فصل: باب الخوف من الشرك

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: القول المفيد على كتاب التوحيد **


باب الخوف من الشرك

وقول الله عز وجل‏:‏ ‏{‏إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 116‏]‏‏.‏

* مناسبة الباب للبابين قبله‏:‏

في الباب الأول ذكر المؤلف رحمه الله تحقيق التوحيد، وفى الباب الثاني ذكر أن من حقق التوحيد دخل الجنة بغير حساب ولا عذاب، وثلث بهذا الباب رحمه الله تعالى، لأن الإنسان يرى أنه قد حقق التوحيد وهو لم يحققه، ولهذا قال بعض السلف‏:‏ ‏(‏ما جاهدت نفسي على شيء مجاهدتها على الإخلاص‏)‏، وذلك أن النفس متعلقة بالدنيا تريد حظوظها من مال أو جاه أو رئاسة، وقد تريد بعمل الآخرة الدنيا، وهذا نقص في الإخلاص، وقل من يكون غرضه الآخر في كل عمله، ولهذا أعقب المؤلف رحمه الله ما سبق من البابين بهذا الباب، وهو الخوف من الشرك، وذكر فيه آيتين‏:‏

الأولى قوله‏:‏ ‏{‏إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ‏}‏‏.‏

‏{‏لا‏}‏‏:‏ نافية، ‏{‏أن يشرك به‏}‏‏:‏ فعل مضارع مقرون بأن المصدرية، فيحول إلى مصدر تقديره‏:‏ أن الله لا يغفر الإشراك به، أو لا يغفر إشراكًا به، فالشرك لا يغفره الله أبدًا، لأنه جناية على حق الله الخاص، وهو التوحيد‏.‏

أما المعاصي، كالزنى والسرقة، فقد يكون للإنسان فيها حظ نفس بما نال من شهوة، أما الشرك، فهو اعتداء على حق الله تعالى، وليس للإنسان فيه حظ نفس، وليس شهوة يريد الإنسان أن ينال مراده، ولكنه ظلم، ولهذا قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ‏}‏ ‏[‏لقمان‏:‏ 13‏]‏‏.‏

وهل المراد بالشرك هنا الأكبر، أم مطلق الشرك‏؟‏

قال بعض العلماء‏:‏ إنه مطلق يشمل كل شرك لو أصغر، كالحلف بغير الله، فإن الله لا يغفره، أما بالنسبة لكبائر الذنوب، كالسرقة والخمر، فإنها تحت المشيئة، فقد يغفرها الله، وشيخ الإسلام ابن تيمية المحقق في هذه المسائل اختلف كلامه في هذه المسألة، فمرة قال‏:‏ الشرك لا يغفره الله ولو كان أصغر، ومرة قال‏:‏ الشرك الذي لا يغفره الله هو الشرك الأكبر، وعلى كل حال فيجب الحذر من الشرك مطلقًا، لأن العموم يحتمل أن يكون داخلًا فيه الأصغر، لأن قوله‏:‏ ‏{‏أن يشرك به‏}‏ أن وما بعدها في تأويل مصدر، تقديره‏:‏ إشراكًا به، فهو نكرة في سياق النفي، فتفيد العموم‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏ويغفر ما دون ذلك‏}‏، المراد بالدون هنا‏:‏ ما هو أقل من الشرك، وليس ما سوى الشرك‏.‏

* * *

وقال الخليل عليه السلام‏:‏ ‏{‏واجنبني وبني أن نعبد الأصنام‏}‏ ‏[‏إبراهيم‏:‏ 35‏]‏

الآية الثانية‏:‏ قوله‏:‏ ‏{‏واجنبني وبني أن نعبد الأصنام‏}‏‏.‏

قيل‏:‏ المراد ببنيه‏:‏ بنوه لصلبه، ولا نعلم له من صلبه سوى إسماعيل وإسحاق، وقيل‏:‏ المراد ذريته وما توالد من صلبه، وهو الأرجح، وذلك للآيات التي دلت على دعوته للناس من ذريته، ولكن كان من حكمة الله أن لا تجاب دعوته في بعضهم، كما أن الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ دعا أن لا يجعل بأس أمته بينهم فلم يجب الله دعاه‏.‏

وأيضًا يمنع من الأول أن الآية بصيغة الجمع، وليس لإبراهيم من الأبناء سوى إسحاق وإسماعيل‏.‏

ومعنى‏:‏ ‏{‏اجنبني‏}‏، أي‏:‏ اجعلني في جانب والأصنام في جانب، وهذا أبلغ مما لو قال‏:‏ امنعني وبني من عبادة الأصنام، لأنه إذا كان في جانب عنها كان أبعد‏.‏

فإبراهيم عليه السلام يخاف الشرك على نفسه، وهو خليل الرحمن وإمام الحنفاء، فما بالك بنا نحن إذن‏؟‏‍‏.‏

فلا تأمن الشرك، ولا تأمن النفاق، إذ لا يأمن النفاق إلا منافق، ولا يخاف النفاق إلا مؤمن، ولهذا قال ابن أبي مليكة‏:‏ ‏(‏أدركت ثلاثين من أصحاب النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ كلهم يخاف النفاق على نفسه‏)‏ ‏[‏‏(‏2‏)‏ البخاري‏:‏ كتاب الإيمان/ باب خوف المؤمن أن يحبط عمله‏.‏‏]‏‏.‏

وها هو عمر بن الخطاب رضي الله عنه خاف على نفسه النفاق، فقال لحذيفة بن اليمان رضي الله عنه الذي أسر إليه النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بأسماء أناس من المنافقين، فقال له عمر رضي الله عنه‏:‏ ‏(‏أنشدك الله، هل سماني لك رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ مع من سمى من المنافقين‏؟‏‏.‏ فقال حذيفة رضي الله عنه‏:‏ لا، ولا أزكي بعدك أحدًا‏)‏ ‏[‏‏(‏3‏)‏ أنظر‏:‏ ‏"‏طريق الهجرتين‏"‏ لابن القيم آخر الطبقة الخامسة عشرة‏.‏

‏]‏، أراد عمر بذلك زيادة الطمأنينة، وإلا، فقد شهد له النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بالجنة‏.‏

ولا يقال‏:‏ إن عمر رضي الله عن أراد حث الناس على الخوف من النفاق ولم يخفه على نفسه، لأن ذلك خلاف ظاهر اللفظ، والأصل حمل اللفظ على ظاهره، ومثل هذا القول يقوله بعض العلماء فيما يضيفه النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلى نفسه في بعض الأشياء، يقولون‏:‏ هذا قصد به التعليم، وقصد به أن يبين لغيره، كما قيل، إن الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ لم يقل‏:‏ رب اغفر لي لأن ليس له ذنباَ ولكن لأجل أن يعلم الناس الاستغفار، وهذا خلاف الأصل وقول بعضهم‏:‏ إنه جهر بالذكر عقب الفريضة ليعلم الناس الذكر، لا لأن الجهر بذلك من السنة ونحو ذلك‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏أن نعبد الأصنام‏}‏‏.‏ أن والفعل بعدها في تأويل مصدر‏:‏ مفعول ثان لقوله‏:‏ اجنبني‏.‏

والأصنام‏:‏ جمع صنم، وهو ما جعل على صورة إنسان أو غيره يعبد من دون الله‏.‏

أما الوثن، فهو ما عبد من دون الله على أي وجه كان، وفي الحديث‏:‏ ‏(‏لا تجعل قبري وثنًا يعبد‏)‏ ‏[‏موطأ الإمام مالك ‏(‏1/172‏)‏

‏]‏ ، فالوثن أعم من الصنم‏.‏

ولا شك أن إبراهيم سأل ربه الثبات على التوحيد، لأنه إذا جنبه عبادة الأصنام صار باقيًا على التوحيد‏.‏

* الشاهد من هذه الآية‏:‏

أن إبراهيم خاف الشرك، وهو إمام الحنفاء، وهو سيدهم ما عدا رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ‏.‏

* * *

وفي الحديث‏:‏ ‏(‏أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر‏)‏‏.‏ فسئل عنه فقال‏:‏ ‏(‏الرياء‏)‏ ‏[‏مسند الإمام أحمد ‏(‏5/428‏)‏ وشرح السنة ‏(‏14/324‏)‏‏.‏

‏]‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏"‏وفي الحديث‏"‏‏.‏ الحديث‏:‏ ما أضيف إلى الرسول، والخبر‏:‏ ما أضيف إليه والى غيره، والأثر‏:‏ ما أضيف إلى غير الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ أي‏:‏ إلى الصحابي فمن بعده، إلا إذا قيد فقيل‏:‏ وفي الأثر عن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فيكون على ما قيد به‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏أخوف ما أخاف عليكم‏)‏‏.‏ الخطاب للمسلمين، إذ المسلم هو الذي يخاف عليه الشرك الأصغر، وليس لجميع الناس‏.‏

قوله‏:‏ ‏"‏الرياء‏"‏، مشتق من الرؤية مصدر راءى يرائي، والمصدر رياء، كقاتل يقاتل قتالًا‏.‏

والرياء‏:‏ أن يعبد الله ليراه الناس فيمدحوه على كونه عابدًا، وليس يريد أن تكون العبادة للناس، لأنه لو أراد ذلك، لكان شركًا أكبر، والظاهر أن هذا على سبيل التمثيل، وإلا، فقد يكون رياء، وقد يكون سماعًا، أي يقصد بعبادته أن يسمعه الناس فيثنوا عليه، فهذا داخل في الرياء، فالتعبير بالرياء من باب التعبير بالأغلب‏.‏

أما إن أراد بعبادته أن يقتدي الناس به فيها، فليس هذا رياء، بل هذا من الدعوة إلى الله - عز وجل ـ، والرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقول‏:‏ ‏(‏فعلت هذا لتأتموا بي وتعلموا صلاتي‏)‏ ‏[‏البخاري‏:‏ كتاب الجمعة/باب الخطبة على المنبر، ومسلم‏:‏ كتاب المساجد/باب جواز الخطوة والخطوتين في الصلاة‏.‏

‏]‏‏.‏

والرياء ينقسم باعتبار إبطاله للعبادة إلى قسمين‏:‏

الأول‏:‏ أن يكون في أصل العبادة، أي ما قام يتعبد إلا للرياء، فهذا عمله باطل مردود عليه لحديث أبي هريرة في ‏"‏الصحيح‏"‏ مرفوعًا، قال الله تعال‏:‏ ‏(‏أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملًا أشرك معي فيه غيري تركته وشركه‏)‏‏.‏

الثاني‏:‏ أن يكون الرياء طارئًا على العبادة، أي أن أصل العبادة لله، لكن طرأ عليها الرياء، فهذا ينقسم إلى قسمين‏:‏

الأول‏:‏ أن يدافعه، فهذا لا يضره‏.‏

مثاله‏:‏ رجل صلى ركعة، ثم جاء أناس في الركعة الثانية، فحصل في قلبه شيء بأن أطال الركوع أو السجود أو تباكى وما أشبه ذلك، فإن دافعه، فإنه لا يضره لأنه قام بالجهاد‏.‏

القسم الثاني‏:‏ أن استرسل معه، فكل عمل ينشأ عن الرياء فهو باطل، كما لو أطال القيام، أو الركوع، أو السجود، أو تباكى، فهذا كل عمله حابط، ولكن هل هذا البطلان يمتد إلى جميع العبادة أم لا‏؟‏

نقول‏:‏ لا يخلو هذا من حالين‏:‏

الحال الأولى‏:‏ أن يكون آخر العبادة مبينًا على أولها، بحيث لا يصح أولها مع فساد آخرها، فهذه كلها فاسدة‏.‏

وذلك مثل الصلاة، فالصلاة مثلًا لا يمكن أن يفسد آخرها ولا يفسد أولها، وحينئذ تبطل الصلاة كلها إذا طرأ الرياء في أثنائها ولم يدافعه‏.‏

الحال الثانية‏:‏ أن يكون أول العبادة منفصلًا عن آخرها، بحيث يصح أولها دون آخرها، فما سبق الرياء، فهو صحيح، وما كان بعده، فهو باطل‏.‏

مثال ذلك‏:‏ رجل عنده مئة ريال، فتصدق بخمسين بنية خالصة، ثم تصدق بخمسين بقصد الرياء، فالأولى مقبولة، والثانية غير مقبولة، لأن آخرها منفك عن أولها‏.‏

فإن قيل‏:‏ لو حدث الرياء في أثناء الوضوء، هل يلحق بالصلاة فيبطل كله، أو بالصدقة فيبطل ما حصل فيه الرياء فقط‏.‏

فالجواب‏:‏ يحتمل هذا وهذا، فيلحق بالصلاة لأن الوضوء عبادة واحدة ينبني بعضها على بعض، ليس تطهير كل عضو عبادة مستقلة، ويلحق بالصدقة لأنه ليس كالصلاة من كل وجه ولا الصدقة من كل وجه، لأننا إذا قلنا ببطلان ما حصل فيه الرياء، فأعاد تطهيره وحد لم يضر، لأن تكرر غسل الوضوء لا يبطل الوضوء ولو كان عمدًا بخلاف الصلاة‏.‏ فإنه إذا كرر جزءًا منها كركوع أو سجود لغير سبب شرعي، بطلت صلاته، فلو أنه بعد أن غسل يديه رجع وغسل وجهه، لم يبطل وضوؤه، ولو أنه بعد أن سجد رجع وركع، لبطلت صلاته، والترتيب موجود في هذا وهذا، لكن الزيادة في الصلاة تبطلها، والزيادة في الوضوء لا تبطله، والرجوع مثلًا إلى الأعضاء الأولى لا يبطله أيضًا، وإن كان الرجوع في الحقيقة لا يعتبر وضوءًا لأنه غير شرعي، وربما يكون في الأولى غسل وجهه على أنه واحدة، ثم غسل يديه، ثم قال‏:‏ الأحسن أن أكمل الثلاث في الوجه أفضل، فغسل وجهه مرتين، وهو سيرتب أي سيغسل وجهه ثم يديه، فوضؤه صحيح‏.‏

ولو ترك التسبيح ثلاث مرات في الركوع، وبعدما سجد قال‏:‏ فوت على نفس فضيلة، سأرجع لأجل أن أسبح ثلاث مرات، فتبطل صلاته، فالمهم أن هناك فرقًا بين الوضوء والصلاة، ومن أجل هذا الفرق لا أبت فيها الآن حتى أراجع وأتأمل إن شاء الله تعالى‏.‏

* * *

وعن أبي مسعود رضي الله عنه، أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال‏:‏ ‏(‏من مات وهو يدعو من دون الله ندًا، دخل النار‏)‏‏.‏ رواه البخاري‏.‏

قوله‏:‏ ‏"‏من‏"‏‏.‏ هذه شرطية تفيد العموم للذكر والأنثى‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏يدعو من دون الله ندًا‏)‏، أي‏:‏ يتخذ لله ندًا سواء دعاء عبادة أم دعاء مسألة، لأن الدعاء ينقسم إلى قسمين‏:‏

الأول‏:‏ دعاء عبادة، مثاله‏:‏ الصوم، والصلاة، وغير ذلك من العبادات، فإذا صلى الإنسان أو صام، فقد دعا ربه بلسان الحال أن يغفر له، وأن يجيره من عذابه، وأن يعطيه من نواله، وهذا في أصل الصلاة، كما أنها تتضمن الدعاء بلسان المقال‏.‏

ويدل لهذا القسم قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وقال ربكم ادعوني أستجب لكم إن الذين يستكبرون عن عبادتي‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 60‏]‏، فجعل الدعاء عبادة، وهذا القسم كله شرك، فمن صرف شيئًا من أنواع العبادة لغير الله، فقد كفر كفرًا مخرجًا له عن الملة، فلو ركع لإنسان أو سجد لشيء يعظمه كتعظيم الله في هذا الركوع أو السجود، لكان مشركًا، ولهذا منع النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ من الانحناء عن الملاقاة لما سئل عن الرجل يلقى أخاه أن يحني له‏؟‏ قال‏:‏ ‏"‏لا‏"‏‏.‏

خلافًا لما يفعله بعض الجهال إذا سلم عليك انحنى لك، فيجب على كل مؤمن بالله أن ينكره، لأنه عظمك على حساب دينه‏.‏

الثاني‏:‏ دعاء المسألة، فهذا ليس كله شركًا، بل فيه تفصيل، فإن كان المخلوق قادرًا على ذلك، فليس بشرك، كقوله‏:‏ اسقني ماء لمن يستطيع ذلك‏.‏ قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ‏:‏ ‏(‏من دعاكم فأجيبوه‏)‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وإذا حضر القسمة أولو القربى واليتامى والمساكين فارزقوهم منه‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 8‏]‏‏.‏

فإذا مد الفقير يده، وقال‏:‏ ارزقني، أي‏:‏ اعطني، فليس بشرك، كما قال تعال‏:‏ ‏{‏فارزقوهم منه‏}‏، وأما أن دعا المخلوق بما لا يقدر عليه إلا الله، فإن دعوته شرك مخرج عن الملة‏.‏

مثال ذلك‏:‏ أن تدعو إنسانًا أن ينزل الغيث معتقدًا أنه قادر على ذلك‏.‏

والمراد بقول الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ‏:‏ ‏(‏من مات وهو يدعو من دون لله ندًا‏)‏ المراد الند في العبادة، أما الند في المسألة، ففيه التفصيل السابق‏.‏

ومع الأسف، ففي بعض البلاد الإسلامية من يعتقد أن فلانًا المقبور الذي بقى جثة أو أكلته الأرض ينفع أو يضر، أو يأتي بالنسل لمن لا يولد لها، وهذا - والعياذ بالله - شرك أكبر مخرج من الملة، وإقرار هذا أشد من إقرار شرب الخمر والزنا واللواط، لأنه إقرار على كفر، وليس إقرارًا على فسوق فقط‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏دخل النار‏)‏‏.‏ أي‏:‏ خالدًا، مع أن اللفظ لا يدل عليه، لأن دخل فعل، والفعل يدل على الإطلاق‏.‏

وأيضًا قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة ومأواه النار وما للظالمين من أنصار‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 72‏]‏، وإذا حرمت الجنة، لزم أن يكون خالدًا في النار أبدًا، فيجب أن نخاف من الشرك مادامت هذه عقوبته، فالمشرك خسر الآخرة، لأنه في النار خالد، وخسر الدنيا أيضًا، لأنه لم يستفد منها شيئًا، وقامت عليه الحجة، وجاءه النذير، ولكنه خسر - والعياذ بالله ـ، ما استفاد شيئًا من الدنيا، قال تعالى‏:‏ ‏{‏أولم نعمركم ما يتذكر فيه من تذكر وجاءكم النذير‏}‏ ‏[‏فاطر‏:‏ 37‏]‏، وقال الله - عز وجل ـ‏:‏ ‏{‏ومن الناس من يعبد الله على حرف فإن أصابه خير اطمأن به وإن أصابته فتنة انقلب على وجهه خسر الدنيا والآخرة ذلك هو الخسران المبين * يدعو من دون الله ما لا يضره وما لا ينفعه ذلك هو الضلال البعيد * يدعو لمن ضره اقرب من نفعه لبئس المولى ولبئس العشير‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 11-13‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏قل إن الخاسرين الذين خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 15‏]‏‏.‏

فخسر نفسه، لأنه لم يستفد منها شيئًا، وخسر أهله، لأنهم إن كانوا من المؤمنين فهم في الجنة، فلا يتمتع بهم في الآخرة، وإن كانوا في النار فكذلك، لأنه كلما دخلت أمة لعنت أختها، والشرك خفي جدًا، فقد يكون في الإنسان وهو لا يشعر إلا بعد المحاسبة الدقيقة، ولهذا قال بعض السلف‏:‏ ‏"‏ما جاهدت نفسي على شيء ما جاهدتها على الإخلاص‏"‏‏.‏

فالشرك أمره صعب جدًا ليس بالهين، ولكن ييسر الله الإخلاص على العبد، وذلك بأن يجعله الله نصب عينيه، فيقصد بعمله وجه الله لا يقصد مدح الناس أو ذمهم أو ثناءهم عليه، فالناس لا ينفعونه أبدًا، حتى لو خرجوا معه لتشييع جنازته لم ينفعه إلا عمله، قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ‏:‏ ‏(‏يخرج مع الميت أهله وماله وعمله، فيرجع اثنان‏:‏ أهله وماله، ويبقى عمله‏)‏ ‏.‏

وكذلك أيضًا من المهم أن الإنسان لا يفرحه أن يقبل الناس قوله لأنه قوله، لكن يفرحه أن يقبل الناس قوله إذا رأى أنه الحق لأنه الحق، لا أنه قوله، وكذا لا يحزنه أن يرفض الناس قوله لأنه قوله، لأنه حينئذ يكون قد دعا لنفسه، لكن يحزنه أن يرفضوه لأنه الحق، وبهذا يتحقق الإخلاص‏.‏

فالإخلاص صعب جدًا، إلا أن الإنسان إذا كان متجهًا إلى الله اتجاهًا صادقًا سليمًا على صراط مستقيم، فإن الله يعينه عليه، ويسره له‏.‏

ولمسلم عن جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏من لقي الله لا يشرك به شيئًا دخل الجنة، ومن لقيه يشرك به شيئًا دخل النار‏)‏ 1‏.‏

* * *

قوله‏:‏ ‏"‏من‏"‏‏.‏ شرطية تفيد العموم، وفعل الشرط‏:‏ ‏"‏لقي‏"‏، وجوابه قوله‏:‏ ‏(‏دخل الجنة‏)‏، وهذا الدخول لا ينافي أن يعذب بقدر ذنوب إن كانت عليه ذنوب، لدلالة نصوص الوعيد على ذلك، وهذا إذا لم يغفر الله له، لأن داخل تحت المشيئة‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏لا يشرك‏)‏‏.‏ في محل نصب على الحال من فعل ‏"‏لقي‏"‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏"‏شيئًا‏"‏‏.‏ نكرة في سياق الشرط، فيعم أي شرك حتى ولو أشرك مع الله أشرف الخلق، وهو الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ دخل النار، فكيف بمن يجعل الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ أعظم من الله، فيلجأ إليه عند الشدائد، ولا يلجأ إلى الله، بل ربما يلجأ إلى ما دون الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ ‏؟‏‏!‏ وهناك من لا يبالي بالحلف بالله صادقًا أم كاذبًا، ولكن لا يحلف بقوميته إلا صادقًا، ولهذا اختلف فيمن لا يبالي بالحلف بالله، ولكنه لا يحلف بقوميته إلا صادقًا، ولهذا اختلف فيمن لا يبالي بالحلف بالله، ولكن لا يحلف بملته أو بما يعظمه إلا صادقًا، فلزمته يمين، هل يحلف بالله أو يحلف بهذا‏؟‏

فقيل‏:‏ يحلف بالله ولو كذب، ولا يعان على الشرك، وهو الصحيح‏.‏

وقيل‏:‏ يحلف بغير الله، لأن المقصود الوصول إلى بيان الحقيقة، وهو إذا كان كاذبًا لا يمكن أن يحلف، لكن نقول‏:‏ إن كان صادقًا حلف ووقع في الشرك‏.‏

* مسألة‏:‏ هل يلزم من دخول النار الخلود لمن أشرك‏؟‏

هذا بحسب الشرك، إن كان الشرك أصغر كما دلت عل ذلك النصوص، فإنه لا يلزم من ذلك الخلود في النار‏.‏ وإن كان أكبر، فإنه يلزم منه الخلود في النار‏.‏

لكن لو حلمنا الحديث على الشرك الأكبر في الموضعين في قوله‏:‏ ‏(‏من مات لا يشرك بالله شيئًا دخل الجنة‏)‏، وفي قوله‏:‏ ‏(‏ومن لقي الله يشرك به شيئًا دخل النار‏)‏، وقلنا‏:‏ من لقي الله لا يشرك به شركًا أكبر دخل الجنة، وإن عذب قبل الدخول في النار بما يستحق، فيكون مآله إلى الجنة، ومن لقيه يشرك به شركًا أكبر دخل النار مخلدًا فيها لم نحتج إلى هذا التفصيل‏.‏

* * *

* فيه مسائل‏:‏

الأولى‏:‏ الخوف من الشرك‏.‏ الثانية‏:‏ أن الرياء من الشرك‏.‏ الثالثة‏:‏ أنه من الشرك الأصغر‏.‏

فيه مسائل‏:‏

* الأولى‏:‏ الخوف من الشرك‏.‏ لقوله‏:‏ ‏{‏إن الله لا يغفر أن يشرك به‏}‏، ولقوله‏:‏ ‏{‏واجنبني وبني أن نعبد الأصنام‏}‏‏.‏

* الثانية‏:‏ أن الرياء من الشرك‏.‏ لحديث‏:‏ ‏(‏أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر‏)‏، فسئل عنه فقال ‏"‏الرياء‏"‏، وقد سبق بيان أحكامه بالنسبة إلى إبطال العبادة‏.‏

* الثالثة‏:‏ أنه من الشرك الأصغر، لأن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لما سئل عنه فقال‏:‏ ‏"‏الرياء‏"‏، فسماه شركًا أصغر، وهل يمكن أن يصل إلى الأكبر‏؟‏

ظاهر الحديث لا يمكن، لأنه قال‏:‏ ‏"‏الشرك الأصغر‏"‏، فسئل عنه، فقال‏:‏ ‏"‏الرياء‏"‏‏.‏

لكن في عبارات ابن القيم رحمه الله أنه إذا ذكر الشرك الأصغر قال‏:‏ كيسير الرياء، فهذا يدل على أن كثيره ليس من الأصغر، لكن إن أراد بالكمية، فنعم، لأنه لو كان يرائي في كل عمل لكان مشركًا شركًا أكبر لعدم وجود الإخلاص في عمل يعمله، أما إذا أراد الكيفية، فظاهر الحديث أنه أصغر مطلقًا‏.‏

* * *

الرابعة‏:‏ أنه أخوف ما يخاف منه على الصالحين‏.‏ الخامسة‏:‏ قرب الجنة والنار‏.‏ السادسة‏:‏ الجمع بين قربهما في حديث واحد‏.‏ السابعة‏:‏ أنه من لقيه يشرك به شيئًا، دخل النار، ولو كان من أعبد الناس‏.‏

* الرابعة‏:‏ أنه أخوف ما يخاف منه على الصالحين‏.‏ وتؤخذ من قوله‏:‏ ‏"‏أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر‏"‏، ولأنه قد يدخل في قلب الإنسان من غير شعور لخفائه وتطلع النفس إليه، فإن كثيرًا من النفوس تحب أن تمدح بالتعبد لله‏.‏

* الخامسة‏:‏ قرب الجنة والنار‏.‏ لقوله‏:‏ ‏(‏من لقي الله لا يشرك به شيئًا، دخل الجنة، ومن لقيه يشرك به شيئًا، دخل النار‏)‏‏.‏

* السادسة‏:‏ الجميع بين قربهما في حديث واحد‏.‏ ‏(‏من لقي الله لا يشرك به شيئًا‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏)‏ الحديث‏.‏

* السابعة‏:‏ أن من لقيه يشرك به شيئًا دخل النار، ولو كان من أعبد الناس‏.‏ تؤخذ من العموم في قوله‏:‏ ‏(‏من لقي الله‏)‏، لأن ‏"‏من‏"‏ للعموم، لكن إن كان شركه أكبر، لم يدخل الجنة وإن كان أعبد الناس، لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة ومأواه النار‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 72‏]‏، وإن كان أصغر، عذب بقدر ذنوبه ثم دخل الجنة‏.‏

* * *

الثامنة‏:‏ المسألة العظيمة سؤال الخليل له ولبنيه وقاية عبادة الأصنام‏.‏ التاسعة‏:‏ اعتباره بحال الأكثر، لقوله‏:‏ ‏{‏رب إنهن أضللن كثيرًا من الناس‏}‏ ‏[‏إبراهيم‏:‏ 36‏]‏‏.‏ العاشرة‏:‏ فيه تفسير ‏(‏لا إله إلا الله‏)‏ كما ذكره البخاري‏.‏ الحادية عشرة‏:‏ فضيلة من سلم من الشرك‏.‏

* الثامنة‏:‏ المسألة العظيمة سؤال الخليل له ولبنيه وقاية عبادة الأصنام، تؤخذ من قوله تعالى‏:‏ ‏{‏واجنبني وبني أن نعبد الأصنام‏}‏‏.‏

* التاسعة‏:‏ اعتباره بحال الأكثر، لقوله‏:‏ ‏{‏رب إنهن أضللن كثيرًا من الناس‏}‏‏.‏ وفيه إشكال، إذ المؤلف يقول‏:‏ بحال الأكثر، والآية‏:‏ ‏{‏كثيرًا من الناس‏}‏، وفرق بين كثير وأكثر، ولهذا قال تعالى في بني آدم‏:‏ ‏{‏وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلًا‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 70‏]‏، فلم يقل على أكثر الخلق، ولا على الخلق، فالآدميون فضلوا على كثير ممن خلق الله، وليسوا أكرم الخلق على الله، ولكنه كرمهم‏.‏

* العاشرة‏:‏ فيه تفسير لا إله إلا الله كما ذكره البخاري‏.‏ الظاهر أنها تؤخذ من جميع الباب، لأن لا إله إلا الله فيها نفي وإثبات‏.‏

* الحادية عشرة‏:‏ فضيلة من سلم من الشرك‏.‏ لقوله‏:‏ ‏{‏ويغفر ما دون ذلك‏}‏، وقوله‏:‏ ‏(‏من لقي الله لا يشرك به شيئًا، دخل الجنة‏)‏‏.‏

* * *

باب الدعاء إلى شهادة أن لا إله إلا الله

وقول الله تعالى‏:‏ ‏{‏قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة‏}‏ الآية ‏[‏يوسف‏:‏ 108‏]‏‏.‏

هذا الترتيب الذي ذكره المؤلف من أحسن ما يكون، لأنه لما ذكر توحيد الإنسان بنفسه ذكر دعوة غيره إلى ذلك، لأنه لا يتم الإيمان إلا إذا دعا إلى التوحيد، قال تعالى‏:‏ ‏{‏والعصر * إن الإنسان لفي خسر * إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر‏}‏ ‏[‏سورة العصر‏]‏‏.‏

فلا بد مع التوحيد من الدعوة إليه، وإلا، كان ناقصًا، ولا ريب أن هذا الذي سلك سبيل التوحيد لم يسلكه إلا وهو يرى أنه أفضل سبيل، وإذا كان صادقًا في اعتقاده، فلابد أن يكون داعيًا إليه، والدعاء إلى شهادة أن لا إله إلا الله من تمام التوحيد، ولا يتم التوحيد إلا به‏.‏

* * *

قوله‏:‏ ‏{‏قل هذه سبيلي‏}‏، المشار إليه ما جاء به النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ من الشرع عبادة ودعوة إلى الله‏.‏

سبيلي‏:‏ طريقي‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏أدعو‏}‏، حال من الياء في قوله‏:‏ ‏{‏سبيلي‏}‏، ويحتمل أن تكون استئنافًا لبيان تلك السبيل‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏إلى الله‏}‏، لأن الدعاة إلى الله ينقسمون إلى قسمين‏:‏

1- داع إلى الله‏.‏

2- داع إلى غيره‏.‏

فالداعي إلى الله تعالى هو المخلص الذي يريد أن يوصل الناس إلى الله تعالى‏.‏

والداعي إلى غيره قد يكون داعيًا إلى نفسه، يدعو إلى الحق لأجل أن يعظم بين الناس ويحترم، ولهذا تجده يغضب إذا لم يفعل الناس ما أمر به، ولا يغضب إذا ارتكبوا نهيًا أعظم منه، لكن لم يدع إلى تركه‏.‏

وقد يكون داعيًا إلى رئيسه كما يوجد في كثير من الدول من علماء الضلال من علماء الدول، لا علماء الملل، يدعو إلى رؤسائهم‏.‏

من ذلك لما ظهرت الاشتراكية في البلاد العربية قام بعض علماء الضلال بالاستدلال عليها بآيات وأحاديث بعيدة الدلالة، بل ليس فيها دلالة، فهؤلاء دعوا إلى غير الله‏.‏

ومن دعا إلى الله ثم رأى الناس فارين منه، فلا ييأس، ويترك الدعوة، فإن الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال لعلي‏:‏ ‏(‏انفذ على رسلك، فوالله، لأن يهدي الله بك رجلًا واحدًا خير لك من حمر النعم‏)‏ ، يعني‏:‏ أن اهتداء رجل واحد من قبائل اليهود خير لك من حمر النعم، فإذا دعا إلى الله ولم يجب، فليكن غضبه من أجل أن الحق لم يتبع، لا لأنه لم يجب، فإذا كان يغضب لهذا، فمعناه أنه يدعو إلى الله، فإذا استجاب واحد، كفى، وإذا لم يستجب أحد، فقد أبرأ ذمته أيضًا، وفي الحديث‏:‏ ‏(‏والنبي وليس معه أحد‏)‏ ‏.‏

ثم إنه يكفي من الدعوة إلى الحق والتحذير من الباطل أن يتبين للناس أن هذا حق وهذا باطل، لأن الناس إذا سكتوا عن بيان الحق، وأقر الباطل مع طول الزمن، ينقلب الحق باطلًا، والباطل حقًا‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏على بصيرة‏}‏، أي‏:‏ علم، فتضمنت هذه الدعوة الإخلاص والعلم، لأن أكثر ما يفسد الدعوة عدم الإخلاص، أو عدم العلم، وليس المقصود بالعلم في قوله ‏{‏على بصيرة‏}‏ العلم بالشرع فقط، بل يشمل، العلم بالشرع، والعلم بحال المدعو، والعلم بالسبيل الموصل إلى المقصود، وهو الحكمة‏.‏

فيكون بصيرًا بحكم الشرع، وبصيرًا بحال المدعو، وبصيرًا بالطريق الموصلة لتحقيق الدعوة، ولهذا قال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لمعاذ‏:‏ ‏(‏إنك تأتي قومًا أهل كتاب‏)‏ ‏[‏البخاري‏:‏ كتاب المغازي/ باب بعث أبي موسى ومعاذ إلى اليمن، ومسلم‏:‏ كتاب الإيمان/ باب الدعاء إلى الشهادتين‏.‏‏]‏‏.‏

وهذه ليست كلها من العلم بالحكم الشرعي، لأن علمي أن هذا الرجل قابل للدعوة باللين، وهذا قابل للدعوة بالشدة، وهذا عنده علم يمكن أن يقابلني بالشبهات أمر زائد على العلم بالحكم الشرعي، وكذلك العلم بالطرق التي تجلب المدعوين كالترغيب بكذا والتشجيع، كقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ‏:‏ ‏(‏من قتل قتيلًا، فله سلبه‏)‏ ‏[‏البخاري‏:‏ كتاب المغازي/ باب قول الله تعالى‏:‏ ‏(‏ويوم حنين إذ أعجبتكم‏.‏‏.‏‏.‏‏(‏، ومسلم‏:‏ كتاب الجهاد/ باب استحقاق القاتل سلب القتيل‏.‏‏]‏ ، أو بالتأليف، فالنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أعطى المؤلفة قلوبهم في غزوة حنين إلى مئة بعير، فهذا كله من الحكمة، فالجاهل لا يصلح للدعوة، وليس محمودًا وليست طريقته طريقة الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ لأن الجاهل يفسد أكثر مما يصلح‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏أنا ومن اتبعني‏}‏، ذكروا فيها رأيين‏:‏

الأول‏:‏ ‏"‏أنا‏"‏ مبتدأ، وخبرها ‏"‏على بصيرة‏"‏، ‏"‏ومن اتبعني‏"‏ معطوفة على ‏"‏إنا‏"‏ أي‏:‏ أنا ومن اتبعني على بصيرة، أي‏:‏ في عبادتي ودعوتي‏.‏

الثاني‏:‏ ‏"‏أنا‏"‏ توكيد للضمير المستتر في قوله‏:‏ ‏"‏أدعو‏"‏، أي‏:‏ أدعو أنا إلى الله ومن اتبعني يدعو أيضًا، أي‏:‏ قل هذه سبيلي أدعو إلى الله ويدعو من اتبعني، وكلانا على بصيرة‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏وسبحان الله‏}‏، أي‏:‏ أن أكون أدعو على غير بصيرة‏!‏

وإعراب ‏"‏سبحان‏"‏‏:‏ مفعول مطلق عامله محذوف تقديره أسبح‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏وما أنا من المشركين‏}‏، محلها مما قبلها في المعنى توكيد، لأن التوحيد معناه نفي الشرك‏.‏

* * *

وعن ابن عباس رضي الله عنهما‏:‏ أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ لما بعث معاذًا إلى اليمن، قال له‏:‏ ‏(‏إنك تأتي قومًا من أهل الكتاب، فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله‏.‏‏.‏‏.‏

* * *

‏(‏وفي رواية‏:‏ إلى أن يوحدوا الله‏)‏، فإن هم أطاعوك لذلك، فأعلمهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة، فإن هم أطاعوك لذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم، فإن هم أطاعوك لذلك، فإياك وكرائم أموالهم، واتق دعوة المظلوم، فإن ليس بينها وبين الله حجاب‏)‏‏.‏ أخرجاه‏.‏

وقوله ‏(‏أي‏:‏ قول ابن عباس‏)‏‏:‏ ‏(‏بعث معاذًا‏)‏ أي‏:‏ أرسله، وبعثه على صفة المعلم والحاكم والداعي، وبعثه في ربيع الأول سنة عشرة من الهجرة، وهذا هو المشهور، وبعثه هو وأبا موسى الأشعري رضي الله عنهما، بعث معاذًا إلى صنعاء وما حولها، وأبا موسى إلى عدن وما حولها، وأمرهما‏:‏ ‏(‏أن اجتمعا وتطاوعا ولا تفترقا، ويسرا ولا تعسرا، وبشرا وذكرا ولا تنفرا‏)‏ ‏[‏البخاري‏:‏ كتاب المغازي/ باب بعث أبي موسى ومعاذ إلى اليمن‏.‏‏]‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏"‏لما‏"‏، إعرابها شرطية، وهي حرف وجود لوجود، و‏"‏لو‏"‏‏:‏ حرف امتناع لامتناع، و‏"‏لولا‏"‏ حرف امتناع لوجود‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏إنك تأتي قومًا من أهل كتاب‏)‏، قال ذلك مرشدًا له، وهذا دليل على معرفته ـ صلى الله عليه وسلم ـ بأحوال الناس، وما يعلمه من أحوالهم، فله طريقان‏:‏

1- الوحي‏.‏ 2- العلم والتجربة‏.‏

قوله‏:‏ ‏"‏من‏"‏ بيانية، والمراد بالكتاب‏:‏ التوراة والإنجيل، فيكون المراد بأهل الكتاب اليهود والنصارى، وهم أكثر أهل اليمن في ذلك الوقت، وإن كان في اليمن مشركون، لكن الأكثر اليهود والنصارى، ولهذا اعتمد الأكثر‏.‏

وأخبره النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بذلك، لأمرين‏:‏

الأول‏:‏ أن يكون بصيرًا بأحوال من يدعو‏.‏

الثاني‏:‏ أن يكون مستعدًا لهم، لأنهم أهل كتاب، وعندهم علم‏.‏

قوله‏:‏ ‏"‏فليكن‏"‏، الفاء للاستئناف أو عاطفة، واللام للأمر، و‏"‏أول‏"‏‏:‏ اسم يكن، وخبرها ‏"‏شهادة‏"‏، وقيل العكس، يعني ‏"‏أول‏"‏ خبر مقدم و‏"‏شهادة‏"‏ اسم يكن مؤخرًا‏.‏

والظاهر أنه يريد أن يبين أن أول ما يكون هي الشهادة، وإذا كان كذلك، يكون ‏"‏أول‏"‏ مرفوعًا على أنه اسم يكن، أي‏:‏ أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله‏.‏

قوله‏:‏ ‏"‏شهادة‏"‏، الشهادة هنا من العلم، قال تعالى‏:‏ ‏{‏إِلاَّ مَن شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 86‏]‏، فالشهادة هنا العلم والنطق باللسان، لأن الشاهد مخبر عن علم، وهذا المقام لا يكفي فيه مجرد الإخبار، بل لابد من علم وإخبار وقبول وإقرار وإذعان، أي‏:‏ انقياد‏.‏

فلو اعتقد بقلبه، ولم يقل بلسانه‏:‏ أشهد أن لا إله إلا الله، فقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله‏:‏ إنه ليس بمسلم بالإجماع حتى ينطق بها، لأن كلمة أشهد تدل على الإخبار، والإخبار متضمن للنطق، فلابد من النطق، فالنية فقط لا تجزئ، ولا تنفعه عند الله حتى ينطق، والنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال لعمه أبي طالب‏:‏ ‏"‏قل‏"‏ ‏[‏البخاري‏:‏ كتاب الجنائز/ باب إذا قال المشرك عند الموت لا إله إلا الله، ومسلم‏:‏ كتاب الإيمان/ باب الدليل على صحة إسلام من حضره الموت‏.‏‏]‏، ولم يقل‏:‏ اعتقد أن لا إله إلا الله‏.‏

قوله‏:‏ ‏"‏لا إله‏"‏، أي‏:‏ لا معبود، فإله بمعنى مألوه، فهو فعال بمعنى مفعول، وعند المتكلمين، إله بمعنى آله، فهو اسم فاعل، وعليه يكون معنى لا إله، أي‏:‏ لا قادر على الاختراع، وهذا باطل، ولو قيل بهذا المعنى، لكان المشركون الذين قاتلهم النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ موحدين لأنهم يقرّون به، قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 87‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 38‏]‏‏.‏

فإن قيل‏:‏ كيف يقال‏:‏ لا معبود إلا الله، والمشركون يعبدون أصنامهم‏؟‏‏!‏

أجيب‏:‏ بأنهم يعبدونها بغير حق، فهم وإن سموها آلهة، فألوهيتها باطلة، وليست معبودات بحق، ولذلك إذا مسهم الضر، لجؤوا إلى الله تعالى، وأخلصوا له الدين، وعلى هذا لا تستحق أن تسمى آلهة‏.‏

فهم يعبدونها ويعترفون بأنهم لا يعبدونها إلا لأجل أن تقربهم إلى الله فقط، فجعلوها وسيلة وذريعة، وبهذا التقدير لا يرد علينا إشكال في قول الرسل لقومهم ‏{‏اعْبُدُواْ اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 59‏]‏، لأن هذه المعبودات لا تستحق أن تعبد، بل الإله المعبود حقًا هو الله - سبحانه وتعالى -‏.‏

وفى قوله‏:‏ ‏"‏لا إله إلا الله‏"‏ نفي الألوهية لغير الله، وإثباته لله، ولهذا جاءت بطريق الحصر‏.‏

* * *

ولهما عن سهل بن سعد ‏(‏رضي الله عنه‏)‏‏:‏ أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال يوم خيبر‏:‏ ‏(‏لأعطين غدًا رجلًا يحب الله ورسوله، ويحبه والله ورسوله، يفتح الله على يديه‏)‏‏.‏ فبات الناس يدوكون ليلتهم، أيهم يعطاها، فلما أصبحوا، غدوا على رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ كلهم يرجو أن يعطاها‏.‏

قوله‏:‏ ‏"‏لأعطين‏"‏، هذه جملة مؤكدة بثلاث مؤكدات‏:‏ القسم المقدر، واللام، والنون، والتقدير‏:‏ والله لأعطين‏.‏

قوله‏:‏ ‏"‏الراية‏"‏، العلم، وسمي راية، لأنه يُرى، وهو ما يتخذه أمير الجيش للعلامة على مكانه‏.‏

واللواء، قيل‏:‏ إنه الراية، وقيل ما لوي أعلاه، أو لوي كله، فيكون الفرق بينهما، أن الراية مفلولة لا تطوى، واللواء يطوى إما أعلاه أو كله، والمقصود منهما الدلالة، ولهذا يسمى علمًا‏.‏

قوله‏:‏ ‏"‏غدًا‏"‏، يراد به ما بعد اليوم، والأمس يراد به ما قبله‏.‏

والأصل أنه يراد بالغد ما يلي يومك، ويراد بالأمس الذي يليه يومك، وقد يراد بالغد ما وراء ذلك، قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ‏}‏ ‏[‏الحشر‏:‏ 18‏]‏، أي‏:‏ يوم القيامة‏.‏

وكذلك بالأمس قد يراد به ما وراء ذلك، أي‏:‏ ما وراء اليوم الذي يليه يومك‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏يحب الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله‏)‏‏.‏ أثبت المحبة لله من الجانبين، أي أن الله تعالى يحب ويحب، وقد أنكر هذا أهل التعطيل، وقالوا‏:‏ المراد بمحبة الله للعبد إثابته أو إرادة إثابته، والمراد بمحبة العبد لله محبة ثوابه، وهذا تحريف للكلام عن ظاهره مخالف لإجماع السلف من الصحابة والتابعين وأثمة الهدى من بعدهم، ومحبة الله تعالى ثابتة له حقيقة وهي من صفاته الفعلية، وكل شيء من صفات الله يكون له سبب، فهو من الصفات الفعلية، والمحبة لها سبب، فقد يبغض الله إنسانًا في وقت ويحبه في وقت لسبب من الأسباب‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏على يديه‏)‏، أي يفتح خيبر على يديه، وفي ذلك بشارة بالنصر‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏يدوكون‏)‏، أي‏:‏ يخوضون، وجملة يدوكون خبر بات‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏غدوا على رسول الله‏)‏، أي‏:‏ ذهبوا إليه في الغدوة مبكرين، كلهم يرجو أن يعطاها لينال محبة الله ورسوله‏.‏

* * *

فقال‏:‏ ‏(‏أين علي بن أبي طالب‏؟‏‏)‏‏.‏ فقيل هو يشتكي عينيه‏.‏ فأرسلوا إليه، فأتي به، فبصق في عينيه، ودعا له، فبرأ كأن لم يكن به وجع، فأعطاه الراية، فقال‏:‏ ‏(‏انفذ على رسلك حتى تنزل بساحتهم‏)‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فقال‏:‏ أين علي‏؟‏‏)‏، القائل‏:‏ الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏يشتكي عينيه‏)‏، أي‏:‏ يتألم منهما، ولكنه يشتكي إلى الله، لأن عينية مريضة‏.‏

وقوله‏:‏ ‏(‏فأرسلوا إليه‏)‏‏:‏ بأمر الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فأتى به‏)‏، كأنه رضي الله عنه قد عمم على عينيه، لأن قوله‏:‏ ‏(‏أتي به‏)‏، أي‏:‏ يقاد‏.‏

وقوله‏:‏ ‏(‏كأن لم يكن به وجع‏)‏، أي‏:‏ ليس بهما أثر حمرة ولا غيرها‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فبرأ‏)‏، هذا من آيات الله الدالة على قدرته وصدق رسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وهذا من مناقب أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه‏:‏ أنه يحب الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله‏:‏ لتخصيص النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ له ذلك من بين سائر الصحابة‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏انفذ على رسلك‏)‏، أي‏:‏ مهلك، مأخوذ من رسل الناقة، أي‏:‏ حليبها يحلب شيئًا فشيئًا، والمعنى‏:‏ امش هوينًا هوينًا، لأن المقام خطير، لأنه يخشى من كمين، واليهود خبثاء أهل غدر‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏حتى تنزل بساحتهم‏)‏، أي‏:‏ ما يقرب منهم وما حولهم، والنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقول‏:‏ ‏(‏إنا إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذرين‏)‏ ‏[‏البخاري‏:‏ كتاب الأذان/ باب ما يحقن بالأذان من الدماء، ومسلم‏:‏ كتاب الحج/ باب فضل المدينة‏.‏

‏]‏‏.‏

وهذا إذا كنا على الوصف الذي عليه الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأصحابه، أما إذا كنا على وصف القومية، فإننا لو نزلنا في أحضانهم، فمن الممكن أن يقوموا ونكون في الأسفل‏.‏

* * *

ثم ادعهم إلى الإسلام، وأخبرهم بما يجب عليهم من حق الله تعالى فيه، فوالله، لأن يهدي الله بك رجلًا واحدًا خير لك من حمر النعم‏)‏ ‏[‏البخاري‏:‏ كتاب الجهاد/ باب دعاء النبي ‏(‏ إلى الإسلام، ومسلم‏:‏ كتاب فضائل الصحابة/ باب من فضائل علي‏.‏

‏]‏‏.‏ ‏(‏يدوكون‏)‏، أي‏:‏ يخوضون‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏ثم ادعهم‏)‏، أي‏:‏ أهل خبير، ‏"‏إلى الإسلام‏"‏، أي‏:‏ الاستسلام لله‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وأخبرهم بما يجب عليهم‏)‏، أي‏:‏ فلا تكفي الدعوة إلى الإسلام فقط، بل يخبرهم بما يجب عليهم فيه حتى يقتنعوا به ويلتزموا، لكن على الترتيب الذي في حديث بعث معاذ‏.‏

وهذه المسألة يتردد الإنسان فيها‏:‏ هل يخبرهم بما يجب عليهم من حق الله في الإسلام قبل أن يسلموا أو بعده‏؟‏

فإذا نظرنا إلى ظاهر حديث معاذ وحديث سهل هذا، فإننا نقول‏:‏ الأولى أن تدعوه للإسلام، وإذا أسلم تخبره‏.‏

وإذا نظرنا إلى واقع الناس الآن، وأنهم لا يسلمون عن اقتناع، فقد يسلم، وإذا أخبرته ربما يرجع، قلنا‏:‏ يخبرون أولًا بما يجب عليهم من حق الله فيه، لئلا يرتدوا عن الإسلام بعد إخبارهم بما يجب عليهم، وحينئذ يجب قتلهم لأنهم مرتدون‏.‏

ويحتمل أن يقال‏:‏ تترك هذه المسألة للواقع وما تقتضيه المصلحة من تقديم هذا أو هذا‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏لأن يهدي الله‏)‏، اللام واقعة في جواب القسم، وأن بفتح الهمزة مصدرية، ويهدي مؤول بالمصدر مبتدأ، ‏"‏وخير‏"‏‏:‏ خبر، ونظيرها قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وأن تصوموا خير لكم‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 184‏]‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏حمر النعم‏)‏ بتسكين الميم‏:‏ جمع أحمر، وبالضم‏:‏ جمع حمار، والمراد بالأول‏.‏

وحمر النعم‏:‏ هي الإبل الحمراء، وذكرها لأنها مرغوبة عند العرب، وهي أحسن وأنفس ما يكون من الإبل عندهم‏.‏

وقوله‏:‏ ‏(‏لأن يهدي الله بك‏)‏، ولم يقل‏:‏ لأن تهدي، لأن الذي يهدي هو الله‏.‏

والمراد بالهداية هنا هداية التوفيق والدلالة‏.‏

وهل المراد الهداية من الكفر إلى الإسلام، أو يعم كل هداية‏؟‏

نقول‏:‏ هو موجه إلى قوم يدعوهم إلى الإسلام، وهل نقول‏:‏ إن القرينة الحالية تقتضي التخصيص، وأن من اهتدى على يديه رجل في مسألة فرعية من مسائل الدين لا يحصل له هذا الثواب بقرينة المقام، لأن عليًا موجه إلى قوم كفار يدعوهم الإسلام، والله أعلم‏.‏

* * *

* فيه مسائل‏:‏

الأولى‏:‏ أن الدعوة إلى الله طريق من اتبع رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ‏.‏ الثانية‏:‏ التنبيه على الإخلاص، لأن كثيرًا من الناس لو دعا إلى الحق، فهو يدعو إلى نفسه‏.‏

فيه مسائل‏:‏

* الأولى‏:‏ أن الدعوة إلى الله طريق من اتبع رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وتؤخذ من قوله تعال‏:‏ ‏{‏قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ‏}‏‏.‏

والأشمل من ذلك والأبلغ في مطابقة الآية أن يقال‏:‏ إن الدعوة إلى الله طريق الرسل وأتباعهم‏.‏

* الثانية‏:‏ التنبيه على الإخلاص، وتؤخذ من قوله‏:‏ ‏"‏أدعو إلى الله‏"‏، ولهذا قال‏:‏ ‏(‏لأن كثيرًا من الناس لو دعا إلى الحق، فهو يدعو إلى نفسه‏)‏، فالذي يدعو إلى الله هو الذي لا يريد إلا أن يقوم دين الله، والذي يدعو إلى نفسه هو الذي يريد أن يكون قوله هو المقبول، حقًا كان أم باطلًا‏.‏

* * *

الثالثة‏:‏ أن البصيرة من الفرائض‏.‏ الرابعة‏:‏ من دلائل حسن التوحيد كونه تنزيهًا لله تعالى عن المسبة‏.‏ الخامسة‏:‏ أن من قبح الشرك كون مسبة لله‏.‏ السادسة‏:‏ وهي من أهمها‏:‏ إبعاد المسلم عن المشركين، لئلا يصير منهم، ولو لم يشرك‏.‏

* الثالثة‏:‏ أن البصيرة من الفرائض، وتؤخذ من قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أدعو إلى الله على بصيرة‏}‏، ووجه كون البصيرة من الفرائض، لأنه لا بد للداعية من العلم بما يدعو إليه، والدعوة فريضة‏.‏ فيكون العلم بذلك فريضة‏.‏

* الرابعة‏:‏ من دلائل حسن التوحيد كونه تنزيهًا لله عن المسبة، وتؤخذ من قوله تعالى‏:‏ ‏{‏سبحان الله وما أنا من المشركين‏}‏، فسبحان الله دليل على أنه واحد لكماله‏.‏

ومعنى عن المسبة، أي‏:‏ وعن مماثلة الخالق للمخلوق، إذ تمثيل الكامل بالناقص يجعله ناقصًا‏.‏

قال الشاعر‏:‏

ألم تر أن السيف ينقص قدره ** إذا قيل إن السيف أمضى من العصا‏؟‏

* الخامسة‏:‏ أن من قبح الشرك كونه مسبة لله، وتؤخذ من قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وما أنا من المشركين‏}‏ بعد قوله‏:‏ ‏{‏وسبحان الله‏}‏‏.‏

* السادسة - وهي من أهمها - ‏:‏ إبعاد المسلم عن المشركين، لئلا يصير منهم، ولو لم يشرك‏.‏ لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وما أنا من المشركين‏}‏، ولم يقل‏:‏ ‏(‏وما أنا مشرك‏)‏، لأنه إذا كان بينهم، ولو لم يكن مشركًا، فهو في ظاهره منهم، ولهذا لما قال الله للملائكة‏:‏ ‏{‏اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 34‏]‏، توجه الخطاب له ولهم‏.‏

* * *

السابعة‏:‏ كون التوحيد أول واجب‏.‏ الثامنة‏:‏ أنه يبدأ به قبل كل شيء، حتى الصلاة‏.‏ التاسعة‏:‏ أن معنى‏:‏ ‏(‏أن يوحدوا الله‏)‏‏:‏ معنى شهادة أن لا إله إلا الله‏.‏ العاشرة‏:‏ أن الإنسان قد يكون من أهل الكتاب وهو لا يعرفها، أو يعرفها ولا يعمل بها‏.‏

* السابعة‏:‏ كون التوحيد أول واجب، تؤخذ من قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ‏:‏ ‏(‏فليكن أول ما تدعوهم إليه‏:‏ شهادة أن لا إله إلا الله‏)‏، وفي رواية‏:‏ ‏(‏أن يوحدوا الله‏)‏‏.‏

وقال بعض العلماء، أول واجب النظر، لكن الصواب أن أول واجب هو التوحيد، لأن معرفة الخالق دلت عليها الفطرة‏.‏

* الثامنة‏:‏ أن يبدأ به قبل كل شيء، تؤخذ من قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ‏:‏ ‏(‏ادعهم إلى الإسلام، وأخبرهم بما يجب عليهم من حق الله تعالى فيه‏)‏‏.‏

* التاسعة‏:‏ أن معنى أو يوحدوا الله معنى شهادة أن لا إله إلا الله، تؤخذ من تعبير الصحابي حيث عبر في رواية بقوله‏:‏ ‏(‏شهادة أن لا إله إلا الله‏)‏، وفي رواية عبر بقوله‏:‏ ‏(‏أن يوحدوا الله‏)‏‏.‏

* العاشرة‏:‏ أن الإنسان قد يكون من أهل الكتاب وهو لا يعرفها أو يعرفها ولا يعمل بها، ومراده بقوله‏:‏ ‏(‏لا يعرفها، أو يعرفها‏)‏ شهادة أن لا إله إلا الله، وتؤخذ من قوله‏:‏ ‏(‏فليكن أو ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله‏)‏، إذ لو كانوا يعرفون لا إله إلا الله ويعملون بها ما احتاجوا إلى الدعوة إليها‏.‏

* * *

الحادية عشرة‏:‏ التنبيه على التعليم بالتدريج‏.‏ الثانية عشرة‏:‏ البداءة بالأهم فالأهم‏.‏ الثالثة عشرة‏:‏ مصرف الزكاة‏.‏ الرابعة عشرة‏:‏ كشف العالم الشبهة عن المتعلم‏.‏ الخامسة عشرة‏:‏ النهي عن كرائم الأموال‏.‏ السادسة عشرة‏:‏ اتقاء دعوة المظلوم‏.‏

* الحادية عشرة‏:‏ التنبيه على التعليم بالتدريج‏.‏ تؤخذ من قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ لمعاذ‏:‏ ‏(‏ادعهم إلى أن يوحدوا الله، فإن هم أطاعوك لذلك، فأعلمهم أن الله افترض عليهم‏.‏‏.‏‏.‏‏)‏ إلخ الحديث‏.‏

* الثانية عشرة‏:‏ البداءة بالأهم فالأهم‏.‏ تؤخذ من أمره ـ صلى الله عليه وسلم ـ معاذًا بالتوحيد ليدعو إليه أولًا، ثم الصلاة، ثم الزكاة‏.‏

* الثالثة عشرة‏:‏ مصرف الزكاة‏.‏ تؤخذ من قوله‏:‏ ‏(‏فترد على فقرائهم‏)‏‏.‏

* الرابعة عشرة‏:‏ كشف العالم الشبهة عن المتعلم‏.‏ المراد بالشبهة هنا‏:‏ شبهة العلم، أي‏:‏ يكون عنده جهل‏.‏

تؤخذ من قوله‏:‏ ‏(‏إن الله افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم‏)‏، فبين أن هذه الصدقة تؤخذ من الأغنياء، وأن مصرفها الفقراء‏.‏

* الخامسة عشرة‏:‏ النهي عن كرائم الأموال‏.‏ تؤخذ من قوله‏:‏ ‏(‏فإياك وكرائم أموالهم‏)‏، إذ إياك تفيد التحذير، والتحذير يستلزم النهي‏.‏

* السادسة عشرة‏:‏ اتقاء دعوة المظلوم‏.‏ تؤخذ من قوله‏:‏ ‏(‏واتق دعوة المظلوم‏)‏‏.‏

* * *

السابعة عشرة‏:‏ الإخبار بأنها لا تحجب‏.‏ الثامنة عشرة‏:‏ من أدلة التوحيد ما جرى على سيد المرسلين وسادات الأولياء من المشقة والجوع والوباء‏.‏ التاسعة عشرة‏:‏ قوله‏:‏ ‏(‏لأعطين الراية‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏)‏ إلخ‏:‏ علم من أعلام النبوة‏.‏

* السابعة عشرة‏:‏ الإخبار بأنها لا تحجب‏.‏ تؤخذ من قوله‏:‏ ‏(‏فإنه ليس بينها وبين الله حجاب‏)‏، فقرن الترغيب أو الترهيب بالأحكام، مما يحث النفس إن كان ترغيبًا، ويبعدها ويزجرها إن كان ترهيبًا، لقوله‏:‏ ‏(‏اتق دعوة المظلوم‏)‏، فالنفس قد لا تتقي، لكن إذا قيل‏:‏ ليس بينها وبين الله حجاب، خافت ونفرت من ذلك‏.‏

* الثامنة عشرة‏:‏ من أدلة التوحيد ما جري على سيد المرسلين وسادات الأولياء من المشقة والجوع والوباء‏.‏ والظاهر أن المؤلف رحمه الله يريد الإشارة إلى قصة خيبر، إذ وقع فيها في عهد النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ جوع عظيم، حتى إنهم أكلوا الحمير والثوم، وأما الوباء، فهو ما وقع في عهد علي رضي الله عنه، وأما المشقة، فظاهرة‏.‏

ووجه كون ذلك من أدلة التوحيد‏:‏ أن الصبر والتحمل في مثل هذه الأمور يدل على إخلاص الإنسان في توحيده وأن قصده الله، ولذلك صبر على البلاء‏.‏

* التاسعة عشرة‏:‏ قوله‏:‏ ‏(‏لأعطين الراية‏)‏ علم من أعلام النبوة‏.‏ لأن هذا حصل، فعلي بن أبي طالب يحب الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله‏.‏

* * *

العشرون‏:‏ تفله في عينيه علم من أعلامها أيضًا‏.‏ الحادية والعشرون‏:‏ فضيلة علي رض الله عنه‏.‏ الثانية والعشرون‏:‏ فضل الصحابة في دوكهم تلك الليلة وشغلهم عن بشارة الفتح‏.‏ الثالثة والعشرون‏:‏ الإيمان بالقدر لحصولها لمن لم يسع لها ومنعها عمن سعى‏.‏ الرابعة والعشرون‏:‏ الأدب في قوله‏:‏ ‏"‏على رسلك‏"‏‏.‏ الخامسة والعشرون‏:‏ الدعوة إلى الإسلام قبل القتال‏.‏

* العشرون‏:‏ تفله في عينيه علم من أعلامها أيضًا‏.‏ لأن بصق في عينيه، فبرأ كأن لم يكن به وجع‏.‏

* الحادية والعشرون‏:‏ فضيلة علي بن أبي طالب رضي الله عنه‏.‏ وهذا ظاهر، لأنه يحب الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله‏.‏

* الثانية والعشرون‏:‏ فضل الصحابة في دوكهم تلك الليلة وشغلهم عن بشارة الفتح‏.‏ لأنهم انشغلوا عن بشارة الفتح بالتماسهم معرفة من يحب الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله‏.‏

* الثالثة والعشرون‏:‏ الإيمان بالقدر لحصولها لمن لم يسع لها ومنعها عمن سعى‏.‏ لأن الصحابة غدوا على رسول الله مبكرين، كلهم يرجو أن يعطاها ولم يعطوها، وعلى بن أبي طالب مريض ولم يسع لها، ومع ذلك أعطي الراية‏.‏

* الرابعة والعشرون‏:‏ الأدب في قوله‏:‏ ‏"‏على رسله‏"‏‏.‏ ووجهه‏:‏ أنه أمره بالتمهل وعدم التسرع‏.‏

* الخامسة والعشرون‏:‏ الدعوة إلى الإسلام قبل القتال‏.‏ لقوله‏:‏ ‏(‏انزل بساحتهم ثم ادعهم إلى الإسلام‏)‏‏.‏

* * *

السادسة والعشرون‏:‏ أنه مشروع لمن دعوا قبل ذلك وقوتلوا‏.‏ السابعة والعشرون‏:‏ الدعوة بالحكمة، لقوله‏:‏ ‏(‏أخبرهم بما يجب عليهم‏)‏‏.‏ الثامنة والعشرون‏:‏ المعرفة بحق الله في الإسلام‏.‏ التاسعة والعشرون‏:‏ ثواب من اهتدى على يديه رجل واحد‏.‏ الثلاثون‏:‏ الحلف على الفتيا‏.‏

* السادسة والعشرون‏:‏ أنه مشروع لمن دعوا قبل ذلك وقوتلوا‏.‏

* السابعة والعشرون‏:‏ الدعوة بالحكمة، لقوله‏:‏ ‏(‏أخبرهم بما يجب عليهم‏)‏‏.‏ لأن من الحكمة أن تتم الدعوة، وذلك بأن تأمره بالإسلام أولًا، ثم تخبره بما يجب عليه من حق الله، ولا يكفي أن تأمره بالإسلام، لأنه قد يطبق هذا الإسلام الذي أمرته به وقد لا يطبقه، بل لابد من تعاهده حتى لا يرجع إلى الكفر‏.‏

* الثامنة والعشرون‏:‏ المعرفة بحق الله في الإسلام‏.‏ تؤخذ من قوله‏:‏ ‏(‏وأخبرهم بما يجب عليهم من حق الله تعالى فيه‏)‏‏.‏

* التاسعة والعشرون‏:‏ ثواب من اهتدى على يديه رجل واحد‏.‏ لقوله‏:‏ ‏(‏لأن يهدي الله بك رجلًا واحدًا خير لك من حمر النعم‏)‏، أي‏:‏ خير لك من كل ما يستحسن في الدنيا، وليس المعنى كما قال بعضهم، خير لك من أن تتصدق بنعم حمر‏.‏

* الثلاثون‏:‏ الحلف على الفتيا‏.‏ لقوله‏:‏ ‏(‏فوالله لأن يهدي الله‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏)‏ إلخ، فأقسم النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ هو لم يستقسم، والفائدة هي حثه على أن يهدي الله به والتوكيد عليه‏.‏

ولكن لا ينبغي الحلف على الفتيا إلا لمصلحة وفائدة، لأنه قد يفهم السامع أن المفتي لم يحلف إلا لشك عنده‏.‏

والإمام أحمد رحمه الله أحيانًا يقول في إجابته‏:‏ إي والله، وقد أمر الله رسوله بالحلف في ثلاثة مواضع من القرآن‏:‏

في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ويستنبئونك أحق هو قل إي وربي إنه لحق‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 53‏]‏‏.‏

وفي قوله تعالى‏:‏ ‏{‏زعم الذين كفروا أن لن يبعثوا قل بلى وربي لتبعثن‏}‏‏.‏ ‏[‏التغابن‏:‏ 7‏]‏‏.‏

وفي قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وقال الذين كفروا لا تأتينا الساعة قل بل وربي لتأتينكم‏}‏ ‏[‏سبأ‏:‏ 3‏]‏‏.‏

فإذا كان في القسم مصلحة ابتداءً، أو جوابًا لسؤال، جاز وربما يكون مطلوبًا‏.‏

* * *

باب تفسير التوحيد وشهادة أن لا إله إلا الله

التفسير معناه‏:‏ الكشف والإيضاح، مأخوذ من قولهم‏:‏ فسرت الثمرة قشرها، ومن قول الإنسان‏:‏ فسرت ثوبي، فاتضح ما وراءه، ومنه تفسير القرآن الكريم‏.‏

والتوحيد تقدم تعريفه، والمراد به هنا اعتقاد أن الله واحد في ألوهيته‏.‏

وقوله‏:‏ ‏"‏شهادة أن لا إله إلا الله‏"‏، معطوف على التوحيد، أي‏:‏ وتفسير شهادة أن لا إله إلا الله‏.‏

والعطف هنا من باب عطف المترادفين، لأن التوحيد حقيقة هو شهادة أن لا إله إلا الله‏.‏

وهذا الباب مهم، لأنه لما سبق الكلام على التوحيد وفضله والدعوة إليه، كأن النفس الآن اشرأبت إلى بيان ما هو هذا التوحيد الذي بوب له هذه الأبواب ‏(‏وجوبه، وفضله، والدعوة إليه‏)‏‏.‏

فيجاب بهذا الباب، وهو تفسير التوحيد، وقد ذكر المؤلف خمس آيات‏:‏

* * *

وقول الله تعالى‏:‏ ‏{‏أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ‏}‏ الآية ‏[‏الإسراء‏:‏ 57‏]‏‏.‏

* الآية الأولى‏:‏ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أولئك‏}‏‏.‏ ‏"‏أولًا‏"‏‏:‏ مبتدأ‏.‏

‏{‏الذين‏}‏‏:‏ اسم موصول بدل منه‏.‏

‏{‏يدعون‏}‏‏:‏ صلة الموصول‏.‏

وجملة ‏{‏يبتغون‏}‏‏:‏ خبر المبتدأ، أي‏:‏ هؤلاء الذين يدعوهم هؤلاء هم أنفسهم يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب، فكيف تدعونهم وهم محتاجون مفتقرون‏؟‏‏!‏ فهذا سفه في الحقيقة، وهذا ينطبق على كل من دعي وهو داع، كعيسى بن مريم، والملائكة، والأولياء، والصالحين، وأما الشجر والحجر، فلا يدخل في الآية‏.‏

فهؤلاء الذين زعمتم أنهم أولياء من دون الله لا يملكون كشف الضر ولا تحويله من مكان إلى مكان، لأنهم هم بأنفسهم يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب، وقد قال تعالى مبينًا حال هؤلاء المدعوين‏:‏ ‏{‏إِن تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ‏}‏ ‏[‏فاطر‏:‏ 13، 14‏]‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏يدعون‏}‏، أي‏:‏ دعاء مسألة، كمن يدعو عليًا عند وقوعهم في الشدائد، وكمن يدعو النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقول‏:‏

يا أكرم الخلق ما لي من ألوذ به ** سواك عند حلول الحادث العمم

وقد يكون دعاء عبادة، كمن يتذلل لهم بالتقرب، والنذر، والركوع، والسجود‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏يبتغون‏}‏‏:‏ يطلبون‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏الوسيلة‏}‏، أي‏:‏ الشيء الذي يوصلهم إلى الله، يعني‏:‏ يطلبون ما يكون وسيلة إلى الله - سبحانه وتعالى - أيهم اقرب إلى الله، وكذلك أيضًا يرجون رحمته ويخافون عذابه‏.‏

* وجه مناسبة الآية للباب باب تفسير التوحيد وشهادة أن لا إله إلا الله‏:‏

أن التوحيد يتضمن البراءة من الشرك، بحيث لا يدعو مع الله أحدًا، لا ملكًا مقربًا، ولا نبيًا مرسلًا، وهؤلاء الذين يدعون الأنبياء والملائكة لم يتبرؤا من الشرك، بل هم واقعون فيه، ومن العجب أنهم يدعون من هم في حاجة إلى ما يقربهم إلى الله تعالى، فهم غير مستغنين عن الله بأنفسهم، فكيف يغنون غيرهم‏؟‏‏!‏

* الآية الثانية والثالثة‏:‏ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِذْ قَالَ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَاذَا تَعْبُدُونَ‏}‏ الآيتين‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏براء‏}‏‏:‏ على وزن فعال، وهي صفة مشبهة من التبرؤ، وهو التخلي، أي‏:‏ إنني متخل غاية التخلي عما تعبدو إلا الذي فطرني، وإبراهيم عليه الصلاة والسلام قوي في ذات الله، فقال ذلك معلنًا به لأبيه وقومه، وأبوه هو آزر‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏تعبدون‏}‏‏:‏ العبادة هنا التذلل والخضوع، لأن في قومه من يعبد الأصنام، ومنهم من يعبد الشمس والقمر والكواكب‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏إلا الذي فطرني‏}‏‏:‏ جميع بين النفي والإثبات، فالنفي‏:‏ ‏{‏براء مما تعبدون‏}‏، والإثبات‏:‏ ‏{‏إلا الذي فطرنى‏}‏، فدل على أن التوحيد لا يتم إلا بالكفر بما سوى الله والإيمان بالله وحده، ‏{‏فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 256‏]‏، وهؤلاء يعبدون الله ويعبدون غيره، لأنه قال‏:‏ ‏{‏إلا الذي فطرني‏}‏، والأصل في الاستثناء الاتصال إلا بدليل، ومع ذلك تبرأ منهم‏.‏

وكذا يوجد في بعض البلدان الإسلامية من يصلي ويزكي ويصوم ويحج، ومع ذلك يذهبون إلى القبور يسجدون لها ويركعون، فهم كفار غير موحدين، ولا يقبل منهم أي عمل، وهذا من أخطر ما يكون على الشعوب الإسلامية، لأن الكفر بما سوى الله عندهم ليس بشيء، وهذا جهل منهم، وتفريط من علمائهم، لأن العامي لا يأخذ إلا من عالمه، لكن بعض الناس -والعياذ بالله - عالم دولة لا عالم ملة‏.‏

وفي قول إبراهيم ـ صلى الله عليه وسلم ـ‏:‏ ‏{‏إِلاَّ الَّذِي فَطَرَنِي‏}‏، ولم يقل إلا الله لفائدتان‏:‏

الأولى‏:‏ الإشارة إلى علة إفراد الله بالعبادة، لأنه كما أنه منفرد بالخلق فيجب أن يفرد بالعبادة‏.‏

الثانية‏:‏ الإشارة إلى بطلان عبادة الأصنام، لأنها لم تفطركم حتى تعبدوها، ففيها تعليل للتوحيد الجامع بين النفي والإثبات، وهذه من البلاغة التامة في تعبير إبراهيم عليه السلام‏.‏

يستفاد من الآية أن التوحيد لا يحصل بعبادة الله مع غيره، بل لا بد من إخلاصه لله، والناس في هذا المقام ثلاثة أقسام‏:‏

قسم يعبد الله وحده‏.‏

وقسم يعبد غيره فقط‏.‏

وقسم يعبد الله وغيره‏.‏

والأول فقط هو الموحد‏.‏

* * *

وقوله‏:‏ ‏{‏اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّهِ‏}‏ الآية ‏[‏التوبة‏:‏ 31‏]‏‏.‏

* الآية الرابعة‏:‏ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّهِ‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏أحبارهم‏}‏‏:‏ والمعطوف عليها المفعول الأول لـ‏(‏اتخذوا‏)‏، والثاني‏:‏ ‏"‏أربابًا‏"‏ أي‏:‏ هؤلاء اليهود والنصارى صيروا أحبارهم ورهبانهم أربابًا‏.‏

والأحبار‏:‏ جمع حبر، وهو العالم، ويقال للعالم أيضًا بحر لكثرة علمه‏.‏

والحبر، بفتح الحاء، وكسرها يقال‏:‏ حبر، وحبر‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ورهبانهم‏}‏، أي‏:‏ عبادهم‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏أربابًا‏}‏‏:‏ جمع رب، أي يجعلونهم أربابًا من دون الله، فيجعلوا الأحبار أربابًا لأنهم يأتمرون بأمرهم في مخافة أمر الله، فيطيعونهم في معصية الله‏.‏

وجعلوا الرهبان أربابًا باتخاذهم أولياء يعبدونهم من دون الله‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏مِّن دُونِ اللَّهِ‏}‏، أي‏:‏ من غير الله‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ‏}‏‏:‏ معطوف على أحبارهم، أي‏:‏ اتخذوا المسيح ابن مريم أيضًا ربًا حيث قالوا‏:‏ إنه ثالث ثلاثة‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ‏}‏، أي‏:‏ يتذللوا بالطاعة لله وحده، الذي خلق المسيح والأحبار والرهبان والسماوات والأرض‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ‏}‏، أي‏:‏ لا معبود حق إلا هو‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏سبحانه‏}‏‏:‏ تنزيه لله عما يشركون‏.‏

وجه كون هذه الآية تفسيرًا للتوحيد وشهادة أن لا إله إلا الله‏:‏ أن الله أنكر عليهم اتخاذ الأحبار والرهبان أربابًا من دون الله، وهذه الآية سيأتي فيها ترجمة كاملة في كلام المؤلف رحمه الله، فهؤلاء جعلوا الأحبار شركاء في الطاعة، كلما أمروا بشيء أطاعوهم، سواء وافق أمر الله أم لا‏.‏

إذًا، فتفسير التوحيد أيضًا بلا إله إلا الله يستلزم أن تكون طاعتك لله وحده، ولهذا على الرغم من تأكيد النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لطاعة ولاة الأمر، قال‏:‏ ‏(‏إنما الطاعة في المعروف‏)‏ ‏[‏البخار‏:‏ كتاب الأحكام/ باب السمع والطاعة للإمام ما لم تكن معصية، ومسلم‏:‏ كتاب الإمارة/ باب وجوب طاعة الأمراء في غير معصية‏.‏

‏]‏‏.‏

* * *

وقوله‏:‏ ‏{‏وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللَّهِ أَندَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ‏}‏ الآية ‏[‏البقرة‏:‏ 165‏]‏‏.‏

* الآية الخامسة‏:‏ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللَّهِ أَندَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ‏}‏ الآية‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏من الناس‏}‏‏:‏ من للتبعيض، وعلامتها أن يصح أن يحل محلها بعض، والجار والمجرور متعلق بمحذوف خبر مقدم، و‏{‏من يتخذ‏}‏ مبتدأ مؤخر، أي من يجعل لله أندادًا، ومفعولها الأول ‏"‏أندادًا‏"‏ مؤخرًا، ومفعولها الثاني ‏"‏من دون الله‏"‏ مقدمًا‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏يتخذ‏}‏‏:‏ جاءت بالإفراد مراعاة للفظ ‏"‏من‏"‏‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏يحبونهم‏}‏‏:‏ بالجمع مراعاة للمعنى‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏أندادًا‏}‏‏:‏ جمع ند، وهو الشبيه والنظير، ولهذا قال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لمن قال له ما شاء الله وشئت‏:‏ ‏(‏أجعلتني لله ندًا‏؟‏‏!‏ بل ما شاء الله وحده‏)‏‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏يحبونهم كحب الله‏}‏‏:‏ هذا وجه المشابهة، أي‏:‏ الندية في المحبة يحبونهم كحب الله‏.‏

واختلف المفسرون في قوله‏:‏ ‏{‏كحب الله‏}‏‏:‏

فقيل‏:‏ يجعلون محبة الأصنام مساوية لمحبة الله، فيكون في قلوبهم محبة لله ومحبة للأصنام، ويجعلون محبة الأصنام كمحبة الله، فيكون المصدر مضافًا إلى مفعوله، أي يحبون الأصنام كحبهم لله‏.‏

وقيل‏:‏ يحبون هذه الأصنام محبة شديدة كمحبة المؤمنين لله‏.‏

وسياق هذه الآية يؤيد القول الأول‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَشَدُّ حُبًّا لِّلّهِ‏}‏‏.‏

على الرأي الأول يكون معناها‏:‏ والذين آمنوا أشد حبًا لله من هؤلاء لله، لأن محبة المؤمنين خالصة، ومحبة هؤلاء فيها شرك بين الله وبين أصنامهم‏.‏

وعلى الرأي الثاني معناها‏:‏ والذين آمنوا أشد حبًا لله من هؤلاء لأصنامهم، لأن محبة المؤمنين ثابتة في السراء والضراء على برهان صحيح، بخلاف المشركين، فإن محبتهم لأصنامهم تتضاءل إذا مسهم الضر‏.‏

فما بالك برجل يحب غير الله أكثر من محبته لله‏؟‏‏!‏ وما بالك برجل يحب غير الله ولا يحب الله‏؟‏‏!‏ فهذا أقبح وأعظم، وهذا موجود في كثير من المنتسبين للإسلام اليوم، فإنهم يحبون أولياءهم أكثر مما يحبون الله، ولهذا لو قيل له‏:‏ أحلف بالله، حلف صادقًا أو كاذبًا، أما الولي، فلا يحلف به إلا صادقًا‏.‏

وتجد كثيرًا منهم يأتون إلى مكة والمدينة ويرون أن زيارة قبر الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ أعظم من زيارة البيت، لأنهم يجدون في نفوسهم حبًا لرسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ كحب الله أو أعظم، وهذا شرك، لأن الله يعلم أننا ما أحببنا رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلا لحب الله، ولأنه رسول الله، ما أحببناه لأنه محمد بن عبدالله، لكننا أحببناه، لأنه رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فنحن نحبه بمحبة الله، لكن هؤلاء يجعلون محبة الله تابعة لمحبة الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ إنه أحبوا الله‏.‏

فهذه الآية فيها محنة عظيمة لكثير من قلوب المسلمين اليوم الذين يجعلون غير الله مثل الله في المحبة، وفيه أناس أيضًا أشركوا بالله في محبة غيره، لا على وجه العبادة الشرعية، لكن على وجه العبادة المذكورة في الحديث، وهي محبة الدرهم والدينار والخميصة والخميلة، يوجد أناس لو فتشت عن قلوبهم، لوجدت قلوبهم ملأى من محبة متاع الدنيا، وحتى هذا الذي جاء يصلي هو في المسجد لكن قلبه مشغول بما يحبه من أمور الدنيا‏.‏

فهذا نوع من أنواع العبادة في الحقيقة، لو حاسب الإنسان نفسه لماذا خلق‏؟‏ لعلم أنه خلق لعبادة الله، وأيضًا خلق لدار أخرى ليست هذه الدار، فهذه الدار مجاز يجوز الإنسان منها إلى الدار الأخرى، الدار التي خلق لها والتي يجب أن يعنى بالعلم لها، يا ليت شعري متى يومًا من الأيام فكر الإنسان ماذا عملت‏؟‏ وكم بقي لي في هذه الدنيا‏؟‏ وماذا كسبت‏؟‏ الأيام تمضي ولا أدري هل ازددت قربًا من الله أو بعدًا من الله‏؟‏ هل نحاسب أنفسنا عن هذا الأمر‏؟‏

فلا بد لكل إنسان عاقل من غاية، فما هي غايته‏؟‏

نحن الآن نطلب العلم للتقرب إلى الله بطلبه، وإعلام أنفسنا، وإعلام غيرنا، فهل نحن كلما علمنا مسألة من المسائل طبقناها‏؟‏ نحن على كل حال نجد في أنفسنا قصورًا كثيرًا وتقصيرًا، وهل نحن إذا علمنا مسألة ندعو عباد الله إليها‏؟‏

هذا أمر يحتاج إلى محاسبة، ولذلك، فإن على طالب العلم مسؤولية ليست هينة، عليه أكثر من زكاة المال، فيجب أن يعمل ويتحرك ويبث العلم والوعي في الأمة الإسلامية، وإلا انحرفت عن شرع الله‏.‏

قال ابن القيم رحمه الله‏:‏ كل الأمور تسير بالمحبة، فأنت مثلًا لا تتحرك لشيء إلا وأنت تحبه، حتى اللقمة من الطعام لا تأكلها إلا لمحبتك لها‏.‏

ولهذا قيل‏:‏ إن جميع الحركات مبناها على المحبة، فالمحبة أساس العمل، فالإشراك في المحبة إشراك بالله‏.‏

* والمحبة أنواع‏:‏

الأول‏:‏ المحبة لله، وهذه لا تنافي التوحيد، بل هي من كماله، فأوثق عرى الإيمان‏:‏ الحب في الله، والبغض في الله‏.‏

والمحبة لله هي أن تحب هذا الشيء، لأن الله يحبه، سواء كان شخصًا أو عملًا، وهذا من تمام التوحيد‏.‏

قال مجنون ليلي‏:‏

أمر على الديار ديار ليلى ** أقبل ذا الجدار وذا الجدار

وما حب الديار شغفن قلبي **

ولكن حب من سكن الديارا

الثاني‏:‏ المحبة الطبيعية التي لا يؤثرها المرء على محبة الله، فهذه لا تنافي محبة الله، كمحبة الزوجة، والولد، والمال، ولهذا لما سئل النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ‏:‏ من أحب الناس إليك‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏عائشة‏)‏‏.‏ قيل‏:‏ فمن الرجال‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏أبوها‏)‏ ‏[‏‏(‏1‏)‏ البخاري‏:‏ كتاب فضائل الصحابة/ باب قول النبي ‏(‏‏:‏ ‏"‏لو كنت متخذًا خليلًا‏"‏، ومسلم‏:‏ كتاب الفضائل/باب فضائل أبي بكر‏.‏

‏]‏‏.‏

ومن ذلك محبة الطعام والشراب واللباس‏.‏

الثالث‏:‏ المحبة مع الله التي تنافي محبة الله، وهي أن تكون محبة غير الله كمحبة الله أو أكثر من محبة الله، بحيث إذا تعارضت محبة الله ومحبة غيره قدم محبة غير الله، وذلك إذا جعل هذه المحبة ندًا لمحبة الله يقدمها على محبة الله أو يساويها بها‏.‏

الشاهد من هذه الآية‏:‏ أن الله جعل هؤلاء الذين ساووا محبة الله بمحبة غيره مشركين جاعلين لله أندادًا‏.‏

* * *

وفي الصحيح عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ‏:‏ أنه قال‏:‏ ‏(‏من قال‏:‏ لا إله إلا الله، وكفر بما يعبد من دون الله، حرم ماله ودمه، وحسابه على الله عز وجل‏)‏ ‏[‏‏(‏1‏)‏ مسلم‏:‏ كتاب الإيمان/ باب الأمر بقتال الناس حتى يقولوا‏:‏ لا إله إلا الله‏.‏

‏]‏‏.‏ وشرح هذه الترجمة ما بعدها من الأبواب‏.‏

قوله‏:‏ ‏"‏وفي الصحيح‏"‏‏.‏ لم يفصح المؤلف رحمه الله بمراده بالصحيح، أهو ‏"‏صحيح البخاري‏"‏ أم ‏"‏صحيح مسلم‏"‏، أم أن المراد به الحديث الصحيح،، سواء كان في ‏"‏الصحيحين‏"‏ معًا أم في أحدهما أم في غيرهما، وليس له اصطلاح في ذلك يحمل عليه عند الإطلاق، وعلى هذا يبحث عن الحديث في مضانه، وقد ورد هذا التعبير في سياق المؤلف للحديث في مواضع أخرى، والمراد به هنا ‏"‏صحيح مسلم‏"‏‏.‏

قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ‏:‏ ‏(‏من قال لا إله إلا الله‏)‏ أي لا معبود حق إلا الله، فلفظ الجلالة بدل من الضمير المستتر في الخبر، ومن يرى أن ‏"‏لا‏"‏ تعمل في المعرفة يقولون‏:‏ هو الخبر‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وكفر بما يعبد من دون الله‏)‏، أي‏:‏ بعبادة من يعبد من دون الله، قلنا ذلك، لأن عيسى بن مريم كان يعبد من دون الله، ونحن نؤمن به، لكن لا نؤمن بعبادته ولا بأنه مستحق للعبادة، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِن دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِن كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُواْ اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 116‏]‏‏.‏

وفي قوله‏:‏ ‏(‏وكفر بما يعبد من دون الله‏)‏ دليل على أنه لا يكفي مجرد التلفظ بلا إله إلا الله، بل لا بد أن تكفر بعبادة من يعبد من دون الله بل وتكفر أيضًا بكل كفر فمن يقول لا إله إلا الله ويرى أن النصارى واليهود اليوم على دين صحيح، فليس بمسلم، ومن يرى الأديان أفكارًا يختار منها ما يريد، فليس بمسلم، بل الأديان عقائد مفروضة من قبل الله - عز وجل ـ يتمشى الناس عليها، ولهذا ينكر على بعض الناس في تعبيره بقوله‏:‏ الفكر الإسلامي، بل الواجب أن يقال‏:‏ الدين الإسلامي أو العقيدة الإسلامية، ولا بأس بقول المفكر الإسلامي، لأنه وصف للشخص نفسه لا للدين الذي هو عليه‏.‏

قوله‏:‏ ‏"‏وشرح هذه الترجمة‏"‏، المراد بالشرح هنا‏:‏ التفصيل، والترجمة‏:‏ هي التعبير بلغة عن لغة أخرى، ولكنها تطلق باصطلاح المؤلفين على العناوين والأبواب، فيقال‏:‏ ترجم على كذا، أي‏:‏ بوب له‏.‏

* * *

* فيه مسائل‏:‏

فيه أكبر المسائل وأهمها، وهي تفسير التوحيد وتفسير الشهادة، وبينها بأمور واضحة‏.‏

قوله‏:‏ ‏"‏فيه أكبر المسائل وأهمها، وهي تفسير التوحيد‏"‏‏.‏

فتفسير التوحيد أنه لا بد فه من أمرين‏:‏

الأول‏:‏ نفى الألوهية عما سوى الله- عز وجل -‏.‏

الثاني‏:‏ إثبات الألوهية لله وحده، فلا بد من النفي والإثبات لتحقيق التوحيد، لأن التوحيد جعل الشيء واحدًا بالعقيدة والعمل، وهذا لا بد فيه من النفي والإثبات‏.‏

فإذا قلت‏:‏ زيد قائم، أثبت له القيام ولم توحده، لكن إذا قلت‏:‏ لا قائم إلا زيد، أثبت له القيام ووحدته به‏.‏

وإذا قلت‏:‏ الله إله أثبت له الألوهية، لكن لم تنفها عن غيره، فالتوحيد لم يتم، وإذا قلت‏:‏ لا إله إلا الله، أثبت الألوهية لله ونفيتها عما سواه‏.‏

قوله‏:‏ ‏"‏تفسير الشهادة‏"‏‏.‏ الشهادة‏:‏ هي التعبير عما تيقنه الإنسان بقلبه فقول‏:‏ أشهد أن لا إله إلا الله‏.‏ أي أنطق بلساني معبرًا عما يكنه قلبي من اليقين وهو أنه لا إله إلا الله‏.‏

* * *

منها آية الإسراء‏:‏ بين فيها الرد على المشركين الذين يدعون الصالحين، ففيها بيان أن هذا هو الشرك الأكبر‏.‏

قوله‏:‏ ‏"‏منها آية الإسراء‏.‏ وهو قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 57‏]‏، فبين فيها الرد على المشركين الذين يدعون الصالحين، وبين أن هذا هو الشرك الأكبر، لأن الدعاء من العبادة، قال تعالى‏:‏ ‏{‏ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 60‏]‏، فدل على أن الدعاء عبادة، لأن آخر الكلام تعليل لأوله، فكل من دعا أحدًا غير الله حيًا أو ميتًا، فهو مشرك شركًا أكبر‏.‏

ودعاء المخلوق ينقسم إلى ثلاثة أقسام‏:‏

الأول‏:‏ جائز، وهو أن تدعو مخلوقًا بأمر من الأمور التي يمكن أن يدركها بأشياء محسوسة معلومة، فهذا ليس من دعاء العبادة، بل هو من الأمور الجائزة، قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ‏:‏ ‏(‏وإذا دعاك فأجبه‏)‏ ‏[‏‏(‏1‏)‏ البخاري‏:‏ كتاب الجنائز/باب الأمر باتباع الجنائز، ومسلم‏:‏ كتاب السلام/ باب من حق المسلم للمسلم رد السلام‏.‏

‏]‏‏.‏

الثاني‏:‏ أن تدعو مخلوقًا مطلقًا، سواء كان حيًا أو ميتًا فيما لا يقدر عليه إلا الله، فهذا شرك أكبر لأنك جعلته ندًا لله فيما لا يقدر عليه إلا الله، مثل‏:‏ يا فلان‏!‏ اجعل ما في بطن امرأتي ذكرًا‏.‏

الثالث‏:‏ أن تدعو مخلوقًا ميتًا لا يجيب بالوسائل الحسية المعلومة، فهذا شرك أكبر أيضًا لأنه لا يدعو من كان هذه حالة حتى يعتقد أن له تصرفًا خفيًا في الكون‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏ومنها آية براءة بين فيها أن أهل الكتاب اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابًا من دون الله‏)‏‏.‏ وهذا شرك الطاعة، وهو بتوحيد الربوبية ألصق من توحيد الألوهية، لأن الحكم شرعيًا كان أو كونيًا إلى الله تعالى، فهو من تمام ربوبيه، قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِن شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏ 10‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 70‏]‏‏.‏

والشيخ رحمه الله جعل شرك الطاعة من الأكبر، وهذا فيه تفصيل، وسيأتي إن شاء الله في باب من أطاع الأمراء والعلماء في تحليل ما حرم الله أو بالعكس‏.‏

* * *

ومنها قول الخليل عليه السلام للكفار‏:‏ ‏{‏إِنَّنِي بَرَاء مِّمَّا تَعْبُدُونَ إِلاَّ الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 26‏]‏‏.‏ فاستثنى من المعبودين ربه‏.‏

وذكر سبحانه أن هذه البراءة وهذه الموالاة هي تفسير شهادة أن لا إله إلا الله، فقال‏:‏ ‏{‏وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 28‏]‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏"‏ومنها‏:‏ قول الخليل عليه السلام للكفار‏:‏ ‏{‏إِنَّنِي بَرَاء مِّمَّا تَعْبُدُونَ إِلاَّ الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ‏}‏، فاستثنى من المعبودين ربه‏"‏‏.‏ فدل هذا على أن التوحيد لا بد فيه من نفي وإثبات‏:‏ البراءة مما سوى الله، وإخلاص العبادة لله وحدة‏.‏

وذكر سبحانه أن هذه البراءة وهذه الموالاة هي تفسير شهادة أن لا إله إلا الله، فقال‏:‏ ‏{‏وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ‏}‏، وهي لا إله إلا الله، فكان معنى قوله‏:‏ ‏{‏إِنَّنِي بَرَاء مِّمَّا تَعْبُدُونَ إِلاَّ الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ‏}‏ هو معنى قول‏:‏ لا إله إلا الله‏.‏

* * *

ومنها آية البقرة في الكفار الذين قال الله فيهم‏:‏ ‏{‏وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 167‏]‏‏.‏ ذكر أنهم يحبون أندادهم كحب الله، فدل على أنه يحبون الله حبًا عظيمًا، لم يدخلهم في الإسلام، فكيف بمن أحب الند أكبر من حب الله‏؟‏‏!‏ وكيف بمن لم يحب إلا الند وحده ولم يحب الله‏؟‏‏!‏

قوله‏:‏ ‏"‏ومنها‏:‏ آية البقرة في الكفار الذين قال الله فيهم‏:‏ ‏{‏وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ‏}‏‏.‏

فجعل الله المحبة شركًا إذا أحب شيئًا سوى الله كمحبته لله، فيكون مشركًا مع الله في المحبة، ولهذا يجب أن تكون محبة الله خالصة لا يشاركه فيها أحد حتى محبة الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ فلولا أنه رسول ما وجب طاعته ولا محبته إلا كما نحب أي مؤمن، ولا يمنع الإنسان من محبة غير الله، بل له أن يحب كل شيء تباح محبته، كالولد، والزوجة، ولكن لا يجعل ذلك محبة الله‏,‏

قال المؤلف‏:‏ ‏"‏فكيف بمن أحب الند أكبر من حسب الله‏؟‏‏!‏ وكيف بمن لم يحب إلا الند وحده ولم يحب الله‏؟‏‏!‏‏"‏‏.‏

فالأقسام الأربعة‏:‏

الأول‏:‏ أن يحب الله حبًا أشد من غيره، فهذا هو التوحيد‏.‏

الثاني‏:‏ أن يحب غير الله كمحبة الله، وهذا شرك‏.‏

الثالث‏:‏ أن يحب غير الله أشد حبًا من الله، وهذا أعظم مما قبله‏.‏

الرابع‏:‏ أن يحب غير الله وليس في قلبه محبة لله تعالى، وهذا أعظم وأطم‏.‏

والمحبة لها أسباب ومتعلقات، وتختلف باختلاف متعلقها، كما أن الفرح يختلف باختلاف متعلقة وأسبابه، فعندما يفرح بالطرب، فليس هذا كفرحة بذكر الله ونحوه‏.‏

حتى نوع المحبة يختلف، يحب والده ويحب ولده وبينهما فرق، ويحب الله ويحب ولده، ولكن بين المحبتين فرق‏.‏

فجميع الأمور الباطنة في المحبة والفرح والحزن تختلف باختلاف متعلقها، وسيأتي إن شاء الله لهذا البحث مزيد تفصيل عند قول المؤلف ‏{‏وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللَّهِ أَندَاداً‏}‏‏.‏

* * *

ومنها قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ‏:‏ ‏(‏من قال‏:‏ لا إله إلا الله، وكفر بما يعبد من دون الله حرم ماله ودمه، وحسابه على الله‏)‏‏.‏

وهذا من أعظم ما يبين معنى ‏(‏لا إله إلا الله‏)‏، فإنه لم يجعل التلفظ بها عاصمًا للدم والمال، بل ولا معرفة معناها مع لفظها، بل ولا الإقرار بذلك، بل ولا كونه لا يدعو إلا الله وحده لا شريك له، بل لا يحرم ماله ودمه حتى يضيف إلى ذلك الكفر بما يعبد من دون الله‏.‏

قوله‏:‏ ‏"‏ومنها‏:‏ قول النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ‏:‏ ‏(‏من قال‏:‏ لا إله إلا الله‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏)‏ إلخ‏.‏

إذًا، فلا بد من الكفر بالطاغوت والإيمان بالله، قال تعالى‏:‏ ‏{‏فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 256‏]‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وكفر بما يعبد من دون الله‏)‏‏.‏ أي‏:‏ كفر بالأصنام، وأنكر أن تكون عبادتها حقًا، فلا يكفي أن يقول‏:‏ لا إله إلا الله، ولا أعبد صنمًا، بل لا بد أن يقول‏:‏ الأصنام التي تعبد من دون الله أكفر بها وبعبادتها‏.‏

فمثلًا لا يكفي أن يقول‏:‏ لا إله إلا الله ولا أعبد اللات، ولكن لا بد أن يكفر بها ويقول‏:‏ إن عبادتها ليست بحق، وإلا، كان مقرًا بالكفر‏.‏

فمن رضي دين النصارى دينًا يدنون الله به، فهو كافر لأنه إذا ساوى غير دين الإسلام مع الإسلام، فقد كذب قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 85‏]‏‏.‏

وبهذا يكون كافرًا، وبهذا نعرف الخطر العظيم الذي أصاب المسلمين اليوم باختلاطهم مع النصارى، والنصارى يدعون إلى دينهم صباحًا ومساءً، والمسلمون لا يتحركون، بل بعض المسلمين الذين ما عرفوا الإسلام حقيقة يلينون لهؤلاء، ‏{‏وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ‏}‏ ‏[‏القلم‏:‏ 9‏]‏، وهذا من المحنة التي أصابت المسلمين الآن، وآلت بهم إلى هذا الذل الذي صاروا فيه‏.‏

* * *