيضٌ شَدِيدٌ، لِأَنَّهُ يَنْزِعُ فِي الْمُنَازَعَةِ إلَى أَقْبَحِ شَيْءٍ وَأَشْنَعِهِ، وَلَوْ كَانَ فِي غَيْرِ مُنَازَعَةٍ مَا كَانَ عَلَيْهِ شَيْءٌ.
مَسْأَلَةٌ:
وَقَالَ ابْنُ الْمَاجِشُونِ فِي رَجُلٍ قَالَ لِآخَرَ: يَا ابْنَ الْعَفِيفَةِ، وَقَالَ لَهُ الْآخَرُ: يَا ابْنَ الْخَبِيثَةِ، أَنَّ عَلَى الْقَائِلِ يَا ابْنَ الْعَفِيفَةِ الْحَدَّ إنْ كَانَتْ أُمُّهُ حُرَّةً، وَعَلَى الْقَائِلِ يَا ابْنَ الْخَبِيثَةِ الْحَدُّ إلَّا أَنْ يَحْلِفَ أَنَّهُ مَا أَرَادَ بِالْخَبِيثِ الزِّنَا فَإِنْ حَلَفَ أُدِّبَ وَإِنْ نَكَلَ حُدَّ.
مَسْأَلَةٌ:
قَالَ ابْنُ الْمَاجِشُونِ: وَمَنْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ فِي مُشَاتَمَةٍ إنِّي لَعَفِيفٌ فَعَلَيْهِ الْحَدُّ، وَمَنْ قَالَ ذَلِكَ لِرَجُلٍ فَعَلَيْهِ الْحَدُّ، إلَّا أَنْ يَدَّعِيَ أَنَّهُ أَرَادَ عَفِيفَ الْكَسْبِ أَوْ الْمَطْعَمِ، فَيَحْلِفُ وَيَبْرَأُ مِنْ الْحَدِّ وَيَنْكُلُ، وَفَارَقَ الرَّجُلُ الْمَرْأَةَ فِي هَذَا لِأَنَّ الْمَرْأَةَ لَا يُعْرَضُ لَهَا بِذِكْرِ الْعَفَافِ إلَّا فِي الْفَرْجِ خَاصَّةً، وَالرَّجُلُ يُعْرَضُ لَهُ بِذِكْرِ ذَلِكَ فِي غَيْرِ وَجْهٍ وَاحِدٍ، فَحُمِلَ عَلَيْهِ فِي أَقْبَحِ ذَلِكَ حَتَّى يَخْرُجَ مِنْهُ بِالْيَمِينِ.
مَسْأَلَةٌ:
وَلَوْ قَالَ لِأَجْنَبِيَّةٍ رَأَيْته مَعَهَا أَوْ بَيْنَ فَخِذَيْهَا، فَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ يُعَاقَبُ.
وَقَالَ غَيْرُهُ لَا يُعَاقَبُ، وَفِي التَّبْصِرَةِ إنْ كَانَ لِلشَّاهِدِ عَدْلًا لَا يُعَاقَبُ، وَإِنْ كَانَ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ مِمَّنْ لَا يُظَنُّ بِهِ ذَلِكَ عُوقِبَ وَإِلَّا فَلَا مِنْ الْمَذْهَبِ.
تنبيه:
وَلَيْسَ عَلَى الْأَبِ إذَا عَرَضَ لِوَلَدِهِ بِالزِّنَا حَدٌّ كَمَا يَكُونُ ذَلِكَ فِي غَيْرِ الْأَبِ، فَإِذَا صَرَّحَ بِالزِّنَا حُدَّ مِثْلُ قَتْلِهِ إيَّاهُ فِيمَا يَلْزَمُهُ فِي الْقَوَدِ وَفِيمَا لَا يَلْزَمُهُ.
مَسْأَلَةٌ:
وَمَنْ قَالَ لِرَجُلٍ: يَا يَهُودِيُّ فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ، وَإِنْ قَالَ لَهُ يَا ابْنَ الْيَهُودِيِّ فَعَلَيْهِ الْحَدُّ لِأَنَّهُ نَفَاهُ عَنْ أَبِيهِ الْمُسْلِمِ، وَكَذَلِكَ أَسْوَدُ وَيَا ابْنَ الْأَسْوَدِ، وَكَذَلِكَ يَا خَيَّاطُ وَيَا جَزَّارُ، أَوْ يَا ابْنَ الْخَيَّاطِ أَوْ يَا ابْنَ الْجَزَّارِ، الْحُكْمُ فِي ذَلِكَ وَاحِدٌ إلَّا أَنْ يَكُونَ فِي آبَائِهِ مَنْ كَانَ كَذَلِكَ.
مَسْأَلَةٌ:
وَمَنْ قَالَ لِمَوْلًى: يَا خَيَّاطُ أَوْ يَا ابْنَ الْخَيَّاطِ فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ، وَعَلَيْهِ التَّعْزِيرُ بَعْدَ أَنْ يَحْلِفَ بِاَللَّهِ مَا أَرَادَ نَفْيًا، لِأَنَّ الْمَوَالِيَ هُمْ أَهْلُ الصِّنَاعَاتِ.
مَسْأَلَةٌ:
وَمَنْ قَالَ لِعَرَبِيٍّ: يَا فَارِسِيُّ أَوْ يَا ابْنَ الْفَارِسِيِّ، أَوْ يَا قِبْطِيُّ، أَوْ يَا بَرْبَرِيُّ يَا ابْنَ الْبَرْبَرِيِّ حُدَّ فِي الْوَجْهَيْنِ جَمِيعًا، وَمَنْ قَالَ ذَلِكَ لِمَوْلًى فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ فِي الْوَجْهَيْنِ جَمِيعًا، وَعَلَيْهِ التَّعْزِيرُ بَعْدَ أَنْ يَحْلِفَ بِاَللَّهِ مَا أَرَادَ نَفْيًا.
فرع:
قَالَ ابْنُ الْمَاجِشُونِ: وَمَنْ قَالَ لِرَجُلٍ: يَا ابْنَ الْبَرْبَرِيِّ وَأَبُوهُ فَارِسِيٌّ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ فِي الْبَيَاضِ كُلِّهِ إلَّا أَنْ يَكُونَ أَبُوهُ أَسْوَدَ، وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ فِي السَّوَادِ إذَا نَسَبَهُ إلَى غَيْرِ جِنْسِهِ إلَّا أَنْ يَكُونَ أَبُوهُ أَبْيَضَ، فَيَكُونُ نَفْيًا يَجِبُ فِيهِ الْحَدُّ مِثْلُ أَنْ يَقُولَ لِلْأَسْوَدِ أَوْ لِلْحَبَشِيِّ يَا ابْنَ الْفَارِسِيِّ.
مَسْأَلَةٌ:
وَمَنْ قَالَ لِرَجُلٍ: لَيْسَتْ أُمُّك فُلَانَةَ فَهُوَ كَذِبٌ، وَلَا حَدَّ عَلَيْهِ بِخِلَافِ قَوْلِهِ: لَيْسَ أَبُوك فُلَانًا لِأَنَّهُ قَطَعَ نَسَبَهُ، وَلَوْ قَالَ لِرَجُلٍ: يَا ابْنَ السَّوْدَاءِ كَانَ عَلَيْهِ الْحَدُّ، كَمَنْ قَالَ: يَا ابْنَ الْأَسْوَدِ لِأَنَّهُ حَمَلَ أَبَاهُ عَلَى غَيْرِ أُمِّهِ إذَا كَانَتْ أُمُّهُ بَيْضَاءَ وَجَعَلَهُ لِرِيبَةٍ.
فرع:
وَلَوْ قَالَ: يَا ابْنَ زَيْنَبَ السَّوْدَاءِ وَأُمُّهُ زَيْنَبُ وَهِيَ بَيْضَاءُ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ، وَهُوَ كَقَوْلِهِ: لَيْسَتْ أُمُّك فُلَانَةَ، وَهَذَا مِمَّا قَدْ حُكِمَ بِهِ عِنْدَنَا، وَأَمَّا ابْنُ الْمَاجِشُونِ وَأَصْبَغُ فَجَعَلَا وَاحِدًا إذَا قَالَ لَيْسَ أُمُّك فُلَانَةَ، أَوْ يَا ابْنَ السَّوْدَاءِ لِأَنَّهُ لَا حَدَّ عَلَيْهِ.
فرع:
وَلَوْ قَالَ: يَا ابْنَ النَّصْرَانِيَّةِ، فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ إذَا سَمَّى أُمَّهُ.
فرع:
وَكَذَلِكَ مَنْ قَالَ لِرَجُلٍ: يَا ابْنَ الْأَمَةِ وَأُمُّهُ عَرَبِيَّةٌ، أَوْ يَا ابْنَ الْبَرْبَرِيَّةِ وَأُمُّهُ قُرَشِيَّةٌ، لَيْسَ فِي الْأُمِّ شَيْءٌ فِي قَوْلِ ابْنِ الْمَاجِشُونِ، وَكَأَنَّمَا قَالَ لِأُمِّهِ: أَنْتِ أَمَةٌ أَوْ بَرْبَرِيَّةٌ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ.
وَقَالَ مُطَرِّفٌ: عَلَيْهِ الْحَدُّ لَيْسَ مِنْ قِبَلِ النَّفْيِ، وَلَكِنَّهُ حَمَلَ أَبَاهُ عَلَى غَيْرِ أُمِّهِ إلَّا أَنْ يُسَمِّيَهَا بِاسْمِهَا، وَيَنْسُبَهَا إلَى غَيْرِ جِنْسِهَا أَوْ يَنْعَتَهَا بِغَيْرِ نَعْتِهَا، فَعِنْدَ ذَلِكَ يَسْقُطُ عَنْهُ الْحَدُّ، قَالَ ابْنُ حَبِيبٍ وَقَوْلُ مُطَرِّفٍ أَقْيَسُ وَأَحَبُّ إلَيَّ، إلَّا أَنِّي أَدْرَأُ عَنْهُ الْحَدَّ لِشُبْهَةِ الِاخْتِلَافِ فِيهِ وَأُعَظِّمُ فِيهِ الْعُقُوبَةَ.
تنبيه:
وَمَنْ قَذَفَ ابْنَ الْمُلَاعَنَةِ أَوْ اللَّقِيطَ أَوْ الْمَحْمُولَ بِأَبِيهِ أَوْ أَوْ بِأُمِّهِ حُدَّ، وَمَنْ قَذَفَ الْمَنْبُوذَ بِأَبِيهِ وَبِأُمِّهِ فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ، وَمَنْ قَذَفَ ابْنَ أُمِّ الْوَلَدِ بِأَبِيهِ حُدَّ، وَمَنْ قَذَفَهُ بِأُمِّهِ فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ إلَّا التَّعْزِيرُ كَانَ الْقَاذِفُ حُرًّا أَوْ عَبْدًا، إلَّا أَنَّ الْعَبْدَ أَكْثَرُهُمَا أَدَبًا؛ لِأَنَّهُ مِنْ الْعَبْدِ أَشَدُّ تَعْيِيرًا عَلَيْهِ، وَلَمَّا عَدَا مِنْ طَوْرِهِ وَجَاوَزَ مِنْ قَدْرِهِ.
مَسْأَلَةٌ:
قَالَ أَصْبَغُ: سَمِعْت ابْنَ الْقَاسِمِ يَقُولُ: وَالرَّجُلُ يَقُولُ لِلْمُسْلِمِ وَأُمِّهِ نَصْرَانِيَّةٌ: يَا ابْنَ الزَّانِيَةِ، إنْ كَانَ الْمَقُولُ لَهُ ذَلِكَ رَجُلًا لَهُ هَيْبَةٌ، فَأَرَى أَنْ يَضْرِبَ قَائِلَ ذَلِكَ الْعِشْرِينَ سَوْطًا وَنَحْوَهَا، وَإِنْ كَانَ لَا هَيْبَةَ لَهُ فَأَدْنَى مِنْ ذَلِكَ، وَجَاءَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ ضَرَبَ رَجُلًا افْتَرَى عَلَى نَصْرَانِيَّةٍ أُمِّ مُسْلِمٍ بِضْعًا وَثَلَاثِينَ.
مَسْأَلَةٌ:
وَقَالَ ابْنُ الْمَاجِشُونِ: وَالْحُرُّ يَقْذِفُ الْعَبْدَ لَا يُعَزَّرُ، إلَّا أَنْ يَكُونَ قَدْ نُهِيَ عَنْ أَذَى هَذَا الْعَبْدِ بِخُصُوصِهِ، أَوْ يَكُونَ فَاحِشًا مَعْرُوفًا بِأَذَى النَّاسِ فَيُعَزَّرُ، وَيَكُونُ ذَلِكَ نَهْيًا لَهُ عَنْ الْعَبْدِ وَغَيْرِهِ.
وَقَالَ فِي قَذْفِ الْمُسْلِمِ لِلنَّصْرَانِيِّ مِثْلَهُ أَيْضًا، وَكَذَلِكَ إنْ رَمَى عَبْدٌ عَبْدًا فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ وَعَلَيْهِ الْأَدَبُ.
مَسْأَلَةٌ:
وَفِي مُخْتَصَرِ الْمُدَوَّنَةِ لِلْبَاجِيِّ: وَإِذَا قَذَفَ ذِمِّيٌّ مُسْلِمًا حُدَّ حَدَّ الْقَذْفِ ثَمَانِينَ.
مَسْأَلَةٌ:
وَمَنْ أَمَرَ عَبْدَهُ أَنْ يَقْذِفَ رَجُلًا فَقَذَفَهُ فَإِنَّهُمَا يُحَدَّانِ جَمِيعًا، سَوَاءٌ قَالَ لَهُ: اقْذِفْهُ، أَوْ قَالَ لَهُ قُلْ لَهُ يَا ابْنَ الْفَاعِلَةِ، وَلَوْ أَمَرَ أَجْنَبِيًّا أَنْ يَقْذِفَ رَجُلًا فَقَذَفَهُ، فَإِنْ قَالَ لَهُ: اقْذِفْ فُلَانًا فَقَذَفَهُ فَالْحَدُّ عَلَى الْمَأْمُورِ، وَعَلَى الْآمِرِ النَّكَالُ، وَإِنْ قَالَ لَهُ قُلْ: يَا ابْنَ الْفَاعِلَةِ فَقَالَ لَهُ ذَلِكَ، فَالْحَدُّ عَلَيْهِمَا جَمِيعًا، لِأَنَّهُ وَإِنْ كَانَ الْآمِرُ قَدْ قَالَ لَهُ ذَلِكَ، وَثَبَتَ بِالْبَيِّنَةِ أَنَّهُ أَمَرَهُ بِذَلِكَ فَقَدْ قَذَفَهُ الْمَأْمُورُ أَيْضًا، وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْأَجْنَبِيِّ وَالْعَبْدِ إذَا أَمَرَهُ بِالْقَذْفِ، أَنَّ الْعَبْدَ كَنَفْسِهِ لِمَا يَلْزَمُهُ مِنْ خَوْفِ سَيِّدِهِ، وَالْأَجْنَبِيُّ لَيْسَ كَذَلِكَ، وَهُوَ مِثْلُ مَا لَوْ قَالَ لِعَبْدِهِ: اُقْتُلْ فُلَانًا فَقَتَلَهُ قُتِلَا جَمِيعًا، وَلَوْ قَالَهُ لِأَجْنَبِيٍّ قَتَلَ الْقَاتِلَ وَلَمْ يَقْتُلْ الْآمِرَ وَضُرِبَ مِائَةً وَحُبِسَ سِتَّةً، وَفِيهِ اخْتِلَافٌ وَهَذَا أَحْسَنُ مَا فِيهِ عِنْدِي قَالَهُ ابْنُ حَبِيبٍ.
مَسْأَلَةٌ:
إذَا قَالَ مَنْ رَكِبَ دَابَّتِي هَذِهِ فَهُوَ ابْنُ الزَّانِيَةِ، فَمَنْ رَكِبَهَا بَعْدَ قَوْلِهِ لَمْ يُحَدَّ لَهُ، وَمَنْ رَكِبَهَا قَبْلَ قَوْلِهِ وَهُوَ عَالِمٌ بِهِ حُدَّ لَهُ.
مَسْأَلَةٌ:
سُئِلَ سَحْنُونٌ عَنْ رَجُلٍ قَالَ لِرَجُلٍ: يَا نَذْلُ ابْنُ النَّذْلِ، فَقَالَ: إنْ كَانَ يَحْضُرُ الْمَلَاهِيَ فَهُوَ نَذْلٌ مِنْ زِيَادَاتِ مَعِينِ الْحُكَّامِ.
مَسْأَلَةٌ:
وَفِي مُفِيدِ الْحُكَّامِ قَالَ أَشْهَبُ: وَيُحَدُّ الْقَائِلُ لِآخَرَ يَا حِمَارُ، لِأَنَّهُ شَبَّهَهُ بِالْحِمَارِ الَّذِي يَرْكَبُهُ فِي رِدْفِهِ.
وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ يُعَزَّرُ.
مَسْأَلَةٌ:
وَمَنْ قَالَ لِرَجُلٍ فُلَانُ يَزْعُمُ أَنَّك زَانٍ، وَجَاءَ عَلَى ذَلِكَ بِالْبَيِّنَةِ أَنَّ فُلَانًا قَالَ ذَلِكَ لَهُ، فَإِنْ قَالَ لَهُ ذَلِكَ مُخَاصِمًا وَمُشَاتِمًا فَعَلَيْهِمَا الْحَدُّ جَمِيعًا، وَإِنْ قَالَ لَهُ ذَلِكَ مُخْبِرًا فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ وَالْحَدُّ عَلَى الْأَوَّلِ وَإِنْ لَمْ تَقُمْ بَيِّنَةٌ أَنَّ فُلَانًا قَالَهُ فَالْحَدُّ عَلَى الَّذِي خَاطَبَهُ بِهِ، وَإِنْ كَانَ مُخْبِرًا وَإِنْ جَاءَهُ عَلَى وَجْهِ الرِّسَالَةِ فَقَالَ: إنَّ فُلَانًا أَرْسَلَنِي إلَيْك يَقُولُ لَك: يَا زَانٍ، أَوْ جَاءَ بِذَلِكَ مَعَهُ فِي كِتَابٍ وَأَقَرَّ أَنَّهُ يَعْرِفُ مَا فِيهِ فَعَلَيْهِ الْحَدُّ، لِأَنَّهُ وَإِنْ ثَبَتَ أَنَّ فُلَانًا أَرْسَلَهُ فَقَدْ قَالَهُ هُوَ أَيْضًا.
مَسْأَلَةٌ:
وَلَوْ اسْتَبَّ رَجُلَانِ فَقَالَ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ: يَا أَحْمَقُ فَقَالَ الْآخَرُ أَحْمَقُنَا هُوَ ابْنُ الْفَاعِلَةِ، قَالَ أَصْبَغُ: أَرَاهُ قَذْفًا مِنْ الْقَائِلِ؛ لِأَنَّهُ جَوَابٌ لِلشَّتْمِ، وَاسْتِتَارٌ عَنْ الْقَذْفِ بِذِكْرِ الْحُمْقِ، كَانَ الْمَقُولُ لَهُ ذَلِكَ أَحْمَقَ أَوْ حَلِيمًا، قَالَ ابْنُ حَبِيبٍ وَهُوَ أَحَبُّ مَا فِيهِ إلَيَّ وَفِيهِ مِنْ الْخِلَافِ غَيْرُ هَذَا.
مَسْأَلَةٌ:
وَقَالَ مُطَرِّفٌ وَابْنُ الْمَاجِشُونِ وَابْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ وَأَصْبَغُ فِي الرَّجُلِ يَقُولُ: مَنْ شَهِدَ عَلَيَّ فَهُوَ ابْنُ الْفَاعِلَةِ، فَشَهِدَ عَلَيْهِ رَجُلٌ فَعَلَى قَائِلِ ذَلِكَ الْحَدُّ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ: مَنْ دَخَلَ الْمَسْجِدَ فَهُوَ ابْنُ الْفَاعِلَةِ، كَانَ عَلَيْهِ الْحَدُّ؟ وَلَوْ قَالَ: مَنْ رَمَانِي فَهُوَ ابْنُ الْفَاعِلَةِ فَرَمَاهُ رَجُلٌ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ حَدٌّ؛ لِأَنَّ هَذَا تَعَمُّدٌ.
مَسْأَلَةٌ:
قَالَ أَصْبَغُ قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: حَضَرْت مَالِكًا وَسُئِلَ عَنْ رَجُلٍ قَالَ لِرَجُلٍ: إنْ كُنْت مِنْ الْعَرَبِ فَأَنْت ابْنُ الْفَاعِلَةِ، فَطَلَبَ الْمَقْذُوفُ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ مِنْ الْعَرَبِ فَلَمْ يَجِدْهَا، فَقَالَ مَالِكٌ: أَرَى أَنْ يُضْرَبَ قَائِلُ ذَلِكَ سَبْعِينَ جَلْدَةً.
قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ وَأَرَى السَّبْعِينَ كَثِيرًا وَلَكِنَّ الْخَمْسِينَ أَوْ الْأَرْبَعِينَ، وَكَذَلِكَ كُلُّ مَنْ قَالَ لِرَجُلٍ: إنْ كُنْت فَعَلْت كَذَا وَكَذَا، أَوْ إنْ كَانَ كَذَا فَأَنْت ابْنُ الْفَاعِلَةِ، فَإِنَّهُ إنْ ثَبَتَ ذَلِكَ الَّذِي قَالَهُ إنَّهُ كَذَلِكَ ضُرِبَ الْحَدَّ، وَإِنْ لَمْ يَثْبُتْ ضُرِبَ نَحْوَ الَّذِي ذَكَرْنَا.
مَسْأَلَةٌ:
قَالَ ابْنُ حَبِيبٍ: سَمِعْت أَصْبَغَ يَقُولُ: حَضَرْت ابْنَ الْقَاسِمِ وَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: إنَّ رَجُلًا قَالَ لِي لَسْت مِنْ الْعَرَبِ، فَقُلْت لَهُ: مَنْ قَالَ لِي: إنِّي لَسْت مِنْ الْعَرَبِ فَهُوَ ابْنُ الْفَاعِلَةِ، فَقَالَ لَهُ ابْنُ الْقَاسِمِ: إنْ أَقَمْت الْبَيِّنَةَ أَنَّك مِنْ الْعَرَبِ، ضُرِبَ هُوَ الْحَدَّ لِنَفْيِهِ إيَّاكَ مِنْ الْعَرَبِ، وَضُرِبْت أَنْتَ أَيْضًا لَهُ الْحَدَّ؛ لِأَنَّك قَذَفْته، فَقَالَ لَهُ الرَّجُلُ: إنِّي لَمْ أُرِدْهُ، إنَّمَا أَرَدْت النَّاسَ كَأَنَّهُ إنَّمَا جَاوَبْته، فَقَالَ لَهُ ابْنُ الْقَاسِمِ: إنَّمَا جَاوَبْته وَتَقُولُ: لَمْ أُرِدْهُ، لَيْسَ يُنْجِيك ذَلِكَ مِنْ الْحَدِّ وَلَكِنْ صَالِحْهُ.
مَسْأَلَةٌ:
وَسُئِلَ ابْنُ الْمَاجِشُونِ عَنْ رَجُلٍ قَالَ لِرَجُلٍ: إنْ كُنْت قُلْت مَا ذَكَرْت فَأَنْت ابْنُ الْفَاعِلَةِ، قَالَ: إنْ كَانَتْ لَهُ بَيِّنَةٌ أَنَّهُ قَالَهُ فَعَلَيْهِ الْحَدُّ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ بَيِّنَةٌ فَعَلَيْهِ الْأَدَبُ؛ لِأَنَّهُ رَفَثٌ.
مَسْأَلَةٌ:
قَالَ ابْنُ حَبِيبٍ: وَسَمِعْت مُطَرِّفًا وَابْنَ الْمَاجِشُونِ يَقُولَانِ: مَالَ مَالِكٌ فِي الْمَرْأَةِ يَقَعُ زَوْجُهَا عَلَى جَارِيَتِهَا وَيَزْعُمُ أَنَّهَا وَهَبَتْهَا أَوْ بَاعَتْهَا إيَّاهُ، وَتُنْكِرُ الْمَرْأَةُ ذَلِكَ وَتَقُولُ: إنَّمَا وَاقَعَتْهَا زِنًا، ثُمَّ تَعْتَرِفُ أَنَّهَا وَهَبَتْهَا أَوْ بَاعَتْهَا إيَّاهُ، أَنَّهُ لَا حَدَّ عَلَيْهَا وَلَا عَلَيْهِ.
مَسْأَلَةٌ:
وَعَنْ مَالِكٍ فِيمَنْ قَالَ لِرَجُلٍ: يَا مُخَنَّثُ، إنْ كَانَ فِيهِ مِنْ التَّوْضِيعِ أَوْ عَمَلِ النِّسَاءِ أَوْ لِينِ الْكَلَامِ شَيْءٌ، أُحْلِفَ مَا أَرَادَ غَيْرَ مَا فَسَّرَ بِهِ قَصْدَهُ ثُمَّ عُوقِبَ، وَإِنْ كَانَ الرَّجُلُ مِنْ ذَلِكَ بَرِيئًا لَا يُرَى فِيهِ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ حُدَّ قَائِلُ ذَلِكَ.
مَسْأَلَةٌ:
قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ فِيمَنْ قَالَ لِرَجُلٍ: يَا وَلَدَ الْخَبِيثِ، ضُرِبَ الْحَدَّ، وَلَا نَعْلَمُ الْخَبِيثَ فِي هَذَا إلَّا الزِّنَا، قَالَ لَوْ قَالَ لَهُ: يَا ابْنَ الْخَبِيثَةِ كَانَ عَلَيْهِ الْحَدُّ، إلَّا أَنْ يَحْلِفَ بِاَللَّهِ أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ الزِّنَا وَإِنَّمَا أَرَادَ خَبِيثَةً فِي فِعْلِهَا أَوْ خَلْقِهَا، وَيُنَكَّلُ نَكَالًا مُوجِعًا، وَلَوْ نَكَلَ عَنْ الْيَمِينِ حُبِسَ، وَكَذَلِكَ مَنْ قَالَ: يَا ابْنَ الْفَاسِقَةِ يَا ابْنَ الْفَاجِرَةِ يَحْلِفُ بِاَللَّهِ أَنَّهُ مَا أَرَادَ قَذْفًا، فَإِنْ حَلَفَ أُبْرِئَ مِنْ الْحَدِّ، وَإِنْ نَكَلَ حُبِسَ، فَإِذَا طَالَ حَبْسُهُ وَمَضَى عَلَى نُكُولِهِ عَنْ الْيَمِينِ أُدِّبَ أَدَبًا مُوجِعًا وَلَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ حَدٌّ، قَالَ ابْنُ حَبِيبٍ: وَسَمِعْت ابْنَ الْمَاجِشُونِ يَقُولُ فِي قَوْلِهِ: يَا ابْنَ الْخَبِيثَةِ أَوْ يَا ابْنَ الْفَاسِقَةِ أَوْ الْفَاجِرَةِ، إذَا أَبَى أَنْ يَحْلِفَ حُدَّ وَبِهِ نَقُولُ.
تنبيه:
قَالَ فَضْلٌ لَمْ يَذْكُرْ ابْنُ الْقَاسِمِ فِي الْمُحْتَاطِ لَهُ الْحَبْسَ فِي قَوْلِهِ: يَا ابْنَ الْفَاسِقَةِ وَيَا ابْنَ الْفَاجِرَةِ إذَا نَكَلَ عَنْ الْيَمِينِ، كَمَا ذَكَرَ فِي قَوْلِهِ: يَا ابْنَ الْخَبِيثَةِ، وَكَذَلِكَ لَمْ يَذْكُرْ الْحَبْسَ أَيْضًا فِي قَوْلِهِ: يَا فَاجِرُ وَيَا فَاسِقُ وَيَا خَبِيثُ إلَّا الْحَلِفَ، وَإِنْ نَكَلَ أُدِّبَ.
مَسْأَلَةٌ:
وَإِذَا قَالَ رَجُلٌ لِرَجُلٍ: يَا مَأْبُونُ وَهُوَ يَلْعَبُ فِي الْأَعْرَاسِ، وَيُغَنِّي وَيَضْرِبُ بِالْأَكْبَارِ وَفِي كَلَامِهِ تَأْنِيثٌ مِنْهُمْ أَنْ يَكُونَ مَأْبُونًا فَلَا يَخْرُجُ الْقَائِلُ ذَلِكَ مِنْ الْحَدِّ إلَّا أَنْ يَحِقَّ مَا قَالَ.
فرع:
أَمَّا لَوْ قَالَ لِرَجُلٍ: يَا قَامِرُ وَهُوَ مَشْهُورٌ فِي الْقِمَارِ وَمَعْرُوفٌ بِهِ، أَوْ يَا سَارِقُ وَهُوَ قَدْ أَخَذَ فِي السَّرِقَةِ غَيْرَ مَرَّةٍ وَاتُّهِمَ بِهَا وَحُبِسَ فِيهَا فَلَا شَيْءَ عَلَى قَائِلِ ذَلِكَ.

.فَصْلٌ فِي عَفْوِ الْمَقْذُوفِ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ:

مَسْأَلَةٌ:
قَالَ أَصْبَغُ سَمِعْت ابْنَ الْقَاسِمِ يَقُولُ: لَا يَجُوزُ عَفْوُ أَحَدٍ عَنْ أَحَدٍ بَعْدَ أَنْ يُبَلِّغَ الْإِمَامُ، إلَّا ابْنٌ فِي أَبِيهِ وَاَلَّذِي يُرِيدُ سَتْرًا، وَقَدْ قَالَ مَالِكٌ إذَا زَعَمَ الْمَقْذُوفُ أَنَّهُ يُرِيدُ سَتْرًا فَعَفَا، إنْ بَلَّغَ الْإِمَامَ لَمْ يَقْبَلْ الْإِمَامُ ذَلِكَ حَتَّى يَسْأَلَ عَنْهُ سِرًّا، فَإِنْ خَشِيَ أَنْ يُثْبِتَ الْقَاذِفُ ذَلِكَ عَلَيْهِ أَجَازَ عَفْوَهُ، وَإِنْ أَمِنَ ذَلِكَ عَلَيْهِ لَمْ يَجُزْ عَفْوُهُ، قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: سَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ فِي نَفْسِهِ أَوْ أَبِيهِ بَعْدَ مَوْتِهِ.
قَالَ أَصْبَغُ: وَلَا يَسْقُطُ الْحَدُّ أَبَدًا، بِعَفْوِ الْمَقْذُوفِ إذَا أَرَادَ سَتْرًا إلَّا بِأَمْرٍ لَا يَخْفَى حَتْمًا مِنْ بَيِّنَةٍ قَدْ عُرِفَتْ، أَوْ طَائِفَةٍ قَدْ حَضَرَتْ إقَامَةَ الْحَدِّ عَلَيْهِ، بِأَنَّهُ أَحْبَلَ امْرَأَةً غَيْرَ ذَاتِ زَوْجٍ أَوْ مَا أَشْبَهَ ذَلِكَ، فَأَمَّا بِالْغَمْزِ وَالتُّهَمِ وَقِيلَ وَقَالَ فَلَا يُعَطَّلُ الْحَدُّ بِذَلِكَ، وَقَدْ يُظَنُّ بِالْمَرْءِ ظُنُونُ السُّوءِ وَهُوَ مِنْهَا بَرِيءٌ، وَأَمَّا الرَّجُلُ يَقْذِفُ ابْنَهُ فَيَرْفَعُهُ إلَى السُّلْطَانِ فَإِنَّ عَفْوَهُ جَائِزٌ، وَإِنْ أَرَادَ سَتْرَهُ أَوْ لَمْ يُرِدْهُ كَذَلِكَ، كَانَ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ يَقُولُ: وَكَذَلِكَ عَفْوُ الْوَالِدِ عَنْ وَلَدِهِ فِي الْقَذْفِ جَائِزٌ وَإِنْ لَمْ يُرِدْ سَتْرًا، قَالَهُ ابْنُ الْمَاجِشُونِ، وَكَذَلِكَ يَجُوزُ عَفْوُهُ عَلَى جَدِّهِ لِأَبِيهِ وَإِنْ بَلَّغَ الْإِمَامَ، وَلَا يَجُوزُ ذَلِكَ فِي جَدِّهِ لِأُمِّهِ، قَالَهُ ابْنُ الْقَاسِمِ وَأَشْهَبُ، لِأَنَّ الْجَدَّ لِلْأَبِ يُدْلِي بِالْأَبِ مِنْ الْمُنْتَقَى.
تنبيه:
قَالَ ابْنُ الْمَاجِشُونِ: مَعْنَى مُدَارَاةِ السَّتْرِ: أَنْ يَكُونَ مِثْلَهُ بِوَاقِعِ مَا قِيلَ فِيهِ فَيَجُوزُ وَلَا يُكَلَّفُ ذِكْرَهَا، لِأَنَّ ذِكْرَهُ عَارٌ عَلَى مَنْ ذَكَرَهُ فَلَا يَضْطَرُّ إلَى ذِكْرِهِ، وَعَفْوُهُ مَقْبُولٌ إذَا كَانَ مِمَّنْ يُخْشَى عَلَيْهِ مُوَاقَعَةُ مَا قِيلَ فِيهِ، فَأَمَّا الْفَاضِلُ الْمَعْرُوفُ بِالْعَفَافِ فَلَا يَجُوزُ عَفْوُهُ، لِأَنَّهُ لَيْسَ مِمَّنْ يُدَاوِي بِعَفْوٍ سَتْرًا عَنْ نَفْسِهِ.
مَسْأَلَةٌ:
فِي الْمَقْذُوفِ يُرِيدُ أَنْ يَكْتُبَ عَلَى الْقَاذِفِ كِتَابًا بِذَلِكَ يَقُومُ بِهِ عَلَيْهِ مَتَى شَاءَ، قَالَ أَصْبَغُ: ذَلِكَ لَهُ وَذَلِكَ جَائِزٌ، وَكَذَلِكَ قَالَ مَالِكٌ: فَلَوْ قَالَ ذَلِكَ بَعْدَ أَنْ رَفَعَهُ إلَى السُّلْطَانِ، فَقَالَ أَصْبَغُ: سَمِعْت ابْنَ الْقَاسِمِ يَقُولُ: لَيْسَ ذَلِكَ لَهُ، وَكِتَابَةُ ذَلِكَ عَلَيْهِ كَعَفْوِهِ عَنْهُ، وَلَا يَجُوزُ عَفْوُهُ عَنْهُ بَعْدَ بُلُوغِهِ السُّلْطَانَ.
فرع:
قَالَ أَصْبَغُ: وَلَوْ حَلَفَ الْمَقْذُوفُ أَنْ لَا يَدَعَ حَقَّهُ الَّذِي ثَبَتَ لَهُ فَأَرَادَ أَنْ يَكْتُبَ بِذَلِكَ كِتَابًا عَلَيْهِ كَانَ حَانِثًا.

.فَصْلٌ فِي الرَّجُلِ يُقْذَفُ وَهُوَ غَائِبٌ وَيَقُومُ رَجُلٌ بِحَدِّهِ:

فَصْلٌ: قَالَ أَصْبَغُ: سَمِعْت ابْنَ الْقَاسِمِ يَقُولُ: فِي الرَّجُلِ يُقْذَفُ وَهُوَ غَائِبٌ، وَيَقُومُ رَجُلٌ بِحَدِّهِ لَيْسَ ذَلِكَ لَهُ وَإِنْ كَانَ مِنْ قَرَابَتِهِ إلَّا الْوَلَدَ فِي أَبِيهِ أَوْ فِي أُمِّهِ، وَلَكِنْ لَوْ كَانَ السُّلْطَانُ هُوَ الَّذِي سَمِعَهُ مَعَ شَاهِدَيْنِ عَدْلَيْنِ حُدَّ هُوَ وَإِنْ كَانَ الْمَقْذُوفُ غَائِبًا.

.فَصْلٌ فِي إقَامَةُ الْحَدِّ عَلَانِيَةً:

فَصْلٌ: قَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ وَابْنُ حَبِيبٍ: يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ إقَامَةُ الْحَدِّ عَلَانِيَةً وَغَيْرَ سِرٍّ لِيَتَنَاهَى النَّاسُ عَمَّا حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ، وَالْعَمَلُ فِي قَوْلِ مَالِكٍ وَأَهْلِ الْمَدِينَةِ أَنْ يَرْفَعَ يَدَهُ بِالسَّوْطِ، وَأَنْ يَضْرِبَ الضَّرْبَ الْوَجِيعَ وَلَا يَضْرِبُ إلَّا الظَّهْرَ فَقَطْ.
وَقَالَ غَيْرُهُ عَلَى الظَّهْرِ وَالْكَتِفَيْنِ دُونَ غَيْرِهِمَا.
وَفِي مُفِيدِ الْحُكَّامِ قَالَ سَحْنُونٌ: وَإِذَا جَهِلَ السُّلْطَانُ فَضَرَبَ الْمَحْدُودَ عَلَى غَيْرِ الظَّهْرِ فَلَا يُجْزِئُ مِنْ الْحَدِّ، وَلَا شَيْءَ عَلَى السُّلْطَانِ فِي مِثْلِ هَذَا لِأَنَّهُ مِمَّا لَا عَقْلَ فِيهِ.
قَالَ ابْنُ حَبِيبٍ وَالضَّرْبُ فِي الْحُدُودِ كُلِّهَا سَوَاءٌ فِي الْإِيجَاعِ، إلَّا أَنَّ الضَّرْبَ فِي الْخَمْرِ أَشَدُّ ذَلِكَ كُلِّهِ، قَالَ ابْنُ حَبِيبٍ: وَحَدَّثَنِي ابْنُ الْمَاجِشُونِ عَنْ إبْرَاهِيمَ سَعْدٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَالَ: لَمَّا جُلِدَ أَبُو بَكْرَةَ أَمَرَتْ أُمُّهُ بِشَاةٍ فَذُبِحَتْ، ثُمَّ جَعَلَتْ جِلْدَهَا عَلَى ظَهْرِهِ، قَالَ إبْرَاهِيمُ: فَكَانَ أَبِي يَقُولُ مَا ذَاكَ إلَّا مِنْ ضَرْبٍ شَدِيدٍ، قَالَ وَكَانَ أَبِي يَرَى أَنَّ ضَرْبَ الْحَدِّ شَدِيدٌ.
قَالَ ابْنُ حَبِيبٍ: وَحَدَّثَنِي ابْنُ الْمُغِيرَةِ عَنْ الثَّوْرِيِّ عَنْ جَابِرٍ الْجُعْفِيِّ، قَالَ: النِّسَاءُ يُضْرَبْنَ ضَرْبًا دُونَ ضَرْبِ الرِّجَالِ بِسَوْطٍ دُونَ سَوْطِ الرِّجَالِ، وَلَا يُحَدَّدْنَ وَلَا يُمْدَدْنَ وَتُتَّقَى وُجُوهُهُنَّ، قَالَ الثَّوْرِيُّ: وَبَلَغَنِي أَنَّ النِّسَاءَ يُضْرَبْنَ قُعُودًا وَالرِّجَالَ قِيَامًا. قَالَ ابْنُ الْحَاجِبِ: وَالْحُدُودُ كُلُّهَا بِسَوْطٍ وَضَرْبٍ مُعْتَدِلَيْنِ قَاعِدًا غَيْرَ مَرْبُوطٍ عَلَى الْيَدَيْنِ عَلَى الظَّهْرِ وَالْكَتِفَيْنِ دُونَ غَيْرِهِمَا، وَيُجَرَّدُ الرِّجَالُ وَيُتْرَكُ عَلَى الْمَرْأَةِ مَا يَقِيهَا، وَاسْتُحْسِنَ أَنْ تُجْعَلَ الْمَرْأَةُ فِي قُفَّةٍ.
وَفِي مُخْتَصَرِ الْوَاضِحَةِ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ آخَرَ.
قَالَ أَصْبَغُ: وَيَنْبَغِي لِلْقَاضِي إذَا ضَرَبَ النَّاسَ فِي الْحُدُودِ كُلِّهَا أَنْ يَضْرِبَهُمْ قُعُودًا، وَيَأْمُرُ الْجَلَّادَ أَنْ لَا يَرْفَعَ يَدَهُ بِالسَّوْطِ جِدًّا وَلَا يُخَفِّفُهَا جِدًّا وَلَكِنْ وَسَطًا مِنْ ذَلِكَ، وَضَرْبُ الشَّيْخِ وَالشَّابِّ فِي الْحُدُودِ كُلِّهَا سَوَاءٌ فِي الْإِيجَاعِ، وَإِذَا اُقْتُصَّ لِلنَّاسِ فِي جِرَاحَاتِهِمْ دُعِيَ بِطَبِيبٍ رَفِيقٍ يَقْتَصُّ لَهُمْ وَأُجْرَتُهُ عَلَى الْمُقْتَصِّ لَهُ، وَيُسْتَحَبُّ لِلسُّلْطَانِ أَنْ يَخْتَارَ رَجُلًا عَدْلًا لِإِقَامَةِ الْحُدُودِ عَلَى أَهْلِهَا، عَارِفًا بِوُجُوهِ ذَلِكَ لِمَا لِلَّهِ تَعَالَى فِي ذَلِكَ مِنْ حَقٍّ، ذَكَرَهُ الزَّنَاتِيُّ، فَقَدْ كَانَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ يُقِيمُ الْحُدُودَ لِأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ فِي خِلَافَتِهِمَا، وَلَا تُقَامُ الْحُدُودُ إلَّا بِالسَّوْطِ، وَلَا تَكُونُ بِالدِّرَّةِ.
وَفِي مُفِيدِ الْحُكَّامِ: وَلَا يُجْزِئُ فِيهَا الْقَضِيبُ وَلَا الدِّرَّةُ وَلَا الشِّرَاكُ مَكَانَ السَّوْطِ.
قَالَ فِي الْمُدَوَّنَةِ: وَإِنَّمَا كَانَتْ دِرَّةُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لِلْأَدَبِ، فَإِذَا حَضَرَتْ الْحُدُودُ قَرَّبَ السَّوْطَ، قَالَ ابْنُ رُشْدٍ فِي الْبَيَانِ وَفِي سَمَاعِ أَبِي زَيْدٍ: إنَّهُ إنْ ضَرَبَهُ فِي الزِّنَا بِالدِّرَّةِ فِي ظَهْرِهِ أَجْزَاهُ، قَالَ وَمَا هُوَ بِالْبَيِّنِ، قَالَ: وَلَا يُعَادُ الْحَدُّ بِالسَّوْطِ إذَا أُقِيمَ بِالدِّرَّةِ، فَقَدْ يَكُونُ مِنْ الدُّرَرِ مَا هُوَ أَوْجَعُ مِنْ كَثِيرٍ مِنْ السِّيَاطِ، فَلَا يُجْمَعُ عَلَيْهِ حَدَّانِ إلَّا أَنْ تَكُونَ الدِّرَّةُ لَطِيفَةً لَا تُؤْلِمُ وَلَا تُوجِعُ، فَيُعَادُ الْحَدُّ بِالسَّوْطِ.
قَالَ الزَّنَاتِيُّ وَلَا يَعْتَمِدُ بِضَرْبَةٍ مَكَانَ ضَرْبَةٍ قَبْلَهَا بَلْ يُفَرِّقُ عَلَيْهِ الضَّرْبَ، إذْ فِي ذَلِكَ رَاحَةٌ لَهُ، قَالَ: وَقِيلَ: يُفَرِّقُ عَلَى سَائِرِ أَعْضَائِهِ إلَّا الْوَجْهَ وَالْفَرْجَ وَهُوَ خِلَافُ مَا قَدَّمْنَاهُ، قَالَ: وَلَا يُشْطَطُ بِالْأَيْدِي وَبِالْأَرْجُلِ وَلَا يُمَدُّ بِحَالٍ وَلَا تُرْبَطُ يَدَاهُ بَلْ تُتْرَكُ لَهُ يَدْفَعُ بِهِمَا عَنْ نَفْسِهِ، هَذَا فِي الْحُدُودِ.
وَأَمَّا الْعُقُوبَاتُ وَالتَّعْزِيرَاتُ فَمَا عَظُمَ مِنْهَا، فَهُوَ كَمَا تَقَدَّمَ فِي الْحُدُودِ مَا خَفَّ مِنْهَا ضُرِبَ صَاحِبُهُ عَلَى ثِيَابِهِ وَفَوْقَ رَأْسِهِ، وَرُبَّمَا كَانَتْ بِحَبْسٍ دُونَ ضَرْبٍ كَمَا سَيَأْتِي ذِكْرُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَيَكُونُ السَّوْطُ الَّذِي يُجْلَدُ بِهِ مُتَوَسِّطًا لَا جَدِيدًا وَلَا خَلَقًا وَيَكُونُ قَدْ قُطِعَتْ ثَمَرَتُهُ، وَثَمَرَةُ السَّوْطِ عُقْدَةٌ فِي طَرَفِهِ قَالَهُ الْجَوْهَرِيُّ.

.فَصْلٌ فِي الْحِرَابَةِ وَعُقُوبَةِ الْمُحَارِبِينَ وَقُطَّاعِ الطَّرِيقِ وَالْمُغِيرِينَ:

وَالْحِرَابَةُ كُلُّ فِعْلٍ يُقْصَدُ بِهِ أَخْذُ الْمَالِ عَلَى وَجْهٍ يَتَعَذَّرُ مَعَهُ الِاسْتِغَاثَةُ عَادَةً كَإِشْهَارِ السِّلَاحِ وَالْخَنْقِ وَسَقْيِ السَّكْرَانِ لِأَخْذِ الْمَالِ، وَإِنْ قَتَلَ عَبْدًا أَوْ ذِمِّيًّا عَلَى مَا مَعَهُ وَإِنْ قَلَّ فَهُوَ مُحَارَبٌ.
وَفِي الْمُنْتَقَى قَالَ الْقَاضِي أَبُو أَحْمَدَ: الْمُحَارَبُ هُوَ الْقَاطِعُ لِلطَّرِيقِ الْمُخِيفُ لِلسَّبِيلِ، الشَّاهِرُ السِّلَاحَ لِطَلَبٍ فَإِنْ أُعْطِيَ وَإِلَّا قَاتَلَ عَلَيْهِ، كَانَ فِي الْحَضَرِ أَوْ خَارِجَ الْمِصْرِ، قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ وَأَشْهَبُ: وَقَدْ يَكُونُ مُحَارَبًا، وَإِنْ خَرَجَ بِغَيْرِ سَبِيلٍ وَفَعَلَ فِعْلَ الْمُحَارَبِينَ مِنْ التَّلَصُّصِ وَأَخْذِ الْمَالِ مُكَابَرَةً، وَيَكُونُ الْوَاحِدُ مُحَارَبًا.
وَفِي الْعُتْبِيَّةِ وَالْمَوَّازِيَّةِ: أَنَّ مَنْ خَرَجَ لِقَطْعِ السَّبِيلِ بِغَيْرِ مَالٍ فَهُوَ مُحَارَبٌ، مِثْلُ أَنْ يَقُولَ: لَا أَدَعُ هَؤُلَاءِ يَخْرُجُونَ إلَى الشَّامِ أَوْ إلَى مِصْرَ أَوْ إلَى مَكَّةَ فَهَذَا مُحَارَبٌ، وَكَذَا كُلُّ مَنْ حَمَلَ السِّلَاحَ عَلَى النَّاسِ أَوْ أَخَافَهُمْ لِغَيْرِ عَدَاوَةٍ وَلَا إثَارَةٍ فَهُوَ مُحَارَبٌ، قَالَهُ ابْنُ الْقَاسِمِ رَحِمَهُ اللَّهُ.
مَسْأَلَةٌ:
قَالَ الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ: قَاطِعُ الطَّرِيقِ أَحَقُّ بِالْقِتَالِ مِنْ الرُّومِ.
مَسْأَلَةٌ:
قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: وَقَتْلُ الْغِيلَةِ أَيْضًا مِنْ الْحِرَابَةِ مِثْلُ أَنْ يَغْتَالَ رَجُلًا أَوْ صَبِيًّا فَيَخْدَعَهُ حَتَّى يُدْخِلَهُ مَوْضِعًا فَيَأْخُذَ مَا مَعَهُ فَهُوَ كَالْحِرَابَةِ.
مَسْأَلَةٌ:
وَمَنْ عَرَضَ لَهُ لِصٌّ لِيَغْصِبَهُ مَالَهُ فَرَمَاهُ وَنَزَعَ عَيْنَهُ فَلَا دِيَةَ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ وَلَا فِي نَفْسِهِ.
مَسْأَلَةٌ:
قَالَ مَالِكٌ: وَمَنْ لَقِيَ رَجُلًا عِنْدَ الْعَتَمَةِ أَوْ فِي السَّحَرِ فِي خَلْوَةٍ فَنَزَعَ ثَوْبَهُ فَلَا قَطْعَ عَلَيْهِ، إلَّا أَنْ يَكُونَ مُحَارَبًا يُرِيدُ لِأَنَّ هَذَا مُخْتَلِسٌ، وَلَا قَطْعَ عَلَى الْمُخْتَلِسِ.
مَسْأَلَةٌ:
وَلَوْ دَخَلَ دَارًا بِاللَّيْلِ وَأَخَذَ مَالًا مُكَابَرَةً وَمَنَعَ مِنْ الِاسْتِغَاثَةِ فَهُوَ مُحَارَبٌ.
مَسْأَلَةٌ:
وَلَوْ دَخَلَ عَلَى رَجُلٍ فِي دَارِهِ فَضَرَبَهُ وَكَابَرَهُ حَتَّى ضَرَبَهُ أَوْ جَرَحَهُ أَوْ قَتَلَهُ، ثُمَّ خَرَجَ وَلَمْ يَنْهَبْ مَتَاعًا وَكَانَ ذَلِكَ لِعَدَاوَةٍ فَلَيْسَ بِمُحَارَبٍ وَفِيهِ الْقِصَاصُ، وَلَيْسَ كُلُّ غَاصِبٍ مُحَارَبًا.
مَسْأَلَةٌ:
قَالَ مَالِكٌ: وَيُنَاشِدُهُ اللَّهُ ثَلَاثًا فَإِنْ عَاجَلَهُ قَاتَلَهُ.
مَسْأَلَةٌ:
وَتَثْبُتُ الْحِرَابَةُ بِشَهَادَةِ رَجُلَيْنِ وَلَوْ مِنْ الرُّفْقَةِ، إلَّا أَنْ يُضِيفَ الْجِنَايَةَ لِأَنْفُسِهِمَا.
مَسْأَلَةٌ:
وَفِي التَّبْصِرَةِ لِلَّخْمِيِّ: وَتَجُوزُ عَلَى الْمُحَارَبِينَ شَهَادَةُ مَنْ حَارَبُوهُ، وَهَذَا إذَا أَقَرَّ الْمُحَارَبُونَ بِالْحِرَابَةِ وَادَّعَوْا الْمَالَ لِأَنْفُسِهِمْ، أَوْ أَنْكَرُوا الْحِرَابَةَ جُمْلَةً، لِأَنَّهُمْ إنْ أَنْكَرُوا الْحِرَابَةَ جُمْلَةً فَقَدْ أَزَالُوا الظِّنَّةَ، وَإِنْ صَدَّقُوهُمْ فَقَدْ أَقَرُّوا بِقَطْعِ الطَّرِيقِ، فَتَجُوزُ شَهَادَةُ أَهْلِ الرُّفْقَةِ عَلَيْهِمْ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ وَإِنْ اعْتَرَفُوا بِالْحِرَابَةِ.
وَإِنْ كَانَ الْمَتَاعُ لِأَهْلِ الرُّفْقَةِ اُنْتُزِعَ مِنْ أَيْدِيهِمْ، وَكَانَ الْمَقَالُ فِيهِ لِأَهْلِ الرُّفْقَةِ، فَإِنْ ادَّعَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ شَيْئًا وَسَلَّمَ الْآخَرَانِ أَخَذَهُ، وَإِنْ تَنَازَعَ اثْنَانِ شَيْئًا تَحَالَفَا وَاقْتَسَمَاهُ، وَإِنْ نَكَلَا اقْتَسَمَاهُ، وَإِنْ نَكَلَ أَحَدُهُمَا كَانَ لِلْآخَرِ، وَإِنْ بَقِيَ شَيْءٌ لَا يَدَّعِيهِ أَحَدٌ وُقِفَ، وَإِنْ تَنَازَعَ اثْنَانِ أَحَدُهُمَا مِنْ أَهْلِ الرُّفْقَةِ وَالْآخَرُ مِنْ غَيْرِهِمْ، كَانَ لِمَنْ هُوَ مِنْ أَهْلِ الرُّفْقَةِ دُونَ الْآخَرِ وَيَحْلِفُ إنْ أَتَى الْآخَرُ بِشُبْهَةٍ.
وَأَمَّا إنْ حُدَّ الْمُحَارَبُونَ وَمَعَهُمْ مَالٌ بَعْدَ افْتِرَاقِ الرُّفْقَةِ وَلَمْ يَعْلَمُوا، فَادَّعَى الْمَالَ رَجُلَانِ تَحَالَفَا وَكَانَ بَيْنَهُمَا، وَمَنْ نَكَلَ كَانَ لِمَنْ حَلَفَ مِنْهُمَا، قَالَ مُحَمَّدٌ وَإِنْ نَكَلَا لَمْ يَكُنْ لَهُمَا فِيهِ شَيْءٌ، وَنُكُولُهُمَا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ بِخِلَافِ الَّتِي قَبْلَهَا، لِأَنَّ أُولَئِكَ كَانُوا أَهْلَ الْمَالِ وَالرُّفْقَةُ حَاضِرُونَ، وَهُنَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ لِغَيْرِهِمَا.
وَمَنْ ضَرَبَ رَجُلًا بِعَصَا لِأَخْذِ مَا مَعَهُ فَمَاتَ فَإِنَّهُ يُقْتَلُ، وَإِنْ لَمْ يُرِدْ قَتْلَهُ لِأَنَّهُ مِنْ الْحِرَابَةِ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ لِأَخْذِ مَا مَعَهُ، لَكِنْ لِعَدَاوَةٍ بَيْنَهُمَا وَشَرٍّ فَفِيهِ الْقِصَاصُ أَوْ الْعَفْوُ قَالَهُ مَالِكٌ.
مَسْأَلَةٌ:
وَمِنْ الْعُتْبِيَّةِ فِي سَمَاعِ أَشْهَبَ عَنْ مَالِكٍ: فِيمَنْ لَقِيَ رِجَالًا فَأَطْعَمَهُمْ السَّوِيقَ فَمَاتُوا، فَقَالَ: مَا أَرَدْت قَتْلَهُمْ، وَإِنَّمَا أَرَدْت أَخْذَ مَا مَعَهُمْ، وَإِنَّمَا أَعْطَانِي السَّوِيقَ رَجُلٌ وَقَالَ: إنَّهُ يُسْكِرُ، فَقَالَ مَالِكٌ: يُقْتَلُ، قَالَ فِي كِتَابِ مُحَمَّدٍ وَلَوْ قَالَ: مَا أَرَدْت قَتْلَهُمْ وَلَا أَخْذَ أَمْوَالِهِمْ وَإِنَّمَا هُوَ سَوِيقٌ وَلَا شَيْءَ فِيهِ إلَّا أَنَّهُمْ لَمَّا مَاتُوا أُخِذَتْ أَمْوَالُهُمْ، قَالَ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ غَيْرُ رَدِّ الْمَالِ.
فَرْعٌ:
قَالَ مَالِكٌ فِي الْمَوَّازِيَّةِ: وَالْمُعْلِنُ وَالْمُسْتَخْفِي مِنْ الْمُحَارَبِينَ سَوَاءٌ، إذَا أُخِذَ الْمَالُ. وَالرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ وَالْأَحْرَارُ وَالْعَبِيدُ، وَالْمُسْلِمُونَ وَأَهْلُ الذِّمَّةِ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ.
مَسْأَلَةٌ:
وَإِذَا أَخَذَ السَّارِقُ الْمَتَاعَ لَيْلًا فَطَلَبَ رَبُّ الْمَالِ الْمَتَاعَ مِنْهُ فَكَابَرَهُ فَهُوَ مُحَارَبٌ.
مَسْأَلَةٌ:
وَلَوْ لَقِيَ رَجُلٌ رَجُلًا مَعَهُ طَعَامٌ فَسَأَلَهُ طَعَامًا، فَأَتَى عَلَيْهِ فَكَتَّفَهُ وَنَزَعَ مِنْهُ الطَّعَامَ وَنَزَعَ ثَوْبَهُ، فَقَالَ: هَذَا يُشْبِهُ الْمُحَارَبَ يُرِيدُ أَنَّهُ مُغَالَبٌ عَلَى أَخْذِ الْمَالِ مُكَابَرَةً وَصِفَتُهُ صِفَةُ الْمُحَارَبِ.
فرع:
وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ الْمُحَارَبَ فِي الْمِصْرِ وَغَيْرِ الْمِصْرِ سَوَاءٌ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ الْقَاسِمِ وَأَشْهَبَ.
وَقَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ: لَا يَكُونُ مُحَارَبًا إلَّا بِقَطْعِهِ فِي الصَّحْرَاءِ وَالْبَرِّيَّةِ النَّائِيَةِ عَنْ الْبَلَدِ.
وَقَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ الْمَاجِشُونِ: لَا يَكُونُ مُحَارَبِينَ فِي الْقَرْيَةِ لِأَنَّهُمْ لَا يُؤْذُونَ إلَّا الْوَاحِدَ وَالْمُسْتَضْعَفَ، وَلَيْسَ فِي الْقُرَى حِرَابَةٌ.
مَسْأَلَةٌ:
وَيَسْتَحِقُّ الْمُحَارَبُ بِأَخْذِ الْمَالِ الْيَسِيرِ مَا يَسْتَحِقُّهُ بِأَخْذِ الْمَالِ الْكَثِيرِ.
مَسْأَلَةٌ:
قَالَ ابْنُ الْمَوَّازِ: لَا يَخْتَلِفُ مَالِكٌ وَأَصْحَابُهُ فِي إجَازَةِ قَتْلِ الْمُحَارَبِينَ، وَأَنَّ مَنْ قَتَلُوهُ فَهُوَ خَيْرُ قَتِيلٍ، وَمَنْ قُتِلَ مِنْهُمْ فَهُوَ شَرُّ قَتِيلٍ، قَالَ مَالِكٌ: وَيُنَاشِدُهُ اللَّهَ تَعَالَى ثَلَاثًا فَإِنْ عَاجَلَهُ قَاتَلَهُ.
وَقَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ: لَا يَدْعُوهُ وَلْيَبْرُزْ إلَى قَتْلِهِ، قَالَ مَالِكٌ وَابْنُ الْقَاسِمِ وَأَشْهَبُ: جِهَادُهُمْ جِهَادٌ.
وَقَالَ عَنْهُ أَشْهَبُ: مِنْ أَفْضَلِ الْجِهَادِ وَأَعْظَمِهِ أَجْرًا، قَالَ مَالِكٌ فِي أَعْرَابٍ قَطَعُوا الطَّرِيقَ: جِهَادُهُمْ أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ جِهَادِ الرُّومِ، وَقَدْ قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «مَنْ قُتِلَ دُونَ مَالِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ»، وَإِذَا قُتِلَ دُونَ مَالِهِ وَمَالِ الْمُسْلِمِينَ فَهُوَ أَعْظَمُ لِأَجْرِهِ مِنْ الْمُنْتَقَى.
مَسْأَلَةٌ:
وَإِذَا ظَفِرَ بِالْمُحَارَبِ فَلَا يَلِي قَتْلَهُ، وَيَرْفَعُهُ إلَى الْإِمَامِ إلَّا أَنْ يَخَافَ أَنْ لَا يُقِيمَ الْإِمَامُ عَلَيْهِ الْحُكْمَ فَلْيَلِ مِنْ ذَلِكَ مَا كَانَ يَلِيهِ الْإِمَامُ.
مَسْأَلَةٌ:
فَإِنْ طَلَبَ اللِّصُّ الشَّيْءَ الْيَسِيرَ مِنْ الْمَالِ كَالطَّعَامِ وَالثَّوْبِ وَمَا خَفَّ، فَقَدْ قَالَ مَالِكٌ: يُعْطَاهُ وَلَا يُقَاتَلُ.
وَقَالَ سَحْنُونٌ: لَا يُعْطَى شَيْئًا وَإِنْ قَلَّ وَلَا يُقَاتَلُ؛ لِأَنَّهُ أَقَلُّ لِطَمَعِهِمْ.
وَقَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ: لَا يُعْطَى اللُّصُوصُ شَيْئًا وَإِنْ قَلَّ، وَهَذَا فِي الْعُدَدِ الْمُنَاصِبُ لَهُمْ الرَّاجِي لِغَلَبَتِهِمْ، وَأَمَّا مَنْ يُوقِنُ أَنَّهُ لَا قِوَامَ لَهُ وَلَا عِدَّةَ وَلَا مُنَاصَبَةَ فَهُوَ كَالْأَسِيرِ، وَعَسَى أَنْ يُعْذَرَ فِيمَا يُعْطِيهِمْ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
مَسْأَلَةٌ:
وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُؤَمَّنَ الْمُحَارَبُ إذَا سَأَلَ الْإِمَامَ بِخِلَافِ الْمُشْرِكِ، وَلَا يَجُوزُ لِلْإِمَامِ أَنْ يُؤَمِّنَ الْمُحَارَبَ وَيُنْزِلَهُ عَلَى ذَلِكَ، وَلَا أَمَانَ لَهُ عَلَى ذَلِكَ لِأَنَّهُ فِي سُلْطَانِك وَعَلَى دِينِك، وَإِنَّمَا امْتَنَعَ لِعِزَّتِهِ لَا لِدِينٍ وَلَا مِلَّةٍ، رَوَاهُ ابْنُ سَحْنُونٍ عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ.
فرع:
وَإِذَا امْتَنَعَ الْمُحَارَبُ بِنَفْسِهِ حَتَّى أُعْطِيَ الْأَمَانَ فَأَخَذَ عَلَى ذَلِكَ، قَالَ ابْنُ الْمَوَّازِ: فَقِيلَ يَتِمُّ لَهُ ذَلِكَ، وَقِيلَ: لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ وَيُؤْخَذُ بِحَقِّ اللَّهِ تَعَالَى.
وَقَالَهُ أَصْبَغُ سَوَاءٌ امْتَنَعَ فِي حِصْنٍ أَوْ مَرْكَبٍ أَوْ عَلَى فَرَسٍ، سَوَاءٌ أَمَّنَهُ السُّلْطَانُ أَوْ غَيْرُهُ، قَالَ: لِأَنَّ حَقَّ اللَّهِ تَعَالَى لَا يَزُولُ إلَّا بِالتَّوْبَةِ قَبْلَ أَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ.
مَسْأَلَةٌ:
وَإِذَا فَرَّ اللُّصُوصُ فَقَدْ رَوَى أَصْبَغُ: إنْ كَانَ قَتَلَ أَحَدًا فَلْيُتْبَعْ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ قَتَلَ أَحَدًا فَمَا أُحِبُّ أَنْ يُتْبَعْ بِقَتْلٍ.
وَقَالَ سَحْنُونٌ: يُتْبَعُونَ وَإِنْ بَلَغُوا بِرَكَ الْغِمَادِ، وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ يُتْبَعُ مُنْهَزِمٌ وَيَقْتُلُونَ مُقْبِلِينَ وَمُدْبِرِينَ وَمُنْهَزِمِينَ وَلَيْسَ هُرُوبُهُمْ تَوْبَةً وَإِنَّمَا التَّذْفِيفُ.
مَسْأَلَةٌ:
فَإِنْ لَمْ يَسْتَحِقَّ هَزِيمَتَهُمْ وَخِيفَ كَرَّتُهُنَّ ذُفِّفَ عَلَى جَرِيحِهِمْ وَإِنْ اسْتَحَقَّتْ الْهَزِيمَةَ فَجَرِيحُهُمْ أَسِيرٌ وَالْحُكْمُ فِيهِمْ إلَى الْإِمَامِ.
وَفِي الْمَوَّازِيَّةِ قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: لَا يُجْهَزُ عَلَى جَرِيحِهِمْ وَلَمْ يَرُدَّ سَحْنُونٌ.
مَسْأَلَةٌ:
وَإِذَا أَخَذَ اللُّصُوصُ قَبْلَ التَّوْبَةِ لَزِمَهُمْ الْحَدُّ وَهُوَ: الْقَتْلُ وَالصَّلْبُ أَوْ قَطْعُ الْيَدِ وَالرِّجْلِ مِنْ خِلَافٍ أَوْ النَّفْيُ وَالْحَبْسُ، وَالْأَصْلُ فِي ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا} [المائدة: 33]، الْآيَةَ قَالَ ابْنُ الْمَوَّازِ، وَابْنُ سَحْنُونٍ عَنْ مَالِكٍ: إنَّ ذَلِكَ عَلَى التَّخْيِيرِ، وَهُوَ تَخْيِيرٌ مُتَعَلِّقٌ بِاجْتِهَادِ الْإِمَامِ وَمَصْرُوفٌ إلَى نَظَرِهِ، وَمَشُورَةِ الْفُقَهَاءِ بِمَا يَرَاهُ لِلْمَصْلَحَةِ وَالذَّبِّ لِلْفَسَادِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ عَلَى هَوَى الْإِمَامِ وَلَكِنْ عَلَى الِاجْتِهَادِ، وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ عَلَى الِاجْتِهَادِ فَلِلْإِمَامِ أَنْ يَقْتُلَ الْمُحَارَبَ وَإِنْ لَمْ يَقْتُلْ وَلَا أَخَذَ مَالًا مِنْ أَحَدٍ.
فرع:
قَالَ الْبَاجِيُّ: وَلَا يَخْلُو مِنْ أَحَدِ الْأَمْرَيْنِ إمَّا أَنْ يَكُونَ طَالَ أَمْرُهُ أَوْ أَخَافَ السَّبِيلَ أَوْ أَخَذَ بِحَضْرَةِ خُرُوجِهِ، فَإِنْ كَانَ طَالَ أَمْرُهُ، وَأَخَافَ السَّبِيلَ، وَلَمْ يَقْتُلْ وَلَا أَخَذَ مَالًا، فَقَدْ قَالَ مُحَمَّدٌ: هُوَ مُخَيَّرٌ فِي قَتْلِهِ أَوْ صَلْبِهِ، أَوْ قَطْعِهِ مِنْ خِلَافٍ أَوْ ضَرْبِهِ أَوْ نَفْيِهِ، وَذَلِكَ بِقَدْرِ ذَنْبِهِ، وَرَوَى ابْنُ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ: هُوَ مُخَيَّرٌ فِي ذَلِكَ إذَا أَخَذَ حَضْرَةَ ذَلِكَ وَبَعْدَ طُولِ زَمَانِ.
قَالَ أَشْهَبُ فِي الَّذِي أَخَذَ بِحَضْرَةِ ذَلِكَ وَلَمْ يَقْتُلْ وَلَمْ يَأْخُذْ الْمَالَ، هَذَا الَّذِي قَالَ فِيهِ مَالِكٌ: أَوْ أَخَذَ فِيهِ بِأَيْسَرَ ذَلِكَ، قَالَ عَنْهُ ابْنُ الْقَاسِمِ: أَحَبُّ إلَيَّ أَنْ يُجْلَدَ وَيُنْفَى وَيُحْبَسَ حَيْثُ نُفِيَ إلَيْهِ، قَالَ أَشْهَبُ: فَإِنْ رَأَى الْإِمَامُ أَنْ يَقْتُلَهُ أَوْ يَقْطَعَهُ مِنْ خِلَافٍ، فَذَلِكَ لَهُ عَلَى الِاجْتِهَادِ فِيهِ.
قَالَ الْبَاجِيُّ: فَيَقْتَضِي هَذَا أَنَّهُ عَلَى التَّخْيِيرِ بِشَرْطِ الِاجْتِهَادِ.
فرع:
وَأَمَّا إنْ طَالَ أَمْرُهُ وَأَخَذَ الْمَالَ وَلَمْ يُقْتَلْ بِحَدٍّ فَقَدْ قَالَ مَالِكٌ وَابْنُ الْقَاسِمِ فِي الْمَوَّازِيَّةِ: يُقْتَلُ وَلَا يَخْتَارُ الْإِمَامُ فِيهِ غَيْرَ الْقَتْلِ، وَقَالَ أَشْهَبُ: وَهُوَ مُخَيَّرٌ فِي قَتْلِهِ أَوْ صَلْبِهِ أَوْ قَطْعِهِ مِنْ خِلَافٍ، وَرَوَى عَنْهُ ابْنُ وَهْبٍ: أَنَّ الْإِمَامَ مُخَيَّرٌ فِي أَيِّ الْخِصَالِ الْأَرْبَعِ.
تنبيه:
قَالَ مُحَمَّدٌ: وَلَا يُجْلَدُ بِالسِّيَاطِ قَبْلَ الْقَتْلِ، قَالَ أَشْهَبُ فِي كِتَابِ ابْنِ سَحْنُونٍ: وَلَا تُقْطَعُ يَدُهُ وَلَا رِجْلُهُ مَعَ الْقَتْلِ.
فرع:
وَالصَّلْبُ هُوَ الرَّبْطُ عَلَى الْجُذُوعِ، وَعِنْدَ ابْنِ الْقَاسِمِ أَنَّهُ يَصْلُبُهُ ثُمَّ يَقْتُلُهُ بِطَعْنَةٍ، وَرَوَاهُ ابْنُ حَبِيبٍ عَنْ مَالِكٍ.
وَقَالَ أَشْهَبُ: بِقَتْلِهِ يَصْلُبُهُ، وَالصَّلْبُ مُخْتَصٌّ بِالرَّجُلِ دُونَ الْمَرْأَةِ الْمُحَارَبَةِ.
فرع:
وَلَوْ حَبَسَهُ الْإِمَامُ لِيَصْلُبَهُ فَمَاتَ فِي السِّجْنِ فَإِنَّهُ لَا يَصْلُبُهُ وَلَوْ قَتَلَهُ أَحَدٌ فِي السِّجْنِ أَوْ قَتَلَهُ الْإِمَامُ فَلْيَصْلُبْهُ، وَالْفَرْقُ أَنَّهُ إذَا مَاتَ حَتْفَ أَنْفِهِ فَقَدْ فَاتَتْ الْعُقُوبَةُ فِيهِ، فَلَا مَعْنَى لِصَلْبِهِ، لِأَنَّهُ إنَّمَا هُوَ صِفَةٌ مِنْ صِفَاتِ الْقَتْلِ أَوْ تَشْنِيعٌ لِلْقَتْلِ بَعْدَ وُقُوعِهِ، فَإِذَا فَاتَ الْقَتْلُ بِالْمَوْتِ سَقَطَتْ صِفَتُهُ وَتَوَابِعُهُ، وَأَمَّا إذَا قَتَلَ فِي السِّجْنِ فَقَدْ وَجَبَ الْقَتْلُ فَتَعَقَّبَهُ تَوَابِعُهُ.
فرع:
وَاخْتُلِفَ هَلْ يَبْقَى عَلَى الْجُذُوعِ حَتَّى تَفْنَى الْخَشَبَةُ وَتَأْكُلُهُ الْكِلَابُ؟ أَوْ يُمَكَّنُ أَوْلِيَاؤُهُ أَوْ غَيْرُهُمْ مِنْ غُسْلِهِ وَدَفْنِهِ؟ وَالْأَوَّلُ: رِوَايَةُ ابْنِ حَبِيبٍ عَنْ ابْنِ الْمَاجِشُونِ، وَالثَّانِي رِوَايَةُ ابْنِ سَحْنُونٍ عَنْ أَبِيهِ.
مَسْأَلَةٌ:
وَالنَّفْيُ مُخْتَصٌّ بِالْأَحْرَارِ الذُّكُورِ وَلَا نَفْيَ عَلَى الْعَبِيدِ قَالَهُ ابْنُ الْقَاسِمِ وَأَشْهَبُ.
مَسْأَلَةٌ:
فَإِذَا أَخَذَ الْمُحَارَبُ قَبْلَ أَنْ يَتُوبَ، فَقَدْ قَالَ مَالِكٌ: لَا عَفْوَ فِيهِ لِإِمَامٍ وَلَا لِوَلِيِّ قَتِيلٍ وَلَا لِرَبِّ مَتَاعٍ، وَهُوَ حَدٌّ لِلَّهِ لَا شَفَاعَةَ فِيهِ، فَلَوْ أَسْلَمَ الْقَاضِي الْمُحَارَبُ إلَى أَوْلِيَاءِ الْمَقْتُولِ فَعَفَوْا عَنْهُ، فَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ وَسَحْنُونٌ: هُوَ حُكْمٌ قَدْ نَفَذَ لَا يُنْتَقَضُ لِلِاخْتِلَافِ فِيهِ.
وَقَالَ أَشْهَبُ: يُنْقَضُ وَيُقْتَلُ وَلَا خِلَافَ أَنَّهُ لَا عَفْوَ فِيهِ، قَالَ ابْنُ الْمَاجِشُونِ: قَالَ الشَّيْخُ فِي نَوَادِرِهِ يُرِيدُ أَشْهَبَ أَنَّ الشَّاذَّ لَا يُعَدُّ خِلَافًا.
مَسْأَلَةٌ:
إذَا قَتَلَ وَاحِدٌ مِنْ اللُّصُوصِ قَتِيلًا، قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: فَقَدْ اسْتَوْجَبَ جَمِيعَهُمْ الْقَتْلُ وَلَوْ كَانُوا مِائَةَ أَلْفٍ، وَذَكَرَ الْقَاضِي أَبُو مُحَمَّدٍ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ فَقَالَ: إذَا قَتَلَ أَحَدُهُمْ وَكَانَ سَائِرُهُمْ رِدْءًا لَهُمْ وَأَعْوَانًا لَمْ يُبَاشِرُوا الْقَتْلَ فَإِنَّ جَمِيعَهُمْ يُقْتَلُونَ، قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: وَلَوْ تَابُوا كُلُّهُمْ، فَإِنَّ لِلْوَلِيِّ قَتْلَهُمْ أَجْمَعِينَ، وَلَهُمْ قَتْلُ مَا شَاءُوا وَالْعَفْوُ عَمَّا شَاءُوا عَلَى دِيَةٍ أَوْ غَيْرِ دِيَةٍ.
وَقَالَ أَشْهَبُ: إنْ تَابُوا قَبْلَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِمْ سَقَطَ عَنْهُمْ حَدُّ الْحِرَابَةِ، وَلَا يُقْتَلُ مِنْهُمْ إلَّا مَنْ وَلِيَ الْقَتْلَ أَوْ أَعَانَ عَلَيْهِ، وَلَا يُقْتَلُ الْآخَرُونَ وَيُضْرَبُ كُلٌّ مِنْهُمْ مِائَةً وَيُسْجَنُ عَامًا.
مَسْأَلَةٌ:
وَلَا يُرَاعَى بِالْقَتْلِ بِالْحِرَابَةِ تَكَافُؤُ الدِّمَاءِ فَيُقْتَلُ الْمُسْلِمُ بِالذِّمِّيِّ، وَالْحُرُّ بِالْعَبْدِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِقَتْلِ قِصَاصٍ، وَإِنَّمَا هُوَ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى.
مَسْأَلَةٌ:
وَإِذَا أَخَذَ الْمُحَارَبُونَ مَالًا فَقُدِّرَ عَلَى أَحَدِهِمْ قَبْلَ التَّوْبَةِ فَإِنَّهُ يَلْزَمُهُ غُرْمُ جَمِيعِ ذَلِكَ أَخَذَ مِنْ ذَلِكَ حِصَّةً أَوْ لَمْ يَأْخُذْ، وَلَوْ تَابَ أَحَدُهُمْ وَقَدْ اقْتَسَمُوا الْمَالَ فَإِنَّ هَذَا التَّائِبُ يَغْرَمُ جَمِيعَ الْمَالِ، لِأَنَّ أَخْذَ الْمَالِ إنَّمَا قَوِيَ بِهِمْ.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ: لَا نَرَى عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ إلَّا مَا أَخَذَ، قَالَ الْبَاجِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: هَذَا سَلَمُ أَشْهَبَ فِي الْمَالِ، وَفَرَّقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْقَتْلِ، وَسَوَّى بَيْنَهُمَا ابْنُ الْقَاسِمِ فِي أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ يُؤْخَذُ بِجَمِيعِ مَا جَنَى أَصْحَابُهُ.

