فصل: فَصْلٌ: (تَحْكِيمُ الْوَحْيِ فِي الْأَحْوَالِ وَالْأَذْوَاقِ)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين ***


فَصْلٌ‏:‏ ‏[‏تَحْكِيمُ الْوَحْيِ فِي الْأَحْوَالِ وَالْأَذْوَاقِ‏]‏

وَإِذَا لَمْ يَكُنْ بُدٌّ مِنْ الْمُحَاكَمَةِ إِلَى الذَّوْقِ، وَالْمُحَاكَمَةِ إِلَى شِرْعَةِ اللَّهِ فَهَلُمَّ نُحَاكِمُكَ إِلَى ذَوْقٍ لَا نُنْكِرُهُ نَحْنُ وَلَا أَنْتَ غَيْرِ هَذِهِ الْأَذْوَاقِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا‏.‏

فَالْقَلْبُ يَعْرِضُ لَهُ حَالَتَانِ‏:‏ حَالَةُ حَزْنٍ وَأَسَفٍ عَلَى مَفْقُودٍ، وَحَالَةُ فَرَحٍ وَرِضًى بِمَوْجُودٍ، وَلَهُ بِمُقْتَضَى هَاتَيْنِ الْحَالَتَيْنِ عُبُودِيَّتَانِ‏.‏

وَلَهُ بِمُقْتَضَى الْحَالَةِ الْأُولَى عُبُودِيَّةُ الرِّضَاءِ، وَهِيَ لِلسَّابِقِينَ، وَالصَّبْرِ وَهِيَ لِأَصْحَابِ الْيَمِينِ‏.‏

وَلَهُ بِمُقْتَضَى الْحَالَةِ الثَّانِيَةِ عُبُودِيَّةُ الشُّكْرِ، وَالشَّاكِرُونَ فِيهَا أَيْضًا نَوْعَانِ‏:‏ سَابِقُونَ، وَأَصْحَابُ يَمِينٍ، فَاقْتَطَعَتْهُ النَّفْسُ وَالشَّيْطَانُ عَنْ هَاتَيْنِ الْعُبُودِيَّتَيْنَ، بِصَوْتَيْنِ أَحْمَقَيْنِ فَاجِرَيْنِ، هُمَا لِلشَّيْطَانِ لَا لِلرَّحْمَنِ‏:‏ صَوْتِ النَّدْبِ وَالنِّيَاحَةِ عِنْدَ الْحُزْنِ وَفَوَاتِ الْمَحْبُوبِ، وَصَوْتِ اللَّهْوِ وَالْمِزْمَارِ وَالْغَنَاءِ عِنْدَ الْفَرَحِ وَحُصُولِ الْمَطْلُوبِ، فَعَوَّضَهُ الشَّيْطَانُ بِهَذَيْنِ الصَّوْتَيْنِ عَنْ تَيْنِكَ الْعُبُودِيَّتَيْنِ‏.‏

وَقَدْ أَشَارَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى هَذَا الْمَعْنَى بِعَيْنِهِ فِي حَدِيثِ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ‏"‏ إِنَّمَا نَهَيْتُ عَنْ صَوْتَيْنِ أَحْمَقَيْنِ، فَاجِرَيْنِ‏:‏ صَوْتِ وَيْلٍ عِنْدَ مُصِيبَةٍ، وَصَوْتِ مِزْمَارٍ عِنْدَ نِعْمَةٍ ‏"‏‏.‏

وَوَافَقَ ذَلِكَ رَاحَةً مِنَ النَّفْسِ وَشَهْوَةً وَلَذَّةً، وَسَرَتْ فِيهَا تِلْكَ الرَّقَائِقُ حَتَّى تَعَبَّدَ بِهَا مَنْ قَلَّ نَصِيبُهُ مِنَ النُّورِ النَّبَوِيِّ، وَقَلَّ مَشْرَبُهُ مِنَ الْعَيْنِ الْمُحَمَّدِيَّةِ، وَانْضَافَ ذَلِكَ إِلَى صِدْقٍ وَطَلَبٍ وَإِرَادَةٍ مُضَادَّةٍ لِشَهَوَاتِ أَهْلِ الْغَيِّ وَأَهْلِ الْبِطَالَةِ، وَرَأَوْا قَسَاوَةَ قُلُوبِ الْمُنْكِرِينَ لِطَرِيقَتِهِمْ، وَكَثَافَةَ حَجْبِهِمْ، وَغِلْظَةَ طِبَاعِهِمْ، وَثِقَلَ أَرْوَاحِهِمْ، وَصَادَفَ ذَلِكَ تَحَرُّكًا لِسَوَاكِنِهِمْ، وَانْقِيَادًا لِلَوَاعِجِ الْحُبِّ، وَإِزْعَاجًا لِلنُّفُوسِ إِلَى أَوْطَانِهَا الْأُولَى وَمَعَاهِدِهَا الَّتِي سُبِيَتْ مِنْهَا‏.‏ وَالنُّفُوسُ الطَّالِبَةُ الْمُرْتَاضَةُ السَّائِرَةُ لَا بُدَّ لَهَا مِنْ مُحَرِّكٍ يُحَرِّكُهَا، وَحَادٍ يَحْدُوهَا، وَلَيْسَ لَهَا مِنْ حَادِي الْقُرْآنِ عِوَضٌ عَنْ حَادِي السَّمَاعِ‏.‏

فَتَرَكَّبَ مِنْ هَذِهِ الْأُمُورِ إِيثَارٌ مِنْهُمْ لِلسَّمَاعِ، وَمَحَبَّةٌ صَادِقَةٌ لَهُ، تَزُولُ الْجِبَالُ عَنْ أَمَاكِنِهَا وَلَا تُفَارِقُ قُلُوبَهُمْ، إِذْ هُوَ مُثِيرُ عَزَمَاتِهِمْ وَمُحَرِّكُ سَوَاكِنِهِمْ، وَمُزْعِجُ بَوَاطِنِهِمْ‏.‏

فَدَوَاءُ صَاحِبِ مِثْلِ هَذَا الْحَالِ أَنْ يُنْقَلَ بِالتَّدْرِيجِ إِلَى سَمَاعِ الْقُرْآنِ بِالْأَصْوَاتِ الطَّيِّبَةِ، مَعَ الْإِمْعَانِ فِي تَفَهُّمِ مَعَانِيهِ، وَتَدَبُّرِ خِطَابِهِ قَلِيلًا قَلِيلًا، إِلَى أَنْ يَنْخَلِعَ مِنْ قَلْبِهِ سَمَاعُ الْأَبْيَاتِ، وَيَلْبَسَ مَحَبَّةَ سَمَاعِ الْآيَاتِ، وَيَصِيرَ ذَوْقُهُ وَشُرْبُهُ وَحَالُهُ وَوَجْدُهُ فِيهِ، فَحِينَئِذٍ يَعْلَمُ هُوَ مِنْ نَفْسِهِ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ عَلَى شَيْءٍ، وَيَتَمَثَّلُ حِينَئِذٍ بِقَوْلِ الْقَائِلِ‏:‏

وَكُنْتُ أَرَى أَنْ قَدْ تَنَاهَى بِيَ الْهَوَى *** إِلَى غَايَةٍ مَا فَوْقَهَا لِي مَطْلَبُ

فَلَمَّا تَلَاقَيْنَا وَعَايَنْتُ حُسْنَهَا *** تَيَقَّنْتُ أَنِّي إِنَّمَا كُنْتُ أَلْعَبُ

وَمُنَافَاةُ النَّوْحِ لِلصَّبْرِ وَالْغِنَاءِ لِلشُّكْرِ‏:‏ أَمْرٌ مَعْلُومٌ بِالضَّرُورَةِ مِنَ الدِّينِ، لَا يَمْتَرِي فِيهِ إِلَّا أَبْعَدُ النَّاسِ مِنَ الْعِلْمِ وَالْإِيمَانِ، فَإِنَّ الشُّكْرَ هُوَ الِاشْتِغَالُ بِطَاعَةِ اللَّهِ لَا بِالصَّوْتِ الْأَحْمَقِ الْفَاجِرِ، الَّذِي هُوَ الشَّيْطَانُ، وَكَذَلِكَ النَّوْحُ ضِدُّ الصَّبْرِ، كَمَا قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي النَّائِحَةِ- وَقَدْ ضَرَبَهَا حَتَّى بَدَا شَعْرُهَا- وَقَالَ‏:‏ لَا حُرْمَةَ لَهَا، إِنَّهَا تَأْمُرُ بِالْجَزَعِ، وَقَدْ نَهَى اللَّهُ عَنْهُ، وَتَنْهَى عَنِ الصَّبْرِ، وَقَدْ أَمَرَ اللَّهُ بِهِ، وَتَفْتِنُ الْحَيَّ وَتُؤْذِي الْمَيِّتَ، وَتَبِيعُ عَبْرَتَهَا، وَتَبْكِي شَجْوَ غَيْرِهَا‏.‏

وَمَعْلُومٌ عِنْدَ الْخَاصَّةِ وَالْعَامَّةِ أَنَّ فِتْنَةَ سَمَاعِ الْغَنَاءِ وَالْمَعَازِفِ أَعْظَمُ مِنْ فِتْنَةِ النَّوْحِ بِكَثِيرٍ، وَالَّذِي شَاهَدْنَاهُ- نَحْنُ وَغَيْرُنَا- وَعَرَفْنَاهُ بِالتَّجَارِبِ أَنَّهُ مَا ظَهَرَتِ الْمَعَازِفُ وَآلَاتُ اللَّهْوِ فِي قَوْمٍ، وَفَشَتْ فِيهِمْ، وَاشْتَغَلُوا بِهَا، إِلَّا سَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْعَدُوَّ، وَبُلُوا بِالْقَحْطِ وَالْجَدْبِ وَوُلَاةِ السُّوءِ، وَالْعَاقِلُ يَتَأَمَّلُ أَحْوَالَ الْعَالَمِ وَيَنْظُرُ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ‏.‏

وَلَا تَسْتَطِلْ كَلَامَنَا فِي هَذِهِ الْمَنْزِلَةِ، فَإِنَّ لَهَا عِنْدَ الْقَوْمِ شَأْنًا عَظِيمًا‏.‏

وَأَمَّا قَوْلُهُمْ‏:‏ مَنْ أَنْكَرَ عَلَى أَهْلِهِ فَقَدْ أَنْكَرَ عَلَى كَذَا وَكَذَا وَلِيٍّ لِلَّهِ، فَحُجَّةٌ عَامِّيَّةٌ، نَعَمْ إِذَا أَنْكَرَ أَوْلِيَاءُ اللَّهِ عَلَى أَوْلِيَاءِ اللَّهِ كَانَ مَاذَا‏؟‏ فَقَدْ أَنْكَرَ عَلَيْهِمْ مِنْ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ مَنْ هُوَ أَكْثَرُ مِنْهُمْ عَدَدًا، وَأَعْظَمُ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُمْ قَدْرًا، وَأَقْرَبُ بِالْقُرُونِ الْمُفَضَّلَةِ عَهْدًا، وَلَيْسَ مِنْ شَرْطِ وَلِيِّ اللَّهِ الْعِصْمَةُ، وَقَدْ تَقَاتَلَ أَوْلِيَاءُ اللَّهِ فِي صِفِّينَ بِالسُّيُوفِ، وَلَمَّا سَارَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ كَانَ يُقَالُ‏:‏ سَارَ أَهْلُ الْجَنَّةِ إِلَى أَهْلِ الْجَنَّةِ‏.‏ وَكَوْنُ وَلِيِّ اللَّهِ يَرْتَكِبُ الْمَحْظُورَ وَالْمَكْرُوهَ مُتَأَوِّلًا أَوْ عَاصِيًا لَا يَمْنَعُ ذَلِكَ مِنَ الْإِنْكَارِ عَلَيْهِ، وَلَا يُخْرِجُهُ عَنْ أَصْلِ وِلَايَةِ اللَّهِ، وَهَيْهَاتَ هَيْهَاتَ أَنْ يَكُونَ أَحَدٌ مِنْ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ الْمُتَقَدِّمِينَ حَضَرَ هَذَا السَّمَاعَ الْمُحْدَثَ الْمُبْتَدَعَ، الْمُشْتَمِلَ عَلَى هَذِهِ الْهَيْئَةِ الَّتِي تَفْتِنُ الْقُلُوبَ أَعْظَمَ مِنْ فِتْنَةِ الْمَشْرُوبِ، وَحَاشَا أَوْلِيَاءَ اللَّهِ مِنْ ذَلِكَ وَإِنَّمَا السَّمَاعُ الَّذِي اخْتَلَفَ فِيهِ مَشَايِخُ الْقَوْمِ‏:‏ اجْتِمَاعُهُمْ فِي مَكَانٍ خَالٍ مِنَ الْأَغْيَارِ يَذْكُرُونَ اللَّهَ، وَيَتْلُونَ شَيْئًا مِنَ الْقُرْآنِ، ثُمَّ يَقُومُ بَيْنَهُمْ قَوَّالٌ يُنْشِدُهُمْ شَيْئًا مِنَ الْأَشْعَارِ الْمُزَهِّدَةِ فِي الدُّنْيَا، الْمُرَغِّبَةِ فِي لِقَاءِ اللَّهِ وَمَحَبَّتِهِ، وَخَوْفِهِ وَرَجَائِهِ، وَالدَّارِ الْآخِرَةِ، وَيُنَبِّهُهُمْ عَلَى بَعْضِ أَحْوَالِهِمْ مِنْ يَقَظَةٍ أَوْ غَفْلَةٍ، أَوْ بُعْدٍ أَوِ انْقِطَاعٍ، أَوْ تَأَسُّفٍ عَلَى فَائِتٍ، أَوْ تَدَارُكٍ لِفَارِطٍ، أَوْ وَفَاءٍ بِعَهْدٍ، أَوْ تَصْدِيقٍ بِوَعْدٍ، أَوْ ذِكْرِ قَلَقٍ وَشَوْقٍ، أَوْ خَوْفِ فُرْقَةٍ أَوْ صَدٍّ، وَمَا جَرَى هَذَا الْمَجْرَى‏.‏

فَهَذَا السَّمَاعُ الَّذِي اخْتَلَفَ فِيهِ الْقَوْمُ، لَا سَمَاعُ الْمُكَاءِ وَالتَّصْدِيَةِ، وَالْمَعَازِفِ وَالْخَمْرِيَّاتِ‏.‏ وَعِشْقُ الصُّوَرِ مِنَ الْمُرْدَانِ وَالنِّسْوَانِ، وَذِكْرُ مَحَاسِنِهَا وَوِصَالِهَا وَهِجْرَانِهَا، فَهَذَا لَوْ سُئِلَ عَنْهُ مَنْ سُئِلَ مِنْ أُولِي الْعُقُولِ لَقَضَى بِتَحْرِيمِهِ، وَعَلِمَ أَنَّ الشَّرْعَ لَا يَأْتِي بِإِبَاحَتِهِ، وَأَنَّهُ لَيْسَ عَلَى النَّاسِ أَضَرُّ مِنْهُ، وَلَا أَفْسَدُ لِعُقُولِهِمْ وَقُلُوبِهِمْ وَأَدْيَانِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ وَأَوْلَادِهِمْ وَحَرِيمِهِمْ مِنْهُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ‏.‏

فَصْلٌ‏:‏ ‏[‏دَرَجَاتُ السَّمَاعِ الثَّلَاثُ‏]‏

قَالَ صَاحِبُ الْمَنَازِلِ‏:‏

السَّمَاعُ عَلَى ثَلَاثِ دَرَجَاتٍ‏:‏ سَمَاعُ الْعَامَّةِ، وَهُوَ ثَلَاثَةُ أَشْيَاءَ‏:‏ إِجَابَةُ زَجْرِ الْوَعِيدِ رَغْبَةً، وَإِجَابَةُ دَعْوَةِ الْوَعْدِ جَهْدًا، وَبُلُوغُ مُشَاهَدَةِ الْمِنَّةِ اسْتِبْصَارًا‏.‏

الْوَعِيدُ يَكُونُ عَلَى تَرْكِ الْمَأْمُورِ وَفِعْلِ الْمَحْظُورِ، وَإِجَابَةُ دَاعِيهِ هُوَ الْعَمَلُ بِالطَّاعَةِ‏.‏

وَقَوْلُهُ‏:‏ رَغْبَةً، يَعْنِي امْتِثَالًا لِكَوْنِ اللَّهِ تَعَالَى أَمَرَ وَنَهَى وَأَوْعَدَ‏.‏

وَحَقِيقَةُ الرَّجَاءِ‏:‏ الْخَوْفُ وَالرَّجَاءُ، فَيَفْعَلُ مَا أَمَرَ بِهِ عَلَى نُورِ الْإِيمَانِ، رَاجِيًا الثَّوَابَ، وَيَتْرُكُ مَا نَهَى عَنْهُ عَلَى نُورِ الْإِيمَانِ خَائِفًا مِنَ الْعِقَابِ‏.‏

وَفِي الرَّغْبَةِ فَائِدَةٌ أُخْرَى، وَهِيَ أَنَّ فِعْلَهُ يَكُونُ فِعْلَ رَاغِبٍ مُخْتَارٍ، لَا فِعْلَ كَارِهٍ، كَأَنَّمَا يُسَاقُ إِلَى الْمَوْتِ وَهُوَ يَنْظُرُ‏.‏

وَأَمَّا إِجَابَةُ الْوَعْدِ جَهْدًا‏:‏ فَهُوَ امْتِثَالُ الْأَمْرِ طَلَبًا لِلْوُصُولِ إِلَى الْمَوْعُودِ بِهِ، بَاذِلًا جُهْدَهُ فِي ذَلِكَ، مُسْتَفْرِغًا فِيهِ قُوَاهُ‏.‏

