فصل: حكاية عن عمر بن الخطاب يطوف مع العسس

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: التبر المسبوك في نصيحة الملوك **


 حكاية

قال زيد بن أسلم رأيت ليلة عمر بن الخطاب يطوف مع العسس فتبعته وقلت أتأذن لي أن أصاحبك قال نعم فلما خرجنا من المدينة رأينا ناراً من بعد فقلنا ربما يكون قد نزل هناك مسافر فقصدنا النار فرأينا إمرأة أرملة ومعها ثلاثة أطفال وهم يبكون وقد وضعت لهم قدراُ على النار وهي تقول الَهي أنصفني من عمر وخذ لي منه بالحق فإنه شبعان ونحن جياع فلما سمع عمر بن الخطاب ذلك تقدم وسلم عليها وقال أتأذنين أن أدنو إليك فقالت أن دنوت بخير فبسم الله فتقدم وسألها عن حالها وحال جياع وقد بلغ مني ومنهم الجهد والجوع وقد منعهم عن الهجوع فقال عمر وأي شيء في هذه القدر فقالت تركت فيها ماء لأشاغلهم به ليظنوا أنه طعام فيصبروا‏.‏

قال زياد فعاد أمير المؤمنين وقصد دكان الدسم فإبتاع منه دسماً ومضى إلى دكان الدقيق فإبتاع منه ملء جراب ثم وضع الجميع على كاهله ومضى به يطلب المرأة والأطفال‏.‏

فقلت يا أمير المؤمنين ناولنيه لأحمله عنك فقال إن حملته عني فمن يحمل عني ذنوبي ومن يحول بيني وبين دعاء تلك المرأة والأطفال عليّ وجعل يسعى وهو يبكي إلى أن وصلنا إلى المرأة فقالت المرأة جزاك الله عنا خير الجزاء فأخذ عمر جزأ من الدقيق وشيئاً من الدسم فوضعهما في القدر وجعل يوقد النار وكلما أرادت أن تخمد نفخها والرماد يسقط على وجهه ومحاسنه إلى أن إنطبخت القدر فوضع الطبيخ في القصعة وقال للمرأة كلي فأكلت المرأة والأطفال فقال عمر أيتها المرأة لا تدعين على عمر فإنه لم يكن عنده منك ولا من أطفالك خبر‏.‏

وأول من دُعي بأمير المؤمنين عمر بن الخطاب فإن أبا بكر رضي الله عنه دعوه بخليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما وصل الأمر إلى عمر كانوا يقولون يا خليفة خليفة رسول الله فكان يطول ذلك فقال يا أيها المؤمنون سموني أميراً فإني أميركم وإن دعوتموني أمير المؤمنين فأنا ذلك عمر بن الخطاب‏.‏

حكاية

سئل خازن بيت المال هل إنبسط عمر في بيت المال فقال كان في أول الأمر إذا لم يكن له شيء يتقوت به أخذ قليلاً برسم القوت فإذا حصل عنده شيء أعاده إلى بيت المال‏.‏

وخطب يوماً فقال أيها الناس قد كان الوحي ينزل عي عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فكنا نعرف به ظاهر الناس وباطنهم وجيدهم ورديئهم والآن قد إنقطع الوحي عنا فنحن ننظر من كل أحد إلى علانيته والله أعلم بسريرته وأنا على الجهد وعمالي أن لا نأخذ شيئاً بغير حق ولا تعطي شيئاً بغير حق‏.‏

فإن شئت أن تعلم أن عدل السلطان وتقيته سبب لجميل ذكره ونيل فخره فإنظر في أخبار عمر بن عبد العزيز فإنه لم يكن لأحد من بني أمية وبني مروان مثل مدحه ومحمدته ولا يدعي إلا له ولا يثني إلا عليه لأنه كان عادلاً تقياً كريماً حسن السيرة تقي السريرة‏.‏

حكاية

كان في زمن عمر بن عبد العزيز قحط عظيم فوفد عليه قوم من العرب فاختاروا منهم رجلاً لخطابه فقال ذلك الرجل يا أمير المؤمنين أنا أتيناك من ضرورة عظيمة وقد يبست جلودنا على أجسادنا لفقد الطعام وراحتنا في بيت المال وهذا المال لا يخلو من ثلاثة أقسام‏:‏ أما أن يكون لله أو لعباد الله أو لك‏.‏

فإن كان لله فالله غني عنه وإن كان لعباد الله فآتهم إياه وأن كان لك فتصدق به علينا إن الله يجزي المتصدقين‏.‏

