فصل: فصل: (ما لا ينبغي للسلطان أن يشتغل به):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: التبر المسبوك في نصيحة الملوك (نسخة منقحة)



.فصل: (ما لا ينبغي للسلطان أن يشتغل به):

ولا ينبغي للسلطان أن يشتغل دائمًا بلعب الشطرنج والنرد، وشرب الخمر وضرب الكرة والصولجان والصيد، لأن ذلك يمنعه ويشغله عن أمور الرعية فإن لكل عمل وقتًا فإذا فات الوقت عاد الربح خسرانًا فإن الملوك القدماء قسموا النهار أربعة أقسام. قسم منها لطاعة الله وعبادته، وقسم للنظر في الرعية وإنصاف المظلومين والجلوس بين العلماء والعقلاء ولتدبير الأمور وسياسة الجمهور وتنفيذ المراسم والأوامر وكتابة الكتب وإرسال الرسل، وقسم للأكل والشرب والتزود من الدنيا وأخذ الحظوظ من الفرح والسرور، وقسم للصيد ولعب الشطرنج والكرة وما أشبه ذلك.
حكمة: يقال أن بهرام كور قسم نهاره قسمين وجعله شطرين. ففي النصف الأول كان يقضي حوائج الناس، وفي النصف الثاني كان يطلب الراحة ويقال أنه في جميع عمره ما أشتغل يومًا تامًا بعمل واحد.
وكان أنوشروان العادل يأمر أصحابه الثقات أن يصعدوا إلى أعلى مكان في البلد فينظروا إلى بيوت الناس فكل بيت لا يخرج منه دخان نزلوا وسألوا عن حال أولئك القوم وما خطبهم فإن كانوا في غم أعملوا الملك فكان يحمل ويزيل همومهم. ويجب على السلطان أن لا يرضى لغلمانه أن يتناولوا شيئًا من الرعية بغير حق كما جاء في الحكاية.
حكاية: يقال أنه كان قد ولى أنوشروان عاملًا فأنفذ العامل إليه زيادة في الخراج ثلاثة آلاف درهم فأمر شروان بإعادة الزيادة إلى أصحابها وأمر بصلب العامل. وكل سلطان أخذ من الرعية شيئًا بالجور والغصب وخزنه في خزائنه كان مثله رجل عمل أساس حائط ولم يصبر حتى يجف ثم وضع البنيان عليه فلم يبق الأساس ولا الحائط. ينبغي للسلطان أن يأخذ ما يأخذه من الرعية وأن يهب ما يهبه بقدره لأن لكل واحد من هذين حدًا محدودًا كما جاء في الحكاية.
حكاية: يقال أن المأمون ولى يومًا أربعة نفر ولايات فأعطى لواحد منهم منشور خراسان خلع عليه ثلاثة آلاف دينار وولى الآخر ولاية مصر وخلع عليه خلعة مثلها، وولى الآخر ولاية أرمينية وأعطاه خلعة مثلها ثم استدعى يومئذ موبذان وقال يا دهقان هل كان لملوك العجم مثل هذه الخلع فإنه بلغني أن خلعهم ما كانت تبلغ أكثر من أربعة آلاف درهم فقال الموبذان أطال الله بقاء أمير المؤمنين كان لملوك العجم ثلاثة ليست لكم (أحدها) أنهم كانوا يأخذون ما يأخذونه من الرعية بقدر ويعطونه بقدر (والثاني) أنهم كانوا يأخذون من موضع يجوز الأخذ منه ويعطون لمن ينبغي أن يعطى (والثالث) أنهم ما كان يخافهم إلا أهل الريب فقال المأمون صدقت ولم يعد عليه جوابًا.
ولأجل هذا لما كشف المأمون تربة كسرى أنوشروان وفتح تابوته وفتشه وجد صورته وهي بمائها ما بليت، والثياب بجدتها ما تغيرت ولا خلقت، والخاتم في يده ياقوت أحمر كثير الثمن ما رأى المأمون قبله فصًّا مثله وكان على فصه مكتوب به مه نه مه به. ومعنى ذلك الأجود أكبر وليس الأجود أكبر فأمر أن يغطى بثوب نسج من الذهب وكان مع المأمون خادم فأخذ الخاتم من أصبع كسرى ولم يشعر المأمون فلما علم به أعاده وأمر بإهلاك الخادم وقال كاد يفضحني بحيث يقال عني إلى يوم القيامة إن المأمون كان نباشًا وأنه فتح تربة كسرى وأخذ خاتمه من أصبعه.