.فَصْلٌ فِيمَنْ تَعَدَّى عَلَى دَارٍ فَكَسَرَ بَابَهَا وَضَرَبَ صَاحِبَ الدَّارِ وَانْتَهَبَ مَا فِيهَا:

فَصْلٌ: وَفِي أَحْكَامِ ابْنِ سَهْلٍ: فِيمَنْ تَعَدَّى عَلَى دَارٍ فَكَسَرَ بَابَهَا وَضَرَبَ صَاحِبَ الدَّارِ وَانْتَهَبَ مَا فِيهَا، وَوَقَعَتْ فِي ذَلِكَ فَتْوَى رُفِعَتْ إلَى الْفُقَهَاءِ وَصُورَتُهَا، أَنَّهُ شَهِدَ عِنْدَ الْقَاضِي شُهُودٌ أَنَّهُمْ قَالُوا لِرَجُلٍ: نَبِّئْنَا مَا سَمِعْنَا عَنْ وَلَدَيْك مِنْ مَسِيرِهِمْ بِفُلَانٍ وَفُلَانٍ إلَى دَارِ فُلَانٍ، فَكَسَرُوا الْبَابَ وَهَجَمُوا عَلَى الْعِيَالِ وَانْتَهَبُوا مَا فِي الدَّارِ، وَضَرَبُوا صَاحِبَ الدَّارِ حَتَّى أَشْفَى عَلَى الْمَوْتِ، فَقَالَ وَلَدُ الرَّجُلِ: نَعَمْ فَعَلْنَا ذَلِكَ، وَشَهِدَ الشُّهُودُ أَنَّهُمْ يَعْرِفُونَ الْفَعَلَةَ بِأَعْيَانِهِمْ وَأَسْمَائِهِمْ، مِنْ أَهْلِ الْفَسَادِ وَشُرْبِ الْخَمْرِ وَالْعِيَافَةِ.
فَأَجَابَ الْفُقَهَاءُ: أَنَّهُ يَجِبُ الْأَدَبُ الْبَلِيغُ وَالْحَبْسُ الطَّوِيلُ عَلَى الْفَعَلَةِ الْمَشْهُودِ عَلَيْهِمْ إنْ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُمْ مَدْفَعٌ، وَإِنْ ذَكَرُوا مَدْفَعًا حُبِسُوا وَكَشَفُوا عَنْ مَدْفَعِهِمْ وَهُمْ فِي الْحَبْسِ، فَإِنَّ مِثْلَ هَذَا شَنِيعٌ يَكُونُ فِي مَجْمَعٍ وَحَاضِرَةٍ فَيَسْتَحِقُّونَ الْأَدَبَ الْبَلِيغَ. وَمَنْ شُهِدَ عَلَيْهِ بِشُرْبِ الْخَمْرِ مِنْهُمْ فَعَلَيْهِ الْحَدُّ وَزِيَادَةٌ فِي الْأَدَبِ لِعَظِيمِ مَا انْتَهَكُوا، قَالَهُ عُبَيْدُ اللَّهِ وَابْنُ وَلِيدٍ وَابْنُ لُبَابَةَ وَسَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ، قَالَ الْقَاضِي أَبُو الْأَصْبَغِ بْنُ سَهْلٍ: سَكَتُوا فِي جَوَابِهِمْ عَنْ الْحُكْمِ عَلَى الْمَشْهُودِ عَلَيْهِمْ بِغُرْمِ مَا انْتَهَبُوا مِنْ الدَّارِ وَهُوَ مِمَّا يَجِبُ بَيَانُهُ.
وَقَالَ ابْنُ حَبِيبٍ فِي كِتَابِ الْأَحْكَامِ: سَأَلْت مُطَرِّفًا وَابْنَ الْمَاجِشُونِ عَنْ الْقَوْمِ يُغِيرُونَ عَلَى مَنْزِلِ الرَّجُلِ فَيَعْدُونَ عَلَيْهِ، وَالنَّاسُ يَنْظُرُونَ إلَيْهِ فَيَنْتَهِبُونَهُ وَيَذْهَبُونَ بِمَا كَانَ فِيهِ مِنْ مَالٍ أَوْ ثِيَابٍ أَوْ طَعَامٍ أَوْ مَا أَشْبَهَ ذَلِكَ، غَيْرَ أَنَّ الشُّهُودَ لَا يَشْهَدُونَ عَلَى مُعَايَنَةِ مَا يَذْهَبُونَ بِهِ إلَّا أَنَّهُمْ يَشْهَدُونَ عَلَى غَارَتِهِمْ وَإِنْهَابِهِمْ، فَقَالَ لِي مُطَرِّفٌ: أَرَى أَنْ يَحْلِفَ الْغَارُّ عَلَيْهِ عَلَى مَا ادَّعَى مِمَّا يُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ، وَأَنَّ مِثْلَهُ يَمْلِكُهُ مِمَّا لَا يُسْتَنْكَرُ وَيُصَدَّقُ فِيهِ.
وَقَالَ ابْنُ الْمَاجِشُونِ: لَا أَرَى أَنْ يُعْطَى بِقَوْلِهِ وَيَمِينِهِ وَإِنْ ادَّعَى مَا يُشْبِهُ حَتَّى يُقِيمَ بَيِّنَةً بِدَعْوَاهُ، فَسَأَلْت عَنْ ذَلِكَ أَصْبَغَ بْنَ الْفَرَجِ، فَأَخْبَرَنِي عَنْ ابْنِ الْقَاسِمِ بِمِثْلِ قَوْلِ ابْنِ الْمَاجِشُونِ، وَاحْتَجَّ بِقَوْلِ مَالِكٍ فِي مُنْتَهِبِ الصُّرَّةِ بِحَضْرَةِ شُهُودٍ، ثُمَّ اخْتَلَفَا فِي عِدَّةِ مَا كَانَ فِيهَا وَلَا يَعْرِفُهُ الشُّهُودُ، قَالَ مَالِكٌ: الْقَوْلُ قَوْلُ الْمُنْتَهِبِ مَعَ يَمِينِهِ.
قَالَ ابْنُ حَبِيبٍ: وَقَوْلُ مُطَرِّفٍ فِي ذَلِكَ أَحَبُّ إلَيَّ وَبِهِ أَقُولُ.
وَقَالَهُ ابْنُ كِنَانَةَ وَالظَّالِمُ أَحَقُّ أَنْ يُحْمَلَ عَلَيْهِ.
مَسْأَلَةٌ:
قَالَ ابْنُ حَبِيبٍ: قُلْت لِمُطَرِّفٍ فَإِنْ أَخَذَ أَحَدٌ مِنْ هَؤُلَاءِ الْمُغِيرِينَ أَيَضْمَنُ مَا أَغَارُوا عَلَيْهِ؟ إذَا شَهِدَتْ بَيِّنَةٌ أَوْ حَلَفَ الْمُغَارُ عَلَيْهِ فِيمَا يُشْبِهُ، قَالَ: نَعَمْ يَضْمَنُ ذَلِكَ مَنْ أَخَذَ مِنْهُمْ، لِأَنَّ بَعْضَهُمْ قَوِيَ بِبَعْضٍ. قَالَ ابْنُ حَبِيبٍ: قَالَ مُطَرِّفٌ، وَكَذَلِكَ اللُّصُوصُ الْمُحَارَبُونَ الْقَاطِعُونَ الطُّرُقَ، مَنْ أَخَذَ مِنْهُمْ ضَمِنَ جَمِيعَ مَا أَخَذُوا، وَلَوْ أَخَذُوا جَمِيعًا أَوْ أَخَذَ السَّارِقُ أَوْ الْمُغِيرُونَ جَمِيعًا وَهُمْ أَغْنِيَاءُ، أُخِذَ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مَا يَنُوبُهُ.
وَقَالَ ابْنُ الْمَاجِشُونِ وَأَصْبَغُ فِي ضَمَانِ ذَلِكَ مِثْلَ قَوْلِ مُطَرِّفٍ قَالَ ابْنُ حَبِيبٍ: وَحَدُّ هَؤُلَاءِ الْمُغِيرِينَ فِي الْعُقُوبَةِ كَحَدِّ الْمُحَارَبِينَ إذَا شَهَرُوا السِّلَاحَ عَلَيْهِ وَفَعَلُوهُ مُكَابَرَةً عَلَى وَجْهِ الْعِيَافَةِ.
فرع:
قَالَ ابْنُ حَبِيبٍ: فِي وَالِي بَلَدٍ بَعَثَ عَلَى بَعْضِ أَهْلِهِ فَيُغِيرُ عَلَيْهِمْ، وَيَنْتَهِبُ أَمْوَالَهُمْ ظُلْمًا مِثْلَ مَا تَقَدَّمَ فِي الْمُغِيرِينَ، هَكَذَا قَالَ لِي جَمِيعُهُمْ يَعْنِي: أَصْبَغَ وَمُطَرِّفًا وَابْنَ الْمَاجِشُونِ.
مَسْأَلَةٌ:
قَالَ أَبُو الْوَلِيدِ الْبَاجِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَإِذَا أُقِيمَ عَلَى الْمُحَارَبِ حَدُّ الْحِرَابَةِ، فَقُتِلَ أَوْ قُطِعَ أَوْ نُفِيَ لَا يُتْبَعُ عَنْ الْأَمْوَالِ بِشَيْءٍ مِمَّا جَنَاهُ فِي حَالِ عُدْمِهِ، وَكَذَلِكَ إنْ أَيْسَرَ بَعْدَ ذَلِكَ وَإِذَا تَابَ قَبْلَ أَنْ يُقْدَرَ عَلَيْهِ اُتُّبِعَ فِي عُدْمِهِ بِأَمْوَالِ النَّاسِ، كَالسَّارِقِ يُقْطَعُ فِي السَّرِقَةِ، قَالَهُ مَالِكٌ وَابْنُ الْقَاسِمِ وَأَشْهَبُ.
مَسْأَلَةٌ:
وَيُقْبَلُ شَهَادَةُ الَّذِينَ قُطِعَ عَلَيْهِمْ الطَّرِيقُ وَاللُّصُوصِ، أَنَّهُمْ قَطَعُوا عَلَيْهِمْ الطَّرِيقَ، قَالَهُ مَالِكٌ وَابْنُ الْقَاسِمِ وَأَشْهَبُ، قَالُوا: لِأَنَّهُ حَدٌّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ تَعَالَى، وَتُقْبَلُ شَهَادَةُ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ بِمَا أَخَذَهُ لَهُ، وَلَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ لِنَفْسِهِ وَلَا لِابْنِهِ، وَتُقْبَلُ شَهَادَتُهُ أَنَّ هَذَا قَتَلَ ابْنَهُ، لِأَنَّهُ يُقْتَلُ بِالْحِرَابَةِ لَا بِالْقِصَاصِ، إذْ لَا عَفْوَ فِيهِ، وَلَوْ شُهِدَ عَلَيْهِ بِذَلِكَ بَعْدَ أَنْ تَابَ لَمْ تُقْبَلْ شَهَادَتُهُ، لِأَنَّ الْحَقَّ لَهُ فِي الْعَفْوِ وَالْقِصَاصِ وَهَذَا إذَا كَانُوا عُدُولًا، فَإِنْ كَانُوا عَبِيدًا أَوْ نَصَارَى أَوْ غَيْرَ عُدُولٍ لَمْ يُقْبَلُوا، وَلَكِنْ إذَا اسْتَفَاضَ ذَلِكَ مِنْ الذِّكْرِ وَكَثْرَةِ الْقَوْلِ أَدَّبَهُمْ الْإِمَامُ وَنَفَاهُمْ.
مَسْأَلَةٌ:
وَمَا وُجِدَ بِأَيْدِي اللُّصُوصِ فَادَّعَوْهُ أَنَّهُ مَالٌ لَهُمْ، فَقَدْ قَالَ أَشْهَبُ: هُوَ لَهُمْ وَإِنْ كَثُرَ حَتَّى يُقِيمَ الْمُدَّعِي فِيهِ بِدَعْوَاهُ الْبَيِّنَةَ، وَأَمَّا إذَا أَقَرُّوا أَنَّهُمْ إنَّمَا أَخَذُوهُ بِالْحِرَابَةِ، فَيُقْبَلُ فِي ذَلِكَ شَهَادَةُ أَهْلِ الرُّفْقَةِ بَعْضٌ لِبَعْضٍ وَلَا تَجُوزُ لِنَفْسِهِ، وَمَنْ ادَّعَى شَيْئًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ بَيِّنَةٌ، فَقَدْ قَالَ مَالِكٌ فِي الْمَوَّازِيَّةِ وَكِتَابِ ابْنِ سَحْنُونٍ: يُدْفَعُ إلَيْهِ بَعْدَ الِاسْتِينَاءِ وَبَعْدَ أَنْ يُفَتِّشُوا ذَلِكَ، وَلَا يَطُولُ جِدًّا وَبَعْدَ أَنْ يَحْلِفَ عَلَى دَعْوَاهُ وَيَضْمَنُوا ذَلِكَ، وَلَا يُطْلَبُ مِنْهُمْ حَمِيلٌ وَقَدْ تَقَدَّمَ بَعْضُ هَذَا.
[فَصْلٌ فِي أَحْكَامِ الْخَوَارِجِ وَالْبُغَاةِ]
وَهِيَ عَلَى قِسْمَيْنِ: أَهْلُ تَأْوِيلٍ وَأَهْلُ عِنَادٍ، وَقَدْ قَاتَلَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ وَعَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا الْفَرِيقَيْنِ، لِأَنَّ أَبَا بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَاتَلَ مَانِعِي الزَّكَاةِ، وَكَانَ بَعْضُهُمْ مَنَعَهَا شُحًّا بِمَالِهِ وَهُمْ الْبُغَاةُ، وَبَعْضُهُمْ مَنَعَهَا بِالتَّأْوِيلِ وَقَالُوا زَمَانُ وُجُوبِهَا قَدْ انْقَضَى، وَالْمُخَاطَبُ بِأَخْذِهَا قَدْ مَاتَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَأَوَّلُوا أَنَّ قَوْله تَعَالَى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ} [التوبة: 103]، لَا يَتَأَتَّى ذَلِكَ مِنْ غَيْرِهِ وَلَمْ يَقُمْ دَلِيلٌ عَلَى قِيَامِ غَيْرِهِ فِي ذَلِكَ مَقَامَهُ، وَأَمَّا عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقَدْ قَاتَلَ أَهْلَ الشَّامِ وَأَهْلَ الْبَصْرَةِ، لِأَنَّهُمْ أَبَوْا الدُّخُولَ فِي طَاعَتِهِ، وَقَدْ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَمَّارٍ: تَقْتُلُك الْفِئَةُ الْبَاغِيَةُ؟ وَكَانَ مَعَ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقَتَلَهُ أَهْلُ الشَّامِ، وَقَاتَلَ أَهْلَ النَّهْرَوَانِ وَهُمْ مُتَأَوِّلُونَ، وَلِلْإِمَامِ الْعَدْلِ خَاصَّةٌ فِي قِتَالِ الْفَرِيقَيْنِ جَمِيعًا، مَا لَهُ فِي قِتَالِ الْكُفَّارِ مِنْ الْقَتْلِ وَالتَّحْرِيقِ وَالتَّغْرِيقِ وَالرَّمْيِ بِالْمَنْجَنِيقِ وَإِنْ كَانَ فِيهِمْ النِّسَاءُ وَالذُّرِّيَّةُ، وَلَكِنْ بَعْدَ أَنْ يَدْعُوهُمْ إلَى الدُّخُولِ فِي جَمَاعَةِ الْإِسْلَامِ، قَالَ سَحْنُونٌ فِي كِتَابِ ابْنِهِ إذَا خَرَجُوا بَغْيًا وَرَغْبَةً عَنْ حُكْمِ الْإِمَامِ، فَإِنَّ الْإِمَامَ يَدْعُوهُمْ أَوَّلًا إلَى الرُّجُوعِ إلَى الْحَقِّ، فَإِنْ فَعَلُوا قَبِلَ مِنْهُمْ وَكَفَّ عَنْهُمْ، وَإِنْ أَبَوْا قَاتَلَهُمْ وَحَلَّ لَهُ سَفْكُ دِمَائِهِمْ حَتَّى يَقْهَرَهُمْ.
مَسْأَلَةٌ:
وَلَا يُقْتَلُ أَسِيرُهُمْ لِأَنَّ قِتَالَهُمْ لِأَجْلِ قَهْرِهِمْ وَقَدْ حَصَلَ وَلَكِنْ يُؤَدَّبُ وَيُسْجَنُ حَتَّى يَتُوبَ.
فرع:
وَإِذَا ظَهَرَ عَلَيْهِمْ وَتَحَقَّقَتْ هَزِيمَتُهُمْ وَأُمِنَتْ عَوْدَتُهُمْ، فَلَا يُذَفَّفُ عَلَى جَرِيحِهِمْ وَلَا يُقْتَلُ مُنْهَزِمُهُمْ، وَإِنْ لَمْ يُؤْمَنْ رُجُوعُهُمْ فَلَا بَأْسَ بِقَتْلِ مُنْهَزِمِهِ وَتَجْرِيحِهِمْ.
مَسْأَلَةٌ:
وَلَا بَأْسَ أَنْ يُقْتَلَ الرَّجُلُ فِي قِتَالِهِ قَرِيبَهُ مُبَارَزَةً وَغَيْرَ مُبَارَزَةٍ، وَكَذَلِكَ جَدُّهُ لِأَبِيهِ وَلِأُمِّهِ، وَأَمَّا الْأَبُ فَلَا أُحِبُّ قَتْلَهُ عَلَى الْعَمْدِ مُبَارَزَةً، أَوْ غَيْرَهَا، وَكَذَلِكَ الْأَبُ الْكَافِرُ مِثْلُ الْخَارِجِيِّ.
وَقَالَ أَصْبَغُ: يُقْتَلُ فِيهِمَا أَخَاهُ وَأَبَاهُ مِنْ ابْنِ رُشْدٍ.
تنبيه:
قَالَ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ وَهَذَا الْحُكْمُ ظَاهِرٌ فِي أَهْلِ الْعِنَادِ وَالْمَعْصِيَةِ وَشِبْهِهِمْ، وَأَمَّا الْمُبْتَدِعَةُ فَالْمَذْهَبُ أَنَّ مَنْ أَظْهَرَ بِدْعَتَهُ يُسْتَتَابُ، لِأَنَّ بِدْعَتَهُ الَّتِي خَرَجَ بِسَبَبِهَا لَمْ يَزَلْ مُعْتَقِدًا لَهَا وَإِذَا كَانَ الْحُكْمُ أَنَّهُ يُسْتَتَابُ، وَإِنْ لَمْ يَخْرُجْ عَلَى الْإِمَامِ فَأَحْرَى إذَا خَرَجَ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
[فَصْلٌ فِي حُكْمِ الرِّدَّةِ]
وَالْعِيَاذُ بِاَللَّهِ وَنَسْأَلُ اللَّهَ حُسْنَ الْخَاتِمَةِ وَهِيَ الْكُفْرُ بَعْدَ الْإِسْلَامِ، قَالَ ابْنُ الْحَاجِبِ: وَتَكُونُ بِصَرِيحٍ وَبِلَفْظٍ يَقْتَضِيهِ وَبِفِعْلٍ يَتَضَمَّنُهُ، قَالَ ابْنُ رَاشِدٍ: فَالصَّرِيحُ وَاضِحٌ كَقَوْلِهِ: أُشْرِكُ بِاَللَّهِ أَوْ أَكْفُرُ بِمُحَمَّدٍ، وَاللَّفْظُ الَّذِي يَقْتَضِيهِ مِثْلُ أَنْ يَنْسُبَ التَّأْثِيرَ لِلنُّجُومِ، وَمِثْلُ الْخَطِيبِ يَرَى كَافِرًا يُرِيدُ أَنْ يَنْطِقَ بِكَلِمَةِ الْإِسْلَامِ، فَيَقُولُ لَهُ: اصْبِرْ حَتَّى أَفْرُغَ مِنْ خُطْبَتِي، فَإِنَّهُ يُحْكَمُ بِكُفْرِ الْخَطِيبِ لِأَنَّ ذَلِكَ يَقْتَضِي أَنَّهُ أَرَادَ بَقَاءَ الْكُفْرِ، قَالَ: وَهَذَا سَمِعْته مِنْ شَيْخِنَا شِهَابِ الدِّينِ الْقَرَافِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ وَلَمْ أَرَ مَنْ نَصَّ عَلَيْهِ.
وَقَالَ وَنَزَلَتْ فِي أَيَّامِهِ مَسْأَلَةٌ وَهِيَ أَنَّ رَجُلًا قَالَ لِآخَرَ: أَمَاتَ اللَّهُ الْبَعِيدَ كَافِرًا، فَأَفْتَى شَرَفُ الدِّينِ الْكَرْكِيُّ بِكُفْرِهِ، قَالَ: لِأَنَّهُ أَرَادَ أَنْ يَكْفُرَ بِاَللَّهِ.
وَقَالَ شَيْخُنَا شِهَابُ الدِّينِ الْقَرَافِيُّ فِي إرَادَةِ الْكُفْرِ لَمْ تَكُنْ مَقْصُودَةً لَهُ، وَإِنَّمَا أَرَادَ التَّغْلِيظَ فِي الشَّتْمِ وَإِرَادَةُ الْكُفْرِ شَيْءٌ يَئُولُ إلَيْهِ الْأَمْرُ، وَمَا قَالَهُ هُوَ الصَّوَابُ.
قَالَ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ: وَاللَّفْظُ الَّذِي يَقْتَضِي الْكُفْرَ كَجَحْدِهِ لِمَا عُلِمَ مِنْ الشَّرِيعَةِ ضَرُورَةً كَالصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ.
قَالَ ابْنُ رَاشِدٍ وَأَمَّا الْفِعْلُ الَّذِي يَتَضَمَّنُ الْكُفْرَ فَمِثْلُ التَّرَدُّدِ إلَى الْكَنَائِسِ وَالْتِزَامِ الزُّنَّارِ فِي الْأَعْيَادِ.
قَالَ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ: وَكَتَلْطِيخِ الرُّكْنِ الْأَسْوَدِ بِالنَّجَاسَاتِ وَالِقَاءِ الْمُصْحَفِ فِي الْقَاذُورَاتِ، وَهَذِهِ الْأَفْعَالُ دَلَّتْ عَلَى الْكُفْرِ، لَا أَنَّهَا هِيَ كُفْرٌ لِمَا قَامَ مِنْ الْأَدِلَّةِ عَلَى بُطْلَانِ التَّكْفِيرِ بِالذُّنُوبِ.
فرع:
وَلَا تُقْبَلُ الشَّهَادَةُ بِالرِّدَّةِ الْمُجْمَلَةِ، فَقَوْلُ الشُّهُودِ: كَفَرَ فُلَانٌ أَوْ ارْتَدَّ، بَلْ لابد عَنْ تَفْصِيلِ مَا سَمِعُوهُ وَرَأَوْهُ مِنْهُ لِاخْتِلَافِ النَّاسِ فِي التَّكْفِيرِ، فَقَدْ يَعْتَقِدُونَ كُفْرًا مَا لَيْسَ بِكُفْرٍ.
فرع:
وَلَوْ أَسْلَمَ ثُمَّ ارْتَدَّ عَنْ قُرْبٍ وَقَالَ: أَسْلَمْت عَنْ ضِيقٍ أَوْ خَوْفٍ أَوْ غُرْمٍ وَظَهَرَ عِنْدَهُ، فَفِي قَبُولِ عُذْرِهِ قَوْلَانِ، وَأَمَّا لَوْ أَقَامَ عَلَى الْإِسْلَامِ بَعْدَ زَوَالِ الْعُذْرِ فَهَذَا يُقْتَلُ وَلَا يُقْبَلُ عُذْرُهُ.
فرع:
وَلَوْ تَوَضَّأَ وَصَلَّى ثُمَّ اعْتَذَرَ، فَقَدْ قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ: نَصْرَانِيٌّ صَحِبَ قَوْمًا فِي السَّفَرِ فَأَظْهَرَ الْإِسْلَامَ وَتَوَضَّأَ وَصَلَّى، وَرُبَّمَا قَدَّمُوهُ فَصَلَّى بِهِمْ، فَلَمَّا أَمِنَ عَلَى نَفْسِهِ أَخْبَرَهُمْ وَقَالَ: صَنَعْت ذَلِكَ تَحَصُّنًا بِالْإِسْلَامِ لِئَلَّا يُؤْخَذَ مَا مَعِي، أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ مِنْ الْعُذْرِ فَذَلِكَ لَهُ إنْ أَشْبَهَ مَا قَالَ، وَيُعِيدُونَ مَا صَلَّوْا خَلْفَهُ فِي الْوَقْتِ وَبَعْدَهُ.
وَرَوَى يَحْيَى بْنُ يَحْيَى عَنْ مَالِكٍ مِثْلَهُ، وَقَالَ سَحْنُونٌ: إنْ كَانَ بِمَوْضِعٍ يَخَافُ عَلَى نَفْسِهِ فَدَارَى عَنْ نَفْسِهِ وَمَالِهِ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ بِمَوْضِعٍ هُوَ فِيهِ آمِنٌ فَلْيُعْرِضْ عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَإِنْ أَسْلَمَ لَمْ يَكُنْ عَلَى الْقَوْمِ إعَادَةٌ وَإِنْ لَمْ يُسْلِمْ قُتِلَ وَيُعِيدُونَ.
مَسْأَلَةٌ:
وَحُكْمُ الْمُرْتَدِّ إنْ لَمْ تَظْهَرْ تَوْبَتُهُ الْقَتْلُ.
مَسْأَلَةٌ:
وَالرِّدَّةُ طَلْقَةٌ بَائِنَةٌ مِمَّنْ كَانَ مِنْ الزَّوْجَيْنِ وَهُوَ مَذْهَبُ الْمُدَوَّنَةِ، وَرَوَى ابْنُ الْمَاجِشُونِ عَنْ مَالِكٍ: أَنَّهَا فَسْخٌ بِغَيْرِ طَلَاقٍ.
مَسْأَلَةٌ:
قَالَ الْمُتَيْطِيُّ: وَأَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِيمَا عَلِمْت أَنَّ الْمُسْلِمَ إذَا ارْتَدَّ أَنَّهُ يُسْتَتَابُ ثَلَاثًا، فَإِنْ تَابَ وَإِلَّا قُتِلَ، حَاشَا عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ أَبِي سَلَمَةَ فَإِنَّهُ كَانَ يَقُولُ: يُقْتَلُ الْمُرْتَدُّ وَلَا يُسْتَتَابُ.
فرع:
وَفِي وُجُوبِ إمْهَالِهِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ قَوْلَانِ، قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ وَيُطْعَمُ مَا يَكْفِيهِ عَنْ مَالِهِ وَلَا يُوَسَّعُ عَلَيْهِ، قَالَ أَصْبَغُ: وَيُخَوَّفُ فِي الثَّلَاثَةِ الْأَيَّامِ بِالْقَتْلِ وَيُذْكَرُ الْإِسْلَامُ وَيُعْرَضُ عَلَيْهِ.
وَقَالَ مَالِكٌ لَا يُخَوَّفُ وَلَا يُجَوَّعُ وَلَا يُعَطَّشُ وَلَا يُعَاقَبُ، وَأَمَّا مَالُهُ فَيُوقَفُ، فَإِنْ تَابَ فِيهِ عَلَى الْأَصَحِّ، وَقِيلَ: لَا يُرَدُّ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ كَانَ كَافِرًا لَا عَهْدَ لَهُ، فَيَكُونُ كَفَيْءٍ لِجَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ.
فرع:
وَإِذَا قُلْنَا: إنَّهُ يُنْفَقُ عَلَيْهِ مِنْ مَالِهِ فِي أَيَّامِ الِاسْتِتَابَةِ فَإِنَّهُ لَا يُنْفَقُ مِنْهُ عَلَى وَلَدِهِ وَلَا عَلَى عِيَالِهِ، ابْنُ رَاشِدٍ وَأَحْكَامُ الْمُرْتَدِّ مَشْهُورَةٌ فِي مَحَلِّهَا مِنْ كُتُبِ الْفِقْهِ.
[فَصْلٌ فِي حُكْمِ الزِّنْدِيقِ]
وَالزَّنْدَقَةُ هِيَ إظْهَارُ الْإِيمَانِ وَإِبْطَالُ الْكُفْرِ، فَمَنْ أَسَرَّ دِينًا مِنْ الْأَدْيَانِ غَيْرِ الْإِسْلَامِ فَإِنْ أَتَى تَائِبًا قُبِلَتْ تَوْبَتُهُ وَإِنْ أُخِذَ عَلَى دِينٍ خَفَاهُ قُتِلَ وَلَمْ يُسْتَتَبْ، وَنَقَلَ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ عَنْ ابْنِ لُبَابَةَ: إنَّهُ يُسْتَتَابُ كَالْمُرْتَدِّ وَهُوَ مَذْهَبُ جَمَاعَةٍ مِنْ الْعُلَمَاءِ، قَالَ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ: النِّفَاقُ فِي عَهْدِ رَسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ الزَّنْدَقَةُ فِينَا الْيَوْمُ، فَيُقْتَلُ الزِّنْدِيقُ إذَا شُهِدَ عَلَيْهِ بِهَا دُونَ اسْتِتَابَةٍ، لِأَنَّهُ لَا يُظْهِرُ مَا يُسْتَتَابُ مِنْهُ.
مَسْأَلَةٌ:
وَاخْتُلِفَ فِي مِيرَاثِهِ هَلْ هُوَ لِوَرَثَتِهِ أَوْ لِجَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ.
مَسْأَلَةٌ:
وَمَنْ عَبَدَ شَمْسًا أَوْ قَمَرًا أَوْ حَجَرًا أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ فَإِنَّهُ يُقْتَلُ، وَلَا يُسْتَتَابُ إذَا كَانَ يُظْهِرُ الْإِسْلَامَ وَيُسِرُّ ذَلِكَ لِأَنَّهُ لَا تُعْرَفُ تَوْبَتُهُ.
مَسْأَلَةٌ:
وَفِي أَحْكَامِ ابْنِ سَهْلٍ وَحُكِمَ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ حَاتِمٍ الطُّلَيْطِلِيِّ بِالزَّنْدَقَةِ لِمَا شُهِدَ بِهِ عَلَيْهِ مِنْ الْأَلْفَاظِ الْقَبِيحَةِ، مِنْهَا أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قَالَ الْيَتِيمُ وَقَالَ يَتِيمُ قُرَيْشٍ، وَقَالَ خَتْنُ حَيْدَرَةَ، وَحَيْدَرَةُ مِنْ أَسْمَاءِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَقَالَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّ زُهْدَهُ لَمْ يَكُنْ عَنْ قَصْدٍ، وَإِنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَوْ قَدَرَ عَلَى رَقِيقِ الطَّعَامِ لَمْ يَأْكُلْ خَشِنَهُ، وَإِنَّ عُمَرَ وَعَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا كَانَا أَحْمَقَيْنِ لَعَنَهُ اللَّهُ، وَقَالَ: لَا يَجِبُ الْغُسْلُ مِنْ الْجَنَابَةِ، وَأَنْكَرَ الْقَدَرَ وَأَشْيَاءَ غَيْرَ ذَلِكَ، فَحَكَمَ عَلَيْهِ بِالزَّنْدَقَةِ وَصُلِبَ وَطُعِنَ مَصْلُوبًا بِقُرْطُبَةَ.
[فَصْلٌ فِيمَنْ سَبَّ اللَّهَ تَعَالَى أَوْ الْمَلَائِكَةَ أَوْ الْأَنْبِيَاءَ أَوْ سَبَّ أَصْحَابَ النَّبِيِّ]
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ اسْتَوْعَبَ الْقَاضِي عِيَاضٌ رَحِمَهُ اللَّهُ الْكَلَامَ فِي هَذَا وَمَا أَشْبَهَهُ وَلَمْ يَتْرُكْ لِغَيْرِهِ مَقَالًا، وَقَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ لَا خِلَافَ إنْ سَابَّ اللَّهَ تَعَالَى مِنْ الْمُسْلِمِينَ كَافِرٌ حَلَالُ الدَّمِ وَاخْتُلِفَ فِي اسْتِتَابَتِهِ، وَرِوَايَةُ ابْنِ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ يُقْتَلُ وَلَا يُسْتَتَابُ.
وَقَالَ الْمَخْزُومِيُّ وَمُحَمَّدُ بْنُ سَلَمَةَ وَابْنُ حَازِمٍ: لَا يُقْتَلُ بِالسَّبِّ حَتَّى يُسْتَتَابَ.
مَسْأَلَةٌ:
وَأَفْتَى ابْنُ أَبِي زَيْدٍ فِيمَا حُكِيَ عَنْهُ فِي رَجُلٍ لَعَنَ رَجُلًا وَلَعَنَ اللَّهَ، وَقَالَ: إنَّمَا أَرَدْت أَنْ أَلْعَنَ الشَّيْطَانَ فَزَلَّ لِسَانِي، فَقَالَ: يُقْتَلُ بِظَاهِرِ كُفْرِهِ وَلَا يُقْبَلُ عُذْرُهُ، وَهُوَ مَعْذُورٌ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى.
مَسْأَلَةٌ:
وَاخْتَلَفَ فُقَهَاءُ قُرْطُبَةَ فِي قَتْلِ رَجُلٍ قَالَ عِنْدَ اسْتِثْقَالِهِ مِنْ مَرَضِهِ: لَقِيت مِنْ مَرَضِي هَذَا لَوْ قَتَلْت أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ لَمْ أَسْتَوْجِبْ هَذَا كُلَّهُ، فَقَالَ بَعْضُ مَنْ رَأَى بِطَرْحِ الْقَتْلِ عَنْهُ: إنَّهُ يُثْقَلُ عَلَيْهِ فِي الْحَبْسِ وَالشَّدِّ فِي الْأَدَبِ.
مَسْأَلَةٌ:
قَالَ ابْنُ رَاشِدٍ: وَلَوْ تَكَلَّمَ بِمَا فِيهِ اسْتِخْفَافُ مَنْ لَا يَضْبِطُ كَلَامَهُ كَمَا جَرَى مِنْ ابْنِ أَخِي عَجَبٌ، وَكَانَ مُسْتَخِفًّا فَخَرَجَ يَوْمًا فَأَخَذَهُ الْمَطَرُ فَقَالَ: بَدَأَ الْحَزَّازُ يُرْشِي جُلُودَهُ، فَأَفْتَى أَبُو زَيْدٍ صَاحِبُ الثَّمَانِيَةِ بِأَدَبِهِ وَتَوَقَّفُوا عَنْ قَتْلِهِ وَرَأَوْهُ عَبَثًا.
وَقَالَ ابْنُ حَبِيبٍ: دَمُهُ فِي عُنُقِي فَقُتِلَ وَصُلِبَ.
فرع:
وَأَمَّا مَنْ صَدَرَتْ مِنْهُ الْهَفْوَةُ الشَّاذَّةُ وَلَمْ يَكُنْ نَقْصًا، فَقَالَ الْقَاضِي: يُعَاقَبُ بِقَدْرِ مُقْتَضَاهَا وَشُنْعَةِ مَعْنَاهَا وَصُورَةِ حَالِ قَائِلِهَا.
وَسُئِلَ ابْنُ الْقَاسِمِ عَنْ رَجُلٍ نَادَى رَجُلًا بِاسْمِهِ فَأَجَابَهُ لَبَّيْكَ فَقَالَ إنْ كَانَ جَاهِلًا أَوْ قَالَهُ عَلَى وَجْهِ سَفَهٍ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ، وَشَرَحَ قَوْلَهُ أَنَّهُ لَا يُقْتَلُ، وَالْجَاهِلُ يُزْجَرُ وَيُعْلَمُ، وَالسَّفِيهُ يُؤَدَّبُ وَلَوْ قَالَهَا عَلَى اعْتِقَادِ أَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ رَبِّهِ كَفَرَ.
فَصْلٌ: وَمَنْ سَبَّ مَلَكًا مِنْ الْمَلَائِكَةِ قُتِلَ، قَالَهُ سَحْنُونٌ وَسَعِيدُ بْنُ سُلَيْمَانَ قَاضِي قُرْطُبَةَ.
مَسْأَلَةٌ:
وَمَنْ قَالَ: إنَّ جِبْرِيلَ أَخْطَأَ بِالْوَحْيِ وَإِنَّمَا النَّبِيُّ عَلِيٌّ اُسْتُتِيبَ فَإِنْ تَابَ وَإِلَّا قُتِلَ.
مَسْأَلَةٌ:
قَالَ ابْنُ الْقَابِسِيِّ فِيمَنْ قَالَ لِرَجُلٍ غَضْبَانَ كَأَنَّهُ وَجْهُ مَلَكٍ، إنْ عُرِفَ أَنَّهُ قَصَدَ ذَمَّ الْمَلَكَ قُتِلَ.
فَصْلٌ: وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ فِي سَبِّ الْأَنْبِيَاءِ- عَلَيْهِمْ السَّلَامُ-، قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ: مَنْ سَبَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ عَابَهُ أَوْ أَلْحَقَ بِهِ نَقْصًا فِي نَفْسِهِ أَوْ نَسَبِهِ أَوْ دِينِهِ أَوْ خَصْلَةٍ مِنْ خِصَالِهِ، أَوْ عَرَّضَ بِهِ أَوْ شَبَّهَهُ بِشَيْءٍ عَلَى طَرِيقِ السَّبِّ وَالِازْدِرَاءِ عَلَيْهِ، أَوْ النَّقْصِ لِشَأْنِهِ أَوْ الْغَضِّ مِنْهُ وَالْعَيْبِ لَهُ فَهُوَ سَابٌّ تَلْوِيحًا كَانَ أَوْ تَصْرِيحًا، وَكَذَلِكَ مَنْ لَعَنْهُ أَوْ ادَّعَى عَلَيْهِ أَوْ تَمَنَّى مَضَرَّةً لَهُ، أَوْ نَسَبَ إلَيْهِ مَا لَا يَلِيقُ بِمَنْصِبِهِ عَلَى طَرِيقِ الذَّمِّ، أَوْ عَبِثَ فِي جِهَتِهِ الْعَزِيزَةِ بِسُخْفٍ مِنْ الْكَلَامِ أَوْ بِشَيْءٍ مِمَّا جَرَى مِنْ الْبَلَاءِ وَالْمِحْنَةِ عَلَيْهِ، أَوْ غَمَّضَهُ شَيْءٌ مِنْ الْعَوَارِضِ الْبَشَرِيَّةِ الْجَائِزَةِ وَالْمَعْهُودَةِ لَدَيْهِ قُتِلَ، قَالَ: وَهَذَا كُلُّهُ إجْمَاعٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ وَأَئِمَّةِ الْفَتْوَى مِنْ لَدُنْ الصَّحَابَةِ- رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ- إلَى هَلُمَّ جَرَّا.
مَسْأَلَةٌ:
وَلَوْ شَهِدَ شَاهِدَانِ أَحَدُهُمَا عَدْلٌ أَنَّ رَجُلًا سَبَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَإِنَّهُ يَلْزَمُهُ الْأَدَبُ الْوَجِيعُ وَالتَّنْكِيلُ وَيُطَالُ سَجْنُهُ حَتَّى تَظْهَرَ تَوْبَتُهُ.
فرع:
وَأَمَّا شَهَادَةُ الْوَاحِدِ وَاللَّفِيفِ مِنْ النَّاسِ فَتَدْرَأُ عَنْهُ الْقَتْلَ وَيُجْتَهَدُ فِي أَدَبِهِ بِقَدْرِ شُهْرَةِ حَالِهِ وَقُوَّةِ الشَّهَادَةِ عَلَيْهِ وَضَعْفِهَا وَكَثْرَةِ السَّمَاعِ عَنْهُ، وَاسْتِيفَاءُ أَحْكَامِ هَذَا الْبَابِ مَحَلُّهَا كِتَابُ الشِّفَاءِ لِلْقَاضِي عِيَاضٍ.
[فَصْلٌ فِيمَنْ سَبَّ أَزْوَاجَ النَّبِيّ وَأَصْحَابَهُ]
فَصْلٌ فِيمَنْ سَبَّ أَزْوَاجَهُ وَأَصْحَابَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَبُّهُمْ وَتَنْقِيصُهُمْ حَرَامٌ مَلْعُونٌ فَاعِلُهُ، وَمَنْ شَتَمَ أَحَدًا مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَبَا بَكْرٍ أَوْ عُمَرَ أَوْ عُثْمَانَ أَوْ مُعَاوِيَةَ أَوْ عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ، فَإِنْ قَالَ: كَانُوا عَلَى ضَلَالٍ كَفَرَ وَقُتِلَ، وَإِنْ شَتَمَهُمْ بِغَيْرِ هَذَا مِنْ مُشَاتَمَةِ النَّاسِ نَكَلَ نَكَالًا شَدِيدًا.
وَقَالَ ابْنُ حَبِيبٍ مَنْ غَلَا مِنْ الشِّيعَةِ إلَى بُغْضِ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَالْبَرَاءَةِ مِنْهُ أُدِّبَ أَدَبًا شَدِيدًا، وَمَنْ زَادَ إلَى بُغْضِ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ فَالْعُقُوبَةُ عَلَيْهِ أَشَدُّ، وَيُكَرَّرُ ضَرْبُهُ وَيُطَالُ سَجْنُهُ حَتَّى يَمُوتَ، فَلَا يَبْلُغُ بِهِ الْقَتْلُ إلَّا فِي سَبِّ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَحَكَى أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ أَبِي زَيْدٍ عَنْ سَحْنُونٍ: مَنْ قَالَ فِي أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ وَعَلِيٍّ- عَلَيْهِمْ السَّلَامُ- أَنَّهُمْ كَانُوا عَلَى ضَلَالَةٍ وَكُفْرٍ قُتِلَ، وَمَنْ شَتَمَ غَيْرَهُمْ مِنْ الصَّحَابَةِ بِمِثْلِ هَذَا نَكَلَ النَّكَالَ الشَّدِيدَ، وَرُوِيَ عَنْ مَالِكٍ: مَنْ سَبَّ أَبَا بَكْرٍ جُلِدَ، وَمَنْ سَبَّ عَائِشَةَ قُتِلَ فَقِيلَ لَهُ لِمَ؟ فَقَالَ: مَنْ رَمَاهَا فَقَدْ خَالَفَ الْقُرْآنَ.
مَسْأَلَةٌ:
وَفِي كِتَابِ ابْنِ شَعْبَانَ: مَنْ قَالَ فِي أَحَدٍ مِنْهُمْ: إنَّهُ ابْنُ زَانِيَةٍ وَأُمُّهُ مُسْلِمَةٌ، حُدَّ عِنْدَ بَعْضِ أَصْحَابِنَا حَدَّيْنِ حَدًّا لَهُ وَحَدًّا لِأُمِّهِ وَلَا أَجْعَلُهُ كَقَاذِفِ الْجَمَاعَةِ فِي كَلِمَةٍ لِفَضْلِ هَذَا عَلَى غَيْرِهِ، قَالَ: وَمَنْ قَذَفَ أُمَّ أَحَدِهِمْ وَهِيَ كَافِرَةٌ حُدَّ حَدَّ الْفِرْيَةِ؛ لِأَنَّهُ سَبٌّ لَهُ، وَإِنْ كَانَ أَحَدٌ مِنْ وَلَدِ هَذَا الصَّحَابِيِّ حَيًّا قَامَ بِمَا يَجِبُ لَهُ، وَإِلَّا فَمَنْ قَامَ بِهِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ كَانَ عَلَى الْإِمَامِ قَبُولُ قِيَامِهِ، قَالَ: وَلَيْسَ هَذَا كَحُقُوقِ غَيْرِ الصَّحَابَةِ لِحُرْمَةِ هَؤُلَاءِ بِنَبِيِّهِمْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
مَسْأَلَةٌ:
وَمَنْ سَبَّ غَيْرَ عَائِشَةَ مِنْ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَفِيهَا قَوْلَانِ، أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ يُقْتَلُ؛ لِأَنَّهُ سَبٌّ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِسَبِّ حَلِيلَتِهِ، وَالْآخَرُ: أَنَّهَا كَسَائِرِ الصَّحَابَةِ يُجْلَدُ حَدَّ الْمُفْتَرِي، قَالَ: وَبِالْأَوَّلِ أَقُولُ.

.فَصْلٌ: وَمَنْ انْتَسَبَ إلَى آلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:

وَمَنْ انْتَسَبَ إلَى آلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُضْرَبُ ضَرْبًا وَجِيعًا، وَيُشْهَرُ وَيُحْبَسُ طَوِيلًا حَتَّى تَظْهَرَ تَوْبَتُهُ؛ لِأَنَّهُ اسْتِخْفَافٌ بِحَقِّ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
فَصْلٌ:
وَمَنْ اسْتَخَفَّ بِالْقُرْآنِ أَوْ بِشَيْءٍ مِنْهُ أَوْ جَحَدَهُ أَوْ حَرْفًا مِنْهُ أَوْ كَذَّبَ شَيْئًا مِنْهُ، أَوْ أَثْبَتَ مَا نَفَاهُ أَوْ نَفَى مَا أَثْبَتَهُ عَلَى عِلْمٍ مِنْهُ بِذَلِكَ، أَوْ شَكَّ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ فَهُوَ كَافِرٌ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ بِإِجْمَاعٍ، وَكَذَلِكَ مَنْ غَيَّرَ شَيْئًا مِنْهُ أَوْ زَادَ فِيهِ كَفِعْلِ الْبَاطِنِيَّةِ وَالْإِسْمَاعِيلِيَّة، أَوْ زَعَمَ أَنَّهُ لَيْسَ بِحُجَّةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ لَيْسَ فِيهِ حُجَّةٌ وَلَا مُعْجِزَةٌ، كَقَوْلِ هِشَامِ الْفُوطِيِّ وَمَعْمَرٍ الصَّيْمَرِيِّ، أَنَّهُ لَا يَدُلُّ عَلَى اللَّهِ وَلَا حُجَّةَ فِيهِ لِرَسُولِهِ وَلَا يَدُلُّ عَلَى ثَوَابٍ وَلَا عِقَابٍ وَلَا حُكْمٍ، فَلَا مَحَالَةَ فِي كُفْرِهِمَا بِهَذَا الْقَوْلِ، وَكَذَلِكَ بِكُفْرِهِمَا وَإِنْكَارِهِمَا أَنْ يَكُونَ فِي سَائِرِ مُعْجِزَاتِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حُجَّةٌ لَهُ، أَوْ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ دَلِيلٌ عَلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ لِمُخَالَفَتِهِمَا الْإِجْمَاعَ وَالنَّقْلَ الْمُتَوَاتِرَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِاحْتِجَاجِهِ بِهَذَا كُلِّهِ وَتَصْرِيحِ الْقُرْآنِ بِهِ.
فَصْلٌ وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ مَنْ سَبَّ نَبِيًّا أَوْ مَلَكًا مِنْ الْمَلَائِكَةِ، فَإِنَّ سَبِيلَهُ سَبِيلُ مَنْ سَبَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ: وَهَذَا فِيمَنْ حَقَّقْنَا كَوْنَهُ مِنْ الْمَلَائِكَةِ أَوْ الْأَنْبِيَاءِ: كَجِبْرِيلَ وَمِيكَائِيلَ وَمَالِكٍ وَخَزَنَةِ النَّارِ أَعَاذَنَا اللَّهُ مِنْهَا، وَالزَّبَانِيَةِ وَحَمَلَةِ الْعَرْشِ، وَكَعِزْرَائِيلَ وَإِسْرَافِيلَ وَرَضْوَانَ وَالْحَفَظَةِ وَمُنْكَرٍ وَنَكِيرٍ، مِنْ الْمَلَائِكَةِ الْمُتَّفَقِ عَلَى قَبُولِ الْخَبَرِ الْوَارِدِ بِذِكْرِهِمْ، فَأَمَّا مَنْ لَمْ تَثْبُتْ الْأَخْبَارُ بِتَعَيُّنِهِ مِنْ الْمَلَائِكَةِ وَالرُّسُلِ: كَهَارُوتَ وَمَارُوتَ مِنْ الْمَلَائِكَةِ، وَالْخَضِرِ وَلُقْمَانَ وَذِي الْقَرْنَيْنِ وَمَرْيَمَ وَآسِيَةَ، وَخَالِدِ بْنِ سِنَانٍ الْمَذْكُورِ أَنَّهُ نَبِيُّ أَهْلِ الرَّسِّ، وَزَرَادُشْتُ الَّذِي تَدَّعِي الْمَجُوسُ، وَيَذْكُرُ الْمُؤَرِّخُونَ نُبُوَّتَهُ، فَلَيْسَ الْحُكْمُ فِي سَابِّهِمْ وَالْكَافِرِ بِهِمْ كَالْحُكْمِ فِيمَنْ قَدَّمْنَا إذْ لَمْ يَثْبُتْ لَهُمْ تِلْكَ الْحُرْمَةُ، وَلَكِنْ يُزْجَرُ مَنْ تَنَقَّصَهُمْ وَآذَاهُمْ، وَيُؤَدَّبُ بِقَدْرِ حَالِ الْمَقُولِ فِيهِمْ، لاسيما مَنْ عُرِفَتْ صِدِّيقَتُهُ وَفَضْلُهُ مِنْهُمْ كَمَرْيَمَ وَإِنْ لَمْ يَثْبُتْ نُبُوَّتُهَا، وَأَمَّا إنْكَارُ نُبُوَّتِهَا أَوْ كَوْنُ الْآخَرِ مِنْ الْمَلَائِكَةِ، فَإِنْ كَانَ الْمُتَكَلِّمُ فِي ذَلِكَ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ فَلَا حَرَجَ لِاخْتِلَافِ الْعُلَمَاءِ فِي ذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ مِنْ عَوَامِّ النَّاسِ زُجِرَ عَنْ الْخَوْضِ فِي مِثْلِ هَذَا، فَإِنْ عَادَ أُدِّبَ إذْ لَيْسَ لَهُمْ الْكَلَامُ فِي مِثْلِ هَذَا، وَكَرِهَ السَّلَفُ الْكَلَامَ فِي مِثْلِ هَذَا مِمَّا لَيْسَ تَحْتَهُ عَمَلٌ لِأَهْلِ الْعِلْمِ فَكَيْفَ بِالْعَامَّةِ.

.فَصْلٌ فِي السِّحْرِ وَعُقُوبَةِ السَّاحِرِ:

وَالسَّاحِرُ يُفْصَلُ فِيهِ بَيْنَ أَنْ يَأْتِيَ تَائِبًا قَبْلَ الظُّهُورِ عَلَيْهِ فَتُقْبَلُ تَوْبَتُهُ، وَبَيْنَ أَنْ يَظْهَرَ عَلَيْهِ بِسِحْرِهِ فَلَا تُقْبَلُ تَوْبَتُهُ، وَيُقْتَلُ كَمَا تَقَدَّمَ فِي الزِّنْدِيقِ، قَالَ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ وَالْمَذْهَبُ أَنَّ السَّاحِرَ كَافِرٌ.
مَسْأَلَةٌ:
وَفِي الْمُوَطَّأِ: أَنَّ حَفْصَةَ زَوْجَ النَّبِيِّ قَتَلَتْ جَارِيَةً لَهَا سَحَرَتْهَا، وَقَدْ كَانَتْ دَبَّرَتْهَا فَأَمَرَتْ بِهَا فَقُتِلَتْ قَالَ مَالِكٌ: السَّاحِرُ الَّذِي يَعْمَلُ السِّحْرَ بِنَفْسِهِ، وَلَمْ يَعْمَلْ لَهُ ذَلِكَ غَيْرُهُ، وَمِثْلُ الَّذِي قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ} [البقرة: 102]، فَأَرَى أَنْ يُقْتَلَ إذَا عَمِلَ ذَلِكَ بِنَفْسِهِ.
مَسْأَلَةٌ:
قَالَ الْقَاضِي أَبُو الْوَلِيدِ الْبَاجِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ وَلَا يُقْتَلُ حَتَّى يَثْبُتَ أَنَّ مَا فَعَلَهُ مِنْ السِّحْرِ الَّذِي وَصَفَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِأَنَّهُ كُفْرٌ، قَالَ أَصْبَغُ: يُكْشَفُ عَنْ ذَلِكَ كَسَائِرِ مَا يَجِبُ بِهِ الْقَتْلُ.
مَسْأَلَةٌ:
وَفِي الْمَوَّازِيَّةِ فِي الَّذِي يَقْطَعُ أُذُنَ الرَّجُلِ أَوْ يُدْخِلُ السَّكَاكِينَ فِي جَوْفِ نَفْسِهِ، إنْ كَانَ هَذَا سِحْرًا قُتِلَ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ السِّحْرِ أُدِّبَ.
فرع:
قَالَ الْبَاجِيُّ: إذَا ثَبَتَ أَنَّ السَّاحِرَ كَافِرٌ فَمَنْ عَمِلَ السِّحْرَ قُتِلَ، فَإِنْ كَانَ مُسْلِمًا فَفِي الْمَوَّازِيَّةِ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ وَهْبٍ عَنْ مَالِكٍ يُقْتَلُ، سَحَرَ مُسْلِمًا أَوْ ذِمِّيًّا، قَالَ مَالِكٌ: يُقْتَلُ وَلَا يُسْتَتَابُ.
وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ وَأَصْبَغُ: كَالزِّنْدِيقِ، وَمَنْ كَانَ لِلسِّحْرِ أَوْ لِلزَّنْدَقَةِ مُظْهِرًا اُسْتُتِيبَ فَإِنْ تَابَ وَإِلَّا قُتِلَ.
مَسْأَلَةٌ:
إنْ كَانَ السَّاحِرُ ذِمِّيًّا، فَقَدْ قَالَ مَالِكٌ: لَا يُقْتَلُ إلَّا أَنْ يُدْخِلَ السِّحْرُ ضَرَرًا عَلَى الْمُسْلِمِينَ، فَيَكُونُ نَاقِضًا لِلْعَهْدِ فَيُقْتَلُ وَلَا تُقْبَلُ مِنْهُ تَوْبَتُهُ غَيْرَ الْإِسْلَامِ، وَأَمَّا إنْ سَحَرَ أَهْلَ مِلَّتِهِ فَلْيُؤَدَّبْ إلَّا أَنْ يَقْتُلَ أَحَدًا فَيُقْتَلُ بِهِ.
وَقَالَ سَحْنُونٌ: فِي السَّاحِرِ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ يُقْتَلُ إلَّا أَنْ يُسْلِمَ فَيُتْرَكَ كَمَنْ سَبَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَظَاهِرُهُ أَنَّهُ يُقْتَلُ عَلَى كُلِّ حَالٍ إلَّا أَنْ يُسْلِمَ بِخِلَافِ قَوْلِ مَالِكٍ: لَا يُقْتَلُ إلَّا أَنْ يُؤْذِيَ مُسْلِمًا أَوْ يَقْتُلَ ذِمِّيًّا، وَنَقَلَ ابْنُ الْفَرَسِ قَوْلًا ثَالِثًا أَنَّهُ يُقْتَلُ وَإِنْ أَسْلَمَ.
مَسْأَلَةٌ:
وَأَمَّا مَنْ لَيْسَ بِمُبَاشِرِ عَمَلِ السِّحْرِ وَلَكِنْ ذَهَبَ إلَى مَنْ يَعْمَلُهُ لَهُ، فَفِي الْمَوَّازِيَّةِ: يُؤَدَّبُ أَدَبًا شَدِيدًا.
مَسْأَلَةٌ:
قَالَ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ: وَرَوَى ابْنُ نَافِعٍ عَنْ مَالِكٍ فِي الْمَبْسُوطِ فِي الْمَرْأَةِ تُقِرُّ أَنَّهَا عَقَدَتْ زَوْجَهَا عَنْ نَفْسِهَا أَوْ غَيْرِهَا مِنْ النِّسَاءِ أَنَّهَا تَنْكُلُ، قَالَ: وَلَوْ سَحَرَ نَفْسَهُ لَمْ يُقْتَلْ بِذَلِكَ، قَالَ ابْنُ الْفَرَسِ وَقَالَ مَالِكٌ: فِيمَنْ يَعْقِدُ الرَّجُلَ عَنْ النِّسَاءِ يُعَاقَبُ وَلَا يُقْتَلُ، فَتَأَمَّلْ مَا نَقَلَهُ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ، قَالَ ابْنُ الْفَرَسِ: وَيُؤْخَذُ مِنْ هَذَا أَنْ لَيْسَ كُلُّ سِحْرٍ كُفْرًا، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
مَسْأَلَةٌ:
قَالَ ابْنُ الْفَرَسِ: وَاخْتَلَفَ السَّلَفُ هَلْ يَجُوزُ أَنْ يُسْأَلَ حَلَّ السِّحْرِ عَنْ الْمَسْحُورِ أَمْ لَا؟ فَكَرِهَهُ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ لِأَنَّهُ عَمَلُ سِحْرٍ.
وَقَالَ: لَا يَعْلَمُ ذَلِكَ إلَّا سَاحِرٌ، وَلَا يَجُوزُ إتْيَانُ السَّاحِرِ لِمَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ (مَنْ أَتَى إلَى كَاهِنٍ أَوْ سَاحِرٍ فَقَدْ كَفَرَ بِمَا أُنْزِلَ عَلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ)، وَأَجَازَهُ ابْنُ الْمُسَيِّبِ لِأَنَّهُ نَوْعٌ مِنْ الْعِلَاجِ فَيُخَصَّصُ بِذَلِكَ قَوْلُهُ: {يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ} [البقرة: 102] ذَكَرَهُ الْبُخَارِيُّ عَنْهُ.
فرع:
قَالَ ابْنُ الْفَرَسِ: وَانْظُرْ عَلَى هَذَا، هَلْ هُوَ يَجُوزُ السِّحْرُ فِي الِاصْطِلَاحِ بَيْنَ نَفْسَيْنِ؟ كَالْمَرْأَةِ تَبْتَغِي صَلَاحَ زَوْجِهَا وَاسْتِئْلَافَهُ، وَعَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ السِّحْرَ كُفْرٌ فَإِنَّمَا يُرَادُ بِهِ مَا شَهِدَ الشَّرْعُ بِأَنَّهُ كُفْرٌ.
مَسْأَلَةٌ:
وَفِي الطُّرَرِ لِابْنِ عَاتٍ: لَا يَجُوزُ الْجُعْلُ عَلَى حَلِّ الْمَرْبُوطِ وَالْمَسْحُورِ، وَكَذَلِكَ لَا يَجُوزُ الْجُعْلُ عَلَى إخْرَاجِ الْجَانِّ مِنْ الرَّجُلِ، لِأَنَّهُ لَا تُعْرَفُ حَقِيقَتُهُ وَلَا يُوقَفُ عَلَيْهِ، وَلَا يَنْبَغِي لِأَهْلِ الْوَرَعِ الدُّخُولُ فِيهِ، وَنُسِبَ نَقْلُ ذَلِكَ إلَى الِاسْتِغْنَاءِ لِابْنِ عَبْدِ الْغَفُورِ.