فتغرغرت عينا عمر ابن عبد العزيز بالدموع وقال هو كما ذكرت وأمر بحوائجهم فقضيت من بيت المال فهم الأعرابي بالخروج فقال له عمر أيها الإنسان لحر كما أوصلت إلي حوائج عباد الله وأسمعتني كلامهم فأوصل كلامي وارفع حاجتي إلى الله تعالى فحول الأعرابي وجهه قبل السماء وقال إلَهي أصنع مع عمر ابن عبد العزيز كصنيعه في عبادك فما استتم الأعرابي كلامه حتى إرتفع غيم فأمطر مطراً غزيراً وجاء في المطر بردة كبيرة فوقعت على آجرة فإنكسرت فخرج منها كاغد عليه مكتوب هذه براءة من الله العزيز لعمر ابن عبد العزيز من النار‏.‏

حكاية

يقال أن عمر بن عبد العزيز كان ينظر ليلاً فيقصص الرعية وروزناتهم في ضوء السراج فجاء غلام له فحدثه في سبب كان يتعلق ببيته فقال له عمر أطفيء السراج وحدثني فإن هذا الدهن من بيت مال المسلمين فلا يجوز إستعماله إلا في اشغال المسلمين‏.‏

كذا يكون حذر السلطان وتوقيه إذا كان عادلاً كما جاء في الحكاية‏.‏

 حكاية

كان لعمر بن عبد العزيز غلام وكان خازناً لبيت المال وكان لعمر بنات جئنه يوم عرفة وقلن له غداً العيد ونساء الرعية وبناتهم يلمننا وقلن أنتن بنات أمير المؤمنين ونراكن عريانات لا أقل من ثياب بيضاء تلبسنها وبكين عنده فضاق صدر عمر فدعا غلامه الخازن وقال له أعطني مشاهرتي لشهر واحد فقال الخازن يا أمير المؤمنين تأخذ المشاهرة من بيت المال سلفاً أتظن أن لك عمر شهر فتأخذ مشاهرة شهر فتحير عمر وقال نعم ما قلت أيها الغلام بارك الله فيك ثم التفت إلى بناته وقال اكظمن شهواتكن فإن الجنة لا يدخلها أحد إلا بمشقة‏.‏

حكمة

لما كان الأمراء كذلك كان حواشيهم وخدعهم على قاعدتهم والعدل التام هو أن تساوي بين المجهول الذي لا يعرف وبين المحتشم صاحب الجاه المعروف في مقام واحد في الدعاوي وتنظر أيضاً بعين واحدة ولا تفضل أحدهما على الآخر لأجل أن أحدهما فقير والاخر غني فإن الجوهر والخزف في الآخرة بسعر واحد ولا يحرق عاقل نفسه بالنار لحشمة الأغيار‏.‏

وإذا كان لرجل ضعيف على سلطان من السلاطين دعوى فينبغي أن يقوم من صدر مملكته ويعمل بحكم الله تعالى وينصف ذلك العبد الضعيف ويرضيه ولا يحيف عليه ولا يسحي من الحق ويعمل بقول الله ‏{‏إن الله يأمُر بِالعَدَلِ والإحسَان‏}‏ وحقيقة ذلك إن كان للملك على آخر حق أن يسامحه ويمن به عليه ويأمر عماله الثقات أن يقتدوا بمثاله ويعملوا بسيرته لئلا يسئل عنه يوم القيامة‏.‏

فقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال كل راع يسئل عن غنمه وكل إنسان يسئل عن رعيته والحال على هذه الصفة والمآل‏.‏

حكاية

يقال أن إسماعيل بن أحمد أمير خراسان نزل بمرو وكان رسمه في كل موضع ينزله أن يامر المنادي أن ينادي في العسكر إن الجند ما لهم في الرعية شغل فمضى رجل من الخرنبدية ودخل مبطخة قوم فتناول من البطيخ قدراً يسيراً فجاءوا إلى باب الملك واستغاثوا فأمر بإحضاره فأحضر بين يديه فقال له ما حملك على أن آذيت رعيتي قال أخطأت قال لا أقدر لأجل خطئك على دخول النار ثم أمر به فقطعت يده‏.‏

حكاية

يحكى عن إسماعيل الساماني في كتاب سير الملوك أنه كان ينزل بحذاء موليان وكان يصل كل وقت إلى مدينة كغد ويأمر المنادي أن ينادي في الناس وكان يرفع الحجاب ويزيح البواب ليجيء كل من له ظلامة ويقف على جانب البساط ويخاطبه ويعود مقضي الحاجة‏.‏

وكان يقضي بين الخصوم مثل الحكام إلى أن تفي الدعاوي ثم يقوم من موضعه ويقبض على محاسنه ويوجه وجهه نحو السماء ويقول‏:‏ إلَهي هذا جهدي وطاقتي قد بذلتهما وأنت عالم الأسرار تعلم نيتي ولا أعلم على أي عبد من عبادك حفت ولا لأيهم ظلمت‏.‏