وَأَمَّا بُلُوغُ مُشَاهَدَةِ الْمِنَّةِ اسْتِبْصَارًا‏:‏ فَهُوَ تَنَبُّهُ السَّامِعِ فِي سَمَاعِهِ إِلَى أَنَّ جَمِيعَ مَا وَصَلَهُ مِنْ خَيْرٍ فَمِنْ مِنَّةِ اللَّهِ عَلَيْهِ، وَبِفَضْلِهِ عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ اسْتِحْقَاقٍ مِنْهُ، وَلَا بَذْلِ عِوَضٍ اسْتَوْجَبَ بِهِ ذَلِكَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ‏}‏‏.‏

وَكَذَلِكَ يَشْهَدُ أَنَّ مَا زُوِيَ عَنْهُ مِنَ الدُّنْيَا، أَوْ مَا لَحِقَهُ مِنْهَا مِنْ ضَرَرٍ وَأَذًى فَهُوَ مِنَّةٌ أَيْضًا مِنَ اللَّهِ عَلَيْهِ مِنْ وُجُوهٍ كَثِيرَةٍ، وَيَسْتَخْرِجُهَا الْفِكْرُ الصَّحِيحُ، كَمَا قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ‏:‏ يَا ابْنَ آدَمَ، لَا تَدْرِي أَيُّ النِّعْمَتَيْنِ عَلَيْكَ أَفْضَلُ‏:‏ نِعْمَتُهُ فِيمَا أَعْطَاكَ، أَوْ نِعْمَتُهُ فِيمَا زَوَى عَنْكَ‏؟‏ وَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ‏:‏ لَا أُبَالِي عَلَى أَيِّ حَالٍ أَصْبَحْتُ أَوْ أَمْسَيْتُ، إِنْ كَانَ الْغِنَى، إِنَّ فِيهِ لِلشُّكْرِ، وَإِنْ كَانَ الْفَقْرَ، إِنَّ فِيهِ لِلصَّبْرِ، وَقَالَ بَعْضُ السَّلَفِ‏:‏ نِعْمَتُهُ فِيمَا زَوَى عَنِّي مِنَ الدُّنْيَا أَعْظَمُ مِنْ نِعْمَتِهِ فِيمَا بَسَطَ لِي مِنْهَا، إِنِّي رَأَيْتُهُ أَعْطَاهَا قَوْمًا فَاغْتَرُّوا‏.‏

إِذَا عَمَّ بِالسَّرَّاءِ أَعْقَبَ شُكْرَهَا *** وَإِنْ مَسَّ بِالضَّرَّاءِ أَعْقَبَهَا الْأَجْرُ

وَمَا مِنْهُمَا إِلَّا لَهُ فِيهِ نِعْمَةٌ *** تَضِيقُ بِهَا الْأَوْهَامُ وَالْبَرُّ وَالْبَحْرُ

فَإِنْ قُلْتَ‏:‏ فَهَلْ يَشْهَدُ مِنَّتَهُ فِيمَا لَحِقَهُ مِنَ الْمَعْصِيَةِ وَالذَّنْبِ‏؟‏

قُلْتُ‏:‏ نَعَمْ، إِذَا اقْتَرَنَ بِهَا التَّوْبَةُ النَّصُوحُ، وَالْحَسَنَاتُ الْمَاحِيَةُ، كَانَتْ مِنْ أَعْظَمَ الْمِنَنِ عَلَيْهِ، كَمَا تَقَدَّمَ تَقْرِيرُهُ‏.‏

فَصْلٌ‏:‏ ‏[‏سَمَاعُ الْخَاصَّةِ‏]‏

قَالَ‏:‏ وَسَمَاعُ الْخَاصَّةِ ثَلَاثَةُ أَشْيَاءَ‏:‏ شُهُودُ الْمَقْصُودِ فِي كُلِّ رَمْزٍ، وَالْوُقُوفُ عَلَى الْغَايَةِ فِي كُلِّ حِينٍ، وَالْخَلَاصُ مِنَ التَّلَذُّذِ بِالتَّفَرُّقِ‏.‏

وَالْمَقْصُودُ فِي كُلِّ رَمْزٍ‏:‏ هُوَ الرَّبُّ تَبَارَكَ وَتَعَالَى، فَإِنَّ الْمَسْمُوعَ كُلَّهُ يُعَرِّفُ بِهِ وَبِصِفَاتِهِ وَأَسْمَائِهِ، وَأَفْعَالِهِ وَأَحْكَامِهِ، وَوَعْدِهِ وَوَعِيدِهِ، وَأَمْرِهِ وَنَهْيِهِ، وَعَدْلِهِ وَفَضْلِهِ، وَهَذَا الشُّهُودُ يُنَالُ بِالسَّمَاعِ بِاللَّهِ وَلِلَّهِ وَفِي اللَّهِ وَمِنَ اللَّهِ‏.‏

أَمَّا السَّمَاعُ بِهِ‏:‏ فَأَنْ لَا يَسْمَعَ وَفِيهِ بَقِيَّةٌ مِنْ نَفْسِهِ، فَإِنْ كَانَتْ فِيهِ بَقِيَّةٌ قَطَعَهَا كَمَالُ تَعَلُّقِهِ بِالْمَسْمُوعِ، فَيَكُونُ سَمَاعُهُ بِقَيُّومِيَّتِهِ مُجَرَّدًا مِنَ الْتِفَاتِهِ إِلَى نَفْسِهِ‏.‏

وَأَمَّا السَّمَاعُ لَهُ‏:‏ فَأَنْ يُجَرِّدَ النَّفْسَ فِي السَّمَاعِ مِنْ كُلِّ إِرَادَةٍ تُزَاحِمُ مُرَادَ اللَّهِ مِنْهُ‏.‏ وَتَجَمُّعُ قُوَى سَمْعِهِ عَلَى تَحْصِيلِ مُرَادِ اللَّهِ مِنَ الْمَسْمُوعِ‏.‏

وَأَمَّا السَّمَاعُ فِيهِ‏:‏ فَشَأْنٌ آخَرُ، وَهُوَ تَجْرِيدُ مَا لَا يَلِيقُ نِسْبَتُهُ إِلَى الْحَقِّ مِنْ وَصْفٍ، أَوْ سِمَةٍ أَوْ نَعْتٍ، أَوْ فِعْلٍ، مِمَّا هُوَ لَائِقٌ بِكَمَالِهِ، فَيُثْبِتُ لَهُ مَا يَلِيقُ بِكَمَالِهِ مِنَ الْمَسْمُوعِ، وَيُنَزِّهُهُ عَمَّا لَا يَلِيقُ بِهِ‏.‏

وَهَذَا الْمَوْضِعُ لَمْ يَتَخَلَّصْ فِيهِ إِلَّا الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ وَالْمَعْرِفَةِ بِاللَّهِ، وَأَضَلَّ اللَّهُ عَنْهُ أَهْلَ التَّحْرِيفِ وَالتَّعْطِيلِ، وَالتَّشْبِيهِ وَالتَّمْثِيلِ، وَ‏{‏فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ‏}‏‏.‏

وَأَمَّا السَّمَاعُ مِنْهُ فَإِنَّمَا يُتَصَوَّرُ بِوَاسِطَةٍ، فَهُوَ سَمَاعٌ مُقَيَّدٌ، وَأَمَّا الْمُطْلَقُ فَلَا مَطْمَعَ فِيهِ فِي عَالَمِ الْفَنَاءِ، إِلَّا لِمَنِ اخْتَصَّهُ اللَّهُ بِرِسَالَاتِهِ وَبِكَلَامِهِ، وَلَكِنَّ السَّمَاعَ لِكَلَامِهِ كَالسَّمَاعِ مِنْهُ، فَإِنَّهُ كَلَامُهُ الَّذِي تَكَلَّمَ بِهِ حَقًّا، فَمَنْ سَمِعَهُ فَلْيُقَدِّرْ نَفْسَهُ كَأَنَّهُ يَسْمَعُهُ مِنَ اللَّهِ‏.‏

هَذَا هُوَ السَّمَاعُ مِنَ اللَّهِ، لَا سَمَاعَ أَرْبَابِ الْخَيَالِ، وَدَعْوَى الْمُحَالِ الْقَائِلِ أَحَدُهُمْ‏:‏ نَادَانِي فِي سِرِّي، وَخَاطَبَنِي، وَقَالَ لِي، يَا لَيْتَ شِعْرِي مَنِ الْمُنَادِي لَكَ‏؟‏ وَمَنِ الْمُخَاطِبُ، يَا مَخْدُوعُ يَا مَغْرُورُ‏؟‏ فَمَا يُدْرِيكَ أَنِدَاءٌ شَيْطَانِيٌّ، أَمْ رَحْمَانِيٌّ‏؟‏ وَمَا الْبُرْهَانُ عَلَى أَنَّ الْمُخَاطِبَ لَكَ هُوَ الرَّحْمَنُ‏؟‏

نَعَمْ نَحْنُ لَا نُنْكِرُ النِّدَاءَ وَالْخِطَابَ وَالْحَدِيثَ، وَإِنَّمَا الشَّأْنُ فِي الْمُنَادِي الْمُخَاطِبِ الْمُحَدِّثِ، فَهَاهُنَا تُسْكَبُ الْعَبَرَاتُ‏.‏

وَبِالْجُمْلَةِ فَمَنْ قُرِئَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ فَلْيُقَدِّرْ نَفْسَهُ كَأَنَّمَا يَسْمَعُهُ مِنَ اللَّهِ يُخَاطِبُهُ بِهِ، فَإِذَا حَصَلَ لَهُ- مَعَ ذَلِكَ- السَّمَاعُ بِهِ وَلَهُ وَفِيهِ ازْدَحَمَتْ مَعَانِي الْمَسْمُوعِ وَلَطَائِفُهُ وَعَجَائِبُهُ عَلَى قَلْبِهِ، وَازْدَلَفَتْ إِلَيْهِ بِأَيِّهِمَا يَبْدَأُ، فَمَا شِئْتَ مِنْ عِلْمٍ وَحِكْمَةٍ، وَتَعَرُّفٍ وَبَصِيرَةٍ، وَهِدَايَةٍ وَغَيْرَةٍ‏.‏

وَأَمَّا الْوُقُوفُ عَلَى الْغَايَةِ فِي كُلِّ حِينٍ‏:‏ فَهُوَ التَّطَلُّبُ وَالسَّفَرُ إِلَى الْغَايَةِ الْمَقْصُودَةِ بِالْمَسْمُوعِ الَّذِي جُعِلَ وَسِيلَةً إِلَيْهَا‏.‏ وَهُوَ الْحَقُّ سُبْحَانَهُ، فَإِنَّهُ غَايَةُ كُلِّ مَطْلَبٍ ‏{‏وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى‏}‏ وَلَيْسَ وَرَاءَ اللَّهِ مَرْمَى، وَلَا دُونَهُ مُسْتَقَرٌّ، وَلَا تَقَرُّ الْعَيْنُ بِغَيْرِهِ الْبَتَّةَ، وَكُلُّ مَطْلُوبٍ سِوَاهُ فَظِلٌّ زَائِلٌ، وَخَيَالٌ مُفَارِقٌ مَائِلٌ وَإِنْ تَمَتَّعَ بِهِ صَاحِبُهُ فَمَتَاعُ الْغُرُورِ‏.‏

وَأَمَّا الْخِلَافُ مِنَ التَّلَذُّذِ بِالتَّفَرُّقِ‏:‏ فَالتَّفَرُّقُ فِي مَعَانِي الْمَسْمُوعِ، وَتَنَقُّلُ الْقَلْبِ فِي مَنَازِلِهَا يُوجِبُ لَهُ لَذَّةً، كَمَا هُوَ الْمَأْلُوفُ فِي الِانْتِقَالِ، فَلْيَتَخَلَّصْ مِنْ لَذَّةِ تَفَرُّقِهِ الَّتِي هِيَ حَظُّهُ، إِلَى الْجَمْعِيَّةِ عَلَى الْمَسْمُوعِ بِهِ وَلَهُ وَمِنْهُ‏.‏

وَلَمْ يَقُلِ الشَّيْخُ ‏"‏ مِنَ التَّفَرُّقِ ‏"‏ فَإِنَّ الْمَسْمُوعَ إِنَّمَا يُدْرَكُ مَعْنَاهُ وَيُفْهَمُ بِالتَّفَرُّقِ لِتَنَوُّعِهِ، وَلَكِنْ لِيُتَخَلَّصَ مِنْ لَذَّتِهِ، لَا مِنْهُ، لِئَلَّا يَكُونَ مَعَ حَظِّهِ، وَهَذَا مِنْ لُطْفِ أَحْوَالِ السَّامِعِينَ الْمُخْلِصِينَ‏.‏

فَصْلٌ‏:‏ ‏[‏سَمَاعُ خَاصَّةِ الْخَاصَّةِ‏]‏

قَالَ‏:‏ وَسَمَاعُ خَاصَّةِ الْخَاصَّةِ‏:‏ سَمَاعٌ يَنْفِي الْعِلَلَ عَنِ الْكَشْفِ، وَيَصِلُ الْأَبَدَ إِلَى الْأَزَلِ، وَيَرُدُّ النِّهَايَاتِ إِلَى الْأُوَلِ‏.‏

فَالْكَشْفُ هُوَ مُكَافَحَةُ الْقَلْبِ لِحَقِيقَةِ الْمَسْمُوعِ‏.‏ وَعِلَلُهُ أَمْرَانِ‏:‏

أَحَدُهُمَا‏:‏ الشُّبَهُ الَّتِي تَنْتَفِي بِهَذِهِ الْمُكَافَحَةِ، فَلَا تَبْقَى مَعَهَا شُبْهَةٌ، فَهَذَا هُوَ عَيْنُ الْيَقِينِ‏.‏

وَالثَّانِي‏:‏ نَفْيُ الْوَسَائِطِ بَيْنَ السَّامِعِ وَالْمَسْمُوعِ، فَيَغِيبُ بِمَسْمُوعِهِ عَنْهَا، وَيَفْنَى عَنْ شُهُودِهَا، وَيَفْنَى عَنْ شُهُودِ فَنَائِهِ عَنْهَا، بِحَيْثُ يَشْهَدُهُ هُوَ الْمُسْمِعُ لَا الْوَاسِطَةُ وَهُوَ الْهَادِي، فَمِنْهُ الْإِسْمَاعُ، وَمِنْهُ الْهِدَايَةُ، وَمِنْهُ الِابْتِدَاءُ، وَإِلَيْهِ الِانْتِهَاءُ‏.‏

وَأَمَّا وَصْلُهُ الْأَبَدَ إِلَى الْأَزَلِ فَهَذَا إِنْ- أُخِذَ عَلَى ظَاهِرِهِ- فَهُوَ مُحَالٌ، لِأَنَّ الْأَبَدَ وَالْأَزَلَ مُتَقَابِلَانِ تَقَابُلَ التَّنَاقُضِ، فَإِيصَالُ أَحَدِهِمَا إِلَى الْآخَرِ عَيْنُ الْمُحَالِ، وَإِنَّمَا مُرَادُهُ أَنَّ مَا يَكُونُ فِي الْأَبَدِ مَوْجُودًا مَشْهُودًا فَقَدْ كَانَ فِي الْأَزَلِ مَعْلُومًا مُقَدَّرًا، فَعَادَ حُكْمُ الْأَبَدِ إِلَى الْأَزَلِ عِلْمًا وَحَقِيقَةً، وَصَارَ الْأَزَلِيُّ أَبَدِيًّا، كَمَا كَانَ الْأَبَدِيُّ أَزَلِيًّا فِي الْعِلْمِ وَالْحُكْمِ‏.‏

وَإِيضَاحُ ذَلِكَ‏:‏ أَنَّ الْأَبَدَ ظَهَرَ فِيهِ مَا كَانَ كَامِنًا فِي الْأَزَلِ خَافِيًا، فَانْتَهَى الْأَمْرُ كُلُّهُ إِلَى عِلْمِهِ وَحُكْمِهِ وَحِكْمَتِهِ، وَذَلِكَ أَزَلِيٌّ، وَهَذَا رَدُّ النِّهَايَاتِ إِلَى الْأُوَلِ، فَتَصِيرُ الْخَاتِمَةُ هِيَ عَيْنَ السَّابِقَةِ، وَاللَّهُ تَعَالَى هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ، وَكُلُّ مَا كَانَ وَيَكُونُ آخِرًا فَمَرْدُودٌ إِلَى سَابِقِ عِلْمِهِ وَحُكْمِهِ، فَرَجَعَ الْأَبَدُ إِلَى الْأَزَلِ، وَالنِّهَايَاتُ إِلَى الْأُوَلِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ‏.‏

فَصْلٌ‏:‏ مَنْزِلَةُ الْحُزْنِ

وَمِنْ مَنَازِلِ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ‏:‏ مَنْزِلَةُ الْحُزْنِ‏.‏

وَلَيْسَتْ مِنَ الْمَنَازِلِ الْمَطْلُوبَةِ، وَلَا الْمَأْمُورِ بِنُزُولِهَا، وَإِنْ كَانَ لَا بُدَّ لِلسَّالِكِ مِنْ نُزُولِهَا، وَلَمْ يَأْتِ الْحُزْنُ فِي الْقُرْآنِ إِلَّا مَنْهِيًّا عَنْهُ، أَوْ مَنْفِيًّا‏.‏

فَالْمَنْهِيُّ عَنْهُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا‏}‏ وقوله‏:‏ ‏{‏وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ‏}‏ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ، وَقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا‏}‏ وَالْمَنْفِيُّ كَقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ‏}‏‏.‏

وَسِرُّ ذَلِكَ أَنَّ الْحُزْنَ مُوقِفٌ غَيْرُ مُسَيِّرٍ، وَلَا مَصْلَحَةَ فِيهِ لِلْقَلْبِ، وَأَحَبُّ شَيْءٍ إِلَى الشَّيْطَانِ أَنْ يَحْزَنَ الْعَبْدُ لِيَقْطَعَهُ عَنْ سَيْرِهِ، وَيُوقِفَهُ عَنْ سُلُوكِهِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا‏}‏ وَنَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الثَّلَاثَةَ أَنْ يَتَنَاجَى اثْنَانِ مِنْهُمْ دُونَ الثَّالِثِ، لِأَنَّ ذَلِكَ يُحْزِنُهُ‏.‏