.فَصْلٌ فِي عُقُوبَةِ الْعَائِنِ إذَا امْتَنَعَ مِنْ الْوُضُوءِ:

وَفِي الْمُوَطَّأِ: «أَنَّ سَهْلَ بْنَ حَنِيفٍ اغْتَسَلَ بِالْخَزَّارِ، فَنَزَعَ جُبَّةً كَانَتْ عَلَيْهِ وَعَامِرُ بْنُ رَبِيعَةَ يَنْظُرُ إلَيْهِ، وَكَانَ سَهْلُ رَجُلًا أَبْيَضَ حَسَنَ الْجِلْدِ، قَالَ فَقَالَ لَهُ عَامِرُ بْنُ رَبِيعَةَ: مَا رَأَيْت كَالْيَوْمِ وَلَا جِلْدَ عَذْرَاءَ، فَوُعِكَ سَهْلٌ مَكَانَهُ وَاشْتَدَّ وَعْكُهُ، فَأُتِيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأُخْبِرَ أَنَّ سَهْلًا وُعِكَ وَأَنَّهُ غَيْرُ رَائِحٍ مَعَك يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَأَتَاهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرَهُ سَهْلٌ بِاَلَّذِي كَانَ مِنْ شَأْنِ عَامِرٍ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: عَلَامَ يَقْتُلُ أَحَدُكُمْ أَخَاهُ؟ أَلَّا بَرَّكْت إنَّ الْعَيْنَ حَقٌّ تَوَضَّأَ لَهُ فَتَوَضَّأَ لَهُ عَامِرٌ، فَرَاحَ سَهْلٌ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْسَ بِهِ بَأْسٌ» وَفِي رِوَايَةٍ: «أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَعَا عَامِرًا فَتَغَيَّظَ عَلَيْهِ. وَقَالَ: عَلَامَ يَقْتُلُ أَحَدُكُمْ أَخَاهُ؟ أَلَّا بَرَّكْت اغْسِلْ لَهُ، فَغَسَلَ عَامِرٌ وَجْهَهُ وَمِرْفَقَيْهِ وَرُكْبَتَيْهِ وَأَطْرَافَ رِجْلَيْهِ وَدَاخِلَةَ إزَارِهِ فِي قَدَحٍ فَصَبَّ عَلَيْهِ».
وَرُوِيَ عَنْ الزُّهْرِيِّ أَنَّهُ قَالَ: الْغُسْلُ الَّذِي أَدْرَكْنَا عُلَمَاءَنَا يَصِفُونَهُ أَنَّهُ يُؤْتَى الْعَائِنُ بِقَدَحٍ فِيهِ مَاءٌ فَيُمْسِكُ مُرْتَفِعًا عَنْ الْأَرْضِ فَيُدْخِلُ فِيهِ كَفَّيْهِ فَيُمَضْمِضُ ثُمَّ يَمُجُّهُ فِي الْقَدَحِ، ثُمَّ يَغْسِلُ وَجْهَهُ فِي الْقَدَحِ صَبَّةً وَاحِدَةً، ثُمَّ يُدْخِلُ يَدَهُ الْيُسْرَى فَيَصُبُّ بِهَا عَلَى كَفِّهِ الْيُمْنَى، ثُمَّ يُدْخِلُ كَفَّهُ الْيُمْنَى فَيَصُبُّ بِهَا عَلَى كَفِّهِ الْيُسْرَى، ثُمَّ يُدْخِلُ يَدَهُ الْيُسْرَى فَيَصُبُّ بِهَا عَلَى مِرْفَقِهِ الْأَيْمَنِ، ثُمَّ يُدْخِلُ يَدَهُ الْيُمْنَى فَيَصُبُّ بِهَا عَلَى مِرْفَقِهِ الْأَيْسَرِ، ثُمَّ يُدْخِلُ يَدَهُ الْيُسْرَى فَيَصُبُّ بِهَا عَلَى قَدَمِهِ الْيُمْنَى، ثُمَّ يُدْخِلُ يَدَهُ الْيُمْنَى فَيَصُبُّ بِهَا عَلَى قَدَمِهِ الْيُسْرَى، ثُمَّ يُدْخِلُ يَدَهُ الْيُمْنَى فَيَصُبُّ بِهَا عَلَى قَدَمِهِ الْيُسْرَى، ثُمَّ يُدْخِلُ يَدَهُ الْيُسْرَى فَيَصُبُّ بِهَا عَلَى رُكْبَتِهِ الْيُمْنَى، ثُمَّ يُدْخِلُ يَدَهُ الْيُمْنَى فَيَصُبُّ بِهَا عَلَى رُكْبَتِهِ الْيُسْرَى، كُلُّ ذَلِكَ فِي الْقَدَحِ، ثُمَّ يُدْخِلُ دَاخِلَةَ إزَارِهِ فِي الْقَدَحِ، ثُمَّ يُوضَعُ الْقَدَحُ فِي الْأَرْضِ وَيُصَبُّ عَلَى رَأْسِ الْمَعِينِ مِنْ خَلْفِهِ صَبَّةً وَاحِدَةً.
وَقِيلَ: يُسْتَغْفَلُ وَيُصَبُّ عَلَيْهِ ثُمَّ يُكَفَّا الْقَدَحُ عَلَى ظَهْرِ الْأَرْضِ وَرَاءَهُ، وَأَمَّا دَاخِلَةُ إزَارِهِ فَهُوَ أَطْرَافُ الْمُتَدَلِّي الَّذِي يُفْضَى مِنْ مِئْزَرِهِ إلَى جِلْدِهِ، قَالَ عِيسَى بْنُ دِينَارٍ فِي غَسْلِ الْيَدَيْنِ: إنَّمَا يَغْسِلُ يَدَيْهِ وَمِرْفَقَيْهِ وَلَا يَغْسِلُ مَا بَيْنَ الْيَدِ وَالْمِرْفَقِ.
مَسْأَلَةٌ:
وَفِي شَرْحِ الْجَلَّابِ لِلْقَرَافِيِّ: فَإِنْ امْتَنَعَ مِنْ الْوُضُوءِ قُضِيَ عَلَيْهِ إنْ خُشِيَ عَلَى الْمَعْيُونِ الْهَلَاكُ، وَكَانَ وُضُوءُ الْعَائِنِ يُبْرِئُ عَادَةً وَلَمْ يَزُلْ الْهَلَاكُ عَنْهُ إلَّا بِهَذَا الْوُضُوءِ، لِأَنَّهُ مِنْ بَابِ إحْيَاءِ النَّفْسِ كَبَذْلِ الطَّعَامِ عِنْدَ الْمَجَاعَةِ، وَقَالَ الزَّنَاتِيُّ فِي شَرْحِ الرِّسَالَةِ يُجْبَرُ عَلَى الْوُضُوءِ إنْ امْتَنَعَ مِنْهُ وَأَبَى أَنْ يَفْعَلَهُ بِالْأَدَبِ الْوَجِيعِ حَتَّى يَفْعَلَهُ بِنَفْسِهِ، وَإِلَّا يَفْعَلَهُ غَيْرُهُ بِهِ عِنْدَ امْتِنَاعِهِ، فَإِنَّ الشِّفَاءَ مَنُوطٌ بِفِعْلِهِ كَمَا أَنَّ الْمَرَضَ النَّازِلَ كَانَ بِسَبَبِهِ، وَلَا يَنْدَفِعُ مَا نَزَلَ بِسَبَبِهِ إلَّا بِفِعْلِهِ.
فَصْلٌ: قَالَ الْبَاجِيُّ: وَقَدْ ذَكَرَ النَّاسُ فِي أَمْرِ الْعَيْنِ وُجُوهًا، أَصَحُّهَا أَنْ يَكُونَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ قَدْ أَجْرَى الْعَادَةَ عِنْدَ تَعَجُّبِ النَّاظِرِ مِنْ أَمْرٍ وَنُطْقِهِ، دُونَ أَنْ يُبَرِّكَ أَنْ يَمْرَضَ الْمُتَعَجَّبُ مِنْهُ أَوْ يَتْلَفُ أَوْ يَتَغَيَّرُ، إلَّا أَنَّ الْعَائِنَ إذَا بَرَّكَ وَهُوَ أَنْ يَقُولَ: بَارَكَ اللَّهُ فِيهِ، بَطَلَ الْمَعْنَى الَّذِي يَخَافُ مِنْ الْعَيْنِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ تَأْثِيرٌ، فَإِنْ لَمْ يُبَرِّكْ وَقَعَ مَا أَجْرَى اللَّهُ بِهِ الْعَادَةَ عِنْدَ ذَلِكَ، وَقَدْ يُنَافِي ذَلِكَ بَعْدَ وُقُوعِهِ بِمَا أَمَرَ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَقَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: الْبَارِئُ سُبْحَانَهُ هُوَ الْخَالِقُ لِمَا فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ، فَلَيْسَ فِيهِمَا حَرَكَةٌ وَلَا سُكْنَةٌ وَلَا كَلِمَةٌ وَلَا لَفْظَةٌ إلَّا اللَّهُ سُبْحَانَهُ خَالِقَهَا فِي الْعَبْدِ وَهُوَ مُقَدِّرُهَا، وَهُوَ تَعَالَى يُرَتِّبُ أَفْعَالَهُ وَيُرَتِّبُ أَسْبَابَهَا وَيُرَتِّبُ الْعَوَائِدَ عَلَى أَسْبَابٍ.
مِثَالُ ذَلِكَ: الْعَيْنُ فَإِنَّ النَّفْسَ إذَا رَأَتْ صُورَةً تَسْتَحْسِنُهَا فَغَلَبَ ذَلِكَ عَلَيْهَا وَاسْتَوْلَى ذَلِكَ عَلَى الْقَلْبِ، فَإِنْ لَمْ تَنْطِقْ بِحَرْفٍ لَمْ يَخْلُقْ اللَّهُ شَيْئًا، وَإِنْ نُطِقَتْ بِالِاسْتِحْسَانِ وَالتَّعَجُّبِ مِنْ الْجَمَالِ، فَقَدْ أَجْرَى اللَّهُ تَعَالَى الْعَادَةَ بِأَنَّهُ إذَا خَلَقَ النُّطْقَ بِالِاسْتِحْسَانِ، وَالتَّعَجُّبِ مِثْلًا مِنْ الْعَائِنِ، خَلَقَ اللَّهُ تَعَالَى فِي بَدَنِ الْمَعِينِ الْمَرَضَ وَالْهَلَكَةَ عَلَى قَدْرِ مَا يُرِيدُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ، فَلِذَلِكَ نُهِيَ الْعَائِنُ عَنْ الْقَوْلِ وَالْبَارِئُ تَعَالَى، وَإِنْ كَانَ قَدْ سَبَقَ فِي حُكْمِهِ الْوُجُودُ بِذَلِكَ، فَقَدْ سَبَقَ مِنْ حِكْمَتِهِ أَنَّ الْعَائِنَ إذَا بَرَّكَ سَقَطَ حُكْمُ فِعْلِهِ وَلَمْ يَظْهَرْ لَهُ أَثَرٌ، وَالْبَارِئُ سُبْحَانَهُ يَرُدُّ قَضَاءَهُ بِقَضَائِهِ.
وَمِنْ حِكْمَتِهِ: أَنْ جَعَلَ وُضُوءَ الْعَائِنِ يُسْقِطُ أَثَرَ عَيْنِهِ وَذَلِكَ بِخَاصَّةٍ لَا يَعْلَمُهَا إلَّا خَالِقُ الْخَاصِّ وَالْعَامِّ، وَكَذَلِكَ مَا يَحْدُثُ عِنْدَ قَوْلِ السَّاحِرِ وَفِعْلِهِ فِي جِسْمِ الْمَسْحُورِ أَوْ مَالِهِ، وَضَعَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْأَرْضِ بِمَشِيئَتِهِ وَحِكْمَتِهِ، وَمِنْ فُصُولِ الشَّرِيعَةِ وَفَضْلِهَا وَحِكْمَتِهَا الْبَالِغَةِ، مَا وَضَعَهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ الرُّقَى بِإِذْهَابِ الْأَمْرَاضِ مِنْ الْأَبْدَانِ بِهَا، وَإِبْطَالِ سِحْرِ السَّاحِرِ وَرَدِّ عَيْنِ الْعَائِنِ عِنْدَ الِاسْتِرْقَاءِ بِهَا، وَدَفْعِ كُلِّ ضَرَرٍ بِإِذْنِ اللَّهِ تَعَالَى.
وَالْبَارِئُ تَعَالَى هُوَ الَّذِي خَلَقَ الشِّفَاءَ عِنْدَ الِاسْتِرْقَاءِ، كَمَا خَلَقَ الشِّفَاءَ مِنْ الدَّاءِ عِنْدَ اسْتِعْمَالِ الدَّوَاءِ وَلَا حَظَّ لِلدَّوَاءِ فِي ذَلِكَ، وَلَا يَصِحُّ فِي عَقْلِ عَاقِلٍ أَنْ يَكُونَ جَمَادًا فَاعِلًا، وَكَمَا أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ يَصْرِفُ الْأَفْعَالَ الْغَرِيبَةَ دَاخِلَ الْبَدَنِ بِالْأَدْوِيَةِ، كَذَلِكَ يَصْرِفُهَا خَارِجَ الْبَدَنِ بِالرُّقَى وَالتَّعْوِيذِ، وَقَدْ شَاهَدْنَا ذَلِكَ وَالشَّاهِدُ أَقْوَى مِنْ الدَّلِيلِ النَّظَرِيِّ.

.الْفَصْلُ الْحَادِيَ عَشَرَ مِنْ الزَّوَاجِرِ الشَّرْعِيَّةِ التَّعْزِيرَاتُ وَالْعُقُوبَةُ:

وَالتَّعْزِيرُ تَأْدِيبُ اسْتِصْلَاحٍ وَزَجْرٍ عَلَى ذُنُوبٍ لَمْ يُشْرَعْ فِيهَا حُدُودٌ وَلَا كَفَّارَاتٌ، وَالْأَصْلُ فِي التَّعْزِيرَاتِ مَا ثَبَتَ فِي سُنَنِ أَبِي دَاوُد، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَا يُجْلَدُ فَوْقَ عَشَرَةِ أَسْوَاطٍ إلَّا فِي حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ تَعَالَى».
وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَا يُجْلَدُ أَحَدٌ حَدًّا فَوْقَ عَشَرَةِ أَسْوَاطٍ إلَّا فِي حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ تَعَالَى»، وَهَذَا دَلِيلُ التَّعْزِيرِ بِالْفِعْلِ، وَأَمَّا التَّعْزِيرُ بِالْقَوْلِ فَدَلِيلُهُ مَا ثَبَتَ فِي سُنَنِ أَبِي دَاوُد، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَتَى بِرَجُلٍ قَدْ شَرِبَ فَقَالَ اضْرِبُوهُ، فَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: فَمِنَّا الضَّارِبُ بِيَدِهِ، وَالضَّارِبُ بِنَعْلِهِ، وَالضَّارِبُ بِثَوْبِهِ».
وَفِي رِوَايَةٍ بِإِسْنَادِهِ، «ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَصْحَابِهِ بَكِّتُوهُ، فَأَقْبَلُوا عَلَيْهِ يَقُولُونَ مَا اتَّقَيْت اللَّهَ؟ مَا خَشِيت اللَّهَ؟ وَمَا اسْتَحْيَيْت مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ»؟ وَهَذَا ثَبَتَ فِيهِ التَّعْزِيرُ بِالْقَوْلِ، وَلَمَّا كَانَ النَّاسُ لَا يَرْتَدِعُونَ عَنْ ارْتِكَابِ الْمُحَرَّمَاتِ وَالْمَنْهِيَّاتِ إلَّا بِالْحُدُودِ وَالْعُقُوبَةِ وَالزَّوَاجِرِ، شُرِعَ ذَلِكَ عَلَى طَبَقَاتٍ مُخْتَلِفَةٍ، فَالْعُقُوبَةُ تَكُونُ عَلَى فِعْلِ مُحَرَّمٍ أَوْ تَرْكِ وَاجِبٍ أَوْ سُنَّةٍ أَوْ فِعْلِ مَكْرُوهٍ، وَمِنْهَا مَا هُوَ مُقَدَّرٌ، وَمِنْهَا مَا هُوَ غَيْرُ مُقَدَّرٍ، وَتَخْتَلِفُ مَقَادِيرُهَا وَأَجْنَاسُهَا وَصِفَاتُهَا بِاخْتِلَافِ الْجَرَائِمِ وَكِبَرِهَا وَصِغَرِهَا، وَبِحَسَبِ حَالِ الْمُجْرِمِ فِي نَفْسِهِ، وَبِحَسَبِ حَالِ الْقَاتِلِ وَالْمَقْتُولِ فِيهِ وَالْقَوْلِ وَقَالَ ابْنُ قَيِّمِ الْجَوْزِيَّةِ: اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ التَّعْزِيرَ مَشْرُوعٌ فِي كُلِّ مَعْصِيَةٍ لَيْسَ فِيهَا حَدٌّ بِحَسَبِ الْجِنَايَةِ فِي الْعِظَمِ وَالصِّغَرِ، وَحَسَبِ الْجَانِي فِي الشَّرِّ وَعَدَمِهِ.

.فَصْلٌ: التَّعْزِيرُ يَكُونُ عَلَى ماذا؟:

وَالتَّعْزِيرُ يَكُونُ عَلَى تَرْكِ وَاجِبٍ، مِثَالُهُ: مَنْعُ الزَّكَاةِ، وَأَمَّا الصَّلَاةُ فَعَلَى مَا هُوَ مَشْرُوحٌ فِي بَابِهَا، وَمِنْ ذَلِكَ: تَرْكُ قَضَاءِ الدَّيْنِ وَأَدَاءِ الْأَمَانَاتِ، مِثْلُ الْوَدَائِعِ وَأَمْوَالِ الْأَيْتَامِ وَغَلَّاتِ الْوُقُوفِ، وَمَا تَحْتَ أَيْدِي الْوُكَلَاءِ وَالْمُقَارِضِينَ وَشِبْهِ ذَلِكَ، وَالِامْتِنَاعِ مِنْ رَدِّ الْمَغْصُوبِ وَالْمَظَالِمِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى أَدَاءِ ذَلِكَ كُلِّهِ إلَى أَرْبَابِهِ، فَإِنَّهُ يُعَاقَبُ عَلَى ذَلِكَ كُلِّهِ حَتَّى يُؤَدِّيَ مَا يَجِبُ عَلَيْهِ، وَكَذَلِكَ الِامْتِنَاعُ مِنْ قَبُولِ وِلَايَةِ الْقَضَاءِ إذَا تَعَيَّنَ عَلَيْهِ ذَلِكَ.
قَالَ ابْنُ رُشْدٍ: وَيُجْبَرُ عَلَى ذَلِكَ إنْ أَبَاهُ وَلَوْ بِالْحَبْسِ وَالضَّرْبِ.
تنبيه:
لَا يَدْخُلُ فِي تَرْكِ الْوَاجِبَاتِ مَنْ امْتَنَعَ مِنْ فِعْلِ الْحَجِّ، وَإِنْ قُلْنَا: إنَّهُ عَلَى الْفَوْرِ مُرَاعَاةً لِلْقَوْلِ بِأَنَّهُ عَلَى التَّرَاخِي، وَأَمَّا تَرْكُ السُّنَنِ فَمِثَالُهُ تَرْكُ الْوِتْرِ، قَالَ أَصْبَغُ: بِتَأْدِيبِ تَارِكِ الْوِتْرِ وَأَمَّا فِعْلُ الْمُحَرَّمِ فَأَنْوَاعُهُ كَثِيرَةٌ فَعَنْ ذَلِكَ مَا يَجِبُ فِيهِ الْعُقُوبَةُ وَالْكَفَّارَةُ وَالْغُرْمُ، كَقَتْلِ الْعَمْدِ إذَا عُفِيَ فِيهِ عَلَى الدِّيَةِ، فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْقَاتِلِ الدِّيَةُ وَيُسْتَحَبُّ لَهُ الْكَفَّارَةُ وَيُضْرَبُ مِائَةً وَيُحْبَسُ سَنَةً، وَيُسْتَحَبُّ الْكَفَّارَةُ فِي قَتْلِ الرَّقِيقِ وَالذِّمِّيِّ.
وَمِنْهَا: مَا يَجِبُ فِيهِ الْقِصَاصُ وَالْأَدَبُ، وَهُوَ الْجَارِحُ عَمْدًا يُقْتَصُّ مِنْهُ وَيُؤَدَّبُ.
وَمِنْهَا: مَا يَجِبُ فِيهِ الْغُرْمُ وَهُوَ الْجَنِينُ وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنْ الْإِتْلَافَاتِ، وَرُوِيَ عَنْ مَالِكٍ: اسْتِحْبَابُ الْكَفَّارَةِ فِي الْجَنِينِ.
وَمِنْهَا: مَا فِيهِ التَّعْزِيرُ فَقَطْ كَسَرِقَةِ مَا لَا قَطْعَ فِيهِ، وَالْخَلْوَةِ بِالْأَجْنَبِيَّةِ، وَوَطْءِ الْمُكَاتَبَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ الِاسْتِمْنَاءِ، وَاتَيَانِ الْبَهِيمَةِ، وَيَمِينِ الْغَمُوسِ، وَالْغِشِّ فِي الْأَسْوَاقِ، وَالْعَمَلِ بِالرِّبَا، وَشَهَادَةِ الزُّورِ، وَالتَّحْلِيلِ وَالشَّهَادَةِ عَلَى نِكَاحِ السِّرِّ، وَكَذَلِكَ يُؤَدَّبُ الزَّوْجَانِ وَالْوَلِيُّ إلَّا أَنْ يُعْذَرُوا بِجَهْلٍ.
وَمِنْهَا: مَا تَجِبُ فِيهِ الْكَفَّارَةُ وَالْغُرْمُ كَقَتْلِ الْخَطَأِ.
وَمِنْهَا: مَا فِيهِ الْكَفَّارَةُ وَالْأَدَبُ مَعَ الْإِثْمِ، كَالْجِمَاعِ فِي الْإِحْرَامِ وَفِي رَمَضَانَ، وَوَطْءِ الْمُظَاهِرِ مِنْهَا قَبْلَ الْكَفَّارَةِ مُتَعَمِّدًا فِي الْجَمِيعِ.
وَمِنْهَا: مَا فِيهِ الْعُقُوبَةُ كَحِمَايَةِ الظَّلَمَةِ وَالذَّبِّ عَنْهُمْ، وَكَمَنْ دَفَعَ عَنْ شَخْصٍ وَجَبَ عَلَيْهِ حَقٌّ، وَكَمَنْ يَحْمِي قُطَّاعَ الطَّرِيقِ أَوْ سَارِقًا وَنَحْوَ ذَلِكَ، فَإِنَّ مَنْ يَحْمِيهِ وَيَمْنَعُهُ عَاصٍ لِلَّهِ تَعَالَى وَيَجِبُ عُقُوبَتُهُ حَتَّى يُحْضِرَهُ إنْ كَانَ عِنْدَهُ، وَيَنْزَجِرُ عَنْ ذَلِكَ إلَّا أَنْ يَكُونَ إحْضَارُهُ إلَى مَنْ يَظْلِمُهُ وَيَأْخُذُ مَالَهُ، أَوْ يَتَجَاوَزُ فِيهِ مَا أُمِرَ بِهِ شَرْعًا، فَهَذَا لَا يُحْضِرُهُ وَلَكِنْ يَتَخَلَّى عَنْهُ وَيَرْتَدِعُ عَنْ حِمَايَتِهِ وَالدَّفْعِ عَنْهُ، وَأَمَّا فِعْلُ الْمَكْرُوهِ مِثَالُهُ: حَلْقُ الشَّارِبِ.
وَفِي كَلَامِ ابْنِ رُشْدٍ أَنَّهُ يُؤَدَّبُ.

.فَصْلٌ التَّعْزِيرُ لَا يَخْتَصُّ بِالسَّوْطِ وَالْيَدِ وَالْحَبْسِ:

فَصْلٌ وَالتَّعْزِيرُ لَا يَخْتَصُّ بِالسَّوْطِ وَالْيَدِ وَالْحَبْسِ، وَإِنَّمَا ذَلِكَ مَوْكُولٌ إلَى اجْتِهَادِ الْإِمَامِ، قَالَ الْأُسْتَاذُ أَبُو بَكْرٍ الطُّرْطُوشِيُّ فِي أَخْبَارِ الْخُلَفَاءِ الْمُتَقَدِّمِينَ: أَنَّهُمْ كَانُوا يُعَامِلُونَ الرَّجُلَ عَلَى قَدْرِهِ وَقَدْرِ جِنَايَتِهِ مِنْهُمْ مَنْ يُضْرَبُ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُحْبَسُ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُقَامُ وَاقِفًا عَلَى قَدَمَيْهِ فِي الْمَحَافِلِ، وَمِنْهُمْ مَنْ تُنْزَعُ عِمَامَتُهُ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُحَلُّ إزَارُهُ.
وَقَالَ الْقَرَافِيُّ: إنَّ التَّعْزِيرَ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَعْصَارِ وَالْأَمْصَارِ، فَرُبَّ تَعْزِيرٍ فِي بَلَدٍ يَكُونُ إكْرَامًا فِي بَلَدٍ آخَرَ، كَقَطْعِ الطَّيْلَسَانِ لَيْسَ تَعْزِيرًا فِي الشَّامِ فَإِنَّهُ إكْرَامٌ، وَكَشْفُ الرَّأْسِ عِنْدَ الْأَنْدَلُسِ لَيْسَ هَوَانًا، وَبِمِصْرِ وَالْعِرَاقِ هَوَانٌ، اُنْظُرْ الْفَرْقَ السَّادِسَ وَالْأَرْبَعِينَ وَالْمِائَتَيْنِ وَمَا ذَكَرَهُ فِي الشَّامِ، يُسْتَثْنَى مِنْهُ مَنْ أَلِفَ ذَلِكَ وَكَانَتْ عَادَتُهُ الطَّيْلَسَانُ مِنْ الْمَالِكِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ.

.فَصْلٌ التَّعْزِيرُ لَا يَخْتَصُّ بِفِعْلٍ مُعَيَّنٍ وَلَا قَوْلٍ مُعَيَّنٍ:

فَصْلٌ وَالتَّعْزِيرُ لَا يَخْتَصُّ بِفِعْلٍ مُعَيَّنٍ وَلَا قَوْلٍ مُعَيَّنٍ، فَقَدْ عَزَّرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْهَجْرِ، وَذَلِكَ فِي عَقْدِ الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ ذَكَرَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ فَهُجِرُوا خَمْسِينَ يَوْمًا لَا يُكَلِّمُهُمْ أَحَدٌ، وَقَضِيَّتُهُمْ مَشْهُورَةٌ فِي الصِّحَاحِ، وَعَزَّرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالنَّفْيِ، فَأَمَرَ بِإِخْرَاجِ الْمُخَنَّثِينَ مِنْ الْمَدِينَةِ وَنَفْيِهِمْ، وَكَذَلِكَ الصَّحَابَةُ مِنْ بَعْدِهِ، وَنَذْكُرُ مِنْ ذَلِكَ بَعْضَ مَا وَرَدَتْ بِهِ السُّنَّةُ مِمَّا قَالَ بِبَعْضِهِ أَصْحَابُنَا، وَبَعْضِهِ خَارِجُ الْمَذْهَبِ.
فَمِنْهَا: أَمَرَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِهَجْرِ صَبِيغٍ الَّذِي كَانَ يَسْأَلُ عَنْ الذَّارِيَاتِ وَغَيْرِهَا، وَيَأْمُرُ النَّاسَ بِالتَّفَقُّدِ عَنْ الْمُشْكِلَاتِ مِنْ الْقُرْآنِ فَضَرَبَهُ ضَرْبًا وَجِيعًا وَنَفَاهُ إلَى الْبَصْرَةِ أَوْ الْكُوفَةِ، وَأَمَرَ بِهَجْرِهِ فَكَانَ لَا يُكَلِّمُهُ أَحَدٌ حَتَّى تَابَ، وَكَتَبَ عَامِلُ الْبَلَدِ إلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يُخْبِرُهُ بِتَوْبَتِهِ، فَأَذِنَ لِلنَّاسِ فِي كَلَامِهِ.
وَمِنْهَا: أَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حَلَقَ رَأْسَ نَصْرِ بْنِ حَجَّاجٍ وَنَفَاهُ مِنْ الْمَدِينَةِ، لَمَّا شَبَّبَ النِّسَاءُ بِهِ فِي الْأَشْعَارِ وَخَشِيَ الْفِتْنَةَ بِهِ.
وَمِنْهَا: مَا فَعَلَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْعُرَنِيِّينَ.
وَمِنْهَا: «أَمْرُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْمَرْأَةِ الَّتِي لَعَنَتْ نَاقَتَهَا إنْ تُخَلِّيَ سَبِيلَهَا».
وَمِنْهَا: أَنَّ أَبَا بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ اسْتَشَارَ الصَّحَابَةَ فِي رَجُلٍ يُنْكَحُ كَمَا تُنْكَحُ الْمَرْأَةُ، فَأَشَارُوا بِحَرْقِهِ فِي النَّارِ، فَكَتَبَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِذَلِكَ إلَى خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، ثُمَّ حَرَّقَهُمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ فِي خِلَافَتِهِ، ثُمَّ حَرَّقَهُمْ هِشَامُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ، وَهُوَ رَأْيُ ابْنِ حَبِيبٍ مِنْ أَصْحَابِنَا ذَكَرَهُ فِي مُخْتَصَرِ الْوَاضِحَةِ.
وَمِنْهَا: أَنَّ أَبَا بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حَرَّقَ جَمَاعَةً مِنْ أَهْلِ الرِّدَّةِ.
وَمِنْهَا: «إبَاحَتُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَلْبَ الَّذِي يَصْطَادُ فِي حَرَمِ الْمَدِينَةِ لِمَنْ وَجَدَهُ».
وَمِنْهَا: «أَمْرُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِكَسْرِ دِنَانِ الْخَمْرِ وَشَقِّ ظُرُوفِهَا».
وَمِنْهَا: «أَمْرُهُ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِتَحْرِيقِ الثَّوْبَيْنِ الْمُعَصْفَرَيْنِ».
وَمِنْهَا: «أَمْرُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ خَيْبَرَ بِكَسْرِ الْقُدُورِ الَّتِي طُبِخَ فِيهَا لَحْمُ الْحُمُرِ الْأَهْلِيَّةِ، ثُمَّ اسْتَأْذَنُوهُ فِي غَسْلِهَا فَأَذِنَ لَهُمْ» فَدَلَّ عَلَى جَوَازِ الْأَمْرَيْنِ، لِأَنَّ الْعُقُوبَةَ بِالْكَسْرِ لَمْ تَكُنْ وَاجِبَةً.
وَمِنْهَا: «هَدْمُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمَسْجِدِ الضِّرَارِ».
وَمِنْهَا: «أَمْرُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِتَحْرِيقِ مَتَاعِ الَّذِي غَلَّ مِنْ الْغَنِيمَةِ».
وَمِنْهَا: «إضْعَافُ الْغُرْمِ عَلَى سَارِقِ مَا لَا قَطْعَ فِيهِ مِنْ الثَّمَرِ وَالْكَثَرِ».
وَمِنْهَا: «إضْعَافُ الْغُرْمِ عَلَى كَاتِمِ الضَّالَّةِ».
وَمِنْهَا: «أَخْذُهُ شَطْرَ مَانِعِ الزَّكَاةِ غَرَامَةً مِنْ غَرَامَاتِ الرَّبِّ تَبَارَكَ وَتَعَالَى».
وَمِنْهَا: «أَمْرُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَابِسَ خَاتَمِ الذَّهَبِ بِطَرْحِهِ فَلَمْ يَعْرِضْ لَهُ أَحَدٌ».
وَمِنْهَا: «أَمْرُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَطْعِ نَخِيلِ الْيَهُودِ إغَاظَةً لَهُمْ».
وَمِنْهَا: تَحْرِيقُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ الْمَكَانَ الَّذِي يُبَاعُ فِيهِ الْخَمْرُ وَمِنْهَا: تَحْرِيقُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَصْرَ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، لَمَّا احْتَجَبَ فِيهِ عَنْ الرَّعِيَّةِ وَصَارَ يَحْكُمُ فِي دَارِهِ.
وَمِنْهَا: مُصَادَرَةُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عُمَّالَهُ بِأَخْذِ شَطْرِ أَمْوَالِهِمْ، فَقَسَمَهَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَمِنْهَا: أَنَّهُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ضَرَبَ الَّذِي زَوَّرَ عَلَى نَقْشِ خَاتَمِهِ، وَأَخَذَ شَيْئًا مِنْ بَيْتِ الْمَالِ مِائَةً، ثُمَّ ضَرَبَ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي مِائَةً، ثُمَّ ضَرَبَهُ فِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ مِائَةً.
وَمِنْهَا: أَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَمَّا وَجَدَ مَعَ السَّائِلِ مِنْ الطَّعَامِ فَوْقَ كِفَايَتِهِ وَهُوَ يَسْأَلُ أَخَذَ مَا مَعَهُ وَأَطْعَمَهُ إبِلَ الصَّدَقَةِ. وَمِنْهَا: أَنَّهُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَرَاقَ اللَّبَنَ الْمَغْشُوشَ وَغَيْرَ ذَلِكَ مِمَّا يَكْثُرُ تَعْدَادُهُ، وَهَذِهِ قَضَايَا صَحِيحَةٌ مَعْرُوفَةٌ، قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ الْجَوْزِيَّةِ وَأَكْثَرُ هَذِهِ الْمَسَائِلِ شَائِعَةٌ فِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَبَعْضُهَا شَائِعٌ فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَمَنْ قَالَ: إنَّ الْعُقُوبَةَ الْمَالِيَّةَ مَنْسُوخَةٌ فَقَدْ غَلَّطَ مَذَاهِبَ الْأَئِمَّةِ نَقْلًا وَاسْتِدْلَالًا، وَلَيْسَ يَسْهُلُ دَعْوَى نَسْخِهَا وَفِعْلُ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ وَأَكَابِرِ الصَّحَابَةِ لَهَا بَعْدَ مَوْتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُبْطِلٌ لِدَعْوَى نَسْخِهَا، وَالْمُدَّعُونَ لِلنَّسْخِ لَيْسَ مَعَهُمْ كِتَابٌ وَلَا سُنَّةٌ وَلَا إجْمَاعٌ بِصَحِيحِ دَعْوَاهُمْ، إلَّا أَنْ يَقُولَ أَحَدُهُمْ مَذْهَبُ أَصْحَابِنَا لَا يَجُوزُ، فَمَذْهَبُ أَصْحَابِهِ عِنْدَهُ عِيَارٌ عَلَى الْقَبُولِ وَالرَّدِّ، انْتَهَى.
وَالتَّعْزِيرُ بِالْمَالِ: قَالَ بِهِ الْمَالِكِيَّةُ فِيهِ، وَلَهُمْ تَفْصِيلٌ ذَكَرْت مِنْهُ فِي كِتَابِ الْحِسْبَةِ طَرَفًا، فَمِنْ ذَلِكَ سُئِلَ مَالِكٌ عَنْ اللَّبَنِ الْمَغْشُوشِ أَيُهْرَاقُ؟ قَالَ: لَا، وَلَكِنْ أَرَى أَنْ يُتَصَدَّقَ بِهِ إذَا كَانَ هُوَ الَّذِي غَشَّهُ.
وَقَالَ فِي الزَّعْفَرَانِ وَالْمِسْكِ الْمَغْشُوشِ مِثْلَ ذَلِكَ قَلِيلًا أَوْ كَثِيرًا، وَخَالَفَهُ ابْنُ الْقَاسِمِ فِي الْكَثِيرِ.
وَقَالَ يُبَاعُ الْمِسْكُ وَالزَّعْفَرَانُ عَلَى مَنْ لَا يُغَشُّ بِهِ وَيُتَصَدَّقُ بِالثَّمَنِ أَدَبًا لِلْغَاشِّ.
مَسْأَلَةٌ:
وَأَفْتَى ابْنُ الْقَطَّانِ الْأَنْدَلُسِيُّ فِي الْمَلَاحِفِ الرَّدِيئَةِ النَّسْجِ بِأَنْ تُحْرَقَ، وَأَفْتَى عَتَّابٌ بِتَقْطِيعِهَا وَالصَّدَقَةِ بِهَا خِرَقًا.
مَسْأَلَةٌ:
وَإِذَا اشْتَرَى عَامِلُ الْقِرَاضِ مِنْ مُعْتَقٍ عَلَى رَبِّ الْمَالِ عَالِمًا بِأَنَّهُ قَرِيبُهُ، فَإِنَّهُ إنْ كَانَ مُوسِرًا عَتَقَ الْعَبْدُ وَغَرِمَ الْعَامِلُ ثَمَنَهُ، وَحِصَّةُ رَبِّ الْمَالِ مِنْ الرِّبْحِ إنْ كَانَ فِي الْمَالِ يَوْمَ الشِّرَاءِ رِبْحٌ وَوَلَاؤُهُ لِرَبِّ الْمَالِ، وَذَلِكَ لِتَعَدِّيهِ فِيمَا فَعَلَ.
مَسْأَلَةٌ:
وَمَنْ وَطِئَ أَمَةً لَهُ مِنْ مَحَارِمِهِ مِمَّنْ لَا يُعْتَقُ عَلَيْهِ بِالْمِلْكِ، فَإِنَّهُ يُعَاقَبُ وَتُبَاعُ عَلَيْهِ وَإِخْرَاجُهَا مِنْ مِلْكِهِ كُرْهًا مِنْ الْعُقُوبَةِ بِالْمَالِ.
مَسْأَلَةٌ:
وَالْفَاسِقُ إذَا آذَى جَارَهُ وَلَمْ يَنْتَهِ، تُبَاعُ عَلَيْهِ دَارُهُ وَهُوَ عُقُوبَةٌ فِي الْمَالِ وَالْبَدَنِ.
مَسْأَلَةٌ:
وَمَنْ مَثَّلَ بِأَمَتِهِ عَتَقَتْ عَلَيْهِ وَذَلِكَ عُقُوبَةٌ بِالْمَالِ.

.فَصْلٌ إذَا ثَبَتَ أَصْلُ التَّعْزِيرِ وَالْعُقُوبَةِ:

فَاخْتُلِفَ هَلْ يَتَجَاوَزُ بِذَلِكَ الْحُدُودَ أَمْ لَا؟ وَفِي مُخْتَصَرِ الْوَاضِحَةِ: أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَتَبَ إلَى أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ أَنْ لَا يَبْلُغَ فِي التَّعْزِيرِ أَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثِينَ جَلْدَةً، وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ بَلَغَ حَدًّا فِي غَيْرِ حَدٍّ فَهُوَ مِنْ الْمُعْتَدِينَ».
وَقَالَ الْمَازِرِيُّ فِي بَعْضِ الْفَتَاوَى: وَأَمَّا تَحْدِيدُ الْعُقُوبَةِ فَلَا سَبِيلَ إلَيْهِ عِنْدَ أَحَدٍ مِنْ أَهْلِ الْمَذْهَبِ، وَقَدْ ذَكَرَ مَالِكٌ فِي الْعُقُوبَاتِ أَمْرًا يُسْتَبْشَعُ، وَهُوَ مَا ذَكَرَهُ عَنْ مَرْوَانَ أَمِيرِ الْمَدِينَةِ وَقَدْ ذَكَرْنَا ذَلِكَ، قَالَ مَالِكٌ: وَكَانَ فِيهِ غِلْظَةٌ فِي الْحُدُودِ، وَلِغَيْرِ مَالِكٍ فِي هَذَا تَحْدِيدَاتٌ، وَبِالْجُمْلَةِ فَإِنَّهَا تَخْتَلِفُ بِحَسَبِ اخْتِلَافِ الذُّنُوبِ، وَمَا يُعْلَمُ مِنْ حَالِ الْمُعَاقَبِ مِنْ جَلَدِهِ وَصَبْرِهِ عَلَى يَسِيرِهَا، أَوْ ضَعْفِهِ عَنْ ذَلِكَ وَانْزِجَارِهِ إذَا عُوقِبَ بِأَقَلِّهَا.
وَقَالَ الْمَازِرِيُّ فِي الْمُعَلِّمِ وَمَذْهَبُ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ يُجِيزُ فِي الْعُقُوبَاتِ فَوْقَ الْحَدِّ لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ فِعْلِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي ضَرْبِ الَّذِي نَقَشَ خَاتَمَهُ مِائَةً، وَنَقَلَ ابْنُ الْقَيِّمِ الْجَوْزِيَّةِ مَا تَقَدَّمَ أَنَّهَا ثَلَثُمِائَةٍ فِي ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، وَذَكَرَهَا الْقَرَافِيُّ، وَأَنَّ صَاحِبَ الْقَضِيَّةِ مَعْنَ بْنَ زِيَادٍ زَوَّرَ كِتَابًا عَلَى عُمَرَ وَنَقَشَ خَاتَمَهُ فَجَلَدَهُ مِائَةً، فَشَفَعَ فِيهِ قَوْمٌ فَقَالَ أَذَكَّرْتُمُونِي الطَّعْنَ وَكُنْت نَاسِيًا؟ فَجَلَدَهُ مِائَةً أُخْرَى، ثُمَّ جَلَدَهُ بَعْدَ ذَلِكَ مِائَةً أُخْرَى وَلَمْ يُخَالِفْهُ أَحَدٌ فَكَانَ إجْمَاعًا قَالَ، الْمَازِرِيُّ: وَضَرَبَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ صَبِيغًا أَكْثَرَ مِنْ الْحَدِّ، وَقَدْ أَخَذَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ بِظَاهِرِ قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «لَا يُجْلَدُ أَحَدٌ حَدًّا فَوْقَ عَشَرَةِ أَسْوَاطٍ إلَّا فِي حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ تَعَالَى»، فَلَمْ يَزِدْ فِي الْعُقُوبَاتِ عَلَى الْعَشَرَةِ قَالَهُ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ، وَيُحْكَى عَنْ أَشْهَبَ وَالْمَشْهُورُ أَنَّهُ قَدْ يُزَادُ عَلَى الْحَدِّ، قَالَ الْمَازِرِيُّ وَتَأَوَّلَ أَصْحَابُنَا الْحَدِيثَ عَلَى أَنَّهُ مَقْصُورٌ عَلَى زَمَنِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِأَنَّهُ كَانَ يَكْفِي الْجَانِي مِنْهُمْ هَذَا الْقَدْرُ وَتَأَوَّلُوهُ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ فِي حَدٍّ أَيْ فِي حُقُوقِ اللَّهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ الْمَعَاصِي الْمُقَدَّرِ حُدُودُهَا، لِأَنَّ الْمَعَاصِيَ كُلَّهَا مِنْ حُدُودِ اللَّهِ تَعَالَى، وَمَشْهُورُ الْمَذْهَبِ أَنَّهُ يُزَادُ الْحَدُّ، وَقَدْ أَمَرَ مَالِكٌ بِضَرْبِ رَجُلٍ وُجِدَ مَعَ صَبِيٍّ قَدْ جَرَّدَهُ وَضَمَّهُ إلَى صَدْرِهِ، فَضَرَبَهُ أَرْبَعَمِائَةٍ فَانْتَفَخَ وَمَاتَ وَلَمْ يَسْتَعْظِمْ مَالِكٌ ذَلِكَ.
وَرَوَى الْعَقَبِيُّ عَنْ مَالِكٍ: لَا يُجَاوِزُ خَمْسَةً وَسَبْعِينَ.
وَقَالَ ابْنُ مَسْلَمَةَ ثَمَانِينَ، وَرُوِيَ عَنْ أَصْبَغَ: أَنَّ أَقْصَى مَا يُنْتَهَى إلَيْهِ جُرْمُ الْفَسَادِ مِائَتَانِ.
وَقَالَ مُطَرِّفٌ: يُنْتَهَى بِهِ إلَى ثَلَثِمِائَةٍ لَا يَزِيدُ عَلَى ذَلِكَ.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ لَا يَبْلُغُ بِالتَّعْزِيرِ أَرْبَعِينَ وَقَالَهُ الشَّافِعِيُّ.
وَقَالَ أَيْضًا لَا يَبْلُغُ عِشْرِينَ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ لَا يَبْلُغُ فِيهِ ثَمَانِينَ مِنْ الْمُعَلِّمِ لِلْمَازِرِيِّ، وَزَادَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي حَدِّ الْخَمْرِ أَرْبَعِينَ فَضَرَبَ فِيهَا ثَمَانِينَ، وَكَانَ الْحَدُّ فِيهَا عَلَى زَمَانِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَيْرَ مَحْصُورٍ، بَلْ كَانَ يَأْمُرُ بِضَرْبِ الشَّارِبِ فَكَانُوا يَضْرِبُونَهُ بِالْجَرِيدِ وَالنِّعَالِ وَالثِّيَابِ وَالْأَيْدِي، حَتَّى يَأْمُرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْكَفِّ عَنْهُ. وَفِي سُنَنِ أَبِي دَاوُد عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَحُدَّ فِيهَا شَيْئًا، وَإِنَّمَا فَعَلَ ذَلِكَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِاسْتِشَارَةِ الصَّحَابَةِ، فَأَشَارَ عَلَيْهِ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ بِأَنْ يَجْعَلَهُ ثَمَانِينَ، قَالَ الْمَازِرِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ لَوْ فَهِمَتْ الصَّحَابَةُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَدًّا مَحْدُودًا فِي الْخَمْرِ، لَمَا أَعْمَلْت فِيهِ رَأْيَهَا وَلَا خَالَفْته مَا فَعَلْت فِي سَائِرِ الْحُدُودِ، فَدَلَّ هَذَا عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِيهِ أَمْرٌ ثَابِتٌ تَجَاوَزُوا بِهِ مَا فَعَلَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ جَلَدَ فِيهِ أَرْبَعِينَ فَلَمْ يَقِفُوا عِنْدَ ذَلِكَ أَيْضًا طَلَبًا لِانْزِجَارِ النَّاسِ عَنْ شُرْبِهَا، فَالتَّعْزِيرَاتُ وَالْعُقُوبَاتُ الْمَقْصُودُ بِهَا الزَّجْرُ يَرَى الْإِمَامُ فِيهَا رَأْيَهُ تَنْبِيهٌ وَالتَّعْزِيرُ إنَّمَا يَجُوزُ مِنْهُ مَا أُمِنَتْ عَاقِبَتُهُ غَالِبًا وَإِلَّا لَمْ يَجُزْ.
مَسْأَلَةٌ:
وَيَنْبَغِي أَنْ يُقْتَصَرَ عَلَى الْقَدْرِ الَّذِي يُظَنُّ انْزِجَارُ الْجَانِي بِهِ وَلَا يَزِيدُ عَلَيْهِ وَفِي الْحَدِيثِ، «وَأَنَّ الْإِمَامَ لَيُخْطِئُ فِي الْعَفْوِ خَيْرٌ مِنْ أَنْ يُخْطِئَ فِي الْعُقُوبَةِ»، وَإِنْ كَانَ هَذَا الْكَلَامُ جَاءَ فِي الْحُدُودِ فَهُوَ مُتَنَاوِلٌ لِغَيْرِهِمَا مِنْ الزَّوَاجِرِ مِنْ ابْنِ عَبْدِ السَّلَامِ.
مَسْأَلَةٌ:
قَالَ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ: وَإِذَا كَانَتْ الْعُقُوبَةُ التَّعْزِيرَ وَالزَّجْرَ فَإِنْ عَلِمَ أَنَّ الزَّجْرَ لَا يَنْفَعُ فَلَا يَفْعَلُ التَّعْزِيرَ، لَكِنْ يُسْجَنُ الْكَبِيرُ حَتَّى يَتَحَقَّقَ تَوْبَتُهُ وَلَا يَعْرِضُ لِلصَّغِيرِ، قَالَ وَإِلَيْهِ أَشَارَ عِزُّ الدِّينِ بْنُ عَبْدِ السَّلَامِ.
مَسْأَلَةٌ:
فَإِنْ عَزَّرَ الْحَاكِمُ أَحَدًا فَمَاتَ أَوْ سَرَى ذَلِكَ إلَى النَّفْسِ فَعَلَى الْعَاقِلَةِ الثُّلُثُ فَأَكْثَرُ.
وَفِي عُيُونِ الْمَجَالِسِ لِلْقَاضِي عَبْدِ الْوَهَّابِ: إذَا عَزَّرَ الْإِمَامُ إنْسَانًا فَمَاتَ فِي التَّعْزِيرِ، لَمْ يَضْمَنْ الْإِمَامُ شَيْئًا لَا دِيَةً وَلَا كَفَّارَةً وَهَذَا بِخِلَافِ الْحَدِّ، فَلَوْ مَاتَ الْمَحْدُودُ فَلَا شَيْءَ عَلَى الْإِمَامِ لِأَنَّهُ فَعَلَ مَا أَمَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ.
تنبيه:
اُنْظُرْ قَوْلَهُ لِأَنَّهُ فَعَلَ مَا أَمَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ، وَيُشْكِلُ عَلَى هَذَا لَوْ مَاتَ مِنْ حَدِّ الْخَمْرِ.
وَفِي سُنَنِ أَبِي دَاوُد وَالتِّرْمِذِيِّ عَنْ عُمَرَ بْنِ سَعِيدٍ النَّخَعِيِّ قَالَ: سَمِعْت عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ: مَا كُنْت لِأُقِيمَ عَلَى أَحَدٍ حَدًّا فَيَمُوتُ، فَأَجِدُ فِي نَفْسِي إلَّا صَاحِبَ الْخَمْرِ فَإِنَّهُ لَوْ مَاتَ وَدَيْته، وَذَلِكَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَسُنَّهُ، وَفِي رِوَايَةٍ لَمْ يَسُنَّ فِيهِ انْتَهَى.
وَلَمْ يَسْتَقِرَّ الْحَدُّ فِي الْخَمْرِ ثَمَانِينَ إلَّا مِنْ زَمَنِ مُعَاوِيَةَ، وَأَمَّا عُثْمَانُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَإِنَّهُ جَلَدَ فِيهَا ثَمَانِينَ كَمَا فَعَلَ عُمَرُ وَجَلَدَ فِيهَا أَرْبَعِينَ، وَكَانَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي صَدْرِ وِلَايَتِهِ يَجْلِدُ فِيهَا أَرْبَعِينَ مُتَّبِعًا لِأَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَفِي جَامِعِ الْأُصُولِ لِرَزِينٍ: «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَلَدَ فِيهَا أَرْبَعِينَ وَجَاءَ نَحْوَ أَرْبَعِينَ»، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
مَسْأَلَةٌ:
وَإِذَا قُلْنَا: إنَّهُ يَجُوزُ لِلْحَاكِمِ أَنْ يُجَاوِزَ الْحُدُودَ فِي التَّعْزِيرِ، فَهَلْ يَجُوزُ أَنْ يَبْلُغَ بِالتَّعْزِيرِ الْقَتْلَ أَوْ لَا؟ فِيهِ خِلَافٌ، وَعِنْدَنَا يَجُوزُ قَتْلُ الْجَاسُوسِ الْمُسْلِمِ إذَا كَانَ يَتَجَسَّسُ بِالْعَدُوِّ وَإِلَيْهِ ذَهَبَ بَعْضُ الْحَنَابِلَةِ، وَأَمَّا الدَّاعِيَةُ إلَى الْبِدْعَةِ الْمُفَرِّقُ لِجَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ فَإِنَّهُ يُسْتَتَابُ، فَإِنْ تَابَ وَإِلَّا قُتِلَ.
وَقَالَ بِذَلِكَ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ فِي قَتْلِ الدَّاعِيَةِ كَالْجَهْمِيَّةِ وَالرَّوَافِضِ وَالْقَدَرِيَّةِ، وَصَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ بِقَتْلِ مَنْ لَا يَزُولُ فَسَادُهُ إلَّا بِالْقَتْلِ، وَذَكَرُوا ذَلِكَ فِي اللُّوطِيِّ إذَا كَثُرَ مِنْهُ ذَلِكَ يُقْتَلُ تَعْزِيرًا، وَأَجَازَ ابْنُ الْمَوَّازِ مِنْ أَصْحَابِنَا لِلْمَرْأَةِ إذَا عَلِمَتْ أَنَّ زَوْجَهَا طَلَّقَهَا ثَلَاثًا، فَادَّعَتْ عَلَيْهِ فَأَنْكَرَ وَلَمْ تَقُمْ عَلَيْهِ بَيِّنَةٌ فَخُلِّيَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا أَنْ تَقْتُلَهُ إنْ خَفِيَ لَهَا ذَلِكَ وَأَمِنَتْ ظُهُورَهُ كَالْعَادِي وَالْمُحَارَبِ، وَقَالَ سَحْنُونٌ: لَا يَحِلُّ قَتْلُهُ.
فرع:
وَفِي مُخْتَصَرِ الْوَاضِحَةِ قَالَ أَصْبَغُ: وَيَنْبَغِي لِلْقَاضِي إذَا أَحْلَفَ النَّاسَ أَنْ يُحَلِّفَهُمْ قِيَامًا، وَإِذَا ضَرَبَهُمْ فِي الْحُدُودِ كُلِّهَا أَنْ يَضْرِبَهُمْ قُعُودًا، وَيَأْمُرُ الْجَلَّادَ أَنْ لَا يَرْفَعَ يَدَهُ بِالسَّوْطِ جِدًّا وَلَا يُخَفِّفَهَا جِدًّا لَكِنْ وَسَطًا مِنْ ذَلِكَ، وَضَرْبُ الشَّيْخِ وَالشَّابِّ فِي الْحُدُودِ كُلِّهَا سَوَاءٌ فِي الْإِيجَاعِ، وَإِذَا اقْتَصَّ لِلنَّاسِ فِي جِرَاحَاتِهِمْ دَعَا بِطَبِيبٍ رَفِيقٍ يَقْتَصُّ لَهُمْ وَأُجْرَتُهُ عَلَى الْمُقْتَصِّ لَهُ.
فرع:
قَالَ ابْنُ رُشْدٍ فِي الْمُقَدِّمَاتِ: وَيُؤَدَّبُ مَنْ طَلَّقَ ثَلَاثًا فِي كَلِمَةٍ.
فرع:
وَمَنْ طَلَّقَ فِي الْحَيْضِ فَإِنَّهُ يُجْبَرُ عَلَى الرَّجْعَةِ، قَالَ أَشْهَبُ: فَإِنْ أَبَى أُدِّبَ بِالسَّجْنِ، فَإِنْ أَبَى سَجَنَهُ، فَإِنْ أَبَى ضَرَبَهُ بِالسَّوْطِ وَيَكُونُ ذَلِكَ كُلُّهُ قَرِيبًا بَعْضُهُ مِنْ بَعْضٍ لِأَنَّهُ مُقِيمٌ عَلَى الْمَعْصِيَةِ.
فرع:
وَمَنْ بَاعَ زَوْجَتَهُ نَكَلَ نَكَالًا شَدِيدًا وَتَطْلُقُ عَلَيْهِ بِوَاحِدَةٍ بَائِنَةٍ.
فرع:
وَإِذَا قَذَفَ حُرٌّ عَبْدًا أَوْ نَصْرَانِيًّا فَطَلَبَ الْعَبْدُ أَنْ يُعَزَّرَ قَاذِفُهُ، فَلَيْسَ لِلْعَبْدِ فِي مِثْلِ هَذَا تَعْزِيرٌ وَيُنْهَى قَاذِفُهُ أَنْ يُؤْذِيَهُ، فَإِنْ كَانَ رَجُلًا فَاحِشًا مَعْرُوفًا بِالْأَذِي عُزِّرَ وَأُدِّبَ عَنْ أَذَى الْعَبْدِ وَغَيْرِهِ.
مَسْأَلَةٌ:
قَالَ الْقَرَافِيُّ الْحُدُودُ وَاجِبَةُ الْإِقَامَةِ عَلَى الْأَئِمَّةِ، وَاخْتَلَفُوا فِي التَّعْزِيرِ فَقَالَ مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ: إنْ كَانَ لِحَقِّ اللَّهِ تَعَالَى وَجَبَ كَالْحُدُودِ، إلَّا أَنْ يَغْلِبَ عَلَى ظَنِّ الْإِمَامِ أَنَّ غَيْرَ الضَّرْبِ مَصْلَحَةٌ مِنْ الْمَلَامَةِ وَالْكَلَامِ.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ هُوَ غَيْرُ وَاجِبٍ عَلَى الْإِمَامِ إنْ شَاءَ أَقَامَهُ وَإِنْ شَاءَ تَرَكَهُ.
مَسْأَلَةٌ:
وَيَجُوزُ الْعَفْوُ عَنْ التَّعْزِيرِ وَالشَّفَاعَةِ فِيهِ إذَا كَانَ لِحَقِّ اللَّهِ، فَإِنْ تَجَرَّدَ عَنْ حَقِّ آدَمِيٍّ وَانْفَرَدَ بِهِ حَقُّ السَّلْطَنَةِ، كَانَ لِوَلِيِّ الْأَمْرِ مُرَاعَاةُ حُكْمِ الْأَصْلَحِ بِالْعَفْوِ أَوْ التَّعْزِيرِ وَلَهُ التَّشْفِيعُ فِيهِ، رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «اشْفَعُوا إلَيَّ وَيَقْضِي اللَّهُ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ مَا يَشَاءُ».
فرع:
فَلَوْ تَعَافَى الْخَصْمَانِ عَنْ الذَّنْبِ قَبْلَ التَّرَافُعِ إلَى وَلِيِّ الْأَمْرِ سَقَطَ حَقُّ الْآدَمِيِّ.
وَفِي حَقِّ السَّلْطَنَةِ وَالتَّقْوِيمِ وَالْأَدَبِ وَجْهَانِ أَظْهَرُهُمَا عَدَمُ السُّقُوطِ، فَلَهُ مُرَاعَاةُ الْأَصْلَحِ مِنْ الْأَمْرَيْنِ، وَالْأَصْلَحُ أَنَّهُ لَا يَسْقُطُ التَّعْزِيرُ بِإِسْقَاطِ مَا وَجَبَ بِسَبَبِهِ وَلَوْ نُصَّ عَلَى الْعَفْوِ وَالْإِسْقَاطِ، وَيَسْقُطُ بِإِسْقَاطٍ ضِمْنًا كَمَا إذَا عَفَا مُسْتَحِقُّ الْعَمْدِ عَنْ الْحَدِّ قَبْلَ بُلُوغِ الْإِمَامِ، إذْ لَيْسَ لِلْإِمَامِ التَّعْزِيرُ وَالْحَالَةُ هَذِهِ لِانْدِرَاجِهِ فِي الْحَدِّ السَّاقِطِ وَقِيلَ: لَا يَسْقُطُ، إذْ وُجُوبُ التَّعْزِيرِ الْمُقْتَرِنِ بِالْحَدِّ بِمُجَرَّدِ حَقِّ السَّلْطَنَةِ، فَلَا يَنْبَغِي سُقُوطُهُ بِإِسْقَاطِ الْحَدِّ مِنْ الْأَحْكَامِ السُّلْطَانِيَّةِ.
فرع:
فَلَوْ كَانَ الْخَصْمَانِ الْمُتَوَاهِبَانِ وَالِدًا وَوَلَدًا، فَلَا حَقَّ لِلْوَلَدِ فِي تَعْزِيرِ وَالِدِهِ، نَعَمْ يَخْتَصُّ تَعْزِيرُهُ فَلَوْ بِحَقِّ السَّلْطَنَةِ فَلِوَلِيِّ الْأَمْرِ فِعْلُ أَحَدِ الْأَمْرَيْنِ، وَتَعْزِيرُ الْوَلَدِ مُشْتَرِكٌ بَيْنَ حَقِّ الْوَالِدِ وَالسَّلْطَنَةِ.
مَسْأَلَةٌ:
قَالَ الشَّافِعِيَّةُ يَجُوزُ ضَرْبُ الْمُتَعَزِّرِ بِالْعَصَا وَالسَّوْطِ الْمَكْسُورِ وَالثَّمَرَةِ، لَا غَيْرَ مَكْسُورِهَا خِلَافًا لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ الزُّبَيْرِيِّ الشَّافِعِيِّ، وَنَقَلَ الْجَوْهَرِيُّ أَنَّ ثَمَرَ السِّيَاطِ عَقْدُ أَطْرَافِهَا.
وَفِي حَوَاشِي التَّهْذِيبِ لِأَبِي الْحَسَنِ الطَّنْجِيِّ أَنَّ التَّعْزِيرَ إنَّمَا يَكُونُ بِالسَّوْطِ.
مَسْأَلَةٌ:
وَيَجُوزُ صَلْبُ الْمُعَزَّرِ حَيًّا ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ فَقَطْ، «فَقَدْ صَلَبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلًا عَلَى جَبَلٍ يُقَالُ لَهُ أَبُو نَابٍ»، وَلَا يَمْنَعُ مُدَّةَ صَلْبِهِ مِنْ طَعَامٍ وَلَا شَرَابٍ وَلَا وُضُوءٍ لِصَلَاةٍ وَيُصَلِّي مُومِيًا، وَيُعِيدُ بَعْدَ الْإِطْلَاقِ مِنْ مُخْتَصَرِ الْأَحْكَامِ السُّلْطَانِيَّةِ لِلْمَاوَرْدِيِّ الشَّافِعِيِّ.
مَسْأَلَةٌ:
وَيَجُوزُ تَجْرِيدُ الْمُعَزَّرِ مِنْ ثِيَابِهِ إلَّا مَا يَسْتُرُ عَوْرَتَهُ وَإِشْهَارَهُ فِي النَّاسِ، وَالنِّدَاءُ عَلَيْهِ بِذَنْبِهِ عِنْدَ تَكَرُّرِهِ مِنْهُ عَنْهُ وَعَدَمُ إقْلَاعِهِ عَنْهُ، وَيَجُوزُ حَلْقُ شَعْرِهِ لَا لِحْيَتِهِ، وَيَجُوزُ تَسْوِيدُ وَجْهِهِ عِنْدَ الْأَكْثَرِينَ مِنْ مُخْتَصَرِ الْأَحْكَامِ لِلْمَاوَرْدِيِّ.
مَسْأَلَةٌ:
وَسُئِلَ الْمَاوَرْدِيُّ عَنْ رَجُلٍ حَلَفَ بِالطَّلَاقِ الثَّلَاثِ فِي مَجْلِسِ الْحَاكِمِ بِحَضْرَةِ الْعُدُولِ، هَلْ يَلْزَمُهُ عُقُوبَةٌ؟ وَمَا قَدْرُ تِلْكَ الْعُقُوبَةِ؟
فَأَجَابَ رَحِمَهُ اللَّهُ: إيقَاعُ الطَّلَاقِ الثَّلَاثِ لَمْ يُجْمِعْ الْعُلَمَاءُ عَلَى تَحْرِيمِهِ بَلْ فِيهِ خِلَافٌ، لَكِنَّ مَذْهَبَ مَالِكٍ الْمَنْعُ، وَلَكِنَّ هَذَا لَمَّا كَثُرَ عَلَى أَلْسِنَةِ النَّاسِ وَاشْتُهِرَ فِيمَا بَيْنَهُمْ، صَارَ كَثِيرٌ مِنْ الْعَوَامّ يَعْتَقِدُ أَنَّهُ جَائِزٌ وَهُوَ مَفْهُومٌ مِنْ حَالٍ كَثِيرٍ مِنْهُمْ، فَإِنْ كَانَ هَذَا لِلرَّجُلِ مِمَّنْ يَجْهَلُ تَحْرِيمَ هَذَا وَيَعْتَقِدُ أَنَّ الْيَمِينَ بِهِ جَائِزَةٌ، أَوْ مِنْ الْمَكْرُوهَاتِ الَّتِي لَا تَحْرِيمَ فِيهَا، فَإِنَّ الْعُقُوبَةَ بِسَبَبِ هَذَا لَا تَلْزَمُهُ لَأَجَلٍ، حَتَّى وَإِنْ كَانَ أَوْقَعَهُ عَالِمًا بِتَحْرِيمِهِ وَمُجَرِّئًا عَلَى إيقَاعِهِ، تَعَلَّقَتْ بِهِ الْعُقُوبَةُ بِحَسَبِ الِاجْتِهَادِ وَهَذَا وَاضِحٌ لَا يُخْتَلَفُ فِيهِ، وَإِنَّمَا الْإِشْكَالُ مِنْ جِهَةٍ ثَانِيَةٍ وَهِيَ: أَنَّ الْإِنْسَانَ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَتَعَلَّمَ حُكْمَ مِثْلِ هَذَا وَلَا يُحْبَسُ بِهِ إنْ جَهِلَهُ، يَعْنِي فَيَلْزَمُ الْجَاهِلَ مِنْ التَّعْزِيرِ بِسَبَبِ جَهْلِهِ بِحُكْمِ ذَلِكَ أَخَفُّ مِمَّا يَلْزَمُ الْعَالِمَ، قَالَ: وَهَذَا مِنْ بَابِ النَّظَرِ وَالْمُعْتَمَدِ عَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ يَعْنِي نَفْيَ التَّعْزِيرِ عَنْ الْجَاهِلِ، وَلَكِنْ لابد مِنْ نَهْيِهِ وَزَجْرِهِ عَنْ الْعَوْدِ إلَى ذَلِكَ.
مَسْأَلَةٌ:
قَالَ الْقَرَافِيُّ: التَّعْزِيرُ يَسْقُطُ بِالتَّوْبَةِ مَا عَلِمْت فِي ذَلِكَ خِلَافًا.
مَسْأَلَةٌ:
تَقَدَّمَ أَنَّ التَّعْزِيرَ يَكُونُ بِحَسَبِ الْجَانِي وَالْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ وَالْجِنَايَةِ، فَإِنْ كَانَ الْقَوْلُ عَظِيمًا مِنْ ذِي الشَّرِّ مُخَاطَبًا بِهِ لِرَفِيعِ الْقَدْرِ بُولِغَ فِي الْأَدَبِ، وَإِنْ كَانَ عَلَى الْعَكْسِ فَالْعَكْسُ.
فَفِي سُنَنِ أَبِي دَاوُد عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَقِيلُوا ذَوِي الْهَيْئَاتِ عَثَرَاتِهِمْ إلَّا الْحُدُودَ»، فَإِذَا تَقَرَّرَ أَنَّ فَاعِلَ ذَلِكَ يُؤَدَّبُ، فَإِنْ كَانَ رَفِيعَ الْقَدْرِ فَإِنَّهُ يُخَفَّفُ أَدَبُهُ وَيُتَجَافَى عَنْهُ، وَكَذَلِكَ مَنْ صَدَرَ مِنْهُ ذَلِكَ عَلَى وَجْهِ الْفَلْتَةِ، لِأَنَّ الْقَصْدَ بِالتَّعْزِيرِ الزَّجْرُ عَنْ الْعَوْدَةِ، وَمَنْ صَدَرَ ذَلِكَ مِنْهُ فَلْتَةً يُظَنُّ بِهِ أَنْ لَا يَعُودَ إلَى مِثْلِهَا وَكَذَلِكَ الرَّفِيعُ.
تنبيه:
وَالْمُرَادُ بِالرَّفِيعِ مَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْقُرْآنِ وَالْعِلْمِ وَالْآدَابِ الْإِسْلَامِيَّةِ لَا الْمَالُ وَالْجَاهُ، وَالْمُعْتَبَرُ فِي الدَّنِيءِ الْجَهْلُ وَالْجَفَاءُ وَالْحَمَاقَةُ، فَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الشَّرِّ ثَقُلَ عَلَيْهِ بِالْأَدَبِ لِيَنْزَجِرَ وَيَنْزَجِرَ بِهِ، قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ: مَشْهُورُ قَوْلِ مَالِكٍ وَأَصْحَابِهِ: أَنَّ ذَلِكَ بِقَدْرِ الْجُرْمِ وَشُهْرَةِ الْقَائِلِ بِالْأَذَى.
وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ: تَعْزِيرُ كُلِّ ذَنْبٍ مُسْتَنْبَطٌ مِنْ حَدِّهِ لَا يُتَجَاوَزُ بِهِ حَدُّهُ.
فرع:
وَفِي أَحْكَامِ ابْنِ سَهْلٍ إنْ قَامَ بِشَكِيَّةٍ بِغَيْرِ حَقٍّ فَيَنْبَغِي أَنْ يُؤَدَّبَ، وَأَقَلُّ ذَلِكَ الْحَبْسُ لِيَنْدَفِعَ بِذَلِكَ أَهْلُ الْبَاطِلِ وَاللَّدَدِ، عَنْ ذَلِكَ قَالَهُ فِي شَهَادَةِ السَّمَاعِ فِي الْأَحْبَاسِ.
فرع:
وَيُمْنَعُ أَهْلُ الذِّمَّةِ مِنْ الزِّنَا وَيُؤَدَّبُونَ عَلَيْهِ، وَيُمْنَعُونَ مِنْ زَوَاجِ الْأُمَّهَاتِ وَالْبَنَاتِ إنْ اسْتَحَلُّوهُ مِنْ الْمُتَيْطِيَّةِ.
فرع:
لَوْ قَالَ رَجُلٌ لِرَجُلٍ: يَا شَارِبَ الْخَمْرِ أَوْ يَا آكِلَ الرِّبَا أَوْ يَا خَائِنُ أَوْ يَا ثَوْرُ، أَوْ يَا حِمَارُ أَوْ يَا ابْنَ الْحِمَارِ أَوْ يَا يَهُودِيُّ أَوْ يَا نَصْرَانِيُّ أَوْ يَا مَجُوسِيُّ فَإِنَّهُ يُعَزَّرُ، قَالَهُ ابْنُ رَاشِدٍ.
وَفِي جَامِعِ الْأُصُولِ لِرَزِينٍ: أَنَّ مَنْ قَالَ لِرَجُلٍ يَا يَهُودِيُّ فَإِنَّهُ يُضْرَبُ عِشْرِينَ.
فرع:
قَالَ مَالِكٌ فِي الْمَحْدُودِ فِي الزِّنَا يُحَسَّنُ حَالُهُ وَتَظْهَرُ تَوْبَتُهُ، ثُمَّ يَقْذِفُهُ رَجُلٌ بِالزِّنَا أَنَّهُ لَا حَدَّ عَلَيْهِ، وَلَكِنْ إنْ قَالَ لَهُ ذَلِكَ تَعَرُّضًا لِأَذَاهُ فَعَلَيْهِ الْأَدَبُ الْمُوجِعُ، إلَّا أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ فِي مُشَاتَمَةٍ قَدْ نَالَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ صَاحِبِهِ فِيهَا مَنَالًا، فَلَا يَكُونُ عَلَيْهِ فِيمَا رَمَاهُ بِهِ مِنْ حَدٍّ فِي زِنًا أَوْ فِي خَمْرٍ أَوْ فِي غَيْرِهِ مِنْ الْجَلْدِ عَلَى الْفِرْيَةِ وَالرِّيبَةِ أُدِّبَ وَلَا عُقُوبَةَ.
فرع:
لَوْ قَالَ لِمَنْ لَا يُتَّهَمُ بِالسَّرِقَةِ أَنْتَ سَرَقْت مَتَاعِي نَكَلَ وَعُوقِبَ بِقَدْرِ اجْتِهَادِ الْحَاكِمِ، وَإِنْ كَانَ الْمَقُولُ فِيهِ ذَلِكَ مِمَّنْ يُتَّهَمُ فَلَا عُقُوبَةَ، وَلَوْ قَالَ رَجُلٌ لِرَجُلٍ: يَا سَارِقُ ضُرِبَ خَمْسَةَ عَشَرَ سَوْطًا أَوْ نَحْوَهُ، قَالَهُ فِي الْعُتْبِيَّةِ، قَالَ ابْنُ رُشْدٍ: وَالتَّحْدِيدُ فِي هَذَا لَيْسَ لَهُ أَصْلٌ فِي الْكِتَابِ وَلَا فِي السُّنَّةِ، وَإِنَّمَا فِيهِ الِاجْتِهَادُ بِحَسَبِ الْقَائِلِ وَالْمَقُولِ لَهُ.
فرع:
وَلَوْ قَالَ رَجُلٌ لِرَجُلٍ: يَا مُرَائِي عُوقِبَ بِقَدْرِ مَا يَرَى الْإِمَامُ عَلَى قَدْرِ حَالِ الْقَائِلِ وَالْمَقُولِ لَهُ.
قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: أَرَأَيْت لَوْ قَالَ رَجُلٌ لِلَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ يَا مُرَائِي؟ وَقَالَ لِي مِثْلَ ذَلِكَ، أَتَرَى أَنْ يُضْرَبَ الَّذِي قَالَ لِي مِثْلَ الَّذِي قَالَ ذَلِكَ لِلَّيْثِ؟ وَعَنْ النَّاسِ لَوْ قِيلَ لَهُ ذَلِكَ كَانَ لَهُ أَهْلٌ مِنْ الْبَيَانِ.
فرع:
وَرُوِيَ عَنْ مَالِكٍ أَنَّ مَنْ اُتُّهِمَ بِالْفَاحِشَةِ يُضْرَبُ خَمْسَةً وَسَبْعِينَ سَوْطًا وَلَا يَبْلُغُ بِهِ الْحَدَّ، وَإِلَيْهِ مَيْلُ أَصْبَغَ وَنَحْوُهُ لِابْنِ مَسْلَمَةَ.
فرع:
وَفِي مُفِيدِ الْحُكَّامِ لِابْنِ هِشَامٍ قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: مَنْ شَتَمَ رَجُلًا فِي مَجْلِسِ حَاكِمٍ بِمَا لَا حَدَّ فِيهِ ضُرِبَ عَشَرَةَ أَسْوَاطٍ.
فرع:
إذَا قَالَ الرَّجُلُ لِلرَّجُلِ يَا كَلْبُ، فَإِنَّ ذَلِكَ يَفْتَرِقُ فِيهِ ذُو الْهَيْئَةِ مِنْ غَيْرِهِ، فَإِنْ كَانَ الْقَائِلُ وَالْمَقُولُ لَهُ مِنْ أَهْلِ الْهَيْئَةِ كُلٌّ مِنْهُمَا جَمِيعًا، عُوقِبَ الْقَائِلُ عُقُوبَةً خَفِيفَةً يُهَانُ وَلَا يَبْلُغُ بِهِ السِّجْنَ، وَإِنْ كَانَ جَمِيعًا مِنْ غَيْرِ ذَوِي الْهَيْئَةِ، عُوقِبَ الْقَائِلُ أَشَدَّ مِنْ عُقُوبَةِ الْقَائِلِ الْأَوَّلِ الْمُتَقَدِّمِ ذِكْرُهُ يَبْلُغُ فِيهَا السِّجْنَ، وَإِنْ كَانَ الْقَائِلُ مِنْ ذَوِي الْهَيْئَةِ وَالْمَقُولُ لَهُ مِنْ غَيْرِ ذَوِي الْهَيْئَةِ عُوقِبَ بِالتَّوْبِيخِ وَلَا يَبْلُغُ بِهِ الْإِهَانَةَ وَلَا السِّجْنَ، وَإِنْ كَانَ الْقَائِلُ مِنْ غَيْرِ ذَوِي الْهَيْئَةِ وَالْمَقُولُ لَهُ مِنْ ذَوِي الْهَيْئَةِ، فَيُؤْخَذُ مِنْ الْبَيَانِ فِي بَابِ حَدِّ الْقَذْفِ وَفِيهَا بَسْطٌ فَانْظُرْهُ فِيهِ.
فرع:
إذَا شَتَمَ الْأَخُ أَخَاهُ فَإِنْ كَانَ الْأَخُ كَبِيرًا وَكَانَ شَتْمُهُ لِأَخِيهِ عَلَى وَجْهِ الْأَدَبِ لَمْ يُحَدَّ مِنْ الطُّرَرِ، قَالَ وَرَأَيْت فِي بَعْضِ الْكُتُبِ سُئِلَ بَعْضُهُمْ عَنْ شَاتِمِ عَمِّهِ أَوْ خَالِهِ، فَقَالَ: لَا أَرَى عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ شَيْئًا، وَكَذَلِكَ هُمَا إذَا كَانَ عَلَى وَجْهِ الْأَدَبِ، قَالَ ابْنُ مُحْرِزٍ فِي كِتَابِ اللِّعَانِ مِنْ تَبْصِرَتِهِ وَمَنْ عَرَضَ لِوَلَدِهِ بِالْقَذْفِ فَإِنَّهُ لَا يُحَدُّ لِبُعْدِهِ مِنْ التُّهْمَةِ فِي وَلَدِهِ، وَلِذَلِكَ لَمْ يُقْتَلْ بِوَلَدِهِ إذَا قَتَلَهُ إلَّا أَنْ يَتَبَيَّنَ عَمْدُهُ لِذَلِكَ أَنْ يُضْجِعَهُ فَيَذْبَحَهُ.
فرع:
مَنْ سَلَّ سَيْفًا عَلَى وَجْهِ الْقِتَالِ ضُرِبَ أَرْبَعِينَ وَكَانَ السَّيْفُ فَيْئًا، وَقِيلَ يُقْتَلُ إذَا سَلَّهُ عَلَى وَجْهِ الْحِرَابَةِ، وَلَوْ سَلَّ سِكِّينًا فِي جَمَاعَةٍ عَلَى وَجْهِ الْمِزَاحِ ضُرِبَ عَشَرَةَ أَسْوَاطٍ مِنْ الْمُفِيدِ.
فرع:
وَمِنْهُ أَيْضًا مَنْ اسْتَهَانَ بِدَعْوَةِ الْقَاضِي أَوْ الْحَاكِمِ وَلَمْ يُجِبْ ضَرْبُ أَرْبَعِينَ.
فرع:
وَمِنْهُ مَنْ قَالَ لِرَجُلٍ: يَا مُجْرِمُ ضُرِبَ خَمْسَةً وَعِشْرِينَ وَكَذَلِكَ إنْ قَالَ لَهُ يَا ظَالِمُ وَلَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ ضُرِبَ أَرْبَعِينَ، وَلَوْ قَالَ لَهُ يَا سَارِقُ ضُرِبَ خَمْسَةَ عَشَرَ إلَى عِشْرِينَ.
فرع:
وَمِنْهُ مَنْ أَتَى بَهِيمَةً ضُرِبَ مِائَةً.
فرع:
وَمِنْهُ إذَا ارْتَفَعَ الْكَلَامُ بَيْنَ الْخَصْمَيْنِ فِي مَجْلِسِ الْقَاضِي، ضُرِبَ كُلُّ وَاحِدٍ عَشَرَةً.
فرع:
وَمِنْهُ مَنْ تَكَلَّمَ فِي عَالِمٍ بِمَا لَا يَجِبُ ضُرِبَ أَرْبَعِينَ.
فرع:
وَمِنْهُ مَنْ تَكَلَّمَ فِي أَحَدٍ بِمَا لَمْ يَكُنْ وَلَمْ يَأْتِ بِبَيِّنَةٍ أُدِّبَ.
فرع:
وَمِنْهُ مَنْ سَرَقَ مِنْ الْغَنِيمَةِ دُونَ النِّصَابِ ضُرِبَ خَمْسِينَ.
فرع:
وَمِنْهُ تَغَامَزَ مَعَ أَجْنَبِيَّةٍ أَوْ تَضَاحَكَ مَعَهَا ضُرِبَ عِشْرِينَ يُرِيدُ إذَا كَانَتْ طَائِعَةً، فَإِنْ قَبَّلَهَا طَائِعَةً ضُرِبَا خَمْسِينَ خَمْسِينَ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ طَائِعَةً فِي تَقْبِيلِهِ ضُرِبَ هُوَ خَمْسِينَ، وَمَنْ حَبَسَ امْرَأَةً ضُرِبَ أَرْبَعِينَ، فَإِنْ طَاوَعَتْهُ ضُرِبَتْ مِثْلَهُ.
فرع:
وَمَنْ تَكَلَّمَ بِكَلِمَةٍ لِغَيْرِ مُوجِبٍ فِي أَمِيرٍ مِنْ أُمَرَاءِ الْمُسْلِمِينَ لَزِمَتْهُ الْعُقُوبَةُ الشَّدِيدَةُ وَيُسْجَنُ شَهْرًا، وَمَنْ خَالَفَ مَا حَكَمَ بِهِ الْقَاضِي عُوقِبَ إذَا لَمْ يَرْضَ بِالْحُكْمِ إلَّا أَنْ يَتَبَيَّنَ الْجَوْرُ فِي الْحُكْمِ، وَمَنْ خَالَفَ أَمِيرًا وَقَدْ كَرَّرَ دَعْوَتَهُ لَزِمَتْهُ الْعُقُوبَةُ بِقَدْرِ اجْتِهَادِ الْإِمَامِ، وَمَنْ قَالَ لِرَجُلٍ: يَا فَاسِقُ ضُرِبَ ثَمَانِينَ، وَقِيلَ: يُؤَدَّبُ إنْ لَمْ يُفْهَمْ مِنْهُ الْقَذْفُ، وَمَنْ سَلَّ سَيْفًا عَلَى جَمَاعَةٍ يُهَدِّدُ بِهِ عَلَى وَجْهِ الْمِزَاحِ فَقَدْ جَفَا وَيُضْرَبُ عِشْرِينَ سَوْطًا.
فرع:
وَمَنْ آذَى مُسْلِمًا بِلِسَانِهِ بِلَفْظٍ يَضُرُّهُ وَيَقْصِدُ أَذَاهُ، فَعَلَيْهِ فِي ذَلِكَ الْأَدَبُ الْبَالِغُ الرَّادِعُ لَهُ، وَلِمِثْلِهِ لَهُ يَقَعُ رَأْسُهُ بِالسَّوْطِ أَوْ يَضْرِبُ رَأْسَهُ أَوْ ظَهْرَهُ بِالدِّرَّةِ، وَذَلِكَ عَلَى قَدْرِ الْقَائِلِ وَسَفَاهَتِهِ، وَعَلَى قَدْرِ الْقَوْلِ فِيهِ مِنْ مُفِيدِ الْحُكَّامِ لِابْنِ الْوَلِيدِ بْنِ هِشَامٍ.
فرع:
قَالَ ابْنُ رَاشِدٍ: إذَا شَتَمَ أَحَدُ الْخَصْمَيْنِ صَاحِبَهُ زَجَرَهُ الْحَاكِمُ.
وَقَالَ ابْنُ الْمَاجِشُونِ وَمُطَرِّفٌ: إذَا أَسْرَعَ إلَيْهِ بِغَيْرِ حُجَّةٍ مِثْلُ يَا ظَالِمُ يَا فَاجِرُ، زَجَرَهُ عَنْهُ وَيُضْرَبُ فِي مِثْلِ هَذَا مَا لَمْ تَكُنْ فَلْتَةً مِنْ ذِي مُرُوءَةٍ فَيَتَجَافَى عَنْ ضَرْبِهِ، فَإِنَّ ذَلِكَ يَدْعُو الْخَصْمَيْنِ إلَى أَنْ يَجْلِسَا بَيْنَ يَدَيْهِ بِسَكِينَةٍ وَوَقَارٍ، وَمَنْ لَمْ يُنْصِفْ النَّاسَ فِي أَعْرَاضِهِمْ لَا يُنْصِفُهُمْ فِي أَمْوَالِهِمْ.
فرع:
سُئِلَ الْمَازِرِيُّ عَمَّنْ أَفْتَى رَجُلًا فَأَتْلَفَ بِفَتْوَاهُ مَالًا فَأَجَابَ: إنْ كَانَ الْمُفْتِي مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ وَالنَّظَرِ لَمْ يَلْزَمْهُ ضَمَانُ مَا ذَهَبَ بِسَبَبِ فُتْيَاهُ، وَإِنْ كَانَ عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ، فَقَدْ يُكَلَّفُ مَا لَا يَجُوزُ وَيَضْمَنُ مَا تَلِفَ، وَيَجِبُ عَلَى الْحَاكِمِ التَّغْلِيظُ إذَا قَامَتْ الْبَيِّنَةُ بِذَلِكَ عِنْدَهُ، وَلَوْ أُدِّبَ لَكَانَ لِذَلِكَ أَهْلًا إلَّا أَنْ يَكُونَ تَقَدَّمَ لَهُ طَلَبٌ فِي الْعِلْمِ فَيَسْقُطُ عَنْهُ الْأَدَبُ، وَيُنْهَى عَنْ الْفَتْوَى إذَا لَمْ يَكُنْ لِذَلِكَ أَهْلًا.
فرع:
إذَا نَهَى الْحَاكِمُ أَحَدَ الْخَصْمَيْنِ عَنْ الْكَلَامِ فَلَمْ يَفْعَلْ، وَأُتِيَ بِالْحُجَجِ لِيَخْلِطَ عَلَى صَاحِبِهِ وَيَمْنَعَهُ مِنْ الْكَلَامِ وَيُكْثِرَ مُعَارَضَتَهُ فِي كَلَامِهِ أَمَرَ الْقَاضِي بِأَدَبِهِ.
فرع:
إذَا قَرَّرَ أَحَدُ الْخَصْمَيْنِ صَاحِبَهُ عَلَى مَا يَدَّعِيهِ لَزِمَ خَصْمَهُ الْجَوَابُ بِالْإِقْرَارِ وَالْإِنْكَارِ، فَإِنْ امْتَنَعَ مِنْ الْجَوَابِ أَمَرَ الْقَاضِي بِضَرْبِهِ بِالدِّرَّةِ عَلَى رَأْسِهِ حَتَّى يُجِيبَ.
فرع:
وَفِي الدُّرَرِ الْمُلْتَقَطَةِ مِنْ الْمَسَائِلِ الْمُخْتَلِفَةِ لِلشَّيْخِ عَبْدِ الْعَزِيزِ الدَّمِيرِيِّ إذَا قَالَ رَجُلٌ لِآخَرَ: اللَّهُ أَكْبَرُ عَلَيْك، فَإِنَّهُ يُعَزَّرُ إلَّا أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُ خَصْمُهُ.
مَسْأَلَةٌ:
ذَكَرَ فِي الْمُوَطَّأِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «وَمَنْ قَالَ لِأَخِيهِ يَا كَافِرُ فَقَدْ بَاءَ بِهَا أَحَدُهُمَا».
وَفِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ: «فَإِنْ كَانَ كَمَا قَالَ وَإِلَّا رَجَعَتْ عَلَيْهِ».
وَفِي رِوَايَةِ أَبِي عَوَانَةَ الْإسْفَرايِينِيّ فِي كِتَابِهِ الْمُخَرَّجِ عَلَى صَحِيحِ مُسْلِمٍ: «فَإِنْ كَانَ كَمَا قَالَ وَإِلَّا فَقَدْ بَاءَ بِالْكُفْرِ».
وَفِي رِوَايَةٍ: «إذَا قَالَ لِأَخِيهِ يَا كَافِرُ فَقَدْ وَجَبَ الْكُفْرُ»، قِيلَ مَعْنَاهُ فَقَدْ رَجَعَ عَلَيْهِ تَكْفِيرُهُ، فَلَيْسَ الرَّاجِعُ حَقِيقَةَ الْكُفْرِ بَلْ التَّكْفِيرُ، لِكَوْنِهِ جَعَلَ أَخَاهُ الْمُؤْمِنَ كَافِرًا، فَكَأَنَّهُ كَفَّرَ نَفْسَهُ إمَّا لِأَنَّهُ كَفَّرَ مَنْ هُوَ مِثْلُهُ أَوْ لِأَنَّهُ كَفَّرَ مَنْ لَا يُكَفِّرُهُ إلَّا كَافِرٌ يَعْتَقِدُ بُطْلَانَ الْإِسْلَامِ، قَالَهُ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ صَحِيحِ مُسْلِمٍ.
وَقَالَ الْمَازِرِيُّ قَوْلُهُ: وَإِلَّا رَجَعَتْ عَلَيْهِ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ إذَا قَالَهَا مُسْتَحِلًّا فَيَكْفُرُ بِاسْتِحْلَالِهِ، قَالَ النَّوَوِيُّ: وَقِيلَ مَعْنَاهُ أَنَّ ذَلِكَ يَئُولُ بِهِ إلَى الْكُفْرِ، يَعْنِي أَنَّهُ يُخَافُ عَلَى الْمُكْثِرِ مِنْ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ عَاقِبَةُ شُؤْمِهَا الْكُفْرَ وَالْمَصِيرَ إلَيْهِ، قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: وَالْمَعْنَى فِيهِ عِنْدَ أَهْلِ الْفِقْهِ وَالْأَثَرِ وَالْجَمَاعَةِ النَّهْيُ عَنْ تَكْفِيرِ الْمُسْلِمِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ.
وَقَدْ وَرَدَ مِثْلُ هَذَا فِي قَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «سِبَابُ الْمُسْلِمِ فِسْقٌ وَقِتَالُهُ كُفْرٌ»، وَقَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «لَا تَرْغَبُوا عَنْ آبَائِكُمْ فَإِنَّهُ كُفْرٌ بِكُمْ»، وَقَوْلُهُ: «لَا تَرْجِعُوا بَعْدِي كُفَّارًا يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ».
فَهَذِهِ الْأَحَادِيثُ لَيْسَتْ عَلَى ظَاهِرِهَا عِنْدَ أَهْلِ الْحَقِّ وَالْعِلْمِ وَالْأُصُولِ، يَدْفَعُهَا أَقْوَى مِنْهَا مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ الْمُجْمَعِ عَلَيْهِمَا وَالْآثَارِ الثَّابِتَةِ أَيْضًا، وَقَدْ ضَلَّتْ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْبِدَعِ مِنْ الْخَوَارِجِ وَالْمُعْتَزِلَةِ فِي هَذَا الْبَابِ، فَاحْتَجُّوا بِهَذِهِ الْآثَارِ وَمِثْلُهَا فِي تَكْفِيرِ الْمُذْنِبِينَ، وَاحْتَجُّوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ بِآيَاتٍ لَيْسَتْ عَلَى ظَاهِرِهَا مِثْلُ قَوْلِهِ: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة: 44] وقَوْله تَعَالَى: {أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ} [الحجرات: 2] وَنَحْوِ هَذَا، وَالْحُجَّةُ عَلَيْهِمْ قَوْله تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء: 48]، وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذَا قَبْلَ الْمَوْتِ لِمَنْ لَمْ يَتُبْ، لِأَنَّ الشِّرْكَ مَنْ تَابَ مِنْهُ وَانْتَهَى عَنْهُ غُفِرَ لَهُ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} [الأنفال: 38].
وَأَجْمَعُوا أَنَّ الْمُذْنِبَ وَإِنْ مَاتَ مُصِرًّا تَرِثُهُ وَرَثَتُهُ، وَيُصَلَّى عَلَيْهِ وَيُدْفَنُ فِي مَقَابِرِ الْمُسْلِمِينَ، فَهَذَا كُلُّهُ يَشْهَدُ أَنَّ مَنْ قَالَ لِأَخِيهِ: يَا كَافِرُ لَيْسَ عَلَى ظَاهِرِهِ يَعْنِي تَمَامَ الْحَدِيثِ، وَقَوْلُهُ: فَقَدْ بَاءَ بِهَا أَحَدُهُمَا، أَيْ فَقَدْ احْتَمَلَ الذَّنْبَ فِي ذَلِكَ الْقَوْلِ، وَالْمَعْنَى أَنَّ الْمَقُولَ لَهُ يَا كَافِرُ إنْ كَانَ كَذَلِكَ فَقَدْ احْتَمَلَ ذَنْبَهُ وَلَا شَيْءَ عَلَى الْقَائِلِ لَهُ ذَلِكَ، لِصِدْقِهِ فِي قَوْلِهِ: وَإِنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ فَقَدْ بَاءَ الْقَائِلُ بِذَنْبٍ كَبِيرٍ وَإِثْمٍ عَظِيمٍ احْتَمَلَهُ بِقَوْلِهِ ذَلِكَ، قَالَهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي التَّمْهِيدِ فِي شَرْحِ الْمُوَطَّأِ.
فرع:
وَلَوْ قَالَ رَجُلٌ لِرَجُلٍ مِنْ سَرَاةٍ كُذَيْبٍ وَأَثِمْت عُزِّرَ بِالسَّوْطِ وَهَذَا إذَا قَالَهُ لَهُ فِي مُشَاتَمَةٍ؛ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ كَذَّابٌ، وَأَمَّا إنْ نَازَعَهُ فِي شَيْءٍ فَقَالَ لَهُ: أَنْتَ فِي هَذَا كَاذِبٌ آثِمٌ، فَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ فِي هَذَا أَدَبٌ إلَّا أَنَّهُ يُنْهَى عَنْ ذَلِكَ، وَيُزْجَرُ إنْ كَانَ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ حَقٌّ فِيمَا نَازَعَهُ فِيهِ، وَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى التَّفْصِيلِ الْمُتَقَدِّمِ فِي قَوْلِ الرَّجُلِ لِلرَّجُلِ يَا كَلْبُ مِنْ الْبَيَانِ.
فرع:
وَفِي وَثَائِقِ الْحَرِيرِيِّ: وَيُؤَدَّبُ فِي سَائِرِ الشَّتْمِ نَحْوُ يَا كَلْبُ يَا خِنْزِيرُ يَا حِمَارُ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ.
فرع:
قَالَ ابْنُ الْمَاجِشُونِ وَأَصْبَغُ: وَيَنْبَغِي لِلْحَاكِمِ إذَا لَمَزَهُ أَحَدُ الْخَصْمَيْنِ بِمَا يَكْرَهُ أَنْ يُعَزِّرَهُ، وَالْأَدَبُ فِي مِثْلِ هَذَا أَوْلَى مِنْ الْعَفْوِ إذَا كَانَ الْقَاضِي مِنْ أَهْلِ الْفَضْلِ، قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ إلَّا فِي مِثْلِ اتَّقِ اللَّهَ فِي أَمْرِي وَاذْكُرْ اللَّهَ تَعَالَى، وَيَنْبَغِي أَنْ يَثْبُتَ وَيُجِيبَهُ بِجَوَابٍ لَيِّنٍ كَقَوْلِهِ رَزَقَنَا اللَّهُ تَقْوَاهُ، وَإِنِّي لَأَرَى مِنْ تَقْوَى اللَّهِ أَنْ أَحْكُمَ عَلَيْك وَآخُذَ مِنْك الْحَقَّ، وَأَنَّهُ لَيَجِبُ عَلَيَّ وَعَلَيْك أَنْ نَتَّقِيَ اللَّهَ وَيُبَيِّنَ لَهُ مِنْ أَيْنَ يَحْكُمُ عَلَيْهِ.
فرع:
إذَا تَرَافَعَ رَجُلَانِ إلَى الْقَاضِي فَقَالَ أَحَدُهُمَا: قَالَ لِي هَذَا: يَا زَانٍ، وَأَنْكَرَ الْآخَرُ، فَإِنْ كَانَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ مِمَّنْ هُوَ أَهْلٌ أَنْ يَقُولَ هَذَا الْقَوْلَ سَجَنَهُ الْقَاضِي حَتَّى يُقِيمَ الْآخَرُ الْبَيِّنَةَ مِنْ الطُّرَرِ.
فرع:
وَفِي أَحْكَامِ ابْنِ سَهْلٍ: وَإِنْ ادَّعَى عَلَيْهِ أَنَّهُ قَذَفَهُ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ الْيَمِينُ، إلَّا أَنْ تَشْهَدَ بَيِّنَةٌ بِمُنَازَعَةٍ وَتَشَاجُرٍ كَانَ بَيْنَهُمَا فَتَجِبُ الْيَمِينُ حِينَئِذٍ.
فرع:
وَفِي أَحْكَامِ ابْنِ زِيَادٍ وَمَنْ قَالَ لِلشُّهُودِ: أَنْتُمْ تَشْهَدُونَ عَلَيَّ أَوْ قَالَ لِأَهْلِ الْفَتْوَى: أَنْتُمْ تُفْتُونَ عَلَيَّ لَا أَدْرِي مَنْ أُكَلِّمُ، كَأَنَّهُ ذَهَبَ مَذْهَبَ التَّوْبِيخِ لَهُمْ فَأَفْتَوْا بِأَنَّهُ يُؤَدَّبُ أَدَبًا مُوجِعًا.
وَقَالَهُ ابْنُ لُبَابَةَ وَمُحَمَّدُ بْنُ غَالِبٍ وَغَيْرُهُمَا.
فرع:
إذَا قَالَ لِلشَّاهِدِ شَهِدْت عَلَيَّ بِالزُّورِ وَقَصَدَ أَذَاهُ نَكَلَ قَدْرَ حَالَيْهِمَا، وَإِنْ كَانَ إنَّمَا عَنَى أَنَّ الَّذِي، شَهِدَتْ بِهِ عَلَى بَاطِلٍ لَمْ يُعَاقَبْ.
فرع:
إذَا ثَبَتَ عِنْدَ الْقَاضِي أَنَّ بَعْضَ الشُّهُودِ يَشْهَدُ بِالزُّورِ، وَيَأْخُذُ الْجُعْلَ عَلَى شَهَادَةِ الزُّورِ عُزِّرَ عَلَى الْمَلَأِ وَلَا يَحْلِقُ لَهُ رَأْسًا وَلَا لِحْيَةً، وَرَأَى الْقَاضِي أَنْ يُسَوَّدَ وَجْهُهُ.
وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ: يُطَافُ بِهِ وَيُشْهَرُ فِي الْمَجَالِسِ وَالْحِلَقِ وَحَيْثُ يَعْرِفُ النَّاسُ، قَالَهُ ابْنُ الْقَاسِمِ يُرِيدُ مَجَالِسَ الْمَسْجِدِ الْجَامِعِ، وَيَضْرِبُهُ ضَرْبًا عَنِيفًا وَيُسَجِّلُ عَلَيْهِ، وَيَجْعَلُ مِنْ ذَلِكَ نُسَخًا يُودِعُهَا عِنْدَ النَّاسِ مِمَّنْ يَثِقُ بِهِ.
وَقَالَ: لَا أَرَى أَنْ تُقْبَلَ شَهَادَتُهُ أَبَدًا إنْ كَانَ ظَاهِرَ الْعَدَالَةِ لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْهُ رِيَاءٌ وَلَا تَكَادُ تُعْرَفُ تَوْبَتُهُ.
وَفِي الْمُتَيْطِيَّةِ: وَرَوَى أَبُو زَيْدٍ عَنْ ابْنِ الْقَاسِمِ أَنَّهُ إذَا تَابَ وَحُسِّنَتْ حَالُهُ قُبِلَتْ تَوْبَتُهُ، وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ وَلَمْ يَصْحَبْ هَذِهِ الرِّوَايَةَ عَمَلٌ، وَاخْتَلَفُوا فِي عُقُوبَتِهِ إذَا جَاءَ تَائِبًا وَيَظْهَرُ عَلَيْهِ، فَقَالَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ: الْأَظْهَرُ أَنْ لَا يُعَاقَبَ وَلَا تَجُوزُ شَهَادَتُهُ وَيَغْرَمُ مَا أَتْلَفَ بِشَهَادَتِهِ، وَاخْتَلَفُوا فِي الْجِرَاحِ وَالْقَتْلِ فَانْظُرْهُ.
وَفِي مُخْتَصَرِ الْوَاضِحَةِ إنْ جَاءَ تَائِبًا قَبْلَ الْحُكْمِ بِشَهَادَتِهِ فَلَا عُقُوبَةَ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ بَعْدَ الْحُكْمِ فَعَلَيْهِ الْعُقُوبَةُ، وَأَمَّا إنْ ثَبَتَ ذَلِكَ بِالْبَيِّنَةِ فَعَلَيْهِ الْعُقُوبَةُ كَانَ ذَلِكَ قَبْلَ الْحُكْمِ أَوْ بَعْدَهُ وَيُشْهَرُ وَيُفْضَحُ.
وَقَالَ عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ الْمَاجِشُونِ: إنْ كَانَ قَبْلَ أَنْ يَظْهَرَ عَلَيْهِ شَهَادَةُ الزُّورِ مُبْرِزًا فِي الْعَدَالَةِ فَهَذَا لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ أَبَدًا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَشْهُورًا بِالْعَدَالَةِ ثُمَّ تَابَ وَحَسُنَ حَالُهُ فَهَذَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ مِنْ وَثَائِقِ ابْنِ الْهِنْدِيِّ، وَحَكَى ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي تَارِيخِهِ: أَنَّ صَاحِبَ الشُّرْطَةِ إبْرَاهِيمَ بْنَ حُسَيْنِ بْنِ خَالِدٍ، أَقَامَ شَاهِدَ زُورٍ عَلَى الْبَابِ الْغَرْبِيِّ الْأَوْسَطِ، فَضَرَبَهُ أَرْبَعِينَ سَوْطًا وَحَلَقَ لِحْيَتَهُ وَسَخَّمَ وَجْهَهُ، وَأَطَافَهُ إحْدَى عَشْرَةَ طَوْفَةً بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ، يُصَاحُ عَلَيْهِ هَذَا جَزَاءُ شَاهِدِ الزُّورِ، وَكَانَ صَاحِبُ الشُّرْطَةِ هَذَا فَاضِلًا خَيْرًا فَقِيهًا عَالِمًا بِالتَّفْسِيرِ، وَلِيَ الشُّرْطَةَ لِلْأَمِينِ مُحَمَّدٍ، وَكَانَ أَدْرَكَ مُطَرِّفَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ صَاحِبَ مَالِكٍ وَرَوَى عَنْهُ مُوَطَّأَهُ يَوْمَئِذٍ أَنَّ أَفْعَالَهُ يُقْتَدَى بِهَا.
فرع:
فِي عُقُوبَةِ مَنْ قَذَفَ رَجُلًا بِشُرْبِ الْخَمْرِ أَوْ بِالسَّرِقَةِ.
وَفِي الْمُدَوَّنَةِ: إذَا شَهِدَ رَجُلٌ عَلَى آخَرَ أَنَّهُ شَرِبَ خَمْرًا نَكَلَ الشَّاهِدُ، وَإِنْ قَالَ فِيمَنْ شَهِدَ عَلَى رَجُلٍ بِالسَّرِقَةِ، إنْ كَانَ لَهَا مَنْ يَطْلُبُهَا لَمْ يُعَاقَبْ الشَّاهِدُ عَدْلًا كَانَ أَوْ غَيْرَ عَدْلٍ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا مَنْ يَطْلُبُهَا عُوقِبَ إنْ كَانَ غَيْرَ عَدْلٍ، وَإِنْ كَانَ عَدْلًا فَلَا وَفِي الْمَبْسُوطِ لَا عُقُوبَةَ عَلَى مَنْ شَهِدَ عَلَى رَجُلٍ بِشُرْبِ الْخَمْرِ أَوْ السَّرِقَةِ، وَقِيلَ أَيْضًا بِاعْتِبَارِ التَّفْرِقَةِ فِي الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ بِذَلِكَ، فَإِنْ كَانَ مِنْ ذَوِي الْهَيْئَاتِ نَكَلَ الشَّاهِدُ، وَإِنْ كَانَ مِمَّنْ يُتَّهَمُ بِذَلِكَ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ، قَالَ ابْنُ الْمُنَاصِفِ فِي تَنْبِيهِ الْحُكَّامِ: وَالْأَوْلَى فِي ذَلِكَ كُلِّهِ مَا عَدَا الشَّهَادَةِ بِمُعَايَنَةِ الزِّنَا، أَنْ لَا عُقُوبَةَ عَلَى الشَّاهِدِ إذَا كَانَ إنَّمَا أَتَى بِهَا عَلَى مَعْنَى الشَّهَادَةِ لَا عَلَى مَعْنَى، الْهَجْرِ وَالسَّبِّ، لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي الْبَيِّنَاتِ أَنَّهَا إذَا لَمْ يَثْبُتْ الْحَقُّ بِهَا أَنْ لَا عُقُوبَةَ عَلَى مَنْ شَهِدَ بِهَا، ولاسيما فِي حَقِّ الْعَدْلِ لَا يُتَّهَمُ أَنْ يَقْصِدَ أَذَى الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ، وَحَيْثُ تَبَيَّنَ أَنَّهُ قَصَدَ بِهَا الْأَذَى نَكَلَ وَعُوقِبَ عَلَى قَدْرِ حَالِهِ فِي الشَّرِّ وَاشْتِهَارِهِ بِهِ، وَبِحَسَبِ الْمَقُولِ وَبَشَاعَتِهِ وَبِحَسَبِ الْمَقُولِ فِيهِ ذَلِكَ.
مَسْأَلَةٌ:
وَفِي عُيُونِ الْمَجَالِسِ لِلْقَاضِي عَبْدِ الْوَهَّابِ: إذَا ارْتَدَّ ثُمَّ تَابَ، لَمْ يُعَزِّرْهُ فِي الْمَرَّةِ الْأُولَى وَيَجُوزُ أَنْ يُعَزِّرَهُ فِي الْمَرَّةِ الثَّانِيَةِ وَالثَّالِثَةِ وَالرَّابِعَةِ إذَا رَجَعَ إلَى الْإِسْلَامِ، وَلَسْت أَعْرِفُهُ مَنْصُوصًا وَلَكِنَّهُ يَجُوزُ عِنْدِي وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْمَرَّةِ الْأُولَى وَمَا بَعْدَهَا، أَنَّهُ فِي الْمَرَّةِ الْأُولَى يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَدْ دَخَلَتْ عَلَيْهِ شُبْهَةٌ فَارْتَدَّ، ثُمَّ رَجَعَ إلَى الْإِسْلَامِ بِسَبَبِ زَوَالِهَا، فَإِذَا عَاوَدَ الرِّدَّةَ بَعْدَ زَوَالِ الشُّبْهَةِ ثُمَّ تَابَ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَبْقَ لَهُ شُبْهَةٌ، وَلَا يُزَادُ عَلَى التَّعْزِيرِ وَلَا يُحْبَسُ وَلَا يُقْتَلُ.