وماأنصفت أنا واحداً من أصحابي فأغفر لي يا ألَهي من ذلك ما لا أعلم‏.‏

فلما كان نقي النية جميل الطوية لا جرم علا أمره وارتفع قدره وكان عسكره ألف فارس معتدين بالسلاح مقنعين بالحديد وببركة ذلك العدل والأنصاف ظفره الله تعالى بعمرو بن ليث حتى قبض عليه وفتح خراسان‏.‏

ثم أن عمرو ابن ليث أنفذ إليه من السجن فقال‏:‏ لي بخراسان أموال كثيرة وكنوز موفورة‏.‏

وأنا أسلم الجميع إليك وأطلقني من السجن فلما سمع إسماعيل ذلك ضحك وقال إلى الآن لم يستقم معي عمرو ابن ليث يريد أن يجعل المظالم التي احتقبها‏.‏

والمآثم التي ارتكبها في عنقي ويتخلص من ثقل أوزارها ي القيامة قولوا له مالي في مالك حاجة‏.‏

ثم أنه أخرجه من السجن وأنفذه رسولاً إلى بغداد فنال من أمير المؤمنين الخلع والتشريق‏.‏

وجلس إسماعيل في مملكته بخراسان آمناً فارغ البال حسن الحال‏.‏

وبقيت المملكة في عنصر السامانية مائة وثلاثين سنة فلما إنتقل الأمر إلى أصاغرهم وصبيانهم ظلموا الخلق وتعدوا الحق فزال ملكهم‏.‏

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏(‏عدل السلطان يوماً واحداً خير من عبادة سبعين سنة‏)‏‏.‏

وقال عليه الصلاة والسلام ‏(‏من سل سيف الجور سل عليه سيف الغلبة ولازمه الغم‏)‏ كما قال الشاعر‏:‏ فَقُل لِلنَاسِ ما تهوَى إستماَعاَ ولا تقتل أن اختَرتُ البقاءِ جاء في الخبر أن داود عليه السلام كان ينظر يوماً فرأى شيئاً ينزل من السماء مثل النخالة فقال‏:‏ إلَهي ما هذا قال هذه لعنتي أنزلها على بيوت الجائرين‏.‏

حكاية

لما قعد انو شروان في المملكة كتب إليه يونان الوزير فقال إعلم أيها السطان أن أمور الملك على ثلاثة أشياء‏:‏ أما أن ينصف رعيته ولا ينتصف منهم وذلك هو الدرجة العليا‏.‏

أو ينتصف وينصف أيها الملك إلى هذه الثلاثة وأختر أيها أردت وأنا أعلم أن مولانا يختار الأولى كما قال الشاعر‏:‏ من أنصفَ الناسَ ولم ينتَصِف بفضلهِ منهُم فذاك الأمير ومن يرِد إنصَافِهم مِثلمَا أنصفَ أضحَى مالهُ من نظيرِ ومن يُرِد إنصَافه وهو لا ينصَفهُم فهو الدنيُء الحقيرُ ‏.‏

‏[‏نصيحة وموعظة‏]‏ دخل شبيب بن شيبة يوماً على المهدى فقال يا أمير المؤمنين إن الله قد أعطاك الدنيا فأعط رعيتك قسطاً من طيب عيشك فقال المهدي وما الذي ينبغي أن تعطي الرعية فقال العدل فإنه إذا نامت الرعية في أمن منك نمت آمناً في قبرك‏.‏

وقال أحذر يا أمير المؤمنين من يوم لا ليلة بعده ومن ليلة لا يوم بعدها وأعدل ما استطعت فإنك تجازي بالعدل فحلِ نفَسك بِالتقَوى وزينَها فلن يُعارَ تقيُ في النَاسِ من رجلِ وليس ُتبلى يدُ المعروفِ فاحظ بها تربح كثيراً ورأسُ المالِ لم يزَل‏.‏

حكاية

وصل كتاب من قيصر ملك الروم إلى الملك العادل أنوشروان يقول بماذا يكون دوام الملك فكتب إليه في الجواب جواب ذلك أني لا أعمل شيئاً بجهالة وإذا أمرت بأمر تممته ولا أتركه لخوف ولا لرجاء يريد أنني إذا أمرت بشيء لا أبطله لأجل من يرجوني أو يخافني وأن لا أغير شيئاً أمرت به‏.‏