حكاية: سأل الإسكندرية يومًا حليمًا من حكمائه وكان قد عزم على سفر فقال أوضحوا لي من الحكمة سبيلًا أحكم فيه أشغالي، وأتقن فيه أعمالي. فقال كبير الحكماء أيها الملك لا تدخل قلبك حب شيء ولا بغضه لأن القلب خاصته كاسمه وإنما سُميَ قلبًا لتقبله وأعمل الفكر واتخذه وزيرًا واجعل العقل صاحبًا ومشيرًا، واجهد أن تكون متيقظًا ولا تشرع في عمل أمر بغير مشورة وتجنب الميل والمحاباة في وقت العدل والإنصاف فإذا فعلت ذلك جرت الأشياء على آثارك، وتصرفت فيها باختيارك، وينبغي أن يكون الملك وقورًا حليمًا، وإن لا يكون طائشًا عجولًا. قالت الحكماء ثلاثة أشياء قبيحة وهي في ثلاثة أقبح: الحدة في الملوك، والحرص في العلماء، والبخل في الأغنياء.
حكاية: كتب الوزير يونان إلى الملك العادل أنشرونا وصايا ومواعظ فقال ينبغي يا ملك العالم أن يكون معك أربعة أشياء دائمة: العقل، والعدل، والصبر، والحياء، وينبغي يا ملك الزمان أن تنفي عنك الحسد والكبر وضيق الصدر ويريد به البخل والعداوة، واعلم يا ملك الزمان أن الذين كانوا قبلك من الملوك مضوا والذين يأتون من بعدك لم يصلوا فاجتهد أن يكون جميع ملوك الزمان محبيك ومشتاقيك.
حكاية: يقال أن أنوشروان ركب يومًا من أيام الربيع على سبيل الرجة فجعل يسير في الرياض المخضرة، ويشاهد الأشجار المثمرة، وينظر إلى الكروم العامرة فنزل عن فرسه، وسجد شكرًا لربه وخر ساجدًا ووضع خده على التراب زمانًا طويلًا فلما رفع رأسه قال لأصحابه إن خصب السنين من عدل السلاطين، وحسن نيتهم إلى رعيتهم. فالمنة لله تعالى الذي أظهر حسن نيتنا في سائر الأشياء وإنما قال ذلك لأنه جربه في الأوقات.
حكاية: يقال أن أنوشروان الملك العادل خرج يومًا إلى الصيد فانفرد من عسكره خلف الصيد فرأى ضيعة بالقرب منه وكان قد عطش فقصد الضيعة وأتى باب دار قوم وطلب ماء ليشرب فخرجت صبية فأبصرته ثم عادت إلى البيت فدقت قصبة واحدة من قصب السكر ومزجت ما عصرته منها بالماء ووضعته في القدح فرأى فيه ترابًا وقذى فشرب منه قليلًا قليلًا حتى انتهى لآخره وقال للصبية (سادناس) أي نعم الماء لولا قذى كدره فقالت (يا شرهيك) أنا عمدًا ألقيت فيه القذى فقال ولم فعلت ذاك فقالت رأيتك شديد العطش ولو لم يكن فيه القذى لشربته نوبة واحدة وقد يضرك شربه فتعجب أنوشروان من كلامها وعلم أنها قالته عن ذكاء وفطنة. ثم قال لها من كم عصرت ذلك الماء فقالت من قصبة واحدة فتعجب أنوشروان وأضمر في نفسه أنه إذا عاد يأمر بزيادة الخراج على تلك الناحية. ثم عاد إلى تلك الناحية بعد وقت آخر واجتاز على ذلك الباب منفردًا وطلب ماء فخرجت إليه تلك الصبية بعينها فعرفته ثم عادت لتخرج الماء فأبطأت عليه فاستعجلها أنوشروان وقال لأي شيء أبطأت قالت لأنه لم يخرج من قصبة واحدة قدر حاجتك وقد دققت ثلاث قصبات ولم يخرج منها قدر ما كان يخرج من قصبة واحدة فقال أنوشروان وما سبب ذلك العجز؟ فقالت سببه تغير نية السلطان فقد قيل أنه إذا تغيرت نية السلطان على قوم طارت بركتهم، وقلت خيراتهم فضحك أنوشروان وعجب من قول الصبية وأزال من نفسه ما كان أضمره لهم وتزوج الصبية لحسن ذكائها وفصاحة كلامها.
حكمة: يقال أن الصادقين من الناس ثلاثة الأنبياء والملوك والمجانين وقيل السكر جنون وإن المجنون يخاف من السكران لأن المجنون سكره باطن والسكران جنونه ظاهر والويل لمن يبقى في سكر الغفلة دائمًا كما قال الشاعر:
من أسكرَتُه الخمرُ في عقلِه ** ليس عليهِ إن صحاَ من خجلِ

ومن يكُن بالمُلكِ ذا سكرة ** يصح إذا ما الملكُ عنه انتقلَ

والقليل جدًّا من كان من سكر سلطنته صاحيًا وكان المقدم على أعماله ثقة نصوحًا معينًا. وعلامة سكر السلطان أن يسلم وزارته إلى محتاج ومعوز ثم يستديمه ويتمسك به إلى أن تزول حاجته، وتنقضي فاقته، ثم يعزله وينصب غيره فيكون مثله مثل من يربي طفلًا صغيرًا إلى أن يصير بالغًا كبيرًا يصلح للأشغال، وإمضاء الأعمال، ثم يقتله ويستأصله.
قيل أربعة أشياء على الملوك من جملة الفرائض وهي إبعاد الأدنياء عن مملكتهم، وعمارة المملكة بتقريب العقلاء، وحفظ المشايخ وأُولى الحكمة والتجربة والزيادة في أمر الملك بالإقلال من الأعمال المذمومة.
إشارة لطيفة: لما تولى الأمر عمر بن عبد العزيز كتب إلى الحسن البصري أن أعني بأصحابك فكتب إليه الحسن البصري أما طالب الدنيا فلا ينصح لك، وأما طالب الآخرة فلا يرغب فيك، ولا يجوز للسلطان أن يسلم وزارته ولا عملًا من أعماله إلى من ليس بأهل فإن سلم الأعمال إلى ذلك الرجل فقد أفسد ملكه وظهر له الخلل الوافر من كل وجه ومن كل جانب كما قال الشاعر:
البيتُ إذا ما حانَ خَرَابه ** ظهَر التخلخُلُ مِن أساسِ الحائطِ

وإذا تولى المُلكُ غير رِجالهُ ** ولُوا الأمورَ لكُلِ فدم ساقطِ

وينبغي لمن خدم الملوك أن يكون كما قال الشاعر:
إذا خدمَت الملوكَ فالبس ** مِن التوقِي أعزَ ملبس

وادخُل إذا ما دخلَت أعمى ** واخرُج إذا ما خرجَت أخرسَ

وأما من تبسط مع السلطان فقد ظلم نفسه ولو كان ولد السلطان فليس للانبساط معهم في خدمتهم وجه كقول الشاعر:
إذا كُنت للسُلطَانِ نجلًا فداره ** وخف مِنه إن أحبَبَت رأسك تسلمُ