.فَصْلٌ فِي عُقُوبَةِ مَنْ زَوَّرَ عَلَى الْقَاضِي:

وَفِي أَحْكَامِ ابْنِ سَهْلٍ فِي صَدَاقٍ اخْتَلَقَ عَلَى الْقَاضِي مِنْ أَحْكَامِ ابْنِ زِيَادٍ، اقْرَءُوا رَحِمَكُمْ اللَّهُ الصَّدَاقَ حَتَّى تَأْتُوا عَلَى آخِرِهِ، وَاكْتُبُوا إلَيَّ بِمَا يَجِبُ عَلَى الزَّوْجِ وَالْمَرْأَةِ وَالشَّهِيدَيْنِ، فَإِنَّهُ أَتَانِي مَنْ قَامَ بِالْحِسْبَةِ فَهَذَا الصَّدَاقُ الَّذِي اخْتَلَقَ.
وَقَالَ: إنِّي آمُرُهُ بِهِ عَلَى مَا فِي الْكِتَابِ فَأَجَابَ أَبُو صَالِحٍ: قَرَأْت وَفَّقَك اللَّهُ الصَّدَاقَ أَوَّلَهُ إلَى آخِرِهِ، فَرَأَيْته قَدْ بُنِيَ عَلَى أَنَّ الْقَاضِيَ قَدَّمَ بِعَقْدِهِ، فَإِذَا صَحَّ عِنْدَك أَنَّهُ مُخْتَلَقٌ مُفْتَعَلٌ وَجَبَ فَسْخُهُ، وَتَأْدِيبُ عَاقِدِهِ وَشَاهِدَيْهِ وَالنَّاكِحُ تَأْدِيبًا بَلِيغًا يَكُونُ شِرَادًا لِغَيْرِهِمْ، وَمِقْمَعَةً لِمَنْ سَمِعَ بِهِمْ مِنْ أَمْثَالِهِمْ وَهَذَا قَوْلُ مَالِكٍ إذَا دَخَلَ بِهَا، وَإِنْ لَمْ يَدْخُلْ بِهَا فَيَرَى الْقَاضِي رَأْيَهُ فِي الْحَمْلِ عَلَيْهِمْ مَا يَكُونُ زَاجِرًا لَهُمْ وَوَعْظًا مِنْ فِعْلِهِمْ.
وَقَالَ ابْنُ لُبَابَةَ يُعَاقَبُ الشَّاهِدَانِ عُقُوبَةَ شَاهِدِ الزُّورِ، وَيُطَافُ بِهِمَا كَمَا يُفْعَلُ بِأَهْلِ الزُّورِ، لِأَنَّهُمَا قَدْ أَقَرَّا بِأَنَّهُمَا شَهِدَا عَلَى مَا لَمْ يَسْمَعَا، وَهَذِهِ شَهَادَةُ زُورٍ إذَا شَهِدَ عَلَى مَا لَمْ يُسْتَشْهَدْ عَلَيْهِ وَيُعَاقَبُ عَلَى مَا افْتَاتَ عَلَى الْقَاضِي وَأَمَّا النَّاكِحُ فَهُوَ أَعْذَرُ لَعَلَّهُ يَقُولُ: لَمَّا شَهِدَ الشَّاهِدَانِ وَعَقَدَ الْعَاقِدُ، قَدْ ظَنَنْت أَنَّهُمْ قَالُوا الْحَقَّ فَهُوَ عِنْدِي أَعْذَرُ وَالشَّاهِدَانِ وَالْعَاقِدُ لَا عُذْرَ لَهُمْ فِي افْتِيَاتِهِمْ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

.فَصْلٌ فِي عُقُوبَةِ الْقَاضِي إذَا حَكَمَ بِالْجَوْرِ:

وَفِي مُخْتَصَرِ الْوَاضِحَةِ: وَعَلَى الْقَاضِي أَذَا أَقَرَّ بِالْجَوْرِ، أَوْ ثَبَتَ عَلَيْهِ ذَلِكَ بِالْبَيِّنَةِ بِالْعُقُوبَةِ الْمُوجِعَةِ وَيُعْزَلُ وَيُشْهَرُ وَيُفْضَحُ وَلَا تَجُوزُ وِلَايَتُهُ أَبَدًا وَلَا شَهَادَتُهُ، وَإِنْ أَحْدَثَ تَوْبَةً وَصَلُحَتْ حَالُهُ بِمَا اجْتَرَمَ فِي حُكْمِ اللَّهِ تَعَالَى.
مَسْأَلَةٌ:
مِنْ الطُّرَرِ: وَلَا تَجُوزُ شَهَادَةُ مُلَقِّنِ الْخَصْمِ فَقِيهًا كَانَ أَوْ غَيْرَهُ، وَيُضْرَبُ وَيُشْهَرُ فِي الْمَجَالِسِ وَيُعَرَّفُ بِهِ وَيُسَجَّلُ عَلَيْهِ وَقَدْ فَعَلَهُ بَعْضُ الْقُضَاةِ بِقُرْطُبَةَ بِكَثِيرٍ مِنْ الْفُقَهَاءِ بِمَشُورَةِ أَهْلِ الْعِلْمِ عِنْدَهُ فَصْلٌ فِي الْعُقُوبَةِ بِالسِّجْنِ وَذِكْرِ حَقِيقَتِهِ وَعَلَى مَنْ يَتَوَجَّهُ وَقَدْرِ مُدَّتِهِ فَأَمَّا حَقِيقَتُهُ فَفِي وَثَائِقِ ابْنِ الْهِنْدِيِّ أَنَّ السِّجْنَ مُشْتَقٌّ مِنْ الْحَصْرِ.
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا} [الإسراء: 8] أَيْ سِجْنًا وَحَبْسًا، قَالَ: وَالسِّجْنُ وَإِنْ كَانَ أَسْلَمَ الْعُقُوبَاتِ فَقَدْ تَأَوَّلَ بَعْضُهُمْ قَوْله تَعَالَى: {إِلا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [يوسف: 25]، أَنَّ السِّجْنَ مِنْ الْعُقُوبَاتِ الْبَلِيغَةِ، لِأَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قَرَنَهُ مَعَ الْعَذَابِ الْأَلِيمِ، وَقَدْ وَعَدَ يُوسُفَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ الِانْطِلَاقَ مِنْ السِّجْنِ إحْسَانًا إلَيْهِ فِي قَوْلِهِ: {وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ} [يوسف: 100] وَلَا شَكَّ أَنَّ السِّجْنَ الطَّوِيلَ عَذَابٌ.
وَقَدْ حَكَى اللَّهُ تَعَالَى عَنْ فِرْعَوْنَ إذْ أَوْعَدَ مُوسَى: {لأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ} [الشعراء: 29] وَنَسْأَلُ اللَّهَ الْعَافِيَةَ، وَلَمَّا اسْتَخْلَفَ مَرْوَانُ بْنُ الْحَكَمِ ابْنَهُ عَلَى بَعْضِ الْمَوَاضِعِ، أَوْصَاهُ أَنْ لَا يُعَاقِبَ فِي حِينِ الْغَضَبِ، وَحَضَّهُ عَلَى أَنْ يَسْجُنَ حَتَّى يَسْكُنَ غَضَبُهُ ثُمَّ يَرَى رَأْيَهُ، وَكَانَ يَقُولُ: إنَّ أَوَّلَ مَنْ اتَّخَذَ السِّجْنَ كَانَ حَلِيمًا، وَلَمْ يُرِدْ مَرْوَانُ طُولَ السَّجْنِ، وَإِنَّمَا أَرَادَ السَّجْنَ الْخَفِيفَ حَتَّى يَسْكُنَ غَضَبُهُ.
وَقَالَ ابْنُ قَيِّمِ الْجَوْزِيَّةِ الْحَنْبَلِيُّ: اعْلَمْ أَنَّ الْحَبْسَ الشَّرْعِيَّ لَيْسَ هُوَ السَّجْنُ فِي مَكَان ضَيِّقٍ، وَإِنَّمَا هُوَ تَعْوِيقُ الشَّخْصِ وَمَنْعُهُ مِنْ التَّصَرُّفِ بِنَفْسِهِ حَيْثُ شَاءَ، سَوَاءٌ كَانَ فِي بَيْتٍ أَوْ فِي مَسْجِدٍ أَوْ كَانَ بِتَوَكُّلِ نَفْسِ الْغَرِيمِ أَوْ وَكِيلِهِ عَلَيْهِ وَمُلَازَمَتِهِ لَهُ، وَلِهَذَا أَسْمَاهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَسِيرًا، فَفِي سُنَنِ أَبِي دَاوُد وَابْنِ مَاجَهْ عَنْ الْهِرْمَاسِ بْنِ حَبِيبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ، قَالَ: «أَتَيْت النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِغَرِيمٍ لِي فَقَالَ لِي: الْزَمْهُ، ثُمَّ قَالَ لِي: يَا أَخَا بَنِي تَمِيمٍ مَا تُرِيدُ أَنْ تَفْعَلَ بِأَسِيرِك»؟ فِي رِوَايَةِ ابْنِ مَاجَهْ: «مَرَّ بِي آخِرَ النَّهَارِ فَقَالَ: مَا فَعَلَ أَسِيرُك يَا أَخَا بَنِي تَمِيمٍ»؟ وَهَذَا كَانَ هُوَ الْحَبْسُ فِي زَمَنِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ حَبْسٌ مُعَدٌّ لِحَبْسِ الْخُصُومِ، فَلَمَّا انْتَشَرَتْ الرَّعِيَّةُ فِي زَمَنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ابْتَاعَ بِمَكَّةَ دَارًا وَجَعَلَهَا سِجْنًا يَحْبِسُ فِيهَا، وَجَاءَ أَنَّهُ اشْتَرَى مِنْ صَفْوَانَ بْنِ أُمَيَّةَ دَارًا بِأَرْبَعَةِ آلَافِ دِرْهَمٍ وَجَعَلَهَا حَبْسًا، وَفِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ اتِّخَاذِ الْحَبْسِ.
مَسْأَلَةٌ:
نَقَلَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ الْفَرَجِ الْمَعْرُوفُ بِابْنِ الطَّلَّاعِ الْأَنْدَلُسِيِّ الْمَالِكِيِّ فِي كِتَابِهِ الْمُسَمَّى بِأَحْكَامِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: اخْتَلَفَتْ الْآثَارُ هَلْ سَجَنَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبُو بَكْرٍ أَحَدًا أَمْ لَا؟ فَذَكَرَ بَعْضُهُمْ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لَهُمَا سِجْنٌ وَلَا سَجَنَا أَحَدًا، وَذَكَرَ بَعْضُهُمْ: «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَجَنَ فِي الْمَدِينَةِ فِي تُهْمَةِ دَمٍ»، رَوَاهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَالنَّسَائِيُّ فِي مُصَنَّفَيْهِمَا.
وَفِي غَيْرِ الْمُصَنَّفِ: «أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَبَسَ فِي تُهْمَةٍ سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ ثُمَّ خَلَّى بَيْنَهُ»، وَوَقَعَ فِي أَحْكَامِ ابْنِ زِيَادٍ عَنْ الْفَقِيهِ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَيُّوبَ بْنِ سُلَيْمَانَ: «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَجَنَ رَجُلًا أَعْتَقَ شِرْكًا لَهُ فِي عَبْدٍ، فَوَجَبَ عَلَيْهِ اسْتِتْمَامُ عِتْقِهِ، قَالَ فِي الْحَدِيثِ حَتَّى بَاعَ غَنِيمَةً لَهُ».
وَقَالَ ابْنُ شَعْبَانَ فِي كِتَابِهِ: وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَنَّهُ حَكَمَ بِالضَّرْبِ وَالسَّجْنِ» فَثَبَتَ بِهَذَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَجَنَ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ فِي سِجْنٍ مُتَّخَذٍ لِذَلِكَ.
وَثَبَتَ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ لَهُ سِجْنٌ، وَأَنَّهُ سَجَنَ الْحُطَيْئَةَ عَلَى الْهَجْوِ، وَسَجَنَ صَبِيغًا عَلَى سُؤَالِهِ عَنْ الذَّارِيَاتِ وَالْمُرْسَلَاتِ وَالنَّازِعَاتِ وَشِبْهِهِنَّ، وَأَمْرِهِ لِلنَّاسِ بِالتَّفَقُّهِ فِي ذَلِكَ، وَضَرَبَهُ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ وَنَفَاهُ إلَى الْعِرَاقِ وَقِيلَ إلَى الْبَصْرَةِ، وَكَتَبَ أَنْ لَا يُجَالِسَهُ أَحَدٌ قَالَ الْمُحَدِّثُ فَلَوْ جَاءَنَا وَنَحْنُ مِائَةٌ لَتَفَرَّقْنَا عَنْهُ، ثُمَّ كَتَبَ أَبُو مُوسَى إلَى عُمَرَ أَنَّهُ قَدْ حَسُنَتْ تَوْبَتُهُ، فَأَمَرَهُ عُمَرُ فَخَلَّى بَيْنَهُ وَبَيْنَ النَّاسِ وَسَجَنَ عُثْمَانُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ صَابِئَ بْنَ حَارِثٍ، وَكَانَ مِنْ لُصُوصِ بَنِي تَمِيمٍ وَقُتَّالِهِمْ حَتَّى مَاتَ فِي الْحَبْسِ وَسَجَنَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي الْكُوفَةِ، وَسَجَنَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ بِمَكَّةَ، وَسَجَنَ أَيْضًا فِي سِجْنِ عَارِمٍ مُحَمَّدَ ابْنَ الْحَنِيفَةِ إذْ امْتَنَعَ مِنْ بَيْعَتِهِ. اهـ.
مَسْأَلَةٌ:
وَلَمَّا كَانَ حُضُورُ مَجْلِسِ الْحَاكِمِ مِنْ جِنْسِ الْحَبْسِ، لِمَا فِيهِ مِنْ التَّعْوِيقِ عَنْ التَّصَرُّفِ فِي مَصَالِحِ الْمَطْلُوبِ، لِأَنَّ الْحَاكِمَ يَطْلُبُ الْغَرِيمَ لِلْمُدَّعِي بِخَوَاتِمَ أَوْ رَسُولٍ إلَيْهِ كَانَ فِي مَوْضِعِهِ، أَوْ فِيمَا قَرُبَ مِنْهُ فَيَحْصُلُ لِلْغَرِيمِ تَعْوِيقٌ عَنْ مَصَالِحِهِ، ثُمَّ إذَا حَضَرَ مَجْلِسَ الْحَاكِمِ فَقَدْ يَكُونُ الْحَاكِمُ غَيْرَ جَالِسٍ لِلْخُصُومِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ، وَرُبَّمَا كَانَ مَشْغُولًا عَنْهُ بِغَيْرِهِ، فَلَا يَزَالُ مُعَوَّقًا حَتَّى يَتَفَرَّغَ الْقَاضِي لِلْفَصْلِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَرِيمِهِ، فَلِذَلِكَ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ، هَلْ يَحْضُرُ الْخَصْمُ الْمَطْلُوبُ بِمُجَرَّدِ الدَّعْوَى أَوْ لابد أَنْ يَسْأَلَهُ مِنْ وَجْهِ الدَّعْوَى وَيَذْكُرُ لِلْحَاكِمِ السَّبَبَ، فَاَلَّذِي ذَهَبَ إلَيْهِ جَمَاعَةٌ مِنْ أَصْحَابِنَا أَنَّهُ لَا يَحْضُرُهُ، حَتَّى يُبَيِّنَ الْمُدَّعِي أَصْلًا، وَهِيَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ.
وَنُقِلَ عَنْ الشَّافِعِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَعَنْ أَحْمَدَ فِي رِوَايَةٍ: أَنْ يَحْضُرَ الْمَطْلُوبُ بِمُجَرَّدِ الدَّعْوَى، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى لِأَنَّ الدَّعْوَى قَدْ لَا تَتَوَجَّهُ فَيَبْعَثُ إلَيْهِ مِنْ مَسَافَةِ الْعَدْوَى، وَيُحْضِرُهُ لِمَا لَا يَجِبُ عَلَيْهِ فِيهِ شَيْءٌ، وَيَفُوتُ عَلَيْهِ كَثِيرٌ مِنْ مَصَالِحِهِ، وَرُبَّمَا كَانَ حُضُورُ بَعْضِ النَّاسِ وَالدَّعْوَى بِمَجْلِسِ الْحُكَّامِ يُزْرِي بِهِ، فَيَقْصِدُ مَنْ لَهُ غَرَضٌ فَاسِدٌ أَذَى مَنْ يُرِيدُ ذَلِكَ.
فرع:
وَإِذَا تَقَرَّرَ أَنَّ الْحَاكِمَ يَطْلُبُ الْغَرِيمَ فَيَنْبَغِي ذِكْرُ الْمَسَافَةِ الَّتِي يَطْلُبُهُ مِنْهَا، وَالْجَارِي فِي كُتُبِ الْأَصْحَابِ أَنَّهُ يَطْلُبُهُ مِنْ مَسَافَةِ الْعَدْوَى، فَإِنْ زَادَ لَمْ يَطْلُبْهُ حَتَّى يَثْبُتَ حَقُّهُ عِنْدَهُ بِشَاهِدَيْنِ أَوْ بِشَاهِدٍ وَاحِدٍ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ إلَّا مُجَرَّدُ عَوْدِ خَصْمِهِ لَمْ يَلْزَمْهُ حُضُورُهُ إلَّا فِيمَا قَرُبَ كَطَرَفِ الْبَلَدِ.
قَالَ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ: وَرُبَّمَا قِيلَ: ثَلَاثَةُ أَمْيَالٍ وَنَحْوُهَا، وَالتَّحْدِيدُ فِي ذَلِكَ الْأَمْيَالِ عَلَى خِلَافِ الْأَصْلِ.
وَقَالَ ابْنُ رَاشِدٍ: وَالْقَرِيبُ ثَلَاثَةٌ، وَقَالَ ابْنُ حَبِيبٍ: مِثْلُ أَنْ يَأْتِيَ وَيَرْجِعَ فَيَبِيتَ فِي مَنْزِلِهِ وَالطَّرِيقُ مَأْمُونَةٌ، وَالْبَعِيدُ مَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ، فَإِنْ زَادَ عَلَى مَسَافَةِ الْعَدْوَى يَثْبُتُ حَقُّهُ، كَتَبَ إلَيْهِ الْقَاضِي: إمَّا أَنْ يَحْضُرَ مَعَ خَصْمِهِ أَوْ يُرْضِيَهُ أَوْ يَكْتُبَ إلَى مَنْ يَثِقُ بِهِ يَنْظُرُ فِي أَمْرِهِمَا.

.فَصْلٌ فِي بَيَانِ مَنْ يَتَوَجَّهُ عَلَيْهِ الْحَبْسُ:

ذَكَرَ الْقَرَافِيُّ فِي الْفَرْقِ السَّادِسِ وَالثَّلَاثِينَ وَالْمِئَتَيْنِ، أَنَّ الْمَشْرُوعَ مِنْ الْحَبْسِ ثَمَانِيَةُ أَقْسَامٍ.
الْأَوَّلُ: حَبْسُ الْجَانِي لِغِيبَةِ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ حِفْظًا لِمَحَلِّ الْقِصَاصِ.
الثَّانِي: حَبْسُ الْآبِقِ سَنَةً حِفْظًا لِلْمَالِيَّةِ رَجَاءَ أَنْ يَعْرِفَ رَبَّهُ.
الثَّالِثُ: حَبْسُ الْمُمْتَنِعِ مِنْ دَفْعِ الْحَقِّ إلْجَاءً إلَيْهِ.
الرَّابِعُ: حَبْسُ مَنْ أَشْكَلَ أَمْرُهُ فِي الْعُسْرِ وَالْيُسْرِ اخْتِبَارًا لِحَالِهِ، فَإِذَا ظَهَرَ حَالُهُ حُكِمَ بِمُوجِبِ عُسْرٍ أَوْ يُسْرٍ.
الْخَامِسُ: حَبْسُ الْجَانِي تَعْزِيرًا أَوْ رَدْعًا عَنْ مَعَاصِي اللَّهِ تَعَالَى.
السَّادِسُ: حَبْسُ مَنْ امْتَنَعَ مِنْ التَّصَرُّفِ الْوَاجِبِ الَّذِي لَا تَدْخُلُهُ النِّيَابَةُ كَحَبْسِ مَنْ أَسْلَمَ عَلَى أُخْتَيْنِ أَوْ عَشْرِ نِسْوَةٍ أَوْ امْرَأَةٍ وَابْنَتِهَا وَامْتَنَعَ مِنْ التَّعْيِينِ.
السَّابِعُ: حَبْسُ مَنْ أَقَرَّ بِمَجْهُولِ عَيْنٍ أَوْ فِي الذِّمَّةِ وَامْتَنَعَ مِنْ تَعْيِينِهِ فَيُحْبَسُ حَتَّى يُعَيِّنَهُ، فَيَقُولُ الْمُقَرُّ لَهُ بِهِ هُوَ هَذَا الثَّوْبُ أَوْ هَذِهِ الدَّابَّةُ أَوْ الشَّيْءُ الَّذِي أَقْرَرْت بِهِ فِي ذِمَّتِي هُوَ دِينَارٌ.
الثَّامِنُ: حَبْسُ الْمُمْتَنِعِ مِنْ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى الَّذِي لَا تَدْخُلُهُ النِّيَابَةُ عِنْدَنَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ: كَالصَّوْمِ وَالصَّلَاةِ فَيُقْتَلُ فِيهِ وَمَا عَدَا هَذِهِ الثَّمَانِيَةِ لَا يَجُوزُ الْحَبْسُ فِيهِ انْتَهَى، وَيُزَادُ إلَى مَا ذَكَرَهُ قِسْمٌ تَاسِعٌ وَهُوَ حَبْسُ الْمُتَدَاعَى فِيهِ، وَقِسْمٌ عَاشِرٌ وَهُوَ مَنْ يُحْبَسُ اخْتِبَارًا لِمَا يُنْسَبُ إلَيْهِ مِنْ السَّرِقَةِ وَالْفَسَادِ، قَالَ: وَلَا يَجُوزُ الْحَبْسُ فِي الْحَقِّ إذَا تَمَكَّنَ الْحَاكِمُ مِنْ اسْتِيفَائِهِ، مِثْلُ أَنْ يَمْتَنِعَ مِنْ دَفْعِ الدَّيْنِ وَنَحْنُ نَعْرِفُ مَالَهُ، فَإِنَّا نَأْخُذُ مِنْهُ مِقْدَارَ الدَّيْنِ وَلَا يَجُوزُ لَنَا حَبْسُهُ، وَكَذَلِكَ إذَا ظَفِرْنَا بِدَارِهِ أَوْ شَيْءٍ يُبَاعُ لَهُ فِي الدَّيْنِ كَانَ رَهْنًا أَمْ لَا، فَلْنَفْعَلْ ذَلِكَ وَلَا نَحْبِسُهُ، فَإِنَّ فِي حَبْسِهِ اسْتِمْرَارَ ظُلْمِهِ وَدَوَامَ الْمُنْكَرِ فِي الطَّلَبِ، وَضَرَرُهُ هُوَ مَعَ إمْكَانِ أَنْ لَا يَبْقَى شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ.
قَالَ: وَكَذَلِكَ إذَا رَأَى الْحَاكِمُ عَلَى الْخَصْمِ فِي الْحَبْسِ مِنْ الثِّيَابِ وَالْقُمَاشِ مَا يُمْكِنُ اسْتِغْنَاؤُهُ عَنْهُ أَخَذَهُ مِنْ عَلَيْهِ قَهْرًا وَبَاعَهُ فِيمَا عَلَيْهِ، وَلَا يَحْبِسُهُ تَعْجِيلًا لِرَفْعِ الظُّلْمِ وَإِيصَالِ الْحَقِّ لِمُسْتَحِقِّهِ بِسَبَبِ الْإِمْكَانِ.
تنبيه:
وَفِي تَنْبِيهِ الْحُكَّامِ عَلَى مَأْخَذِ الْأَحْكَامِ لِابْنِ الْمُنَاصِفِ قَالَ: وَإِذَا ضَرَبَ الْأَجَلَ لِلطَّالِبِ فِي إثْبَاتِ مَا ادَّعَاهُ قَبْلَ الْمَطْلُوبِ، فَسَأَلَ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ الْمَطْلُوبِ كَفِيلًا بِوَجْهِهِ لِأَجْلِ الْخُصُومَةِ فَعَلَيْهِ ذَلِكَ، فَإِنْ عَجَزَ عَنْ الْكَفِيلِ لَمْ يُحْبَسْ وَلَمْ يَلْزَمْهُ شَيْءٌ، وَقِيلَ لِلطَّالِبِ: لَازِمْهُ إنْ شِئْت. وَفِي الْمُدَوَّنَةِ فِيمَنْ ادَّعَى عَلَى رَجُلٍ دَيْنًا أَوْ شَيْئًا مُسْتَهْلَكًا، وَسَأَلَ الْقَاضِيَ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهُ بِذَلِكَ الْحَقِّ كَفِيلًا، فَإِنَّهُ إنْ كَانَ لِلْمُدَّعِي بَيِّنَةٌ عَلَى الْمُخَالَطَةِ وَالْمُعَامَلَةِ وَمَا يُوجِبُ اللَّطْخَ وَهُمْ حُضُورٌ، فَإِنَّهُ يُوَكَّلُ بِالْمَطْلُوبِ حَتَّى يَأْتِيَ اللَّطْخُ فِيمَا قَرُبَ مِنْ يَوْمِهِ وَشِبْهِهِ، اُنْظُرْ تَمَامَهَا فِي التَّهْذِيبِ.
سُؤَالٌ:
قَالَ الْقَرَافِيُّ: كَيْفَ يُخَلَّدُ فِي الْحَبْسِ مَنْ امْتَنَعَ مِنْ دَفْعِ دِرْهَمٍ وَجَبَ عَلَيْهِ؟ وَعَجَزْنَا عَنْ أَخْذِهِ مِنْهُ لِأَنَّهَا عُقُوبَةٌ عَظِيمَةٌ فِي جِنَايَةٍ حَقِيرَةٍ، وَقَوَاعِدُ الشَّرْعِ تَقْتَضِي تَقْدِيرَ الْعُقُوبَاتِ بِقَدْرِ الْجِنَايَاتِ.
جَوَابُهُ: أَنَّهَا عُقُوبَةٌ صَغِيرَةٌ بِإِزَاءِ جِنَايَةٍ صَغِيرَةٍ لَمْ تُخَالِفْ الْقَوَاعِدَ، فَإِنَّهُ فِي كُلِّ سَاعَةٍ يَمْتَنِعُ مِنْ أَدَاءِ الْحَقِّ عَاصٍ فَيُقَابَلُ مِنْ سَاعَةٍ مِنْ سَاعَاتِ الِامْتِنَاعِ بِسَاعَةٍ مِنْ سَاعَاتِ الْحَبْسِ، فَهِيَ جِنَايَاتٌ وَعُقُوبَاتٌ مُتَكَرِّرَةٌ مُتَقَابِلَةٌ، فَانْدَفَعَ السُّؤَالُ وَلَمْ يُخَالِفْ الْقَوَاعِدَ، انْتَهَى.
وَقَدْ يُجَابُ بِأَنَّهَا عُقُوبَةٌ عَظِيمَةٌ، فَإِنَّ مَطْلُ الْغَنِيِّ ظُلْمٌ، وَالْإِصْرَارُ عَلَى الظُّلْمِ وَالتَّمَادِي عَلَيْهِ جِنَايَةٌ عَظِيمَةٌ فَاسْتَحَقَّ ذَلِكَ، وَالظَّالِمُ أَحَقُّ أَنْ يُحْمَلَ عَلَيْهِ.