حكمة

سئل ارسطاطاليس هل يجوز أن يدعي أحد ملكاً غير الله تعالى فقال من وجدت فيه هذه الخصال وإن كانت عارية‏:‏ العلم والعدل والسخاء والحلم والرقة وما ناسبها لأن الملوك إنما كانوا ملوكاً بالظل الإلَهي وضياء الحس وطهارة النفس وتزايد العقل والعلم وقدم الدولة وشرف الأصل والدولة التي كانت في محتدهم وأصولهم فبذلك كانوا ملوكاً وسلاطين ومعنى قولهم ‏[‏فرابرذي‏]‏ وهو الظل الإلَهي يظهر في ستة عشر شيئاً العقل والعلم وحدة الذكاء وتدارك الأشياء والصور التامة والألمعية والفروسية والشجاعة والإقدام والتأني وحسن الخلق وإنصاف الضعيف ومحبة الرعية وإظهار الزعامة والإحتمال والمدارة في مكانها والرأى والتدبير في الأمور والإكثار من قراءة الأخبار وحفظ سير الملوك والفحص عن الأحوال والأعمال التي اعتمدوها الملوك وعملوا بها لأن هذه الدنيا بقية دول المتقدمين الذين تملكوها ثم مضوا وانقضوا وصاروا تذكاراً للناس يذكر كل إنسان بفعله‏.‏

وللآخرة كنز وللدنيا كنز هذه الدنيا حسن الثناء وطيب الذكر وكنزالآخرة العمل الصالح واكتساب الأجر‏.‏

حكمة

كان الاسكندر في بعض الأيام قد ركب في مركب مملكته فقال رجل من مقدمي عسكره إن الله تعالى أعطاك ملكاً عظيماً فاستكثر من النساء لتكثر أولادك فتذكر بهم بعدك فقال ليس ذكر الرجال بعدهم بكثرة الأولاد لكن بحسن السيرة وعدل النية ورجل غلب رجال الدنيا لا يجوز أن تغلبه النساء‏.‏

حكمة

سأل الإسكندر ارسطاطاليس أيما أفضل للملوك الشجاعة أم العدل فقال ارسطاطاليس إذا عدل السلطان لم يحتج إلى شجاعة‏.‏

حكاية

عزل الإسكندر عاملاً من عماله من عمل كثير خطير وولاه أمر عمل خفيف حقير فجاء في بعض الأيام ذلك الرجل إلى الدركاه فقال له الأسكندر كيف تجد عملك فقال أطال الله بقاء الملك الرجال لا تشرف بالأعمال بل الأعمال تشرف بالرجال وذلك بحسن السيرة والإنصاف والعدل وتجنب الإسراف‏.‏

فأحسن الأسكندر مقاله وأعاد إليه أعماله‏.‏

حكمة

قال سقراط العالم مركب من العدل فإذا جاء الجور لا يثبت ولا يستقر‏.‏

حكمة أخرى

سئل بزرجمهر فقيل بأي شيء يظهر عز الملك فقال بثلاثة أشياء‏:‏ حفظ الأطراف مع دفع العدو عن الحوزة وإكرام العلماء وإعزازهم وحب أهل الفضل لأنه كلما جار السلطان خاف أهل الأطراف وإن كانت نعمهم كثيرة فإنها مع الخوف لا تنساغ وإن كانت النعم قليلة إنساغت مع الأمن كما جاء في الحكاية‏.‏

 حكاية

يقال أنه إنقطع رجل من قافلة الحج وضل الطريق ووقع في الوحل فجعل يسير إلى أن وصل إلى خيمة فرأى إمراة عجوزاً ورأى على باب الخيمة كلباً نائماً فسلم الحاج على العجوز وطلب منها طعاماً فقالت العجوز امض إلى ذلك الوادى واصطد من الحيات بقدر كفايتك لأشوي لك منها واطعمك فقال الرجل أنا لا أجسر أن أصطاد الحيات فقالت العجوز أنا أتصيد معك فلما مضت وأياه وتبعهما الكلب فأخذا من الحيات بقدر كفايتهما فأتت العجوز وجعلت تشوي له الحيات فلم ير الحاج من الأكل بداً وخاف أن يهلك من الجوع والهزال فأكل ثم أنه عطش وطلب منها الماء ليشرب فقالت له دونك والعين فأشرب فمضى إلى العين فوجد ماء مالحاً مراً ولم يجد من شربه بداً فشرب وعاد إلى العجوز وقال أعجب منك أيتها العجوز ومن مقامك في هذا الموضع فقالت كيف تكون بلادكم فقال يكون في بلادنا الدور الرحيبة الواسعة والفواكه اللذيذة اليانعة والمياه العذبة والأطعمة الطيبة واللحوم السمينة والغنم الكثيرة والعيون الغزيرة‏.‏

فقالت العجوز قد سمعت هذا كله فقل لي هل تكونون تحت يد سلطان يجور عليكم وإذا كان لكم ذنب أخذ أموالكم واستأصل أحوالكم وأخرجكم عن مسرتكم فقال قد يكون ذلك فقالت إذاً يعود ذلك الطعام اللطيف والعيش الظريف والنعم اللذيذة مع الجور والظلم سماً ناقعاً وتعود أطعمتنا مع الأمن درياقاً نافعاً أو ما سمعت أن أجل النعم بعد نعمة الإسلام الصحة والأمن‏.‏

والأمن إنما يكون مع سياسة السلطان فيجب على السلطان أن يعمل بالسياسة وأن يكون مع السياسة عادلاً لأن السلطان خليفة الله ويجب أن تكون هيبته بحيث إذا رأته الرعية خافوا ولو كانوا بعيداً وسلطان هذا الزمان ينبغي أن يكون له أوى سياسة وأتم هيبة أن أناس هذا الزمان ليسوا كالمتقدمين فإن زماننا هذا زمان ذوي الوقاحة والسفهاء وأهل القسوة والشحناء‏.‏

وإذا كان السلطان منهم ضعيفاً أو كان غير ذي سياسة وهيبة فلا شك أن ذلك يكون سبب خراب البلاد وأن الخلل يعود إلى الدين والدنيا وفي الأمثال جور السلطان مائة عام ولا جور الرعية بعضهم على بعض سنة واحدة وإذا جارت الرعية سلط الله عليها سلطاناً جائراً وملكاً قاهراً كما جاء في الحكاية‏.‏

حكاية

أُعطي الحجاج بن يوسف الثقفي في بعض الأيام قصة مكتوب فيا اتق الله ولا تجر على عباد الله كل هذا الجور فرقى الحجاج المنبر وكان فصيحاً فقال أيها الناس إن الله سلطني عليكم بأعمالكم فإن أنا مت فلا تخلصون من الجور مع هذه الأعمال السيئة فإن الله تعالى خلق أمثالي كثيراً وإذا لم أكن أنا كان من هو أكثر من‏.‏

قال الشاعر‏:‏

وما مِن يدٍ إلا يدُ اللهِ فوقَها ** ولا ظالمُ إلا سيُبلى بأظلمِ

حكمة

سئل بزرجمهر أي الملوك أطهر فقال من أمنه الطاهرون وخاف منه الخطاؤؤن‏.‏

وأما السلطان الذي لا سياسة له فليس له في أعين الناس خطر ولا محل بل يكون الخلق عليه ساخطين ثم يذكرونه كل وقت بالقبيح ألا ترى أن الإنسان إذا كان من عوام الولاية وتولى عليها وأراد أن يطلب الحساب من الرعية أول ما يكلمهم بالهيبة ويظهر جاهه بالسياسة لعلمه أن الرعية إنما ينظرونه بالعين الأولى‏.‏

وفي هذا الباب حكاية عجيبة كان لأبي سفيان بن الحارث ولد وكان يدع زياد بن أبيه وكان قد ولد في أيام الجاهلية ونفاه وتبرأ منه وقال ما هو لي بولد فلما وصل الأمر إلى معاوية قربه وأدناه وولاه ولاية العراق فلما وصل إلى العراق وجد أهل العراق قوماً عابثين يفسدون ويسرقون فقصد زيارة المسجد الجامع ورقى المنبر وخطب خطبة ثم قال بعد خطبته والله لئن خرج أحد بعد العشاء الآخرة لآخذن رأسه عن جسده فليعلم الشاهد الغائب‏.‏

ثم أمر منادياً بذلك ثلاثة أيام فلما كان في الليلة الرابعة خرج زياد وقد مضى من الليل ثلثه فركب وجعل يطوف محال البلد فرأى إعرابياً ومعه غنم له وهو قائم فسأله زياد ما تصنع هاهنا فقال أتيت مساء ولم أجد موضعاً أستقر فيه فنزلت مكاني إلى أن أصبح وأبيع غنمي فقال له زياد أنا أعلم إنك صادق وأن أطلقتك خفت أن يذيع الخبر عني أن زياداً يقول ما لا يفعل فتفسد سياستي وتنكسر هيبتي والجنة خير لك مما هنا ثم ضرب عنقه وجعل يسير فكل من رآه ضرب عنقه وحز رأسه فلما أصبح من الغد كان قد أخذ رؤوس ألف وخمسمائة رجل ثم جعلها على باب داره مثل البيدر فتهوله الناس وحزعوا لما رأوا من فعله كان الليل خرج وطاف فلقي ثلاثمائة رجل فأخذ رؤوسهم فلم يقدر أحد بعد ذلك أن يخرج من منزله بعد العشاء الآخرة‏.‏

فلما كان يوم الجمعة رقى المنبر وقال أيها الناس لا يغلق أحد منكم دكانه بالليل ومهما سرق منكم كان غرامته على فلم يجسر أحد منهم أن يغلق دكانه تلك الليلة فلما كان من الغد أتاه رجل صيرفي وقال قد سرق مني البارحة أربعمائة دينار فقال له زياد تقدر أن تحلف على صحة قولك فقال نعم فحلفه وغرم له أربعمائة دينار وقال له اكتم هذا الأمر ولا تشعر به أحداً فلما كان في الجمعة الثانية اجتمع الناس لصلاة الجمعة وصعد زياد المنبر وقال اعلموا أنه قد سرق من دكان الصيرفي أربعمائة ديناراً وأنتم كلكم حاضرون فإن رددتم ذلك فقد عاد إلى الرجل ماله وإن لم تردوا ذلك فقد أمرت أن لا يمكن أحد منكم أن يخرج من الجامع وأمرت بقتلكم في هذه الساعة ففي الحال لوموا من كان يتهمونه بالسرقه وقدموه بين يديه فرد الذهب الذي كان سرقه فأمر بصلبه في الحال‏.‏

ثم أنه سأل بعد ذلك أي محلة في البصرة ليس فيها أمن فقيل محلة بني الأزد فأمر أن يترك فيها ثوب ديباح له قيمة ثقيلة ليلاً بحيث لا يراه أحد فبقي أياماً ملقى بحاله ولم يكن لأحد جسارة أن يقربه ولا يرفعه من مكانه فقال له أقاربه بعد ذلك أن السياسة خير الأشياء إلا أنك لم ترحم المسلمين أولاً أهلكت خلقاً كثيراً فقال قد أخذت عليهم الحجة قبل ذلك بثلاثة أيام ومن شؤم مخالفتهم لم ينتهوا والذي أصابهم كان من شؤم أعمالهم‏.‏

فصل ولا ينبغي للسلطان أن يشتغل دائماً بلعب الشطرنج والنرد وشرب الخمر وضرب الكرة والصولجان والصيد لأن ذلك يمنعه ويشغله عن أمور الرعية فإن لكل عمل وقتاً فإذا فات الوقت عاد الربح خسراناً فإن الملوك القدماء قسموا النهار أربعة أقسام‏.‏

قسم منها لطاعة الله وعبادته وقسم للنظر في الرعية وإنصاف المظلومين والجلوس بين العلماء والعقلاء ولتدبير الأمور وسياسة الجمهور وتنفيذ المراسم والأوامر وكتابة الكتب وإرسال الرسل وقسم للأكل والشرب والتزود من الدنيا وأخذ الحظوظ من الفرح والسرور وقسم للصيد ولعب الشطرنج والكرة وما حكمة‏:‏ يقال أن بهرام كور قسم نهاره قسمين وجعله شطرين‏.‏

ففي النصف الأول كان يقضي حوائج الناس وفي النصف الثاني كان يطلب الراحة ويقال أنه في جميع عمره ما أشتغل يوماً تاماً بعمل واحد‏.‏

وكان أنو شروان العادل يامر أصحابه الثقات أن يصعدوا إلى أعلى مكان في البلد فينظروا إلى بيوت الناس فكل بيت لا يخرج منه دخان نزلوا وسألوا عن حال أولئك القوم وما خطبهم فإن كانوا في غم أعملوا الملك فكان يحمل ويزيل هموهم‏.‏

ويجب على السلطان أن لا يرضى لغلمانه أن يتناولوا شيئاً من الرعية بغير حق كما جاء في الحكاية‏.‏

حكاية

يقال أنه كان قد ولى أنو شروان عاملاً فأنفذ العامل إليه زيادة في الخراج ثلاثة آلاف درهم فأمر شروان بإعادة الزيادة إلى أصحابها وأمر بصلب العامل‏.‏

وكل سلطان أخذ من الرعية شيئاً بالجور والغصب وخزنه في خزائنه كان مثله رجل عمل أساس حائط ولم يصبر حتى يجف ثم وضع البنيان عليه فلم يبق الأساس ولا الحائط‏.‏

ينبغي للسلطان أن يأخذ ما يأخذه من الرعية وأن يهب ما يهبه بقدره لأن لكل واحد من هذين حداً محدوداً كما جاء في الحكاية‏.‏

 حكاية

يقال أن المأمون ولى يوماً أربعة نفر ولايات فأعطى لواحد منهم منشور خراسان خلع عليه ثلاثة آلاف دينار وولى الآخر ولاية مصر وخلع عليه خلعة مثلها وولى الآخر ولاية ارمينية وأعطاه خلعة مثلها ثم إستدعى يومئذ موبذان وقال يا دهقان هل كان لملوك العجم مثل هذه الخلع فإنه بلغني أن خلعهم ما كانت تبلغ أكثر من أربعة آلاف درهم فقال الموبذان أطال الله بقاء أمير المؤمنين كان لملوك العجم ثلاثة ليست لكم ‏(‏أحدها‏)‏ أنهم كانوا يأخذون ما يأخذونه من الرعية بقدر ويعطونه بقدر ‏(‏والثاني‏)‏ أنهم كانوا يأخذون من موضع يجوز الأخذ منه ويعطون لمن ينبغي أن يعطى ‏(‏والثالث‏)‏ أنهم ما كان يخافهم إلا أهل الريب فقال المأمون صدقت ولم يعد عليه جواباً‏.‏

ولأجل هذا لما كشف المأمون تربة كسرى أنو شروان وفتح تابوته وفتشه وجد صورته وهي بمائها ما بليت والثياب بجدتها ما تغيرت ولا خلقت والخاتم في يده ياقوت أحمر كثير الثمن ما رأى المأمون قبله فصاً مثله وكان على فصه مكتوب به مه نه مه به‏.‏

ومعنى ذلك الأجود أكبر وليس الأجود أكبر فأمر أن يغطى بثوب نسج من الذهب وكان مع المأمون خادم فأخذ الخاتم من أصبع كسرى ولم يشعر المأمون وكان مع المأمون خادم فأخذ الخاتم من أصبع كسرى ولم يشعر المأمون فلما علم به أعاده وأمر بإهلاك الخادم وقال كاد يفضحني بحيث يقال عني إلى يوم القيامة إن المأمون كان نباشاً وأنه فتح تربة كسرى وأخذ خاتمه من أصبعه‏.‏

حكاية

سأل الاسكندرية يوماً حليماً من حكمائه وكان قد عزم على سفر فقال أوضحوا لي من الحكمة سبيلاً أحكم فيه أشغالى وأتقن فيه أعمالي‏.‏

فقال كبير الحكماء أيها الملك لا تدخل قلبك حب شيء ولا بغضه لأن القلب خاصته كإسمه وإنما سُميَ قلباً لتقبله وأعمل الفكر وإتخذه وزيراً واجعل العقل صاحباً ومشيراً واجهد أن تكون متيقظاً ولا تشرع في عمل أمر بغير مشورة وتجنب الميل والمحابة في وقت العدل والإنصاف فإذا فعلت ذلك جرت الأشياء على آثارك وتصرفت فيها بإختيارك وينبغي أن يكون الملك وقوراً حليماً وإن لا يكون طائشاً عجولاً‏.‏

قالت الحكماء ثلاثة أشياء قبيحة وهي في ثلاثة أقبح‏:‏ الحدة في الملوك والحرص في العلماء والبخل في الأغنياء‏.‏

حكاية

كتب الوزير يونان إلى الملك العادل أن شروان وصايا ومواعظ فقال ينبغي يا ملك العالم أن يكون معك أربعة أشياء دائمة‏:‏ العقل والعدل والصبر والحياء وينبغي يا ملك الزمان أن تنفي عنك الحسد والكبر وضيق الصدر ويريد به البخل والعداوة واعلم يا ملك الزمان أن الذين كانوا قبلك من الملوك مضوا والذين يأتون من بعدك لم يصلوا فاحتهد أن يكون جميع ملوك الزمان محييك ومشتاقيك‏.‏

حكاية

يقال أن أنو شروان ركب يوماً من أيام الربيع على سبيل الرجة فجعل يسير في الرياض المخضرة ويشاهد الأشجار المثمرة وينظر إلى الكروم العامرة فنزل عن فرسه وسجد شكراً لربه وخر ساجداً ووضع خده على التراب زماناً طويلاً فلما رفع رأسه قال لأصحابه إن خصب السنين من عدل السلاطين وحسن نيتهم إلى رعيتهم‏.‏

فالمنة لله تعالى الذي أظهر حسن نيتنا في سائر الأشياء وإنما قال ذلك لأنه جربه في الأوقات‏.‏

حكاية

يقال أن أنو شروان الملك العادل خرج يوماً إلى الصيد فإنفرد من عسكره خلف الصيد فرأى ضيعة بالقرب منه وكان قد عطش فقصد الضيعة وأتى باب دار قوم وطلب ماء ليشرب فخرجت صبية فأبصرته ثم عادت إلى البيت فدقت قصبة واحدة من قصب السكر ومزجت ما عصرته منها بالماء ووضعته في القدح فرأى فيه تراباً وقذى فشرب منه قليلاً قليلاً حتى انتهى لآخره وقال للصبية ‏(‏سادناس‏)‏ أي نعم الماء لولا قذى كدره فقالت ‏(‏يا شرهيك‏)‏ أنا عمداً ألقيت فيه القذى فقال ولم فعلت ذاك فقالت رأيتك شديد العطش ولو لم يكن فيه القذى لشربته نوبة واحدة وقد يضرك شربه فتعجب أنو شروان من كلامها وعلم أنها قالته عن ذكاء وفطنة‏.‏

ثم قال لها من كم عصرت ذلك الماء فقالت من قصبة واحدة فتعجب أنو شروان وأضمر في نفسه أنع إذا عاد يأمر بزيادة الخراج على تلك الناحية‏.‏

ثم عاد إلى تلك الناحية بعد وقت آخر واجتاز على ذلك الباب منفرداً وطلب ماء فخرجت إليه تلك الصبية بعينها فعرفته ثم عادت لتخرج الماء فأبطأت عليه فأستعجلها أنو شروان وقال لأي شيء أبطأت قالت لأنه لم يخرج من قصبة واحدة قدر حاجتك وقد دققت ثلاث قصبات ولم يخرج منها قدر ما كان يخرج من قصبة واحدة فقال أنو شروان وما سبب ذلك العجز فقالت سببه تغير نية السلطان فقد قيل أنه إذا تغيرت نية السلطان على قوم طارت بركتهم وقلت خيراتهم فضحك أنو شروان وعجب من قول الصبية وأزال من نفسه ما كان أضمره لهم وتزوج الصبية لحسن ذكائها وفصاحة كلامها‏.‏

حكمة

يقال أن الصادقين من الناس ثلاثة الأنبياء والملوك والمجانين وقيل السكر جنون وإن المجنون يخاف من السكران لأن المجنون سكره باطن والسكران جنونه ظاهر والويل لمن يبقى في سكر الغفلة دائماً كما قال الشاعر‏:‏ من أسكرَتُه الخمرُ في عقلِه ليس عليهِ إن صحاَ من خجلِ ومن يكُن بالمُلكِ ذا سكرة يصح إذا ما الملكُ عنه انتقلَ والقليل جداً من كان من سكر سلطنته صاحياً وكان المقدم على أعماله ثقة نصوحاً معيناً‏.‏

وعلامة سكر السلطان أن يسلم وزارته إلى محتاج ومعوز ثم يستديمه ويتمسك به إلى أن تزول حاجته وتنقضي فاقته ثم يعزله وينصب غيره فيكون مثله مثل من يربي طفلاً صغيراً إلى أن قيل أربعة أشياء على الملوك من جملة الفرائض وهي إبعاد الأدنياء عن مملكتهم وعمارة المملكة بتقريب العقلاء وحفظ المشايخ وأُولى الحكمة والتجربة والزيادة في أمر الملك بالإقلال من الأعمال المذمومة‏.‏

إشارة لطيفة

لما تولى الأمر عمر بن عبد العزيز كتب إلى الحسن البصري أن أعني بأصحابك فكتب إليه الحسن البصري أما طالب الدنيا فلا ينصح لك وأما طالب الآخرة فلا يرغب فيك ولا يجوز للسلطان أن يسلم وزارته ولا عملاً من أعماله إلى من ليس بأهل فإن سلم الأعمال إلى ذلك الرجل فقد أفسد ملكه وظهر له الخلل الوافر من كل وجه ومن كل جانب كما قال الشاعر‏:‏ البيتُ إذا ما حانَ خَرَابه ظهَر التخلخُلُ مِن أساسِ الحائطِ وإذا تولىَ المُلكُ غير رِجالهُ ولُوا الأمورَ لكُلِ فدم ساقطِ وينبغي لمن خدم الملوك أن يكون كما قال الشاعر‏:‏ إذا خدمَت الملوكَ فالبس مِن التوقِي اعزَ ملبس وأدخُل إذا ما دخلَت أعمى واخرُج إذا ما خرجَت أخرسَ وأما من تبسط مع السلطان فقد ظلم نفسه ولو كان ولد السلطان فليس للانبساط معهم في خدمتهم وجه كقول الشاعر‏:‏ ومثل من تبسط مع السلطان كمثل الحواء الذي يكون دهره مع الحيات يأكل معها وينام معها أو كرجل في البحر بين التماسيح التي تبلع الناس فلا يزال مخاطراً‏.‏

حكمة

قيل ويل لن ابتلى بصحبة السلاطين فإنهم ليس لهم صديق ولا قرابة ولا خادم ولا ولد ولا احترام إلا من كانوا محتاجين إليه لعلمه أو لشجاعته فإذا أخذوا حاجتهم منه لم يبق لهم عنده مودة ولم يبق له عندهم وفاء ولا حياء وأكثر أشغالهم رياء يستصغرون كبار ذنوبهم وسيتعظمون صغار ذنوب غيرهم‏.‏

قال سفيان لا تصحب السلطان وإياك وخدمته لأنك إن كنت له مطيعاً أتعبك وإن خالفته قتلك وأعطيك‏.‏