فَالْحُزْنُ لَيْسَ بِمَطْلُوبٍ، وَلَا مَقْصُودٍ، وَلَا فِيهِ فَائِدَةٌ، وَقَدِ اسْتَعَاذَ مِنْهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْهَمِّ وَالْحَزَنِ فَهُوَ قَرِينُ الْهَمِّ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْمَكْرُوهَ الَّذِي يَرِدُ عَلَى الْقَلْبِ، إِنْ كَانَ لِمَا يُسْتَقْبَلُ أَوْرَثَهُ الْهَمَّ، وَإِنْ كَانَ لِمَا مَضَى أَوْرَثَهُ الْحُزْنَ، وَكِلَاهُمَا مُضْعِفٌ لِلْقَلْبِ عَنِ السَّيْرِ، مُقَتِّرٌ لِلْعَزْمِ‏.‏

وَلَكِنَّ نُزُولَ مَنْزِلَتِهِ ضَرُورِيٌّ بِحَسَبِ الْوَاقِعِ، وَلِهَذَا يَقُولُ أَهْلُ الْجَنَّةِ إِذَا دَخَلُوهَا ‏{‏الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ‏}‏ فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ كَانَ يُصِيبُهُمْ فِي الدُّنْيَا الْحَزَنُ، كَمَا يُصِيبُهُمْ سَائِرُ الْمَصَائِبِ الَّتِي تَجْرِي عَلَيْهِمْ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِمْ‏.‏

وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَنْ لَا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ‏}‏ فَلَمْ يُمْدَحُوا عَلَى نَفْسِ الْحَزَنِ، وَإِنَّمَا مُدِحُوا عَلَى مَا دَلَّ عَلَيْهِ الْحَزَنُ مِنْ قُوَّةِ إِيمَانِهِمْ، حَيْثُ تَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَجْزِهِمْ عَنِ النَّفَقَةِ، فَفِيهِ تَعْرِيضٌ بِالْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ لَمْ يَحْزَنُوا عَلَى تَخَلُّفِهِمْ، بَلْ غَبَطُوا نُفُوسَهُمْ بِهِ‏.‏

وَأَمَّا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ مَا يُصِيبُ الْمُؤْمِنَ مِنْ هَمٍّ وَلَا نَصَبٍ وَلَا حَزَنٍ إِلَّا كَفَّرَ اللَّهُ بِهِ مِنْ خَطَايَاهُ فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ مُصِيبَةٌ مِنَ اللَّهِ يُصِيبُ بِهَا الْعَبْدَ، يُكَفِّرُ بِهَا مِنْ سَيِّئَاتِهِ، لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ مَقَامٌ يَنْبَغِي طَلَبُهُ وَاسْتِيطَانُهُ‏.‏

وَأَمَّا حَدِيثُ هِنْدِ بْنِ أَبِي هَالَةَ فِي صِفَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّهُ كَانَ مُتَوَاصِلَ الْأَحْزَانِ فَحَدِيثٌ لَا يَثْبُتُ، وَفِي إِسْنَادِهِ مَنْ لَا يُعْرَفُ‏.‏

وَكَيْفَ يَكُونُ مُتَوَاصِلَ الْأَحْزَانِ، وَقَدْ صَانَهُ اللَّهُ عَنِ الْحُزْنِ عَلَى الدُّنْيَا وَأَسْبَابِهَا، وَنَهَاهُ عَنِ الْحُزْنِ عَلَى الْكُفَّارِ، وَغَفَرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ‏؟‏ فَمِنْ أَيْنَ يَأْتِيهِ الْحُزْنُ‏؟‏‏.‏

بَلْ كَانَ دَائِمَ الْبِشْرِ، ضَحُوكَ السِّنِّ، كَمَا فِي صِفَتِهِ ‏"‏ الضَّحُوكُ الْقَتَّالُ ‏"‏ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ‏.‏

وَأَمَّا الْخَبَرُ الْمَرْوِيُّ ‏"‏ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ كُلَّ قَلْبٍ حَزِينٍ ‏"‏ فَلَا يُعْرَفُ إِسْنَادُهُ، وَلَا مَنْ رَوَاهُ، وَلَا تُعْلَمُ صِحَّتُهُ‏.‏

وَعَلَى تَقْدِيرِ صِحَّتِهِ فَالْحُزْنُ مُصِيبَةٌ مِنَ الْمَصَائِبِ، الَّتِي يَبْتَلِي اللَّهُ بِهَا عَبْدَهُ، فَإِذَا ابْتَلَى بِهِ الْعَبْدَ فَصَبَرَ عَلَيْهِ، أَحَبَّ صَبْرَهُ عَلَى بَلَائِهِ‏.‏

وَأَمَّا الْأَثَرُ الْآخَرُ ‏"‏ إِذَا أَحَبَّ اللَّهُ عَبْدًا نَصَبَ فِي قَلْبِهِ نَائِحَةً، وَإِذَا أَبْغَضَ عَبْدًا جَعَلَ فِي قَلْبِهِ مِزْمَارًا ‏"‏ فَأَثَرٌ إِسْرَائِيلِيٌّ، قِيلَ‏:‏ إِنَّهُ فِي التَّوْرَاةِ، وَلَهُ مَعْنًى صَحِيحٌ، فَإِنَّ الْمُؤْمِنَ حَزِينٌ عَلَى ذُنُوبِهِ، وَالْفَاجِرَ لَاهٍ لَاعِبٌ، مُتَرَنِّمٌ فَرِحٌ‏.‏

وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى عَنْ نَبِيِّهِ إِسْرَائِيلَ ‏{‏وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ‏}‏ فَهُوَ إِخْبَارٌ عَنْ حَالِهِ بِمُصَابِهِ بِفَقْدِ وَلَدِهِ، وَحَبِيبِهِ، وَأَنَّهُ ابْتَلَاهُ بِذَلِكَ كَمَا ابْتَلَاهُ بِالتَّفْرِيقِ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ‏.‏

وَأَجْمَعَ أَرْبَابُ السُّلُوكِ عَلَى أَنَّ حُزْنَ الدُّنْيَا غَيْرُ مَحْمُودٍ إِلَّا أَبَا عُثْمَانَ الْحِيرِيَّ، فَإِنَّهُ قَالَ‏:‏ الْحُزْنُ بِكُلِّ وَجْهِ فَضِيلَةٌ، وَزِيَادَةٌ لِلْمُؤْمِنِ، مَا لَمْ يَكُنْ بِسَبَبِ مَعْصِيَةٍ، قَالَ‏:‏ لِأَنَّهُ إِنْ لَمْ يُوجِبْ تَخْصِيصًا، فَإِنَّهُ يُوجِبُ تَمْحِيصًا‏.‏

فَيُقَالُ‏:‏ لَا رَيْبَ أَنَّهُ مِحْنَةٌ وَبَلَاءٌ مِنَ اللَّهِ، بِمَنْزِلَةِ الْمَرَضِ وَالْهَمِّ وَالْغَمِّ، وَأَمَّا إِنَّهُ مِنْ مَنَازِلِ الطَّرِيقِ فَلَا، وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ‏.‏

فَصْلٌ‏:‏ ‏[‏معان مَنْزِلَةُ الْحُزْنِ‏]‏

قَالَ صَاحِبُ الْمَنَازِلِ‏:‏ الْحُزْنُ مَعْنَاهُ‏:‏ تَوَجُّعٌ لِفَائِتٍ، وَتَأَسُّفٌ عَلَى مُمْتَنِعٍ‏.‏

يُرِيدُ أَنَّ مَا يَفُوتُ الْإِنْسَانَ قَدْ يَكُونُ مَقْدُورًا لَهُ، وَقَدْ لَا يَكُونُ، فَإِنْ كَانَ مَقْدُورًا تَوَجَّعَ لِفَوْتِهِ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مَقْدُورٍ تَأَسَّفَ لِامْتِنَاعِهِ‏.‏

قَالَ‏:‏ وَلَهُ ثَلَاثُ دَرَجَاتٍ، الْحُزْنُ الْأُولَى‏:‏ حُزْنُ الْعَامَّةِ، وَهُوَ حَزْنٌ عَلَى التَّفْرِيطِ فِي الْخِدْمَةِ، وَعَلَى التَّوَرُّطِ فِي الْجَفَاءِ، وَعَلَى ضَيَاعِ الْأَيَّامِ‏.‏

التَّفْرِيطُ فِي الْخِدْمَةِ عِنْدَهُمْ فَوْقَ التَّفْرِيطِ فِي الْعَمَلِ وَتَضْيِيعِهِ، بَلْ هَذَا الْحُزْنُ يَكُونُ مَعَ الْقِيَامِ وَالْعَمَلِ، فَإِنَّ الْخِدْمَةَ- عِنْدَهُمْ- مِنْ بَابِ الْأَخْلَاقِ وَالْآدَابِ، لَا مِنْ بَابِ الْأَفْعَالِ، وَهِيَ حَقُّ الْعُبُودِيَّةِ، وَأَدَبُهَا وَوَاجِبُهَا، وَصَاحِبُ هَذَا الْحُزْنِ بِالْأَوْلَى‏:‏ أَنْ يَحْزَنَ لِتَضْيِيعِ الْعَمَلِ‏.‏

وَأَمَّا التَّوَرُّطُ فِي الْجَفَاءِ فَهُوَ أَيْضًا أَخَصُّ مِنَ الْمَعْصِيَةِ بِارْتِكَابِ الْمَحْظُورِ لِأَنَّهُ قَدْ يَكُونُ لِفَقْدِ أُنْسٍ سَابِقٍ مَعَ اللَّهِ، فَإِذَا تَوَارَى عَنْهُ تَوَرَّطَ فِي الْجَفْوَةِ، فَإِنَّ الشَّيْخَ ذَكَرَ الْحُزْنَ فِي قِسْمِ الْأَبْوَابِ وَهُوَ عِنْدَهُ مِنْ قِسْمِ الْبِدَايَاتِ‏.‏

وَأَمَّا تَضْيِيعُ الْأَيَّامِ فَنَوْعَانِ أَيْضًا‏:‏ تَضْيِيعُهَا بِخُلُوِّهَا عَنِ الطَّاعَاتِ، وَتَضْيِيعُهَا بِخُلُوِّهَا عَنْ مَوَاجِيدِ الْإِيمَانِ، وَذَوْقِ حَلَاوَتِهِ، وَالْأُنْسِ بِاللَّهِ، وَحُسْنِ الصُّحْبَةِ مَعَهُ‏.‏

فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الثَّلَاثَةِ نَوْعَانِ لِأَهْلِ الْبِدَايَةِ، وَلِلسَّالِكِينَ الْمُتَوَسِّطِينَ‏.‏ وَكَلَامُهُ يَعُمُّ النَّوْعَيْنِ، وَإِنْ كَانَ بِالثَّانِي أَخَصَّ‏.‏

قَالَ‏:‏ الدَّرَجَةُ الثَّانِيَةُ حُزْنُ أَهْلِ الْإِرَادَةِ، وَهُوَ حُزْنٌ عَلَى تَعَلُّقِ الْقَلْبِ بِالتَّفْرِقَةِ، وَعَلَى اشْتِغَالِ النَّفْسِ عَنِ الشُّهُودِ، وَعَلَى التَّسَلِّي عَنِ الْحُزْنِ‏.‏

تَعَلُّقُ الْقَلْبِ بِالتَّفْرِقَةِ‏:‏ هُوَ عَدَمُ الْجَمْعِيَّةِ فِي الْحُضُورِ مَعَ اللَّهِ، وَتَشْتِيتُ الْخَوَاطِرِ فِي أَوْدِيَةِ الْمُرَادَاتِ‏.‏

وَأَمَّا اشْتِغَالُ النَّفْسِ عَنِ الشُّهُودِ فَهُوَ نَوْعَانِ‏:‏ اشْتِغَالُهَا عَنِ الذِّكْرِ الَّذِي يُوجِبُ الشُّهُودَ وَيُثْمِرُهُ بِغَيْرِهِ‏.‏

وَالثَّانِي‏:‏ اشْتِغَالُهَا عَنِ الشُّهُودِ، لِضَعْفِ الذِّكْرِ، أَوْ لِضَعْفِ الْقَلْبِ عَنِ الشُّهُودِ، أَوْ لِمَانِعٍ آخَرَ، وَلَكِنْ إِذَا قَهَرَ الشُّهُودُ النَّفْسَ لَمْ تَتَمَكَّنْ مِنَ التَّشَاغُلِ عَنْهُ إِلَّا بِقَاهِرٍ يَقْهَرُهَا عَنْهُ‏.‏

وَأَمَّا التَّسَلِّي عَنِ الْحُزْنِ فَيَعْنِي أَنَّ وُجُودَ الْحُزْنِ فِي الْقَلْبِ دَلِيلٌ عَلَى الْإِرَادَةِ وَالطَّلَبِ، فَفَقْدُهُ وَالتَّسَلِّي عَنْهُ نَقْصٌ، فَيَحْزَنُ عَلَى فَقْدِ الْحُزْنِ، كَمَا يَبْكِي عَلَى فَقْدِ الْبُكَاءِ، وَيَخَافُ مِنْ عَدَمِ الْخَوْفِ، وَهَذَا فِيهِ نَظَرٌ، وَإِنَّمَا يُحْمَدُ الْحُزْنُ عَلَى فَقْدِ الْحُزْنِ، أَمَّا إِذَا اشْتَغَلَ عَنِ الْحُزْنِ بِفَرَحٍ مَحْمُودٍ- وَهُوَ الْفَرَحُ بِفَضْلِ اللَّهِ وَرَحْمَتِهِ- فَلَا مَعْنَى لِلْحُزْنِ عَلَى فَوَاتِ الْحُزْنِ‏.‏

قَالَ صَاحِبُ الْمَنَازِلِ‏:‏ وَلَيْسَتِ الْخَاصَّةُ مِنْ مَقَامِ الْحُزْنِ فِي شَيْءٍ، لِأَنَّ الْحُزْنَ فَقْدٌ، وَالْخَاصَّةَ أَهْلُ وِجْدَانٍ‏.‏

وَهَذَا إِنْ أَرَادَ بِهِ أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي لَهُمْ تَعَمُّدُ الْحُزْنِ فَصَحِيحٌ، وَإِنْ أَرَادَ بِهِ لَا يَعْرِضُ لَهُمْ حُزْنٌ فَلَيْسَ كَذَلِكَ، وَالْحُزْنُ مِنْ لَوَازِمِ الطَّبِيعَةِ، وَلَكِنْ لَيْسَ هُوَ بِمَقَامٍ‏.‏

قَالَ‏:‏ الدَّرَجَةُ الثَّالِثَةُ مِنَ الْحُزْنِ التَّحَزُّنُ لِلْمُعَارِضَاتِ دُونَ الْخَوَاطِرِ وَمُعَارِضَاتُ الْقُصُودِ، وَاعْتِرَاضَاتُ الْأَحْكَامِ‏.‏

هَذِهِ ثَلَاثَةُ أُمُورٍ، بِحَسَبِ الشُّهُودِ وَالْإِرَادَةِ‏.‏

الْأَوَّلُ‏:‏ حُزْنُ الْمُعَارِضَاتِ، فَإِنَّ الْقَلْبَ يَعْتَرِضُهُ وَارِدُ الرَّجَاءِ مَثَلًا، فَلَمْ يَنْشَبْ أَنْ يُعَارِضَهُ وَارِدُ الْخَوْفِ، وَبِالْعَكْسِ، وَيَعْتَرِضُهُ وَارِدُ الْبَسْطِ، فَلَمْ يَنْشَبْ أَنْ يَعْتَرِضَهُ وَارِدُ الْقَبْضِ، وَيَرِدُ عَلَيْهِ وَارِدُ الْأُنْسِ، فَيَعْتَرِضُهُ وَارِدُ الْهَيْبَةِ، فَيُوجِبُ لَهُ اخْتِلَافُ هَذِهِ الْمُعَارِضَاتِ عَلَيْهِ حُزْنًا لَا مَحَالَةَ‏.‏

وَلَيْسَتْ هَذِهِ الْمُعَارِضَاتُ مِنْ قَبِيلِ الْخَوَاطِرِ، بَلْ هِيَ مِنْ قَبِيلِ الْوَارِدَاتِ الْإِلَهِيَّةِ، فَلِذَلِكَ قَالَ ‏"‏ دُونَ الْخَوَاطِرِ ‏"‏ فَإِنَّ مُعَارِضَاتِ الْخَوَاطِرِ غَيْرُ هَذَا‏.‏

وَعِنْدَ الْقَوْمِ هَذَا مِنْ آثَارِ الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ، وَاتِّصَالِ أَشِعَّةِ أَنْوَارِهَا بِالْقَلْبِ، وَهُوَ الْمُسَمَّى عِنْدَهُمْ بِالتَّجَلِّي‏.‏

وَأَمَّا مُعَارِضَاتٌ الْقُصُودِ فَهِيَ أَصْعَبُ مَا عَلَى الْقَوْمِ، وَفِيهِ يَظْهَرُ اضْطِرَارُهُمْ إِلَى الْعِلْمِ فَوْقَ كُلِّ ضَرُورَةٍ، فَإِنَّ الصَّادِقَ يَتَحَرَّى فِي سُلُوكِهِ كُلِّهِ أَحَبَّ الطُّرُقِ إِلَى اللَّهِ، فَإِنَّهُ سَالِكٌ بِهِ وَإِلَيْهِ، فَيَعْتَرِضُهُ طَرِيقَانِ لَا يَدْرِي أَيَّهُمَا أَرْضَى لِلَّهِ وَأَحَبَّ إِلَيْهِ، فَمِنْهُمْ مَنْ يُحَكِّمُ الْعِلْمَ بِجُهْدِهِ اسْتِدْلَالًا، فَإِنْ عَجَزَ فَتَقْلِيدًا، فَإِنْ عَجَزَ عَنْهُمَا سَكَنَ يَنْتَظِرُ مَا يَحْكُمُ لَهُ بِهِ الْقَدَرُ، وَيُخْلِي بَاطِنَهُ مِنَ الْمَقَاصِدِ جُمْلَةً‏.‏

وَمِنْهُمْ مَنْ يُلْقِي الْكُلَّ عَلَى شَيْخِهِ، إِنْ كَانَ لَهُ شَيْخٌ‏.‏

وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْجَأُ إِلَى الِاسْتِخَارَةِ وَالدُّعَاءِ، ثُمَّ يَنْتَظِرُ مَا يَجْرِي بِهِ الْقَدَرُ‏.‏

وَأَصْحَابُ الْعَزَائِمِ يَبْذُلُونَ وُسْعَهُمْ فِي طَلَبِ الْأَرْضَى عِلْمًا وَمَعْرِفَةً، فَإِنْ أَعْجَزَهُمْ قَنِعُوا بِالظَّنِّ الْغَالِبِ، فَإِنْ تَسَاوَى عِنْدَهُمُ الْأَمْرَانِ، قَدَّمُوا أَرْجَحَهُمَا مَصْلَحَةً‏.‏

وَلِتَرْجِيحِ الْمَصَالِحِ رُتَبٌ مُتَفَاوِتَةٌ، فَتَارَةً تَتَرَجَّحُ بِعُمُومِ النَّفْعِ، وَتَارَةً تَتَرَجَّحُ بِزِيَادَةِ الْإِيمَانِ، وَتَارَةً تَتَرَجَّحُ بِمُخَالَفَةِ النَّفْسِ، وَتَارَةً تَتَرَجَّحُ بِاسْتِجْلَابِ مَصْلَحَةٍ أُخْرَى لَا تَحْصُلُ مِنْ غَيْرِهَا، وَتَارَةً تَتَرَجَّحُ بِأَمْنِهَا مِنَ الْخَوْفِ مِنْ مَفْسَدَةٍ لَا تُؤْمَنُ فِي غَيْرِهَا‏.‏

فَهَذِهِ خَمْسُ جِهَاتٍ مِنَ التَّرْجِيحِ، قَلَّ أَنْ يَعْدِمَ وَاحِدَةً مِنْهَا‏.‏

فَإِنْ أَعْوَزَهُ ذَلِكَ كُلُّهُ تَخَلَّى عَنِ الْخَوَاطِرِ جُمْلَةً، وَانْتَظَرَ مَا يُحَرِّكُهُ بِهِ مُحَرِّكُ الْقَدَرِ، وَافْتَقَرَ إِلَى رَبِّهِ افْتِقَارَ مُسْتَنْزِلٍ مَا يُرْضِيهِ وَيُحِبُّهُ، فَإِذَا جَاءَتْهُ الْحَرَكَةُ اسْتَخَارَ اللَّهَ، وَافْتَقَرَ إِلَيْهِ افْتِقَارًا ثَانِيًا، خَشْيَةَ أَنْ تَكُونَ تِلْكَ الْحَرَكَةُ نَفْسِيَّةً أَوْ شَيْطَانِيَّةً، لِعَدَمِ الْعِصْمَةِ فِي حَقِّهِ، وَاسْتِمْرَارِ الْمِحْنَةِ بِعَدُوِّهِ، مَا دَامَ فِي عَالَمِ الِابْتِلَاءِ وَالِامْتِحَانِ، ثُمَّ أَقْدَمَ عَلَى الْفِعْلِ‏.‏

فَهَذَا نِهَايَةُ مَا فِي مَقْدُورِ الصَّادِقِينَ‏.‏

وَلِأَهْلِ الْجِهَادِ فِي هَذَا مِنَ الْهِدَايَةِ وَالْكَشْفِ مَا لَيْسَ لِأَهْلِ الْمُجَاهَدَةِ، وَلِهَذَا قَالَ الْأَوْزَاعِيُّ وَ ابْنُ الْمُبَارَكِ‏:‏ إِذَا اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي شَيْءٍ فَانْظُرُوا مَا عَلَيْهِ أَهْلُ الثَّغْرِ، يَعْنِي أَهْلَ الْجِهَادِ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يقول‏:‏ ‏{‏وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ‏}‏‏.‏

وَأَمَّا اعْتِرَاضَاتُ الْأَحْكَامِ فَيَجُوزُ أَنْ يُرِيدَ بِالْأَحْكَامِ الْأَحْكَامَ الْكَوْنِيَّةَ، وَهُوَ أَظْهَرُ، وَأَنْ يُرِيدَ بِهَا الْأَحْكَامَ الدِّينِيَّةَ، فَإِنَّ أَرْبَابَ الْأَحْوَالِ يَقَعُ مِنْهُمُ اعْتِرَاضَاتٌ عَلَى الْأَحْكَامِ الْجَارِيَةِ عَلَيْهِمْ بِخِلَافِ مَا يُرِيدُونَهُ، فَيَحْزَنُونَ عِنْدَ إِدْرَاكِهِمْ لِتِلْكَ الِاعْتِرَاضَاتِ عَلَى مَا صَدَرَ مِنْهُمْ مِنْ سُوءِ الْأَدَبِ‏.‏ وَتِلْكَ الِاعْتِرَاضَاتُ هِيَ إِرَادَتُهُمْ خِلَافَ مَا جَرَى لَهُمْ بِهِ الْقَدَرُ، فَيَحْزَنُونَ عَلَى عَدَمِ الْمُوَافَقَةِ، وَإِرَادَةِ خِلَافِ مَا أُرِيدَ بِهِمْ‏.‏

وَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ بِهِ الْأَحْكَامَ الدِّينِيَّةَ فَإِنَّهُمْ تَعْرِضُ لَهُمْ أَحْوَالٌ لَا يُمْكِنُهُمُ الْجَمْعُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ أَحْكَامِ الْأَمْرِ- كَمَا تَقَدَّمَ- فَلَا يَجِدُونَ بُدًّا مِنَ الْقِيَامِ بِأَحْكَامِ الْأَمْرِ، وَلَا بُدَّ أَنْ يَعْرِضَ لَهُمُ اعْتِرَاضٌ خَفِيٌّ أَوْ جَلِيٌّ، بِحَسَبِ انْقِطَاعِهِمْ عَنِ الْحَالِ بِالْأَمْرِ، فَيَحْزَنُونَ لِوُجُودِ هَذِهِ الْمُعَارَضَةِ، فَإِذَا قَامُوا بِأَحْكَامِ الْأَمْرِ، وَرَأَوْا أَنَّ الْمَصْلَحَةَ فِي حَقِّهِمْ ذَلِكَ، وَحَمِدُوا عَاقِبَتَهُ حَزِنُوا عَلَى تَسَرُّعِهِمْ عَلَى الْمُعَارَضَةِ‏.‏ فَالتَّسْلِيمُ لِدَاعِي الْعِلْمِ وَاجِبٌ، وَمُعَارَضَةُ الْحَالِ مِنْ قَبِيلِ الْإِرَادَاتِ وَالْعِلَلِ، فَيَحْزَنُ عَلَى نَفْيِهِمَا فِيهِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ‏.‏

فَصْلٌ‏:‏ مَنْزِلَةُ الْخَوْفِ

وَمِنْ مَنَازِلِ‏{‏إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ‏}‏ مَنْزِلَةُ الْخَوْفِ‏.‏

وَهِيَ مِنْ أَجَلِّ مَنَازِلِ الطَّرِيقِ وَأَنْفَعِهَا لِلْقَلْبِ، وَهِيَ فَرْضٌ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ‏}‏ وقال تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ‏}‏ وقال‏:‏ ‏{‏فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ‏}‏ وَمَدَحَ أَهْلَهُ فِي كِتَابِهِ وَأَثْنَى عَلَيْهِمْ، فَقَالَ‏:‏ ‏{‏إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ‏}‏- إِلَى قوله‏:‏ ‏{‏أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ‏}‏ وَفِي الْمُسْنَدِ وَالتِّرْمِذِيِّ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ‏:‏ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَوْلُ اللَّهِ ‏{‏وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ‏}‏ أَهْوَ الَّذِي يَزْنِي، وَيَشْرَبُ الْخَمْرَ، وَيَسْرِقُ‏؟‏ قَالَ‏:‏ لَا يَا ابْنَةَ الصِّدِّيقِ، وَلَكِنَّهُ الرَّجُلُ يَصُومُ وَيُصَلِّي وَيَتَصَدَّقُ، وَيَخَافُ أَنْ لَا يُقْبَلَ مِنْهُ قَالَ الْحَسَنُ‏:‏ عَمِلُوا وَاللَّهِ بِالطَّاعَاتِ، وَاجْتَهَدُوا فِيهَا، وَخَافُوا أَنْ تُرَدَّ عَلَيْهِمْ، إِنَّ الْمُؤْمِنَ جَمَعَ إِحْسَانًا وَخَشْيَةً، وَالْمُنَافِقَ جَمَعَ إِسَاءَةً وَأَمْنًا‏.‏

وَ‏(‏الْوَجَلُ‏)‏ وَ‏(‏الْخَوْفُ‏)‏ وَ‏(‏الْخَشْيَةُ‏)‏ وَ‏(‏الرَّهْبَةُ‏)‏ أَلْفَاظٌ مُتَقَارِبَةٌ غَيْرُ مُتَرَادِفَةٍ، قَالَ أَبُو الْقَاسِمِ الْجُنَيْدُ‏:‏ الْخَوْفُ تَوَقُّعُ الْعُقُوبَةِ عَلَى مَجَارِي الْأَنْفَاسِ‏.‏

وَقِيلَ‏:‏ الْخَوْفُ اضْطِرَابُ الْقَلْبِ وَحَرَكَتُهُ مِنْ تَذَكُّرِ الْمَخُوفِ‏.‏

وَقِيلَ‏:‏ الْخَوْفُ قُوَّةُ الْعِلْمِ بِمَجَارِي الْأَحْكَامِ، وَهَذَا سَبَبُ الْخَوْفِ، لَا أَنَّهُ نَفْسُهُ

وَقِيلَ‏:‏ الْخَوْفُ هَرَبُ الْقَلْبِ مِنْ حُلُولِ الْمَكْرُوهِ عِنْدَ اسْتِشْعَارِهِ‏.‏

وَ‏(‏الْخَشْيَةُ‏)‏ أَخَصُّ مِنَ الْخَوْفِ، فَإِنَّ الْخَشْيَةَ لِلْعُلَمَاءِ بِاللَّهِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ‏}‏ فَهِيَ خَوْفٌ مَقْرُونٌ بِمَعْرِفَةٍ، وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنِّي أَتْقَاكُمْ لِلَّهِ، وَأَشَدُّكُمْ لَهُ خَشْيَةً‏.‏

فَالْخَوْفُ حَرَكَةٌ، وَالْخَشْيَةُ انْجِمَاعٌ، وَانْقِبَاضٌ وَسُكُونٌ، فَإِنَّ الَّذِي يَرَى الْعَدُوَّ وَالسَّيْلَ وَنَحْوَ ذَلِكَ لَهُ حَالَتَانِ‏:‏

إِحْدَاهُمَا‏:‏ حَرَكَةٌ لِلْهَرَبِ مِنْهُ، وَهِيَ حَالَةُ الْخَوْفِ‏.‏

وَالثَّانِيَةُ‏:‏ سُكُونُهُ وَقَرَارُهُ فِي مَكَانٍ لَا يَصِلُ إِلَيْهِ فِيهِ، وَهِيَ الْخَشْيَةُ، وَمِنْهُ‏:‏ انْخَشَى الشَّيْءُ، وَالْمُضَاعَفُ وَالْمُعْتَلُّ أَخَوَانِ، كَتَقَضِّي الْبَازِيِّ وَتَقَضَّضَ‏.‏

وَأَمَّا الرَّهْبَةُ مَعْنَاهَا فَهِيَ الْإِمْعَانُ فِي الْهَرَبِ مِنَ الْمَكْرُوهِ، وَهِيَ ضِدُّ الرَّغْبَةِ الَّتِي هِيَ سَفَرُ الْقَلْبِ فِي طَلَبِ الْمَرْغُوبِ فِيهِ‏.‏

وَبَيْنَ الرَّهَبِ وَالْهَرَبِ تَنَاسُبٌ فِي اللَّفْظِ وَالْمَعْنَى، يَجْمَعُهُمَا الِاشْتِقَاقُ الْأَوْسَطُ الَّذِي هُوَ عَقْدُ تَقَالِيبِ الْكَلِمَةِ عَلَى مَعْنًى جَامِعٍ‏.‏

وَأَمَّا الْوَجَلُ مَعْنَاهُ فَرَجَفَانُ الْقَلْبِ، وَانْصِدَاعُهُ لِذِكْرِ مَنْ يُخَافُ سُلْطَانُهُ وَعُقُوبَتُهُ، أَوْ لِرُؤْيَتِهِ‏.‏

وَأَمَّا الْهَيْبَةُ مَعْنَاهَا فَخَوْفٌ مُقَارِنٌ لِلتَّعْظِيمِ وَالْإِجْلَالِ، وَأَكْثَرُ مَا يَكُونُ مَعَ الْمَحَبَّةِ وَالْمَعْرِفَةِ‏.‏ وَالْإِجْلَالُ‏:‏ تَعْظِيمٌ مَقْرُونٌ بِالْحُبِّ‏.‏

فَالْخَوْفُ لِعَامَّةِ الْمُؤْمِنِينَ، وَالْخَشْيَةُ لِلْعُلَمَاءِ الْعَارِفِينَ، وَالْهَيْبَةُ لِلْمُحِبِّينَ، وَالْإِجْلَالُ لِلْمُقَرَّبِينَ، وَعَلَى قَدْرِ الْعِلْمِ وَالْمَعْرِفَةِ يَكُونُ الْخَوْفُ وَالْخَشْيَةُ، كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنِّي لَأَعْلَمُكُمْ بِاللَّهِ، وَأَشَدُّكُمْ لَهُ خَشْيَةً وَفِي رِوَايَةٍ ‏"‏ خَوْفًا ‏"‏ وَقَالَ لَوْ تَعْلَمُونَ مَا أَعْلَمُ لَضَحِكْتُمْ قَلِيلًا، وَلَبَكَيْتُمْ كَثِيرًا، وَلَمَا تَلَذَّذْتُمْ بِالنِّسَاءِ عَلَى الْفُرُشِ وَلَخَرَجْتُمْ إِلَى الصُّعُدَاتِ تَجْأَرُونَ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى‏.‏

فَصَاحِبُ الْخَوْفِ يَلْتَجِئُ إِلَى الْهَرَبِ، وَالْإِمْسَاكِ، وَصَاحِبُ الْخَشْيَةِ يَلْتَجِئُ إِلَى الِاعْتِصَامِ بِالْعِلْمِ، وَمَثَلُهُمَا مَثَلُ مَنْ لَا عِلْمَ لَهُ بِالطِّبِّ، وَمَثَلُ الطَّبِيبِ الْحَاذِقِ، فَالْأَوَّلُ يَلْتَجِئُ إِلَى الْحِمْيَةِ وَالْهَرَبِ، وَالطَّبِيبُ يَلْتَجِئُ إِلَى مَعْرِفَتِهِ بِالْأَدْوِيَةِ وَالْأَدْوَاءِ‏.‏

قَالَ أَبُو حَفْصٍ‏:‏ الْخَوْفُ سَوْطُ اللَّهِ، يُقَوِّمُ بِهِ الشَّارِدِينَ عَنْ بَابِهِ، وَقَالَ‏:‏ الْخَوْفُ سِرَاجٌ فِي الْقَلْبِ، بِهِ يُبْصَرُ مَا فِيهِ مِنَ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ، وَكُلُّ أَحَدٍ إِذَا خِفْتَهُ هَرَبْتَ مِنْهُ إِلَّا اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ، فَإِنَّكَ إِذْ خِفْتَهُ هَرَبْتَ إِلَيْهِ‏.‏

فَالْخَائِفُ هَارِبٌ مِنْ رَبِّهِ إِلَى رَبِّهِ‏.‏

قَالَ أَبُو سُلَيْمَانَ‏:‏ مَا فَارَقَ الْخَوْفُ قَلْبًا إِلَّا خَرِبَ، وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ سُفْيَانَ‏:‏ إِذَا سَكَنَ الْخَوْفُ الْقُلُوبَ أَحْرَقَ مَوَاضِعَ الشَّهَوَاتِ مِنْهَا، وَطَرَدَ الدُّنْيَا عَنْهَا، وَقَالَ ذُو النُّونِ‏:‏ النَّاسُ عَلَى الطَّرِيقِ مَا لَمْ يَزُلْ عَنْهُمُ الْخَوْفُ، فَإِذَا زَالَ عَنْهُمُ الْخَوْفُ ضَلُّوا الطَّرِيقَ، وَقَالَ حَاتِمٌ الْأَصَمُّ‏:‏ لَا تَغْتَرَّ بِمَكَانٍ صَالِحٍ، فَلَا مَكَانَ أَصْلَحُ مِنَ الْجَنَّةِ، وَلَقِيَ فِيهَا آدَمُ مَا لَقِيَ، وَلَا تَغْتَرَّ بِكَثْرَةِ الْعِبَادَةِ، فَإِنَّ إِبْلِيسَ بَعْدَ طُولِ الْعِبَادَةِ لَقِيَ مَا لَقِيَ، وَلَا تَغْتَرَّ بِكَثْرَةِ الْعِلْمِ، فَإِنَّ بَلْعَامَ بْنَ بَاعُورَا لَقِيَ مَا لَقِيَ وَكَانَ يَعْرِفُ الِاسْمَ الْأَعْظَمَ، وَلَا تَغْتَرَّ بِلِقَاءِ الصَّالِحِينَ وَرُؤْيَتِهِمْ، فَلَا شَخْصَ أَصْلَحُ مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَمْ يَنْتَفِعْ بِلِقَائِهِ أَعْدَاؤُهُ وَالْمُنَافِقُونَ‏.‏

وَالْخَوْفُ لَيْسَ مَقْصُودًا لِذَاتِهِ، بَلْ هُوَ مَقْصُودٌ لِغَيْرِهِ قَصْدَ الْوَسَائِلِ، وَلِهَذَا يَزُولُ بِزَوَالِ الْمَخُوفِ، فَإِنَّ أَهْلَ الْجَنَّةِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ‏.‏

وَالْخَوْفُ يَتَعَلَّقُ بِالْأَفْعَالِ، وَالْمَحَبَّةُ تَتَعَلَّقُ بِالذَّاتِ وَالصِّفَاتِ، وَلِهَذَا تَتَضَاعَفُ مَحَبَّةُ الْمُؤْمِنِينَ لِرَبِّهِمْ إِذَا دَخَلُوا دَارَ النَّعِيمِ، وَلَا يَلْحَقُهُمْ فِيهَا خَوْفٌ، وَلِهَذَا كَانَتْ مَنْزِلَةُ الْمَحَبَّةِ وَمَقَامُهَا أَعْلَى وَأَرْفَعَ مِنْ مَنْزِلَةِ الْخَوْفِ وَمَقَامِهِ‏.‏

وَالْخَوْفُ الْمَحْمُودُ الصَّادِقُ‏:‏ مَا حَالَ بَيْنَ صَاحِبِهِ وَبَيْنَ مَحَارِمِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، فَإِذَا تَجَاوَزَ ذَلِكَ خِيفَ مِنْهُ الْيَأْسُ وَالْقُنُوطُ‏.‏

قَالَ أَبُو عُثْمَانَ‏:‏ صِدْقُ الْخَوْفِ هُوَ الْوَرَعُ عَنِ الْآثَامِ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا‏.‏

وَسَمِعْتُ شَيْخَ الْإِسْلَامِ ابْنَ تَيْمِيَّةَ- قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ- يَقُولُ‏:‏ الْخَوْفُ الْمَحْمُودُ مَا حَجَزَكَ عَنْ مَحَارِمِ اللَّهِ‏.‏

وَقَالَ صَاحِبُ الْمَنَازِلِ‏:‏ الْخَوْفُ هُوَ الِانْخِلَاعُ مِنْ طُمَأْنِينَةِ الْأَمْنِ بِمُطَالَعَةِ الْخَبَرِ‏.‏

يَعْنِي الْخُرُوجَ عَنْ سُكُونِ الْأَمْنِ بِاسْتِحْضَارِ مَا أَخْبَرَ اللَّهُ بِهِ مِنَ الْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ‏.‏

قَالَ‏:‏ وَهُوَ عَلَى ثَلَاثِ دَرَجَاتٍ، الْخَوْفُ الدَّرَجَةُ الْأُولَى‏:‏ الْخَوْفُ مِنَ الْعُقُوبَةِ، وَهُوَ الْخَوْفُ الَّذِي يَصِحُّ بِهِ الْإِيمَانُ، وَهُوَ خَوْفُ الْعَامَّةِ، وَهُوَ يَتَوَلَّدُ مِنْ تَصْدِيقِ الْوَعِيدِ، وَذِكْرِ الْجِنَايَةِ، وَمُرَاقَبَةِ الْعَاقِبَةِ‏.‏

وَالْخَوْفُ مَسْبُوقٌ بِالشُّعُورِ وَالْعِلْمِ، فَمُحَالٌ خَوْفُ الْإِنْسَانِ مِمَّا لَا شُعُورَ لَهُ بِهِ‏.‏

وَلَهُ مُتَعَلَّقَانِ، أَحَدُهُمَا‏:‏ نَفْسُ الْمَكْرُوهِ الْمَحْذُورِ وُقُوعُهُ، وَالثَّانِي‏:‏ السَّبَبُ وَالطَّرِيقُ الْمُفْضِي إِلَيْهِ، فَعَلَى قَدْرِ شُعُورِهِ بِإِفْضَاءِ السَّبَبِ إِلَى الْمَخُوفِ، وَبِقَدْرِ الْمُخَوِّفِ يَكُونُ خَوْفُهُ، وَمَا نَقَصَ مِنْ شُعُورِهِ بِأَحَدِ هَذَيْنِ نَقَصَ مِنْ خَوْفِهِ بِحَسَبِهِ‏.‏

فَمَنْ لَمْ يَعْتَقِدْ أَنَّ سَبَبَ كَذَا يُفْضِي إِلَى مَحْذُورِ كَذَا لَمْ يَخَفْ مِنْ ذَلِكَ السَّبَبِ، وَمَنِ اعْتَقَدَ أَنَّهُ يُفْضِي إِلَى مَكْرُوهٍ مَا، وَلَمْ يَعْرِفْ قَدْرَهُ لَمْ يَخَفْ مِنْهُ ذَلِكَ الْخَوْفَ، فَإِذَا عَرَفَ قَدْرَ الْمُخَوِّفِ، وَتَيَقَّنَ إِفْضَاءَ السَّبَبِ إِلَيْهِ حَصَلَ لَهُ الْخَوْفُ‏.‏

هَذَا مَعْنَى تَوَلُّدِهِ مِنْ تَصْدِيقِ الْوَعِيدِ، وَذِكْرِ الْجِنَايَةِ، وَمُرَاقَبَةِ الْعَاقِبَةِ‏.‏

وَفِي مُرَاقَبَةِ الْعَاقِبَةِ‏:‏ زِيَادَةُ اسْتِحْضَارِ الْمُخَوِّفِ، وَجَعْلُهُ نُصْبَ عَيْنِهِ، بِحَيْثُ لَا يَنْسَاهُ، فَإِنَّهُ- وَإِنْ كَانَ عَالِمًا بِهِ- لَكِنَّ نِسْيَانَهُ وَعَدَمَ مُرَاقَبَتِهِ يَحُولُ بَيْنَ الْقَلْبِ وَبَيْنَ الْخَوْفِ، فَلِذَلِكَ كَانَ الْخَوْفُ عَلَامَةَ صِحَّةِ الْإِيمَانِ، وَتَرَحُّلُهُ مِنَ الْقَلْبِ عَلَامَةُ تَرَحُّلِ الْإِيمَانِ مِنْهُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ‏.‏

فَصْلٌ‏:‏ ‏[‏الدَّرَجَةُ الثَّانِيَةُ مِنَ الْخَوْفِ‏]‏

قَالَ‏:‏ الدَّرَجَةُ الثَّانِيَةُ‏:‏ خَوْفُ الْمَكْرِ فِي جَرَيَانِ الْأَنْفَاسِ الْمُسْتَغْرِقَةِ فِي الْيَقَظَةِ، الْمَشُوبَةِ بِالْحَلَاوَةِ‏.‏

يُرِيدُ أَنَّ مَنْ حَصَلَتْ لَهُ الْيَقَظَةُ بِلَا غَفْلَةٍ، وَاسْتَغْرَقَتْ أَنْفَاسُهُ فِيهَا اسْتَحْلَى ذَلِكَ، فَإِنَّهُ لَا أَحْلَى مِنَ الْحُضُورِ فِي الْيَقَظَةِ، فَإِنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ يَخَافَ الْمَكْرَ، وَأَنْ يُسْلَبَ هَذَا الْحُضُورَ، وَالْيَقَظَةَ وَالْحَلَاوَةَ، فَكَمْ مِنْ مَغْبُوطٍ بِحَالِهِ انْعَكَسَ عَلَيْهِ الْحَالُ، وَرَجَعَ مِنْ حُسْنِ الْمُعَامَلَةِ إِلَى قَبِيحِ الْأَعْمَالِ، فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ وَيَضْرِبُ بِالْيَمِينِ عَلَى الشِّمَالِ‏؟‏ بَيْنَمَا بَدْرُ أَحْوَالِهِ مُسْتَنِيرًا فِي لَيَالِي التَّمَامِ، إِذْ أَصَابَهُ الْكُسُوفُ فَدَخَلَ فِي الظَّلَامِ، فَبُدِّلَ بِالْأُنْسِ وَحْشَةً، وَبِالْحُضُورِ غَيْبَةً، وَبِالْإِقْبَالِ إِعْرَاضًا، وَبِالتَّقْرِيبِ إِبْعَادًا، وَبِالْجَمْعِ تَفْرِقَةً، كَمَا قِيلَ‏:‏

أَحْسَنْتَ ظَنَّكَ بِالْأَيَّامِ إِذْ حَسُنَتْ *** وَلَمْ تَخَفْ سُوءَ مَا يَأْتِي بِهِ الْقَدَرُ

وَسَالَمَتْكَ اللَّيَالِي فَاغْتَرَرْتَ بِهَا *** وَعِنْدَ صَفْوِ اللَّيَالِي يَحْدُثُ الْكَدَرُ

قَالَ‏:‏ الدَّرَجَةُ الثَّالِثَةُ ‏[‏دَرَجَةُ الْخَاصَّةِ‏]‏ وَلَيْسَ فِي مَقَامِ أَهْلِ الْخُصُوصِ وَحْشَةُ الْخَوْفِ، إِلَّا هَيْبَةَ الْجَلَالِ، وَهِيَ أَقْصَى دَرَجَةٍ يُشَارُ إِلَيْهَا فِي غَايَةِ الْخَوْفِ‏.‏

يَعْنِي أَنَّ وَحْشَةَ الْخَوْفِ إِنَّمَا تَكُونُ مَعَ الِانْقِطَاعِ وَالْإِسَاءَةِ، وَأَهْلُ الْخُصُوصِ أَهْلُ وُصُولٍ إِلَى اللَّهِ وَقُرْبٍ مِنْهُ، فَلَيْسَ خَوْفُهُمْ خَوْفَ وَحْشَةٍ، كَخَوْفِ الْمُسِيئِينَ الْمُنْقَطِعِينَ، لِأَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ مَعَهُمْ بِصِفَةِ الْإِقْبَالِ عَلَيْهِمْ، وَالْمَحَبَّةِ لَهُمْ، وَهَذَا بِخِلَافِ هَيْبَةِ الْجَلَالِ، فَإِنَّهَا مُتَعَلِّقَةٌ بِذَاتِهِ وَصِفَاتِهِ، وَكُلَّمَا كَانَ عَبْدُهُ بِهِ أَعْرَفَ وَإِلَيْهِ أَقْرَبَ، كَانَتْ هَيْبَتُهُ وَإِجْلَالُهُ فِي قَلْبِهِ أَعْظَمَ، وَهِيَ أَعْلَى مِنْ دَرَجَةِ خَوْفِ الْعَامَّةِ‏.‏

قَالَ‏:‏ وَهِيَ هَيْبَةٌ تُعَارِضُ الْمُكَاشِفَ أَوْقَاتَ الْمُنَاجَاةِ، وَتَصُونُ الْمُسَامِرَ أَحْيَانَ الْمُسَامَرَةِ، وَتَفْصِمُ الْمُعَايِنَ بِصَدْمَةِ الْعِزَّةِ‏.‏

يَعْنِي أَنَّ أَكْثَرَ مَا تَكُونُ الْهَيْبَةُ أَوْقَاتَ الْمُنَاجَاةِ، وَهُوَ وَقْتُ تَمَلُّقِ الْعَبْدِ رَبَّهُ، وَتَضَرُّعِهِ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَاسْتِعْطَافِهِ، وَالثَّنَاءِ عَلَيْهِ بِآلَائِهِ وَأَسْمَائِهِ وَأَوْصَافِهِ، أَوْ مُنَاجَاتِهِ بِكَلَامِهِ، هَذَا هُوَ مُرَادُ الْقَوْمِ بِالْمُنَاجَاةِ‏.‏

وَهَذِهِ الْمُنَاجَاةُ تُوجِبُ كَشْفَ الْغِطَاءِ بَيْنَ الْقَلْبِ وَبَيْنَ الرَّبِّ، وَرَفْعَ الْحِجَابِ الْمَانِعِ مِنْ مُكَافَحَةِ الْقَلْبِ لِأَنْوَارِ أَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ، وَتَجَلِّيهَا عَلَيْهِ، فَتُعَارِضُهُ الْهَيْبَةُ فِي خِلَالِ هَذِهِ الْأَوْقَاتِ، فَيَفِيضُ مِنْ عَنَانِ مُنَاجَاتِهِ بِحَسَبِ قُوَّةِ وَارِدِهَا‏.‏

وَأَمَّا صَوْنُ الْمُسَامِرِ أَحْيَانَ الْمُسَامَرَةِ‏:‏ فَالْمُسَامَرَةُ عِنْدَهُمْ‏:‏ أَخَصُّ مِنَ الْمُنَاجَاةِ، وَهِيَ مُخَاطَبَةُ الْقَلْبِ لِلرَّبِّ خِطَابَ الْمُحِبِّ لِمَحْبُوبِهِ، فَإِنْ لَمْ يُقَارِنْهَا هَيْبَةُ جَلَالِهِ، أَخَذَتْ بِهِ فِي الِانْبِسَاطِ وَالْإِدْلَالِ، فَتَجِيءُ الْهَيْبَةُ صَائِنَةً لِلْمُسَامِرِ فِي مُسَامَرَتِهِ عَنِ انْخِلَاعِهِ مِنْ أَدَبِ الْعُبُودِيَّةِ‏.‏

وَأَمَّا فَصْمُهَا الْمُعَايِنَ بِصَدْمَةِ الْعِزَّةِ فَإِنَّ الْفَصْمَ هُوَ الْقَطْعُ أَيْ تَكَادُ تَقْتُلُهُ وَتَمْحَقُهُ بِصَدْمَةِ عِزَّةِ الرُّبُوبِيَّةِ بِمَعَانِيهَا الثَّلَاثَةِ، وَهِيَ عِزَّةُ الِامْتِنَاعِ، وَعِزَّةُ الْقُوَّةِ وَالشِّدَّةِ، وَعِزَّةُ السُّلْطَانِ وَالْقَهْرِ، فَإِذَا صَدَمَتِ الْمُعَايِنَ كَادَتْ تَفْصِمُهُ وَتَمْحَقُ أَثَرَهُ، إِذْ لَا يَقُومُ لِعِزَّةِ الرُّبُوبِيَّةِ شَيْءٌ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ‏.‏

فَصْلٌ‏:‏ ‏[‏الْقَلْبُ وَسَيْرُهُ إِلَى الله‏]‏

الْقَلْبُ فِي سَيْرِهِ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ بِمَنْزِلَةِ الطَّائِرِ

فَالْمَحَبَّةُ رَأْسُهُ، وَالْخَوْفُ وَالرَّجَاءُ جَنَاحَاهُ، فَمَتَى سَلِمَ الرَّأْسُ وَالْجَنَاحَانِ فَالطَّائِرُ جَيِّدُ الطَّيَرَانِ، وَمَتَى قُطِعَ الرَّأْسُ مَاتَ الطَّائِرُ، وَمَتَى فُقِدَ الْجَنَاحَانِ فَهُوَ عُرْضَةٌ لِكُلِّ صَائِدٍ وَكَاسِرٍ، وَلَكِنَّ السَّلَفَ اسْتَحَبُّوا أَنْ يَقْوَى فِي الصِّحَّةِ جَنَاحُ الْخَوْفِ عَلَى جَنَاحِ الرَّجَاءِ، وَعِنْدَ الْخُرُوجِ مِنَ الدُّنْيَا يَقْوَى جَنَاحُ الرَّجَاءِ عَلَى جَنَاحِ الْخَوْفِ، هَذِهِ طَرِيقَةُ أَبِي سُلَيْمَانَ وَغَيْرِهِ، قَالَ‏:‏ يَنْبَغِي لِلْقَلْبِ أَنْ يَكُونَ الْغَالِبُ عَلَيْهِ الْخَوْفَ، فَإِنْ غَلَبَ عَلَيْهِ الرَّجَاءُ فَسَدَ‏.‏

وَقَالَ غَيْرُهُ‏:‏ أَكْمَلُ الْأَحْوَالِ‏:‏ اعْتِدَالُ الرَّجَاءِ وَالْخَوْفِ، وَغَلَبَةُ الْحُبِّ، فَالْمَحَبَّةُ هِيَ الْمَرْكَبُ‏.‏ وَالرَّجَاءُ حَادٍ، وَالْخَوْفُ سَائِقٌ، وَاللَّهُ الْمُوَصِّلُ بِمَنِّهِ وَكَرَمِهِ‏.‏

فَصْلٌ‏:‏ مَنْزِلَةُ الْإِشْفَاقِ

وَمِنْ مَنَازِلِ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ مَنْزِلَةُ الْإِشْفَاقِ

قَالَ اللَّهُ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ‏}‏ وقال تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ‏}‏‏.‏

الْإِشْفَاقُ رِقَّةُ الْخَوْفِ، وَهُوَ خَوْفٌ بِرَحْمَةٍ مِنَ الْخَائِفِ لِمَنْ يَخَافُ عَلَيْهِ، فَنِسْبَتُهُ إِلَى الْخَوْفِ نِسْبَةُ الرَّأْفَةِ إِلَى الرَّحْمَةِ، فَإِنَّهَا أَلْطَفُ الرَّحْمَةِ وَأَرَقُّهَا، وَلِهَذَا قَالَ صَاحِبُ الْمَنَازِلِ‏:‏

الْإِشْفَاقُ‏:‏ دَوَامُ الْحَذَرِ، مَقْرُونًا بِالتَّرَحُّمِ، وَهُوَ عَلَى ثَلَاثِ دَرَجَاتٍ، الْإِشْفَاقُ الْأُولَى‏:‏ إِشْفَاقٌ عَلَى النَّفْسِ أَنْ تَجْمَحَ إِلَى الْعِنَادِ‏.‏

أَيْ تُسْرِعَ وَتَذْهَبَ إِلَى طَرِيقِ الْهَوَى وَالْعِصْيَانِ، وَمُعَانَدَةِ الْعُبُودِيَّةِ‏.‏

وَإِشْفَاقٌ عَلَى الْعَمَلِ‏:‏ أَنْ يَصِيرَ إِلَى الضَّيَاعِ‏.‏

أَيْ يَخَافُ عَلَى عَمَلِهِ أَنْ يَكُونَ مِنَ الْأَعْمَالِ الَّتِي قَالَ اللَّهُ فِيهَا ‏{‏وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا‏}‏ وَهِيَ الْأَعْمَالُ الَّتِي كَانَتْ لِغَيْرِ اللَّهِ، وَعَلَى غَيْرِ أَمْرِهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَيَخَافُ أَيْضًا أَنْ يَضِيعَ عَمَلُهُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، إِمَّا بِتَرْكِهِ، وَإِمَّا بِمَعَاصِي تُفَرِّقُهُ وَتُحْبِطُهُ، فَيَذْهَبُ ضَائِعًا، وَيَكُونُ حَالُ صَاحِبِهِ كَالْحَالِ الَّتِي قَالَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْ أَصْحَابِهَا ‏{‏أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ‏}‏- الْآيَةَ قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لِلصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ‏:‏ فِيمَنْ تَرَوْنَ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ‏؟‏ فَقَالُوا‏:‏ اللَّهُ أَعْلَمُ، فَغَضِبَ عُمَرُ، وَقَالَ‏:‏ قُولُوا‏:‏ نَعْلَمُ، أَوْ لَا نَعْلَمُ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ‏:‏ فِي نَفْسِي مِنْهَا شَيْءٌ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، قَالَ‏:‏ يَا ابْنَ أَخِي قُلْ، وَلَا تَحْقِرَنَّ نَفْسَكَ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ‏:‏ ضُرِبَتْ مَثَلًا لِعَمَلٍ، قَالَ عُمَرُ‏:‏ أَيُّ عَمَلٍ‏؟‏ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ‏:‏ لِعَمَلٍ، قَالَ عُمَرُ‏:‏ لِرَجُلٍ غَنِيٍّ يَعْمَلُ بِطَاعَةِ اللَّهِ، فَبَعَثَ اللَّهُ إِلَيْهِ الشَّيْطَانَ، فَعَمِلَ بِالْمَعَاصِي حَتَّى أَغْرَقَ جَمِيعَ أَعْمَالِهِ‏.‏

قَالَ‏:‏ وَإِشْفَاقٌ عَلَى الْخَلِيقَةِ لِمَعْرِفَةِ مَعَاذِيرِهَا‏.‏

هَذَا قَدْ يُوهِمُ نَوْعَ تَنَاقُضٍ، فَإِنَّهُ كَيْفَ يُشْفِقُ مَعَ مَعْرِفَةِ الْعُذْرِ‏؟‏ وَلَيْسَ بِمُتَنَاقِضٍ، فَإِنَّ الْإِشْفَاقَ- كَمَا تَقَدَّمَ- خَوْفٌ مَقْرُونٌ بِرَحْمَةٍ، فَيُشْفِقُ عَلَيْهِمْ مِنْ جِهَةِ مُخَالَفَةِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ، مَعَ نَوْعِ رَحْمَةٍ، بِمُلَاحَظَةِ جَرَيَانِ الْقَدَرِ عَلَيْهِمْ‏.‏

قَالَ‏:‏ الدَّرَجَةُ الثَّانِيَةُ‏:‏ إِشْفَاقٌ عَلَى الْوَقْتِ أَنْ يَشُوبَهُ تَفَرُّقٌ‏.‏

أَيْ يَحْذَرُ عَلَى وَقْتِهِ أَنْ يُخَالِطَهُ مَا يُفَرِّقُهُ عَنِ الْحُضُورِ مَعَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ‏.‏

قَالَ‏:‏ وَعَلَى الْقَلْبِ أَنْ يُزَاحِمَهُ عَارِضٌ‏.‏

وَالْعَارِضُ الْمُزَاحِمُ إِمَّا فَتْرَةٌ، وَإِمَّا شُبْهَةٌ، وَإِمَّا شَهْوَةٌ، وَكُلُّ سَبَبٍ يَعُوقُ السَّالِكَ‏.‏

قَالَ‏:‏ وَعَلَى الْيَقِينِ أَنْ يُدَاخِلَهُ سَبَبٌ

هُوَ الطُّمَأْنِينَةُ إِلَى مَنْ بِيَدِهِ الْأَسْبَابُ كُلُّهَا، فَمَتَى دَاخَلَ يَقِينَهُ رُكُونٌ إِلَى سَبَبٍ وَتَعَلُّقٌ بِهِ، وَاطْمَأَنَّ إِلَيْهِ قَدَحَ ذَلِكَ فِي يَقِينِهِ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ قَطْعَ الْأَسْبَابِ عَنْ أَنْ تَكُونَ أَسْبَابًا، وَالْإِعْرَاضَ عَنْهَا فَإِنَّ هَذَا زَنْدَقَةٌ وَكُفْرٌ وَمُحَالٌ، فَإِنَّ الرَّسُولَ سَبَبٌ فِي حُصُولِ الْهِدَايَةِ وَالْإِيمَانِ، وَالْأَعْمَالَ الصَّالِحَةَ سَبَبٌ لِحُصُولِ النَّجَاةِ وَدُخُولِ الْجَنَّةِ، وَالْكُفْرَ سَبَبٌ لِدُخُولِ النَّارِ، وَالْأَسْبَابَ الْمُشَاهَدَةَ أَسْبَابٌ لِمُسَبَّبَاتِهَا وَلَكِنَّ الَّذِي يُرِيدُ أَنْ يَحَذَرَ مِنْهُ إِضَافَةَ يَقِينِهِ إِلَى سَبَبٍ غَيْرِ اللَّهِ، وَلَا يَتَعَلَّقَ بِالْأَسْبَابِ بَلْ يَفْنَى بِالْمُسَبَّبِ عَنْهَا‏.‏

وَالشَّيْخُ مِمَّنْ يُبَالِغُ فِي إِنْكَارِ الْأَسْبَابِ، لَا يَرَى وَرَاءَ الْفَنَاءِ فِي تَوْحِيدِ الرُّبُوبِيَّةِ غَايَةً، وَكَلَامُهُ فِي الدَّرَجَةِ الثَّالِثَةِ فِي مُعْظَمِ الْأَبْوَابِ يَرْجِعُ إِلَى هَذَيْنِ الْأَصْلَيْنِ، وَقَدْ عَرَفْتَ مَا فِيهِمَا، وَأَنَّ الصَّوَابَ خِلَافُهُمَا، وَهُوَ إِثْبَاتُ الْأَسْبَابِ وَالْقُوَى، وَأَنَّ الْفَنَاءَ فِي تَوْحِيدِ الرُّبُوبِيَّةِ لَيْسَ هُوَ غَايَةَ الطَّرِيقِ، بَلْ فَوْقَهُ مَا هُوَ أَجَلُّ مِنْهُ وَأَعْلَى وَأَشْرَفُ‏.‏

وَمِنْ هَاتَيْنِ الْقَاعِدَتَيْنِ عَرَضَ فِي كِتَابِهِ مِنَ الْأُمُورِ الَّتِي أُنْكِرَتْ عَلَيْهِ مَا عَرَضَ‏.‏

قَالَ‏:‏ الدَّرَجَةُ الثَّالِثَةُ‏:‏ إِشْفَاقٌ يَصُونُ سَعْيَهُ عَنِ الْعُجْبِ، وَيَكُفُّ صَاحِبَهُ عَنْ مُخَاصَمَةِ الْخَلْقِ، وَيَحْمِلُ الْمُرِيدَ عَلَى حِفْظِ الْجِدِّ‏.‏

الْأَوَّلُ يَتَعَلَّقُ بِالْعَمَلِ، وَالثَّانِي بِالْخُلُقِ، وَالثَّالِثُ بِالْإِرَادَةِ، وَكُلٌّ مِنْهَا لَهُ مَا يُفْسِدُهُ‏.‏

فَالْعُجْبُ‏:‏ يُفْسِدُ الْعَمَلَ كَمَا يُفْسِدُهُ الرِّيَاءُ، فَيُشْفِقُ عَلَى سَعْيِهِ مِنْ هَذَا الْمُفْسِدِ شَفَقَةً تَصُونُهُ عَنْهُ‏.‏

وَالْمُخَاصَمَةُ لِلْخَلْقِ مُفْسِدَةٌ لِلْخُلُقِ، فَيُشْفِقُ عَلَى خُلُقِهِ مِنْ هَذَا الْمُفْسِدِ شَفَقَةً تَصُونُهُ عَنْهُ‏.‏

وَالْإِرَادَةُ يُفْسِدُهَا عَدَمُ الْجِدِّ، وَهُوَ الْهَزْلُ وَاللَّعِبُ، فَيُشْفِقُ عَلَى إِرَادَتِهِ مِمَّا يُفْسِدُهَا‏.‏

فَإِذَا صَحَّ لَهُ عَمَلُهُ وَخُلُقُهُ وَإِرَادَتُهُ اسْتَقَامَ سُلُوكُهُ وَقَلْبُهُ وَحَالُهُ، وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ‏.‏

فَصْلٌ‏:‏ مَنْزِلَةُ الْخُشُوعِ

وَمِنْ مَنَازِلِ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ مَنْزِلَةُ الْخُشُوعِ‏.‏

قَالَ اللَّهُ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ‏}‏ قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ‏:‏ مَا كَانَ بَيْنَ إِسْلَامِنَا وَبَيْنَ أَنْ عَاتَبَنَا اللَّهُ بِهَذِهِ الْآيَةِ إِلَّا أَرْبَعُ سِنِينَ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ‏:‏ إِنَّ اللَّهَ اسْتَبْطَأَ قُلُوبَ الْمُؤْمِنِينَ، فَعَاتَبَهُمْ عَلَى رَأْسِ ثَلَاثَ عَشْرَةَ سَنَةً مِنْ نُزُولِ الْقُرْآنِ وَقَالَ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ‏}‏‏.‏

وَالْخُشُوعُ فِي أَصْلِ اللُّغَةِ الِانْخِفَاضُ، وَالذُّلُّ، وَالسُّكُونُ، قَالَ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَخَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ‏}‏ أَيْ سَكَنَتْ، وَذَلَّتْ، وَخَضَعَتْ، وَمِنْهُ وَصْفُ الْأَرْضِ بِالْخُشُوعِ، وَهُوَ يُبْسُهَا، وَانْخِفَاضُهَا، وَعَدَمُ ارْتِفَاعِهَا بِالرَّيِّ وَالنَّبَاتِ، قَالَ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ‏}‏‏.‏

وَالْخُشُوعُ‏:‏ قِيَامُ الْقَلْبِ بَيْنَ يَدَيِ الرَّبِّ بِالْخُضُوعِ وَالذُّلِّ، وَالْجَمْعِيَّةِ عَلَيْهِ

وَقِيلَ‏:‏ الْخُشُوعُ مَعْنَاهُ‏:‏ الِانْقِيَادُ لِلْحَقِّ، وَهَذَا مِنْ مُوجِبَاتِ الْخُشُوعِ‏.‏

فَمِنْ عَلَامَاتِهِ أَنَّ الْعَبْدَ إِذَا خُولِفَ وَرُدَّ عَلَيْهِ بِالْحَقِّ اسْتَقْبَلَ ذَلِكَ بِالْقَبُولِ وَالِانْقِيَادِ‏.‏

وَقِيلَ‏:‏ الْخُشُوعُ خُمُودُ نِيرَانِ الشَّهْوَةِ، وَسُكُونُ دُخَانِ الصُّدُورُ، وَإِشْرَاقُ نُورِ التَّعْظِيمِ فِي الْقَلْبِ‏.‏

وَقَالَ الْجُنَيْدُ‏:‏ الْخُشُوعُ تَذَلُّلُ الْقُلُوبِ لِعَلَّامِ الْغُيُوبِ‏.‏

وَأَجْمَعَ الْعَارِفُونَ عَلَى أَنَّ الْخُشُوعَ مَحَلُّهُ الْقَلْبُ، وَثَمَرَتُهُ عَلَى الْجَوَارِحِ، وَهِيَ تُظْهِرُهُ، وَرَأَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلًا يَعْبَثُ بِلِحْيَتِهِ فِي الصَّلَاةِ، فَقَالَ‏:‏ لَوْ خَشَعَ قَلْبُ هَذَا لَخَشَعَتْ جَوَارِحُهُ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ التَّقْوَى هَاهُنَا- وَأَشَارَ إِلَى صَدْرِهِ- ثَلَاثَ مَرَّاتٍ وَقَالَ بَعْضُ الْعَارِفِينَ‏:‏ حُسْنُ أَدَبِ الظَّاهِرِ عُنْوَانُ أَدَبِ الْبَاطِنِ، وَرَأَى بَعْضُهُمْ رَجُلًا خَاشِعَ الْمَنْكِبَيْنِ وَالْبَدَنِ، فَقَالَ‏:‏ يَا فُلَانُ، الْخُشُوعُ هَاهُنَا، وَأَشَارَ إِلَى صَدْرِهِ، لَا هَاهُنَا، وَأَشَارَ إِلَى مَنْكِبَيْهِ‏.‏

وَكَانَ بَعْضُ الصَّحَابَةِ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ- وَهُوَ حُذَيْفَةُ، يَقُولُ‏:‏ إِيَّاكُمْ وَخُشُوعَ النِّفَاقِ، فَقِيلَ لَهُ‏:‏ وَمَا خُشُوعُ النِّفَاقِ‏؟‏ قَالَ‏:‏ أَنْ تَرَى الْجَسَدَ خَاشِعًا وَالْقَلْبُ لَيْسَ بِخَاشِعٍ، وَرَأَى عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- رَجُلًا طَأْطَأَ رَقَبَتَهُ فِي الصَّلَاةِ، فَقَالَ‏:‏ يَا صَاحِبَ الرَّقَبَةِ، ارْفَعْ رَقَبَتَكَ، لَيْسَ الْخُشُوعُ فِي الرِّقَابِ، إِنَّمَا الْخُشُوعُ فِي الْقُلُوبِ، وَرَأَتْ عَائِشَةُ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا- شَبَابًا يَمْشُونَ وَيَتَمَارَوْنَ فِي مِشْيَتِهِمْ، فَقَالَتْ لِأَصْحَابِهَا‏:‏ مَنْ هَؤُلَاءِ‏؟‏ فَقَالُوا‏:‏ نُسَّاكٌ، فَقَالَتْ‏:‏ كَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ إِذَا مَشَى أَسْرَعَ، وَإِذَا قَالَ أَسْمَعَ، وَإِذَا ضَرَبَ أَوْجَعَ، وَإِذَا أَطْعَمَ أَشْبَعَ، وَكَانَ هُوَ النَّاسِكَ حَقًّا، وَقَالَ الْفُضَيْلُ بْنُ عِيَاضٍ‏:‏ كَانَ يُكْرَهُ أَنْ يُرِيَ الرَّجُلُ مِنَ الْخُشُوعِ أَكْثَرَ مِمَّا فِي قَلْبِهِ، وَقَالَ حُذَيْفَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ‏:‏ أَوَّلُ مَا تَفْقِدُونَ مِنْ دِينِكُمُ الْخُشُوعُ، وَآخِرُ مَا تَفْقِدُونَ مِنْ دِينِكُمُ الصَّلَاةُ، وَرُبَّ مُصَلٍّ لَا خَيْرَ فِيهِ، وَيُوشِكُ أَنْ تَدْخُلَ مَسْجِدَ الْجَمَاعَةِ فَلَا تَرَى فِيهِمْ خَاشِعًا، وَقَالَ سَهْلٌ‏:‏ مَنْ خَشَعَ قَلْبُهُ لَمْ يَقْرَبْ مِنْهُ الشَّيْطَانُ‏.‏

فَصْلٌ‏:‏ ‏[‏تَعْرِيفُ الْخُشُوعِ‏]‏

قَالَ صَاحِبُ الْمَنَازِلِ‏:‏ الْخُشُوعُ‏:‏ خُمُودُ النَّفْسِ، وَهُمُودُ الطِّبَاعِ لِمُتَعَاظِمٍ، أَوْ مُفْزِعٍ‏.‏

يَعْنِي انْقِبَاضَ النَّفْسِ وَالطَّبْعِ، وَهُوَ خُمُودُ قُوَى النَّفْسِ عَنِ الِانْبِسَاطِ لِمَنْ لَهُ فِي الْقُلُوبِ عَظَمَةٌ وَمَهَابَةٌ، أَوْ لِمَا يَفْزَعُ مِنْهُ الْقَلْبُ‏.‏

وَالْحَقُّ أَنَّ الْخُشُوعَ مَعْنًى يَلْتَئِمُ مِنَ التَّعْظِيمِ، وَالْمَحَبَّةِ، وَالذُّلِّ وَالِانْكِسَارِ‏.‏

قَالَ‏:‏ وَهُوَ عَلَى ثَلَاثِ دَرَجَاتٍ، الْخُشُوعُ الدَّرَجَةُ الْأُولَى‏:‏ التَّذَلُّلُ لِلْأَمْرِ، وَالِاسْتِسْلَامُ لِلْحُكْمِ، وَالِاتِّضَاعُ لِنَظَرِ الْحَقِّ‏.‏

التَّذَلُّلُ لِلْأَمْرِ تَلَقِّيهِ بِذِلَّةِ الْقَبُولِ وَالِانْقِيَادِ وَالِامْتِثَالِ‏.‏ وَمُوَاطَأَةُ الظَّاهِرِ الْبَاطِنَ، مَعَ إِظْهَارِ الضَّعْفِ، وَالِافْتِقَارِ إِلَى الْهِدَايَةِ لِلْأَمْرِ قَبْلَ الْفِعْلِ، وَالْإِعَانَةِ عَلَيْهِ حَالَ الْفِعْلِ، وَقَبُولِهِ بَعْدَ الْفِعْلِ‏.‏