.فَصْلٌ فِي ذِكْرِ أَمْثِلَةِ الْأَقْسَامِ الثَّمَانِيَةِ:

الْأَوَّلُ: حَبْسُ الْجَانِي حَتَّى يَنْظُرَ مَا يَئُولُ إلَيْهِ أَمْرُ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ حِفْظًا لِمَحَلِّ الْقِصَاصِ، وَقَدْ تَقَدَّمَتْ أَمْثِلَتُهُ فِي بَابِ الدَّعْوَى عَلَى الْمُتَّهَمَيْنِ.
الثَّانِي: حَبْسُ الْآبِقِ سَنَةً، قَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا مُرَادُ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ حَبْسُ سَنَةٍ، إذَا كَانَ لِلْعَبْدِ صَنْعَةٌ تَقُومُ بِنَفَقَتِهِ أَوْ إمَامٌ عَادِلٌ يُنْفِقُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ، وَإِلَّا بِيعَ قَبْلَ السَّنَةِ، وَكَذَلِكَ قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ حَبْسُهُ سَنَةً هُوَ السُّنَّةُ إلَّا أَنْ يُخَافَ عَلَيْهِ الضَّيَاعُ فَيُبَاعَ، قَالَ مَالِكٌ إذَا اتَّفَقَ عَلَيْهِ الْإِمَامُ وَبَاعَهُ أَخَذَ مِنْ ثَمَنِهِ النَّفَقَةَ، وَحَبَسَ يُبْطِئُ لِرَبِّهِ وَلَا يُطْلِقُهُ بَعْدَ السَّنَةِ لِئَلَّا يَأْبَقَ ثَانِيَةً، قَالَ سَحْنُونٌ: لَا أَرَى أَنْ يُوقَفَ سَنَةً، بَلْ مَا يَتَبَيَّنُ أَمْرُهُ فِيهِ ثُمَّ يُبَاعُ وَيَكْتُبُ صِفَتَهُ حَتَّى يَأْتِيَ طَالِبُهُ.
وَقَالَ ابْنُ يُونُسَ: هُوَ الصَّوَابُ، لِأَنَّ نَفَقَةَ السَّنَةِ رُبَّمَا أَذْهَبَتْ ثَمَنَهُ وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إنَّ الْإِمَامَ لَا يَحْبِسُهُ حَتَّى يَخَافَ عَلَيْهِ الضَّيَاعَ بَلْ يُخَلِّي سَبِيلَهُ وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّ حَبْسَهُ يَحُولُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ سَيِّدِهِ فَلَا يَجِدُهُ.
مَسْأَلَةٌ:
وَإِذَا حَارَبَ الْآبِقُ فَلَيْسَ لِوَاجِدِهِ عَلَى رَبِّهِ إلَّا مَا أَنْفَقَ، لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُضَيِّعَ مَالَهُ، فَمَنْ قَامَ بِحِفْظِهِ رَجَعَ عَلَيْهِ، وَأَمَّا الْجُعْلُ فَإِنْ كَانَ مِمَّنْ لَيْسَ شَأْنُهُ أَخْذَ الْجُعْلِ فَلَا جُعْلَ لَهُ، وَإِلَّا فَلَهُ الْجُعْلُ لِأَنَّهُ فَعَلَ فِعْلًا يَحْفَظُ بِهِ مَالَ غَيْرِهِ وَبِهِ يَجِبُ عَلَيْهِ ذَلِكَ، وَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ عُدَّ سَفَهًا وَحُجِرَ عَلَيْهِ.
مَسْأَلَةٌ:
فَإِذَا أَرْسَلَهُ وَاجِدُهُ وَخَافَ عِظَمَ النَّفَقَةِ ضَمِنَهُ لِتَعَدِّيهِ بِإِرْسَالِهِ كَمَا لَوْ أَخَذَ لُقَطَةً فَرَدَّهَا.
وَقَالَ فِي الْعُتْبِيَّةِ أَرَى أَنْ يُرْسِلَهُ إذَا لَمْ يَجِدْ مَنْ يَعْرِفُهُ خَيْرًا مِنْ أَنْ يَبِيعَهُ، فَيَهْلَكُ ثَمَنُهُ أَوْ يَطْرَحُهُ فِي السِّجْنِ فَلَا يَجِدُ مَنْ يُطْعِمُهُ.
فرع:
وَفِي الْمُتَيْطِيَّةِ: اخْتَلَفَ قَوْلُ مَالِكٍ فِي الْآبِقِ، فَمَرَّةً أَمَرَ وَاجِدَهُ أَنْ يَأْخُذَهُ كَانَ وَاجِدَهُ أَوْ غَيْرَهُ، وَمَرَّةً نَهَى عَنْ ذَلِكَ لِئَلَّا يَكُونَ حَبْسُهُ دَاعِيًا إلَى انْقِطَاعِ خَبَرِهِ عَنْ سَيِّدِهِ، وَاسْتَحَبَّ مَالِكٌ لَهُ أَنْ يَأْخُذَهُ إذَا كَانَ مَنْ يَعْرِفُهُ.
الثَّالِثُ: حَبْسُ الْمُمْتَنِعِ مِنْ أَدَاءِ الْحَقِّ وَهُوَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: الْأَوَّلُ: حَبْسُ تَضْيِيقٍ وَتَنْكِيلٍ، وَهُوَ فِي حَقِّ مَنْ عَرَفَ أَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى أَدَاءِ مَا عَلَيْهِ مِنْ الْحَقِّ وَهُوَ مُمْتَنِعٌ مِنْ أَدَائِهِ، فَلَا خِلَافَ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ أَنَّ هَذَا يُعَاقَبُ حَتَّى يُؤَدِّيَ مَا عَلَيْهِ، وَنَصُّوا عَلَى عُقُوبَتِهِ بِالضَّرْبِ ذَكَرَ ذَلِكَ الْفُقَهَاءُ مِنْ الطَّوَائِفِ الْأَرْبَعَةِ، فَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: «مَطْلُ الْغَنِيِّ ظُلْمٌ»، وَالظَّالِمُ يَسْتَحِقُّ الْعُقُوبَةَ شَرْعًا.
وَفِي الْحَدِيثِ: «لَيُّ الْوَاجِدِ يُحِلُّ عِرْضَهُ وَعُقُوبَتَهُ»، وَالْعُقُوبَةُ لَا تَخْتَصُّ بِالْحَبْسِ بَلْ هِيَ فِي الضَّرْبِ أَظْهَرُ مِنْهَا فِي الْحَبْسِ، وَيُسْتَثْنَى مِنْ هَذَا أَنَّ الْوَلَدَ لَا يَحْبِسُ وَالِدَهُ فِي دَيْنِهِ لِحُرْمَةِ الْأُبُوَّةِ بِخِلَافِ نَفَقَتِهِ.
مَسْأَلَةٌ:
وَأَمَّا مَنْ أَخَذَ مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِدَيْنٍ أَوْ بِتَجْرٍ ثُمَّ زَعَمَ أَنَّهُ لَا شَيْءَ مَعَهُ، وَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّهُ عَطِبَ وَلَا سَرَقَ وَلَا نَكَبَ ضُرِبَ بِالسِّيَاطِ، فِي الْجَمِيعِ وَغَيْرِهَا حَتَّى يُؤَدِّيَ مَا عَلَيْهِ أَوْ يَمُوتَ فِي الْحَبْسِ، أَوْ يَتَبَيَّنَ لِلْإِمَامِ أَنَّهُ لَا شَيْءَ مَعَهُ فَيُطْلِقُهُ بَعْدَ أَنْ يُحَلِّفَهُ، وَبِذَلِكَ كَانَ سَحْنُونٌ يَفْعَلُ وَهَذَا لِقُوَّةِ التُّهْمَةِ أَنَّهُ غَيَّبَ الْمَالَ.
مَسْأَلَةٌ:
وَيُحْبَسُ الْوَصِيُّ إذَا لَمْ يَدْفَعْ الدَّيْنَ الَّذِي فِي ذِمَّةِ الْأَيْتَامِ، إذَا كَانَ لَهُمْ تَحْتَ يَدِهِ مَالٌ وَكَذَلِكَ الْأَبُ، وَيُحْبَسُ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ لِصَاحِبِهِ، وَاللَّدُّ لِأَبَوَيْهِ وَلَا يُحْبَسَانِ، وَلَكِنْ يَأْمُرُهُمَا الْإِمَامُ بِالْقَضَاءِ وَيَحُثُّهُمَا وَيَجْتَهِدُ فِي إلْزَامِهِمَا بِهِ لِئَلَّا يَظْلِمَهُ لَهُمَا، وَيُحْبَسُ السَّيِّدُ فِي دَيْنِ مُكَاتَبِهِ، وَيُحْبَسُ فِي نَفَقَةِ الْعَبِيدِ وَمَنْ فِيهِ بَقِيَّةُ رِقٍّ.
مَسْأَلَةٌ:
إذَا ثَبَتَ عُدْمُ الْغَرِيمِ وَانْقَضَى أَمَدُ سَجْنِهِ فَلَا يُطْلِقُهُ، حَتَّى يُحَلِّفَهُ أَنَّهُ مَا لَهُ مَالٌ ظَاهِرٌ وَلَا بَاطِنٌ، وَلَئِنْ وَجَدَ مَالًا لَيُؤَدِّيَنَّ إلَيْهِ حَقَّهُ.
وَفَائِدَةُ زِيَادَتِهِ فِي الْيَمِينِ، وَلَئِنْ وَجَدَ مَالًا لَيُؤَدِّيَنَّ أَنَّهُ لَوْ قَامَ عَلَيْهِ بَعْدَ ذَلِكَ وَادَّعَى عَلَى ذَلِكَ بِبَيِّنَةٍ، وَسُئِلَ أَنْ يَحْلِفَ لَهُ أَنَّهُ قَدْ أَفَادَ مَالًا وَلَمْ يَأْتِ عَلَى ذَلِكَ بِبَيِّنَةٍ، سُئِلَ أَنْ يَحْلِفَ لَهُ أَنَّهُ مَا أَفَادَ بَعْدَ ذَلِكَ مَالًا لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ لَهُ، لِأَنَّهُ قَدْ اسْتَحْلَفَهُ عَلَى ذَلِكَ، فَلَا يُمَكَّنُ مِنْ تَعْنِيتِهِ كُلَّ يَوْمٍ بِالْيَمِينِ وَلَا سَبِيلَ لَهُ عَلَيْهِ حَتَّى يَتَبَيَّنَ أَنَّهُ أَفَادَ مَالًا.
مَسْأَلَةٌ:
وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ الْغَرِيمَ إذَا كَانَ مَلِيًّا أَمَرَهُ الْقَاضِي بِإِنْصَافِ غَرِيمِهِ، فَإِنْ لَدَّ وَكَانَ لَهُ مَالٌ ظَاهِرٌ قَضَى مِنْهُ وَإِلَّا سُجِنَ، فَإِنْ قَضَى وَإِلَّا ضُرِبَ حَتَّى يَقْضِيَ.
فرع:
فَإِنْ كَانَ يَقْدِرُ عَلَى الْأَدَاءِ وَلَكِنْ بِمَضَرَّةٍ فَإِنْظَارُهُ مُسْتَحَبٌّ، وَلَوْ كَانَ عِنْدَهُ مَالٌ وَبَاعَهُ فِي الْحَالِ قَضَى مِنْهُ، وَلَكِنْ يَشُقُّ عَلَيْهِ خُرُوجُهُ عَنْ مِلْكِهِ، كَجَارِيَتِهِ وَعَبْدِ التَّاجِرِ وَمَرْكُوبِهِ، وَمَا يُدْرِكُهُ فِي بَيْعِهِ مَضَرَّةٌ أَوْ مَعَرَّةٌ لَمْ يُؤْخَذْ بَيْعُهُ؛ لِأَنَّ الشَّأْنَ الْقَضَاءُ مِنْ عَيْنِ ذَلِكَ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ مَالِكٌ فِي الْمَبْسُوطِ.
وَقَالَهُ اللَّخْمِيُّ: وَسُئِلَ ابْنُ رُشْدٍ عَنْ الرَّجُلِ يَكُونُ لَهُ عَلَى رَجُلٍ دَيْنٌ حَالٌّ، وَلِلْغَرِيمِ سِلْعَةٌ يُمْكِنُ بَيْعُهَا بِسُرْعَةٍ، فَطَلَبَ صَاحِبُ الدَّيْنِ أَنْ تُبَاعَ، وَطَلَبَ الْمِدْيَانُ أَنْ لَا يُفَوِّتَ عَلَيْهِ وَأَنْ يَضَعَ السِّلْعَةَ رَهْنًا، وَيُؤَجَّلَ أَيَّامًا يَنْظُرَ فِيهَا فِي الدَّيْنِ.
فَأَجَابَ بِأَنَّ مِنْ حَقِّهِ أَنْ تُجْعَلَ السِّلْعَةُ رَهْنًا، وَيُؤَجَّلَ فِي إحْضَارِ الْمَالِ بِقَدْرِ قِلَّتِهِ وَكَثْرَتِهِ، وَمَا لَا يَكُونُ فِيهِ ضَرَرٌ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِاجْتِهَادِ الْحَاكِمِ فِي ذَلِكَ، وَبِهَذَا جَرَى الْقَضَاءُ وَعَلَيْهِ الْعَمَلُ، وَعَلَيْهِ تَدُلُّ الرِّوَايَاتُ مِنْ مُفِيدِ الْحُكَّامِ.
مَسْأَلَةٌ:
وَلَوْ عَرَضَ رُبْعَهُ فَلَمْ يَجِدْ مَنْ يَشْتَرِيهِ إلَّا بِبَخْسٍ.
وَقَالَ سَحْنُونٌ يَدْعُو الْحَاكِمُ إلَى رُبْعِهِ وَيَسْتَقْصِي فِيهِ الثَّمَنَ، ثُمَّ يَبِيعُهُ بِالْخِيَارِ رَجَاءَ أَنْ يُزَادَ فِيهِ، فَإِنْ لَمْ يَحْصُلْ زِيَادَةٌ بَاعَهُ أَوْ بَاعَ مِنْهُ بِقَدْرِ الدَّيْنِ إنْ وَجَدَ مَنْ يَشْتَرِي بَعْضَهُ.
فرع:
فَإِنْ كَانَ الْغَرِيمُ لَا يَمْلِكُ غَيْرَ الْأُصُولِ وَأَثْبَتَ ذَلِكَ، فَإِنْ وَافَقَهُ الطَّالِبُ عَلَى ذَلِكَ فَلَا يَمِينَ عَلَيْهِ، وَإِلَّا أَعْذَرَ الْحَاكِمُ إلَى الطَّالِبِ فِي الشَّهَادَةِ بِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ غَيْرَ الْأُصُولِ، فَإِنْ سَلَّمَهَا وَطَلَبَ وَاجِبَ الشَّرْعِ وَادَّعَى مَدْفَعًا وَعَجَزَ عَنْ إثْبَاتِهِ، أَحْلَفَ الْقَاضِي الْغَرِيمَ أَنَّهُ مَا يَمْلِكُ الرُّبْعَ، ثُمَّ يَضْرِبُ لَهُ أَجَلًا بِحَسَبِ مَا يَرَى أَنَّهُ يَبِيعُ فِي مِثْلِهِ، قَالَ ابْنُ زَرْبٍ وَغَيْرُهُ يُؤَجَّلُ نَحْوَ شَهْرَيْنِ، قَالَ سَحْنُونٌ: وَلَا يَلْزَمُهُ حَمِيلٌ بِالْمَالِ وَفِيهِ نَظَرٌ، وَقَالَ غَيْرُهُ: يَلْزَمُهُ حَمِيلٌ بِالْوَجْهِ.
الْقِسْمُ الثَّانِي: حَبْسُ تَعْزِيرٍ وَتَأْدِيبٍ، وَذَلِكَ فِي حَقِّ مَنْ أَلَدَّ وَاتُّهِمَ أَنَّهُ خَبَّأَ مَالًا وَلَمْ يَتَحَقَّقْ ذَلِكَ كَمَا فِي الْقِسْمِ الْأَوَّلِ، فَيُطَالُ حَبْسُهُ حَتَّى يَقْضِيَ أَوْ يَثْبُتَ عَدَمُهُ فَيَحْلِفَ وَيُخَلَّى عَلَى الْوَجْهِ الْمَذْكُورِ فِي ذَلِكَ.
مَسْأَلَةٌ:
وَهَذَا الْمُتَّهَمُ لابد مِنْ سَجْنِهِ إلَّا أَنْ يَأْتِيَ بِحَمِيلٍ غَارِمٍ، وَلَا يَسْقُطُ الْغُرْمُ عَنْهُ بِثُبُوتِ عُدْمِ الْمَطْلُوبِ، لِأَنَّ سَجْنَهُ إنَّمَا هُوَ لِيَلْجَأَ إلَى الْأَدَاءِ وَلَا يُقْبَلُ مِنْهُ حَمِيلٌ بِوَجْهِهِ.
مَسْأَلَةٌ:
فَإِذَا ادَّعَى الْغَرِيمُ الْعُدْمَ، فَإِنْ وَافَقَهُ عَلَيْهِ الْمُدَّعِي لَمْ يَكُنْ لَهُ مَقَالٌ، وَإِنْ لَمْ يُوَافِقْهُ وَادَّعَى الْمَطْلُوبُ أَنَّ الطَّالِبَ عَالِمٌ بِعُدْمِهِ، فَقَالَ ابْنُ شَعْبَانَ وَابْنُ الْفَخَّارِ وَغَيْرُهُمَا يَحْلِفُ لَهُ، فَإِنْ نَكَلَ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَقَالٌ غَيْرَ أَنَّ الْقَاضِيَ يَسْتَحْلِفُهُ مَا لَهُ ظَاهِرٌ وَلَا بَاطِنٌ يَعْلَمُهُ، وَلَا يَحْلِفُ الْبَتَّ فَقَدْ يَكُونُ لَهُ مَالٌ لَا يَعْلَمُ بِهِ مِنْ مِيرَاثٍ أَوْ هِبَةٍ، وَظَاهِرُ مَا فِي الْمَجْمُوعَةِ أَنَّهُ يَحْلِفُ عَلَى الْبَتِّ، وَإِنْ لَمْ يَدَّعِ الْمَطْلُوبُ عِلْمَ الطَّالِبِ بِعُدْمِهِ، أَوْ ادَّعَاهُ فَحَلَفَ، فَإِنْ كَانَ الْغَرِيمُ ظَاهِرَ الْإِقْلَالِ لِبَذَاذَةِ حَالِهِ أَوْ قِلَّةِ جَدْوَى حِرْفَتِهِ كَالْخَيَّاطِ وَالْبَقَّالِ وَغَيْرِهِمَا مِنْ الصُّنَّاعِ، وَمِنْ شَأْنِ أَهْلِهَا الْعُدْمِ فَيُقْبَلُ قَوْلُهُ وَلَا يُسْجَنُ، قَالَ اللَّخْمِيُّ: إلَّا أَنْ تَكُونَ الدَّعْوَى قَلِيلًا مِمَّا عُومِلَ عَلَيْهِ فِي صَنْعَتِهِ، فَلَا يُحْمَلُ عَلَى الصِّدْقِ حَتَّى يَثْبُتَ ذَلِكَ.
فرع:
فَإِذَا أَثْبَتَ الْغَرِيمُ عُدْمَهُ وَأُعْذِرَ لِلطَّالِبِ فِي شُهُودِ الْعُدْمِ فَادَّعَى مَدْفَعًا وَعَجَزَ عَنْهُ خَلَّى الْحَاكِمُ سَبِيلَ الْغَرِيمِ.
فرع:
وَفِي الْمُتَيْطِيَّةِ: وَمَنْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ يَمِينٌ فَامْتَنَعَ مِنْهَا حَتَّى يُبْرِزَ الْمَطْلُوبُ الْمَالَ الَّذِي يَحْلِفُ عَلَيْهِ، فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يَجِبُ عَلَى الْمَطْلُوبِ حَتَّى يَحْلِفَ الطَّالِبُ إذْ لَا يُسْتَحَقُّ الْمَالُ إلَّا بِالْيَمِينِ فَإِنْ قَالَ: أَخْشَى أَنْ أَحْلِفَ ثُمَّ يَدَّعِيَ الْمَطْلُوبُ الْعُدْمَ، كَانَ مِنْ حَقِّهِ أَنْ يَشْهَدَ لَهُ الْمَطْلُوبُ أَنَّهُ مُوسِرٌ غَيْرُ عَدِيمٍ، ثُمَّ يَحْلِفُ الطَّالِبُ، فَإِنْ ادَّعَى الْمَطْلُوبُ الْعُدْمَ بَعْدَ ذَلِكَ حُبِسَ حَتَّى يُؤَدِّيَ وَلَا تُسْمَعُ بَيِّنَتُهُ بِالْعُدْمِ إنْ قَامَتْ لَهُ، لِأَنَّهُ أَلَدَّ بِهَا وَيُطَالُ سَجْنُهُ حَتَّى يُؤَدِّيَ.
فرع:
وَأَمَّا إنْ بَاعَ الرَّجُلُ مَنَافِعَهُ مِنْ رَجُلٍ لِيَنْسِجَ لَهُ ثِيَابًا مُدَّةً مَعْلُومَةً، جُبِرَ عَلَى أَنْ يَعْمَلَ تِلْكَ الْمُدَّةَ قَالَ اللَّخْمِيُّ: وَيَفْتَرِقُ الْجَوَابُ إذَا كَانَ مُحْتَاجًا لِمَا يُنْفِقُ عَلَى عِيَالِهِ، فَأَمَّا مَنْ يُدَايِنُ لِيَعْمَلَ وَيَقْضِيَ، فَإِنَّهُ مُبْتَدَأٌ بِنَفَقَتِهِ عِيَالَهُ وَمَقْضِيٌّ دَيْنُهُ مِنْ الْفَاضِلِ، وَإِنْ بَاعَ مَنَافِعَهُ مُدَّةً مَعْلُومَةً بُدِئَ بِاَلَّذِي اسْتَأْجَرَهُ، وَإِنْ أَدَّى ذَلِكَ إلَى أَنْ يَتَكَفَّفَ النَّاسَ إلَّا أَنْ يُخَافَ عَلَيْهِ الْمَوْتُ، فَيُخَيَّرُ الْمُسْتَأْجِرُ بَيْنَ أَنْ يُسَلِّفَهُ مَا يَعِيشُ هُوَ بِهِ دُونَ عِيَالِهِ حَتَّى يَتِمَّ عَمَلَهُ، أَوْ يَتْرُكَهُ يَعْمَلُ عِنْدَ غَيْرِهِ بِمِثْلِ ذَلِكَ.
مَسْأَلَةٌ:
وَإِذَا سَأَلَ الْغَرِيمُ أَنْ يُؤَخِّرَهُ الْحَاكِمُ الْيَوْمَ وَنَحْوَهُ، يُعْطِي حَمِيلًا بِالْمَالِ أُخِّرَ وَالْقُضَاةُ الْيَوْمَ يُؤَخِّرُونَهُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، وَذَلِكَ رَاجِعٌ إلَى اجْتِهَادِ الْإِمَامِ حَسْبَمَا يَظْهَرُ مِنْ حَالِ الْغَرِيمِ مِنْ لَدَدٍ وَغَيْرِهِ.
وَسُئِلَ سَحْنُونٌ عَنْ مَنْ وَجَبَ لَهُ دَيْنٌ فَسَأَلَ أَنْ يُؤَخَّرَ يَوْمًا أَوْ نَحْوَهُ، قَالَ: يُؤَخَّرُ وَيُعْطَى حَمِيلًا بِالْمَالِ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ بِالْمَالِ حَمِيلًا وَلَا وَجَدَ الْمَالَ سُجِنَ.
وَوَقَعَ فُتْيَا بَعْضِ الشُّيُوخِ فِيمَنْ سَأَلَ التَّأْخِيرَ بِحَمِيلِ الْمَالِ أَنَّهُ قَالَ: لَيْسَ عَلَى الْقَاضِي تَأْخِيرٌ، وَإِنَّمَا عَلَيْهِ الْحُكْمُ بِالْأَدَاءِ، فَإِنْ أَبَى الطَّالِبُ أَنْ يُؤَخِّرَ فَالْحَبْسُ، وَلَكِنَّ الْغَرِيمَ يَسْأَلُ ذَلِكَ مِنْ الطَّالِبِ، وَأَمَّا أَنْ يَكُونَ بِنَظَرِ الْقَاضِي وَأَمْرِهِ، فَلَا إلَّا أَنَّ الْقَاضِيَ يَحُضُّ بِالرِّفْقِ عَلَى الْغَرِيمِ وَالْإِحْسَانِ إلَيْهِ.
وَأَنْكَرَ ذَلِكَ ابْنُ سَهْلٍ وَقَالَ: هَذَا خِلَافٌ لِنُصُوصِ مَالِكٍ وَأَصْحَابِهِ، وَاسْتَدَلَّ عَلَى ذَلِكَ بِقَوْلِ مَالِكٍ فِي الْمُسْتَشْفِعِ: يُرِيدُ الْأَخْذَ بِالشُّفْعَةِ وَلَا يَحْضُرُهُ النَّقْدُ أَنَّهُ يُؤَخِّرُهُ الْيَوْمَ وَالْيَوْمَيْنِ وَالثَّلَاثَةَ.
قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: وَبِذَلِكَ أَخَذَ مَالِكٌ وَرَآهُ حَسَنًا مِنْ عَمَلِ الْقُضَاةِ، وَقَالَ ابْنُ الْمَاجِشُونِ: يُؤَخَّرُ عَشَرَةَ أَيَّامٍ، قَالَ أَصْبَغُ: الْخَمْسَةَ عَشَرَ وَالْعِشْرِينَ بِالِاجْتِهَادِ.
وَعَنْ مَالِكٍ أَيْضًا: فِي الْمُكَاتَبِ إنْ جَاءَ بِالْكِتَابَةِ إلَى الْأَجَلِ وَإِلَّا أُخِّرَ شَهْرًا أَوْ نَحْوَهُ، كَمَا يُؤَخَّرُ الْغَرِيمُ.
وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ كُلُّ مَطْلُوبٍ بِحَقٍّ يُؤَخَّرُ قَدْرَ مَا يَرَى حِينَ يَتْرُكَ ذَلِكَ يُؤَخَّرُ إلَى أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ وَخَمْسَةٍ، وَذَلِكَ مُخْتَلِفٌ فِي كَثْرَةِ الْمَالِ وَقِلَّتِهِ وَهُوَ عَلَى قَدْرِ اجْتِهَادِ الْحَاكِمِ فِيمَنْ نَزَلَ ذَلِكَ بِهِ، فَهَذِهِ نُصُوصٌ مِنْ قَوْلِ مَالِكٍ وَأَصْحَابِهِ فِي تَأْخِيرِ الْغَرِيمِ مِمَّا يُطْلَبُ بِهِ، وَقَدْ جَعَلُوا إلَى الْقَاضِي التَّأْخِيرَ بِالِاجْتِهَادِ فِيهِ، وَبِالتَّأْخِيرِ الْيَوْمَ وَنَحْوَهُ إذَا أَعْطَى حَمِيلًا بِالْمَالِ جَرَى الْعَمَلُ وَالْفُتْيَا وَوَقَعَ سَمَاعُ عِيسَى فِي الْحَمِيلِ بِالْمَالِ، إذَا حَلَّ أَجَلُهُ لَا يُؤَخَّرُ إلَّا بِرِضَا صَاحِبِ الْحَقِّ وَهُوَ كَالْغَرِيمِ، وَهُوَ كَلَامٌ مُحْتَمِلٌ لِلتَّأْوِيلِ، وَاَلَّذِي قَدَّمْنَاهُ هُوَ الْبَيِّنُ، اُنْظُرْ ابْنَ سَهْلٍ فِي بَابِ الْمِدْيَانِ.
وَقَالَ ابْنُ الْمُنَاصِفِ فِي تَنْبِيهِ الْحُكَّامِ: قَالَ ابْنُ الْمَاجِشُونِ: إذَا حَلَّ الدَّيْنُ فَطَلَبَ الْغُرَمَاءُ الْمِدْيَانَ فَسَأَلَ الْإِنْظَارَ وَوَعَدَ الْقَضَاءَ، أَخَّرَهُ الْإِمَامُ بِقَدْرِ مَا يَرْجُوهُ وَلَا يُعَجِّلُ عَلَيْهِ، وَأَمَّا إذَا تَفَالَسَ وَلَمْ يُعِدْ بِالْقَضَاءِ وَجُهِلَ عُدْمُهُ، فَإِنَّهُ يُحْبَسُ فِي الدُّرَيْهِمَاتِ نِصْفَ شَهْرٍ.
وَفِي الْوَسَطِ مِنْ الدَّيْنِ شَهْرَيْنِ، وَفِي الْكَثِيرِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ.
مَسْأَلَةٌ:
إذَا شَهِدَ قَوْمٌ بِالْعُدْمِ وَشَهِدَ قَوْمٌ بِالْمُلَاءِ، فَإِنْ شَهِدُوا كُلُّهُمْ عَلَى الْحَالِ وَلَمْ يَقُولُوا لَا نَعْلَمُ مَا لَا أَخْفَاهُ، فَقِيلَ: يَقْضِي بِأَعْدَلِهِمَا، فَإِنْ تَكَافَأَتَا سَقَطَتَا وَبَقِيَ مَسْجُونًا، وَقِيلَ: بَلْ يُخْرَجُ حَتَّى يُكْشَفَ عَنْهُ وَعَنْ حَالِهِ فِي السِّرِّ فَيُعْمَلُ عَلَى ذَلِكَ، وَقِيلَ: إنَّ بَيِّنَةَ الْمُلَاءِ أَعْمَلُ وَإِنْ كَانَتْ الْأُخْرَى أَعْدَلُ، وَلَوْ قَالَتْ بَيِّنَةُ الْمُلَاءِ لَا نَعْلَمُ لَهُ مَالًا أَخْفَاهُ لَمَا صَحَّ أَنْ يَخْتَلِفَ فِي أَنَّهَا أَعْمَلُ.
الْقِسْمُ الثَّالِثُ: حَبْسُ تَلَوُّمٍ وَاخْتِبَارٍ وَذَلِكَ فِي حَقِّ الْمَجْهُولِ الْحَالِ، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ الْغَرِيمُ ظَاهِرَ الْإِقْلَالِ سَجَنَهُ الْحَاكِمُ لِأَنَّ الْغَالِبَ الْمُلَاءُ حَتَّى يَثْبُتَ عُدْمُهُ إلَّا مِنْ قَوْلِهِ وَلَمْ يَكُنْ ظَاهِرُ الْعُدْمِ فَإِنَّهُ يُسْجَنُ حَتَّى يَتَبَيَّنَ حَالُهُ.
وَفِي الْمُتَيْطِيَّةِ قَالَ مَالِكٌ فِي الْمُدَوَّنَةِ: لَا يُحْبَسُ الْحُرُّ وَلَا الْعَبْدُ فِي الدَّيْنِ إلَّا بِقَدْرِ مَا يُسْتَبْرَأُ أَمْرُهُ، فَإِنْ اُتُّهِمَ أَنَّهُ خَبَّأَ مَالًا وَإِلَّا خُلِّيَ سَبِيلُهُ.
مَسْأَلَةٌ:
فَإِنْ طَلَبَ أَنْ يُعْطِيَ حَمِيلًا بِوَجْهٍ حَتَّى يُثْبِتَ عُدْمَهُ، أَوْ كَانَ فِي السِّجْنِ وَطَلَبَ الْخُرُوجَ بِحَمِيلٍ لِيُثْبِتَ عُدْمَهُ فَعَمَلُ قُضَاةِ الْعَصْرِ عَلَى تَمْكِينِهِ مِنْ ذَلِكَ، اُنْظُرْ ابْنَ رَاشِدٍ.
وَفِي التَّبْصِرَةِ: إذَا حُبِسَ الْغَرِيمُ فِي دَيْنٍ حَتَّى يَتَبَيَّنَ حَالُهُ وَثَبَتَ فَقْرُهُ، ثُمَّ أَتَى بِحَمِيلٍ لِيَسْعَى فِي مَنَافِعِهِ كَانَ لَهُ ذَلِكَ عِنْدَ ابْنِ الْقَاسِمِ وَلَمْ يُحْبَسْ، وَمَنَعَهُ سَحْنُونٌ، وَالْأَوَّلُ أَحْسَنُ إلَّا أَنْ يَكُونَ مَعْرُوفًا بِاللَّدَدِ، فَلَا يُقْبَلُ مِنْهُ حَمِيلٌ وَالسِّجْنُ أَقْرَبُ لِاسْتِخْرَاجِ الْحَقِّ مِنْ أَمْثَالِهِ، وَوَجْهُ قَوْلِ سَحْنُونٍ أَنَّهُ إذَا ثَبَتَ عُدْمُهُ لَمْ يَكُنْ بُدٌّ مِنْ يَمِينِهِ مَا أَخْفَى شَيْئًا، فَإِذَا أَعْطَى حَمِيلًا وَتَغَيَّبَ لَمْ يَكُنْ لِلْغَرِيمِ أَنْ يَحْلِفَ عَنْهُ.
فرع:
إذَا قَبِلَ مِنْهُ الْحَمِيلُ لِيُثْبِتَ عُدْمَهُ فَغَابَ الْغَرِيمُ وَأَثْبَتَ الْحَمِيلُ عُدْمَ الْغَرِيمِ، فَقَالَ ابْنُ رُشْدٍ: يَغْرَمُ الْحَمِيلُ وَإِنْ تَبَيَّنَ عُدْمُهُ لِأَجْلِ الْيَمِينِ اللَّازِمَةِ لَهُ، قَالَ اللَّخْمِيُّ: إذَا ثَبَتَ عُدْمُهُ بَرِئَ مِنْ الْحَمَالَةِ، لِأَنَّ الْيَمِينَ بَعْدَ ثُبُوتِ الْفَقْرِ أَنَّهُ لَمْ يَكْتُمْ شَيْئًا اسْتِحْسَانٌ وَاسْتِظْهَارٌ إلَّا أَنْ يَظُنَّ أَنَّهُ مِمَّنْ يَكْتُمُ.
مَسْأَلَةٌ:
نَقَلَ ابْنُ رَاشِدٍ عَنْ اللَّخْمِيِّ أَنَّهُ قَالَ: قَدْ تَنْزِلُ أَشْيَاءُ لَا تُقْبَلُ فِيهَا الشَّهَادَةُ بِالْعُدْمِ وَدَعْوَى الْعَجْزِ وَإِنْ كَانَ الْمَطْلُوبُ فَقِيرًا.
مِنْهَا: أَنْ يَكُونَ مِمَّنْ يُطْلَبُ بِدَيْنٍ مُنَاجَمَةً فَيَقْضِي بَعْضَ تِلْكَ النُّجُومِ ثُمَّ يَدَّعِي الْعَجْزَ بَعْدَ قَضَاءِ الْبَعْضِ وَيَأْتِي بِمَنْ يَشْهَدُ بِفَقْرِهِ، وَحَالُهُ يَتَغَيَّرُ عَمَّا كَانَ عَلَيْهِ يَوْمَ الْأَدَاءِ فَلَا تُسْمَعُ بَيِّنَتُهُ.
وَمِنْهَا: الرَّجُلُ يُنْفِقُ عَلَى وَلَدِهِ وَأُمِّهِ فِي الْعِصْمَةِ ثُمَّ يُفَارِقُهَا يَدَّعِي الْعَجْزَ عَنْ نَفَقَةِ وَلَدِهِ، فَلَا تُسْمَعُ بَيِّنَتُهُ بِالْفَقْرِ وَلَا بِالْعَجْزِ، لِأَنَّهُ بِالْأَمْسِ قَبْلَ الطَّلَاقِ كَانَ يُنْفِقُ عَلَيْهِ، فَهُوَ الْيَوْمَ أَقْدَرُ لِزَوَالِ نَفَقَةِ الزَّوْجَةِ عَنْهُ إلَّا أَنْ تَشْهَدَ الْبَيِّنَةُ أَنَّهُ نَزَلَ بِهِ مَا نَقَلَهُ عَنْ حَالِهِ الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ وَتَغَيَّرَ حَالُهُ.
مَسْأَلَةٌ:
إذَا كَانَ الدَّيْنُ عَنْ غَيْرِ عِوَضٍ مَالِيٍّ كَالْإِتْلَافِ وَالضَّمَانِ وَالْمَهْرِ وَالْحَمَالَةِ، وَمِثْلُ ذَلِكَ نَفَقَةُ الْقَرَابَةِ فَادَّعَى الْغَرِيمُ الْإِعْسَارَ وَأَنْكَرَ الْمُدَّعِي ذَلِكَ وَلَا يُعْلَمُ حَالُهُ وَلَيْسَ لَهُ مَالٌ ظَاهِرٌ فَقِيلَ: يُسْجَنُ، وَقِيلَ: لَا يُسْجَنُ، وَإِنَّمَا يَكْشِفُ الْإِمَامُ عَنْ حَالِهِ، فَإِنْ وَجَدَ لَهُ مَالًا وَإِلَّا سَرَّحَهُ، لِأَنَّهُ لَيْسَ هُنَالِكَ، أَصْلٌ يُسْتَصْحَبُ، يَعْنِي لِأَنَّهُ لَمْ يَتَقَدَّمْ لِهَذَا الدَّيْنِ عِوَضٌ مِنْ بَيْعٍ أَوْ سَلَفٍ فَيُحْمَلُ الْأَمْرُ عَلَى نَفْيِ الْعِوَضِ بِيَدِهِ.
قَالَ ابْنُ رُشْدٍ وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ يُحْبَسُ فِي الْجَمِيعِ.
مَسْأَلَةٌ:
وَفِي الْمَعُونَةِ لِلْقَاضِي عَبْدِ الْوَهَّابِ: إذَا كَانَ لِرَجُلٍ عَلَى رَجُلٍ حَقٌّ بِبَيِّنَةٍ فَطَالَبَهُ الْمُدَّعِي، كَانَ لِلْمُدَّعَى عَلَيْهِ أَنْ يَمْنَعَهُ حَتَّى يُحْضِرَ الْوَثِيقَةَ وَتَسْقُطَ شَهَادَةُ الشُّهُودِ مِنْهَا.
وَفِي أَحْكَامِ ابْنِ سَهْلٍ فِي بَابِ النِّكَاحِ قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ: مَنْ قَضَى دَيْنًا عَلَيْهِ بِصَكٍّ وَأَرَادَ أَخْذَ الصَّكِّ وَأَبَى الطَّالِبُ لَمْ يُجْبَرْ عَلَى إعْطَائِهِ، وَأُجْبِرَ عَلَى أَنْ يَكْتُبَ لَهُ بَرَاءَةً كِتَابًا فِي الْوَضْعِ الَّذِي فِيهِ الشُّهُودُ عَلَيْهِ أَوْ غَيْرِهِ، وَبِهَذَا تَمَّ الْكَلَامُ عَلَى الْقِسْمِ الثَّالِثِ.
الرَّابِعُ: حَبْسُ الْمُمْتَنِعِ مِنْ أَدَاءِ الْحَقِّ، وَحَبْسُ مَنْ أَشْكَلَ أَمْرُهُ فِي الْعُسْرِ وَالْيُسْرِ.
الْخَامِسُ: حَبْسُ الْجَانِي تَعْزِيرًا وَقَدْ تَقَدَّمَتْ أَمْثِلَتُهُ مُسْتَوْفَاةً فِي بَابِ التَّعْزِيرِ.
السَّادِسُ: حَبْسُ مَنْ امْتَنَعَ مِنْ التَّصَرُّفِ الْوَاجِبِ الَّذِي تَدْخُلُهُ النِّيَابَةُ، وَقَدْ ذَكَرَ الْقَرَافِيُّ مَسْأَلَةَ مَنْ أَسْلَمَ عَلَى أُمٍّ وَابْنَتِهَا وَمَنْ أَسْلَمَ عَلَى عَشْرٍ.
مَسْأَلَةٌ:
وَفِي الطُّرَرِ إذَا نَفَى الرَّجُلُ وَلَدَهُ وَادَّعَى الرُّؤْيَةَ يُسْجَنُ حَتَّى يُلَاعِنَ.
مَسْأَلَةٌ:
وَمِنْ ذَلِكَ إذَا ادَّعَتْ الْمَرْأَةُ عَلَى زَوْجِهَا أَنَّهُ طَلَّقَهَا فَأَنْكَرَ، فَأَقَامَتْ شَاهِدًا فَطُولِبَ بِالْيَمِينِ فَامْتَنَعَ أَنْ يَحْلِفَ، فَرُوِيَ عَنْ مَالِكٍ: أَنَّهُ يُسْجَنُ، فَإِنْ طَالَ تُرِكَ وَالطُّولُ فِي ذَلِكَ سَنَةٌ، وَقِيلَ: يُسْجَنُ: أَبَدًا حَتَّى يَحْلِفَ.
فرع:
وَمِنْ ذَلِكَ عُقُوقُ الْأَبَوَيْنِ، فَإِنَّهُ امْتِنَاعٌ مِنْ التَّصَرُّفِ الْوَاجِبِ الَّذِي لَا يَقْبَلُ النِّيَابَةَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ مَسْأَلَةُ مَنْ اشْتَكَى بِعُقُوقِ وَلَدِهِ فَحُبِسَ ذَكَرَهَا ابْنُ سَهْلٍ فِي الْأَحْكَامِ.
السَّابِعُ: حَبْسُ مَنْ أَقَرَّ بِمَجْهُولٍ وَقَدْ تَقَدَّمَ تَمْثِيلُهُ.
فرع:
وَمِنْ ذَلِكَ لَوْ قَالَ: لَهُ فِي هَذَا الدَّارِ حَقٌّ وَهِيَ بِيَدِهِ، جُبِرَ عَلَى تَفْسِيرِهِ وَيَحْلِفُ عَلَيْهِ إنْ ادَّعَى الطَّالِبُ أَكْثَرَ، فَإِنْ أَبَى سُجِنَ، فَلَوْ فَسَّرَهُ بِجِذْعٍ وَبَابٍ مُرَكَّبٍ، فَقَالَ سَحْنُونٌ: يُصَدَّقُ، ثُمَّ رَجَعَ فَقَالَ: لَا يُصَدَّقُ، وَلَوْ قَالَ: هُوَ هَذَا الْبِنَاءُ فِي الدَّارِ فَفِي تَصْدِيقِهِ قَوْلَانِ، وَلَوْ قَالَ: هُوَ هَذَا الثَّوْبُ أَوْ هَذَا الطَّعَامُ، فَرَجَعَ سَحْنُونٌ إلَى أَنَّهُ لَا يُصَدَّقُ، وَلَوْ فَسَّرَهُ بِسُكْنَى شَهْرٍ أَوْ قَالَ لَهُ فِي هَذَا الْبُسْتَانِ حَقٌّ فَفَسَّرَهُ بِثَمَرَةِ نَخْلِهِ، أَوْ لَهُ فِي هَذِهِ الْأَرْضِ فَفَسَّرَ بِأَنَّهُ زَرَعَهَا لَهُ سَنَةً، لَمْ يُصَدَّقْ فِي قَوْلِ سَحْنُونٍ الْأَخِيرِ فِي الْجَمِيعِ.
فرع:
وَأَمَّا لَوْ قَالَ حَقٌّ مِنْ هَذِهِ الدَّارِ أَوْ مِنْ هَذَا الثَّوْبِ، لَمْ يُقْبَلُ مِنْهُ حَتَّى يُقِرَّ بِشَيْءٍ مِنْ رَقَبَةِ الدَّارِ أَوْ الثَّوْبِ، وَمَسَائِلُ هَذَا الْبَابِ مَذْكُورَةٌ فِي بَابِ الْإِقْرَارِ.
الثَّامِنُ: حَبْسُ الْمُمْتَنِعِ مِنْ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى الَّذِي لَا تَدْخُلُهُ النِّيَابَةُ كَالصِّيَامِ وَالصَّلَاةِ وَمِنْ ذَلِكَ الْمُرْتَدُّ يُحْبَسُ فِي أَيَّامِ اسْتِتَابَتِهِ، وَأَيُّ مَوْضِعٍ حُبِسَ فِيهِ مَعَ النَّاسِ أَوْ وَحْدَهُ أَجْزَأَ وَيُسْتَوْثَقُ مِنْهُ كُرْهًا، قَالَ ابْنُ رَاشِدٍ: وَمِنْ ذَلِكَ الْمُمْتَنِعُ مِنْ أَدَاءِ الزَّكَاةِ فَإِنَّهَا تُؤْخَذُ مِنْهُ كُرْهًا، قَالَ ابْنُ رَاشِدٍ: إذَا ظَهَرَ عَلَى مَانِعِي الزَّكَاةِ أَخَذُوا بِزَكَاةِ مَا يَظْهَرُ لَهُمْ مِنْ مَالٍ، وَأَمَّا مَا يَخْفَى فَإِنْ عَلِمَ الْإِمَامُ بِهِ وَعَلِمَ أَنَّ صَاحِبَهُ مِمَّنْ لَا يُؤَدِّي الزَّكَاةَ أَخَذَهَا مِنْهُ، وَإِنْ أَظْهَرَ الْفَقْرَ وَاطَّلَعَ مِنْهُ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ وَلَمْ يَعْلَمْ مِقْدَارَ الْوَاجِبِ عَلَيْهِ، أَوْ لَمْ يُوجَدْ مَالُهُ عَاقَبَهُ أَوْ حَبَسَهُ حَتَّى يُؤَدِّيَ مَا عَلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ، فَإِنْ أَشْكَلَ أَمْرُهُ لَمْ يُؤْخَذْ مِنْهُ شَيْءٌ، حَكَاهُ ابْنُ بَشِيرٍ، وَفِي تَخْلِيفِهِ قَوْلَانِ وَهُمَا عَلَى الْخِلَافِ فِي أَيْمَانِ التُّهَمِ.
التَّاسِعُ: حَبْسُ الْمُتَدَاعَى فِيهِ وَذَلِكَ إذَا ادَّعَى رَجُلَانِ نِكَاحَ امْرَأَةٍ فَإِنَّهَا تُوقَفُ عَلَى النِّكَاحِ، وَيُضْرَبُ لِلْمُتَدَاعَيَيْنِ أَجَلٌ حَتَّى يَتَبَيَّنَ وَجْهُ الْحَقِّ فِي ذَلِكَ، وَتَكُونُ الْمَرْأَةُ عِنْدَ امْرَأَةٍ صَالِحَةٍ إنْ أَمْكَنَ وَإِلَّا فَالْحَبْسُ، اُنْظُرْ بَسْطَهَا فِي أَحْكَامِ ابْنِ سَهْلٍ فِي كِتَابِ النِّكَاحِ.
وَفِي الْجُزْءِ الثَّانِي مِنْ ابْنِ سَهْلٍ فِي رَجُلَيْنِ تَدَاعَيَا مَمْلُوكًا وَتَعَلَّقَا بِهِ كُلٌّ يَدَّعِي بِأَنَّهُ مَمْلُوكَهُ، فَاَلَّذِي يَجِبُ أَنْ يُوقَفَ فِي الْحَبْسِ، أَوْ عِنْدَ مَنْ يُوثَقُ بِهِ حَتَّى يُثْبِتَهُ أَحَدُهُمَا.
الْعَاشِرُ: مَنْ يُحْبَسُ اخْتِيَارًا لِمَا نُسِبَ إلَيْهِ مِنْ الْفَسَادِ.

.فَصْلٌ فِي قَدْرُ مُدَّةِ الْحَبْسِ:

فَصْلٌ: وَأَمَّا قَدْرُ مُدَّةِ الْحَبْسِ فَيَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ أَسْبَابِهِ وَمُوجِبَاتِهِ، فَحَبْسُ التَّعْزِيرِ رَاجِعٌ إلَى اجْتِهَادِ الْحَاكِمِ بِقَدْرِ مَا يَرَى أَنَّهُ يَنْزَجِرُ بِهِ وَفِي مُخْتَصَرِ الْأَحْكَامِ السُّلْطَانِيَّةِ وَالْحَبْسُ فِي التَّعْزِيرِ قَدْ يَكُونُ يَوْمًا، وَمِنْهُمْ مَنْ يَحْبِسُ أَكْثَرَ بِلَا تَقْدِيرٍ.
وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الزُّبَيْرِيُّ: مِنْ الشَّافِعِيَّةِ يَتَقَدَّرُ بِشَهْرٍ لِلِاسْتِبْرَاءِ وَالْكَشْفِ، وَبِسِتَّةِ أَشْهُرٍ لِلتَّأْدِيبِ وَالتَّقْوِيمِ، وَمِنْ دُونِهِمْ بِالنَّفْيِ وَالْإِبْعَادِ إذَا تَعَدَّدَتْ ذُنُوبُهُمْ إلَى اجْتِذَابِ غَيْرِهِمْ لَهَا، وَلَا تَبْلُغُ بِنَفْيِهِمْ حَوْلًا حَذَرًا مِنْ مُسَاوَاةِ تَغْرِيبِ الزَّانِي، فَيُعْتَبَرُ كَوْنُهُ أَنْقَصَ وَلَوْ بِيَوْمٍ.
وَمُقْتَضَى مَذْهَبِنَا أَنَّهُ مَوْكُولٌ إلَى اجْتِهَادِ الْحَاكِمِ، وَحَبْسُ الْمُدْمَى لِلْمُتَّهَمِ بِالْقَتْلِ وَبِالضَّرْبِ الْمَخُوفِ مِنْهُ الْمَوْتُ أَوْ الْجِرَاحِ الْمَخُوفَةِ، فَإِنَّهُ يُحْبَسُ شَهْرًا وَنَحْوَهُ، فَإِنْ قَوِيَتْ التُّهْمَةُ بِسَبَبٍ أَوْ لَطْخٍ زِيدَ فِي حَبْسِهِ، وَإِنْ لَمْ تَقُمْ عَلَيْهِ بَيِّنَةٌ وَتَمَادَى عَلَى حَالَةٍ وَاحِدَةٍ أُطْلِقَ بَعْدَ الشَّهْرِ، وَحُبِسَ الْقَاتِلُ عَمْدًا إذَا عُفِيَ عَنْهُ الدِّيَةُ سَنَةً، وَكَذَلِكَ لَوْ قَتَلَ عَبْدًا مُسْلِمًا عَمْدًا، وَأَدَّى قِيمَتَهُ ضُرِبَ مِائَةً وَحُبِسَ سَنَةً، وَحَبْسُ الْقَاتِلِ خَطَأً فِيهِ قَوْلَانِ.
وَفِي الْمُتَيْطِيَّةِ: وَبِحَبْسِهِ قَالَ سَحْنُونٌ: وَسَبَبُهُ التُّهْمَةُ فَقَدْ يَكُونُ تَعَمَّدَ ذَلِكَ، لِأَنَّهُ قِيلَ لِسَحْنُونٍ: حَدِيثُ مُعَاذٍ لَمْ يُذْكَرْ فِيهِ سِجْنٌ فَمِنْ أَيْنَ أُخِذَ السِّجْنُ؟ قَالَ مُعَاذٌ رَحِمَهُ اللَّهُ لَمْ يُتَّهَمْ.
وَذَكَرَ هَذَا عَنْ سَحْنُونٍ أَيْضًا ابْنُ أَبِي زَمَنِينَ فِي الْمُقَرَّبِ، وَحَبْسُ مَنْ اُدُّعِيَ عَلَيْهِ بِحَدٍّ مِنْ الْحُدُودِ وَقَامَ عَلَيْهِ شَاهِدٌ وَاحِدٌ مِقْدَارُ مَا يَرَى الْحَاكِمُ فِي ذَلِكَ مِنْ تَأْجِيلِ الْمُدَّعِي لِتَكْمِيلِ النِّصَابِ.
وَكَذَلِكَ إنْ قَامَ عَلَيْهِ، شَاهِدَانِ وَبَقِيَ النَّظَرُ فِي عَدَالَتِهِمَا، فَإِنَّهُ يُحْبَسُ بِقَدْرِ مَا يَجْتَهِدُ الْحَاكِمُ لِلْمُدَّعِي فِي تَأْجِيلِهِ، وَحَبْسُ السَّارِقِ قَدْرُ مَا يَكْشِفُ عَنْ الْبَيِّنَةِ، وَكَذَلِكَ حَبْسُ الْمُتَّهَمِينَ بِالْجِنَايَاتِ بِقَدْرِ مَا يُكْشَفُ عَنْ حَالِهِمْ، وَبِقَدْرِ مَا نُسِبَ إلَيْهِمْ مِنْ الْجُرْأَةِ وَالشَّرِّ وَاسْتِحْلَالِ مَا لَا يَجُوزُ، وَحَبْسُ الزَّوْجِ إذَا قَامَ عَلَيْهِ شَاهِدٌ وَاحِدٌ بِطَلَاقِ زَوْجَتِهِ وَامْتَنَعَ مِنْ الْيَمِينِ وَحَبْسُ الْمِدْيَانِ تَقَدَّمَ تَقْدِيرُ مُدَّتِهِمَا.

.الْفَصْلُ الثَّانِيَ عَشَرَ فِي الضَّمِينِ:

وَمِنْ السِّيَاسَةِ الشَّرْعِيَّةِ: الْقَضَاءُ بِتَضْمِينِ الصُّنَّاعِ وَشِبْهِهِمْ، وَالصُّنَّاعُ ضَامِنُونَ لِمَا اسْتَصْنَعُوا فِيهِ إذَا نَصَبُوا أَنْفُسَهُمْ لِذَلِكَ، سَوَاءٌ عَمِلُوا ذَلِكَ بِأَجْرٍ أَوْ بِغَيْرِ أَجْرٍ، إذَا عَمِلُوا فِي حَوَانِيتِهِمْ أَوْ دُورِهِمْ هَذَا إنْ عَمِلُوا ذَلِكَ فِي غَيْبَةِ رَبِّ الْمَتَاعِ وَاخْتُلِفَ إذَا عَمِلُوا مَعَ حُضُورِهِ.
فرع:
وَمَنْ أَعْطَى الصَّانِعَ أَوْ صَاحِبَ رَحَى شَيْئًا، وَقَالَ: لَا تَعْمَلُهُ حَتَّى أَحْضُرَ، فَتَلِفَ فَالضَّمَانُ عَلَى الصَّانِعِ وَإِنْ لَمْ تَقُمْ لَهُ بِتَلَفِهِ بَيِّنَةٌ.
فرع:
وَلَا ضَمَانَ عَلَى مَنْ لَمْ يَنْصِبَ نَفْسَهُ مِنْ الصُّنَّاعِ.
مَسْأَلَةٌ:
وَإِذَا اشْتَرَطَ الصَّانِعُ أَنْ لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ لَمْ يَنْفَعْهُ شَرْطُهُ عِنْدَ ابْنِ الْقَاسِمِ.
مَسْأَلَةٌ:
إذَا قَامَتْ الْبَيِّنَةُ عَلَى ضَيَاعِ الثَّوْبِ بَعْدَ كَمَالِ الْعَمَلِ فِيهِ، سَقَطَ الضَّمَانُ عَنْ الصَّانِعِ وَلَا أَجْرَ لَهُ قَالَهُ ابْنُ الْقَاسِمِ.
مَسْأَلَةٌ:
وَلَا يَنْفَعُ الصَّانِعَ إذَا احْتَرَقَ حَانُوتُهُ أَوْ سُوقُهُ أَوْ سُرِقَ مَنْزِلُهُ دَعْوَاهُ، أَنَّ الشَّيْءَ الْمَصْنُوعَ كَانَ فِيهِ إلَّا أَنْ يَقُومَ لَهُ بَيِّنَةٌ عَلَى ذَلِكَ قَالَهُ ابْنُ الْقَاسِمِ فِي الْمُدَوَّنَةِ وَوَقَعَ لِابْنِ أَيْمَنَ غَيْرُ هَذَا.
مَسْأَلَةٌ:
وَإِذَا رَدَّ الصَّانِعُ الثَّوْبَ وَفِيهِ قَرْضُ فَأْرٍ فَإِنْ كَانَ يَسِيرًا ضَمِنَهُ إلَّا أَنْ تَقْطَعَ الْبَيِّنَةُ أَنَّهُ قَرْضُ فَأْرٍ وَأَنَّهُ لَمْ يُفَرِّطْ، وَقَالَ ابْنُ حَبِيبٍ إذَا ثَبَتَ أَنَّهُ قَرْضٌ سَقَطَ عَنْهُ الضَّمَانُ.
مَسْأَلَةٌ:
وَإِذَا قَطَعَ الْخَيَّاطُ الثَّوْبَ بِمَحْضَرِ رَبِّهِ وَقَبَضَهُ لِيَخِيطَهُ فَادَّعَى ضَيَاعَهُ، فَقِيلَ: يَضْمَنُهُ صَحِيحًا، وَقِيلَ: مَقْطُوعًا، قَالَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ: وَهُوَ أَحْسَنُ.
مَسْأَلَةٌ:
وَإِذَا دَعَا الصَّانِعُ رَبَّ الثَّوْبِ إلَى أَخْذِهِ وَأَخْبَرَهُ أَنَّهُ قَدْ كَمُلَ، فَلَا يُسْقِطُ عَنْهُ ذَلِكَ ضَمَانَهُ إلَّا أَنْ يُحْضِرَهُ لِرَبِّهِ كَانَ الْعَمَلُ فِي بَيْتِهِ أَوْ فِي حَانُوتِهِ.
فرع:
وَفِي مُخْتَصَرِ الْوَاضِحَةِ: وَلَوْ دَفَعَ الرَّجُلُ لِلصَّانِعِ أُجْرَتَهُ، وَقَامَ الصَّانِعُ لِيُخْرِجَ إلَيْهِ ثَوْبَهُ فَقَالَ لَهُ رَبُّهُ: دَعْهُ السَّاعَةَ، ثُمَّ ادَّعَى الصَّانِعُ تَلَفَهُ بَعْدَ ذَلِكَ، فَقَالَ أَصْبَغُ بْنُ خَلِيلٍ: لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ، وَوَجْهُهُ أَنَّهُ لَمَّا قَالَ لَهُ دَعْهُ فَكَأَنَّهُ صَدَّقَهُ أَنَّهُ فِي الْحَانُوتِ وَتَرَكَهُ عِنْدَهُ وَدِيعَةً.
مَسْأَلَةٌ:
وَفِي الْمَذْهَبِ إذَا أَفْسَدَ الْخَيَّاطُ الْقَمِيصَ فِي قَطْعِهِ فَسَادًا يَسِيرًا، فَعَلَيْهِ قِيمَةُ مَا أَفْسَدَ، قَالَ ابْنُ الْمَوَّازِ: بَعْدَ رَفْوِ الثَّوْبِ، قَالَ مَالِكٌ: وَلَوْ كَانَ فَسَادًا كَثِيرًا ضَمِنَ قِيمَتَهُ كُلَّ يَوْمِ الْقَبْضِ.
فرع:
وَلَوْ جَعَلَ وُجُوهَ الثَّوْبِ الدَّاخِلَةَ. قَالَ سَحْنُونٌ: عَلَيْهِ فَتْقُهُ، فَإِنْ كَانَ يَنْقُصُهُ ذَلِكَ خُيِّرَ رَبُّهُ فِي تَضْمِينِهِ قِيمَتَهُ وَفِي فَتْقِهِ وَخِيَاطَتِهِ.
مَسْأَلَةٌ:
وَإِذَا سَأَلْت خَيَّاطًا قِيَاسَ ثَوْبٍ فَزَعَمَ أَنَّهُ يَكْفِيك فَابْتَعْته بِقَوْلِهِ: فَلَمْ يَكْفِك لَزِمَك وَلَا شَيْءَ عَلَى الْخَيَّاطِ، قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: وَكَذَلِكَ الصَّيْرَفِيُّ يَقُولُ فِي الدَّرَاهِمِ جِيَادٌ فَتُوجَدُ رَدِيئَةً، فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ وَيُعَاقَبُ هُوَ وَالْخَيَّاطُ إنْ غَرَّا، وَاخْتَلَفَ قَوْلُ مَالِكٍ إذَا غَرَّهُ بِجَهْلِهِ، فَقَالَ مَرَّةً: لَا يَضْمَنُ وَلَا أَجْرَ لَهُ، وَقَالَ مَرَّةً: يَضْمَنُ يُرِيدُ وَلَهُ الْأَجْرُ.
مَسْأَلَةٌ:
وَإِذَا جَفَّفَ الْقَصَّارُ ثَوْبًا عَلَى حَبْلٍ مَرْبُوطٍ فِي الطَّرِيقِ فَمَرَّ بِهِ حَطَّابٌ فَحَرَقَهُ ضَمِنَهُ وَلَا شَيْءَ عَلَى الْقَصَّارِ، وَقَالَ ابْنُ نَافِعٍ إنْ عَلَّقَهُ بِمَكَانٍ لَمْ يَكُنْ يُعَلَّقُ فِيهِ وَهُوَ مَعْرُوفٌ بِمُرُورِ الْحَطَبِ ضَمِنَ.
مَسْأَلَةٌ:
قَالَ ابْنُ رَاشِدٍ: كُلَّمَا كَانَ ضَيَاعُهُ عِنْدَ الصَّانِعِ بِبَيِّنَةٍ أَوْ احْتِرَاقٍ بِمُعَايَنَةِ الْبَيِّنَةِ بِغَيْرِ سَبَبِهِ لَمْ يَضْمَنْهُ قَالَهُ فِي الْمُدَوَّنَةِ.
وَقَالَ فِي الْمَوَّازِيَّةِ إذَا سُرِقَ بَيْتُهُ وَقَالَ ذَهَبَ الْمَتَاعُ فِيمَا ذَهَبَ لَمْ أُصَدِّقْ، وَكَذَلِكَ لَوْ احْتَرَقَ بَيْتُهُ وَرُئِيَ ثَوْبُهُ فِي النَّارِ يَحْتَرِقُ فَهُوَ ضَامِنٌ حَتَّى يُعْلَمَ أَنَّ النَّارَ مِنْ غَيْرِ سَبَبِهِ أَوْ يَأْخُذُهُ سَيْلٌ أَوْ يَنْهَدِمُ عَلَيْهِ الْبَيْتُ فَهَذَا وَشَبَهُهُ يَسْقُطُ عَنْهُ الضَّمَانُ.
مَسْأَلَةٌ:
وَمَا لَا صَنْعَةَ فِيهِ لِلصَّانِعِ وَهُوَ مِمَّا لَا يُسْتَغْنَى عَنْهُ كَالْكِتَابِ لِلنَّسْخِ مِنْهُ، وَمِثَالُ الَّذِي يَعْمَلُ عَلَيْهِ، وَجَفَّتْ السَّيْفُ الَّذِي يُصَاغُ عَلَى نَصْلِهِ إذَا كَانَ لَوْ سَلَّمَ إلَيْهِ بِغَيْرِ جَفْنٍ فَسَدَ، وَمِثْلُ ظَرْفِ الْقَمْحِ وَقَصْعَةِ الْعَجِينِ، فَفِي تَضْمِينِ الصَّانِعِ لَهُ قَوْلَانِ لِمُحَمَّدٍ وَسَحْنُونٍ.
مَسْأَلَةٌ:
وَإِذَا دَفَعَ الْقَصَّارُ الثَّوْبَ إلَى قَصَّارٍ آخَرَ ثُمًّ هَرَبَ وَقَدْ قَبَضَ أُجْرَتَهُ بِبَيِّنَةٍ، فَلِرَبِّهِ أَخْذُهُ بِلَا غُرْمٍ وَيَتْبَعُ الثَّانِيَ الْأَوَّلَ بِحَقِّهِ، قَالَ ابْنُ مُيَسَّرٍ: فَإِنْ لَمْ تَقُمْ لَهُ بَيِّنَةٌ حَلِفَ الثَّانِي مَا قَبَضَ وَأَخَذَ وَالْأَقَلُّ مِنْ أُجْرَتِهِ وَإِجَارَةِ الْأَوَّلِ.
مَسْأَلَةٌ:
قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ فِي الْوَاضِحَةِ إذَا أَفْسَدَ الْحَائِكُ الثَّوْبَ وَكَانَ الْغَزْلُ يُوجَدُ مِثْلُهُ وَيَنْسِجُهُ ثَانِيَةً بِالْأُجْرَةِ الْأُولَى، وَإِنْ لَمْ يُوجَدْ مِثْلُهُ يُنْسَجُ فَعَلَيْهِ قِيمَتُهُ وَانْفَسَخَتْ الْإِجَارَةُ.
وَقَالَ أَصْبَغُ: بِأَخْذِ قِيمَتِهِ وَيَأْتِيهِ بِمِثْلِهِ فَيَعْمَلُهُ لَهُ وَلَا تَنْفَسِخُ الْإِجَارَةُ.
فرع:
وَفِي مَعِينِ الْحُكَّامِ وَلَا يَضْمَنُ الْفَرَّانُ وَمُبَيِّضُ الْغَزْلِ مَا احْتَرَقَ عِنْدَهُمَا قَالَهُ مَالِكٌ، زَادَ ابْنُ حَبِيبٍ بَعْدَ أَنْ يَأْتِيَ بِهِ مَحْرُوقًا يَعْرِفُ مَا لَمْ يَغُرَّ أَوْ يُفَرِّطَ وَأَمَّا مَا سُرِقَ مِنْهُمَا فَيَضْمَنَاهُ.
فرع:
وَاخْتُلِفَ، فِيمَا يَضْمَنُ الطَّحَّانُ إذَا ادَّعَى ضَيَاعَ الْقَمْحِ فَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ دَقِيقًا عَلَى مَا عُرِفَ مِنْ الرَّفِيعِ.
وَقَالَ مَالِكٌ وَابْنُ الْمَوَّازِ قَمْحًا يُرِيدَانِ لَمْ يَطْحَنْهُ بَعْدَ ذَلِكَ.
فرع:
إذَا أَمَرَ رَبُّ الثَّوْبِ الْقَصَّارَ أَنْ يَدْفَعَهُ بَعْدَ كَمَالِ عَمَلِهِ لِلْكَمَّادِ فَادَّعَى ذَلِكَ وَأَكْذَبَهُ الْكَمَّادُ أَوْ ادَّعَى الْكَمَّادُ الضَّيَاعَ فَقَالَ أَصْبَغُ لَا يُقْبَلُ قَوْلُ الْقَصَّارِ، وَقَالَ ابْنُ الْمَاجِشُونِ الْقَوْلُ قَوْلُهُ.
فرع:
إذَا كَانَ حَارِسُ الثِّيَابِ يَأْخُذُ عَلَى ذَلِكَ يَعْلَمُ مِمَّنْ يَدْخُلُ الْحَمَّامَ فَقَوْلُ مَالِكٍ أَنَّهُ لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ، قَالَ ابْنُ لُبَابَةَ وَمَا سِوَاهُ خَطَأٌ.
وَقَالَ ابْنُ حَبِيبٍ أَنَّهُ ضَامِنٌ كَالرَّاعِي الْمُشْتَرَكِ.
تنبيه:
قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: مُنِعَ حَمْلُ الْمُتَأَخِّرِينَ، قَوْلَ مَالِكٍ أَنَّ أَصْحَابَ الْحَمَّامَاتِ ضَامِنُونَ ثِيَابَ النَّاسِ إلَّا أَنْ يَأْتُوا بِمَنْ يَحْرُسُهَا، إنَّمَا ذَلِكَ إذَا أَهْمَلُوهَا وَلَمْ يَجْعَلُوا مَنْ يَحْرُسُهَا، إذْ لَا يُقْطَعُ مَنْ سَرَقَهَا إلَّا أَنْ يَحْتَالَ عَلَى سَرِقَتِهَا مِنْ خَارِجِ الْحَمَّامِ مَنْ لَمْ يَدْخُلْهُ، فَإِنْ أَتَى بِمَنْ يَحْرُسُهَا سَقَطَ عَنْهُ الضَّمَانُ.
مَسْأَلَةٌ:
وَفِي الْعُتْبِيَّةِ لِابْنِ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ: قَدْ أَمَرْت صَاحِبَ السُّوقِ أَنْ يَضْمَنَ صَاحِبُ الْحَمَّامِ ثِيَابَ النَّاسِ.
وَفِي مَوْضِعٍ آخَرَ مِنْ الْعُتْبِيَّةِ لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ. قَالَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ أَمْرُ الْحِفْظِ عَلَى وَجْهَيْنِ: وَجْهٌ لَهُ تَعَلُّقٌ بِالْعَمَلِ كَالْحَمَّامِ فَإِنَّهُ يَضْمَنُ مَا تُسْرِعُ الْأَيْدِي إلَيْهِ، وَكَصَاحِبِ الْحَمَّامِ وَهُوَ الْمَالِكُ لِأَمْرِهِ، وَالْمُسْتَعْمِلُ لَهُ يَضْمَنُ مَا جَرَتْ الْعَادَةُ بِخِيَاطَتِهِ لَهُ وَهِيَ ثِيَابُ النَّاسِ، وَمَغِيبُهُ عَنْهَا إلَى دَاخِلِ الْحَمَّامِ يُوجِبُ تَضْمِينَهُ، وَأَمَّا الْحَافِظُ الَّذِي لَا تَعَلُّقَ لَهُ بِالْعَمَلِ فَمَشْهُورُ الْمَذْهَبِ لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ فِي النَّوْمِ وَالْغَفْلَةِ إلَّا فِي التَّعَدِّي.
مَسْأَلَةٌ:
وَفِي الطُّرَرِ وَفِي الْمَذْهَبِ قَالَ مُحَمَّدٌ فِي حَارِسٍ اُسْتُؤْجِرَ عَلَى حِرَاسَةِ بَيْتٍ فَنَامَ فَسُرِقَ لَمْ يَضْمَنْ، وَكَذَلِكَ حَارِسُ النَّخْلِ وَلَهُ أَجْرُهُ كَامِلًا، وَكَذَلِكَ جَمِيعُ الْحُرَّاسِ وَإِنْ غَابَ عَلَيْهِ، إلَّا أَنْ تَظْهَرَ مِنْهُ الْخِيَانَةُ فَيَقْوَى الْحُكْمُ فِيهِ وَيَضْمَنُ مَا هَلَكَ.
وَفِي الطُّرَرِ لِأَبِي إبْرَاهِيمَ: وَلَا يَضْمَنُ جَمِيعُ الْحُرَّاسِ إلَّا بِتَعَدٍّ كَانَ مَا يَحْرُسُونَهُ مِمَّا يُغَابُ عَلَيْهِ أَوْ لَا طَعَامًا أَوْ غَيْرَهُ، قَالَ: وَكَذَلِكَ حَارِسُ الْأَنْدَرِ لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ، إلَّا أَنْ يُلْجِئَ قَوْمًا ضَرُورَةٌ إلَى مَنْ يَخَافُ عَلَى الطَّعَامِ مِنْهُ فَيَسْتَأْجِرُوهُ لِشَيْءٍ، أَوْ لِيَدْفَعَ شَرَّ قَوْمٍ آخَرِينَ فَيَضْمَنُ، أَوْ تُعْلَمُ مِنْهُ الْخِيَانَةُ فَيَضْمَنُ، وَقَالَهُ اللَّخْمِيُّ فِي التَّبْصِرَةِ.

.فَصْلٌ فِي الصِّنَاعَاتِ الَّتِي لَا يَضْمَنُ صُنَّاعُهَا مَا أَتَى عَلَى مَا فِي أَيْدِيهِمْ فِيهَا:

وَفِي مُخْتَصَرِ الْوَاضِحَةِ قَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ: وَمِنْ الصِّنَاعَاتِ الَّتِي لَا يَضْمَنُ صَانِعُهَا مَا أَتَى عَلَى يَدَيْهِ، مِثْلَ: سَيْفٌ يَكُونُ فِيهِ عِوَجٌ فَيُعْطَى مَالِكُهُ الصَّقِيلَ لِيُقَوِّمَهُ أَوْ لِيَصْقِلَهُ فَيُكْسَرُ، وَاللُّؤْلُؤَةُ يَثْقُبُهَا الثَّقَّابُ فَتَنْكَسِرُ، أَوْ الْفَصُّ يَنْقُشُهُ النَّقَّاشُ فَيَنْكَسِرُ، أَوْ الدَّابَّةُ فَيَصْنَعُهَا الْبَيْطَارُ فَتَنْكَسِرُ، أَوْ الْخُبْزُ يُدْخِلُهُ الْفَرَّانُ الْفُرْنَ فَيَحْتَرِقُ، وَلَمْ يُعَنِّفْ فِي إيقَادِ النَّارِ وَلَمْ يُفَرِّطْ، وَكَذَلِكَ الْقَوْسُ يَنْقُبُهَا النَّجَّارُ، أَوْ الثَّوْبُ يَحْمِيهِ الصَّبَّاغُ عَلَى النَّارِ بِصِبْغَةٍ فَيَحْتَرِقُ فِي قِدْرِهِ، أَوْ الْخَتَّانُ يَخْتِنُ الصَّبِيَّ فَيَمُوتُ مِنْ خِتَانِهِ، أَوْ الطَّبِيبُ يَسْقِي الْمَرِيضَ مِنْ سَقْيِهِ، أَوْ يَكْوِيهِ فَيَمُوتُ مِنْ كيه، أَوْ يَقْطَعُ مِنْهُ شَيْئًا فَيَمُوتُ مِنْ قَطْعِهِ، أَوْ الْحَجَّامُ يُقْلِعُ الضِّرْسَ فَيَمُوتُ الْمَقْلُوعُ ضِرْسُهُ، فَلَا ضَمَانَ عَلَى وَاحِدٍ مِنْ جَمِيعِ هَؤُلَاءِ فِي جَمِيعِ هَذَا؛ لِأَنَّ هَذَا مِمَّا فِيهِ التَّغْرِيرُ عَلَى ذَلِكَ الشَّيْءِ الْمُسْتَعْمَلِ، وَكَانَ صَاحِبُهُ هُوَ الَّذِي عَرَّضَهُ لِمَا أَصَابَهُ، إلَّا أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمْ عَرَّضَ نَفْسَهُ بِجَهْلِهِ بِمَا اسْتَعْمَلَ فِيهِ، وَتَعَدَّى أَوْ أَخَذَ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ مَأْخَذِهِ فَيَضْمَنُ.
قَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ أَوْ يَكُونُ الْخَاتِنُ أَخْطَأَتْ يَدُهُ بِقَطْعٍ مِنْ الْحَشَفَةِ شَيْئًا، فَإِنْ مَاتَ الْمَخْتُونُ مِنْ ذَلِكَ فَدِيَتُهُ عَلَى عَاقِلَةِ الْخَاتِنِ، وَإِنْ عَاشَ نُظِرَ، فَإِنْ كَانَ قُطِعَا كُلُّهَا فَفِيهَا الدِّيَةُ كَامِلَةً عَلَى الْعَاقِلَةِ؛ لِأَنَّهُ يُعَدُّ خَطَأً مِنْ الْخَاتِنِ، وَإِنْ كَانَ أَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ فَبِحِسَابِهِ، وَمَا كَانَ أَقَلَّ مِنْ الثُّلُثِ فَفِي مَالِهِ، وَذَلِكَ إذَا كَانَ مَعْرُوفًا بِالْخَتْنِ وَالْإِصَابَةُ فِيهِ حَتَّى أَتَى عَلَى يَدِهِ بِغَيْرِ تَعَمُّدٍ أَوْ تَجَاوَزَتْ يَدُهُ بِغَيْرِ تَعَمُّدٍ مَا بِهِ أَمْرٌ، قَالَ وَإِنْ كَانَ الْخَاتِنُ غَيْرَ مَعْرُوفٍ بِالْخَتْنِ وَالْإِصَابَةِ فِيهِ، وَعَرَّضَ نَفْسَهُ فَهُوَ ضَامِنٌ لِجَمِيعِ مَا وَصَفْنَا فِي مَالِهِ، وَلَا تَحْمِلُ الْعَاقِلَةُ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا وَعَلَيْهِ مِنْ الْإِمَامِ الْعَدْلِ الْعُقُوبَةُ الْمُوجِعَةُ بِضَرْبِ ظَهْرِهِ وَإِطَالَةِ سِجْنِهِ، وَالطَّبِيبُ وَالْحَجَّامُ وَالْبَيْطَارُ فِيمَا أَتَى عَلَى أَيْدِيهِمْ بِسَبِيلِ مَا وَصَفْنَا فِي الْخَاتِنِ.

.فَصْلٌ: فِيمَا لَا يَضْمَنُهُ الصُّنَّاعُ مِمَّا تَبَيَّنَ أَنَّهُ مِنْ غَيْرِ فِعْلِهِمْ.