ومثل من تبسط مع السلطان كمثل الحواء الذي يكون دهره مع الحيات يأكل معها وينام معها، أو كرجل في البحر بين التماسيح التي تبلع الناس فلا يزال مخاطرًا.
حكمة: قيل ويل لن ابتلى بصحبة السلاطين فإنهم ليس لهم صديق ولا قرابة ولا خادم ولا ولد ولا احترام إلا من كانوا محتاجين إليه لعلمه أو لشجاعته فإذا أخذوا حاجتهم منه لم يبق لهم عنده مودة ولم يبق له عندهم وفاء ولا حياء وأكثر أشغالهم رياء يستصغرون كبار ذنوبهم وسيتعظمون صغار ذنوب غيرهم. قال سفيان لا تصحب السلطان وإياك وخدمته لأنك إن كنت له مطيعًا أتعبك، وإن خالفته قتلك وأعطيك.
حكاية: يقال أن يزدجر بن شهريار دخل على والده في وقت لم يكن لأحد إذن في الدخول فقال شهريار لبهرام امض واضرب الحاجب الفلاني ثلاثين خشبة واطرده عن الدركاه وأقم عوضه فلانا الحر. وكان عمر يزدجرد يومئذ ثلاث عشرة سنة فعزل ذلك الحاجب الأول عن الباب فعاد يزدجرد في بعض الأيام وأراد أن يدخل على والده شهريار فجعل الحاجب يده في صدره ورده على عقبه وقال إن عدت ورأيتك هاهنا ضربتك ستين خشبة ثلاثين لأجل الحاجب المعزول وثلاثين لئلا تعود تدخل على الملك في غير وقت الآذن وإن كنت ولده لئلا تجلب إلى الضرب والهوان والطرد.
وأصلح الأشياء للملك أن لا يباشر الأسباب بنفسه ويحفظ ناموسه لأن كثيرًا من الأرواح يتعلق بروحه وصلاح الرعية في حياته. وكذا ينبغي أن لا يجور على نفسه ولا يجور على الناس. ولا ينبغي للملك أن يجازف في الأشغال ولا يتساهل فيها. ويجب عليه أن ينيم على فراشه كل ليلة غيره ويتحول بنفسه عن ذلك الموضع حتى إذا قصده عدو لإتلاف نفسه وجد في مكانه غيره فلا تصل يد عدوه إليه كما جاء في الحكاية.
حكاية: يقال أنه انهزم خسرو بن أبرويز من بهرام جور وقال خربت وإن كان هربي عيبًا لأخلص بهربي أرواح جماعة من أصحابي لأني إن هلكت بسببي ألوف من الخلائق. والمقصود من المقال أن زماننا هذا غير موافق والناس فيه بين قبيح الفعل وعاقل الملوك مشغولون بالدنيا وحب المال ولا يجوز الإهمال والتغافل بين أناس السوء. في أمثال العرب (العبد يقرع بالعصا، والحر تكفيه الإشارة) وهذا المثل يضرب في من له أصل ومن لا أصل له وقد كان للناس وقت وزمان يؤمن فيه رجل واحد جميع أهل الدنيا ويسخرهم بدرة كان يحملها على عاتقه وهو عمر بن الخطاب رضي الله عنه والفضل في ذلك الزمان للوقت والرعية مشغولون ولو عوملوا بتلك المعاملة لم يحتملوا ولبدا فيها الفساد. لكن ينبغي للسلطان في هذا الوقت أن يكون له أتم سياسة وهيبة ليشتغل كل إنسان بشغله ويأمن الناس بعضهم من بعض.
ونحن الآن نورد خبرًا يستفيد به القارئ والسامع: سئل أمير المؤمنين علي بن أبى طالب كرم الله وجهه لأي شيء لا تنفع الموعظة هؤلاء الخلق فقال الخبر المعروف أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أوصى عند وفاته أشار بأصابعه الثلاث وقال لا تسألوني عن حال أولئك فقال قوم من الصحابة أشار إلى ثلاثة أشهر وقال قوم إلى ثلاث سنين وقال قوم إلى ثلاثين سنة وقال قوم ثلاثمائة سنة يعني إذا مضت ثلاثمائة سنة فلا تسألوني عن حال أولئك الرجال فإذا قال النبي صلى الله عليه وسلم لا تسألوني عن حال أولئك فكيف ينفع الوعظ فيهم. وسئل عن هذا السؤال فقال كان الناس في ذلك الوقت نيامًا وكان العلماء أيقاظًا واليوم العلماء نيام والخلق موتى فأي نفع لكلام النائم مع الميت.
أما زماننا هذا فهو الزمان الذي هلك فيه الخلائق جميعهم وقد خبثت أعمال الناس ونياتهم وإذا لم يكن فيه للسلطان سياسة على الخلائق لا هيبة لم يثبتوا على الطاعة والصلاح. وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم العدل من الدين وفيه صلاح السلطان وقوة الخاص والعام وفيه يكون خير الرعية وأمنهم وعافيتهم وكل الأعمال توزن بميزان العدل. وقال عز وجل في موضع آخر: {الذي أنزلَ الكِتَابَ بِالحقِِ والمِيزانِ} وأحق الناس بالجاه والمملكة من كان في قلبه مكان للعدل، وبيته مقر ذوي الدين والفضل، ورأيه من أرباب الدين والعقل، وصحبته مع العقلاء، ومشورته مع ذوي الآراء. كما قال الشاعر:
يدُه خِزَانة جُودِه ** والقلبُ خازنُ قصدهِ

قد رتبًت أبوابهَ ** أبدًا لطلبِ عدلهِ

قال الحسن البصري كل ملك عظم أمر الدين كان عند رعيته مهيبًا عظيم القدر والأمر ومن عرف الله تعالى تعرف الخلق به واختاروا أن يكونوا معارفه كما قال الشاعر:
من عرفَ اللَهُ تعالى اسمَه ** آثرَ كُلُ الخلق عرفانه

طُوبي لمن أول ما حازهُ ** معرفة الخالق سُبحانه

قال بزرجمهر ينبغي للملك أن لا يكون في مملكته أقل من البستاني في حفظ بستانه إذا زرع الريحان ونبت بينه الحشيش استعجل في قلع الحشيش كيلًا يضبط أماكن الريحان.
قال أفلاطون علامة السلطان المظفر على العدو أن يكون قويًّا في نفسه لازمًا لصمته مفكرًا في رأيه وتدبيره بقلبه وأن يكون عاقلًا في ملكه شريفًا في نفسه حلوًا في قلوب الرعية رفيقًا في سائر أعماله، مجربًا لعهد من تقدمه خبيرًا بأعمال من هو أقدم منه صلبًا في دينه وعزمه. وكل ملك تجمعت فيه هذه الخلال، وحصلت له هذه الخصال، كان في عين عدوه مهيبًا، ولا يجد العائب له معيبًا، إذا كان الملك يرى أن حوله وقوته بالله جلت قدرته وإن كان عدوه قويًّا فإنه يظفر به وينتصر عليه، مثاله قول الله عز وجل: {كم مِن فئةٍ قليلةِ غلبًت فئةً كثيرة بإذنِ اللهِ والُله مع الصابرينَ}.
نكتة: قال سقراط الحكيم علامة السلطان الذي يدوم ملكه أن يكون الدين والعقل منه حيين في قلبه ليكون في قلوب الرعية محبوبًا، وأن يكون العقل قريبًا، وأن يكون طالبًا للعلم ليعلم من العلماء وأن يكون فضله غزيرًا، وبيته كبيرًا، ليعظم عند الفضلاء، ويربي الأدباء ليتفرع عنه الأدباء، وأن يبعد عن مملكته متطلبي العيوب لتبعد عنه العيوب. وكل ملك لم يكن له مثل هذه الخصال لا يفرح بمملكته، وتسرع إليه دواعي هلكته، ويتلف أقرباؤه على يده وجلساؤه لأن القيل يظهر من عدم العقل كما قال الشاعر:
يقولُ الحكيمُ المقالَ الأسدَ ** دع المُزح إذ لستُ فيهِ أسدِ

تحفظُ بنفسِك مع مقلتِيـ ** ـك فعينك للملكِ تجني الحردِ

وخف أن تنازعَه مُلكهُ ** وفي حالةِ السخطِ عنه ابتعدِ

سمِعًتُ عن الخمرِ أن المليكَ ** يسكرُ مِنها قُبيل الأمدِ

إشارة وحكمة: سأل معاوية الأحنف بن قيس فقال يا أبا يحيى كيف الزمان فقال الزمان أنتا إن صلحت صلح الزمان وإن فسدت فسد الزمان. وقال الأحنف بن قيس أن الدنيا عمرت بالعدل فكذلك تخرب بالجور لأن العدل يصفو نوره، وتلوح تباشيره، من مسيرة ألف فرسخ والجور يتراكم ظلامه، ويسود قتامه من مسيرة ألف فرسخ. وقال الفضيل بن عياض لو كان دعائي مستجابًا لم أدع به لغير السلطان العادل لأن السلطان العادل صلاح العباد، وزينة البلاد، وقد جاء في الخبر، عن سيد البشر صلوات الله وسلامه: «عليه المقسطون على منابر اللؤلؤ يوم القيامة».
حكاية: كان الإسكندر يومًا على تخت مملكته وقد وقع الحجاب فقدم بين يديه لص فأمر فقال أيها الملك سرقت ولم يكن لي شهوة السرقة ولم يطلبها قلبي فقال له الإسكندر لا جرم تصلب ولا يطلب قلبك الصلب ولا يريده، فواجب على السلطان أن يعدل وينظر غاية النظر فيما يأمر به من السياسة لينفذ ذلك في أصحابه مثل وزيره وحاجبه ونائبه وعامله لأن كثيرًا من سياسة السلطان وعدله ونظره وحسن تأمله يغطي عليه بالبراطيل ويغرب وقته وذلك من تغافل الملك وتهاونه فينبغي أن يجتهد غاية الاجتهاد في تدارك ذلك كما جاء في الحكاية.
حكاية: كان للملك كستاشب وزير اسمه راشتروش وبهذا الاسم كان يظن كستاشب أنه تقي صالح وما كان يسمع فيه كلام أحد يقدح فيه ولم يكن يخبر حاله فقال راشتروش لخليفة الملك أن الرعية قد بطرت الآن من كثرة عدلنا فيهم وقلة تأديبنا لهم وقد قيل إذا عدل السلطان جارت الرعية والآن قد قامت منهم رائحة الفساد ويجب علينا أن نؤدبهم ونزجرهم ونبعد المعتدين ونقرب الصالحين ثم إنه كان كل من ألزمه الخليفة أن يؤدبه ارتشى منه راشتروش وأطلقه إلى أن ضعفت الرعية وضاقت بها الأحوال، وخلت الخزائن من الأموال، فظهر لكستاشب عدو فاعتبر خزائنه فلم يجد فيها شيئًا يصلح به أمور عسكره فركب يومًا في شغل عليه وسار في البرية فرأى من بعد قطيع غنم فقصده فرأى خيمة مضروبة والأغنام نيام ورأى كلبًا مصلوبًا فلما قرب من الخيمة خرج إليه شاب فسلم عليه وسأله النزول فأكرمه وقدم بين يديه ما حضر كما وجب فقال كستاشب أخبرنا عن حال هذا الكلب وصلبه قال يا مولانا كان هذا الكلب أمينًا لي على أغنامي فصادف ذئبة فكان ينام معها ويقوم معها والذئبة كل يوم تأتي من الغنم رأسًا بعد رأس فجاء في بعض الأيام صاحب الموضع وطلب مني حق المرعى فقعدت أتفكر واحسب حساب الغنم وهي تنقص في الحساب ورأيت ذئبًا أخذ شاة والكلب ساكت مكانه فعلمت أنه كان سبب تلف الغنم وأنه كان يخون أمانته فلزمته وصلبته فاعتبر كستاشب جعل يتفكر في نفسه وقال رعيتنا أغنامنا فيجب أن نسأل نحن أيضًا عنها لنصل إلى حقيقة أمرها فرجع إلى داره فجعل ينظر في الوزمجات فإذا جميعها شفاعات راشتروش فضرب مثلًا وقال من اغتر بالاسم من ذوي الفساد، بقي بغير زاد، ومن خان في الزاد بقي بلا روح ثم أمر بصلب الوزير وهذه الحكاية مكتوبة في كتاب بادركارنامه وفيها يقول الشاعر:
وما أنا بالمُغترِ باسمكِ إنما ** تسميتُ كي تحَتال في طلبِ الرزقِ

ومن يجعل الأسماءَ فخًا لِرزقِه ** يُعد غيرَ ذي روحِ على الجذعِ مستلقيِ

حكاية: يقال أنه كان لعمرو بن ليث نسيب يعرف بأبي جعفر بن زيدويه وكان عمرو به حفيًا ومن جملة محبته له أنه كان يصله من هراة في كل سنة مائة جمل حمر الوبر على كل جمل حمل من الحوائج فأنفذ عمرو من كل حاجة حملًا إلى دار أبي جعفر بن زيدويه وقال ليوسع عليه في مطبخه فقيل لعمرو بن ليث أن أبا جعفر قد بطح علامًا له وقد ضربه عشرين خشبة فأمر أن يحضر ثم أمر بكل سيف في خزائنه فقال يا أبا جعفر اختر من هذه السيوف أجودها واعزله ناحية فجعل أبو جعفر يتخير وينتقي إلى أن أفرد منها مائة سيف فقال اختر الآن منها سيفين فاختار أبو جعفر منها سيفين أجودها فقال عمرو ارسم الآن أن يجعلا في قراب واحد فقال أبو جعفر أيها الأمير كيف يمكن أن يكون سيفان في قراب واحد فقال عمرو بن ليث فكيف يمكن أن يكون أميران في بلد واحد فعلم أبو جعفر أنه أخطأ فقبل الأرض والتمس العفو والإقالة فقال عمرو بن ليث لولا حق القرابة ما جئت بيتك فخل عن هذا الأمر لنا فقد عفونا هذه النوبة عنك.
حكمة: قال أزدشير إذا كان الملك عاجزًا عن إصلاح خواصه ومنعهم عن الظلم فكيف يقدر على رد العوام إلى الصلاح قال الله تعالى: {وأنذر عشيرتك الأقربين} فالعرب تقول أنه ليس شيء أضيع للملك وأفسد للرعية من تعذر الإذن في الدخول وتكاثر الحجاب، وصعوبة الحجاب. وإذا كان الملك سهل الحجاب لم يكن للعمال أن يجوروا على الرعايا وخافت الرعية من جور بعضهم على بعض ومن سهولة الحجاب يكون للملك على الرعية من جور بعضهم على بعض ومن سهولة الحجاب يكون للملك على سائر العمال اطلاع. لا يجوز للسلطان أن يكون غافلًا لتكون الهيبة من ناموس المملكة باقية ويستريح من الهموم الحادثة عن الغفلة.
حكاية: يقال أن أزدشير كان متيقظًا ذا فطنة بالأمور بحيث إذا جاءه ندماؤه من الغد حدث كل واحد منهم بما صنعه وكان يقول لأحدهم إنك البارحة فعلت الشيء الفلاني ونمت مع زوجتك ومع جاريتك الفلانية ويظنون أن ملكًا من السماء يأتي ويعرفه بأفعالهم وكذلك كان السلطان محمود بن سبكتكين رحمه الله.
حكمة: قال أرسطاطاليس خير الملوك من كان في حدة نظره على مثال العقاب وكان الذين حوله كعقبان لا كالجيف يعني إذا كان السلطان جيد النظر ذا يقظة بالأمور ذا فكرة في العاقبة وكان المقربون منه وخواص دولته بهذه الصفة انتظمت أحوال مملكته واستقامت أمور أهل ولايته.
حكمة: قال الإسكندر خير الملوك من بدل السنة السيئة بالسنة الحسنة وشر الملوك من بدل السنة الحسنة بالسنة السيئة.
حكمة: قال أبرويز ثلاثة لا يجوز للملك التجاوز عنهم ولا يصفح عن ذنوبهم: من قدح في ملكه، أو أفسد حرمه، أو أفشى سره.
قال سفيان الثوري خير الملوك من جالس أهل العلم ويقال أن جميع الأشياء تتجمل بالناس يتجملون بالعلم وتعلو أقدراهم بالعقل وليس شيء خيرًا من العقل والعلم فإن العلم بقاء العز ودوامه، والعقل بقاء السرور ونظامه. ومن اجتمع العلم والعقل فيه فقد اجتمعت فيه اثنتا عشرة خصلة: العفة، والأدب، والتقى، والأمانة، والصحة، والحياء، والرحمة، وحسن الخلق، والوفاء، والصبر، والحلم، والمدارة في مكانها وهذه من خواص آداب الملك. وينبغي أن يكون مع العقل العلم كما أن مع النعمة الشكر، ومع الصباحة الحلاوة، ومع الاجتهاد الدولة فإذا جاءت الدولة حصل المراد جميعه.
حكاية: قال عبد الله بن ظاهر أن يعقوب بن ليث علا أمره وارتفع قدره، وظهر اسمه وذكره، وملك كرمان وفارس وخورستان وقصر الواق وكان الخليفة في ذلك الزمان المعتمد فكتب إليه المعتمد إنك كنت رجلًا صفارًا فمن أين تعملت تدبير الملك فكتب إليه يعقوب جوابًا وقال إن المولى الذي آتاني الدولة آتاني التدبير. وفي عهد أزدشير كتب كل عزيز لا يضع قدمه على بساط العلم كانت عاقبته ذلًا وكل عبد ليس معه خوف من الله تعالى وإن كان تامًا فإن مصيره إلى الندم.
حكمة: قال عبد الله بن طاهر يومًا لأبيه كم تبقى هذه الدولة فينا وتبقى في بيتنا قال مادام بساط العدل والإنصاف مبسوطًا في هذه الإيوان.
حكمة: كان المأمون قد جلس في بعض الأيام لفصل الدعاوى والأحكام فرفعت إليه فسلم القصة إلى وزيره الفضل بن سهل وقال اقض قصته ارفع هذه القصة في هذه الساعة فإن الفلك في سرعة دورانه قل أن يثبت على حاله.
قال مؤلف الكتاب يجب على الملوك العقلاء، والأفاضل الألباء أن ينظروا في هذه الأخبار ليأخذوا نصيبًا من أيام دولتهم وينصفوا المظلومين ويقضوا حوائج السائلين، ويتيقنوا أن هذا الفلك لا يثبت على دور واحد لأنه لا اعتماد على الدولة وإن القضاء سماوي لا يرد بالعساكر، وكثرة الأموال والذخائر، وإذا انحلت الدولة وتلاشت الأموال، وتفانت الرجال، فلا ينفع الندم إذا زلت القدم كما جاء في الحكاية.
حكاية: أن مروان آخر خلفاء بني أمية عرض العسكر فكان ثلاثمائة ألف رجل بالعدد الكاملة فقال وزيره إن هذا لمن أعظم الجيوش فقال له مروان اسكت فإنه إذا انقضت المدة، لم تنفع العدة وإذا نزل القضاء السماوي وإن كان العسكر عظيمًا كثيرًا بان قليلًا حقيرًا، ولو ملكنا الدنيا بأسرها فلا بد أن تنزع منا ولمن وفت الدنيا حتى تفي لنا.
حكمة: قال أبو الحسن الأهوازي في كتاب الفرائد والقلائد الدنيا لا تصفو لشارب، ولا تبقى لصاحب فخذ زادًا من يومك لغدك فلا يبقى يوم عليك ولا غد. ويقال: إنه كان على قبر يعقوب بن ليث مكتوبًا هذه الأبيات عملها قبل موته وأمر أن تكتب على قبره وهي هذه:
سَلامُ عَلى أهلِ القُبُورِ الدوارِس ** كأنُهم لم يجلِسُوا فِي المجَالِسِ

ولم يشَربُوا مِن بارِدِ الماءِ شربة ** ولم يأكلُوا ما بين رطبٍ ويابِسِ

فقد جاءنِي الموتُ المهولُ بِسكرةٍ ** فلم تَغن عنِي ألف آلافِ فارِسِ

فياَ زائرُ القبرِ اتعظ واعتبر بِنا ** ولا تك فِي الدُنيا هُدِيتَ بآنسِ

خُرَاسان نحويها وأطرافُ فارسِ ** وما كُنتَ عن مُلكِ العِراقِ بآيسِ

سَلامُ على الدُنيا وطِيبِ نعِيمٍها ** كأن لم يكُن يعقُوبُ فِيها بِجالسِ

سؤال وجواب: سئل ملك كان قد زال عنه الملك فقيل لأي سبب انتقلت الدولة عنك وسلمت إلى غيرك وسلبت منك؟ فقال لاغتراري بالدولة والقوة ورضاي برأيي وعلمي وغفلتي عن المشورة وتوليتي لأصاغر العمال، على أكابر الأعمال، وتضييعي الحيلة في وقتها وقلة تفكري في الحيلة وإعمالها وقت الحاجة إليها والتباطؤ والوقفة في مكان العجلة والفرصة والاشتغال عن قضاء الحوائج. وقيل أي الأشرار أكثر شرًا فقال الرسل الخونة الذين يخونون في الرسالة لأجل أطماعهم فكل خراب المملكة منهم كما قال أزدشير في حقهم كم سفكوا من الدماء وكم هزموا من الجيوش وكم هتكوا من أستار ذوي الحرمات الأحرار، وكم من يمين كذبوها بخيانتهم، وكم من عهود نقضوها بقلة أمانهم وكم اجتاحوا من الأموال، وكان ملوك العجم يتحرزن وما كانوا ينفذون رسولًا إلا بعد أن يجربوه ويمتحنوه.
حكمة: يقال أن ملوك العجم كانوا إذا أرسلوا رسولًا إلى الملوك أرسلوا معه جاسوسًا ليكتب ما قال وما سمعه فإذا عاد الرسول قابلوا كلامه بالنسخة التي كتبها الجاسوس فإن صح مقاله علموا أنه صادق فكانوا يرسلونه بعد ذلك إلى الأعداء.
حكاية: أرسل الإسكندر رسولًا إلى الملك دارا فلما عاد الرسول وأعاد الجواب شك الإسكندر في كلمة من كلامه فلزمها عليه فقال الرسول يا مولاي أنا سمعت هذه الكلمة منه بأذني هاتين فأمر الإسكندر أن يكتب ذلك اللفظ بعينه وأنفذه على يد رسول آخر إلى دارا بن دارا فلما وصل وعرض المكتوب عليه قرأه وطلب سكينًا وقطع تلك الكلمة من الكتاب وأعاده إلى الإسكندر وكتب إليه أن إسّ الملك على حسن نية الملك وصحة طبعه وأساس صحة السلطان على صحة لفظ السفراء وصدق مقالة الرسل الأمناء لأن الرسول يقول ما قاله عن لسان الملك ويسمع ما يسمعه من الجواب بسمع املك والآن فقد قلعت تلك الكلمة من الكتاب لأنها لم تكن من كلامي ولم أجد سبيلًا إلى قطع لسان رسولك فلما عاد الرسول وأعاد الجواب إلى الإسكندر استدعى الرسول وصاح عليه وقال له ويلك من وضعك وقال إنه قصر في حقي وأسخطني فقال اسكندر سبحان الله ظننت أنا أرسلناك لتصلح أمورك أو تسعى في حقوق الناس إلينا ثم أمر به فسل لسانه من قفاه.