وَأَمَّا الِاسْتِسْلَامُ لِلْحُكْمِ فَيَجُوزُ أَنْ يُرِيدَ بِهِ الْحُكْمَ الدِّينِيَّ الشَّرْعِيَّ، فَيَكُونُ مَعْنَاهُ عَدَمَ مُعَارَضَتِهِ بِرَأْيٍ أَوْ شَهْوَةٍ، وَيَجُوزُ أَنْ يُرِيدَ بِهِ الِاسْتِسْلَامَ لِلْحُكْمِ الْقَدَرِيِّ، وَهُوَ عَدَمُ تَلَقِّيهِ بِالتَّسَخُّطِ وَالْكَرَاهَةِ وَالِاعْتِرَاضِ‏.‏

وَالْحَقُّ أَنَّ الْخُشُوعَ هُوَ الِاسْتِسْلَامُ لِلْحُكْمَيْنِ، وَهُوَ الِانْقِيَادُ بِالْمَسْكَنَةِ وَالذُّلِّ لِأَمْرِ اللَّهِ وَقَضَائِهِ‏.‏

وَأَمَّا الِاتِّضَاعُ لِنَظَرِ الْحَقِّ فَهُوَ اتِّضَاعُ الْقَلْبِ وَالْجَوَارِحِ، وَانْكِسَارُهَا لِنَظَرِ الرَّبِّ إِلَيْهَا، وَاطِّلَاعِهِ عَلَى تَفَاصِيلِ مَا فِي الْقَلْبِ وَالْجَوَارِحِ، وَهَذَا أَحَدُ التَّأْوِيلَيْنِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ‏}‏ وقوله‏:‏ ‏{‏وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى‏}‏ وَهُوَ مَقَامُ الرَّبِّ عَلَى عَبْدِهِ بِالِاطِّلَاعِ وَالْقُدْرَةِ وَالرُّبُوبِيَّةِ‏.‏

فَخَوْفُهُ مِنْ هَذَا الْمَقَامِ يُوجِبُ لَهُ خُشُوعَ الْقَلْبِ لَا مَحَالَةَ، وَكُلَّمَا كَانَ أَشَدَّ اسْتِحْضَارًا لَهُ كَانَ أَشَدَّ خُشُوعًا، وَإِنَّمَا يُفَارِقُ الْقَلْبَ إِذَا غَفَلَ عَنِ اطِّلَاعِ اللَّهِ عَلَيْهِ، وَنَظَرِهِ إِلَيْهِ‏.‏

وَالتَّأْوِيلُ الثَّانِي‏:‏ أَنَّهُ مَقَامُ الْعَبْدِ بَيْنَ يَدَيْ رَبِّهِ عِنْدَ لِقَائِهِ‏.‏

فَعَلَى الْأَوَّلِ يَكُونُ مِنْ بَابِ إِضَافَةِ الْمَصْدَرِ إِلَى الْفَاعِلِ‏.‏

وَعَلَى الثَّانِي- وَهُوَ أَلْيَقُ بِالْآيَةِ- يَكُونُ مِنْ بَابِ إِضَافَةِ الْمَصْدَرِ إِلَى الْمُخَوِّفِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ‏.‏

فَصْلٌ‏:‏ ‏[‏الدَّرَجَةُ الثَّانِيَةُ مِنَ الْخُشُوعِ‏]‏

قَالَ‏:‏ الدَّرَجَةُ الثَّانِيَةُ‏:‏ تَرَقُّبُ آفَاتِ النَّفْسِ وَالْعَمَلِ، وَرُؤْيَةُ فَضْلِ كُلِّ ذِي فَضْلٍ عَلَيْكَ، وَتَنَسُّمُ نَسِيمِ الْفَنَاءِ‏.‏

يُرِيدُ انْتِظَارَ ظُهُورِ نَقَائِصِ نَفْسِكِ وَعَمَلِكَ وَعُيُوبِهِمَا لَكَ، فَإِنَّهُ يَجْعَلُ الْقَلْبَ خَاشِعًا لَا مَحَالَ، لِمُطَالَعَةِ عُيُوبِ نَفْسِهِ وَأَعْمَالِهِ وَنَقَائِصِهِمَا مِنَ الْكِبْرِ، وَالْعُجْبِ، وَالرِّيَاءِ، وَضَعْفِ الصِّدْقِ، وَقِلَّةِ الْيَقِينِ، وَتَشَتُّتِ النِّيَّةِ، وَعَدَمِ تَجَرُّدِ الْبَاعِثِ مِنَ الْهَوَى النَّفْسَانِيِّ، وَعَدَمِ إِيقَاعِ الْعَمَلِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي تَرْضَاهُ لِرَبِّكَ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ عُيُوبِ النَّفْسِ، وَمُفْسِدَاتِ الْأَعْمَالِ‏.‏

وَأَمَّا رُؤْيَةُ فَضْلِ كُلِّ ذِي فَضْلٍ عَلَيْكَ فَهُوَ أَنْ تُرَاعِيَ حُقُوقَ النَّاسِ فَتُؤَدِّيَهَا، وَلَا تَرَى أَنَّ مَا فَعَلُوهُ مِنْ حُقُوقِكَ عَلَيْهِمْ، فَلَا تُعَاوِضَهُمْ عَلَيْهَا‏.‏ فَإِنَّ هَذَا مِنْ رُعُونَاتِ النَّفْسِ وَحَمَاقَاتِهَا‏.‏ وَلَا تُطَالِبُهُمْ بِحُقُوقِ نَفْسِكَ، وَتَعْتَرِفُ بِفَضْلِ ذِي الْفَضْلِ مِنْهُمْ، وَتَنْسَى فَضْلَ نَفْسِكَ‏.‏

وَسَمِعْتُ شَيْخَ الْإِسْلَامِ ابْنَ تَيْمِيَّةَ- قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ- يَقُولُ‏:‏ الْعَارِفُ لَا يَرَى لَهُ عَلَى أَحَدٍ حَقًّا، وَلَا يَشْهَدُ عَلَى غَيْرِهِ فَضْلًا، وَلِذَلِكَ لَا يُعَاتِبُ، وَلَا يُطَالِبُ، وَلَا يُضَارِبُ‏.‏

وَأَمَّا تَنَسُّمُ نَسِيمِ الْفَنَاءِ فَلَمَّا كَانَ الْفَنَاءُ عِنْدَهُ غَايَةً، جَعَلَ هَذِهِ الدَّرَجَةَ كَالنَّسِيمِ لِرِقَّتِهِ، وَعَبَّرَ عَنْهَا بِالنَّسِيمِ لِلُطْفِ مَوْقِعِهِ مِنَ الرُّوحِ، وَشَدَّةِ تَشَبُّثِهَا بِهِ، وَلَا رَيْبَ أَنَّ الْخُشُوعَ سَبَبٌ مُوصِلٌ إِلَى الْفَنَاءِ، فَاضِلَهُ وَمَفْضُولَهُ‏.‏

فَصْلٌ‏:‏ ‏[‏الدَّرَجَةُ الثَّالِثَةُ مِنَ الْخُشُوعِ‏]‏

قَالَ‏:‏ الدَّرَجَةُ الثَّالِثَةُ‏:‏ حِفْظُ الْحُرْمَةِ عِنْدَ الْمُكَاشَفَةِ، وَتَصْفِيَةُ الْوَقْتِ مِنْ مُرَاءَاةِ الْخَلْقِ، وَتَجْرِيدُ رُؤْيَةِ الْفَضْلِ‏.‏

أَمَّا حِفْظُ الْحُرْمَةِ عِنْدَ الْمُكَاشَفَةِ فَهُوَ ضَبْطُ النَّفْسِ بِالذُّلِّ وَالِانْكِسَارِ عَنِ الْبَسْطِ وَالْإِدْلَالِ، الَّذِي تَقْتَضِيهِ الْمُكَاشَفَةُ، فَإِنَّ الْمُكَاشَفَةَ تُوجِبُ بَسْطًا، وَيُخَافُ مِنْهُ شَطْحٌ، إِنْ لَمْ يَصْحَبْهُ خُشُوعٌ يَحْفَظُ الْحُرْمَةَ‏.‏

وَأَمَّا تَصْفِيَةُ الْوَقْتِ مِنْ مُرَاءَاةِ الْخَلْقِ فَلَا يُرِيدُ بِهِ أَنْ يُصَفِّيَ وَقْتَهُ عَنِ الرِّيَاءِ، فَإِنَّ أَصْحَابَ هَذِهِ الدَّرَجَةِ أَجَلُّ قَدْرًا وَأَعْلَى مِنْ ذَلِكَ‏.‏

وَإِنَّمَا الْمُرَادُ أَنْ يُخْفِيَ أَحْوَالَهُ عَنِ الْخَلْقِ جُهْدَهُ، كَخُشُوعِهِ وَذُلِّهِ وَانْكِسَارِهِ، لِئَلَّا يَرَاهَا النَّاسُ فَيُعْجِبُهُ اطِّلَاعُهُمْ عَلَيْهَا، وَرُؤْيَتُهُمْ لَهَا، فَيُفْسِدُ عَلَيْهِ وَقْتَهُ وَقَلْبَهُ وَحَالَهُ مَعَ اللَّهِ، وَكَمْ قَدِ اقْتَطَعَ فِي هَذِهِ الْمَفَازَةِ مِنْ سَالِكٍ‏؟‏ وَالْمَعْصُومُ مَنْ عَصَمَهُ اللَّهُ، فَلَا شَيْءَ أَنْفَعُ لِلصَّادِقِ مِنَ التَّحَقُّقِ بِالْمَسْكَنَةِ وَالْفَاقَةِ وَالذُّلِّ، وَأَنَّهُ لَا شَيْءَ، وَأَنَّهُ مِمَّنْ لَمْ يَصِحَّ لَهُ بَعْدُ الْإِسْلَامُ حَتَّى يَدَّعِيَ الشَّرَفَ فِيهِ‏.‏

وَلَقَدْ شَاهَدْتُ مِنْ شَيْخِ الْإِسْلَامِ ابْنِ تَيْمِيَّةَ- قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ- مِنْ ذَلِكَ أَمْرًا لَمْ أُشَاهِدْهُ مِنْ غَيْرِهِ، وَكَانَ يَقُولُ كَثِيرًا‏:‏ مَا لِي شَيْءٌ، وَلَا مِنِّي شَيْءٌ، وَلَا فِيَّ شَيْءٌ، وَكَانَ كَثِيرًا مَا يَتَمَثَّلُ بِهَذَا الْبَيْتِ‏:‏

أَنَا الْمُكَدِّي وَابْنُ الْمُكَدِّي *** وَهَكَذَا كَانَ أَبِي وَجَدِّي

وَكَانَ إِذَا أُثْنِي عَلَيْهِ فِي وَجْهِهِ يَقُولُ‏:‏ وَاللَّهِ إِنِّي إِلَى الْآنِ أُجَدِّدُ إِسْلَامِي كُلَّ وَقْتٍ، وَمَا أَسْلَمْتُ بَعْدُ إِسْلَامًا جَيِّدًا‏.‏

وَبَعَثَ إِلَيَّ فِي آخِرِ عُمُرِهِ قَاعِدَةً فِي التَّفْسِيرِ بِخَطِّهِ، وَعَلَى ظَهْرِهَا أَبْيَاتٌ بِخَطِّهِ مِنْ نَظْمِهِ‏:‏

أَنَا الْفَقِيرُ إِلَى رَبِّ الْبَرِيَّاتِ *** أَنَا الْمُسَيْكِينُ فِي مَجْمُوعِ حَالَاتِي

أَنَا الظَّلُومُ لِنَفْسِي وَهِيَ ظَالِمَتِي *** وَالْخَيْرُ إِنْ يَأْتِنَا مِنْ عِنْدِهِ يَأْتِي

لَا أَسْتَطِيعُ لِنَفْسِي جَلْبَ مَنْفَعَةٍ *** وَلَا عَنِ النَّفْسِ لِي دَفْعُ الْمَضَرَّاتِ

وَلَيْسَ لِي دُونَهُ مَوْلًى يُدَبِّرُنِي *** وَلَا شَفِيعٌ إِذَا حَاطَتْ خَطِيئَاتِي

إِلَّا بِإِذْنٍ مِنَ الرَّحْمَنِ خَالِقِنَا *** إِلَى الشَّفِيعِ كَمَا قَدْ جَاءَ فِي الْآيَاتِ

وَلَسْتُ أَمْلِكُ شَيْئًا دُونَهُ أَبَدًا *** وَلَا شَرِيكٌ أَنَا فِي بَعْضِ ذَرَّاتِ

وَلَا ظُهَيْرٌ لَهُ كَيْ يَسْتَعِينَ بِهِ *** كَمَا يَكُونُ لِأَرْبَابِ الْوِلَايَاتِ

وَالْفَقْرُ لِي وَصْفُ ذَاتِ لَازِمٍ أَبَدًا *** كَمَا الْغِنَى أَبَدًا وَصْفٌ لَهُ ذَاتِي

وَهَذِهِ الْحَالُ حَالُ الْخَلْقِ أَجْمَعِهِمْ *** وَكُلُّهُمْ عِنْدَهُ عَبْدٌ لَهُ آتِي

فَمَنْ بَغَى مَطْلَبًا مِنْ غَيْرِ خَالِقِهِ *** فَهُوَ الْجَهُولُ الظَّلُومُ الْمُشْرِكُ الْعَاتِي

وَالْحَمْدُ لِلَّهِ مِلْءَ الْكَوْنِ أَجْمَعِهِ *** مَا كَانَ مِنْهُ وَمَا مِنْ بَعْدُ قَدْ يَاتِي

وَأَمَّا تَجْرِيدُ رُؤْيَةِ الْفَضْلِ فَهُوَ أَنْ لَا يَرَى الْفَضْلَ وَالْإِحْسَانَ إِلَّا مِنَ اللَّهِ، فَهُوَ الْمَانُّ بِهِ بِلَا سَبَبٍ مِنْكَ، وَلَا شَفِيعٍ لَكَ تَقَدَّمَ إِلَيْهِ بِالشَّفَاعَةِ، وَلَا وَسِيلَةٍ سَبَقَتْ مِنْكَ تَوَسَّلْتَ بِهَا إِلَى إِحْسَانِهِ‏.‏

وَالتَّجْرِيدُ هُوَ تَخْلِيصُ شُهُودِ الْفَضْلِ لِوَلِيِّهِ، حَتَّى لَا يَنْسُبَهُ إِلَى غَيْرِهِ، وَإِلَّا فَهُوَ فِي نَفْسِهِ مُجَرَّدٌ عَنِ النِّسْبَةِ إِلَى سِوَاهُ، وَإِنَّمَا الشَّأْنُ فِي تَجْرِيدِهِ فِي الشُّهُودِ، لِيُطَابِقَ الشُّهُودُ الْحَقَّ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ‏.‏

فَصْلٌ‏:‏ ‏[‏انْعِدَامُ الْخُشُوعِ فِي الصَّلَاةِ‏]‏

فَإِنْ قِيلَ‏:‏ مَا تَقُولُونَ فِي صَلَاةٍ مِنْ عَدَمِ خُشُوعٍ هَلْ يُعْتَدُّ بِهَا أَمْ لَا‏؟‏

قِيلَ‏:‏ أَمَّا الِاعْتِدَادُ بِهَا فِي الثَّوَابِ فَلَا يُعْتَدُّ لَهُ فِيهَا إِلَّا بِمَا عَقِلَ فِيهِ مِنْهَا، وَخَشَعَ فِيهِ لِرَبِّهِ‏.‏

قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا‏:‏ لَيْسَ لَكَ مِنْ صَلَاتِكَ إِلَّا مَا عَقِلْتَ مِنْهَا‏.‏

وَفِي الْمُسْنَدِ مَرْفُوعًا إِنَّ الْعَبْدَ لَيُصَلِّي الصَّلَاةَ، وَلَمْ يُكْتَبْ لَهُ إِلَّا نِصْفُهَا، أَوْ ثُلُثُهَا، أَوْ رُبُعُهَا- حَتَّى بَلَغَ عُشْرَهَا‏.‏

وَقَدْ عَلَّقَ اللَّهُ فَلَاحَ الْمُصَلِّينَ بِالْخُشُوعِ فِي صَلَاتِهِمْ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ مَنْ لَمْ يَخْشَعْ فَلَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْفَلَاحِ، وَلَوِ اعْتَدَّ لَهُ بِهَا ثَوَابًا لَكَانَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ‏.‏

وَأَمَّا الِاعْتِدَادُ بِهَا فِي أَحْكَامِ الدُّنْيَا، وَسُقُوطِ الْقَضَاءِ فَإِنْ غَلَبَ عَلَيْهَا الْخُشُوعُ وَتَعَقَّلَهَا اعْتُدَّ بِهَا إِجْمَاعًا، وَكَانَتِ السُّنَنُ، وَالْأَذْكَارُ عَقِيبَهَا جَوَابِرَ وَمُكَمِّلَاتٍ لِنَقْصِهَا‏.‏

وَإِنْ غَلَبَ عَلَيْهِ عَدَمُ الْخُشُوعِ فِيهَا، وَعَدَمُ تَعَقُّلِهَا، فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي وُجُوبِ إِعَادَتِهَا، فَأَوْجَبَهَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ حَامِدٍ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَدَ، وَأَبُو حَامِدٍ الْغَزَالِيُّ فِي إِحْيَائِهِ، لَا فِي وَسِيطِهِ وَبَسِيطِهِ‏.‏

وَاحْتَجُّوا بِأَنَّهَا صَلَاةٌ لَا يُثَابُ عَلَيْهَا، وَلَمْ يُضْمَنْ لَهُ فِيهَا الْفَلَاحُ، فَلَمْ تَبْرَأْ ذِمَّتُهُ مِنْهَا، وَيَسْقُطُ الْقَضَاءُ عَنْهُ كَصَلَاةِ الْمُرَائِي‏.‏

قَالُوا‏:‏ وَلِأَنَّ الْخُشُوعَ وَالْعَقْلَ رُوحُ الصَّلَاةِ وَمَقْصُودُهَا وَلُبُّهَا، فَكَيْفَ يُعْتَدُّ بِصَلَاةٍ فَقَدَتْ رُوحَهَا وَلُبَّهَا، وَبَقِيَتْ صُورَتُهَا وَظَاهِرُهَا‏؟‏‏.‏

قَالُوا‏:‏ وَلَوْ تَرَكَ الْعَبْدُ وَاجِبًا مِنْ وَاجِبَاتِهَا عَمْدًا لَأَبْطَلَهَا تَرْكُهُ‏.‏ وَغَايَتُهُ‏:‏ أَنْ يَكُونَ بَعْضًا مِنْ أَبْعَاضِهَا بِمَنْزِلَةِ فَوَاتِ عُضْوٍ مِنْ أَعْضَاءِ الْعَبْدِ الْمُعْتَقِ فِي الْكَفَّارَةِ، فَكَيْفَ إِذَا عَدِمَتْ رُوحَهَا، وَلُبَّهَا وَمَقْصُودَهَا‏؟‏ وَصَارَتْ بِمَنْزِلَةِ الْعَبْدِ الْمَيِّتِ، إِذَا لَمْ يُعْتَدَّ بِالْعَبْدِ الْمَقْطُوعِ الْيَدِ، يَعْتِقُهُ تَقَرُّبًا إِلَى اللَّهِ تَعَالَى فِي كَفَّارَةٍ وَاجِبَةٍ، فَكَيْفَ يُعْتَدُّ بِالْعَبْدِ الْمَيِّتِ‏.‏

وَقَالَ بَعْضُ السَّلَفِ‏:‏ الصَّلَاةُ كَجَارِيَةٍ تُهْدَى إِلَى مَلِكٍ مِنَ الْمُلُوكِ، فَمَا الظَّنُّ بِمَنْ يَهْدِي إِلَيْهِ جَارِيَةً شَلَّاءَ، أَوْ عَوْرَاءَ، أَوْ عَمْيَاءَ، أَوْ مَقْطُوعَةَ الْيَدِ وَالرِّجْلِ، أَوْ مَرِيضَةً، أَوْ دَمِيمَةً، أَوْ قَبِيحَةً، حَتَّى يُهْدِيَ إِلَيْهِ جَارِيَةً مَيِّتَةً بِلَا رُوحٍ وَجَارِيَةً قَبِيحَةً، فَكَيْفَ بِالصَّلَاةِ الَّتِي يُهْدِيهَا الْعَبْدُ، وَيَتَقَرَّبُ بِهَا إِلَى رَبِّهِ تَعَالَى‏؟‏ وَاللَّهُ طَيِّبٌ لَا يَقْبَلُ إِلَّا طَيِّبًا، وَلَيْسَ مِنَ الْعَمَلِ الطَّيِّبِ صَلَاةٌ لَا رُوحَ فِيهَا، كَمَا أَنَّهُ لَيْسَ مِنَ الْعِتْقِ الطَّيِّبِ عِتْقُ عَبْدٍ لَا رُوحَ فِيهِ‏.‏

قَالُوا‏:‏ وَتَعْطِيلُ الْقَلْبِ عَنْ عُبُودِيَّةِ الْحُضُورِ وَالْخُشُوعِ‏:‏ تَعْطِيلٌ لِمَلِكِ الْأَعْضَاءِ عَنْ عُبُودِيَّتِهِ، وَعَزْلٌ لَهُ عَنْهَا، فَمَاذَا تُغْنِي طَاعَةُ الرَّعِيَّةِ وَعُبُودِيَّتُهَا، وَقَدْ عُزِلَ مِلْكُهَا وَتَعَطَّلَ‏؟‏‏.‏

قَالُوا‏:‏ وَالْأَعْضَاءُ تَابِعَةٌ لِلْقَلْبِ، تَصْلُحُ بِصَلَاحِهِ، وَتَفْسُدُ بِفَسَادِهِ، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ قَائِمًا بِعُبُودِيَّتِهِ، فَالْأَعْضَاءُ أَوْلَى أَنْ لَا يُعْتَدَّ بِعُبُودِيَّتِهَا، وَإِذَا فَسَدَتْ عُبُودِيَّتُهُ- بِالْغَفْلَةِ وَالْوَسْوَاسِ- فَأَنَّى تَصِحُّ عُبُودِيَّةُ رَعِيَّتِهِ وَجُنْدِهِ وَمَادَّتُهُمْ مِنْهُ، وَعَنْ أَمْرِهِ يُصْدِرُونَ، وَبِهِ يَأْتَمِرُونَ‏؟‏‏.‏

قَالُوا‏:‏ وَفِي التِّرْمِذِيِّ وَغَيْرِهِ، مَرْفُوعًا إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَجِيبُ الدُّعَاءَ مِنْ قَلْبٍ غَافِلٍ وَهَذَا إِمَّا خَاصٌّ بِدُعَاءِ الْعِبَادَةِ، وَإِمَّا عَامٌّ لَهُ وَلِدُعَاءِ الْمَسْأَلَةِ، وَإِمَّا خَاصٌّ بِدُعَاءِ الْمَسْأَلَةِ الَّذِي هُوَ أَبْعَدُ، فَهُوَ تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّهُ لَا يَقْبَلُ دُعَاءَ الْعِبَادَةِ الَّذِي هُوَ خَاصٌّ حَقُّهُ مِنْ قَلْبٍ غَافِلٍ‏.‏

قَالُوا‏:‏ وَلِأَنَّ عُبُودِيَّةَ مَنْ غَلَبَتْ عَلَيْهِ الْغَفْلَةُ وَالسَّهْوُ فِي الْغَالِبِ لَا تَكُونُ مُصَاحِبَةً لِلْإِخْلَاصِ، فَإِنَّ الْإِخْلَاصَ قَصْدُ الْمَعْبُودِ وَحْدَهُ بِالتَّعَبُّدِ‏.‏ وَالْغَافِلُ لَا قَصْدَ لَهُ، فَلَا عُبُودِيَّةَ لَهُ‏.‏

قَالُوا‏:‏ وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ

الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ‏}‏ وَلَيْسَ السَّهْوُ عَنْهَا تَرْكَهَا، وَإِلَّا لَمْ يَكُونُوا مُصَلِّينَ، وَإِنَّمَا هُوَ السَّهْوُ عَنْ وَاجِبِهَا إِمَّا عَنِ الْوَقْتِ كَمَا قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ وَغَيْرُهُ، وَإِمَّا عَنِ الْحُضُورِ وَالْخُشُوعِ، وَالصَّوَابُ أَنَّهُ يَعُمُّ النَّوْعَيْنِ، فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ أَثْبَتَ لَهُمْ صَلَاةً، وَوَصَفَهُمْ بِالسَّهْوِ عَنْهَا فَهُوَ السَّهْوُ عَنْ وَقْتِهَا الْوَاجِبِ، أَوْ عَنْ إِخْلَاصِهَا وَحُضُورِهَا الْوَاجِبِ، وَلِذَلِكَ وَصَفَهُمْ بِالرِّيَاءِ، وَلَوْ كَانَ السَّهْوُ سَهْوَ تَرْكٍ لَمَا كَانَ هُنَاكَ رِيَاءٌ‏.‏

قَالُوا‏:‏ وَلَوْ قَدَّرْنَا أَنَّهُ السَّهْوُ عَنْ وَاجِبٍ فَقَطْ، فَهُوَ تَنْبِيهٌ عَلَى التَّوَعُّدِ بِالْوَيْلِ عَلَى سَهْوِ الْإِخْلَاصِ وَالْحُضُورِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى لِوُجُوهٍ‏:‏

أَحَدُهَا‏:‏ أَنَّ الْوَقْتَ يَسْقُطُ فِي حَالِ الْعُذْرِ، وَيَنْتَقِلُ إِلَى بَدَلِهِ، وَالْإِخْلَاصَ وَالْحُضُورَ لَا يَسْقُطُ بِحَالٍ، وَلَا بَدَلَ لَهُ‏.‏

الثَّانِي‏:‏ أَنَّ وَاجِبَ الْوَقْتِ يَسْقُطُ لِتَكْمِيلِ مَصْلَحَةِ الْحُضُورِ، فَيَجُوزُ الْجَمْعُ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ لِلشُّغْلِ الْمَانِعِ مِنْ فِعْلِ إِحْدَاهُمَا فِي وَقْتِهَا بِلَا قَلْبٍ وَلَا حُضُورٍ، كَالْمُسَافِرِ، وَالْمَرِيضِ، وَذِي الشُّغْلِ الَّذِي يَحْتَاجُ مَعَهُ إِلَى الْجَمْعِ، كَمَا نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ وَغَيْرُهُ‏.‏

فَبِالْجُمْلَةِ‏:‏ مَصْلَحَةُ الْإِخْلَاصِ وَالْحُضُورِ، وَجَمْعِيَّةُ الْقَلْبِ عَلَى اللَّهِ فِي الصَّلَاةِ أَرْجَحُ فِي نَظَرِ الشَّارِعِ مِنْ مَصْلَحَةِ سَائِرِ وَاجِبَاتِهَا، فَكَيْفَ يُظَنُّ بِهِ أَنَّهُ يُبْطِلُهَا بِتَرْكِ تَكْبِيرَةٍ وَاحِدَةٍ، أَوِ اعْتِدَالٍ فِي رُكْنٍ، أَوْ تَرْكِ حَرْفٍ، أَوْ شَدَّةٍ مِنَ الْقُرْآنِ، أَوْ تَرْكِ تَسْبِيحَةٍ أَوْ قَوْلِ سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ أَوْ قَوْلِ رَبَّنَا وَلَكَ الْحَمْدُ أَوْ ذِكْرِ رَسُولِ اللَّهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِالصَّلَاةِ عَلَيْهِ، ثُمَّ يُصَحِّحُهَا مَعَ فَوْتِ لُبِّهَا، وَمَقْصُودِهَا الْأَعْظَمِ، وَرُوحِهَا وَسِرِّهَا‏.‏

فَهَذَا مَا احْتَجَّتْ بِهِ هَذِهِ الطَّائِفَةُ، وَهِيَ حُجَجٌ- كَمَا تَرَاهَا- قُوَّةً وَظُهُورًا‏.‏

قَالَ أَصْحَابُ الْقَوْلِ الْآخَرِ‏:‏ قَدْ ثَبَتَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّهُ قَالَ إِذَا أَذَّنَ الْمُؤَذِّنُ أَدْبَرَ الشَّيْطَانُ، وَلَهُ ضُرَاطٌ حَتَّى لَا يَسْمَعَ التَّأْذِينَ، فَإِذَا قُضِيَ التَّأْذِينُ أَقْبَلَ، فَإِذَا ثُوِّبَ بِالصَّلَاةِ أَدْبَرَ، فَإِذَا قُضِيَ التَّثْوِيبُ أَقْبَلَ حَتَّى يَخْطِرَ بَيْنَ الْمَرْءِ وَبَيْنَ نَفْسِهِ، فَيُذَكِّرُهُ مَا لَمْ يَكُنْ يَذْكُرُ، وَيَقُولُ‏:‏ اذْكُرْ كَذَا، اذْكُرْ كَذَا، لِمَا لَمْ يَكُنْ يَذْكُرُ، حَتَّى يَظَلَّ الرَّجُلُ لَا يَدْرِي كَمْ صَلَّى، فَإِذَا وَجَدَ ذَلِكَ أَحَدُكُمْ فَلْيَسْجُدْ سَجْدَتَيْنِ وَهُوَ جَالِسٌ‏.‏

قَالُوا‏:‏ فَأَمَرَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي هَذِهِ الصَّلَاةِ الَّتِي قَدْ أَغْفَلَهُ الشَّيْطَانُ فِيهَا، حَتَّى لَمْ يَدْرِ كَمْ صَلَّى بِأَنْ يَسْجُدَ سَجْدَتَيِ السَّهْوِ، وَلَمْ يَأْمُرْهُ بِإِعَادَتِهَا، وَلَوْ كَانَتْ بَاطِلَةً- كَمَا زَعَمْتُمْ- لَأَمَرَهُ بِإِعَادَتِهَا‏.‏

قَالُوا‏:‏ وَهَذَا هُوَ السِّرُّ فِي سَجْدَتَيِ السَّهْوِ، تَرْغِيمًا لِلشَّيْطَانِ فِي وَسْوَسَتِهِ لِلْعَبْدِ، وَكَوْنِهِ حَالَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْحُضُورِ فِي الصَّلَاةِ‏.‏ وَلِهَذَا سَمَّاهُمَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ‏"‏ الْمُرْغِمَتَيْنِ ‏"‏، وَأَمَرَ مَنْ سَهَا بِهِمَا وَلَمْ يُفَصِّلْ فِي سَهْوِهِ الَّذِي صَدَرَ عَنْهُ مُوجِبَ السُّجُودِ بَيْنَ الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ، وَالْغَالِبِ وَالْمَغْلُوبِ، وَقَالَ لِكُلِّ سَهْوٍ سَجْدَتَانِ وَلَمْ يَسْتَثْنِ مِنْ ذَلِكَ السَّهْوِ الْغَالِبِ، مَعَ أَنَّهُ الْغَالِبُ‏.‏

قَالُوا‏:‏ وَلِأَنَّ شَرَائِعَ الْإِسْلَامِ عَلَى الْأَفْعَالِ الظَّاهِرَةِ، وَأَمَّا حَقَائِقُ الْإِيمَانِ الْبَاطِنَةُ فَتِلْكَ عَلَيْهَا شَرَائِعُ الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ، فَلِلَّهِ تَعَالَى حُكْمَانِ‏:‏ حُكْمٌ فِي الدُّنْيَا عَلَى الشَّرَائِعِ الظَّاهِرَةِ وَأَعْمَالِ الْجَوَارِحِ، وَحُكْمٌ فِي الْآخِرَةِ عَلَى الظَّوَاهِرِ وَالْبَوَاطِنِ، وَلِهَذَا كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْبَلُ عَلَانِيَةَ الْمُنَافِقِينَ، وَيَكِلُ أَسْرَارَهُمْ إِلَى اللَّهِ فَيُنَاكِحُونَ، وَيَرِثُونَ وَيُورَثُونَ، وَيُعْتَدُّ بِصَلَاتِهِمْ فِي أَحْكَامِ الدُّنْيَا، فَلَا يَكُونُ حُكْمُهُمْ حُكْمَ تَارِكِ الصَّلَاةِ، إِذْ قَدْ أَتَوْا بِصُورَتِهَا الظَّاهِرَةِ، وَأَحْكَامُ الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ لَيْسَتْ إِلَى الْبَشَرِ، بَلْ إِلَى اللَّهِ، وَاللَّهُ يَتَوَلَّاهُ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ‏.‏

نَعَمْ لَا يَحْصُلُ مَقْصُودُ هَذِهِ الصَّلَاةِ مِنْ ثَوَابِ اللَّهِ عَاجِلًا وَلَا آجِلًا، فَإِنَّ لِلصَّلَاةِ مَزِيدَ ثَوَابٍ عَاجِلٍ فِي الْقَلْبِ مِنْ قُوَّةِ إِيمَانِهِ، وَاسْتِنَارَتِهِ، وَانْشِرَاحِهِ وَانْفِسَاحِهِ وَوُجُودِ حَلَاوَةِ الْعِبَادَةِ، وَالْفَرَحِ وَالسُّرُورِ، وَاللَّذَّةِ الَّتِي تَحْصُلُ لِمَنِ اجْتَمَعَ هَمُّهُ وَقَلْبُهُ عَلَى اللَّهِ، وَحَضَرَ قَلْبُهُ بَيْنَ يَدَيْهِ، كَمَا يَحْصُلُ لِمَنْ قَرَّبَهُ السُّلْطَانُ مِنْهُ، وَخَصَّهُ بِمُنَاجَاتِهِ وَالْإِقْبَالِ عَلَيْهِ وَاللَّهُ أَعْلَى وَأَجَلُّ‏.‏

وَكَذَلِكَ مَا يَحْصُلُ لِهَذَا مِنَ الدَّرَجَاتِ الْعُلَى فِي الْآخِرَةِ، وَمُرَافَقَةِ الْمُقَرَّبِينَ‏.‏

كُلُّ هَذَا يَفُوتُهُ بِفَوَاتِ الْحُضُورِ وَالْخُضُوعِ، وَإِنَّ الرَّجُلَيْنِ لَيَكُونُ مُقَامُهُمَا فِي الصَّفِّ وَاحِدًا، وَبَيْنَ صَلَاتَيْهِمَا كَمَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، وَلَيْسَ كَلَامُنَا فِي هَذَا كُلِّهِ‏.‏

فَإِنْ أَرَدْتُمْ وُجُوبَ الْإِعَادَةِ لَتَحْصُلَ هَذِهِ الثَّمَرَاتُ وَالْفَوَائِدُ فَذَاكَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ أَنْ يُحَصِّلَهَا وَإِنْ شَاءَ أَنْ يُفَوِّتَهَا عَلَى نَفْسِهِ، وَإِنْ أَرَدْتُمْ بِوُجُوبِهَا أَنَّا نُلْزِمُهُ بِهَا وَنُعَاقِبُهُ عَلَى تَرْكِهَا، وَنُرَتِّبُ عَلَيْهِ أَحْكَامَ تَارِكِ الصَّلَاةِ فَلَا‏.‏

وَهَذَا الْقَوْلُ الثَّانِي أَرْجَحُ الْقَوْلَيْنِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ‏.‏