مَسْأَلَةٌ:
وَفِي مُخْتَصَرِ الْوَاضِحَةِ: وَمَا أَصَابَ الثِّيَابَ عِنْدَ الْقَصَّارِ أَوْ الصَّبَّاغِ أَوْ الْخَيَّاطِ مِنْ قَرْضِ الْفَأْرِ أَوْ لَحْسِ السُّوسِ، فَعُرِفَ ذَلِكَ وَبَيَّنَ لِلنَّاظِرِ إلَيْهِ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِمْ فِيهِ، وَإِنْ ادَّعَى صَاحِبُ الثِّيَابِ أَنَّ الصَّانِعَ أَضَاعَ الثَّوْبَ وَفَرَّطَ حَتَّى أَصَابَ ذَلِكَ وَزَعَمَ الصُّنَّاعُ أَنَّهُمْ لَمْ يُفَرِّطُوا وَلَمْ يُضَيِّعُوا فَالْقَوْلُ قَوْلُهُمْ، وَعَلَى أَصْحَابِ الثِّيَابِ الْبَيِّنَةِ أَنَّهُمْ ضَيَّعُوا، لِأَنَّ قَرْضَ الْفَأْرِ وَلَحْسَ السُّوسِ أَمْرٌ غَالِبٌ وَلَا يَلْزَمُ أَحَدًا دَعْوَى التَّعَدِّي إلَّا بِبَيِّنَةٍ تَشْهَدُ عَلَيْهِ، قَالَ فَضْلُ بْنُ الْقَاسِمِ: يَقُولُ الْقَوْلَ قَوْلَ أَصْحَابِ الثِّيَابِ، وَإِنْ أَشْكَلَ أَنَّهُ قَرْضُ فَأْرٍ فَالصَّانِعُ ضَامِنٌ حَتَّى تَقُومَ الْبَيِّنَةُ أَنَّهُ قَرْضُ فَأْرٍ أَوْ لَحْسُ سُوسٍ، وَكُلُّهُ قَوْلُ مَالِكٍ وَتَقَدَّمَ مَسْأَلَةُ الْحَطَبِ يَقْطَعُ ثَوْبَ الصَّبَّاغِ.
فرع:
وَإِذَا أَتَى الرَّجُلُ الْخَيَّاطَ بِثَوْبٍ مَلْفُوفٍ فِي مِنْدِيلٍ لِيَخِيطَهُ، فَادَّعَى ضَيَاعَ الثَّوْبِ وَالْمِنْدِيلِ فَإِنَّهُ يَضْمَنُ الثَّوْبَ وَلَا يَضْمَنُ الْمِنْدِيلَ، لِأَنَّ الْمِنْدِيلَ إنَّمَا أَتَى بِهِ وِقَايَةً لِثَوْبِهِ فَهُوَ كَالْمُسْتَوْدَعِ عِنْدَهُ. وَرَوَى أَشْهَبُ عَنْ مَالِكٍ: أَنَّ الثَّوْبَ إذَا كَانَ رَفِيعًا لَا يُسْتَغْنَى عَنْ الْمِنْدِيلِ فَإِنَّهُ يَضْمَنُهُ.

.فَصْلٌ فِي السَّمَاسِرَةِ وَالْوُكَلَاءِ وَالْمَأْمُورِينَ:

وَفِي التَّهْذِيبِ فِي آخَرِ كِتَابِ الرَّدِّ بِالْعَيْبِ قَالَ مَالِكٌ: وَمَا بَاعَ الطَّوَّافُونَ فِي الْمُزَايَدَةِ، وَمِثْلُ النَّخَّاسِينَ وَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّهُ يَبِيعُ لِلنَّاسِ فَلَا عُهْدَةَ عَلَيْهِمْ فِي عَيْبٍ وَلَا اسْتِحْقَاقٍ، وَالتِّبَاعَةُ عَلَى رَبِّهَا إنْ وُجِدَ وَإِلَّا اتَّبَعَ، وَكَذَا الَّذِينَ يَبِيعُونَ فِي الْحَوَانِيتِ لِلنَّاسِ بِالْجُعْلِ، وَاَلَّذِي يَسْتَأْجِرُ عَلَى الصِّيَاحِ، وَاَلَّذِي يَبِيعُ فِي الْمِيرَاثِ مِمَّنْ يَزِيدُ، فَمَا وُجِدَ مِنْ ذَلِكَ مَسْرُوقًا وَبِهِ عَيْبٌ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِمْ.
وَفِي رِوَايَةٍ فِي الْمُدَوَّنَةِ نَصُّهَا: قَالَ: وَاَلَّذِي يَبِيعُ فِي السُّوقِ الثِّيَابَ لِلنَّاسِ مِثْلَ الصَّاحَةِ، وَهَؤُلَاءِ النِّسَاءُ اللَّاتِي يَبِعْنَ عَلَى الدُّورِ مَا دُفِعَ إلَيْهِمْ مِنْ الثِّيَابِ وَالْحُلِيِّ وَالْجَوْهَرِ، مِثْلُ نِسَاءِ مِصْرَ اللَّاتِي تُدْفَعُ إلَيْهِمْ الْأَمْوَالُ، فَيَبِعْنَ عَلَى الدُّورِ وَفِي الْأَسْوَاقِ، فَيَسْتَحِقُّ عَلَيْهِنَّ مَا بِعْنَ عَلَى مَا تَرَى أَنْ يَرْجِعُوا بِالْأَثْمَانِ الَّتِي دَفَعُوا، قَالَ عَلَى أَرْبَابِ الْمَتَاعِ فَقُلْت لِمَالِكٍ: فَإِنْ ادَّعَوْا تَلَفَ مَا وَقَعَ إلَيْهِمْ أَيْ الْقِيمَةَ تَضْمَنُهُمْ، أَقِيمَةُ الْمَتَاعِ يَوْمَ قَبَضُوهُ، أَوْ قِيمَتَهُ يَوْمَ تَلِفَ؟ قَالَ بَلْ قِيمَتُهُ يَوْمَ قَبْضِ الْمَتَاعِ، وَبِهَذِهِ الرِّوَايَةِ قَالَ سَحْنُونٌ: قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ وَهَذَا لَا يُعْرَفُ مِنْ مَذْهَبِ مَالِكٍ وَأَصْحَابِهِ، أَعْنِي تَضْمِينَ هَؤُلَاءِ إلَّا مَا وَقَعَ لِأَصْبَغَ فِي الثَّمَانِيَةِ، أَنَّ الْعُهْدَةَ فِي رَدِّ الْعَيْبِ وَالدَّرْكِ عَلَى مُتَوَلِّي الْبَيْعِ، إلَّا أَنْ يَشْتَرِطَ عِنْدَ الْبَيْعِ اشْتِرَاطًا بَيِّنًا أَنَّهُ لَا عُهْدَةَ وَلَا تَبَاعَةَ، وَلَكِنْ عَلَى رَبِّهَا وَتَعَامَلَا عَلَى ذَلِكَ، فَحِينَئِذٍ تَسْقُطُ عَنْهُ الْعُهْدَةُ، فَكَأَنَّهُمْ عِنْدَ أَصْبَغَ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ كَالصُّنَّاعِ لَمَّا نَصَبُوا أَنْفُسَهُمْ لِذَلِكَ بِمَصْلَحَةِ الْكَافَّةِ فِي ذَلِكَ.
قَالَ: وَالْمَعْرُوفُ مِنْ قَوْلِ مَالِكٍ وَأَصْحَابِهِ فِي السَّمَاسِرَةِ وَالْمَأْمُورِينَ وَالْوُكَلَاءِ أَنَّهُمْ لَا يَضْمَنُونَ لِأَنَّهُمْ أُمَنَاءُ وَلَيْسُوا بِصُنَّاعٍ، كَانُوا بِحَوَانِيتَ أَوْ لَا، كَذَا جَاءَ فِي أُمَّهَاتِنَا وَأَجْوِبَةِ، شُيُوخِنَا.
قَالَ فِي الْمُدَوَّنَةِ فِي كِتَابِ الْجُعْلِ فِي بَابِ جُعْلِ السَّمَاسِرَةِ: فِي الرَّجُلِ يَجْعَلُ لِلْبَزَّازِ الْمَالَ يَشْتَرِي لَهُ بَزًّا، وَيَجْعَلُ لَهُ فِي كُلِّ مِائَةٍ يَشْتَرِي بِهَا ثَلَاثَةَ دَنَانِيرَ لَا بَأْسَ بِذَلِكَ.
قَالَ: فَإِنْ ضَاعَ الْمَالُ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ، وَفِي كِتَابِ الرَّوَاحِلِ وَكُلُّ شَيْءٍ دَفَعْته إلَى أَحَدٍ مِنْ النَّاسِ وَأَعْطَيْته عَلَى ذَلِكَ أَجْرًا فَهُوَ فِيهِ مُؤْتَمَنٌ إلَّا الصُّنَّاعُ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْأَسْوَاقِ.
فرع:
وَقَالَ فِي الْعُتْبِيَّةِ: فِي الَّذِي يَسْتَأْجِرُ عَلَى شِرَاءِ مَتَاعٍ فَزَعَمَ أَنَّ الثَّمَنَ ضَاعَ يَحْلِفُ، قَالَ بَعْضُهُمْ: وَيَدُلُّ أَنَّهُ لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ إسْقَاطُ مَالِكٍ وَابْنِ الْقَاسِمِ الضَّمَانَ مِنْ الْمُسْتَأْجَرِ لِلتَّجْرِ فِي الْمَالِ، فِي كِتَابِ الْجُعْلِ وَالْإِجَارَةِ.
فرع:
وَقَالَ ابْنُ الْقَابِسِيُّ فِي الرَّجُلِ يَبْعَثُهُ الرَّجُلُ يَطْلُبُ لَهُ ثِيَابًا فَيَضِيعُ مِنْهَا ثَوْبٌ، أَنَّ ضَمَانَهُ عَلَى الْآمِرِ إذَا اعْتَرَفَ بِإِرْسَالِهِ أَوْ ثَبَتَ عَلَيْهِ، وَيَحْلِفُ السِّمْسَارُ مَا فَرَّطَ وَلَا خَانَ، وَرَأَيْت لَهُ أَيْضًا فِي جَوَابٍ آخَرَ مِثْلُهُ: إذَا كَانَ مَعْرُوفًا بِالسَّمْسَرَةِ فَهُوَ أَمِينٌ لَهُمَا، قَالَ فَإِنْ ادَّعَى تَلَفَ ذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يُوَصِّلَهُ الْأَمْرَ صُدِّقَ، وَكَذَلِكَ إنْ قَالَ: أَوْصَلْت وَلَمْ يَخْتَرْهُ فَأَخَذَهُ فَذَهَبَ الْمَتَاعُ فِي رَدِّهِ فَهُوَ مُصَدَّقٌ، وَإِنْ قَالَ: تَلِفَ عِنْدَ الْآمِرِ فَالْآمِرُ ضَامِنٌ إنْ أَقَرَّ لَهُ وَإِلَّا فَالسِّمْسَارُ ضَامِنٌ.
مَسْأَلَةٌ:
وَقَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ فِي الرَّجُلِ يَدْفَعُ إلَى الصَّرَّافِ الدَّنَانِيرَ وَالْحُلِيَّ لِيَصْرِفَهَا لَهُ، أَوْ الرَّقِيقَ أَوْ الدَّوَابَّ لِلنَّخَّاسِ بِأَجْرٍ أَوْ بِغَيْرِ أَجْرٍ فَيَقُولُونَ: ذَهَبَ أَوْ سَقَطَ مِنَّا، أَوْ بِعْنَا وَسَقَطَ الثَّمَنُ، أَوْ بِعْنَا مِنْ هَذَا الرَّجُلِ وَهُوَ يَجْحَدُ، فَهُمْ ضَامِنُونَ إلَّا أَنْ يُقِيمُوا الْبَيِّنَةَ بِالْبَيْعِ وَقَبْضِ السِّلْعَةِ، إلَّا أَنْ يَكُونَ هَؤُلَاءِ الْوُكَلَاءُ مِنْ السَّمَاسِرَةِ وَالطَّوَّافِينَ الَّذِينَ عَادَتُهُمْ أَنْ لَا يَشْهَدُوا عَلَى ذَلِكَ، فَالْقَوْلُ قَوْلُهُمْ مَعَ أَيْمَانِهِمْ وَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِمْ.
وَقَالَ أَبُو عِمْرَانِ بْنُ الْمُنْتَابِ فِي دَعْوَى السِّمْسَارِ، أَنَّهُ دَفَعَ الثَّوْبَ إلَى صَاحِبِهِ وَقَدْ طَلَبَهُ لِيَعْرِضَهُ وَرَبُّ الثَّوْبِ مُنْكِرٌ، أَنَّهُ لَا ضَمَانَ عَلَى السِّمْسَارِ وَلَا شَيْءَ فِي دَعْوَى ضَيَاعِهِ وَلَا فِيمَا حَدَثَ فِيهِ فِي يَدَيْهِ مِنْ عَيْبٍ وَيَحْلِفُ إنْ اتَّهَمَ إلَّا أَنْ يَأْخُذَهُ بِبَيِّنَةٍ فَلَا يَبْرَأُ إلَّا بِهَا، قَالَ وَكَذَلِكَ الَّذِي يَقْعُدُ عَلَى بَيْعِ الثِّيَابِ لِلنَّاسِ فِي السُّوقِ.
مَسْأَلَةٌ:
لَوْ وَضَعَ الْمُنَادِي الثَّوْبَ عِنْدَ التَّاجِرِ لِيُشَاوِرَ صَاحِبَهُ فَضَاعَ ضَمِنَ قِيمَتَهُ مَا لَمْ تَقُمْ بَيِّنَةٌ، وَلَوْ أَنْكَرَ التَّاجِرُ ضَمِنَهُ السِّمْسَارُ إذَا لَمْ يَشْهَدْ.
وَفِي الطُّرَرِ: أَنْ أَلْقَى الدَّلَّالُ الثَّوْبَ عِنْدَ رَجُلٍ فَجَحَدَهُ إيَّاهُ لَمْ يَضْمَنْ وَإِنْ لَمْ يَشْهَدْ عَلَيْهِ، لِأَنَّ عُرْفَ النَّاسِ جَرَى بِغَيْرِ الْإِشْهَادِ بِذَلِكَ، فَصَارَ كَالشَّرْطِ وَهُوَ خِلَافُ مَا تَقَدَّمَ.
فرع:
وَكَذَلِكَ يَضْمَنُ إذَا نَسِيَ مَنْ أَقَرَّهُ عِنْدَهُ وَلَوْ ضَاعَ الثَّوْبُ مِنْهُ قَبْلَ النِّدَاءِ لَمْ يَضْمَنْهُ مَا لَمْ يُفَرِّطْ.
فرع:
وَلَوْ أَخَذَ السِّمْسَارُ الثَّمَنَ مِنْ التَّاجِرِ لِيَدْفَعَهُ لِلْبَائِعِ إنْ رَضِيَ بِالْبَيْعِ فَضَاعَ ضَمِنَهُ إذَا لَمْ يُؤْمَرْ بِالْبَيْعِ بَعْدُ، وَكَذَلِكَ إذَا سَأَلَهُ السِّمْسَارُ ذَلِكَ، فَإِنْ دَفَعَهُ لَهُ لِلتَّاجِرِ وَقَالَ لَهُ: خُذْهُ، فَإِنْ بَاعَ فَادْفَعْهُ لَهُ لَمْ يَضْمَنْهُ لِأَنَّهُ أَمِينُهُ قَالَهُ الْأَبْيَانِيُّ مِنْ الْمَذْهَبِ لِابْنِ رَاشِدٍ.
مَسْأَلَةٌ:
وَإِذَا اشْتَرَى رَجُلٌ مِنْ السِّمْسَارِ سِلْعَةً فَاسْتُحِقَّتْ مِنْ يَدِ الْمُشْتَرِي أَوْ ظَهَرَ بِهَا عَيْبٌ فَلَا عُهْدَةَ عَلَى السِّمْسَارِ وَالتَّبَاعَةُ عَلَى رَبِّهَا فَإِنْ لَمْ يَعْرِفْ كَانَتْ مُصِيبَتُهُ مِنْ الْمُشْتَرِي، قَالَ ابْنُ أَبِي زَمَنِينَ: فَإِذَا سُئِلَ السِّمْسَارُ عَنْ رَبِّ السِّلْعَةِ فَقَالَ: لَا أَعْرِفُهُ حَلَفَ أَنَّهُ مَا يَعْرِفُهُ، كَذَا رَأَيْت لِكَثِيرٍ مِنْ أَشْيَاخِنَا، قَالَ: وَيَنْبَغِي عَلَى أُصُولِهِمْ، إنْ نَكَلَ عَنْ الْيَمِينِ وَاسْتَرَابَهُ السُّلْطَانُ أَنْ يُعَاقِبَهُ بِالسِّجْنِ عَلَى مَا يَرَاهُ مِنْ الْمُتَيْطِيَّةِ.

.فَصْلٌ فِي الْأُجَرَاءِ:

وَفِي الْمَذْهَبِ: لَوْ اسْتَأْجَرْت رَجُلًا يَخْدُمُك فِي بَيْتِك شَهْرًا فَكَسَرَ آنِيَةً مِنْ أَوَانِي الْبَيْتِ أَوْ قِدْرًا، أَوْ اسْتَأْجَرَتْهُ أَنْ يَخِيطَ لَك ثَوْبًا فَأَفْسَدَهُ أَوْ تَلِفَ لَمْ يَضْمَنْ إلَّا أَنْ يَتَعَدَّى لِأَنَّك لَمْ تُسَلِّمْ إلَيْهِ شَيْئًا بِعَيْنِهِ يَغِيبُ عَلَيْهِ وَلَا أَمْكَنَتْهُ.
فرع:
وَكَذَلِكَ أَجِيرُ الْخِدْمَةِ، لَا يَضْمَنُ مَا أَفْسَدَ مِنْ طَحْنٍ أَوْ وَطِئَ عَلَيْهِ فَكَسَرَهُ مِنْ قِصَاعٍ.

.فَصْلٌ فِي ضَمَانِ الرَّاعِي:

وَفِي مُخْتَصَرِ الْوَاضِحَةِ قَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ: وَقَدْ اخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي تَأْوِيلِ الرَّاعِي الَّذِي أَسْقَطَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الضَّمَانَ مِنْهُ، فَأَمَّا مَالِكٌ وَأَصْحَابُهُ فَهُوَ عِنْدَهُمْ فِي كُلِّ رَاعٍ كَانَ مُشْتَرِكًا أَوْ غَيْرَ مُشْتَرِكٍ لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ إلَّا أَنْ يَتَعَدَّى أَوْ يُفَرِّطَ، وَأَمَّا سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ وَالْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ وَمَكْحُولٌ وَالْأَوْزَاعِيُّ فَقَالُوا: إنَّمَا الرَّاعِي الَّذِي لَا يَضْمَنُ إلَّا أَنْ يَفْرُطَ أَوْ يَتَعَدَّى إذَا كَانَ لِرَجُلٍ خَاصٍّ، فَأَمَّا إذَا كَانَ مُشْتَرِكًا فَهُوَ ضَامِنٌ حَتَّى يَأْتِيَ بِالْخُرْجِ، قَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ حَبِيبٍ: وَالْأَخْذُ بِهَذَا الْقَوْلِ أَحَبُّ إلَيَّ، لِأَنَّهُ صَارَ كَالصَّانِعِ الَّذِي اجْتَمَعَ مَنْ عَمِلْتَ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ عَلَى تَضْمِينِهِ إذَا كَانَ أَجِيرًا مُشْتَرِكًا، قَالَ: وَكَذَلِكَ رَاعِي الدَّوَابِّ الَّذِي تُجْمَعُ إلَيْهِ لِحِرَاسَتِهَا فِي رَعِيَّتِهَا، عَلَى أَنَّ لَهُ فِي كُلِّ دَابَّةٍ شَيْئًا مَعْلُومًا فِي كُلِّ يَوْمٍ، وَهُوَ فِي قَوْلِ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ وَالْحَسَنِ وَمَكْحُولٍ وَالْأَوْزَاعِيِّ ضَامِنٌ لِأَنَّهُ رَاعٍ مُشْتَرِكٌ، وَفِي قَوْلِ مَالِكٍ لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ.
فرع:
وَمِنْ قَوْلِ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ: فِي الرَّاعِي يَنَامُ نَهَارًا فَتَضِيعُ الْغَنَمُ فِي نَوْمِهِ، أَوْ يُصِيبُهَا السَّبُعُ أَوْ السَّارِقُ، أَنَّهُ لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ إلَّا أَنْ يَكُونَ بِمَوْضِعٍ مَخُوفٍ، وَلَمْ يَزَلْ مِنْ شَأْنِ الرِّعَاءِ النَّوْمُ نَهَارًا فِي أَيَّامِ النَّوْمِ، إلَّا أَنْ يَأْتِيَ مِنْ ذَلِكَ بِمَا يَسْتَنْكِرُ مِمَّا يَجُرُّ إلَى الضَّيْعَةِ الْبَيِّنَةِ فَيَضْمَنُ.
فرع:
وَيَضْمَنُ مَا هَلَكَ بِرَعْيِهَا فِي مَوْضِعٍ مَخُوفٍ مِنْ الْمُتَيْطِيَّةِ.
فرع:
وَمِنْ قَوْلِ مَالِكٍ أَيْضًا فِي الرَّاعِي: يَأْتِي بِالشَّاةِ مَذْبُوحَةً وَيَزْعُمُ أَنَّهَا وَقَعَتْ لِلْمَوْتِ فَذَبَحَهَا، أَنَّ الْقَوْلَ فِي ذَلِكَ قَوْلُهُ لِأَنَّهُ مُؤْتَمَنٌ عَلَيْهَا، قَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ: وَلَا بَأْسَ أَنْ تُؤْكَلَ وَإِنْ كَانَ الرَّاعِي نَصْرَانِيًّا إنْ كَانَ مَأْمُونًا مَعْرُوفًا بِأَنَّهُ لَا يَأْكُلُ الْمَيْتَةَ، وَإِنْ اُسْتُرِيبَ لَمْ تُؤْكَلْ.
فَصْلٌ: وَمِنْ قَوْلِ مَالِكٍ: الرَّاعِي مُصَدَّقٌ فِيمَا زَعَمَ أَنَّهُ مَاتَ مِنْ الْغَنَمِ أَوْ غَابَ أَوْ سَرَقَ أَوْ عَدَا عَلَيْهِ السَّبُعُ، وَأَنَّ شَأْنَ الرِّعَاءِ فِي رَعِيَّتِهِمْ عَلَى غَيْرِ التَّضْيِيعِ وَالتَّفْرِيطِ حَتَّى يَظْهَرَ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ.
فرع:
قَالَ سَحْنُونٌ: وَغَيْرُ ابْنِ الْقَاسِمِ يَقُولُ: هُوَ ضَامِنٌ لِمَا انْتَحَرَ، قَالَ: وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: وَإِنْ قَالَ: ذَبَحْتهَا لَمَّا خِفْت عَلَيْهَا الْمَوْتَ، ثُمَّ سُرِقَتْ مِنِّي مَذْبُوحَةً فَإِنَّهُ مُصَدَّقٌ، وَقَالَ غَيْرُهُ يَضْمَنُ بِالذَّبْحِ.
فرع:
وَفِي التَّهْذِيبِ وَكُلُّ شَيْءٍ صَنَعَهُ الرَّاعِي مِمَّا لَا يَجُوزُ لَهُ فِعْلُهُ فَأَصَابَ الْغَنَمَ مِنْ فِعْلِهِ عَيْبٌ فَهُوَ ضَامِنٌ، وَإِنْ صَنَعَ مَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَفْعَلَهُ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ، قَالَ أَبُو إبْرَاهِيمَ فِي الطُّرَرِ: يُرِيدُ بِقَوْلِهِ: لَا يَجُوزُ لَهُ هُوَ أَنْ يَرْمِيَ الشَّاةَ نَفْسَهَا، وَيَخْتَلِفُ إذَا رَمَى قُدَّامَهَا أَوْ جَانِبَهَا لِتَرْجِعَ إلَى مَوْضِعٍ، فَوَقَعَتْ عَلَيْهَا؛ لِأَنَّهُ خَطَأٌ فِيمَا أَذِنَ لَهُ، وَلَوْ كَانَتْ هِيَ الَّتِي تَقْرَبُ إلَى نَاحِيَةِ الرَّمْيَةِ فَوَقَعَتْ عَلَيْهَا لَمْ يَضْمَنْ مِنْ التَّبْصِرَةِ، وَنَقَلَهَا ابْنُ يُونُسَ فِي كِتَابِ الْجُعْلِ وَفِي كِتَابِ ابْنِ وَضَّاحٍ: لِلرَّاعِي أَنْ يَرْمِيَ الْغَنَمَ وَلِكَرْيِ كَبْحِ الدَّابَّةِ، وَالْكَبْحُ هُوَ جَذْبُهَا بِاللِّجَامِ.
فرع:
وَفِي الْمُتَيْطِيَّةِ: إذَا رَمَى شَاةً كَمَا يَرْمِي الرَّاعِي الْغَنَمَ، فَفَقَأَ عَيْنَهَا أَوْ كَسَرَهَا ضَمِنَ مَا نَقَصَ مِنْهَا، وَمَا أَبْطَلَهَا ضَمِنَهَا تَعَمَّدَ أَوْ لَمْ يَتَعَمَّدْ، وَإِنْ نَدَّتْ مِنْ رَمْيَتِهِ خَوْفًا مِنْ الرَّمْيَةِ فَوَقَعَتْ فِي مُهْوَاةٍ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ.
فرع:
وَيَضْمَنُ إنْ رَمَى صَيْدًا فَأَصَابَ شَاةً.
مَسْأَلَةٌ:
وَسُئِلَ سَحْنُونٌ عَنْ الرَّاعِي يَرْعَى لِلْجَزَّارِينَ لِهَذَا شَاةٌ. وَلِهَذَا شَاتَانِ، فَهَرَبَتْ مِنْ الْغَنَمِ، شَاةٌ فَطَلَبَهَا قَلِيلًا، ثُمَّ رَجَعَ إلَى الْغَنَمِ هَلْ هَذَا تَفْرِيطٌ؟ قَالَ وَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ مِنْ الْمَذْهَبِ.
فرع:
قَالَ اللَّخْمِيُّ: وَعِنْدَ مَالِكٍ: إذَا شَرَطَ عَلَى الرَّاعِي أَنْ يَأْتِيَ بِسِمَةِ مَا مَاتَ وَإِلَّا كَانَ ضَامِنًا فَالشَّرْطُ بَاطِلٌ، فَإِنْ عَمِلَ فَلَهُ الْأَكْثَرُ مِنْ الْمُسَمَّى أَوْ إجَارَةُ الْمِثْلِ، وَفِيهَا قَوْلُ أَنَّ الشَّرْطَ جَائِزٌ وَيَضْمَنُ إذَا لَمْ يَأْتِ بِالسِّمَةِ، كَمَا إذَا قَالَ الْمُسْتَأْجِرُ: انْكَسَرَتْ الْجَفْنَةُ وَلَمْ يَأْتِ بِفَلَقَتِهَا.

.فَصْلٌ فِي الْأَكْرِيَاءُ عَلَى حَمْلِ الطَّعَامِ وَغَيْرِهِ:

فَصْلٌ الْأَكْرِيَاءُ عَلَى حَمْلِ الطَّعَامِ وَغَيْرِهِ وَضَمِنَ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ أَكْرِيَاءَ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ مَعَ عَدَمِ الْبَيِّنَةِ، سَوَاءٌ حَمَلُوهُ عَلَى سَفِينَةٍ أَوْ دَابَّةٍ أَوْ عَلَى ظَهْرِ رَجُلٍ، وَلَا يَنْتَفِعُونَ بِشَرْطِ نَفْيِ الضَّمَانِ، وَيَسْتَوِي فِي ذَلِكَ الْمِقَاتُ وَغَيْرُهُ، وَخَصَّهُ ابْنُ حَبِيبٍ بِمَا تَقْتَاتُ دُونَ مَا يَنْقُلُهُ، فَلَمْ يَضْمَنْهُمْ فِي التُّرْمُسِ وَالْمَرِيِّ وَالرَّبِّ وَالشَّرَابِ الْحَلَالِ، وَاللَّبَنِ وَالْجُبْنِ وَالزُّبْدِ وَالْحَالُومِ وَالْأَقِطِ وَاللَّحْمِ وَالْبِيضِ وَالْأَبْزَارِ، وَكَذَلِكَ لَا يَضْمَنُونَ شَيْئًا مِنْ خُضْرِ الثِّمَارِ كَانَتْ مِمَّا يَيْبَسُ أَوْ مِمَّا لَا يَيْبَسُ؛ لِأَنَّهُ تَفَكُّهٌ، وَلَا يَضْمَنُونَ مِنْ يَابِسِهَا إلَّا التَّمْرَ وَالزَّبِيبَ وَالزَّيْتُونَ، وَضَمَّنَهُمْ الْقَمْحَ وَالشَّعِيرَ وَالدَّقِيقَ وَالْعَسَلَ وَالسُّلْتَ وَالدَّخْنَ وَالذَّرَّةَ وَالْكِرْسِنَّةَ وَالْحِمَّصِ وَالْفُولِ وَالْعَدْسِ وَاللُّوبِيَا وَالْجُلُبَّانِ وَالزَّيْتِ وَالْعَسَلِ وَالسَّمْنِ وَالْخَلِّ، قَالَ ابْنُ حَبِيبٍ: وَلَيْسَ الْأُرْزُ مِنْ ذَلِكَ لِأَنَّهُ عِنْدِي تَفَكُّهٌ، وَلَا يَضْمَنُونَ الْجَوْزَ وَاللَّوْزَ وَنَحْوَهُ وَلَا الْحِيتَانَ، اُنْظُرْ تَمَامَ ذَلِكَ فِي مُخْتَصَرِ الْوَاضِحَةِ لِابْنِ حَبِيبٍ.

.فَصْلٌ فِيمَنْ اُسْتُؤْجِرَ عَلَى حَمْلِ مَتَاعٍ فَسَقَطَ مِنْهُ أَوْ انْكَسَرَ:

فَصْلٌ: وَأَمَّا مَنْ اُسْتُؤْجِرَ عَلَى حَمْلِ مَتَاعٍ فَسَقَطَ مِنْهُ أَوْ انْكَسَرَ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ وَلَا أُجْرَةَ لَهُ وَلَوْ سَقَطَ مِنْ يَدِهِ شَيْءٌ عَلَيْهِ فَكَسَرَهُ غَرِمَ قِيمَتَهُ، وَإِنْ ادَّعَى الْمُكْرِي أَنَّ الْمَتَاعَ هَلَكَ أَوْ سُرِقَ أَوْ عَثَرَتْ الدَّابَّةُ، فَانْكَسَرَتْ الْجِرَارُ وَذَهَبَ الدُّهْنُ صُدِّقَ إلَّا أَنْ يَغُرَّ بِفِعْلِهِ مِثْلَ أَنْ يَرْبِطَهَا بِحَبْلٍ رَثٍّ، أَوْ يَمْشِي بِهَا فِي مَوْضِعٍ تَعْثُرُ الدَّابَّةُ فِيهِ فَيَضْمَنُ، فَإِنْ غَرَّ بِقَوْلِهِ فَفِي ضَمَانِهِ قَوْلَانِ، مِثْلَ أَنْ يَكُونَ الْمُكْتَرِي هُوَ الَّذِي تَوَلَّى الرَّبْطَ.
وَقَالَ لَهُ الْمُكْرِي: ارْبِطْ بِهَذَا الْحَبْلَ أَوْ سِرْ فِي هَذَا الطَّرِيقِ فَهُوَ غُرُورٌ بِالْقَوْلِ، وَإِنْ أَخْرَقَ فِي سَوْقِ دَابَّتِهِ حَتَّى زَاحَمَتْ أَوْ عُرِفَ أَنَّ دَابَّتَهُ رُبُوضٌ فَهُوَ ضَامِنٌ وَإِلَّا فَلَا.

.فَصْلٌ فِي ضَمَانِ الْفَرَّانِ:

قَالَ ابْنُ حَبِيبٍ وَالْفَرَّانُ فِي ضَمَانِ مَا سَرَقَ مِنْ الْخُبْزِ وَالْغَزْلِ وَكُلَّمَا اسْتَنْزَلُوهُ بِمَنْزِلَةِ الصُّنَّاعِ، إلَّا أَنَّهُ لَا يَضْمَنُ مَا احْتَرَقَ مِنْ الْخُبْزِ وَالْغَزْلِ، إذَا بَقِيَ مِنْهُ مَا يَدُلُّ أَنَّهُ خُبْزُهُ أَوْ غَزْلُهُ؛ لِأَنَّ احْتِرَاقَهُ لَيْسَ مِنْ سَبَبِهِ، وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ غَلَبَةِ النَّارِ فَهُوَ كَمَا لَوْ شَهِدَ لَهُ عَلَى سَرِقَتِهِ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ ضَمَانُهُ، قَالَ: وَإِذَا كَانَ احْتِرَاقُ الْخُبْزِ أَوْ الْغَزْلِ بِتَضْيِيعٍ مِنْهُ أَوْ عُنْفٍ كَانَ مِنْهُ فِي إيقَادِ النَّارِ لِلْفُرْنِ فَهُوَ ضَامِنٌ.
فرع:
وَلَا يَضْمَنُ مَا سُرِقَ مِنْ الصِّحَافِ، لِأَنَّهَا لَيْسَتْ مِمَّا اُسْتُعْمِلَ عَلَيْهِ، وَذَلِكَ إذَا ضَاعَتْ بَعْدَ مُزَايَلَةِ الْأَقْرَاصِ فِيهَا، وَلَيْسَتْ كَالْمِنْدِيلِ الَّذِي يَأْتِي الرَّجُلُ فِيهِ بِالثَّوْبِ إلَى الْخَيَّاطِ فَيَسْتَعْمِلُهُ، فَيَدَّعِي الْخَيَّاطُ أَنَّهُ تَلِفَ وَمَا هُوَ مَلْفُوفٌ فِي الْمِنْدِيلِ فَإِنَّهُ ضَامِنٌ لِلثَّوْبِ، وَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ لِلْمِنْدِيلِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِمَّا اسْتَعْمَلَ عَلَيْهِ، سَوَاءٌ ضَاعَ بِالثَّوْبِ وَهُوَ مَلْفُوفٌ فِيهِ أَوْ ضَاعَ بَعْدَ أَنْ خَرَجَ عَنْهُ الثَّوْبُ، لِأَنَّ الثَّوْبَ وَإِنْ كَانَ مَلْفُوفًا فِيهِ فَلَيْسَ بِمُضْطَرٍّ إلَيْهِ كَاضْطِرَارِ الْأَقْرَاصِ إلَى الصِّحَافِ، وَإِنَّمَا أَتَى بِهِ صَاحِبُهُ وِقَايَةً لِثَوْبِهِ فَهُوَ كَالْمُسْتَوْدَعِ عِنْدَهُ، إلَّا أَنْ يَكُونَ الْفَرَّانُ يُؤْتِي بِالْعَجِينِ فِي الصِّحَافِ لِيَكُونَ هُوَ الَّذِي يُقَرِّصُهُ، فَيَكُونُ ضَمَّنَا الصِّحَافَ عَلَيْهِ كَيْفَمَا ضَاعَتْ بِالْعَجِينِ أَوْ بِغَيْرِ الْعَجِينِ.
فرع:
وَكَذَلِكَ إذَا أَخْرَجَ الْفَرَّانُ النَّاسَ عَنْ فُرْنِهِ لِكَثْرَتِهِمْ وَازْدِحَامِهِمْ، ضَمِنَ كَيْفَ ضَاعَتْ بِالْأَقْرَاصِ أَوْ بَعْدَ مُزَايَلَةِ الْأَقْرَاصِ عَنْهَا، وَضَمِنَ الْأَقْرَاصَ أَيْضًا إنْ ضَاعَتْ عَلَى كُلِّ حَالٍ، قَالَ فَضْلُ بْنُ سَلَمَةَ: قَوْلُهُ وَكَذَلِكَ الْفَرَّانُ إذَا أَخْرَجَ النَّاسُ عَنْ فُرْنِهِ لِكَثْرَتِهِمْ وَازْدِحَامِهِمْ، فَتَضْمِينُهُ الصِّحَافَ كَيْفَمَا ضَاعَتْ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْمَسْأَلَةَ الَّتِي ضَمِنَ الصَّحْفَةَ فِيهَا، خَالَفَ بِهَا مَسْأَلَةَ الْمِنْدِيلِ مَعْنَاهَا عَلَى أَنَّهُ دَفَعَ إلَيْهِ الصَّحْفَةَ بِالْخُبْزِ عَلَى أَنَّهُ بِفُرْنِهِ فَهَاهُنَا يُضَمِّنُهُ الصَّحَّافُ كَيْفَمَا ضَاعَتْ، لِأَنَّهُ لَا غِنَى لِلْخُبْزِ عَنْ الصَّحْفَةِ.
فرع:
وَلَوْ أَتَى بِخُبْزِهِ فِي الصَّحْفَةِ وَوَضَعَهُ فِي الْفُرْنِ وَلَمْ يَعْلَمْهُ وَلَا تَبْرَأُ مِنْهُ إلَى الْفَرَّانِ فَتَلِفَ الْخُبْزُ فَلَا ضَمَانَ عَلَى الْفَرَّانِ.

.فَصْلٌ فِي ضَمَان الطَّحَّان:

فَصْلٌ: وَكَذَلِكَ الطَّحَّانُ إنْ عَامَلُوهُ عَلَى الطَّحِينِ وَأَسْلَمَ الطَّعَامَ إلَيْهِ فِي أَوْعِيَتِهِ لِيَطْحَنَهُ هُوَ دُونَ صَاحِبِهِ، أَوْ كَانَ ذَلِكَ سُنَّتَهُمْ فَهُوَ ضَامِنٌ لِلْأَوْعِيَةِ كَيْفَمَا ضَاعَتْ بِالطَّعَامِ. أَوْ دُونَ الطَّعَامِ، وَضَامِنٌ لِلطَّعَامِ أَيْضًا إنْ ضَاعَ، وَإِنْ كَانَ أَهْلُهُ هُمْ يَلُونَ طَحْنَهُ مَعَهُ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ لِلْأَوْعِيَةِ وَلَا لِلطَّعَامِ، لِأَنَّ أَهْلَهُ مَعَهُ وَلَا يُسَلِّمُوهُ إلَيْهِ، إلَّا أَنْ يَكُونَ هُوَ أَخْرَجَ النَّاسَ عَنْ الرَّحَى لِكَثْرَتِهِمْ وَازْدِحَامِهِمْ فَيَكُونُ ضَامِنًا لِلْأَوْعِيَةِ وَمَا فِيهَا.

.فَصْلٌ فِي ضَمَان الصَّبَّاغ:

فَصْل: وَإِذَا أَخْطَأَ الصَّبَّاغُ فَصَبَغَ الثَّوْبَ غَيْرَ الصَّبْغِ الَّذِي سَمَّى لَهُ صَاحِبُهُ، وَأَقَرَّ بِذَلِكَ الصَّبَّاغُ فَصَاحِبُ الثَّوْبِ مُخَيَّرٌ إنْ شَاءَ أَعْطَاهُ قِيمَةَ الصَّبْغِ وَأَخَذَ ثَوْبَهُ، وَإِنْ شَاءَ ضَمَّنَهُ قِيمَةَ ثَوْبِهِ يَوْمَ دَفَعَهُ إلَيْهِ، وَإِنْ أَبَى فَلَا شَيْءَ لَهُ لِأَنَّهُ قَدْ أَمْكَنَ مِنْ إحْرَازِ صَبْغِهِ الَّذِي أَخْطَأَ بِهِ، قَالَ ابْنُ حَبِيبٍ: وَكَذَلِكَ سَمِعْت أَهْلَ الْعِلْمِ يَقُولُونَ وَقَالَهُ ابْنُ الْقَاسِمِ أَيْضًا.
وَفِي طُرُرِ التَّهْذِيبِ: وَهَذَا مَعَ الْإِقْرَارِ، وَأَمَّا لَوْ أَنْكَرَ الصَّبَّاغُ فَهُوَ مُصَدَّقٌ وَكَذَا حُكْمُ الْحَائِكِ.

.فَصْلٌ فِي ضَمَانِ الْغَسَّالِ:

وَفِي مُخْتَصَرِ الْوَاضِحَةِ قَالَ ابْنُ حَبِيبٍ: وَإِنْ أَخْطَأَ الصَّبَّاغُ أَوْ الْغَسَّالُ فَدَفَعَ إلَى هَذَا ثَوْبَ هَذَا، وَإِلَى هَذَا ثَوْبَ هَذَا فَلَبِسَاهُمَا جَاهِلَيْنِ بِهِمَا فَكَأَنَّمَا لَبِسَ كُلُّ وَاحِدٍ ثَوْبَهُ فَيَقُومُ نُقْصَانُ كُلِّ ثَوْبٍ لَوْ لَبِسَهُ صَاحِبُهُ هَذَا اللُّبْسَ، ثُمَّ يَتَحَاسَبَانِ فَيَكُونُ عَلَى الْغَسَّالِ فَضْلُ مَا بَيْنَ ذَلِكَ.
فرع:
وَإِذَا لَبِسَاهُمَا عَالِمَيْنِ مُتَعَمِّدَيْنِ فَذَلِكَ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِصَاحِبِهِ، إلَّا إنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْفَضْلُ مِنْهُمَا لِصَاحِبِهِ مُعْدَمًا بِالْفَضْلِ. فَيَكُونُ ذَلِكَ عَلَى الْغَسَّالِ؛ لِأَنَّهُ أَضَاعَ وَأَخْطَأَ ثُمَّ يَرْجِعُ بِهِ الْغَسَّالُ إلَى الْعَالَمِ وَلَا يَرْجِعُ بِهِ عَلَى الْجَاهِلِ.
فرع:
وَإِنْ لَبِسَ أَحَدُهُمَا عَالِمًا وَالْآخَرُ جَاهِلًا فَعَلَى هَذَا التَّفْسِيرِ.
فرع:
وَأَمَّا تَلَفُ الثَّوْبَيْنِ عِنْدَهُمَا فَإِنْ كَانَ بَعْدَ الْعِلْمِ مِنْهُمَا فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ضَامِنٌ لِثَوْبِ صَاحِبِهِ، ثُمَّ يَتَحَاسَبَانِ فَيَرْجِعُ ذُو الْفَضْلِ مِنْهُمَا بِفَضْلٍ عَلَى صَاحِبِهِ، إلَّا أَنْ يَكُونَ مُعْدَمًا فَيَرْجِعُ بِهِ عَلَى الْغَسَّالِ كَمَا فَسَّرْت لَك، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ عَلَى جِهَةِ الْجَهْلِ فَضَمَانُ الْفَضْلِ عَلَى الْغَسَّالِ.
فرع:
وَإِنْ تَلِفَ أَحَدُهُمَا وَسَلَّمَ الْآخَرُ، فَعَلَى هَذَا التَّفْسِيرِ إنْ كَانَ بَعْدَ الْعِلْمِ فَهُوَ ضَامِنٌ لِجَمِيعِ مَا تَلِفَ عِنْدَهُ كَانَ أَكْثَرَ مِنْ ثَوْبِهِ أَوْ أَقَلَّ، وَإِنْ كَانَ عَلَى جَهْلٍ مِنْهُ بِهِ فَإِنْ كَانَ مِثْلَ ثَمَنِ ثَوْبِهِ أَوْ أَقَلَّ فَهُوَ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ أَكْثَرَ مِنْ ثَمَنِ ثَوْبِهِ فَعَلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ مِقْدَارُ ثَمَنِ ثَوْبِهِ وَالْفَضْلُ عَلَى الْغَسَّالِ، قَالَ وَهَكَذَا أَوْضَحَ لِي ابْنُ الْمَاجِشُونِ فِي هَذَا كُلِّهِ، وَأَعْلَمَنِي أَنَّهُ قَوْلُ مَالِكٍ وَمَذْهَبُهُ وَغَيْرُهُ مِنْ عُلَمَائِهِمْ بِالْمَدِينَةِ.
قَالَ فَضْلُ بْنُ سَلَمَةَ: رَوَى أَشْهَبُ أَنَّهُ سَأَلَ مَالِكًا عَنْ الْغَسَّالِ إذَا أَعْطَى الرَّجُلَ غَيْرَ ثَوْبِهِ فَلَبِسَهُ، أَيَكُونُ عَلَى اللَّابِسِ فِيهِ غُرْمٌ، فَقَالَ: لَا وَذَلِكَ عَلَى الْغَسَّالِ، لَهُ: يَلْبَسُ الثَّوْبَ ثُمَّ يُؤْخَذُ ثَوْبُهُ مُسْلِمًا بِلَا غُرْمٍ، فَقَالَ: إذَا لَبِسَهُ الْأَيَّامَ ثُمَّ رَدَّهُ ثُمَّ أَخَذَ ثَوْبَهُ فَلَا غُرْمَ عَلَيْهِ إلَّا أَنْ يَكُونَ أَبْلَاهُ.
وَقَالَ لَنَا يَحْيَى: عَلَى اللَّابِسِ أَنْ يَغْرَمَ مَا نَقَصَهُ لُبْسُهُ إلَّا أَنْ يَكُونَ لَوْ لَبِسَ ثَوْبَهُ كَانَ أَقَلَّ نَقْصًا فَيَغْرَمُهُ وَيَكُونُ الْبَاقِي عَلَى الْغَسَّالِ، وَهَذَا إذَا لَمْ يَعْلَمْ اللَّابِسُ بِأَنَّهُ لَبِسَ ثَوْبَهُ، وَرَوَى ابْنُ وَهْبٍ عَنْ مَالِكٍ فِي مُوَطَّئِهِ: فِي الْغَسَّالِ يَدْفَعُ إلَيْهِ الثَّوْبَ فَيُخْطِئُ وَيُعْطِيهِ رَجُلًا فَيَلْبَسُهُ الْمُعْطَى، قَالَ لَا يَغْرَمُ اللَّابِسُ شَيْئًا وَيَغْرَمُ الْغَسَّالُ فَضْلَ الثَّوْبِ، وَذَلِكَ إذَا لَبِسَ الثَّوْبَ عَلَى غَيْرِ مَعْرِفَةٍ أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ فَإِنْ كَانَ عَلَى مَعْرِفَةٍ ضَمِنَ.

.فَصْلٌ فِي ضَمَانِ الْقَصَّارِ:

وَإِذَا أَخْطَأَ الْقَصَّارُ فَدَفَعَ ثَوْبَك بَعْدَ مَا قَصَّرَهُ إلَى غَيْرِك، فَقَطَعَهُ وَخَاطَهُ وَدَفَعَ إلَيْك ثَوْبًا غَيْرَهُ فَإِنَّك تَرُدُّهُ، ثُمَّ لَك تَضْمِينُ الْقَصَّارِ ثَوْبَك أَوْ تَأْخُذُ ثَوْبَك مَخِيطًا بَعْدَ دَفْعِ أَجْرِ الْخَيَّاطِ لِلَّذِي خَاطَهُ، نَقَصَهُ ذَلِكَ أَمْ زَادَهُ ثُمَّ لَا شَيْءَ لَك عَلَى الْقَصَّارِ، وَلَيْسَ لَك تَضْمِينُ الْقَاطِعِ وَلَا أَنْ تَأْخُذَ مِنْهُ الثَّوْبَ مَعَ مَا نَقَصَهُ الْقَطْعُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَتَعَدَّ، وَلَا لَك أَخْذُ الثَّوْبِ بِغَيْرِ غُرْمِ الْخِيَاطَةِ مِنْ التَّهْذِيبِ.
فرع:
فَإِنْ أَبَى أَنْ يَدْفَعَ أُجْرَةَ الْخِيَاطَةِ، قِيلَ لِلَّذِي خَاطَهُ: ادْفَعْ لَهُ قِيمَتَهُ أَبْيَضَ أَوْ سَلِّمْهُ إلَيْهِ مَخِيطًا، فَإِنْ أَسْلَمَهُ خُيِّرَ رَبُّهُ أَيْضًا بَيْنَ أَنْ يَأْخُذَهُ أَوْ يَضْمَنَ الْقَصَّارُ.
وَقَالَ سَحْنُونٌ: إنْ أَبَى أَنْ يَدْفَعَ الْأُجْرَةَ فَلَيْسَ لَهُ إلَّا تَضْمِينُ الْقَصَّارَ، ثُمَّ يَقُولُ الْقَصَّارُ لِلَّذِي خَاطَهُ: ادْفَعْ إلَيَّ مَا غَرِمَتْ، فَإِنْ أَبَى قِيلَ لِلْقَصَّارِ ادْفَعْ إلَيْهِ أُجْرَةَ الْخِيَاطَةِ فَإِنْ أَبَيَا كَانَا شَرِيكَيْنِ مِنْ طُرُرِ التَّهْذِيبِ نِسْبَةً لِعَبْدِ الْحَقِّ فِي النُّكَتِ.

.فَصْلٌ فِي ضَمَانِ مَنْ صَنَعَ شَيْئًا فِي الطَّرِيقِ:

وَفِي الْمُوَطَّأِ قَالَ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ الْأَمْرُ الْمُجْمَعُ عَلَيْهِ عِنْدَنَا فِي الَّذِي يَحْفِرُ الْبِئْرَ عَلَى الطَّرِيقِ، أَوْ يَرْبِطُ الدَّابَّةَ أَوْ يَصْنَعُ أَشْبَاهَ هَذَا عَلَى طَرِيقِ الْمُسْلِمِينَ فَهُوَ ضَامِنٌ لِمَا أُصِيبَ فِي ذَلِكَ مِنْ حَرَجٍ أَوْ غَيْرِهِ، فَمَا كَانَ عَقْلُهُ مِنْ ذَلِكَ دُونَ ثُلُثِ الدِّيَةِ فَهُوَ فِي مَالِهِ خَاصَّةً، وَمَا بَلَغَ الثُّلُثَ فَصَاعِدًا فَهُوَ فِي الْعَاقِلَةِ وَمَا صَنَعَ مِنْ ذَلِكَ مِمَّا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَصْنَعَهُ عَلَى طَرِيقِ الْمُسْلِمِينَ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ وَلَا غُرْمَ.
فرع:
قَالَ الْبَاجِيُّ: فَإِذَا حَفَرَ فِي الطَّرِيقِ بِئْرًا لِغَيْرِ غَرَضٍ مُبَاحٍ فَإِنَّهُ يَضْمَنُ مَا أُصِيبَ فِيهِ، أَوْ يَحْفِرُ بِئْرًا فِي دَارِ غَيْرِهِ بِغَيْرِ إذْنِهِ، فَقَدْ قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ وَأَشْهَبُ فِي الْمَجْمُوعَةِ يَضْمَنُ أَوْ يَحْفِرُ فِي مِلْكِهِ أَوْ غَيْرِ مِلْكِهِ لِيُتْلِفَ بِهِ سَارِقًا، فَقَدْ رَوَى ابْنُ وَهْبٍ عَنْ مَالِكٍ يَضْمَنُ السَّارِقُ وَغَيْرُهُ.
فرع:
وَأَمَّا مَنْ عَمِلَ مَا يَجُوزُ لَهُ كَبِئْرٍ يَحْفِرُهَا لِلْمَطَرِ أَوْ مِرْحَاضٍ يَحْفِرُهُ إلَى جَانِبِ حَائِطِهِ، قَالَ أَشْهَبُ: مَا لَمْ يَضُرَّ الْبِئْرُ وَالْمِرْحَاضُ بِالطَّرِيقِ، أَوْ يَحْفِرُ بِئْرًا فِي دَارِهِ لَا يَقْصِدُ بِهَا ضَرَرًا لِأَحَدٍ أَوْ فِي دَارِ غَيْرِهِ بِإِذْنِهِ، أَوْ يَرُشُّ قَنَاةً تَبْرِيدًا أَوْ تَنْظِيفًا فَيَزْلَقُ بِهِ أَحَدٌ فَيَهْلَكُ، أَوْ يَرْبِطُ كَلْبًا فِي دَارِهِ لِلصَّيْدِ أَوْ فِي غَنَمِهِ لِلسِّبَاعِ، أَوْ أَوْقَفَ دَابَّتَهُ فِي الطَّرِيقِ لِحَاجَةٍ أَوْ نَزَلَ عَنْهَا، فَأَوْقَفَهَا فِي الطَّرِيقِ بِبَابِ الْمَسْجِدِ أَوْ حَمَّامٍ أَوْ بَابِ أَمِيرٍ أَوْ سُوقٍ أَوْ مَا أَشْبَهَ ذَلِكَ، فَلَا يَضْمَنُ مَا نَشَأَ عَنْ ذَلِكَ فِي هَذِهِ الْوُجُوهِ.
فَصْلٌ: وَمَنْ حَدَّدَ قَضِيبًا أَوْ عِيدَانًا فَجَعَلَهَا بِبَابِهِ لِتَدْخُلَ فِي رِجْلِ مَنْ يُرِيدُ الدُّخُولَ فِي حَائِطِهِ مِنْ سَارِقٍ أَوْ غَيْرِهِ فَإِنَّهُ يَضْمَنُ وَكَذَلِكَ مَنْ جَعَلَ عَلَى حَائِطِهِ شِرْكًا يَسْتَضِرُّ بِهِ مَنْ يَدْخُلُ، أَوْ رَشَّ قَنَاةً يُرِيدُ بِذَلِكَ أَنْ يَزْلَقَ مَنْ يَمُرُّ بِهِ مِنْ إنْسَانٍ أَوْ غَيْرِهِ، فَهَذَا يَضْمَنُ فِي هَذِهِ الْوُجُوهِ، وَكَذَلِكَ مَنْ جَعَلَ فِي الطَّرِيقِ مَرْبِطًا لِدَابَّتِهِ يَضُرُّ بِالنَّاسِ، فَهُوَ ضَامِنٌ لِمَا أَصَابَتْ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ مُتَعَدٍّ فِي هَذَا كُلِّهِ، وَكَذَلِكَ مَنْ اتَّخَذَ كَلْبًا لِدَارِهِ لِيَعْقِرَ مَنْ دَخَلَهَا، أَوْ فِي غَنَمِهِ لِيَعْدُوَ عَلَى مَنْ أَرَادَهَا فَإِنَّهُ يَضْمَنُ، وَكَذَلِكَ وَمَنْ وَضَعَ سَيْفًا بِطَرِيقٍ أَوْ غَيْرِهِ يُرِيدُ قَتْلَ رَجُلٍ، فَقَدْ قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ فِي الْمَجْمُوعَةِ: يُقْتَلُ بِهِ، فَإِنْ عَطِبَ بِهِ غَيْرُهُ فَالدِّيَةُ عَلَى عَاقِلَةِ الْجَاعِلِ، لِأَنَّ الْأَوَّلَ قَصَدَ إلَى قَتْلِهِ بِخِلَافِ الثَّانِي فَإِنَّهُ لَمْ يُرِدْ قَتْلَهُ كَمَنْ رَمَى رَجُلًا يُرِيدُ قَتْلَهُ فَأَصَابَتْ الرَّمْيَةُ غَيْرَهُ، فَإِنَّ حُكْمَهُ حُكْمَ الْخَطَأِ وَالدِّيَةُ عَلَى عَاقِلَتِهِ.
فَصْلٌ: وَمَنْ وَضَعَ مِيزَابًا لِلْمَطَرِ وَنَصَبَهُ عَلَى الشَّارِعِ، ثُمَّ بَعْدَ مُدَّةٍ سَقَطَ ذَلِكَ الْمِيزَابُ عَلَى رَأْسِ إنْسَانٍ فَقَتَلَهُ، أَوْ عَلَى مَالٍ فَأَتْلَفَهُ فَلَا ضَمَانَ عَلَى الَّذِي نَصَبَهُ لِأَنَّهُ فَعَلَ مَا أُذِنَ لَهُ فِيهِ.

.فَصْلٌ فِي الْحَائِطِ الْمَائِلِ:

قَالَ ابْنُ رَاشِدٍ: وَإِذَا كَانَ الْجِدَارُ مَائِلًا مِنْ أَصْلِ الْبِنَاءِ فَعَلَى صَاحِبِهِ الضَّمَانُ، وَإِنْ كَانَ بَنَاهُ عَلَى الِاسْتِقَامَةِ ثُمَّ طَرَأَ عَلَيْهِ الْمَيْلُ فَأَنْذَرَ صَاحِبَهُ، وَأَشْهَدَ عَلَيْهِ بِذَلِكَ وَأَمْكَنَهُ تَدَارُكَهُ وَلَمْ يَفْعَلْ فَعَلَيْهِ ضَمَانُ مَا تَلِفَ، وَإِنْ لَمْ يُنْذَرْ فَفِي الضَّمَانِ خِلَافٌ قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: إنْ لَمْ يَشْهَدْ عَلَيْهِ لَمْ يَضْمَنْ وَإِنْ كَانَ مَخُوفًا.
وَقَالَ أَشْهَبُ إنْ بَلَغَ إلَى حَاجَةٍ لَا يَجُوزُ لِصَاحِبِهِ أَنْ يَتْرُكَهُ لِشِدَّةِ مَيْلِهِ فَهُوَ ضَامِنٌ وَإِنْ لَمْ يَشْهَدْ عَلَيْهِ، وَالْإِشْهَادُ لَا يَكُونُ إلَّا مِنْ الْقَاضِي أَوْ مِمَّنْ لَهُ النَّظَرُ فِي ذَلِكَ، وَلَا يَنْفَعُ إشْهَادُ غَيْرِ الْقَاضِي، أَمَّا نَهْيُ النَّاسِ وَإِشْهَادُهُمْ فَلَيْسَ بِلَازِمٍ إلَّا أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ فِي بَلَدٍ لَيْسَ بِهِ حَاكِمٌ، فَإِنَّ إشْهَادَ الْجِيرَانِ وَالنَّاسِ فِي ذَلِكَ كَافٍ، قَالَ بَعْضُ الْقَرَوِيِّينَ يَنْظُرُ فَإِنْ كَانَ رَبُّ الْحَائِطِ مُقِرًّا بِغَرَرِهِ نَفَعَ الْإِشْهَادُ دُونَ حَاكِمٍ، وَإِنْ كَانَ مُنْكِرًا فلابد مِنْ التَّقَدُّمِ إلَى الْحَاكِمِ.
فرع:
وَلَوْ كَانَتْ الدَّارُ مَرْهُونَةً أَوْ مُكْتَرَاةً لَمْ يَنْفَعْ الْإِشْهَادُ إلَّا عَلَى رَبِّهَا، فَإِنْ كَانَ غَائِبًا رُفِعَ أَمْرُهَا إلَى الْحَاكِمِ، وَلَا يَنْفَعُ الْإِشْهَادُ عَلَى السَّاكِنِ إذْ لَيْسَ لَهُ هَدْمُهَا.
فرع:
وَفِي تَذْكِرَةِ الْحُكَّامِ لِلْقَاضِي بُرْهَانِ الدِّينِ الْأَخْنَائِيِّ، إذَا كَانَتْ الدَّارُ عَلَى الْأَنْصِبَاءِ فَأَعْذَرَ إلَيْهِمْ فَانْهَدَمَتْ عَلَى شَيْءٍ فَعَلَى الْجَمِيعِ الضَّمَانُ لَا عَلَى الْأَنْصِبَاءِ، قَالَ: وَقِيلَ: يَضْمَنُ فِي الْحَائِطِ الْمَائِلِ أَشْهَدَ عَلَيْهِ أَوْ لَمْ يُشْهِدْ، قَالَ: وَيَنْبَغِي لِلْحَاكِمِ إذَا كَانَ الْحَائِطُ مَخُوفًا أَنْ لَا يُمْهِلَ أَصْحَابَهُ بَلْ يُلْزِمُهُمْ الْحُضُورَ لِهَدْمِهِ، فَإِنْ لَمْ يَحْضُرُوا أَمَرَ بِهَدْمِهِ وَأَنْفَقَ عَلَى ذَلِكَ مِنْ نَقْضِهِ.

.فَصْلٌ وَمِنْ الْأَفْعَالِ الْمُوجِبَةِ لِلضَّمَانِ:

إذَا أَوْقَدَ رَجُلٌ نَارًا بِعَمَلٍ يَعْمَلُهُ فَتَرَامَتْ النَّارُ حَتَّى أَحْرَقَتْ زَرَعَ رَجُلٌ فِي أَنْدَرِهِ، فَإِنْ كَانَ قَدْ غَرَّ لَقُرْبِهِ مِنْ الْأَنْدَرِ فَهُوَ ضَامِنٌ، وَالْقُرْبُ فِي ذَلِكَ غَيْرُ مَحْدُودٍ وَإِنَّمَا يَرْجِعُ فِيهِ إلَى أَهْلِ الْمَعْرِفَةِ، وَإِنْ كَانَ عَمَلُهُ لِلنَّارِ عَلَى بُعْدٍ مِنْ الْأَنْدَرِ فِي مَوْضِعٍ مَأْمُونٍ، فَتَحَامَلَتْ النَّارُ أَوْ حَمَلَهَا الرِّيحُ حَتَّى أَحْرَقَتْ مَا فِي الْأَنْدَرِ فَلَا ضَمَانَ عَلَى الَّذِي حَمَلَهَا، وَمِثْلُهَا النَّارُ تُلْقَى فِي الشَّعْرَاءِ وَهِيَ الْغَابَةُ مِنْ الشَّجَرِ، وَكَذَلِكَ النَّارُ تُلْقَى فِي مَوْضِعِ الْحَصِيدَةِ.

.فَصْلٌ فِي الْحَجَّامِ وَالْبَيْطَارِ وَشَبَهِهِمَا:

وَإِذَا أَذِنَ الرَّجُلُ لِحَجَّامٍ يَفْصِدُهُ أَوْ يَخْتِنُ وَلَدَهُ أَوْ الْبَيْطَارُ فِي دَابَّةٍ، فَتَوَلَّدَ مِنْ ذَلِكَ الْفِعْلِ ذَهَابُ نَفْسٍ أَوْ عُضْوٍ أَوْ تَلَفُ الدَّابَّةُ أَوْ الْعَبْدُ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ لِأَجْلِ الْإِذْنِ، قَالَ ابْنُ رَاشِدٍ وَحَكَى الْقَاضِي أَبُو مُحَمَّدٍ رَأْيَهُ بِالضَّمَانِ؛ لِأَنَّهُ قَتَلَهُ خَطَأً، أَمَّا إذَا كَانَ جَاهِلًا أَوْ فَعَلَ غَيْرَ مَا أَذِنَ لَهُ فِيهِ خَطَأٌ، أَوْ يُجَاوِزُ الْحَدَّ فِيمَا أَذِنَ لَهُ فِيهِ أَوْ قَصَّرَ فِيهِ عَنْ الْمِقْدَارِ الْمَطْلُوبِ، ضَمِنَ مَا تَوَلَّدَ عَنْ ذَلِكَ، قَالَ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ وَيَنْفَرِدُ الْجَاهِلُ بِالْأَدَبِ وَلَا يُؤَدَّبُ الْمُخْطِئُ، وَهَلْ يُؤَدَّبُ مَنْ لَمْ يُؤْذَنْ لَهُ فِيهِ نَظَرٌ؟.
فرع:
وَإِذْنُ الْعَبْدِ لِلْحَجَّامِ أَنْ يَحْجُمَهُ أَوْ يَخْتِنَهُ غَيْرَ مُفِيدٍ فِي عَدَمِ الضَّمَانِ، إنْ نَشَأَ عَنْ الْحِجَامَةِ أَوْ الْخِتَانِ خَطَرٌ، لِأَنَّ رَقَبَةَ الْعَبْدِ مِلْكٌ لِسَيِّدِهِ قَالَهُ ابْنُ رَاشِدٍ قَالَ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ: مَا قَالَهُ فِي الْخِتَانِ ظَاهِرٌ، وَأَمَّا الْحِجَامَةُ فَالْعُرْفُ مُطَّرِدٌ بِعَدَمِ اسْتِئْذَانِ السَّادَاتِ فِيهَا، لاسيما إذَا كَانَ مُوجِبُهَا ظَاهِرٌ.

.فَصْلٌ: المعلم:

وَأَمَّا الْمُعَلِّمُ، فَقَالَ مَالِكٌ فِي مُعَلِّمِ الصِّبْيَانِ فِي الْكُتَّابِ، أَوْ مُعَلِّمِ الصَّنْعَةِ إنْ ضَرَبَ صَبِيًّا ضَرْبًا يُعْلَمُ أَنَّهُ مِنْ الْأَدَبِ فَمَاتَ لَمْ يَضْمَنْ، وَإِنْ ضَرَبَهُ تَعَدِّيًا أَوْ جَاوَزَ فِي أَدَبِهِ ضَمِنَ مَا أَصَابَهُ مِنْ ذَلِكَ، فَلَوْ ضَرَبَهُ فَفَقَأَ عَيْنَهُ أَوْ كَسَرَ ضِرْسَهُ فَعَلَيْهِ الْعَقْلُ، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ أَصَابَهُ ذَلِكَ مِنْ شِرَاكِ السَّوْطِ أَوْ عُودِ الدِّرَّةِ.
فَصْلٌ: وَأَمَّا الزَّوْجُ أَوْ السَّيِّدُ يَفْقَأُ عَيْنَ زَوْجَتِهِ أَوْ عَبْدَهُ فَيَقُولُ السَّيِّدُ وَالزَّوْجُ: إنَّمَا كُنْت أُؤَدِّبُ، وَتَقُولُ الْمَرْأَةُ أَوْ الْعَبْدُ: إنَّمَا فَعَلَ ذَلِكَ عَمْدًا، فَقِيلَ: يُحْمَلُ عَلَى الْأَدَبِ وَقِيلَ: عَلَى الْعَمْدِ، وَرَجَعَ إلَى أَنَّهُ يُحْمَلُ عَلَى الْأَدَبِ، قَالَ ابْنُ رُشْدٍ: وَالْأَظْهَرُ فِي السَّيِّدِ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى الْخَطَأِ، إلَّا أَنْ يُعْلَمَ أَنَّهُ قَصَدَ الْمُثْلَةَ بِهِ، فَإِنْ دَعَا الْعَبْدُ إلَى الْبَيْعِ أُجِيبَ إلَى ذَلِكَ وَأَمَّا الزَّوْجُ فَاَلَّذِي أَرَاهُ أَنْ يَجْعَلَ ذَلِكَ شَبَهَ الْعَمْدِ وَتَكُونَ الدِّيَةُ فِيهِ عَلَى الْجَانِي فَإِنْ طَلَبَتْ الْمَرْأَةُ أَنْ تَطْلُقَ مِنْهُ وَزَعَمَتْ أَنَّهَا تَخَافُهُ عَلَى نَفْسِهَا طَلُقَتْ عَلَيْهِ طَلْقَةً بَائِنَةً.
فَصْلٌ: وَمَنْ فَتَحَ قَفَصًا فِيهِ طَائِرٌ بِغَيْرِ إذْنِ صَاحِبِهِ فَطَارَ ضَمِنَ.
فرع:
وَالسَّجَّانُ يُطْلِقُ الْغَرِيمَ بِغَيْرِ إذْنِ صَاحِبِهِ يَضْمَنُ، وَكَذَا الرَّسُولُ يُطْلِقُ الْغَرِيمَ بِغَيْرِ إذْنِ غَرِيمِهِ يَضْمَنُ، وَكَذَا مَنْ أَخْفَى مِدْيَانًا عَنْ طَالِبِهِ وَهُوَ يَعْلَمُ بِمَا عَلَيْهِ ثُمَّ أَطْلَقَهُ فَذَهَبَ وَلَمْ يُوجَدْ لَزِمَهُ غُرْمُ الدَّيْنِ الَّذِي يُطْلَبُ مِنْهُ، وَكَذَا مَنْ وَجَدَ آبِقًا فَأَخَذَهُ ثُمَّ أَطْلَقَهُ ضَمِنَ، وَكَذَا مِنْ حَلَّ دَابَّةً مِنْ مَرْبِطِهَا أَوْ عَبْدًا مِنْ قَيْدٍ فَهَرَبَ ضَمِنَ، وَكَذَا مَنْ دَفَعَ إلَيْهِ دَابَّةً لِيُدْخِلَهَا فِي بَيْتٍ يُغْلَقُ عَلَيْهَا أَوْ طَيْرٍ يَجْعَلُهُ فِي قَفَصٍ، فَقَالَ: فَعَلْت وَأَغْلَقَتْ عَلَيْهِمَا وَلَمْ يَكُنْ أَغْلَقَ عَلَيْهِمَا فَذَهَبَا ضَمِنَ، وَكَذَا لَوْ قُلْت لِرَجُلٍ: اُحْرُسْ ثِيَابِي حَتَّى أَقُومَ مِنْ النَّوْمِ فَتَرَكَهَا فَسُرِقَتْ ضَمِنَ، وَكَذَا السَّارِقُ إذَا تَرَكَ بَابَ الدَّارِ مَفْتُوحًا لَيْسَ فِيهَا أَحَدٌ فَإِنَّهُ يَضْمَنُ مَا أَخَذَ مِنْهَا، وَكَذَا إذَا تَحَامَلَ الْمَاءُ عَلَى الْجُسُورِ وَإِذَا لَمْ يَكُنْ الَّذِي جَسَّرَهَا احْتَاطَ فِيهَا فَإِنَّهُ يَضْمَنُ، وَكَذَا لَوْ جَسَّرَهَا وَاحْتَاطَ وَأَغْفَلَ تَسْرِيحَ الْمَاءِ حَتَّى كَسَرَ الْجِسْرَ فَإِنَّهُ يَضْمَنُ، وَمَا كَانَ مِنْ غَيْرِ تَفْرِيطٍ بَلْ بِأَمْرٍ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ، وَكَذَا مَا كَسَرَهُ الصَّبِيُّ أَوْ أَفْسَدَهُ وَهُوَ ابْنُ سَنَةٍ فَصَاعِدًا فَإِنَّهُ يَضْمَنُهُ فِي مَالِهِ فَإِنَّ ابْنَ سَنَةٍ يَنْزَجِرُ. وَكَذَا الْمَجْنُونُ يَكْسِرُ مَا فِي السُّوقِ أَوْ يُفْسِدُهُ يُتْبَعُ فِي مَالِهِ مِثْلَ جِرَاحَتِهِ، وَكَذَا النَّائِمُ مَا أَصَابَ فِي نَوْمِهِ فَفِي مَالِهِ إذَا كَانَ دُونَ الثُّلُثِ، وَيُسْتَثْنَى مِنْ ذَلِكَ إذَا نَامَتْ عَلَى وَلَدِهَا فَأَصْبَحَ مَيِّتًا فَلَيْسَ عَلَيْهَا غَيْرُ الْكَفَّارَةِ وَقَدْ تَقَدَّمَ ذَلِكَ، انْتَهَى. هَذَا الْفَصْلُ مِنْ تَذْكِرَةِ الْحُكَّامِ.

.فَصْلٌ: أوجه العمل:

قَالَ الْبَاجِيُّ: الْعَمَلُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَضْرُبٍ.
الْأَوَّلُ: لَا قِيمَةَ لَهُ وَلَا يَعْمَلُ غَالِبًا بِأُجْرَةٍ كَمُنَاوَلَةِ السَّوْطِ أَوْ النَّعْلِ وَمَا أَشْبَهَ هَذَا فَهَذَا لَا يَضْمَنُ فِيهِ عَبْدٌ وَلَا صَبِيٌّ وَلَا فِيهِ أُجْرَةٌ، انْتَهَى. وَلَوْ قَالَ لِصَبِيٍّ: نَاوِلْنِي حَجْرًا وَهُوَ مِمَّا لَا يَثْقُلُ عَلَى مِثْلِهِ فَذَهَبَ لِيُنَاوِلَهُ إيَّاهُ فَسَقَطَ عَلَى أُصْبُعِهِ، فَلَا ضَمَانَ عَلَى الْأَمْرِ مِنْ التَّذْكِرَةِ.
الثَّانِي: لَهُ قِيمَةٌ وَلَيْسَ فِيهِ خَطَرٌ، فَلَا يَخْلُو أَنْ يَكُونَ قَدْ أَذِنَ لِلْعَبْدِ فِي مِثْلِهِ بِالْإِجَارَةِ أَوْ لَمْ يُؤْذِنْ لَهُ فِيهِ، فَإِنْ كَانَ قَدْ أَذِنَ فِيهِ بِإِجَارَةٍ فَاسْتَعْمَلَهُ بِإِجَارَةٍ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ، لِأَنَّهُ لَمْ يُخَالِفْ مَا أَذِنَ لَهُ فِيهِ، وَإِنْ اسْتَعْمَلَهُ أَوْ اسْتَعْمَلَ صَبِيًّا مَأْذُونًا لَهُ فِي الْعَمَلِ بِغَيْرِ إجَارَةٍ، فَفِي الْمَوَّازِيَّةِ عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ أَنَّهُ ضَامِنٌ، قَالَ أَشْهَبُ: لِأَنَّ ذَلِكَ تَعَدٍّ إذَا لَمْ يُؤْذِنْ لَهُمَا فِي الْعَمَلِ بِغَيْرِ أَجْرٍ، وَإِنْ كَانَ لَمْ يُؤْذَنْ لَهُ فِي الْعَمَلِ جُمْلَةً، فَرَوَى عَلِيُّ بْنُ زِيَادٍ عَنْ مَالِكٍ فِيمَنْ اسْتَعَانَ عَبْدًا بِغَيْرِ إذْنِ سَيِّدِهِ، فِيمَا لَهُ بَالٌ وَلَهُ أُجْرَةٌ هُوَ ضَامِنٌ لِمَا أَصَابَهُ، وَإِنْ سَلَّمَ فَلِلسَّيِّدِ إجَارَتُهُ.
فرع:
قَالَ مَالِكٌ وَمَنْ أَعْطَى دَابَّتَهُ عَبْدًا يَسْتَبِقَا فَعَطِبَ ضَمِنَ صَغِيرًا كَانَ أَوْ كَبِيرًا، وَهَذَا إذَا عَلِمَ الْمُسْتَعْمَلُ أَنَّهُ غَيْرُ مَأْذُونٍ لَهُ، فَإِنْ لَمْ يَعْمَلْ فَفِي الْمَوَّازِيَّةِ وَالْمَجْمُوعَةِ فِي الْآبِقِ يَسْتَأْجِرُهُ رَجُلٌ يَعْمَلُ لَهُ عَمَلًا فَيَعْطَبُ وَلَمْ يَعْلَمْ مُسْتَأْجِرُهُ بِإِبَاقِهِ، قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ يَضْمَنُهُ.
وَقَالَ أَشْهَبُ لَا يَضْمَنُ مَنْ اسْتَعْمَلَ عَبْدًا أَوْ مُولًى عَلَيْهِ إلَّا فِي الْعَمَلِ الْمَخُوفِ فَإِنَّهُ يَضْمَنُ، وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ بِالرِّقِّ وَلَا بِأَنَّهُ مُولًى عَلَيْهِ.
الثَّالِثُ: مَا الْغَالِبُ عَلَيْهِ الْخَطَرُ وَهُوَ الْعَمَلُ الْمَخُوفُ كَالْبِئْرِ ذَاتِ الْحَمْأَةِ وَالْعَمَلُ تَحْتَ الْجُدْرَانِ، فَقَدْ قَالَ مَالِكٌ فِي الصَّبِيِّ يَأْمُرُهُ الرَّجُلُ فِي النَّخْلَةِ أَوْ يَنْزِلُ فِي الْبِئْرِ فَيَعْطَبُ فِي ذَلِكَ، أَنَّهُ لَيْسَ ضَامِنًا فِي ذَلِكَ مِنْ الْخَطَرِ الْغَالِبِ الْمُعْتَادِ.
فرع:
فَلَوْ أَذِنَ لَهُ سَيِّدُهُ فِي الْعَمَلِ عَلَى الْإِطْلَاقِ فَاسْتَأْجَرَهُ رَجُلٌ فِيمَا هُوَ غَيْرُ مَخُوفٍ مِنْ الْأَعْمَالِ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ وَإِنْ اسْتَأْجَرَهُ فِي مَخُوفٍ ضَمِنَهُ وَإِنْ كَانَ مَأْذُونًا لَهُ فِي الْإِجَارَةِ قَالَهُ مَالِكٌ، لِأَنَّ الْعَمَلَ الْمَخُوفَ غَيْرُ مَأْذُونٍ فِيهِ، وَحَاصِلُهُ أَنَّ الْإِذْنَ الْمُطْلَقَ إنَّمَا يَتَنَاوَلُ الْمُعْتَادَ مِنْ الْأَعْمَالِ دُونَ الْغَرَرِ، قَالَ مَالِكٌ: وَكَذَلِكَ لَوْ خَرَجَ بِهِ فِي سَفَرٍ بِغَيْرِ إذْنِ سَيِّدِهِ.
تنبيه:
فِي سِنِّ الصَّبِيِّ الَّذِي يَضْمَنُ مَنْ اسْتَعْمَلَهُ بِغَيْرِ إذْنِ وَلِيِّهِ، قَالَ مَالِكٌ فِيمَنْ أَعْطَى صَبِيًّا ابْنَ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ سَنَةً أَوْ ثَلَاثَ عَشْرَةَ دَابَّةً يَسْتَبِقَا فَيَعْطَبُ، أَنَّ دِيَتَهُ عَلَى عَاقِلَتِهِ، وَإِنْ كَانَ كَبِيرًا فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ، وَقَدْ قَالَ أَشْهَبُ: إنَّ الْمَوْلَى يَضْمَنُ فِي الْعَمَلِ الْمَخُوفِ فَيَحْتَمِلُ أَنْ يُرِيدَ بِهِ مِنْ لَمْ يَبْلُغْ الْحُلُمَ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُرِيدَ بِالْكَبِيرِ غَيْرَ الْمَوْلَى عَلَيْهِ.

.فَصْلٌ فِي ضَمَانِ الرَّاكِبِ وَالْقَائِدِ وَالسَّائِقِ:

قَالَ ابْنُ أَبِي زَيْدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ وَالسَّائِقُ وَالْقَائِدٌ وَالرَّاكِبُ ضَامِنُونَ لِمَا وَطِئَتْ الدَّابَّةُ وَمَا كَانَ مِنْهَا مِنْ غَيْرِ فِعْلِهِمْ أَوْ هِيَ وَاقِفَةٌ لِغَيْرِ شَيْءٍ فَذَلِكَ هَدَرٌ، فَقَوْلُهُ ضَامِنُونَ أَيْ: كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ ضَامِنٌ فِيهَا تَعَدَّى فِيهِ، قَالَ عَبْدُ الْحَقِّ: وَهَذَا لِأَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَى ضَبْطِهَا وَإِمْسَاكِهَا، وَإِذَا كَانَ مَعَ الدَّابَّةِ رَاكِبٌ وَقَائِدٌ فَمَا وَطِئَتْ الدَّابَّةُ، فَعَلَى الْقَائِدِ إلَّا أَنْ يَكُونَ فِعْلُهَا مِنْ سَبَبِ الرَّاكِبِ، فَإِنْ اجْتَمَعَ سَائِقٌ وَقَائِدٌ وَرَاكِبٌ فَوَطِئَتْ الدَّابَّةُ بِيَدِهَا أَوْ رِجْلِهَا رَجُلًا فَقَتَلَتْهُ، فَعَلَى الْقَائِدِ وَالسَّائِقِ إلَّا أَنْ يَكُونَ فَعَلَهَا بِسَبَبِ الرَّاكِبِ فَذَلِكَ عَلَيْهِ.
وَقَالَ أَشْهَبُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ ثُلُثُ الدِّيَةِ: قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ: يُرِيدُ لَعَلَّ الرَّاكِبَ شَارَكَهُمَا فِي ذَلِكَ، قَالَ ابْنُ يُونُسَ: لَيْسَ هُوَ ظَاهِرُ الْكِتَابِ بَلْ الظَّاهِرُ خِلَافُهُ إلَّا أَنْ يَكُونَ رَدَّهُ إلَى الْمَشْهُورِ.
قَالَ الْجُزُولِيُّ قَالَ عَبْدُ الْحَقِّ: قَوْلُهُ فِي الرِّسَالَةِ وَمَا كَانَ مِنْهَا مِنْ غَيْرِ فِعْلِهِمْ، يَعْنِي وَمَنْ كَانَ مِنْ غَيْرِ تَفْرِيطٍ مِنْهُمْ أَوْ عَنْ غَلَبَةٍ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِمْ فِيهِ، لِأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ مِنْ قِبَلِ تَفْرِيطٍ وَلَا إهْمَالٍ وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ جِهَتِهَا.
فرع:
وَلَا يَضْمَنُ الْأَوَّلُ مَا رَمَحَتْ إلَّا أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مِنْ شَيْءٍ فَعَلَهُ بِهَا، وَيَضْمَنُ مَا وَطِئَتْ بِيَدِهَا وَرِجْلِهَا؛ لِأَنَّهُ يُسَيِّرُهَا، وَإِنْ رَمَحَتْ مِنْ غَيْرِ تَسَبُّبِ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِمَا.
فرع:
وَإِنْ أَصَابَتْ بِفَمِهَا فَرَآهَا وَلَمْ يَمْنَعْهَا أَوْ كَانَ ذَلِكَ شَأْنَهَا وَلَمْ يَحْفَظْ فَمَهَا بِمَا يَمْنَعُهَا ضَمِنَ، وَإِنْ لَمْ يَرَهَا حِينَ أَصَابَتْ بِفَمِهَا وَلَا كَانَ ذَلِكَ شَأْنَهَا وَلَا فَعَلَ بِهَا مَا أَوْجَبَ ذَلِكَ لَمْ يَضْمَنْ، وَإِذَا لَمْ يَعْلَمْ هَلْ كَانَ هُنَاكَ مَا يُوجِبُ ضَمَانَهُ؟ كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ، وَيُحْمَلُ الْأَمْرُ عَلَى أَنَّهُ جِنَايَةٌ مِنْهَا حَتَّى يُعْلَمَ غَيْرُهُ قَالَهُ. اللَّخْمِيُّ.
فرع:
وَلَوْ نَهَرَهَا بِمُفْرَدِهَا أَوْ صَاحَ عَلَيْهَا فَضَرَبَتْ أَوْ كَدَمَتْ ضَمِنَ، لِأَنَّ الْجِنَايَةَ حِينَئِذٍ لَيْسَتْ لِلْعَجْمَاءِ إنَّمَا هِيَ جِنَايَةُ قَائِدِهَا أَوْ سَائِقِهَا أَوْ رَاكِبِهَا، قَالَ الْبَرْنِيُّ فِي شَرْحِ الْمُوَطَّأِ لِأَنَّهُ هُوَ أَوْطَأَهَا، وَقَدْ ضَمَّنَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ الَّذِي أَجْرَى فَرَسَهُ عَقْلًا عَلَى مَا أَصَابَ الْفَرَسُ وَالْقَائِدُ وَالرَّاكِبُ وَالسَّائِقُ، أَحْرَى مِنْ الَّذِي أَجْرَى فَرَسَهُ كَذَلِكَ قَالَهُ مَالِكٌ.
فرع:
وَإِذَا كَانَ رَجُلَانِ مُرْتَدِفَيْنِ عَلَى دَابَّةٍ فَوَطِئَتْ رَجُلًا بِيَدِهَا أَوْ بِرِجْلِهَا فَقَتَلَتْهُ، فَأَرَاهُ عَلَى الْمُقَدَّمِ إلَّا أَنْ يُعْلَمَ أَنَّ الْمُؤَخَّرَ حَرَّكَهَا أَوْ ضَرَبَهَا فَيَكُونُ عَلَيْهِمَا، لِأَنَّ الْمُقَدَّمَ بِيَدِهِ لِجَامُهَا، أَوْ يَأْتِي مِنْ فِعْلِهَا أَمْرٌ يَكُونُ الْمُقَدَّمُ لَا يَقْدِرُ عَلَى دَفْعِهِ، مِثْلَ أَنْ يَضْرِبَهَا الْمُؤَخِّرُ فَتَرْمَحُ فَتَقْتُلُ رَجُلًا، فَهَذَا وَشَبَهُهُ عَلَى عَاقِلَةِ الْمُؤَخَّرِ خَاصَّةً، فَلَوْ كَانَ الْمُقَدَّمُ صَبِيًّا قَدْ ضَبَطَ الرُّكُوبَ فَهُوَ كَالرَّجُلِ، قَالَ سَحْنُونٌ: وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ قَبْضٌ وَلَا بَسْطٌ فَهُوَ كَالْمَتَاعِ الْمَحْمُولِ، وَمَا كَانَ مِنْ ذَلِكَ فَهُوَ عَلَى الْمُؤَخَّرِ.
وَفِي التَّذْكِرَةِ قَالَ مُحَمَّدٌ: وَلَوْ كَانَ هَذَا الصَّغِيرُ الَّذِي لَمْ يَضْبِطْ وَحْدَهُ، أَوْ كَانَ عَلَيْهَا نَائِمٌ أَوْ مَرِيضٌ فَوَطِئَتْ أَحَدًا فَذَلِكَ عَلَيْهِ، إلَّا أَنْ يَكُونَ مَعَهَا قَائِدٌ أَوْ سَائِقٌ فَيَكُونُ عَلَيْهِ لِأَنَّ الرَّاكِبَ كَالْمَتَاعِ.
فرع:
هَذَا حُكْمُ الْمُرْتَدِفَيْنِ وَأَمَّا إنْ كَانَا مُتَزَامِلَيْنِ فِي مَحْمَلٍ وَلَا يَقُودُهَا أَحَدٌ فَهُمَا ضَامِنَانِ بِخِلَافِ الْمُرْتَدِفَيْنِ.
فرع:
قَالَ الْبَرْنِيُّ: إذَا كَانَ الرَّاكِبُ لَيْسَ بِيَدِهِ عَنَانُهَا فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ، وَالضَّمَانُ عَلَى الْقَائِدِ وَالسَّائِقِ؛ لِأَنَّ الرَّاكِبَ عِنْدَ ذَلِكَ كَعَدْلٍ عَلَى ظَهْرِهَا.
فرع:
فَلَوْ كَانَ عَلَى الدَّابَّةِ صَبِيٌّ فَجَمَحَتْ بِهِ وَهُوَ لَا يُمْسِكُ حَبْسَهَا فَهُوَ ضَامِنٌ فِي مَالِهِ دُونَ الثُّلُثِ، وَمَا بَلَغَ الثُّلُثَ فَهُوَ عَلَى عَاقِلَتِهِ.
فرع:
وَلَوْ وَقَعَ الذُّبَابُ عَلَى الدَّابَّةِ فَنَفَحَتْ إنْسَانًا لَمْ يَكُنْ عَلَى رَاكِبِهَا شَيْءٌ.
فرع:
وَلَوْ انْفَلَتَتْ دَابَّتُهُ فَنَادَى رَجُلًا لِيَحْبِسَهَا فَذَهَبَ لِيَحْبِسَهَا فَقَتَلَتْهُ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ، وَهَذَا مِنْ الْعَجْمَاءِ جَبَّارٌ، قَالَ مُحَمَّدٌ: إلَّا أَنْ يَكُونَ الْمُنَادِي عَبْدًا لِغَيْرِهِ أَوْ حُرًّا صَغِيرًا، فَإِنَّ الصَّبِيَّ عَلَى عَاقِلَةِ الَّذِي نَادَاهُ، وَقِيمَةُ الْعَبْدِ فِي مَالِهِ.
فرع:
قَالَ أَشْهَبُ: فِيمَنْ رَكِبَ دَابَّةً فَطَارَتْ مِنْ تَحْتِ يَدِهَا حَصَاةٌ فَفَقَأَتْ عَيْنَ رَجُلٍ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ، قَالَ مُحَمَّدٌ إلَّا أَنْ تَكُونَ الدَّابَّةُ دَفَعَتْهَا بِحَافِرِهَا فَضَرَبَهَا حِينَ انْدَفَعَتْ فَفِيهَا الدِّيَةُ، وَأَمَّا إذَا طَارَتْ مِنْ تَحْتِ الْحَافِرِ مِنْ غَيْرِ دَفْعٍ فَلَا شَيْءَ فِيهَا مِنْ ابْنِ يُونُسَ.
فرع:
وَمَنْ قَادَ قِطَارًا فَهُوَ ضَامِنٌ لِمَا وَطِئَ الْبَعِيرُ فِي أَوَّل الْقِطَارِ أَوْ آخِرِهِ، لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُ الْجِمَالَ، قَالَ اللَّخْمِيُّ: فَإِنْ كَانَ مَعَهُ سَائِقٌ كَانَا شَرِيكَيْنِ فِيمَا وَطِئَ الْآخَرُ خَاصَّةً، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا لَوْ نَفَحَتْ دَابَّةٌ مِنْ الْقِطَارِ رَجُلًا فَأَعْطَبَتْهُ لَمْ يَضْمَنْ الْقَائِدُ ذَلِكَ إلَّا أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مِنْ شَيْءٍ فَعَلَهُ بِهَا.
فرع:
وَمَنْ قَادَ دَابَّةً فَمَرَّتْ بِهِ جَارِيَةٌ فَصَاحَ بِهَا إيَّاكَ إيَّاكَ، فَوَطِئَتْهَا الدَّابَّةُ فَقَطَعَتْ أُنْمُلَتَهَا فَعَلَيْهِ الْغُرْمُ قَالَهُ ابْنُ يُونُسَ.
وَفِي الطُّرَرِ: قَالَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: إذَا قَالَ إيَّاكَ وَأَسْمَعَ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ.
فرع:
وَفِي مُخْتَصَرِ الْوَاضِحَةِ قَالَ مُطَرِّفٌ وَابْنُ الْمَاجِشُونِ: مَا أَصَابَ الْفَلُوُّ وَهُوَ يَتْبَعُ أُمَّهُ رُمْحًا أَوْ وَطْئًا فَهُوَ هَدَرٌ، وَلَيْسَ عَلَى رَاكِبِهَا مِنْهُ شَيْءٌ وَلَا عَلَى قَائِدِهَا وَلَا سَائِقِهَا وَفِي الطُّرَرِ وَقَالَ أَصْبَغُ عَنْ ابْنِ الْقَاسِمِ وَقَالَ اللَّخْمِيُّ: يَضْمَنُ الْقَائِدُ لِأُمِّهِ.
فرع:
قَالَ ابْن الْمَوَّازِ: وَلَوْ انْفَلَتَتْ دَابَّةٌ مِنْ رَجُلٍ فَنَادَى بِآخَرَ لِيَحْبِسَهَا لَهُ فَلَمْ يَرْضَ، أَنْ يَعْتَرِضَ لِإِمْسَاكِهَا حَتَّى صَدْمَته فَقَتَلَتْهُ، لَنَظَرْت فَإِنْ كَانَتْ أَفْلَتَتْ مِنْ يَدِ رَجُلٍ لَزِمَتْ الدِّيَةَ عَاقِلَتُهُ، وَإِنْ كَانَتْ أَفْلَتَتْ مِنْ قُيُودِهَا فَهُوَ جَبَّارٌ، وَقَدْ سَمِعَتْ أَصْبَغَ وَنَزَلَتْ فِي رَجُلٍ دَابَّةٌ مَعَهُ لِمَرْعَاهَا، فَجَذَبَتْ الرَّسَنَ مِنْ يَدِهِ وَجَرَتْ فَصَدَمَتْ إنْسَانًا فَقَتَلَتْهُ، أَنَّ عَلَى عَاقِلَتِهِ الدِّيَةَ مِثْلَ مَا لَوْ كَانَ رَاكِبًا فَغَلَبَتْهُ وَصَدَمَتْ بِهِ رَجُلًا.
فرع:
وَلَوْ نَخَسَ رَجُلٌ أَجْنَبِيٌّ دَابَّةً مَعَهَا رَاكِبٌ أَوْ قَائِدٌ أَوْ سَائِقٌ، فَمَا نَشَأَ عَنْهَا فَعَلَى النَّاخِسِ دُونَ الثَّلَاثَةِ، فَإِنْ مَاتَ أَحَدٌ مِنْ فِعْلِهَا فَهُوَ عَلَى عَاقِلَةِ النَّاخِسِ.
فرع:
وَفِي الْإِشْرَافِ مِنْ هَذَا الْمَعْنَى أَنَّ الْهَارِبَ الْخَائِفَ إذَا وَطِئَ أَوْ صَدَمَ، شَيْئًا فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ، وَذَلِكَ عَلَى الَّذِي فَعَلَ بِهِ ذَلِكَ مِنْ الطُّرَرِ لِأَبِي إبْرَاهِيمَ.

.فَصْلٌ فِي ضَمَانِ مَا أَفْسَدَتْ الْمَوَاشِي:

وَمَا أَفْسَدَتْ الْبَهَائِمُ فِي الزَّرْعِ نَهَارًا فَلَا ضَمَانَ عَلَى أَرْبَابِ الْمَوَاشِي، وَأَمَّا بِاللَّيْلِ فَالضَّمَانُ عَلَيْهِمْ، وَالْقَوْلُ بِنَفْيِ الضَّمَانِ فِيمَا أَفْسَدَتْهُ نَهَارًا مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّ الْمَوَاشِيَ مَعَهَا رَاعٍ، وَأَمَّا إنْ أَهْمَلَهَا أَهْلُهَا فَهُمْ ضَامِنُونَ.
تنبيه:
وَإِذَا سَقَطَ الضَّمَانُ عَلَى أَرْبَابِ الْمَوَاشِي فِيمَا رَعَتْهُ نَهَارًا، فَضَمَانُ ذَلِكَ عَلَى الرَّاعِي إنْ فَرَّطَ.
وَفِي مَعِينِ الْحُكَّامِ: إنَّمَا سَقَطَ عَنْ رَبِّ الْمَاشِيَةِ ضَمَانُ مَا أَفْسَدَتْهُ مَاشِيَتُهُ نَهَارًا مِنْ الزَّرْعِ وَالْحَوَائِطِ إذَا أَخْرَجَ مَاشِيَتَهُ عَنْ جُمْلَةِ الزَّرْعِ وَالْحَوَائِطِ بِقَائِدٍ يَقُودُهَا إلَى رَعْيِهَا وَأَمَّا إنْ أَهْمَلُوهَا بَيْنَ الزَّرْعِ وَالْحَوَائِطِ دُونَ رَاعٍ، أَوْ مَعَ رَاعٍ يُضَيِّعُ أَوْ يُفَرِّطُ فَرَبُّهَا ضَامِنٌ لِمَا أَفْسَدَتْهُ، وَيَضْمَنُ الرَّاعِي الْمُفَرِّطُ إلَّا أَنْ يَشِذَّ مِنْهَا شَيْءٌ بِلَا تَفْرِيطٍ فَلَا ضَمَانَ، وَاعْلَمْ أَنَّ سُقُوطَ الضَّمَانِ فِيمَا رَعَتْهُ الْبَهَائِمُ نَهَارًا، إنَّمَا هُوَ فِي الْمَوَاضِعِ الَّتِي تَغَيَّبَ أَهْلُهَا عَنْهَا، وَأَمَّا إنْ كَانَ الْجِنَانُ مُهْمَلًا لَا يَأْتِيهِ أَرْبَابُهُ إلَّا فِي أَيَّامِ الْجُذَاذِ، فَإِنَّ الضَّمَانَ لَازِمٌ فِيمَا رَعَتْهُ نَهَارًا، قَالَهُ أَبُو مُحَمَّدٍ مِنْ الْفَتَاوَى الْمَجْمُوعَةِ.
مَسْأَلَةٌ:
قَالَ ابْنُ رَاشِدٍ: وَسَأَلْت بَعْضَ الْفُقَهَاءِ عَنْ أُجَرَاءِ الْقَرْيَةِ، يَرْعَوْنَ بَقَرَهَا عَلَى الدَّوْلَةِ بِاللَّيْلِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ لَيْلَةً، فَطَرَقَتْ الْبَقَرُ زَرْعَ إنْسَانٍ فَأَفْسَدَتْهُ عَلَى مَنْ الْغُرْمُ، قَالَ: إنْ فَرَّطَ الرَّاعِي وَغَفَلَ فَالْغُرْمُ عَلَيْهِ، وَإِنْ سَبَقَتْهُ وَقَهَرَتْهُ وَعُلِمَ ذَلِكَ فَالْغُرْمُ عَلَى أَرْبَابِهَا.
مَسْأَلَةٌ:
وَفِي مُخْتَصَرِ الْوَاضِحَةِ: قَالَ ابْنُ مُزَيْنٍ سَمِعْت أَصْبَغَ يَقُولُ: وَسَأَلْتُهُ عَنْ الزَّرْعِ إذَا كَانَ مُحِيطًا بِالْقَرْيَةِ مُتَّصِلًا بِهَا، لَا يَسْلَمُ عَنْ الْمَاشِيَةِ، إذَا أَخْرَجَهَا صَاحِبُهَا وَخَلَّاهَا، مِنْ غَيْرِ رَاعٍ يَحْرُسُهَا، قَالَ: صَاحِبُهَا يُؤْمَرُ أَنْ يُخْرِجَ مَعَهَا رَاعِيًا أَوْ رِعَاءً يَحْرُسُونَهَا وَيَمْنَعُونَهَا أَنْ تُؤْذِيَ أَحَدًا، وَيَمُرُّوا بِهَا عَلَى الطَّرِيقِ الَّتِي يَتَحَفَّظُ أَهْلُهَا مِنْ أَذَى الزَّرْعِ الَّذِي يَلِيهَا فَإِذَا أَخْرَجُوهَا مِنْ مَزَارِعِ الْقَرْيَةِ إلَى فُحُوصِهَا وَلَا زَرْعَ فِيهِ مِنْهَا، تُرِكَتْ الْمَاشِيَةُ هُنَالِكَ بِغَيْرِ رَاعٍ، فَإِنْ نَزَعَ مِنْهَا شَيْءٌ إلَى الزَّرْعِ وَاعْتَادَ ذَلِكَ، كَانَتْ مِثْلَ الضَّوَارِي فِي الْمَاشِيَةِ تَغْرُبُ إلَى أَرْضٍ لَا زَرْعَ فِيهَا، قَالَ فَضْلٌ: وَأَمَّا لَوْ فَتَحَ رَجُلٌ بَابَهُ وَسَرَّحَ دَابَّتَهُ بِلَا حَارِسٍ فَالضَّمَانُ عَلَى مِثْلِ هَذَا، وَالْغُرْمُ لَهُ لَازِمٌ وَلَوْ أُدِّبَ لَكَانَ لِذَلِكَ أَهْلًا.

.فَصْلٌ النَّحْلِ يَتَّخِذُهَا الرَّجُلُ وَهِيَ تَضُرُّ بِشَجَرِ النَّاسِ:

فَصْلٌ: وَسُئِلَ مُطَرِّفٌ عَنْ النَّحْلِ يَتَّخِذُهَا الرَّجُلُ وَهِيَ تَضُرُّ بِشَجَرِ النَّاسِ إذَا نَوَّرَتْ، أَوْ يَتَّخِذُ بُرْجًا فِي الْقَرْيَةِ لِلْعَصَافِيرِ لِيُصِيبَ مِنْ فِرَاخِهَا، فَقَالَ: أَرَى أَنْ يُمْنَعَ مِنْ اتِّخَاذِ مَا يَضُرُّ بِالنَّاسِ فِي زَرْعِهِمْ وَشَجَرِهِمْ.
وَقَالَ أَشْهَبُ: النَّحْلُ وَالْحَمَامُ وَالدَّجَاجُ وَالْإِوَزُّ كَالْمَاشِيَةِ لَا يُمْنَعُ مِنْ اتِّخَاذِهِ وَإِنْ أَضَرَّتْ وَعَلَى أَهْلِ الْقَرْيَةِ حِفْظُ زَرْعِهِمْ وَقَالَهُ ابْنُ الْقَاسِمِ.

.فَصْلٌ فِي دَفْع الصَّائِلِ:

فَصْلٌ: وَيَجُوزُ دَفْعُ الصَّائِلِ عَنْ النَّفْسِ وَالْأَهْلِ وَالْمَالِ، كَانَ الصَّائِلُ مُكَلَّفًا أَوْ صَبِيًّا أَوْ مَجْنُونًا أَوْ بَهِيمَةً، قَالَ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ: يَجُوزُ دَفْعُهُ عَنْ كُلِّ نَفْسٍ مَعْصُومَةٍ كَانَتْ مِنْ الْمُسْلِمِينَ أَوْ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ، وَيَدْخُلُ فِي ذَلِكَ الْجَمَلُ الصَّئُولُ وَالْكَلْبُ الْعَقُورُ وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ ابْنِ الْقَاسِمِ، قَالَ: وَإِنْ قَتَلَ رَجُلٌ جَمَلًا صَئُولًا بَعْدَ التَّقَدُّمِ إلَى صَاحِبِهِ، وَذَكَرَ أَنَّهُ صَالَ عَلَيْهِ وَأَرَادَهُ فَلَا غُرْمَ عَلَيْهِ، وَيُقْبَلُ قَوْلُهُ فِي ذَلِكَ.
قَالَ ابْنُ رَاشِدٍ: يُرِيدُ مَعَ يَمِينِهِ بِغَيْرِ بَيِّنَةٍ، إذَا كَانَ بِمَوْضِعٍ لَيْسَ بِحَضْرَةِ النَّاسِ وَاخْتُلِفَ فِي التَّقَدُّمِ إلَى أَرْبَابِ الْبَهَائِمِ فِي هَذَا، هَلْ لابد فِيهِ مِنْ السُّلْطَانِ أَوْ لَا عَلَى مَا تَقَدَّمَ فِي الْجِدَارِ؟ قَالَ ابْنُ رَاشِدٍ: وَهَذَا الْخِلَافُ إنَّمَا هُوَ إذَا اتَّخَذَ حَيْثُ يَجُوزُ لَهُ اتِّخَاذُهُ، وَإِنْ اُتُّخِذَ حَيْثُ لَا يَجُوزُ لَهُ اتِّخَاذُهُ فَهُوَ ضَامِنٌ بِلَا خِلَافٍ، وَإِنْ لَمْ يَتَقَدَّمْ إلَى صَاحِبِهِ فِي ذَلِكَ.
مَسْأَلَةٌ:
وَفِي الزِّيَادَاتِ الْمُلْحَقَةِ بِمَعِينِ الْحُكَّامِ: أَنَّ الْعَبِيدَ إذَا تَقَدَّمَ إلَى سَادَتِهِمْ فِي ضَرَرِهِمْ، لَيْسُوا كَالْحَائِطِ الْمَائِلِ وَالْبَعِيرِ وَلَا شَيْءَ عَلَى سَادَتِهِمْ.
مَسْأَلَةٌ:
قَالَ ابْنُ رَاشِدٍ قَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ: وَلَا يَقْصِدُ قَتْلَ الصَّائِلِ ابْتِدَاءً، وَإِنَّمَا يَنْبَغِي أَنْ يَقْصِدَ الدَّفْعَ، فَإِنْ أَدَّى إلَى الْقَتْلِ فَلَا ضَمَانَ إلَّا أَنْ يَعْلَمَ أَنَّهُ لَا يَنْدَفِعُ إلَّا بِالْقَتْلِ، فَجَائِزٌ أَنْ يَقْصِدَ قَتْلَهُ ابْتِدَاءً، وَلَوْ قَدَرَ الْمَصُولُ عَلَيْهِ عَلَى الْهُرُوبِ مِنْ غَيْرِ مَضَرَّةٍ تَلْحَقُهُ تَعَيَّنَ وَلَمْ يَجُزْ لَهُ الدَّفْعُ بِالْجُرْحِ، وَإِلَّا فَلَهُ الدَّفْعُ بِمَا قَدَرَ عَلَيْهِ.
فرع:
وَمَذْهَبُ أَشْهَبَ فِي الْجَمَلِ الصَّئُولِ وَالْكَلْبِ الْعَقُورِ، أَنَّهُ لَا ضَمَانَ عَلَى صَاحِبِهِمَا بِحَالٍ وَإِنْ تَقَدَّمَ إلَيْهِ، ذَكَرَهُ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ.
فَصْلٌ: وَلَوْ عَضَّ رَجُلٌ يَدَ رَجُلٍ فَسَلَّ يَدَهُ مِنْ فِيهِ فَسَقَطَتْ أَسْنَانَهُ، فَالْمَشْهُورُ أَنَّهُ يَضْمَنُ أَسْنَانَهُ لِأَنَّهُ مُبَاشِرٌ، وَقِيلَ لَا يَضْمَنُ، لِأَنَّ صَاحِبَ الْيَدِ تَسَبَّبَ فِي ذَلِكَ وَسَلَّطَهُ عَلَى نَفْسِهِ.
فَصْلٌ: وَلَوْ نَظَرَ مِنْ كُوَّةٍ أَوْ مِنْ بَابٍ فَفَقَأَ عَيْنَهُ صَاحِبُ الدَّارِ ضَمِنَ، لِأَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى زَجْرِهِ وَدَفْعِهِ بِالْأَخَفِّ، وَلَوْ قَصَدَ زَجْرَهُ بِذَلِكَ فَأَصَابَ عَيْنَهُ وَلَمْ يَقْصِدْ فَقْأَهَا فَفِي ضَمَانِهِ خِلَافٌ.

.الْفَصْلُ الثَّالِثَ عَشْرَ فِي نَفْيِ الضَّرَرِ وَسَدِّ الذَّرَائِعِ:

ثَبَتَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ».
وَقَالَ الْبَاجِيُّ فِي الْمُنْتَقَى: يَحْتَمِلُ أَنْ يُرِيدَ بِقَوْلِهِ لَا ضَرَرَ: أَيْ لَا ضَرَرَ عَلَى أَحَدٍ، بِمَعْنَى: أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ الصَّبْرُ عَلَيْهِ وَلَا يَجُوزُ لَهُ إضْرَارٌ بِغَيْرِهِ.
وَقَالَ غَيْرُهُ الضِّرَارُ أَنْ تَضُرَّ نَفْسَك لِتَضُرَّ بِذَلِكَ غَيْرَك، فَإِذَا مَنَعَ هَذَا فَكَيْفَ بِمَنْ يُصْلِحُ مَالَ نَفْسِهِ بِإِفْسَادِهِ مَالَ غَيْرِهِ؟ وَقَالَ الْمُتَيْطِيُّ: وَيُحْتَمَلُ عِنْدِي أَنْ يَكُونَ مَعْنَى الضَّرَرِ أَنْ يَضُرَّ أَحَدُ الْجَارَيْنِ بِجَارِهِ، وَالضِّرَارُ أَنْ يَضُرَّ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِصَاحِبِهِ، لِأَنَّ هَذَا الْبِنَاءُ يُسْتَعْمَلُ كَثِيرًا بِمَعْنَى الْمُفَاعَلَةِ فِي الْقَتْلِ وَالضِّرَارِ وَالسِّبَابِ وَالْجَلَّادِ وَكَذَلِكَ الضِّرَارُ، فَنَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَعْتَمِدَ أَحَدُهُمَا الْإِضْرَارَ بِصَاحِبِهِ وَعَنْ أَنْ يَقْصِدَ ذَلِكَ جَمِيعًا.
وَقَالَ الْخُشَنِيُّ: الضَّرَرُ مَا يَنْفَعُك وَيَضُرُّ صَاحِبَك، وَالضِّرَارُ مَا يَضُرُّ صَاحِبَك وَلَا يَنْفَعُك، فَيَكُونُ الضَّرَرُ مَا قَصَدَ بِهِ الْإِنْسَانُ مَنْفَعَةَ نَفْسِهِ وَمَا كَانَ فِيهِ ضَرَرٌ عَلَى غَيْرِهِ، وَالضِّرَارُ مَا قَصَدَ بِهِ الْإِضْرَارَ بِغَيْرِهِ، قَالَ الْبَاجِيُّ: فَلَا يَنْبَغِي لِمَنْ يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يُحْدِثَ عَلَى جَارِهِ شَيْئًا يُضَرُّ بِهِ.
مَسْأَلَةٌ:
أَمَّا الضَّرَرُ؟ فَمِثْلُ مَا يُحْدِثُ الرَّجُلُ فِي عَرْصَتِهِ مِمَّا يَضُرُّ بِجِيرَانِهِ مِنْ بِنَاءِ حَمَّامٍ أَوْ فُرْنٍ لِلْخُبْزِ أَوْ لِسَبْكِ ذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ أَوْ كِيرٍ لِعَمَلِ الْحَدِيدِ، فَقَدْ قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ فِي الْمَجْمُوعَةِ: أَنَّ لَهُمْ مَنْعَهُ، وَقَالَهُ مَالِكٌ فِي الدُّخَانِ وَقَالَ: التَّنُّورُ خَفِيفٌ.
تنبيه:
قَالَ ابْنُ رَاشِدٍ: إنْ أَمْكَنَ قَطْعُ الدُّخَانِ مَعَ بَقَاءِ الْفُرْنِ قَطَعَ الضَّرَرَ، وَبِذَلِكَ قَضَى سُلَيْمَانُ بْنُ أَسْوَدَ فَجَعَلَ أُنْبُوبًا فِي أَعْلَى الْفُرْنِ يَرْتَقِي فِيهِ الدُّخَانُ وَلَا يَضُرُّ بِالْجَارِ، وَوَجْهُ الضَّرَرِ فِيمَا ذَكَرْنَاهُ هُوَ الدُّخَانُ الَّذِي يَحْصُلُ مِنْ الْفُرْنِ وَالْحَمَّامِ، فَيَدْخُلُ عَلَى الْجِيرَانِ فِي دُورِهِمْ وَيَضُرُّهُمْ، وَهُوَ مِنْ الضَّرَرِ الْكَبِيرِ الْمُسْتَدَامِ، وَمَا كَانَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ مَعَ إحْدَاثِهِ، عَلَى مَنْ يَسْتَضِرُّ بِهِ إذَا شَهِدَتْ الْبَيِّنَةُ بِأَنَّهُ مِنْ الضَّرَرِ.
مَسْأَلَةٌ:
فَإِنْ أَقَامَ الْمُحْدِثُ لِلضَّرَرِ بَيِّنَةً تَشْهَدُ أَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِضَرَرٍ، لَمْ يُلْتَفَتْ إلَى تِلْكَ الْبَيِّنَةِ، وَكَانَتْ شَهَادَةُ الَّذِينَ شَهِدُوا بِالضَّرَرِ أَحَقَّ وَأَوْلَى بِالْحُكْمِ وَعَلَيْهِ الْعَمَلُ وَبِهِ الْقَضَاءُ، وَقِيلَ: يَنْظُرُ إلَى أَعْدَلِ الْبَيِّنَتَيْنِ فَيَقْضِي بِهَا؛ لِأَنَّ الشَّهَادَةَ عَلَى الْعِيَانِ، وَلَيْسَ تَنْفُذُ شَهَادَةٌ بِالضَّرَرِ فِيمَا لَمْ يَرَهُ أَهْلُ الْعِلْمِ ضَرَرًا.
مَسْأَلَةٌ:
وَإِذَا جُهِلَ الضَّرَرُ فَلَمْ يَعْلَمْ أَقَدِيمٌ هُوَ أَمْ حَادِثٌ؟ فَهُوَ عَلَى الْقِدَمِ حَتَّى يَثْبُتَ أَنَّهُ مُحْدِثٌ، قَالَ ابْنُ هِشَامٍ فِي الْمُفِيدِ لَهُ: وَإِذَا لَمْ يُعْلَمْ الضَّرَرُ هَلْ هُوَ قَدِيمٌ أَوْ مُحْدَثٌ؟ فَهُوَ عَلَى الْحُدُوثِ حَتَّى يَثْبُتَ الْقِدَمُ وَبِهِ الْعَمَلُ.
وَقَالَ سَحْنُونٌ: هُوَ عَلَى الْقِدَمِ حَتَّى يَثْبُتَ الْحُدُوثُ وَلَيْسَ بِهِ عَمَلٌ، انْتَهَى. وَذَكَرَ ابْنُ زِيَادٍ فِي أَحْكَامِهِ وَابْنُ الْهِنْدِيِّ فِي وَثَائِقِهِ: أَنَّ ذَلِكَ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ مُحْدَثٌ حَتَّى يَثْبُتَ أَنَّهُ قَدِيمٌ وَبِهِ الْحُكْمُ.
مَسْأَلَةٌ:
وَمَنْ أَحْدَثَ عَلَيْهِ ضَرَرٌ مِنْ اطِّلَاعٍ أَوْ فَتْحِ بَابٍ أَوْ كُوَّةٍ مِنْ ذَلِكَ، وَكَذَلِكَ لَوْ أَحْدَثَ نَصْبَةً يَطْلُعُ مِنْهَا عَلَى جَارِهِ مُنِعَ وَقِيلَ: لَا يُمْنَعُ وَيُقَالُ لِجَارِهِ اُسْتُرْ عَلَى نَفْسِك قَالَهُ أَشْهَبُ، وَالْمَنْعُ قَوْلُهُ فِي الْمُدَوَّنَةِ.
فرع:
وَفِي الْمَذْهَبِ: ثُمَّ إذَا ثَبَتَ ضَرَرُ الِاطِّلَاعِ، فَقِيلَ: يُحْكَمُ بِسَدِّهَا، وَإِنْ كَانَ بَابًا فَإِنَّهُ يُغْلَقُ غَلْقًا حَصِينًا وَتُقْلَعُ مِنْهُ الْعَتَبَةُ؛ لِئَلَّا يَكُونَ حُجَّةً عِنْدَ تَقَادُمِ الزَّمَانِ، وَقَالَ ابْنُ الْمَاجِشُونِ: لَا يَلْزَمُهُ سَدُّهَا وَلَهُ أَنْ يَجْعَلَ أَمَامَ ذَلِكَ مَا يَسْتُرُهُ.
فرع:
وَإِذَا كَانَتْ الْكُوَّةُ قَدِيمَةً أَوْ الْبَابُ قَدِيمًا، فَلَيْسَ لَهُ قِيَامٌ فِي سَدِّهِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِصَاحِبِهِ فِيهِ مَنْفَعَةٌ، فِي الطُّرَرِ: حَكَى ابْنُ يُونُسَ قَوْلًا عَنْ بَعْضِ الشُّيُوخِ فِي الْكُوَّةِ الْقَدِيمَةِ أَنَّهَا تُسَدُّ، وَأَنَّ ذَلِكَ حَقٌّ لِلَّهِ تَعَالَى لَا يَحِلُّ الْكَشْفُ عَلَى أَحَدٍ، اُنْظُرْ فِي كِتَابِ حَرِيمِ الْبِئْرِ مِنْ ابْنِ يُونُسَ.
وَإِذَا قُلْنَا: إنَّهُ لَا يَلْزَمُ سَدُّهَا وَهُوَ الْمَشْهُورُ، فَلَيْسَ لِصَاحِبِ الْكُوَّةِ قِيَامٌ عَلَيْهِ إنْ بَنَى دَارِهِ وَعَلَّاهَا فِي مُقَابِلِ تِلْكَ الْكُوَّةِ، حَتَّى يَتَقَطَّعَ دُخُولُ الضِّيَاءِ عَلَيْهِ وَنَحْوَهُ لِمَالِكٍ فِي الْعُتْبِيَّةِ.
وَفِي الْكَافِي لِأَبِي عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْبَرِّ: إلَّا أَنْ تَكُونَ تِلْكَ الْكُوَّةُ لِلضَّوْءِ فَأَلْصَقَ جَارَهُ الْبِنَاءَ بِبِنَائِهِ، فَإِنَّهُ يُمْنَعُ مِنْ ذَلِكَ إلَّا أَنْ يَعْمَلَ فِي جِدَارِهِ كُوَّةً فِي قَدْرِهَا وَبِإِزَائِهَا، تُؤَدِّي إلَيْهِ مِنْ الضَّوْءِ مَا كَانَ يَصِلُ إلَيْهِ مِنْ كُوَّتِهِ فَذَلِكَ لَهُ.
فرع:
وَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَفْتَحَ كُوَّةً لِلضَّوْءِ وَالرِّيَاحِ، وَكَانَتْ السِّكَّةُ غَيْرَ نَافِذَةٍ لَمْ يُمْنَعْ وَلْتَكُنْ حَيْثُ لَا يَطْلُعُ مِنْهَا.
فرع:
وَفِي وَثَائِقِ ابْنِ الْهِنْدِيِّ: وَإِنْ كَانَ لِرَجُلٍ كُوَّةٌ قَدِيمَةٌ يُشْرِفُ مِنْهَا عَلَى جَارِهِ، فَلَا قِيَامَ لِجَارِهِ فِيهَا، وَيَجِبُ التَّحَفُّظُ فِي الدَّيْنِ أَنْ يَتَطَوَّعَ بِغَلْقِهَا مِنْ جِهَةِ الِاطِّلَاعِ عَلَى الْعَوْرَاتِ، وَأَنْ يَكُونَ التَّحَفُّظُ بِالدَّيْنِ أَوْكَدَ مِنْ حُكْمِ السُّلْطَانِ.
فرع:
وَإِنْ أَحْدَثَ عَلَى جَارِهِ كُوَّةً لِلضِّيَاءِ فَقَامَ جَارُهُ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ فَإِنَّهُ يَنْظُرُ أَهْلَ الْبَصَرِ إلَيْهَا، فَإِنْ كَانَ فِيهِ ضَرَرٌ بِجَارِهِ مُنِعَ وَأُغْلِقَ، وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ أَمَرَ بِوَضْعِ سَرِيرٍ مِنْ نَاحِيَةِ بَيْتِ الْمُحْدِثِ لِلْكُوَّةِ أَنْ يَقِفَ عَلَى السَّرِيرِ وَاقِفٌ، فَإِنْ اطَّلَعَ عَلَى دَارِ جَارِهِ مُنِعَ مِنْ ذَلِكَ وَأُغْلِقَتْ، وَإِلَّا لَمْ تُغْلَقْ وَالْعَمَلُ عَلَى قَوْلِ مَالِكٍ.
تنبيه:
وَفِي وَثَائِقِ الْجَزِيرِيِّ أَنَّ الْمُرَادَ بِالسَّرِيرِ الْفِرَاشُ، وَفِي مَعِينِ الْحُكَّامِ عَنْ بَعْضِ الْمُوَثِّقِينَ مِثْلُ ذَلِكَ، وَقِيلَ: هُوَ السِّلْمُ وَكِلَاهُمَا بَعِيدٌ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ السَّرِيرُ الَّذِي يَنَامُ عَلَيْهِ، وَهُوَ مِنْ شَأْنِ النَّاسِ مِنْ زَمَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَسْأَلَةٌ:
وَفِي الْمُتَيْطِيَّةِ: وَكُلُّ مَا كَانَ مِنْ الِاطِّلَاعِ لَا يَصِلُ إلَيْهِ الْمُطَّلِعُ إلَّا بِكُلْفَةٍ وَمُؤْنَةٍ، وَقَصَدَ إلَى الِاطِّلَاعِ بِتَكَلُّفِ صُعُودٍ لَا يَتَمَكَّنُ إلَّا بِذَلِكَ، لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ الْمَوْضِعُ الَّذِي يَطَّلِعُ مِنْهُ مِنْ الضَّرَرِ الَّذِي يُزَالُ، وَقِيلَ لِلَّذِي يَشْكُو الِاطِّلَاعَ اُسْتُرْ عَلَى نَفْسِك، فَإِنْ أَثْبَتَ عَلَيْهِ أَنَّهُ اطَّلَعَ عَلَيْهِ بِقَصْدٍ إلَى ذَلِكَ، كَانَ حَقًّا عَلَى الْإِمَامِ أَنْ يُؤَدِّبَهُ عَلَى ذَلِكَ وَيَزْجُرَهُ حَتَّى لَا يَعُودَ.
مَسْأَلَةٌ:
وَقَدْ أَفْتَى بَعْضُ الشُّيُوخِ فِيمَنْ فَتَحَ فِي نَصْبَةٍ لَهُ بَابًا، لَا يَطْلُعُ مِنْهُ عَلَى دَارِ جَارِهِ إلَّا أَنْ يُخْرِجَ رَأْسَهُ مِنْ الْبَابِ، أَنْ يَجْعَلَ عَلَى الْبَابِ شَرِيجِيًّا وَثِيقًا يَمْتَنِعُ أَنْ يُخْرِجَ أَحَدٌ مِنْهُ رَأْسَهُ لِيَطَّلِعَ، وَهُوَ حَسَنٌ مِنْ الْفَتْوَى.
مَسْأَلَةٌ:
إذَا لَمْ تَقْطَعْ الْبَيِّنَةُ بِأَنَّ الضَّرَرَ مُحْدَثٌ، إلَّا أَنَّهُمْ قَالُوا: رَأَيْنَا شَيْئًا يَدُلُّ عَلَى الْحُدُوثِ، وَهُوَ ضَرَرٌ حَلَفَ الْقَائِمُ أَنَّهُ مُحْدَثٌ وَأُزِيلَ عَنْهُ الضَّرَرُ إلَّا أَنْ تَقُومَ بَيِّنَةٌ بِالْقِدَمِ مِنْ وَثَائِقِ الْجَزِيرِيِّ وَغَيْرِهِ.
مَسْأَلَةٌ:
وَمَنْ أَحْدَثَ عَلَيْهِ ضَرْبٌ مِنْ اطِّلَاعٍ أَوْ خُرُوجِ مَاءٍ مِنْ مِرْحَاضٍ قُرْبَ جِدَارِ دَارِهِ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْإِحْدَاثَاتِ الْمُضِرَّةِ، وَعَلِمَ بِذَلِكَ وَلَمْ يُنْكِرْهُ وَلَا اعْتَرَضَ فِيهِ عَشَرَةَ أَعْوَامٍ وَنَحْوَهَا، مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ يَمْنَعُهُ مِنْ الْقِيَامِ فِيهِ، فَلَا قِيَامَ لَهُ بَعْدَ هَذِهِ الْمُدَّةِ وَهُوَ كَالِاسْتِحْقَاقِ، وَهُوَ مَذْهَبُ ابْنِ الْقَاسِمِ وَقَالَهُ وَابْنُ الْهِنْدِيِّ وَابْنُ الْعَطَّارِ.
قَالَ أَصْبَغُ لَا يَنْقَطِعُ الْقِيَامُ فِي إحْدَاثِ الضَّرَرِ إلَّا بَعْدَ عِشْرِينَ سَنَةً أَوْ نَحْوَهَا، وَجَعَلَهَا خِلَافَ الْحِيَازَةِ فِي الْأُصُولِ، وَبِالْأَوَّلِ الْقَضَاءُ إلَّا أَنْ يَكُونَ الْمُحْدَثُ عَلَيْهِ صَغِيرًا، أَوْ مُولًى عَلَيْهِ أَوْ بِكْرًا غَيْرَ مُعَنَّسَةٍ، فَلَا يَضُرُّهُمْ سُكُوتُهُمْ، وَإِنْ طَالَ ذَلِكَ وَهُمْ عَلَى حَالَتِهِمْ هَذِهِ، حَتَّى يَبْلُغَ الصَّغِيرُ وَتُعَنَّسَ الْبِكْرُ، وَيَنْطَلِقَ الْمُولَى عَلَيْهِ مِنْ الْوِلَايَةِ، ثُمَّ يَسْكُتُونَ بَعْدَ ذَلِكَ الْمُدَّةَ الْمَذْكُورَةَ عَلَى الْخِلَافِ الْمَذْكُورَةِ، عَالِمِينَ بِمَا لَهُمْ فِي ذَلِكَ مِنْ الْقِيَامِ.
فرع:
وَفِي الطُّرَرِ: وَحِيَازَةُ الضَّرَرِ عَلَى الْأَقَارِبِ وَالْأَجَانِبِ سَوَاءٌ عَلَى الْقَوْلِ بِحِيَازَتِهِ، وَلَا يُفَرِّقُ بَيْنَ الْأَقَارِبِ وَالْأَجَانِبِ.
فرع:
قَالَ ابْنُ سَهْلٍ: وَاَلَّذِي رُوِيَ عَنْ أَصْبَغَ وَأَفْتَى بِهِ بَعْضُ مَشَايِخِنَا، أَنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ بِالْعِشْرِينَ إلَّا بِمَا زَادَ، قَالَ: وَلِسَحْنُونٍ فِي مَصَبِّ مَاءٍ عَلَى دَارِ رَجُلٍ أَنَّهُ يَسْتَحِقّهُ بِالْأَرْبَعَةِ الْأَعْوَامِ، قَالَ ابْنُ أَبِي زَمَنِينَ رَأَيْت فِي مَسَائِلَ يُسْأَلُ عَنْهَا ابْنُ مُزَيْنٍ أَنَّهُ قَالَ: مَا كَانَ مِنْ الضَّرَرِ يَبْقَى عَلَى حَالَةٍ وَاحِدَةٍ لَا تَزِيدُ كَفَتْحِ الْأَبْوَابِ وَالْكُوَّةِ يَطْلُعُ مِنْهَا، وَشَبَهُهُ مِمَّا يَحْدُثُ بِمَحْضَرِ مَنْ أَحْدَثَ عَلَيْهِ، فَإِنَّ مُحْدِثَهُ يَسْتَحِقُّهُ فِي مِثْلِ مَا يَسْتَحِقُّ فِي الْحِيَازَةِ مِنْ طُولِ الزَّمَانِ، وَمَا كَانَ ضَرَرُهُ يَتَزَايَدُ كَالْكَنِيفِ فَلَا يَسْتَحِقُّهُ مُحْدِثُهُ بِطُولِ حِيَازَتِهِ.
وَإِنْ أَمْسَكَ الْمُحْدِثُ عَلَيْهِ ذَلِكَ عَنْ الْقِيَامِ فِيهِ، ثُمَّ أَرَادَ الْقِيَامَ بَعْدَ مَا مَضَى مِنْ الزَّمَانِ مَا يَكُونُ فِيهِ الْحِيَازَةُ، فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يُحَازُ بِطُولِ الزَّمَانِ وَيُقْطَعُ عَلَى الْمُسْتَضِرِّ بِهِ مَتَى قَامَ فِيهِ، وَكَذَلِكَ الدَّبَّاغُ؛ لِأَنَّهُ مِمَّنْ لَا يَبْقَى عَلَى حَالَةٍ وَاحِدَةٍ كَالْكَنِيفِ، وَإِنْ لَمْ يُزَدْ فِي حُفْرَتِهِ فِي السِّعَةِ وَالطُّولِ، فَقَدْ يُوهِنُ مَا يَلِي الْحُفْرَةَ بِكَثْرَةِ مَا اسْتَنْقَعَ فِيهَا مِنْ الْمَاءِ وَغَيْرِهِ عَامًا بَعْدَ عَامٍ، فَيَحْدُثُ عِنْدَ جَارِهِ مِنْ الْوَهَنِ، فِي جِدَارِهِ مَا لَمْ يَكُنْ حَدَثَ عَلَيْهِ قَبْلَ ذَلِكَ.
وَكَذَلِكَ كُلُّ مَا يَفْتَحُهُ الرَّجُلُ فِيمَا يَلِي دَارَ جَارِهِ كَمُسْتَنْقَعِ الْمِيَاهِ لِأَنَّ ذَلِكَ كُلَّمَا طَالَ ضَرَّ بِطُولِهِ مَنْ يُجَاوِرُهُ لِمَا يَدْخُلُ مِنْ الرُّطُوبَاتِ وَالْبَلَلِ فِي بِنَاءِ دَارِهِ.
وَكَذَلِكَ الدَّبَّاغُ لَا يَبْقَى ضَرَرُهُ عَلَى حَالَةٍ وَاحِدَةٍ، لِأَنَّ الدَّبَّاغِينَ كُلَّمَا زِيدَ فِي أَوَانِي الدَّبَّاغِ وَفِي عَمَلِهِ كَانَتْ رَوَائِحُ ذَلِكَ أَكْثَرَ وَأَضَرَّ، وَهَذَا مَا عَلِمْنَاهُ وَلَمْ نَزَلْ نَسْمَعُهُ.
مَسْأَلَةٌ:
وَفِي مَعِينِ الْحُكَّامِ قَالَ ابْنُ عَتَّابٍ: الَّذِي أَقُولُ بِهِ وَأَنْقُلُهُ مِنْ مَذْهَبِ مَالِكٍ: أَنَّ جَمِيعَ الضَّرَرِ يَجِبُ قَطْعُهُ، إلَّا مَا كَانَ مِنْ رَفْعِ بِنَاءٍ مِنْ هُبُوبِ الرِّيحِ وَضَوْءِ الشَّمْسِ وَمَا كَانَ فِي مَعْنَاهُمَا، إلَّا أَنْ يُثْبِتَ الْقَائِمُ فِي ذَلِكَ أَنَّ مُحْدِثَ ذَلِكَ أَرَادَ الضَّرَرَ بِجَارِهِ.
مَسْأَلَةٌ:
وَفِي الْمُتَيْطِيَّةِ: قَالَ ابْنُ حَبِيبٍ: وُجُوهُ الضَّرَرِ كَثِيرَةٌ، وَإِنَّمَا تَتَبَيَّنُ عِنْدَ نُزُولِ الْحُكْمِ فِيهَا، مِنْ ذَلِكَ: دُخَانُ الْحَمَّامَاتِ وَالْأَفْرِنَةِ وَغُبَارُ الْأَنْدَرِ وَنَتْنُ الدَّبَّاغِينَ إنْ لَمْ يَكُنْ يَضُرُّ لِمَنْ جَاوَرَهُ، وَإِلَّا فَاقْطَعُوهُ وَسَوَاءٌ كَانَ قَدِيمًا أَوْ مُحْدَثًا، لِأَنَّ الضَّرَرَ لَا يَسْتَحِقُّ بِالْقِدَمِ، وَإِنَّمَا حِيَازَةُ التَّقَادُمِ الَّذِي جَاءَ فِيهَا الْأَثَرُ، مَنْ حَازَ عَلَى خَصْمِهِ عَشْرَ سِنِينَ فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ مِنْهُ، فِيمَا يَحُوزُهُ النَّاسُ مِنْ أَمْوَالِ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ، مِنْ أَجْلِ أَنَّ الْحَائِزَ لِذَلِكَ يَسْتَغْنِي بِالْحِيَازَةِ عَنْ أَصْلِ وَثِيقَتِهِ الَّتِي صَارَ بِهَا إلَيْهِ ذَلِكَ مِنْ شِرَاءٍ أَوْ هِبَةٍ، وَلَا تَكُونُ الْحِيَازَةُ فِي أَفْعَالِ الضَّرَرِ حِيَازَةً، بَلْ لَا يَزِيدُ تَقَادُمُ الضَّرَرِ إلَّا ظُلْمًا وَعُدْوَانًا.
مَسْأَلَةٌ:
وَإِذَا أَحْدَثُ الْأَنْدَرُ إلَى جَانِبِ الْجِنَانِ فَأَضَرَّ بِهَا مُنِعَ مُحْدِثُهُ مِنْ ذَلِكَ، عَنْ مُطَرِّفٍ: إذَا كَانَ مُحْدِثًا، فَإِنَّهُ لَا يُمْنَعُ صَاحِبُ الْأَنْدَرِ الِانْتِفَاعَ بِأَنْدَرِهِ، لِأَنَّ صَاحِبَ الْكَرْمِ أَقْدَمُ عَلَى عِلْمٍ بِمَا يُصِيبُهُ مِنْ الضَّرَرِ.
وَفِي مُخْتَصَرِ الْوَاضِحَةِ: أَنَّهُ لَوْ كَانَتْ عَرْصَةٌ لَيْسَ فِيهَا كَرْمٌ، كَانَ لِرَبِّهَا مَنْعُ صَاحِبِ الْأَنْدَرِ مِنْ وُقُوعِ التِّبْنِ فِي أَرْضِهِ.
وَفِي وَثَائِقِ الْجَزِيرِيِّ أَنَّ إحْدَاثَ الْأَنْدَرِ جِوَارُ الدَّارِ أَوْ الْجَنَّةِ يُؤْذِي مَا تَطَايَرَ مِنْهُ عِنْدَ الذَّرِّ وَيُمْنَعُ بِاتِّفَاقٍ، وَكَذَلِكَ مَا يَضُرُّ بِالْجِدَارَاتِ مِثْلَ الْأَرْحِيَةِ وَالْكُنُفِ.
[فَصْلٌ إحْدَاث الرَّجُل إصْطَبْلٍ لِلدَّوَابِّ عِنْدَ بَابِ جَارِهِ]
فَصْلٌ: وَيُمْنَعُ الرَّجُلُ مِنْ إحْدَاثِ إصْطَبْلٍ لِلدَّوَابِّ عِنْدَ بَابِ جَارِهِ بِسَبَبِ بَوْلِهَا وَزِبْلِهَا وَحَرَكَتِهَا لَيْلًا وَنَهَارًا وَمَنْعِهَا النَّاسَ مِنْ النَّوْمِ، وَكَذَلِكَ الطَّاحُونُ وَكِيرُ الْحَدَّادِ وَشَبَهُهُ.

.فَصْلٌ لَيْسَ لِلرَّجُلِ مَنْعُ جَارِهِ مِنْ حَفْرِ بِئْرٍ فِي دَارِهِ:

فَصْلٌ: وَلَيْسَ لِلرَّجُلِ مَنْعُ جَارِهِ مِنْ حَفْرِ بِئْرٍ فِي دَارِهِ إذَا كَانَتْ الْأَرْضُ صُلْبَةً لَا تَضُرُّ بِبِئْرِهِ، وَإِنْ كَانَتْ رَخْوَةً وَخُشِيَ أَنْ يَنْشَفَ مَاءُ بِئْرِهِ مُنِعَ إذَا قَالَ ذَلِكَ أَهْلُ الْبَصَرِ، وَرَوَى سَحْنُونٌ عَنْ ابْنِ كِنَانَةَ: أَنَّ لَهُ أَنْ يَحْفِرَ، وَإِنْ أَضَرَّ بِجَارِهِ فِي بِئْرِهِ وَلَيْسَ عَلَيْهِ الْعَمَلُ.

.فَصْلٌ كَانَ لِرَجُلٍ عَرْصَةٌ وَبَنَى رَجُلٌ بِجَنْبِهَا:

فَصْلٌ: وَفِي الطُّرَرِ: وَإِنْ كَانَ لِرَجُلٍ عَرْصَةٌ وَبَنَى رَجُلٌ بِجَنْبِهَا فَلَيْسَ لَهُ مَنْعُهُ مِنْ فَتْحِ الْأَبْوَابِ وَالْكُوَى إلَيْهَا، وَإِنْ قَالَ رَبُّ الْعَرْصَةِ: أَنَا أُرِيدُ أَنْ أَبْنِيَ فِيهَا؛ لِأَنَّهُ حَقٌّ سَبَقَ إلَيْهِ، وَرَوَى ابْنُ حَبِيبٍ: أَنَّ لَهُ مَنْعَهُ مِنْ فَتْحِهَا إلَى الْعَرْصَةِ قَبْلَ الْبُنْيَانِ أَوْ بَعْدَهُ إذَا رَغَّبَ فِي بُنْيَانِهَا، لِأَنَّهُ حَقٌّ يَذُبُّ عَنْهُ مَا يَضُرُّ بِهِ إنْ شَاءَ قَالَ عِيسَى: فَإِنْ لَمْ يَمْنَعْهُ حَتَّى بَنَى ثُمَّ أَرَادَ مَنْعَهُ فَلَهُ ذَلِكَ، وَلَا يَمْنَعُهُ تَرْكُهُ أَوَّلًا مِنْ الْقِيَامِ عَلَيْهِ بِذَلِكَ، فَإِنْ أَوْقَفَهُ فَفَتَحَهَا عَلَى أَنَّهُ مَتَى شَاءَ سَدَّهَا أَجَازُوا ذَلِكَ بَيْنَهُمَا.
مَسْأَلَةٌ:
فَإِنْ بَنَى رَجُلٌ فِي مَوْضِعٍ مُشْرِفٍ يَطُلُّ مِنْهُ عَلَى دُورِ جِيرَانِهِ لَمْ يُمْنَعْ، لِأَنَّهُ كَانَ يَطْلُعُ مِنْهُ قَبْلَ ذَلِكَ، إلَّا أَنْ يَفْتَحَ فِيهِ كُوًى يُطِلُّ مِنْهَا فَلَهُمْ مَنْعُهُ.
وَفِي مُخْتَصَرِ الْوَاضِحَةِ: وَإِذَا بَنَى رَجُلٌ عَلَى شَرَفٍ يُطِلُّ مِنْهُ عَلَى ذُرْوَةِ الْقَرْيَةِ عَلَى قَدْرِ الْعُلْوَةِ وَالْعُلْوَتَيْنِ، فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ لَعَلَّهُ فَتَحَ بَابَهَا إلَى الذُّرْوَةِ، أَوْ كُوًى فَتَحَهَا وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مُنِعَ وَإِنْ كَانَ لِإِشْرَافِ مَكَانِهِ فَقَطْ لَمْ يُمْنَعْ مِنْ ذَلِكَ، وَإِنْ وَجَدَ عَنْهُ مَنْدُوحَةٌ، وَلَوْ كَانَ هَذَا الْبَانِي عَلَى الشَّرَفِ يَطُلُّ عَلَى دُورِ جِيرَانِهِ لَمْ يُمْنَعْ مِنْ ذَلِكَ، وَإِنْ وَجَدَ عَنْهُ مَنْدُوحَةً إذَا كَانَ مَوْضِعًا يُشْرِفُ مِنْهُ قَبْلَ أَنْ يَبْنِيَ فِيهِ.
مَسْأَلَةٌ:
فِي الرَّجُلِ يُرِيدُ أَنْ يَبْنِيَ بِنَاءً وَبِقُرْبِهِ أَنْدَرُ قُوِّمَ وَالْبِنَاءُ يَحْبِسُ الرِّيحَ عَنْ الْأَنْدَرِ، قَالَ ابْنُ الْمَاجِشُونِ وَمُطَرِّفٌ وَأَصْبَغُ: لَا بِمَنْعِ الْبَانِي فِي حَقِّهِ وَإِنْ كَانَ فِي بِنَائِهِ بُطْلَانُ الْأَنْدَرِ.
وَحَكَى ابْنُ عَبْدُوسٍ عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِهِ: أَنَّ الْأَنْدَرَ إذَا كَانَ قَدِيمًا مَنَعَ الْبِنَاءَ، وَسَوَاءٌ عَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ وَجَدَ مَنْدُوحَةً أَوْ لَمْ يَجِدْ عَنْ ذَلِكَ مَنْدُوحَةً.
مَسْأَلَةٌ:
وَكَذَلِكَ يُمْنَعُ مِنْ فَتْحِ كُوًى يَطَّلِعُ مِنْهَا عَلَى مَا يَطَّلِعُ غَيْرُهُ فَلَا حُجَّةَ لَهُ فِي اطِّلَاعِ غَيْرِهِ عَلَيْهِ.
مَسْأَلَةٌ:
قَالَ سَحْنُونٌ: فِي الْعُتْبِيَّةِ فِي الَّذِي يَكُونُ لَهُ الدَّارَانِ عَنْ يَمِينِ الطَّرِيقِ وَيَسَارِهِ، فَيُرِيدُ أَنْ يَرْفَعَ عَلَى السِّكَّةِ غُرْفَةً قَالَ لَهُ ذَلِكَ، وَهَذَا مِمَّا لَا يُمْنَعُ عَنْهُ أَحَدٌ أَنْ يَتَّخِذَهُ، قَالَ بَعْضُ الشُّيُوخِ وَهَذَا إذَا رَفَعَ الْبُنْيَانَ رَفْعًا يَتَجَاوَزُ رُءُوسَ الْمَارَّةِ فِيهِ مِنْ الرُّكْبَانِ، وَنَحْوَ هَذَا فِي الزَّاهِي لِابْنِ شَعْبَانَ قَالَ: وَالْأَجْنِحَةُ الشَّارِعَةُ تُرْفَعُ عَنْ رُءُوسِ الرُّكْبَانِ رَفْعًا بَيِّنًا.
مَسْأَلَةٌ:
قَالَ أَبُو عَمْرٍو مَنْ أَحْدَثَ غُرْفَةً يَطَّلِعُ مِنْهَا عَلَى أُسْطُوَانِ جَارِهِ مُنِعَ، وَسَوَاءٌ كَانَ الزُّقَاقُ نَافِذًا أَوْ غَيْرَ نَافِذٍ، وَالْأُسْطُوَانُ فِي عُرْفِ الْمَغَارِبَةِ هُوَ دِهْلِيزُ الدَّارِ فِي عُرْفِ الْمَشَارِقَةِ.

.فَصْلٌ إحْدَاثُ بِنَاءٍ يَمْنَعُ الضَّوْءَ وَالشَّمْسَ وَالرِّيحَ:

فَصْلٌ: وَأَمَّا إحْدَاثُ بِنَاءٍ يَمْنَعُ الضَّوْءَ وَالشَّمْسَ وَالرِّيحَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ، هَلْ يُمْنَعُ أَوْ لَا؟ وَفِي الْمُتَيْطِيَّةِ: لَا يُمْنَعُ، إلَّا أَنْ يَكُونَ أَظْلَمَ عَلَيْهِ، وَأَمَّا إنْ أَحْدَثَهُ ضَرَرًا لِجَارِهِ فَإِنَّهُ يُمْنَعُ مِنْهُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذَلِكَ فِي كَلَامِ ابْنِ عَتَّابٍ.

.فَصْلٌ إحْدَاثُ مَا يَنْقُصُ الْغَلَّةَ:

فَصْلٌ: وَأَمَّا إحْدَاثُ مَا يَنْقُصُ الْغَلَّةَ مِثْلَ أَنْ يُحْدِثَ فُرْنًا بِقُرْبِهِ مِنْ فُرْنِ جَارِهِ، فَهَذَا لَا يُمْنَعُ مِنْهُ اتِّفَاقًا.

.فَصْلٌ إحْدَاثُ رَحًى عَلَى نَهْرٍ فَوْقَ رَحًى قَدِيمَةٍ:

فَصْلٌ: وَأَمَّا إحْدَاثُ رَحًى عَلَى نَهْرٍ فَوْقَ رَحًى قَدِيمَةٍ تَضُرُّهَا فِي نُقْصَانِ طَحْنٍ أَوْ كَثْرَةِ مُؤْنَةٍ، أَوْ فِي غَيْرِ ذَلِكَ ضَرَرًا بَيِّنًا فَذَلِكَ مَمْنُوعٌ، قَالَهُ ابْنُ الْقَاسِمِ وَلَوْ لَمْ يَتَبَيَّنْ لِأَهْلِ الْمَعْرِفَةِ فِي ذَلِكَ ضَرَرٌ، قِيلَ لَهُ عُمَرُ فَإِنْ أَضْرَرْت مَنَعْنَاك.

.فَصْلٌ إحْدَاثُ الْمِيزَابِ لِمَاءِ الْمَطَرِ يَصُبُّ فِي دَارِ الْجَارِ:

فَصْلٌ: وَأَمَّا إحْدَاثُ الْمِيزَابِ لِمَاءِ الْمَطَرِ يَصُبُّ فِي دَارِ الْجَارِ فَذَلِكَ مَمْنُوعٌ، سَوَاءٌ أَضَرَّ بِجَارِهِ أَوْ لَمْ يَضُرَّ إلَّا أَنْ يَأْذَنَ لَهُ فِي ذَلِكَ، قَالَ ابْنُ حَبِيبٍ: فَإِنْ مَنَعَهُ جَارُهُ فَأَرَادَ أَنْ يُؤَخِّرَ جِدَارَهُ عَنْ مَوْضِعِهِ إلَى دَاخِلِ دَارِهِ، وَيَجْعَلَ مَوْضِعَ الْجِدَارِ مَجْرَى الْمَاءِ مِنْ سَطْحِهِ فِي أَرْضِهِ، قَالَ: لَيْسَ لَهُ أَنْ يُحْدِثَ عَلَى جَارِهِ شَيْئًا لَمْ يَكُنْ، وَقَالَ عِيسَى لَهُ ذَلِكَ.

.فَصْلٌ إحْدَاثُ الْبَابِ قِبَلَ بَابِ الْجَارِ:

فَصْلٌ: وَأَمَّا إحْدَاثُ الْبَابِ قِبَلَ بَابِ الْجَارِ، قَالَ فِي الْمُدَوَّنَةِ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَفْتَحَ فِي، سِكَّةٍ غَيْرِ نَافِذَةٍ بَابًا يُقَابِلُ بَابَ دَارِك أَوْ يُقَارِبُهُ، وَلَا تُحَوِّلُ بَابًا هُنَاكَ إذَا مَنَعَك، لِأَنَّهُ يَقُولُ: الْمَوْضِعُ الَّذِي تُرِيدُ أَنْ تَفْتَحَ فِيهِ مُرَافِقٌ، افْتَحْ بَابِي وَأَنَا فِي سُتْرَةٍ فَلَا أَدَعُك أَنْ تَفْتَحَ قُبَالَةَ بَابِي أَوْ قُرْبِهِ، فَتَتَّخِذُ عَلَيَّ فِيهِ الْمَجَالِسَ وَشِبْهُ ذَلِكَ مِنْ الضَّرَرِ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُحْدِثَ عَلَى جَارِهِ مَا، وَأَمَّا فِي السِّكَّةِ النَّافِذَةِ فَلَكَ أَنْ تَفْتَحَ مَا شِئْت، أَوْ تُحَوِّلُ بَابَك حَيْثُ شِئْت.
وَقَالَ سَحْنُونٌ: يُمْنَعُ مِنْ فَتْحِهِ قُبَالَةَ بَابِ جَارِهِ، وَيُنْكَبُ عَنْهُ بِقَدْرِ مَا يَرَى أَنْ يُزَالَ بِهِ الضَّرَرُ عَنْ الَّذِي قُبَالَتَهُ، وَأَمَّا غَيْرُ النَّافِذَةِ فَهِيَ مَمْلُوكَةٌ لِأَرْبَابِ الدُّورِ الَّتِي فِيهَا، فَلَا يَجُوزُ إشْرَاعٌ إلَيْهَا وَلَا فَتْحُ بَابٍ جَدِيدٍ فِيهَا إلَّا بِرِضَا الْجَمِيعِ، فَإِنْ أَذِنَ لَهُ الْبَعْضُ فَإِنْ كَانَ الَّذِينَ أَذِنُوا فِي ذَلِكَ دَاخِلَ الزُّقَاقِ وَمَمَرُّهُمْ إلَى مَنَازِلِهِمْ عَلَى الْمَوَاضِعِ الْمُحْدَثَةِ فَإِذْنُهُمْ جَائِزٌ.
وَقَالَ ابْنُ الْهِنْدِيِّ: إذَا كَانَتْ الطَّرِيقُ غَيْرَ نَافِذَةٍ فَلَيْسَ لِأَحَدٍ فَتْحُ بَابٍ فِيهَا إلَّا عَنْ رِضًا مِنْ أَهْلِ الزُّقَاقِ، وَهِيَ كَالْعَرْصَةِ الْمُشْتَرَكَةِ وَبِهِ الْقَضَاءُ وَعَلَيْهِ الْعَمَلُ، إلَّا أَنْ يَسُدَّ بَابَهُ الْقَدِيمَ وَيَفْتَحَ غَيْرَهُ فِي مَوْضِعٍ لَا يَضُرُّ بِجَارِهِ فِي مِرْبَطِ دَابَّتِهِ أَوْ إنْزَالِ أَحْمَالِهِ، فَإِنْ أَضَرَّ بِهِ مُنِعَ وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
تنبيه:
قَالَ ابْنُ رَاشِدٍ: وَظَاهِرُ هَذِهِ النُّقُولِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي ذَلِكَ ضَرَرٌ، وَالصَّحِيحُ مُرَاعَاةُ الضَّرَرِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ عَنْ الْمُدَوَّنَةِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُحْدِثَ عَلَى جَارِهِ مَا يَضُرُّهُ فَاعْتُبِرَ الضَّرَرُ.
مَسْأَلَةٌ:
وَفِي الْمُتَيْطِيَّةِ: إنْ كَانَ الزُّقَاقُ غَيْرَ نَافِذٍ وَلِرَجُلٍ فِيهِ بَابُ دَارٍ فَسَدَّهُ وَأَرَادَ أَنْ يَفْتَحَ غَيْرَهُ، إنْ كَانَ عَلَى بُعْدٍ مِنْ بَابِ جَارِهِ فَلَهُ ذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ عَلَى قُرْبٍ وَأَثْبَتَ صَاحِبُهُ الضَّرَرَ مُنِعَ.
مَسْأَلَةٌ:
وَإِذَا كَانَتْ دَارُهُ دَاخِلُهَا لِقَوْمٍ وَخَارِجُهَا لِقَوْمٍ، وَلِلدَّاخِلَةِ الْمَمَرُّ فِي الْخَارِجَةِ تَحْوِيلُ بَابِهَا إلَى مَوْضِعٍ قَرِيبٍ لَا ضَرَرَ فِيهِ عَلَى الدَّاخِلِينَ، فَلَهُمْ ذَلِكَ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ بِقُرْبِ مَوْضِعِهِمْ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ ذَلِكَ قَالَهُ فِي الْمُدَوَّنَةِ.
مَسْأَلَةٌ:
وَلَوْ كَانَتْ دَارٌ بَيْنَ رَجُلَيْنِ وَلِأَحَدِهِمَا دَارٌ تُلَاصِقُهُ، فَأَرَادَ أَنْ يَفْتَحَ بَابًا يَدْخُلُ مِنْهُ إلَى دَارِهٍ فَلِلشَّرِيكِ مَنْعُهُ، قَالَ مُحَمَّدٌ: وَلَوْ فَتَحَ فِي حَائِطِ دَارِ نَفْسِهِ لِيَدْخُلَ مِنْهُ إلَى دَارِ الشَّرِكَةِ كَانَ لَهُ ذَلِكَ.
مَسْأَلَةٌ:
وَلَوْ فَتَحَ بَابَ دَارٍ لَهُ أُخْرَى إلَى دَارِهِ الَّتِي فِي الزَّنْقَةِ الْغَيْرِ النَّافِذَةِ لِيَتَرَفَّقَ بِهِ، لَا يَجْعَلُهُ كَالسِّكَّةِ النَّافِذَةِ لِلنَّاسِ يَدْخُلُونَ مِنْ بَابٍ وَيَخْرُجُونَ مِنْ بَابٍ جَازَ وَإِلَّا لَمْ يَجُزْ.
مَسْأَلَةٌ:
وَإِذَا كَانَ حَائِطٌ لِرَجُلٍ فِي سِكَّةٍ غَيْرِ نَافِذَةٍ، وَبَابُهُ فِي سِكَّةٍ وَلَيْسَ لَهُ فِي السِّكَّةِ الَّتِي لَا تَنْفُذُ بَابٌ لِدَارِهِ، فَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ سَوَاءٌ فَتَحَ قُبَالَةَ بَابِهِ أَحَدٌ أَوْ لَا لِأَنَّهُ إنَّمَا يَفْتَحُ مَا لَا حَقَّ لَهُ فِيهِ، وَإِنَّمَا هُوَ مُشَاعٌ بَيْنَ أَصْحَابِ الْأَبْوَابِ الْقَدِيمَةِ الَّتِي فِيهَا، فَهُوَ إذَا فَتَحَ بَابَهُ بِغَيْرِ رِضَاهُمْ صَارَ شَرِيكُهُمْ فِي السِّكَّةِ بِغَيْرِ حَقٍّ، وَقِيلَ لَهُ أَنْ يَفْتَتِحَ إذَا كَانَتْ وَاسِعَةً وَلَمْ يُقَابِلْ بَابَ أَحَدٍ.
تنبيه:
وَالْوَاسِعَةُ مَا كَانَ فِيهَا سَبْعَةُ أَذْرُعٍ فَأَكْثَرَ، وَفِي وَثَائِقِ ابْنِ الْهِنْدِيِّ السَّبْعَةُ: حَدُّ السِّعَةِ وَمَا يَنْقُصُ مِنْهَا فَذَلِكَ حَدُّ الضِّيقِ، قَالَ: وَحَضَرْت الْقَضَاءَ فِي السَّبْعَةِ الْأَذْرُعِ بِغَيْرِ ذَرْعِ سَاحَةِ الْأَرْضِ، وَكَانَ الْقَاضِي بِذَلِكَ قَاضِي الْجَمَاعَةِ بِقُرْطُبَةَ أَبُو بَكْرِ بْنُ زَرْبٍ، فَأَلْفَى فِي الْحُجَّةِ تِسْعَةَ أَذْرُعٍ فَأَوْجَبَ فِيهَا فَتْحَ حَانُوتٍ، وَقَضَى بِذَلِكَ فَفَتَحَ، وَكَانَ ذَلِكَ الْحُكْمُ فِي سِكَّةٍ نَافِذَةٍ.
وَفِي الْمُتَيْطِيَّةِ: وَحَكَى ابْنُ أَبِي زَيْدٍ فِي نَوَادِرِهِ: الطَّرِيقُ الْوَاسِعَةُ ثَمَانِيَةُ أَشْبَارٍ، وَقِيلَ سَبْعَةُ أَشْبَارٍ.
مَسْأَلَةٌ:
وَأَمَّا إذَا كَانَتْ السِّكَّةُ الَّتِي لَا تَنْفُذُ فِيهَا أَبْوَابٌ لِقَوْمٍ شَتَّى، أَوْ بَابٌ وَاحِدٌ لِرَجُلٍ وَكَانَ فِي جَانِبِي الدَّاخِلَةِ عَلَى طُولِهَا حِيطَانٌ لِرَجُلٍ، فَذَهَبَ إلَى أَنْ يَحْصُلَ حِيطَانُهُ وَدُورَهُ بِأَنْ يَجْعَلَ لَهَا بَابًا فَمَنَعَهُ أَهْلُ السِّكَّةِ فَذَلِكَ لَهُمْ، وَمِنْ حُجَّتِهِمْ فِي مَنْعِهِ أَنْ يَقُولُوا: إنَّا نَدْخُلُ إلَى دُورِنَا مَتَى شِئْنَا بِلَا إذْنِ أَحَدٍ وَلَا مَشُورَتِهِ مِنْ لَيْلٍ أَوْ نَهَارٍ، فَإِذَا صَرَفْتنَا إلَى بَابٍ احْتَجْنَا إلَى الِاسْتِئْذَانِ وَرُبَّمَا لَمْ تُفْتَحْ لَنَا أَوْ تُطَوِّلْ عَلَيْنَا فِي الْفَتْحِ، فَصِرْنَا فِي شِقَاقٍ وَنَحْنُ فِي غَنِيَّةٍ عَنْهُ فَذَلِكَ لَهُمْ، فَلَا يُجْعَلُ لَهَا بَابًا إلَّا بِإِذْنِ جَمِيعِ مَا فِيهَا وَإِنْ أَجَازَ لَهُ الْجَمِيعُ إلَّا وَاحِدًا مِنْهُمْ فَمِنْ حَقِّهِ مَنْعُهُ.
مَسْأَلَةٌ:
وَإِذَا كَانَتْ لِرَجُلٍ دَارٌ عَلَى الِانْفِرَادِ إلَى جَنْبِهَا دَارٌ مُشْتَرَكَةٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ، فَأَرَادَ أَنْ يَفْتَحَ لِدَارِهِ الَّتِي هِيَ لَهُ عَلَى الِانْفِرَادِ بَابًا إلَى الدَّارِ الْمُشْتَرَكَةِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ فَلَيْسَ لَهُ ذَلِكَ إلَّا بِرِضَا شُرَكَائِهِ جَمِيعًا، فَإِنْ اقْتَسَمُوا الدَّارَ الْمُشْتَرَكَةَ وَصَحْنَهَا وَبَقِيَ الدَّارُ الْمُشْتَرَكَةُ الَّتِي اُقْتُسِمَتْ عَلَى حَالِهِ لِدُخُولِهِمْ وَخُرُوجِهِمْ، فَوَقَعَ لِصَاحِبِ الدَّارِ الْمُنْفَرِدَةِ قِطْعَةٌ مِنْ الصَّحْنِ مِمَّا يَلِي الدَّارَ الَّتِي لَهُ عَلَى الِانْفِرَادِ، فَلَهُ أَنْ يَفْتَحَ لِدَارِهِ الَّتِي بِهِ عَلَى الِانْفِرَادِ بَابًا إلَى الصَّحْنِ، يَدْخُلُ عَلَيْهِ وَيَخْرُجُ عَلَى بَابِ الدَّارِ الْمَقْسُومَةِ الَّذِي بَقِيَ لِدُخُولِهِمْ وَخُرُوجِهِمْ، وَلَيْسَ لَهُمْ مَنْعُهُ وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ الْقَاسِمِ وَبِهِ الْقَضَاءُ مِنْ وَثَائِقِ ابْنِ الْهِنْدِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ.
مَسْأَلَةٌ:
وَأَمَّا مَنْ أَرَادَ أَنْ يَتَّخِذُ عَلَى بَابِ دَارِهِ مَجْلِسًا يَجْلِسُ فِيهِ قُبَالَةَ بَابِ دَارٍ جَارِهِ، فَقَالَ سَحْنُونٌ: يُؤْمَرُ أَنْ يُنَكِّبَ عَنْ ذَلِكَ قَلِيلًا فَإِنْ أَبَى مُنِعَ مِنْهُ وَهَذَا فِي السِّكَّةِ النَّافِذَةِ.
بَيَانٌ: وَيَتَحَصَّلُ فِي السِّكَّةِ النَّافِذَةِ، إذَا أَرَادَ رَجُلٌ أَنْ يَفْتَحَ مَجْلِسًا أَوْ حَانُوتًا قُبَالَةَ بَابِ دَارِ جَارِهِ، أَوْ يُخْرِجَ عَسْكَرًا وَهُوَ الْمَعْرُوفُ بِالْجُنَاحِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ.
أَحَدُهَا: أَنَّ ذَلِكَ لَهُ مِنْ غَيْرِ تَفْصِيلٍ وَهُوَ مَذْهَبُ ابْنِ الْقَاسِمِ فِي الْمُدَوَّنَةِ وَقَوْلُ أَشْهَبَ.
الثَّانِي: أَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ لَهُ مِنْ غَيْرِ تَفْصِيلٍ وَهُوَ مَذْهَبُ ابْنِ الْقَاسِمِ إلَّا أَنْ يَسْكُنَ بَيْنَ ذَلِكَ وَهُوَ قَوْلُ سَحْنُونٍ.
الثَّالِثُ: أَنَّ ذَلِكَ لَهُ فِي السِّكَّةِ الْوَاسِعَةِ وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ وَهْبٍ، وَيَتَحَصَّلُ فِي السِّكَّةِ غَيْرُ النَّافِذَةِ فِي فَتْحِ الرَّجُلِ لِلْبَابِ وَتَحْوِيلِهِ عَنْ مَوْضِعِهِ إلَى الزُّقَاقِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّ ذَلِكَ لَا يَجُوزُ لَهُ إلَّا بِإِذْنِ جَمِيعِ أَهْلِ الزُّقَاقِ، وَهُوَ الَّذِي ذَهَبَ إلَيْهِ ابْنُ زَرْبٍ.
الثَّانِي: أَنَّ ذَلِكَ لَهُ مَا لَمْ يُقَابِلْ بَابَ جَارِهِ وَلَا قَرُبَ مِنْهُ، بِحَيْثُ يَقْطَعُ بِهِ مِرْفَقًا عَنْهُ وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ الْقَاسِمِ فِي الْمُدَوَّنَةِ وَقَوْلُ ابْنِ وَهْبٍ.
الثَّالِثُ: أَنَّ لَهُ تَحْوِيلَ بَابِهِ عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ إذْ سَدَّ الْبَابَ الْأَوَّلَ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَفْتَحَ فِيهِ بَابًا مَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ وَهُوَ قَوْلُ أَشْهَبَ.
تنبيه:
وَفِي الْمُتَيْطِيَّةِ: قَالَ ابْنُ زَرْبٍ، وَإِذَا سُدَّ بَابٌ لِلضَّرَرِ فَلَا يَكُونُ سَدُّهُ تَغْلِيقَهُ وَتَسْمِيرَهُ، وَلَكِنْ يُقْلَعُ الْبَابُ وَعَضَائِدُهُ وَعَتَبَتُهُ وَتُغَيَّرُ آثَارُهُ، لِأَنَّهُ إذَا بَقِيَ عَلَى حَالِهِ وَسَدَّهُ بِالطُّوبِ وَبِقَلْبِ الْعَضَائِدِ وَالْعَتَبَةِ، كَانَ فِي ذَلِكَ ضَرَرٌ عَلَى مَنْ أَحْدَثَ عَلَيْهِ وَبِهَذَا قَالَ سَائِرُ الْفُقَهَاءِ بِقُرْطُبَةَ وَغَيْرِهَا، لِأَنَّهُ إذَا تَقَادَمَ الزَّمَانُ يَكُونُ لَهُ شَاهِدًا وَحُجَّةً، وَلَعَلَّهُ يَقُولُ: إنَّمَا سَدَدْته لِأَفْتَحَهُ إذَا شِئْت، فَلِذَلِكَ أَلْزَمُوهُ بِتَغْيِيرِ مَعَالِمِهِ حَتَّى لَا يَبْقَى لَهُ أَثَرٌ.

.فَصْلٌ وَلِلرَّجُلِ أَنْ يَضَعَ فِي دَارِهِ الْمُكْتَرَاةِ مَا شَاءَ مِنْ الْأَمْتِعَةِ وَالدَّوَابِّ وَالْحَيَوَانِ، وَالْحَدَّادِينَ وَالْقَصَّارِينَ مَا لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ ضَرَرًا بِالدَّارِ:

قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْغَفُورِ مُؤَلِّفُ الِاسْتِغْنَاءِ: وَعَلَى هَذَا يَكُونُ لِصَاحِبِ الدَّارِ أَنْ يُنَصِّبَ دَارِهِ مَا شَاءَ مِنْ الصِّنَاعَاتِ مَا لَمْ يَضُرَّ بِحِيطَانِ جَارِهِ، وَأَمَّا أَنْ يُمْنَعَ مِنْ وَقْعِ ضَرْبٍ أَوْ دَوِيِّ رَحًى أَوْ كَمَدٍّ لِأَجْلِ صَوْتِهِ، فَلَا وَكَذَلِكَ مَا أَشْبَهَهُ قَالَ فِي الطُّرَرِ: لِأَنَّ الصَّوْتَ لَا يَخْرِقُ الْأَسْمَاعَ وَلَا يَضُرُّ بِالْأَحْشَاءِ، فَإِنْ أَضَرَّ بِالْجُدْرَانِ مُنِعَ، وَذَلِكَ بِخِلَافِ رَائِحَةِ الدِّبَاغِ أَوْ يَفْتَحُ بِقُرْبِ جَارِهِ مِرْحَاضًا وَلَا يُغَطِّيهِ أَوْ مَا تُؤْذِيهِ رَائِحَتُهُ، لِأَنَّ الرَّائِحَةَ الْمُنَتَّنَةَ تَخْرِقُ الْخَيَاشِيمَ وَتَصِلُ إلَى الْأَمْعَاءِ فَتُؤْذِي الْإِنْسَانَ، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «مَنْ أَكَلَ مِنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ الْخَبِيثَةِ فَلَا يَقْرَبَنَّ مَسَاجِدَنَا يُؤْذِينَا بِرِيحِ الثُّومِ» وَكُلُّ رَائِحَةٍ تُؤْذِي يُمْنَعُ مِنْهَا لِهَذَا قَالَ وَبِهِ الْعَمَلُ.
مَسْأَلَةٌ:
وَقَضَى بَعْضُ شُيُوخِ الْفُتْيَا بِمَنْعِ الْكَمَّادِينَ إذَا اسْتَضَرَّ بِهِمْ الْجِيرَانُ وَقَلِقُوا مِنْ ذَلِكَ، لِاجْتِمَاعِ وَقْعِ ضَرْبِهِمْ وَالْأَوَّلُ أَوْلَى إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
فرع:
قَالَ ابْنُ رَاشِدٍ عَدَمُ مَنْعِ الْأَصْوَاتِ مِثْلُ الْحَدَّادِ وَالْكَمَّادِ وَالنَّدَّافِ، قَالَ ابْنُ عَتَّابٍ: تَتَنَازَعُ الشُّيُوخُ بِبَلَدِنَا قَدِيمًا وَحَدِيثًا فِي الرَّجُلِ يَجْعَلُ فِي دَارِهِ، أَوْ فِي شِبْهِ ذَلِكَ مِمَّا لَهُ دَوِيٌّ وَصَوْتٌ يَسْتَضِرُّ بِهِ الْجَارُ مِثْلَ الْحَدَّادِ وَشِبْهِهِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: يُمْنَعُ مِنْ ذَلِكَ إذَا عَمِلَ فِيهِ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا يُمْنَعُ مِنْهُ.
وَقَالَ ابْنُ سَعِيدٍ: الَّذِي اتَّفَقَ عَلَيْهِ شُيُوخُنَا أَنْ يُمْنَعَ بِالْعَمَلِ بِاللَّيْلِ إذَا أَضَرَّ بِجَارِهِ وَلَا يُمْنَعُ بِالنَّهَارِ قَالَهُ ابْنُ عَبْدِ رَبِّهِ، وَقَالَ ابْنُ زَرْبٍ: إذَا اجْتَمَعَ ضَرَرَانِ قَطَعَ الْحَدِيثَ لَا ضَرَرَ الْقَدِيمِ.
مَسْأَلَةٌ:
فَإِنْ كَانَتْ الدَّارُ مُكْتَرَاةً فَبَنَى رَجُلٌ غَرْفَةً عَلَيْهَا وَفَتَحَ عَلَيْهَا كُوًى، فَقَالَ رَبُّهَا الْمُكْرِي: خَاصِمْ عَنِّي وَاقْطَعْ الضَّرَرَ عَنِّي، وَقَالَ الْمُكْتَرِي لِرَبِّهَا: بَلْ عَلَيْك الْخُصُومَةُ، فَإِنْ لَمْ يَرُدَّ كَانَ لِلْمُكْتَرِي فَسْخُ الْكِرَاءِ إنْ أَحَبَّ، كَمَا لَوْ انْهَدَمَ مَا يَضُرُّ وَأَبَى رَبُّهَا مِنْ بِنَائِهَا.
مَسْأَلَةٌ:
إذَا أَحْدَثَ رَجُلٌ عَلَيْهِ الْقِيَامُ بِالضَّرَرِ فَلَمْ يَقُمْ عَلَيْهِ، وَبَاعَ الدَّارَ قَبْلَ مُضِيِّ الْمُدَّةِ الَّتِي يَخْتَارُ الضَّرَرَ، وَأَرَادَ الْمُبْتَاعُ الْقِيَامَ عَلَيْهِ، فَاَلَّذِي أَفْتَى بِهِ ابْنُ عَتَّابٍ أَنَّهُ إذَا بَاعَ بَعْدَ عِلْمِهِ بِهِ فَهُوَ رِضًا مِنْهُ، وَلَا كَلَامَ لَهُ وَلَا لِمَنْ ابْتَاعَ مِنْهُ.
وَرَوَى ذَلِكَ ابْنُ حَبِيبٍ عَنْ مُطَرِّفٍ وَابْنِ الْمَاجِشُونِ وَأَصْبَغَ: قَالُوا: إلَّا أَنْ يَكُونَ الْبَائِعُ بَاعَ بَعْدَ أَنْ خَاصَمَهُ فِي ذَلِكَ، فَلَمْ يُتِمَّ لَهُ الْحُكْمَ حَتَّى بَاعَ فَلِلْمُشْتَرِي أَنْ يَقُومَ وَيَحِلَّ مَحِلَّهُ.
وَفِي أَحْكَامِ ابْنِ بَطَّالٍ: مَعْنَاهُ أَنَّ الْحَاكِمَ قَضَى بِهِ وَأَعْذَرَ وَتَعَيَّنَ لِلتَّسْجِيلِ وَالْإِشْهَادِ، وَلَوْ بَقِيَ شَيْءٌ مِنْ الْمَدَافِعِ وَالْحِجَجِ لَمْ يَجُزْ الْبَيْعُ، لِأَنَّهُ بَيْعٌ مَا فِيهِ خُصُومَةٌ وَهَذَا أَصْلٌ مُخْتَلَفٌ فِيهِ، قَالَ ابْنُ عَبْدِ الرَّفِيعِ: فِي مَعِينِ الْحُكَّامِ.
وَفِي الْعُتْبِيَّةِ مَا يَدُلُّ أَنَّ لِلْمُبْتَاعِ الْقِيَامَ عَلَى مُحْدِثِ الضَّرَرِ وَفِي الْمُتَيْطِيَّةِ قَالَ:
وَفِي مَسَائِلِ حَبِيبِ بْنِ نَصْرٍ وَسَحْنُونٍ: إنْ كَانَ الْبَائِعُ لَمْ يُبَيِّنْ لِلْمُبْتَاعِ ذَلِكَ، فَهُوَ عَيْبٌ يُوجِبُ الرَّدَّ إنْ كَانَ مِنْ الْعُيُوبِ الْمُوجِبَةِ لِلرَّدِّ، وَلَيْسَ لِلْبَائِعِ الْقِيَامُ عَلَى مُحْدِثِ الضَّرَرِ وَإِنْ لَمْ يَطْلُعْ الْبَائِعُ عَلَى الضَّرَرِ حَتَّى بَاعَ وَرَدَّ بِالْعَيْبِ عَلَيْهِ وَجَبَ لِلْبَائِعِ الْقِيَامُ. قَالَ الْمُتَيْطِيُّ: وَيَتَحَصَّلُ فِي الْمَسْأَلَةِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ بَيْعَهُ بَعْدَ الْعِلْمِ رِضًا لِتَرْكِ الْقِيَامِ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَيْسَ بِرِضًا وَأَنَّ لِلْمُبْتَاعِ الْقِيَامُ لِمَا كَانَ لِلْبَائِعِ أَنْ يَقُومَ بِهِ..
وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ لَيْسَ بِرِضًا مِنْ الْبَائِعِ وَلَا قِيَامَ لِلْمُشْتَرِي إلَّا أَنَّ لَهُ الرَّدَّ عَلَى الْبَائِعِ بِالْعَيْبِ إنْ لَمْ يَعْلَمْ بِهِ فَإِنْ رَدَّ عَلَيْهِ فَلِلْبَائِعِ الْقِيَامُ.
مَسْأَلَةٌ:
إذَا أَحْدَثَ الرَّجُلُ مِنْ الْبُنْيَانِ مَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْقِيَامُ فِيهِ بِالضَّرَرِ فَقَامَ جَارُهُ عَلَيْهِ بِقُرْبِ الْفَرَاغِ مِنْ الْبُنْيَانِ، فَعَلَيْهِ الْيَمِينُ ذَلِكَ أَنَّ سُكُوتَهُ حَتَّى كَمُلَ الْبُنْيَانُ، لَمْ يَكُنْ عَلَى إسْقَاطِ حَقِّهِ الْوَاجِبِ لَهُ فِي ذَلِكَ مِنْ الْقِيَامِ بِقَطْعِ الضَّرَرِ.
مَسْأَلَةٌ:
قَالَ ابْنُ الْهِنْدِيِّ: وَإِنْ قَامَ رَجُلٌ عَلَى جَارِهِ فِي شَيْءٍ يُرِيدُ إحْدَاثَهُ وَادَّعَى أَنَّهُ ضَرَرٌ، وَأَقَامَ بَيِّنَةً بِأَنَّ الَّذِي يَذْهَبُ إلَى إحْدَاثِهِ يَكُونُ فِيهِ ضَرَرٌ عَلَى جَارِهِ مِنْ الِاطِّلَاعِ، فَلَيْسَ يَمْنَعُ جَارَهُ مِنْ عَمَلِ مَا يُرِيدُ، فَإِذَا تَمَّ عَمَلَهُ وَثَبَتَ الضَّرَرُ هُدِمَ عَلَيْهِ أَوْ أُخِذَ ذَلِكَ وَلَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ فِيهِ مَدْفَعٌ.
مَسْأَلَةٌ:
وَفِي الطُّرَرِ: عَنْ ابْنِ سَحْنُونٍ عَنْ أَبِيهِ فِي خَرِبَةٍ لِرَجُلٍ بَيْنَ دُورٍ فِيهَا الزِّبْلُ وَلَا يَدْرِي مَنْ يُلْقِيهِ، فَقَامَ جَارُهُ بِضَرَرِ الزِّبْلِ بِحَائِطِهِ عَلَى رَبِّ الْخَرِبَةِ وَأَمَرَهُ بِتَنْقِيَتِهَا، فَقَالَ لَهُ: هُوَ مِنْ جِيرَانِي وَأَنَا أَشْتَكِي ذَلِكَ، وَثَبَتَ الْإِضْرَارُ بِالْجَارِ فَإِنَّهُ لَمْ يَجْبُرْ صَاحِبَهَا عَلَى تَنْقِيَتِهَا.
وَقَالَ سَحْنُونٌ: وَقَدْ يَقَعُ جِدَارُ الرَّجُلِ فَيَسُدُّ عَلَى جَارِهِ مَدْخَلَهُ وَمَخْرَجَهُ، يَعْنِي فَيُؤْمَرُ بِتَنْقِيَةِ ذَلِكَ.
مَسْأَلَةٌ:
وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ مِنْ كِتَابِ ابْنِهِ فِي الزِّبْلِ فِي فِنَاءِ قَوْمٍ أَوْ فِي خَرِبَتِهِمْ، أَنَّ عَلَى جِيرَانِ الْمَوْضِعِ مَكْنَسَهُ وَيُؤْخَذُ الْأَقْرَبُ فَالْأَقْرَبُ عَلَى الِاجْتِهَادِ، قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي زَيْدٍ لِأَنَّ الْأَغْلَبَ أَنَّهُمْ يُلْقُونَ فِيهَا.

.فَصْلٌ إنْ أَحَبَّ أَهْلُ الْأَسْوَاقِ تَسْقِيفَ مَا بَيْنَ حَوَانِيتِهِمْ وَأَبَى بَعْضُهُمْ:

فَمَنْ أَحَبَّ فَلَهُ ذَلِكَ، وَمَنْ أَبَى لَمْ يُجْبَرْ وَذَلِكَ فِي جَمِيعِ الصِّنَاعَاتِ وَمَنْ أَحَبَّ فَتْحَ كُوَّةٍ فِيهِ أَوْ نَزْعَ سَقْفِهِ لَمْ يُمْنَعْ مِنْ ذَلِكَ وَنَزَلَتْ فَقَضَى فِيهَا بِذَلِكَ.
تنبيه:
الْقَائِمُ بِالضَّرَرِ لَا يُحْكَمُ لَهُ بَعْدَ ثُبُوتِ مِلْكِهِ الَّذِي يَدْفَعُ عَنْهُ، وَكَذَلِكَ يَنْبَغِي فِي كُلِّ ضَرَرٍ لِأَنَّ ذَلِكَ حُكْمٌ.
تنبيه:
إذَا كَانَ لِرَجُلٍ عَلَى رَجُلٍ جَرَى مَاءٌ عَلَى دَارِهِ فَقَطَعَهُ عَنْهُ، اُحْتِيجَ فِي ذَلِكَ إلَى قَبُولِ الْمَقْطُوعِ عَنْهُ ذَلِكَ إذَا فَعَلَهُ احْتِسَابًا إلَيْهِ كَالْهِبَةِ الَّتِي يَحْتَاجُ فِيهَا إلَى الْقَبُولِ.
مَسْأَلَةٌ:
فَإِذَا كَانَ جِدَارُ الرَّجُلِ مُلَاصِقَ الطَّرِيقِ فَيُرِيدُ صَاحِبُهُ أَنْ يُجَدِّدَهُ بِالطِّينِ أَوْ بِالْجِيرِ، وَأَخَذَ مِنْ الطَّرِيقِ نَحْوَ الْأُصْبُعِ لَمْ يُمْنَعْ مِنْ ذَلِكَ، وَإِنْ تَكَرَّرَ ذَلِكَ فِي كُلِّ عَامٍ مِنْ الطُّرَرِ.

.فَصْلٌ مَنْ اقْتَطَعَ شَيْئًا مِنْ مَحَاجِّ الْمُسْلِمِينَ:

فَصْلٌ: وَمَنْ اقْتَطَعَ شَيْئًا مِنْ مَحَاجِّ الْمُسْلِمِينَ فَذَلِكَ جُرْحَةٌ فِي شَهَادَتِهِ إنْ كَانَ اقْتِطَاعُهُ عَنْ مَعْرِفَةٍ وَقَصْدٍ، وَإِنْ كَانَ لَا يَضُرُّ وَلَا يَضِيقُ بِالْمَارِّينَ، فَظَاهِرُ قَوْلِ أَصْبَغَ: أَنَّهُ إنَّمَا يَكُونُ جُرْحَةً فِيهِ إذَا أَضَرَّ اقْتِطَاعُهُ بِالنَّاسِ وَأَتَى ذَلِكَ بِمَعْرِفَةٍ، وَأَمَّا إذَا لَمْ يَضُرَّ فَلَا يَكُونُ ذَلِكَ جُرْحَةً.

.فَصْلٌ إكْرَاءُ الْفِنَاءِ:

فَصْلٌ: وَلِابْنِ رَاشِدٍ فِي شَرْحِهِ مَجَامِعَ الْعُتْبِيَّةِ: أَنَّهُ يَجُوزُ إكْرَاءُ الْفِنَاءِ لِمَا فِيهِ مِنْ الِانْتِفَاعِ حَسْبَمَا كَانَ لَهُ فِيهِ.

.فَصْلٌ أَرَادَ أَنْ يُطِرَّ دَاخِلَ دَارِهِ أَيْ بِطِينِهِ وَلِجَارِهِ حَائِطٌ فِيهَا فَمَنَعَهُ:

فَصْلٌ: وَمَنْ أَرَادَ أَنْ يُطِرَّ دَاخِلَ دَارِهِ أَيْ بِطِينِهِ، وَلِجَارِهِ حَائِطٌ فِيهَا فَمَنَعَهُ مِنْ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ لِأَنَّ لَهُ فِيهِ مَنْفَعَةً وَلَا مَضَرَّةَ عَلَى جَارِهِ، وَمِنْهُ الْحَدِيثُ: «لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ».
فرع:
فَإِنْ أَرَادَ طُرَّ حَائِطِهِ مِنْ جِهَةِ جَارِهِ فَإِنَّهُ يُنْظَرُ، فَإِنْ كَانَ الْحَائِطُ يَحْتَاجُ إلَى الطُّرِّ كَانَ لَهُ أَنْ يُطِرَّهُ وَإِلَّا فَلَهُ مَنْعُهُ، وَقِيلَ لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ، لِأَنَّ الطُّرَّ يَقَعُ فِي هَوَاءِ جَارِهِ إلَّا أَنْ يَنْحِتَ مِنْ طُرِّهِ مَا يُوقِعُ عِوَضَهُ مِنْ الطُّرِّ الْجَدِيدِ، لِأَنَّهُ قَدْ يَتَكَرَّرُ الطُّرُّ بِغَيْرِ حَاجَةٍ حَتَّى يَغْلُظَ الطُّرُّ فَيُنْقِصُ غِلَظُهُ مِنْ ضَوْءِ صَحْنِ دَارِ جَارِهِ.
فرع:
وَأَمَّا إنْ طَرَّهُ لِيَأْكُلَ فِيهِ أَوْ لِأَجْلِ الْمَطَرِ عَلَى جِهَةِ التَّحْصِينِ فَلَيْسَ لِجَارِهِ أَنْ يَمْنَعَهُ مِنْ ذَلِكَ، فَإِنْ ذَهَبَ جَارُهُ إلَى أَنْ يَمْنَعَهُ مِنْ الدُّخُولِ لِطُرِّهِ فَلَهُ ذَلِكَ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَمْنَعَ الْبِنَاءَ وَالْأُجَرَاءَ الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَ ذَلِكَ لِأَنْفُسِهِمْ، وَيُقَالُ لِصَاحِبِ الْحَائِطِ صِفْ لَهُمْ مَا تُرِيدُ، وَأَمَّا أَنْتَ فَلَا تَتَوَلَّى ذَلِكَ، وَقَدْ يَكْرَهُ جَارُك دُخُولَك فِي دَارِهِ فَإِنْ مَنَعَهُ جَارُهُ مِنْ إدْخَالِ الطُّرِّ وَنَحْوِهِ مِنْ الْبَابِ، أُمِرَ صَاحِبُ الْحَائِطِ بِفَتْحِ مَوْضِعٍ فِي حَائِطِهِ يُدْخِلُ مِنْهُ الطِّينَ وَالطُّوبَ وَالصَّخْرَ وَمَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ الْحَائِطُ، فَيَعْجِنُ فِي دَارِهِ وَيُدْخِلُهُ إلَى دَارِ جَارِهِ، فَإِنْ أَتَمَّ الْعَمَلَ أَغْلَقَ ذَلِكَ الْمَوْضِعَ وَحِصَّتَهُ.
مَسْأَلَةٌ:
وَفِي الطُّرَرِ: وَمَنْ أَرَادَ أَنْ يُعَلِّقَ شَيْئًا فِي دَارِهِ عَلَى دَاخِلِ حَائِطِ جَارِهِ كَانَ لَهُ ذَلِكَ إنْ لَمْ يَضُرَّ بِجَارِهِ فِي جِدَارِهِ.
مَسْأَلَةٌ:
وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَضْرِبَ وَتَدًا فِي جِدَارِ جَارِهِ، وَلَا أَنْ يَضُمَّ إلَيْهِ مَا يَضُرُّهُ كَالزِّبْلِ وَالتِّبْنِ وَالْحَطَبِ، أَوْ بَنَاهُ إذَا نَزَلَ الْمَاءُ فَضَرَبَ فِي ذَلِكَ الْبِنَاءِ طَارَ إلَى جِدَارِهِ، وَلَا لَهُ أَنْ يَحْقِنَ مَاءً بِقُرْبِ جِدَارِهِ خَوْفًا أَنْ يَصِلَ نَدَاهُ إلَيْهِ.
مَسْأَلَةٌ:
وَمَنْ لَهُ حَائِطٌ فِي دَارِ رَجُلٍ فَلَهُ الدُّخُولُ إلَيْهِ لِافْتِقَادِهِ وَالنَّظَرُ فِيهِ لِأَنَّهُ حَقٌّ لَهُ عَلَيْهِ، كَمَنْ لَهُ شَجَرٌ فِي دَارِ رَجُلٍ أَوْ أَرْضُهُ فَيُحْكَمُ لَهُ بِذَلِكَ عَلَيْهِ أَرَادَ مَنْعَهُ، كَذَلِكَ مَنْ أَرَادَ أَنْ يُصْلِحَ سُقُوفَ دَارِهِ أَوْ يَبْنِيَ فِيهَا شَيْئًا.

.فَصْلٌ مَنْ كَانَ لَهُ طَعَامٌ مُصَفًّى فِي أَنْدَرِهِ:

فَصْلٌ: وَمَنْ كَانَ لَهُ طَعَامٌ مُصَفًّى فِي أَنْدَرِهِ، لَمْ يُمْنَعْ مَنْ فَرَّقَهُ الذَّرَّ وَعَلَيْهِ بَدَأَ قَبْلَهُ أَوْ لَمْ يَبْدَأْ، وَقِيلَ لَهُ: غَطِّ طَعَامَك، وَقِيلَ لَهُ: مَنَعَهُ وَيُؤْمَرُ مَنْ صَفَّى بِقَطْعِ طَعَامِهِ، فَإِنْ لَمْ يَصُفَّ أَحَدُهُمْ وَذَرُّوا كُلُّهُمْ وَاخْتَلَطَ تِبْنُهُمْ، قِيلَ لَهُمْ: أَفْرِعُوا عَلَى الدُّورِ، فَإِنْ أَبَوْا لَمْ يُجْبَرْ وَاحِدٌ مِنْهُمْ عَلَى قَلْعِ أَنْدَرِهِ، وَيُقَالُ لِمَنْ ذَرَّى عَلَى صَاحِبِهِ: أَتْلَفْت تِبْنَك لَا شَيْءَ لَك، وَجُبِرَ الَّذِي صَفَّى طَعَامَهُ عَلَى الْقَلْعِ قَالَ: وَإِنْ صَفَّى أَحَدُهُمْ وَلَمْ يَبْقَ لَهُ إلَّا إخْرَاجَ الْحَصَّالَةِ، مُنِعَ مِنْ الذَّرْوِ عَلَيْهِ وَلَيْسَ هُوَ كَمَنْ لَمْ يُصَفِّ شَيْئًا.

.فَصْلٌ الْقَنَاةُ إذَا كَانَتْ لِجَمَاعَةٍ فَانْسَدَّتْ:

فَصْلٌ: وَأَمَّا الْقَنَاةُ إذَا كَانَتْ لِجَمَاعَةٍ فَانْسَدَّتْ، قَالَ سَحْنُونٌ: فَإِنْ جَرَتْ تَحْت أَرْبَعِ دُورٍ فَإِنَّ الْأَوَّلَ يَكْنُسُ مَا فِي دَارِهِ، ثُمَّ يَكْنُسُ مَعَ الثَّانِي ثُمَّ يَكْنُسُ الْأَوَّلَ وَالثَّانِيَ مَعَ الثَّالِثَ، ثُمَّ يَكْنُسُ جَمِيعَهُمْ مَعَ الرَّابِعِ، لِأَنَّ مِيَاهَهُمْ، كُلُّهُمْ تَجْرِي عَلَيْهِ، وَهَذَا إذَا كَانَ مِيَاهُ الدُّورِ كُلِّهَا تَجْرِي فِي الدُّورِ الْقَنَاةِ فَإِنْ كَانَتْ لِوَاحِدٍ تَجْرِي فِي دُورِ هَؤُلَاءِ فَإِصْلَاحُهُ عَلَيْهِ دُونَهُمْ.
مَسْأَلَةٌ:
قَالَ يَحْيَى بْنُ عُمَرَ فِي الْقَنَاةِ تَجْرِي فِيهَا أَثْقَالُهُمْ حَتَّى تَجْرِيَ إلَى أُمٍّ تَجْرِي إلَى الْخَنْدَقِ، فَانْسَدَّتْ قَنَاةُ أَحَدِهِمْ فَكُنِسَ فَلَمْ يَجْرِ مَاؤُهُ فِي قَنَاةِ جَارِهِ، فَقَالَ لِجَارِهِ: اُكْنُسْ قَنَاتَك حَتَّى يَخْرُجَ مَائِي فَأَبَى، وَكَذَلِكَ مَنْ بَعْدَهُ مِمَّنْ يَلِيه فَإِنَّهُ يُجْبَرُ مَنْ أَبَى عَلَى كَنْسِ قَنَاتِهِ حَتَّى يَخْرُجَ عَلَيْهَا مَاءُ جَارِهِ، يَلْزَمُهُمْ هَكَذَا حَتَّى يَخْرُجَ مَاؤُهُمْ إلَى الْأَمَامِ، وَيُنْظَرُ فَإِنْ كَانَ الَّذِي يَجْرِي فِيهَا مَاءُ الْمَطَرِ فَقَطْ فَالْكَنْسُ عَلَى عَدَدِ الدُّورِ، وَإِنْ كَانَ يَجْرِي فِيهَا الْغَائِطُ وَالْأَبْوَالُ فَالْكَنْسُ عَلَى الْجَمِيعِ عَلَى عَدَدِ الْجَمَاعَةِ.

.فَصْلٌ فِي الشَّجَرِ يَكُونُ لِرَجُلٍ فِي أَرْضِ غَيْرِهِ فَيُرِيدُ صَاحِبُ الْأَرْضِ التَّحْظِيرَ عَلَى أَرْضِهِ:

وَفِي مُخْتَصَرِ الْوَاضِحَةِ عَنْ ابْنِ حَبِيبٍ قَالَ: كَتَبْت إلَى أَصْبَغَ فِي الشَّجَرَةِ الْوَاحِدَةِ أَوْ الشَّجَرَاتِ تَكُونُ لِلرَّجُلِ فِي أَرْضِ غَيْرِهِ، فَيُرِيدُ صَاحِبُ الْأَرْضِ التَّحْظِيرَ عَلَى أَرْضِهِ، أَوْ يَبْنِي أَرْضَهُ تِلْكَ دَارًا، أَوْ يُعَلِّقُ شَجَرَةَ الرَّجُلِ أَوْ شَجَرَاتِهِ وَيَقُولُ: أَنَا أَشْهَدُ لَهُ بِحَقِّهِ، وَأَفْتَحُ لَهُ إذَا احْتَاجَ إلَى الدُّخُولِ لِيَجْنِيَ ثَمَرَهَا أَوْ لِإِصْلَاحِهَا، وَيَمْنَعُهُ مِنْ ذَلِكَ صَاحِبُ الشَّجَرَةِ أَوْ الشَّجَرَاتِ، وَالشَّجَرَاتُ مُجْتَمَعَةٌ بِنَاحِيَةٍ مِنْ الْأَرْضِ غَيْرَ مُتَفَرِّقَةٍ وَلَا مُمْتَدَّةٍ فَلَهُ مَنْعُ صَاحِبِ الْأَرْضِ مِنْ التَّحْظِيرِ عَلَيْهَا مَعَ سَائِرِ أَرْضِهِ.
وَقِيلَ لَهُ: حَظِّرْ عَلَى أَرْضِك إنْ شِئْت وَأَخْرِجْ شَجَرَةَ هَذَا نَاحِيَةً مِنْ تَحْظِيرِك، وَذَلِكَ إذَا كَانَ لِصَاحِبِهَا طَرِيقٌ إلَيْهَا، عَلَى حَالٍ مِمَّا كَانَ مِنْ طَرِيقِهِ الْأَوَّلِ فِي قُرْبِ ذَلِكَ أَوْ بُعْدِهِ أَوْ سُهُولَتِهِ أَوْ مَشَقَّتِهِ، وَإِنْ كَانَتْ الشَّجَرَةُ أَوْ الشَّجَرَاتُ مُتَوَسِّطَةَ الْأَرْضِ، أَوْ مُمْتَدَّةً بِحَيْثُ لَا يَسْتَطِيعُ التَّحْظِيرَ عَلَى مَا دُونَهَا إلَّا بِفَسَادِ أَرْضِهِ، كَانَتْ الشَّجَرَةُ قَلِيلَةً غَيْرَ شَاغِلَةِ الْأَرْضِ كُلِّهَا وَالْأَرْضُ وَاسِعَةٌ، كَانَ صَاحِبُ الشَّجَرَةِ هُوَ الْمُضَارُّ، وَقِيلَ لِصَاحِبِ الْأَرْضِ: حَظِّرْ عَلَى أَرْضِك، وَافْتَحْ لِصَاحِبِ الشَّجَرَةِ لَأَنْ يَدْخُلَ مِنْهُ عَلَى أَقْرَبِ الطَّرِيقِ وَأَسْهَلِهِ إلَى شَجَرَةٍ، وَيَكُونُ عَلَّقَهُ بِيَدِهِ إنْ طَلَبَ ذَلِكَ، وَلَمْ يُرِدْ أَنْ يَكُونَ مَدْخَلُهُ مِنْ مَدْخَلِ صَاحِبِ الْأَرْضِ، وَيَحْتَفِظُ صَاحِبُ الْأَرْضِ هَذَا عَلَيْهِ إنْ أَحَبَّ التَّحْظِيرَ، وَإِنْ كَانَتْ الشَّجَرَةُ كَبِيرَةً قَدْ عَمَّتْ الْأَرْضُ بِتَبَدُّدِهَا وَانْتِشَارِهَا فِيهَا، لَمْ يَكُنْ لِصَاحِبِ الْأَرْضِ أَنْ يُحَظِّرَ عَلَيْهَا وَكَانَ هُوَ الْمُضَارَّ، لِأَنَّ الضَّرَرَيْنِ إذَا اجْتَمَعَا عَلَى الشَّرِيكَيْنِ فِي الشَّيْءِ فَحَيْثُ كَانَ الضَّرَرُ عَلَى أَحَدِهِمَا أَكْثَرَ فَهُوَ الْمُضَارُّ بِهِ، وَالْمَرَاحُ ذَلِكَ عَنْهُ فِي الْقِصَّةِ وَحَيْثُ كَانَ الْأَقَلَّ فَهُوَ الْمُضَارُّ الْمَمْنُوعُ مَا يُرِيدُ وَيَطْلُبُ.

.فَصْلٌ فِي الطَّرِيقِ يَشُقُّ أَرْضَ رَجُلٍ فَيُرِيدُ أَنْ يُحَوِّلَهَا إلَى مَوْضِعٍ آخَرَ:

مِنْ أَرْضِهِ، هُوَ أَرْفَقُ بِهِ وَبِأَهْلِ الطَّرِيقِ، قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ، وَلَا لِأَحَدٍ أَنْ يُحَوِّلَ طَرِيقًا مِنْ مَوْضِعِهَا إلَى مَا هُوَ دُونَهَا وَلَا إلَى مَا هُوَ فَوْقَهَا، وَإِنْ كَانَ مِثْلَ الطَّرِيقِ الْأُولَى فِي السُّهُولَةِ، أَوْ أَسْهَلَ مِنْهُ وَإِنْ أَضَرَّ ذَلِكَ بِهِ، لِأَنَّهُ عَلَى ذَلِكَ اشْتَرَى أَوْ وَرِثَ أَوْ وَهَبَ لَهُ إذَا كَانَتْ طَرِيقًا لِلْعَامَّةِ، لِأَنَّ ذَلِكَ حَقٌّ لِجَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ، فَلَا يَجُوزُ فِيهَا إذْنُ بَعْضِهِمْ إلَّا أَنْ يَكُونَ طَرِيقُ قَوْمٍ بِأَعْيَانِهِمْ فَيَأْذَنُونَ لَهُ فَيَجُوزُ ذَلِكَ.
وَقَالَ ابْنُ الْمَاجِشُونِ: أَرَى أَنَّ أَمْرَ ذَلِكَ الطَّرِيقِ إلَى الْإِمَامِ فَيَكْشِفُ عَنْ حَالِهَا، فَإِنْ رَأَى تَحْوِيلَهَا مِنْ حَالِهَا مَنْفَعَةً لِلْعَامَّةِ، وَلِمَنْ جَاوَرَهَا حَوْلَهَا فِي مِثْلِ سُهُولَتِهَا أَوْ أَسْهَلَ، وَفِي مِثْلِ قُرْبِهَا أَوْ أَقْرَبَ، فَلْيَأْذَنْ لَهُ بِذَلِكَ وَإِنْ رَأَى فِي ذَلِكَ مَضَرَّةً بِأَحَدٍ مِمَّنْ جَاوَرَهَا، أَوْ بِأَبْنَاءِ السَّبِيلِ وَعَامَّةِ الْمُسْلِمِينَ مَنَعَهُ مِنْ ذَلِكَ، وَإِنْ هُوَ حَوَّلَ الطَّرِيقَ دُونَ نَظَرِ الْإِمَامِ وَرَأْيِهِ نَظَرَ الْإِمَامُ فِي ذَلِكَ، فَإِنْ كَانَ صَوَابًا أَمْضَاهُ، وَإِنْ كَانَ عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ رَدَّهُ، لِأَنَّ الْإِمَامَ هُوَ النَّاظِرُ لِجَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ وَهُوَ بِمَكَانِهِمْ فِي ذَلِكَ.
وَقَالَ ابْنُ نَافِعٍ مِثْلَهُ، قَالَ ابْنُ حَبِيبٍ: وَهَذَا أَحَبُّ إلَيَّ وَبِهِ أَقُولُ مِنْ مُخْتَصَرِ الْوَاضِحَةِ.
فرع:
وَفِي مُخْتَصَرِ الْوَاضِحَةِ عَنْ مُطَرِّفٍ وَابْنِ الْمَاجِشُونِ وَأَصْبَغَ فِي النَّهْرِ يَكُونُ لَاصِقًا بِالطَّرِيقِ، وَالطَّرِيقُ لَاصِقٌ بِأَرْضِ رَجُلٍ، فَيَحْفِرُ النَّهْرَ الْمُلَاصِقَةَ بِهِ كُلَّهَا وَيَدْخُلُ فِي أَرْضِ الرَّجُلِ، فَيُرِيدُ النَّاسُ أَنْ يَمْشُوا فِي أَرْضِهِ، فَإِنَّ الْإِمَامَ يُنْظِرُ النَّاسَ فِي ذَلِكَ أَوْ يَحْتَالُوا لِأَنْفُسِهِمْ، وَلِصَاحِبِ الْأَرْضِ أَنْ يَمْنَعَهُمْ مِنْ ذَلِكَ إنْ اسْتَطَاعَ ذَلِكَ، وَلَسْنَا نَرَى لِأَحَدٍ أَنْ يَسْتَحِلَّ الْمُرُورَ فِيهِ إلَّا بِإِذْنِ صَاحِبِهِ، وَنَرَى لِمَنْ سَلَكَ فِيهِ وَلَوْ مَرَّةً وَاحِدَةً أَنْ يَتَحَلَّلَ صَاحِبُهُ مِنْ ذَلِكَ، وَتَحَلُّلُهُ إيَّاهُ قَبْلَ الْمُرُورِ أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ تَحَلُّلِهِ بَعْدَ الْمُرُورِ.

.فَصْلٌ فِي الْقَضَاءِ بِسَدِّ الذَّرَائِعِ:

وَالذَّرِيعَةِ الْوَسِيلَةِ إلَى الشَّيْءِ، وَمَعْنَى ذَلِكَ: حَسْمُ مَادَّةِ وَسَائِلِ الْفَسَادِ، فَمَتَى كَانَ الْفِعْلُ السَّالِمُ عَنْ الْمَفْسَدَةِ وَسِيلَةً إلَى الْمَفْسَدَةِ مَنَعْنَا مِنْ ذَلِكَ الْفِعْلَ وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ وَالْقَوْلُ بِسَدِّهِ مَأْخُوذٌ مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، أَمَّا الْكِتَابُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ} [الأنعام: 108]، فَمَتَى خَافَ الْمُسْلِمُ إذَا سَبَّ دِينَ الْكُفْرِ يُؤَدِّي إلَى سَبِّ اللَّهِ أَوْ رَسُولِهِ أَوْ الْإِسْلَامِ أَوْ أَهْلِهِ لَمْ يَجُزْ لَهُ أَنْ يَسُبَّ دِينَهُمْ وَلَا صُلْبَانَهُمْ، وَلَا مَا يَتَعَرَّضُ إلَى مَا يَدْعُو إلَى ذَلِكَ، قَالَهُ ابْنُ الْعَرَبِيِّ فِي أَحْكَامِ الْقُرْآنِ.
وَقَالَ ابْنُ رُشْدٍ فِي الْمُقَدِّمَاتِ: أَبْوَابُ الذَّرَائِعِ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ يَطُولُ ذِكْرُهَا وَلَا يُمْكِنُ حَصْرُهَا، مِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «دَعْ مَا يَرِيبُك إلَى مَا لَا يَرِيبُك»، وَقَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «الْحَلَالُ بَيِّنٌ وَالْحَرَامُ بَيِّنٌ وَبَيْنَهُمَا مُشْتَبِهَاتٌ، فَمَنْ اتَّقَى الشُّبُهَاتِ فَقَدْ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ، وَمَنْ وَقَعَ فِي الشُّبُهَاتِ كَانَ كَالرَّاعِي حَوْلَ الْحِمَى يُوشِكُ أَنْ يَقَعَ فِيهِ، أَلَا وَإِنَّ لِكُلِّ مَلِكٍ حِمًى، أَلَا وَإِنَّ حِمَى اللَّهِ مَحَارِمُهُ».
مَسْأَلَةٌ:
قَالَ الْقَرَافِيُّ: الذَّرِيعَةُ بِإِجْمَاعِ الْأُمَّةِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: الْقِسْمُ الْأَوَّلُ: مُعْتَبَرٌ إجْمَاعًا كَحَفْرِ الْآبَارِ فِي طُرُقِ الْمُسْلِمِينَ، وَإِلْقَاءِ السِّلْمِ فِي أَطْعِمَتِهِمْ، وَسَبِّ الْأَصْنَامِ عِنْدَ مَنْ يُعْلَمُ مِنْ حَالِهِ أَنَّهُ يَسُبُّ اللَّهَ تَعَالَى حِينَئِذٍ.
الْقِسْمُ الثَّانِي: مُلْغًى إجْمَاعًا كَزِرَاعَةِ الْعَلْسِ، فَإِنَّهُ لَا يُمْنَعُ ذَلِكَ خَشْيَةَ الْخَمْرِ وَالشَّرِكَةِ فِي سُكْنَى الدَّارِ خَشْيَةَ الزِّنَا.
الْقِسْمُ الثَّالِثُ: مُخْتَلَفٌ فِيهِ كَبُيُوعِ الْآجَالِ، اعْتَبَرَ الْمَالِكِيَّةُ الذَّرِيعَةَ فِيهَا وَخَالَفَهُمْ غَيْرُهُمْ فِي ذَلِكَ.
مَسْأَلَةٌ:
وَسِيلَةُ الْمُحَرَّمِ مُحَرَّمَةٌ، وَكَذَلِكَ وَسِيلَةُ الْوَاجِبِ وَاجِبَةٌ كَالسَّعْيِ إلَى الْجُمُعَةِ وَالسَّفَرِ لِلْحَجِّ، فَكَمَا يَجِبُ سَدُّ الذَّرَائِعِ يَجِبُ فَتْحُهَا كَمَا مَثَّلْنَا.
فرع:
وَمِنْ ذَلِكَ الْبَيْعُ بَعْدَ نِدَاءِ الْجُمُعَةِ الْمُوجِبُ لِسَعْيِ الْمُتَبَايِعِينَ أَوْ أَحَدُهُمَا لِأَنَّهُ وَسِيلَةٌ إلَى التَّخَلُّفِ عَنْ الْجُمُعَةِ أَوْ فَوَاتِ بَعْضِهَا، فَإِنْ وَقَعَ ذَلِكَ فَالْمَشْهُورُ أَنَّهُ يُفْسَخُ، وَاخْتُلِفَ فِي غَيْرِ الْبَيْعِ مِنْ الْعُقُودِ كَالنِّكَاحِ وَالْخُلْعِ وَالصُّلْحِ وَالْإِجَارَةِ وَمَا فِي مَعْنَى ذَلِكَ، فَقَالَ ابْنُ بَشِيرٍ لَا شَكَّ أَنَّهَا كَالْبَيْعِ لِأَنَّهَا مُشْغِلَةٌ وَاخْتُلِفَ فِي الْفَسْخِ أَيْضًا وَحَكَى اللَّخْمِيُّ عَنْ ابْنِ عَبْدِ الْحَكَمِ الْفَسْخَ فِي الْإِقَالَةِ وَالشَّرِكَةِ وَالتَّوْلِيَةِ وَالْأَخْذِ بِالشُّفْعَةِ.
فرع:
قَالَ ابْنُ رَاشِدٍ: يَنْبَغِي لِلْحَاكِمِ إذَا خَافَ مِنْ الْمُتَبَايِعِينَ الْوُقُوعَ فِي الْمُحَرَّمِ أَنْ يَمْنَعَهُمْ مِنْهُ.
فرع:
وَمِنْ ذَلِكَ السَّفَرُ بِالْمُصْحَفِ إلَى أَرْضِ الْعَدُوِّ خَشْيَةَ تَمَلُّكِهِ وَوُقُوعِهِ بِأَيْدِيهِمْ فَلَا يَجُوزُ حَمْلُهُ إلَى بِلَادِهِمْ.
فرع:
وَكَذَلِكَ لَا يَجُوزُ بَيْعُ آلَةِ الْحَرْبِ مِنْ الْكُرَاعِ وَالسِّلَاحِ وَالسُّرُوجِ وَالتُّرُوسِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا يُتَّقَى بِهِ لِلْحَرْبِيِّينَ، لِمَا يُتَّقَى مِنْ تَقْوِيَتِهِمْ بِذَلِكَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ.
فرع:
وَكَذَلِكَ لَا يَشْتَرِي مِنْ الْحَرْبِيِّينَ بِالدَّنَانِيرِ وَالدَّرَاهِمِ الَّتِي فِيهَا اسْمُ اللَّهِ تَعَالَى لِنَجَاسَتِهِمْ كَانُوا أَهْلَ حَرْبٍ أَوْ عَهْدٍ.
فرع:
وَمِنْ ذَلِكَ زَوَاجُ الْمُسْلِمِ النَّصْرَانِيَّةَ فِي دَارِ الْحَرْبِ لِمَا يُخْشَى عَلَى الذُّرِّيَّةِ مِنْ التَّنَصُّرِ، وَمِنْ ذَلِكَ عُقُودُ الْغَرَرِ لِأَنَّهَا ذَرِيعَةٌ إلَى أَكْلِ الْمَالِ بِالْبَاطِلِ، كَالْعَبْدِ الْآبِقِ وَالْبَعِيرِ الشَّارِدِ وَالثَّمَرَةِ الَّتِي لَمْ يَبْدُ صَلَاحُهَا وَتُرَابِ الصَّوَّاغِينَ، وَبَيْعِ الطَّيْرِ فِي الْهَوَاءِ وَالسَّمَكِ فِي الْمَاءِ وَالْإِبِلِ الْمُهْمَلَةِ الَّتِي يَصْعُبُ انْقِيَادُهَا وَلَا يُعْلَمُ هَلْ تَسْلَمُ فِي أَخْذِهَا وَتَسْلِيمُهَا لِلْمُشْتَرَى مِنْهُ، وَمِنْهُ الْعَقْدُ عَلَى مَا لَا يَجُوزُ تَمَلُّكُهُ كَالْحُرِّ وَلَحْمِ الْمَيْتَةِ وَالْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ وَالْقِرْدِ وَالدَّمِ غَيْرِ ذَلِكَ مَا يَطُولُ ذِكْرُهُ.
فرع:
وَمِنْ ذَلِكَ عُقُودُ الرِّبَا وَعُقُودُ الْعَيِّنَةِ وَسَلَفٌ جَرَّ مَنْفَعَةً وَمَا أَشْبَهَهُ، وَكُلُّ هَذِهِ وَمَا جَرَى مَجْرَاهَا يَجِبُ عَلَى الْحَاكِمِ الْمَنْعُ مِنْهُ ابْتِدَاءً إذَا عَلِمَ بِهِ، وَفَسَخَهُ إذَا اطَّلَعَ عَلَيْهِ مَعَ تَأْدِيبِ مَنْ اعْتَادَ تَعَاطِيَ هَذِهِ الْعُقُودِ.
تنبيه:
وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ وَسِيلَةَ الْمُحَرَّمِ مُحَرَّمَةٌ قَالَ الْقَرَافِيُّ وَقَدْ تَكُون وَسِيلَةُ الْمُحَرَّمِ غَيْرَ مُحَرَّمَةٍ إذَا أَفَضْت إلَى مَصْلَحَةٍ رَاجِحَةٍ، كَالتَّوَسُّلِ إلَى فِدَاءِ الْأَسْرَى بِدَفْعِ الْمَالِ إلَى الْعَدُوِّ الَّذِي هُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْهِمْ الِانْتِفَاعُ بِهِ، لِكَوْنِهِمْ مُخَاطَبِينَ بِفُرُوعِ الشَّرِيعَةِ عِنْدَنَا، وَكَذَلِكَ دَفْعُ مَالٍ لِرَجُلٍ يَأْكُلُهُ مَجَّانًا حَتَّى لَا يَزْنِيَ بِامْرَأَةٍ إذَا عَجَزَ عَنْ ذَلِكَ إلَّا بِهِ، وَكَذَلِكَ دَفْعُ الْمَالِ لِلْمُحَارِبِ حَتَّى يُخَلِّصَ هُوَ صَاحِبَ الْمَالِ وَاشْتَرَطَ مَالِكٌ فِيهِ الْإِشَارَةَ.
وَالْحَمْدُ اللَّه وَحْدَهُ، وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، وَحَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ.