فصل: فَصْلٌ: (تَمَكُّنُ الْإِيمَانِ وَالْعِلْمِ فِي الْقَلْبِ)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين ***


فَصْلٌ‏:‏ ‏[‏تَمَكُّنُ الْإِيمَانِ وَالْعِلْمِ فِي الْقَلْبِ‏]‏

وَمِنْهُمْ مَنْ يَتَمَكَّنُ الْإِيمَانُ وَالْعِلْمُ مِنْ قَلْبِهِ، فَإِذَا جَاءَ الْأَمْرُ قَامَ إِلَيْهِ، وَبَادَرَ بِجَمْعِيَّتِهِ، فَإِنْ صَحِبَتْهُ وَإِلَّا طَرَحَهَا، وَبَادَرَ إِلَى الْأَمْرِ، وَعَلِمَ أَنَّهُ لَا يَسَعُهُ غَيْرُ ذَلِكَ، وَأَنَّ الْجَمْعِيَّةَ فَضْلٌ، وَالْأَمْرَ فَرْضٌ، وَمَنْ ضَيَّعَ الْفُرُوضَ لِلْفُضُولِ حِيلَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْوُصُولِ، لَكِنْ إِذَا جَاءَتِ الْمَنْدُوبَاتُ، الَّتِي هِيَ مَحَلُّ الْأَرْبَاحِ وَالْمَكَاسِبِ الْعَظِيمَةِ، وَالْمَصَالِحِ الرَّاجِحَةِ مِنْ عِيَادَةِ الْمَرِيضِ، وَاتِّبَاعِ الْجِنَازَةِ، وَالْجِهَادِ الْمُسْتَحَبِّ، وَطَلَبِ الْعِلْمِ النَّافِعِ، وَالْخُلْطَةِ الَّتِي يَنْتَفِعُ بِهَا وَيَنْفَعُ غَيْرُهُ، وَلَمْ يُؤْثِرْهَا عَلَى جَمْعِيَّتِهِ، إِذَا رَأَى جَمْعِيَّتَهُ خَيْرًا لَهُ وَأَنْفَعَ مِنْهَا- فَهَذَا غَيْرُ آثِمٍ وَلَا مُفَرِّطٍ إِلَّا إِذَا تَرَكَهَا رَغْبَةً عَنْهَا بِالْكُلِّيَّةِ، وَاسْتِبْدَالًا بِالْجَمْعِيَّةِ، فَهَذَا نَاقِصٌ‏.‏

أَمَّا إِذَا قَامَ بِهَا أَحْيَانًا وَتَرَكَهَا أَحْيَانًا لِاشْتِغَالِهِ بِجَمْعِيَّتِهِ، فَهَذَا غَيْرُ مَذْمُومٍ، بَلْ هَذَا حَقِيقَةُ الِاعْتِكَافِ الْمَشْرُوعِ، وَهُوَ جَمْعِيَّةُ الْعَبْدِ عَلَى رَبِّهِ وَخَلْوَتُهُ بِهِ، وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَحْتَجِرُ بِحَصِيرٍ فِي الْمَسْجِدِ فِي اعْتِكَافِهِ، يَخْلُو بِهِ مَعَ رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَلَمْ يَكُنْ يَشْتَغِلُ بِتَعْلِيمِ الصَّحَابَةِ وَتَذْكِيرِهِمْ فِي تِلْكَ الْحَالِ، وَلِهَذَا كَانَ الْمَشْهُورُ مِنْ مَذْهَبِ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِ أَنَّهُ لَا يُسْتَحَبُّ لِلْمُعْتَكِفِ إِقْرَاءُ الْقُرْآنِ وَالْعِلْمِ، وَخَلْوَتُهُ لِلذِّكْرِ وَالْعِبَادَةِ أَفْضَلُ لَهُ، وَاحْتَجُّوا بِفِعْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏.‏

فَصْلٌ‏:‏ وَأَكْمَلُ مِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ إِذَا جَاءَهُ تَفْرِقَةُ الْأَمْرِ

وَرَآهَا أَرْجَحَ مِنْ مَصْلَحَةِ الْجَمْعِيَّةِ، وَلَمْ يُمْكِنْهُ الْجَمْعُ فِي التَّفْرِقَةِ اشْتَرَى الْفَاضِلَ بِالْمَفْضُولِ، وَالرَّاجِحَ بِالْمَرْجُوحِ، فَإِذَا كَانَ الْمَنْدُوبُ مَفْضُولًا مَرْجُوحًا، وَالْجَمْعُ خَيْرًا مِنْهُ اشْتَغَلَ بِالْجَمْعِ عَنْهُ، فَهَذَا أَعْلَى الْأَقْسَامِ، وَالرَّجُلُ كُلُّ الرَّجُلِ مَنْ يَرُدُّ مِنْ تَفْرِقَتِهِ عَلَى جَمْعِهِ، وَمِنْ جَمْعِهِ عَلَى تَفْرِقَتِهِ، فَيُقَوِّي كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالْآخَرِ، وَلَا يُلْغِي الْحَرْبَ بَيْنَهُمَا، فَإِذَا جَاءَتْ تَفْرِقَةُ الْأَمْرِ جَدَّ فِيهَا وَقَامَ بِهَا لِجَمْعِيَّتِهِ، مُقَوِّيًا لَهَا بِالْأَمْرِ، فَإِذَا جَاءَتْ حَالَةُ الْجَمْعِيَّةِ تَقَوَّى بِهَا عَلَى تَفْرِقَةِ الْأَمْرِ وَالْبَقَاءِ بِهِ، فَيَرُدُّ مِنْ هَذَا عَلَى هَذَا، وَمِنْ هَذَا عَلَى هَذَا، فَإِذَا جَاءَتْ تَفْرِقَةُ الْأَمْرِ قَالَ‏:‏ أَتَفَرَّقُ لِلَّهِ لِيَجْمَعَنِي عَلَيْهِ، وَإِذَا جَاءَتِ الْجَمْعِيَّةُ قَالَ‏:‏ أَجْتَمِعُ لِأَتَقَوَّى عَلَى أَمْرِ اللَّهِ وَرِضَاهُ، لَا لِمُجَرَّدِ حَظِّي وَلَذَّتِي مِنْ هَذِهِ الْجَمْعِيَّةِ، فَمَا أَكْثَرَ مَنْ يَغِيبُ بِحَظِّهِ مِنْهَا، وَلَذَّتِهَا وَنَعِيمِهَا وَطِيبِهَا، عَنْ مُرَادِ اللَّهِ مِنْهُ‏.‏

فَتَدَبَّرْ هَذَا الْفَصْلَ، وَأَحِطْ بِهِ عِلْمًا، فَإِنَّهُ مِنْ قَوَاعِدِ السُّلُوكِ وَالْمَعْرِفَةِ، وَكَمْ قَدْ زَلَّتْ فِيهِ مِنْ أَقْدَامٍ، وَضَلَّتْ فِيهِ مِنْ أَفْهَامٍ، وَمَنْ عَرَفَ مَا عِنْدَ النَّاسِ، وَنَهَضَ مِنْ مَدِينَةِ طَبْعِهِ إِلَى السَّيْرِ إِلَى اللَّهِ، عَرَفَ مِقْدَارَهُ، فَمَنْ عَرَفَهُ عَرَفَ مَجَامِعَ الطُّرُقِ، وَمُفْتَرَقَ الطُّرُقِ، الَّتِي تَفَرَّقَتْ بِالسَّالِكِينَ، وَأَهْلِ الْعِلْمِ وَالنَّظَرِ، وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ الْمُوَفِّقُ لِلصَّوَابِ‏.‏

فَصْلٌ‏:‏ ‏[‏فِي الْفَرْقِ بَيْنَ المَحَبَّةِ وَالرِّضَا‏]‏

أَصْلُ ذَلِكَ كُلِّهِ هُوَ الْفَرْقُ بَيْنَ مَحَبَّةِ اللَّهِ وَرِضَاهُ، وَمَشِيئَتِهِ وَإِرَادَتِهِ الْكَوْنِيَّةِ، وَمَنْشَأُ الضَّلَالِ فِي هَذَا الْبَابِ مِنَ التَّسْوِيَةِ بَيْنَهُمَا، أَوِ اعْتِقَادِ تَلَازُمِهِمَا، فَسَوَّى بَيْنَهُمَا الْجَبْرِيَّةُ وَالْقَدَرِيَّةُ، وَقَالُوا‏:‏ الْمَشِيئَةُ وَالْمَحَبَّةُ سَوَاءٌ، أَوْ مُتَلَازِمَانِ‏.‏

ثُمَّ اخْتَلَفُوا، فَقَالَتِ الْجَبْرِيَّةُ‏:‏ الْكَوْنُ كُلُّهُ- قَضَاؤُهُ وَقَدَرُهُ، طَاعَتُهُ وَمَعَاصِيهِ، خَيْرُهُ وَشَرُّهُ- فَهُوَ مَحْبُوبُهُ‏.‏

ثُمَّ مَنْ تَعَبَّدَ مِنْهُمْ، وَسَلَكَ عَلَى هَذَا الِاعْتِقَادِ رَأَى أَنَّ الْأَفْعَالَ جَمِيعَهَا مَحْبُوبَةٌ لِلرَّبِّ، إِذْ هِيَ صَادِرَةٌ عَنْ مَشِيئَتِهِ، وَهِيَ عَيْنُ مَحَبَّتِهِ وَرِضَاهُ، وَفَنِيَ فِي هَذَا الشُّهُودِ الَّذِي كَانَ اعْتِقَادًا، ثُمَّ صَارَ مُشْهَدًا، فَلَزِمَ مِنْ ذَلِكَ مَا تَقَدَّمَ، مِنْ أَنَّهُ لَا يَسْتَقْبِحُ سَيِّئَةً، وَلَا يَسْتَنْكِرُ مُنْكَرًا، وَتِلْكَ اللَّوَازِمُ الْبَاطِلَةُ الْمُنَافِيَةُ لِلشَّرَائِعِ جُمْلَةً‏.‏

وَلَمَّا وَرَدَ عَلَى هَؤُلَاءِ قَوْلُهُ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ‏}‏، ‏{‏وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ‏}‏ وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا‏}‏ وَاعْتَاصَ عَلَيْهِمْ كَيْفَ يَكُونُ مَكْرُوهًا لَهُ، وَقَدْ أَرَادَ كَوْنَهُ‏؟‏ وَكَيْفَ لَا يُحِبُّهُ، وَقَدْ أَرَادَ وُجُودَهُ‏؟‏ أَوَّلُوا هَذِهِ الْآيَاتِ وَنَحْوَهَا بِأَنَّهُ لَا يُحِبُّهَا دِينًا، وَلَا يَرْضَاهَا شَرْعًا، وَيَكْرَهُهَا كَذَلِكَ، بِمَعْنَى أَنَّهُ لَا يَشْرَعُهَا، مَعَ كَوْنِهِ يُحِبُّ وُجُودهَا وَيُرِيدُهُ‏.‏

فَشَهِدُوا فِي مَقَامِ الْفَنَاءِ كَوْنَهَا مَحْبُوبَةَ الْوُجُودِ، وَرَأَوْا أَنَّ الْمَحَبَّةَ تَقْتَضِي مُوَافَقَةَ الْمَحْبُوبِ فِيمَا يُحِبُّهُ، وَالْكَوْنُ كُلُّهُ مَحْبُوبُهُ، فَأَحَبُّوا- بِزَعْمِهِمْ- جَمِيعَ مَا فِي الْكَوْنِ، وَكَذَبُوا وَتَنَاقَضُوا، فَإِنَّمَا أَحَبُّوا مَا تَهْوَاهُ نُفُوسُهُمْ وَإِرَادَتُهُمْ، فَإِذَا كَانَ فِي الْكَوْنِ مَا لَا يُلَائِمُ أَحَدَهُمْ وَيَكْرَهُهُ طَبْعُهُ أَبْغَضَهُ، وَنَفَرَ مِنْهُ وَكَرِهَهُ، مَعَ كَوْنِهِ مُرَادًا لِلْمَحْبُوبِ، فَأَيْنَ الْمُوَافَقَةُ‏؟‏ وَإِنَّمَا وَافَقُوا أَهْوَاءَهُمْ وَإِرَادَاتَهُمْ‏.‏

ثُمَّ بَنَوْا عَلَى ذَلِكَ أَنَّهُمْ مَأْمُورُونَ بِالرِّضَاءِ بِالْقَضَاءِ، وَهَذِهِ قَضَاءٌ مِنْ قَضَائِهِ، فَنَحْنُ نَرْضَى بِهَا، فَمَا لَنَا وَلِإِنْكَارِهَا وَمُعَادَاةِ فَاعِلِهَا، وَنَحْنُ مَأْمُورُونَ بِالرِّضَا بِالْقَضَاءِ‏؟‏ فَتَرَكَّبَ مِنِ اعْتِقَادِهِمْ كَوْنُهَا مَحْبُوبَةً لِلرَّبِّ، وَكَوْنُهُمْ مَأْمُورِينَ بِالرِّضَا بِهَا، وَالتَّسْوِيَةِ بَيْنَ الْأَفْعَالِ، وَعَدَمِ اسْتِقْبَاحِ شَيْءٍ مِنْهَا أَوْ إِنْكَارِهِ‏.‏

وَانْضَافَ إِلَى ذَلِكَ اعْتِقَادُهُمْ جَبْرَ الْعَبْدِ عَلَيْهَا، وَأَنَّهَا لَيْسَتْ فِعْلَهُ‏.‏

فَلَزِمَ مِنْ ذَلِكَ رَفْعُ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ، وَطَيُّ بِسَاطِ الشَّرْعِ، وَالِاسْتِسْلَامُ لِلْقَدَرِ، وَالذَّهَابُ مَعَهُ حَيْثُ كَانَ، وَصَارَتْ لَهُمْ هَذِهِ الْعَقَائِدُ مَشَاهِدَ، وَكُلُّ أَحَدٍ إِذَا ارْتَاضَ وَصَفَا بَاطِنُهُ تَجَلَّى لَهُ فِيهِ صُورَةُ مُعْتَقَدِهِ، فَهُوَ يُشَاهِدُهَا بِقَلْبِهِ فَيَظُنُّهَا حَقًّا، فَهَذَا حَالُ هَذِهِ الطَّائِفَةِ‏.‏

وَقَالَتِ الْقَدَرِيَّةُ النُّفَاةُ‏:‏ لَيْسَتِ الْمَعَاصِي مَحْبُوبَةً لِلَّهِ وَلَا مَرَضِيَّةً لَهُ، فَلَيْسَتْ مُقَدَّرَةً لَهُ وَلَا مَقْضِيَّةً، فَهِيَ خَارِجَةٌ عَنْ مَشِيئَتِهِ وَخَلْقِهِ‏.‏

قَالُوا‏:‏ وَنَحْنُ مَأْمُورُونَ بِالرِّضَا بِالْقَضَاءِ، وَمَأْمُورُونَ بِسُخْطِ هَذِهِ الْأَفْعَالِ وَبُغْضِهَا وَكَرَاهَتِهَا، فَلَيْسَتْ إِذًا بِقَضَاءِ اللَّهِ، إِذِ الرِّضَا وَالْقَضَاءُ مُتَلَازِمَانِ، كَمَا أَنَّ مَحَبَّتَهُ وَمَشِيئَتَهُ مُتَلَازِمَانِ، أَوْ مُتَّحِدَانِ‏.‏

وَهَؤُلَاءِ لَا يَجِيءُ مِنْ سَالِكِيهِمْ وَعُبَّادِهِمْ مَا جَاءَ مِنْ سَالِكِي الْجَبْرِيَّةِ وَعُبَّادِهِمُ الْبَتَّةَ، لِمُنَافَاةِ عَقَائِدِهِمْ لِمَشَاهِدِ أُولَئِكَ وَعَقَائِدِهِمْ، بَلْ غَايَتُهُمُ التَّعَبُّدُ وَالْوَرَعُ، وَهُمْ فِي تَعْظِيمِ الذُّنُوبِ وَالْمَعَاصِي خَيْرٌ مِنْ أُولَئِكَ، وَأُولَئِكَ قَدْ يَكُونُونَ أَقْوَى حَالًا وَتَأْثِيرًا مِنْهُمْ‏.‏

فَمَنْشَأُ الْغَلَطِ التَّسْوِيَةُ بَيْنَ الْمَشِيئَةِ وَالْمَحَبَّةِ، وَاعْتِقَادُهُمْ وُجُوبَ الرِّضَا بِالْقَضَاءِ، وَنَحْنُ نُبَيِّنُ مَا فِي الْفَصْلَيْنِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، فَإِنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا‏.‏

فَصْلٌ‏:‏ الْفَرْقُ بَيْنَ الْمَشِيئَةِ وَالْمَحَبَّةِ

فَأَمَّا الْمَشِيئَةُ، وَالْمَحَبَّةُ فَقَدْ دَلَّ عَلَى الْفَرْقِ بَيْنَ الْمَشِيئَةِ وَالْمَحَبَّةِ بَيْنَهُمَا الْقُرْآنُ وَالسَّنَةُ، وَالْعَقْلُ، وَالْفِطْرَةُ، وَإِجْمَاعُ الْمُسْلِمِينَ‏.‏

قَالَ اللَّهُ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ‏}‏ فَقَدْ أَخْبَرَ أَنَّهُ لَا يَرْضَى بِمَا يَبَيِّتُونَهُ مِنَ الْقَوْلِ الْمُتَضَمِّنِ الْبَهْتَ وَرَمْيَ الْبَرِيءِ، وَشَهَادَةَ الزُّورِ، وَبَرَاءَةَ الْجَانِي، فَإِنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي قِصَّةٍ هَذَا شَأْنُهَا، مَعَ أَنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ بِمَشِيئَتِهِ، إِذْ أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّهُ مَا شَاءَ اللَّهُ كَانَ وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ، وَلَمْ يُخَالِفْ فِي ذَلِكَ إِلَّا الْقَدَرِيَّةُ الْمَجُوسِيَّةُ، الَّذِينَ يَقُولُونَ‏:‏ يَشَاءُ مَا لَا يَكُونُ، وَيَكُونُ مَا لَا يَشَاءُ‏.‏

وَتَأْوِيلُ مَنْ تَأَوَّلَ الْآيَةَ عَلَى أَنَّهُ لَا يَرْضَاهُ دِينًا، مَعَ مَحَبَّتِهِ لِوُقُوعِهِ مِمَّا يَنْبَغِي أَنْ يُصَانَ كَلَامُ اللَّهِ عَنْهُ، إِذِ الْمَعْنَى عِنْدَهُمْ أَنَّهُ مَحْبُوبٌ لَهُ، وَلَكِنْ لَا يُثَابُ فَاعِلُهُ عَلَيْهِ، فَهُوَ مَحْبُوبٌ بِالْمَشِيئَةِ، غَيْرُ مُثَابٍ عَلَيْهِ شَرْعًا‏.‏

وَمَذْهَبُ سَلَفِ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتُهَا أَنَّهُ مَسْخُوطٌ لِلرَّبِّ، مَكْرُوهٌ لَهُ قَدَرًا وَشَرْعًا، مَعَ أَنَّهُ وُجِدَ بِمَشِيئَتِهِ وَقَضَائِهِ، فَإِنَّهُ يَخْلُقُ مَا يُحِبُّ وَمَا يَكْرَهُ، وَهَذَا كَمَا أَنَّ الْأَعْيَانَ كُلَّهَا خَلْقُهُ، وَفِيهَا مَا يُبْغِضُهُ وَيَكْرَهُهُ- كَإِبْلِيسَ وَجُنُودِهِ، وَسَائِرِ الْأَعْيَانِ الْخَبِيثَةِ- وَفِيهَا مَا يُحِبُّهُ وَيَرْضَاهُ- كَأَنْبِيَائِهِ وَرُسُلِهِ، وَمَلَائِكَتِهِ وَأَوْلِيَائِهِ- وَهَكَذَا الْأَفْعَالُ كُلُّهَا مِنْهَا مَا هُوَ مَحْبُوبٌ لَهُ وَمَا هُوَ مَكْرُوهٌ لَهُ، خَلَقَهُ لِحِكْمَةٍ لَهُ فِي خَلْقِ مَا يَكْرَهُ وَيُبْغِضُ كَالْأَعْيَانِ، وَقَالَ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ‏}‏ مَعَ أَنَّهُ بِمَشِيئَتِهِ وَقَضَائِهِ وَقَدَرِهِ، وَقَالَ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ‏}‏ فَالْكُفْرُ وَالشُّكْرُ وَاقِعَانِ بِمَشِيئَتِهِ وَقَدْرِهِ، وَأَحَدُهُمَا مَحْبُوبٌ لَهُ مُرْضٍ، وَالْآخَرُ مَبْغُوضٌ لَهُ مَسْخُوطٌ‏.‏

وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ عُقَيْبَ مَا نَهَى عَنْهُ مِنَ الشِّرْكِ وَالظُّلْمِ وَالْفَوَاحِشِ وَالْكِبْرِ ‏{‏كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا‏}‏ فَهُوَ مَكْرُوهٌ لَهُ، مَعَ وُقُوعِهِ بِمَشِيئَتِهِ وَقَضَائِهِ وَقَدَرِهِ‏.‏

وَفِي الصَّحِيحِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ إِنَّ اللَّهَ كَرِهَ لَكُمْ ثَلَاثًا‏:‏ قِيلَ وَقَالَ، وَكَثْرَةَ السُّؤَالِ، وَإِضَاعَةَ الْمَالِ فَهَذِهِ كَرَاهَةٌ لِمَوْجُودٍ تَعَلَّقَتْ بِهِ الْمَشِيئَةُ‏.‏

وَفِي الْمُسْنَدِ ‏"‏ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ أَنْ يُؤْخَذَ بِرُخَصِهِ، كَمَا يَكْرَهُ أَنْ تُؤْتَى مَعْصِيَتُهُ ‏"‏ فَهَذِهِ مَحَبَّةٌ وَكَرَاهَةٌ لِأَمْرَيْنِ مَوْجُودَيْنِ، اجْتَمَعَا فِي الْمَشِيئَةِ، وَافْتَرَقَا فِي الْمَحَبَّةِ وَالْكَرَاهَةِ، وَهَذَا فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ أَكْثَرُ مِنْ أَنْ يُذْكَرَ جَمِيعُهُ‏.‏

وَقَدْ فَطَرَ اللَّهُ عِبَادَهُ عَلَى قَوْلِهِمْ‏:‏ هَذَا الْفِعْلُ يُحِبُّهُ اللَّهُ، وَهَذَا يَكْرَهُهُ اللَّهُ وَيُبْغِضُهُ وَفُلَانٌ يَفْعَلُ مَا لَا يُحِبُّهُ اللَّهُ، وَالْقُرْآنُ مَمْلُوءٌ بِذِكْرِ سُخْطِهِ وَغَضَبِهِ عَلَى أَعْدَائِهِ، وَذَلِكَ صِفَةٌ قَائِمَةٌ بِهِ، يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا الْعَذَابُ وَاللَّعْنَةُ، لَا أَنَّ السُّخْطَ هُوَ نَفْسُ الْعَذَابِ وَاللَّعْنَةِ بَلْ هُمَا أَثَرُ السُّخْطِ وَالْغَضَبِ وَمُوجَبُهُمَا، وَلِهَذَا يُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا كَمَا قَالَ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا‏}‏ فَفَرَّقَ بَيْنَ عَذَابِهِ وَغَضَبِهِ وَلَعْنَتِهِ، وَجَعَلَ كُلَّ وَاحِدٍ غَيْرَ الْآخَرِ‏.‏

وَكَانَ مِنْ دُعَاءِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِرِضَاكَ مِنْ سُخْطِكَ، وَأَعُوذُ بِمُعَافَاتِكَ مِنْ عُقُوبَتِكَ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْكَ‏.‏

فَتَأَمَّلْ ذِكْرَ اسْتِعَاذَتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِصِفَةِ الرِّضَا مِنْ صِفَةِ السُّخْطِ وَبِفِعْلِ الْمُعَافَاةِ مِنْ فِعْلِ الْعُقُوبَةِ، فَالْأَوَّلُ لِلصِّفَةِ، وَالثَّانِي لِأَثَرِهَا الْمُتَرَتِّبِ عَلَيْهَا، ثُمَّ رَبَطَ ذَلِكَ كُلَّهُ بِذَاتِهِ سُبْحَانَهُ، وَأَنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ رَاجِعٌ إِلَيْهِ وَحْدَهُ، لَا إِلَى غَيْرِهِ، فَمَا أَعُوذُ مِنْهُ وَاقِعٌ بِمَشِيئَتِكَ وَإِرَادَتِكَ، وَمَا أَعُوذُ بِهِ مِنْ رِضَاكَ وُمُعَافَاتِكَ هُوَ بِمَشِيئَتِكَ وَإِرَادَتِكَ، إِنْ شِئْتَ أَنْ تَرْضَى عَنْ عَبْدِكَ وَتُعَافِيَهُ، وَإِنْ شِئْتَ أَنْ تَغْضَبَ عَلَيْهِ وَتُعَاقِبَهُ، فَإِعَاذَتِي مِمَّا أَكْرَهُ وَأَحْذَرُ، وَمَنْعُهُ أَنْ يَحِلَّ بِي هُوَ بِمَشِيئَتِكَ أَيْضًا، فَالْمَحْبُوبُ وَالْمَكْرُوهُ كُلُّهُ بِقَضَائِكَ وَمَشِيئَتِكَ، فَعِيَاذِي بِكَ مِنْكَ عِيَاذِي بِحَوْلِكَ وَقُوَّتِكَ وَقُدْرَتِكَ وَرَحْمَتِكَ وَإِحْسَانِكَ مِمَّا يَكُونُ بِحَوْلِكَ وَقُوَّتِكَ وَقُدْرَتِكَ وَعَدْلِكَ وَحِكْمَتِكَ، فَلَا أَسْتَعِيذُ بِغَيْرِكَ مِنْ غَيْرِكَ، وَلَا أَسْتَعِيذُ إِلَّا بِكَ مِنْ شَيْءٍ هُوَ صَادِرٌ عَنْ مَشِيئَتِكَ وَخَلْقِكَ، بَلْ هُوَ مِنْكَ، وَلَا أَسْتَعِيذُ بِغَيْرِكَ مِنْ شَيْءٍ هُوَ صَادِرٌ عَنْ مَشِيئَتِكَ وَقَضَائِكَ، بَلْ أَنْتَ الَّذِي تُعِيذُنِي بِمَشِيئَتِكَ مِمَّا هُوَ كَائِنٌ بِمَشِيئَتِكَ، فَأَعُوذُ بِكَ مِنْكَ‏.‏

وَلَا يَعْلَمُ مَا فِي هَذِهِ الْكَلِمَاتِ- مِنَ التَّوْحِيدِ وَالْمَعَارِفِ وَالْعُبُودِيَّةِ- إِلَّا الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ بِاللَّهِ وَمَعْرِفَتِهِ، وَمَعْرِفَةِ عُبُودِيَّتِهِ‏.‏

وَأَشَرْنَا إِلَى شَيْءٍ يَسِيرٍ مِنْ مَعْنَاهَا، وَلَوِ اسْتَقْصَيْنَا شَرْحَهَا لَقَامَ مِنْهُ سِفْرٌ ضَخْمٌ، وَلَكِنْ قَدْ فُتِحَ لَكَ الْبَابُ، فَإِنْ دَخَلْتَ رَأَيْتَ مَا لَا عَيْنٌ رَأَتْ، وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ، وَلَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ‏.‏

وَالْمَقْصُودُ أَنَّ انْقِسَامَ الْكَوْنِ فِي أَعْيَانِهِ وَصِفَاتِهِ وَأَفْعَالِهِ إِلَى مَحْبُوبٍ لِلرَّبِّ مَرَضِيٍّ لَهُ، وَمَسْخُوطٍ مَبْغُوضٍ لَهُ مَكْرُوهٍ لَهُ أَمْرٌ مَعْلُومٌ بِجَمِيعِ أَنْوَاعِ الْأَدِلَّةِ، مِنَ الْعَقْلِ وَالنَّقْلِ، وَالْفِطْرَةِ وَالِاعْتِبَارِ، فَمَنْ سَوَّى بَيْنَ ذَلِكَ كُلِّهِ فَقَدْ خَالَفَ فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ عَلَيْهَا عِبَادَهُ، وَخَالَفَ الْمَعْقُولَ وَالْمَنْقُولَ، وَخَرَجَ عَمَّا جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ‏.‏

وَلِأَيِّ شَيْءٍ نَوَّعَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ الْعُقُوبَاتِ الْبَلِيغَةَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَأَشْهَدَ عِبَادَهُ مِنْهَا مَا أَشْهَدَهُمْ‏؟‏ لَوْلَا شِدَّةُ غَضَبِهِ وَسُخْطِهِ عَلَى الْفَاعِلِينَ لَمَا اشْتَدَّتْ كَرَاهَتُهُ وَبُغْضُهُ لَهُ، فَأَوْجَبَتْ تِلْكَ الْكَرَاهَةُ وَالْبُغْضُ مِنْهُ وُقُوعَ أَنْوَاعِ الْمَكَارِهِ بِهِمْ، كَمَا أَنَّ مَحَبَّتَهُ لِمَا يُحِبُّهُ مِنَ الْأَفْعَالِ وَيَرْضَاهُ أَوْجَبَتْ وُقُوعَ أَنْوَاعِ الْمَحَابِّ لِمَنْ فَعَلَهَا، وَشُهُودَ مَا فِي الْعَالَمِ مِنْ إِكْرَامِ أَوْلِيَائِهِ، وَإِتْمَامِ نِعَمِهِ عَلَيْهِمْ، وَنَصْرِهِمْ وَإِعْزَازِهِمْ، وَإِهَانَةِ أَعْدَائِهِ وَعُقُوبَتِهِمْ، وَإِيقَاعِ الْمَكَارِهِ بِهِمْ مِنْ أَدَلِّ الدَّلِيلِ عَلَى حُبِّهِ وَبُغْضِهِ وَكَرَاهَتِهِ، بَلْ نَفْسُ مُوَالَاتِهِ لِمَنْ وَالَاهُ، وَمُعَادَاتِهِ لِمَنْ عَادَاهُ هِيَ عَيْنُ مَحَبَّتِهِ وَبُغْضِهِ، فَإِنَّ الْمُوَالَاةَ أَصْلُهَا الْحُبُّ، وَالْمُعَادَاةَ أَصْلُهَا الْبُغْضُ، فَإِنْكَارُ صِفَةِ الْمَحَبَّةِ وَالْكَرَاهَةِ، إِنْكَارٌ لِحَقِيقَةِ الْمُوَالَاةِ وَالْمُعَادَاةِ‏.‏

وَبِالْجُمْلَةِ فَشُهُودُ الْقُلُوبِ لِمَحَبَّتِهِ وَكَرَاهَتِهِ، كَشُهُودِ الْعِيَانِ لِكَرَامَتِهِ وَإِهَانَتِهِ‏.‏

فَصْلٌ‏:‏ ‏[‏حَدِيثُ الرِّضَا بِالْقَضَاءِ‏]‏

وَأَمَّا حَدِيثُ الرِّضَا بِالْقَضَاءِ فَيُقَالُ‏:‏

أَوْلًا‏:‏ بِأَيِّ كِتَابٍ، أَمْ بِأَيِّ سُنَّةٍ، أَمْ بِأَيِّ مَعْقُولٍ عَلِمْتُمْ وُجُوبَ الرِّضَا بِكُلِّ مَا يَقْضِيهِ وَيُقَدِّرُهُ‏؟‏ بَلْ بِجَوَازِ ذَلِكَ، فَضْلًا عَنْ وُجُوبِهِ‏؟‏ هَذَا كِتَابُ اللَّهِ، وَسُنَّةُ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَدِلَّةُ الْعُقُولِ، لَيْسَ فِي شَيْءٍ مِنْهَا الْأَمْرُ بِذَلِكَ، وَلَا إِبَاحَتُهُ‏.‏

بَلْ مِنَ الْمَقْضِيِّ مَا يَرْضَى بِهِ، وَمِنْهُ مَا يُسْخِطُهُ وَيَمْقُتُهُ، فَلَا نَرْضَى بِكُلِّ قَضَاءٍ كَمَا لَا يَرْضَى بِهِ الْقَاضِي لِأَقْضِيَتِهِ سُبْحَانَهُ، بَلْ مِنَ الْقَضَاءِ مَا يُسْخِطُهُ، كَمَا أَنَّ مِنَ الْأَعْيَانِ الْمَقْضِيَّةِ مَا يَغْضَبُ عَلَيْهِ، وَيَمْقُتُ عَلَيْهِ، وَيَلْعَنُ وَيَذُمُّ‏.‏

وَيُقَالُ ثَانِيًا‏:‏ هَاهُنَا أَمْرَانِ قَضَاءٌ وَهُوَ فِعْلٌ قَائِمٌ بِذَاتِ الرَّبِّ تَعَالَى، وَمَقْضِيٌّ وَهُوَ الْمَفْعُولُ الْمُنْفَصِلُ عَنْهُ، فَالْقَضَاءُ خَيْرٌ كُلُّهُ، وَعَدْلٌ وَحِكْمَةٌ، فَيَرْضَى بِهِ كُلِّهِ، وَالْمَقْضِيُّ قِسْمَانِ‏:‏ مِنْهُ مَا يَرْضَى بِهِ، وَمِنْهُ مَا لَا يَرْضَى بِهِ‏.‏

وَهَذَا جَوَابُ مَنْ يَقُولُ‏:‏ الْفِعْلُ غَيْرُ الْمَفْعُولِ، وَالْقَضَاءُ غَيْرُ الْمَقْضِيِّ‏.‏

وَأَمَّا مَنْ يَقُولُ‏:‏ إِنَّ الْفِعْلَ هُوَ عَيْنُ الْمَفْعُولِ، وَالْقَضَاءَ هُوَ عَيْنُ الْمَقْضِيِّ، فَلَا يُمْكِنُهُ أَنْ يُجِيبَ بِهَذَا الْجَوَابِ‏.‏

وَيُقَالُ ثَالِثًا‏:‏ الْقَضَاءُ لَهُ وَجْهَانِ‏:‏

أَحَدُهُمَا‏:‏ تَعَلُّقُهُ بِالرَّبِّ تَعَالَى، وَنِسْبَتُهُ إِلَيْهِ، فَمِنْ هَذَا الْوَجْهِ يَرْضَى بِهِ كُلِّهِ‏.‏

الْوَجْهُ الثَّانِي‏:‏ تَعَلُّقُهُ بِالْعَبْدِ وَنِسْبَتُهُ إِلَيْهِ فَمِنْ هَذَا الْوَجْهِ يَنْقَسِمُ إِلَى مَا يَرْضَى بِهِ، وَإِلَى مَا لَا يَرْضَى بِهِ‏.‏

مِثَالُ ذَلِكَ‏:‏ قَتْلُ النَّفْسِ- مَثَلًا- لَهُ اعْتِبَارَانِ، فَمِنْ حَيْثُ إِنَّهُ قَدَّرَهُ اللَّهُ وَقَضَاهُ وَكَتَبَهُ وَشَاءَهُ، وَجَعَلَهُ أَجَلًا لِلْمَقْتُولِ، وَنِهَايَةً لِعُمْرِهِ يَرْضَى بِهِ، وَمِنْ حَيْثُ إِنَّهُ صَدَرَ مِنَ الْقَاتِلِ، وَبَاشَرَهُ وَكَسَبَهُ، وَأَقْدَمَ عَلَيْهِ بِاخْتِيَارِهِ، وَعَصَى اللَّهَ بِفِعْلِهِ يَسْخَطُهُ وَلَا يَرْضَى بِهِ‏.‏

فَهَذِهِ نِهَايَةُ أَقْدَامِ الْعَالَمِ، الْمُقِرِّينَ بِالنُّبُوَّاتِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، وَمُفْتَرَقُ طُرُقِهِمْ، قَدْ حَصَرْتُ لَكَ أَقْوَالَهُمْ وَمَآخِذَهُمْ، وَأُصُولَ تِلْكَ الْأَقْوَالِ، بِحَيْثُ لَا يَشِذُّ مِنْهَا شَيْءٌ، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ‏.‏

وَلَا تُنْكِرِ الْإِطَالَةَ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ، فَإِنَّهُ مَزَلَّةُ أَقْدَامِ الْخَلْقِ، وَمَا نَجَا مِنْ مَعَاطِبِهِ إِلَّا أَهْلُ الْبَصَائِرِ وَالْمَعْرِفَةِ بِاللَّهِ وَصِفَاتِهِ وَأَمْرِهِ وَشَرَائِعِهِ‏.‏

فَصْلٌ‏:‏ تَوْبَةُ الْعَامَّةِ

ثُمَّ قَالَ صَاحِبُ الْمَنَازِلِ‏:‏

فَتَوْبَةُ الْعَامَّةِ الِاسْتِكْثَارُ مِنَ الطَّاعَةِ، وَهُوَ يَدْعُو إِلَى جُحُودِ نِعْمَةِ السَّتْرِ وَالْإِمْهَالِ، وَرُؤْيَةِ الْحَقِّ عَلَى اللَّهِ، وَالِاسْتِغْنَاءِ- الَّذِي هُوَ عَيْنُ الْجَبَرُوتِ- وَالتَّوَثُّبِ عَلَى اللَّهِ‏.‏

‏"‏ الْعَامَّةُ ‏"‏ عِنْدَهُمْ مَنْ عَدَا بَابَ الْجَمْعِ وَالْفَنَاءِ، وَإِنْ كَانُوا أَهْلَ سُلُوكٍ وَإِرَادَةٍ وَعِلْمٍ، هَذَا مُرَادُهُمْ بِالْعَامَّةِ، وَيُسَمُّونَهُمْ ‏"‏ أَهْلَ الْفَرْقِ ‏"‏ وَيُسَمِّيهِمْ غُلَاتُهُمُ ‏"‏ الْمَحْجُوبِينَ ‏"‏‏.‏

وَمُرَادُهُ أَنَّ تَوْبَتَهُمْ مَدْخُولَةٌ عِنْدَ الْخَوَاصِّ مَنْقُوصَةٌ، فَإِنَّ تَوْبَتَهُمْ مِنِ اسْتِكْثَارِهِمْ لِمَا يَأْتُونَ بِهِ مِنَ الْحَسَنَاتِ وَالطَّاعَاتِ، أَيْ رُؤْيَتِهِمْ كَثْرَتَهَا، وَذَلِكَ يَتَضَمَّنُ ثَلَاثَ مَفَاسِدَ عِنْدَ الْخَاصَّةِ‏:‏

إِحْدَاهَا‏:‏ أَنَّ حَسَنَاتِهِمُ الَّتِي يَأْتُونَ بِهَا سَيِّئَاتٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَقَامِ الْخَاصَّةِ، فَإِنَّ حَسَنَاتِ الْأَبْرَارِ سَيِّئَاتُ الْمُقَرَّبِينَ، فَهُمْ مُحْتَاجُونَ إِلَى التَّوْبَةِ مِنْ هَذِهِ الْحَسَنَاتِ، فَلِغَفْلَتِهِمْ- بِاسْتِكْثَارِهَا- عَنْ عُيُوبِهَا وَرُؤْيَتِهَا وَمُلَاحَظَتِهَا هُمْ جَاحِدُونَ نِعْمَةَ اللَّهِ فِي سَتْرِهَا عَلَيْهِمْ وَإِمْهَالِهِمْ، كَسَتْرِهِ عَلَى أَهْلِ الذُّنُوبِ الظَّاهِرَةِ تَحْتَ سَتْرِهِ وَإِمْهَالِهِ، لَكِنَّ أَهْلَ الذُّنُوبِ مُقِرُّونَ بِسَتْرِهِ وَإِمْهَالِهِ، وَهَؤُلَاءِ جَاحِدُونَ لِذَلِكَ، لِأَنَّهُمْ قَدْ تَوَفَّرَتْ هِمَمُهُمْ عَلَى اسْتِكْثَارِهِمْ مِنَ الْحَسَنَاتِ، دُونَ مُطَالَعَةِ عَيْبِ النَّفْسِ وَالْعَمَلِ، وَالتَّفْتِيشِ عَلَى دَسَائِسِهِمَا، وَأَنَّ الْحَامِلَ لَهُمْ عَلَى اسْتِكْثَارِهَا رُؤْيَتُهَا وَالْإِعْجَابُ بِهَا، وَلَوْ تَفَرَّغُوا لِتَفْتِيشِهَا، وَمُحَاسَبَةِ النَّفْسِ عَلَيْهَا، وَالتَّمْيِيزِ بَيْنَ مَا فِيهَا مِنَ الْحَظِّ وَالْحَقِّ، لَشَغَلَهُمْ ذَلِكَ عَنِ اسْتِكْثَارِهَا، وَلِأَجْلِ هَذَا كَانَ مِنْ عَدِمَ الْحُضُورَ وَالْمُرَاقَبَةَ وَالْجَمْعِيَّةَ فِي الْعَمَلِ، خَفَّ عَلَيْهِ وَاسْتَكْثَرَ مِنْهُ، فَكَثُرَ فِي عَيْنِهِ، وَصَارَ بِمَنْزِلَةِ الْعَادَةِ، فَإِذَا أَخَذَ نَفْسَهُ بِتَخْلِيصِهَا مِنَ الشَّوَائِبِ، وَتَنْقِيَتِهَا مِنَ الْكَدَرِ، وَمَا فِي ذَلِكَ مِنْ شَوْكِ الرِّيَاءِ وَشِبْرِقِ الْإِعْجَابِ، وَجَمْعِيَّةِ الْقَلْبِ وَالْهَمِّ عَلَى اللَّهِ بِكُلِّيَّتِهِ وَجَدَ لَهُ ثِقَلًا كَالْجِبَالِ، وَقَلَّ فِي عَيْنِهِ، وَلَكِنْ إِذَا وَجَدَ حَلَاوَتَهُ سَهُلَ عَلَيْهِ حَمْلُ أَثْقَالِهِ، وَالْقِيَامُ بِأَعْبَائِهِ، وَالتَّلَذُّذُ وَالتَّنَعُّمُ بِهِ مَعَ ثِقَلِهِ‏.‏

وَإِذَا أَرَدْتَ فَهْمَ هَذَا الْقَدْرِ كَمَا يَنْبَغِي، فَانْظُرْ وَقْتَ أَخْذِكَ فِي الْقِرَاءَةِ إِذَا أَعْرَضْتَ عَنْ وَاجِبِهَا وَتَدَبُّرِهَا وَتَعَقُّلِهَا، وَفَهْمِ مَا أُرِيدَ بِكُلِّ آيَةٍ، وَحَظِّكَ مِنَ الْخِطَابِ بِهَا، وَتَنْزِيلِهَا عَلَى أَدْوَاءِ قَلْبِكَ وَالتَّقَيُّدِ بِهَا، كَيْفَ تُدْرِكُ الْخَتْمَةَ- أَوْ أَكْثَرَهَا، أَوْ مَا قَرَأْتَ مِنْهَا- بِسُهُولَةٍ وَخِفَّةٍ، مُسْتَكْثِرًا مِنَ الْقِرَاءَةِ، فَإِذَا أَلْزَمْتَ نَفْسَكَ التَّدَبُّرَ وَمَعْرِفَةَ الْمُرَادِ، وَالنَّظَرَ إِلَى مَا يَخُصُّكَ مِنْهُ وَالتَّعَبُّدَ بِهِ، وَتَنْزِيلَ دَوَائِهِ عَلَى أَدْوَاءِ قَلْبِكَ، وَالِاسْتِشْفَاءَ بِهِ، لَمْ تَكَدْ تَجُوزُ السُّورَةَ أَوِ الْآيَةَ إِلَى غَيْرِهَا، وَكَذَلِكَ إِذَا جَمَعْتَ قَلْبَكَ كُلَّهُ عَلَى رَكْعَتَيْنِ، أَعْطَيْتَهُمَا مَا تَقْدِرُ عَلَيْهِ مِنَ الْحُضُورِ وَالْخُشُوعِ وَالْمُرَاقَبَةِ، لَمْ تَكَدْ أَنْ تُصَلِّيَ غَيْرَهُمَا إِلَّا بِجَهْدٍ، فَإِذَا خَلَا الْقَلْبُ مِنْ ذَلِكَ عَدَّدْتَ الرَّكَعَاتِ بِلَا حِسَابٍ، فَالِاسْتِكْثَارُ مِنَ الطَّاعَاتِ دُونَ مُرَاعَاةِ آفَاتِهَا وَعُيُوبِهَا لِيَتُوبَ مِنْهَا هِيَ تَوْبَةُ الْعَامَّةِ‏.‏

الْمَفْسَدَةُ الثَّانِيَةُ‏:‏ رُؤْيَةُ فَاعِلِهَا أَنَّ لَهُ حَقًّا عَلَى اللَّهِ فِي مُجَازَاتِهِ عَلَى تِلْكَ الْحَسَنَاتِ بِالْجَنَّاتِ وَالنَّعِيمِ وَالرِّضْوَانِ، وَلِهَذَا كَثُرَتْ فِي عَيْنِهِ مَعَ غَفْلَتِهِ عَنْ أَعْمَالِهِ، وَلَوْ كَانَتْ أَعْمَالَ الثَّقَلَيْنِ لَا تَسْتَقِلُّ بِدُخُولِ الْجَنَّةِ وَلَا النَّجَاةِ مِنَ النَّارِ، وَأَنَّهُ لَنْ يَنْجُوَ أَحَدٌ الْبَتَّةَ مِنَ النَّارِ بِعَمَلِهِ، إِلَّا بِعَفْوِ اللَّهِ وَرَحْمَتِهِ‏.‏

الثَّالِثَةُ‏:‏ اسْتِشْعَارُهُمُ الِاسْتِغْنَاءَ عَنْ مَغْفِرَةِ اللَّهِ وَعَفْوِهِ، بِمَا يَشْهَدُونَ مِنِ اسْتِحْقَاقِ الْمَغْفِرَةِ، وَالثَّوَابِ بِحَسَنَاتِهِمْ وَطَاعَاتِهِمْ، فَإِنَّ ظَنَّهُمْ أَنَّ حُصُولَ النَّجَاةِ وَالثَّوَابِ بِطَاعَاتِهِمْ، وَاسْتِكْثَارِهِمْ مِنْهَا لِذَلِكَ، وَكَثْرَتُهَا فِي عُيُونِهِمْ إِظْهَارٌ لِلِاسْتِغْنَاءِ عَنْ مَغْفِرَةِ اللَّهِ وَعَفْوِهِ، وَذَلِكَ عَيْنُ الْجَبَرُوتِ وَالتَّوَثُّبِ عَلَى اللَّهِ‏.‏

وَلَا رَيْبَ أَنَّ مُجَرَّدَ الْقِيَامِ بِأَعْمَالِ الْجَوَارِحِ، مِنْ غَيْرِ حُضُورٍ وَلَا مُرَاقَبَةٍ، وَلَا إِقْبَالٍ عَلَى اللَّهِ، قَدْ يَتَضَمَّنُ تِلْكَ الْمَفَاسِدَ الثَّلَاثَ وَغَيْرَهَا، مَعَ أَنَّهُ قَلِيلُ الْمَنْفَعَةِ دُنْيَا وَأُخْرَى، كَثِيرُ الْمُؤْنَةِ، فَهُوَ كَالْعَمَلِ عَلَى غَيْرِ مُتَابِعَةِ الْأَمْرِ وَالْإِخْلَاصِ لِلْمَعْبُودِ، فَإِنَّهُ- وَإِنْ كَثُرَ- مُتْعِبٌ غَيْرُ مُفِيدٍ، فَهَكَذَا الْعَمَلُ الْخَارِجِيُّ الْقُشُورِيُّ بِمَنْزِلَةِ النُّخَالَةِ الْكَثِيرَةِ الْمَنْظَرِ الْقَلِيلَةِ الْفَائِدَةِ، فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَكْتُبُ لِلْعَبْدِ مِنْ صِلَاتِهِ إِلَّا مَا عَقَلَ مِنْهَا‏.‏

وَهَكَذَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ سَائِرُ الْأَعْمَالِ الَّتِي يُؤْمَرُ بِالْحُضُورِ فِيهَا وَالْخُشُوعِ، كَالطَّوَافِ، وَأَعْمَالِ الْمَنَاسِكِ وَنَحْوِهَا‏.‏

فَإِنِ انْضَافَ إِلَى ذَلِكَ إِحْسَانُ ظَنِّهِ بِهَا، وَاسْتِكْثَارُهَا، وَعَدَمُ الْتِفَاتِهِ إِلَى عُيُوبِهَا وَنَقَائِصِهَا، وَالتَّوْبَةِ إِلَى اللَّهِ، وَاسْتِغْفَارِهِ مِنْهَا جَاءَتْ تِلْكَ الْمَفَاسِدُ الَّتِي ذَكَرَهَا وَمَا هُوَ أَكْثَرُ مِنْهَا‏.‏

وَقَدْ ظَنَّ بَعْضُ الشَّارِحِينَ لِكَلَامِهِ أَنَّ مُرَادَهُ الْإِزْرَاءَ بِالِاسْتِكْثَارِ مِنَ الطَّاعَاتِ، وَأَنَّ مُجَرَّدَ الْفَنَاءِ وَالشُّهُودِ وَالِاسْتِغْرَاقِ فِي حَضْرَةِ الْمُرَاقَبَةِ خَيْرٌ مِنْهَا وَأَنْفَعُ وَهَذَا بَاطِلٌ وَكَذِبٌ عَلَيْهِ وَعَلَى الطَّرِيقَةِ وَالْحَقِيقَةِ‏.‏

وَلَا رَيْبَ أَنَّ هَذِهِ طَرِيقَةُ الْمُنْحَرِفِينَ مِنَ السَّالِكِينَ، وَهُوَ تَعَبُّدٌ بِمُرَادِ الْعَبْدِ وَحَظِّهِ مِنَ اللَّهِ، وَتَقْدِيمٌ لَهُ عَلَى مُرَادِ اللَّهِ وَمَحَابِّهِ مِنَ الْعَبْدِ‏.‏

فَإِنَّ لِلْعَبْدِ حَظًّا، وَعَلَيْهِ حَقًّا، فَحَقُّ اللَّهِ عَلَيْهِ تَنْفِيذُ أَوَامِرِهِ وَالْقِيَامُ بِهَا، وَالِاسْتِكْثَارُ مِنْ طَاعَاتِهِ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ، وَالِاشْتِغَالُ بِمُحَارَبَةِ أَعْدَائِهِ وَمُجَادَلَتِهِمْ، وَلَوْ فَرَّقَ ذَلِكَ جَمْعِيَّتَهُ وَشَتَّتَ حُضُورَهُ، فَهَذَا هُوَ الْعُبُودِيَّةُ الَّتِي هِيَ مُرَادُ اللَّهِ‏.‏

وَأَمَّا الْجَمْعِيَّةُ وَالْمُرَاقَبَةُ وَالِاسْتِغْرَاقُ فِي الْفَنَاءِ، وَتَعْطِيلُ الْحَوَاسِّ وَالْجَوَارِحِ عَنْ إِرْسَالِهَا فِي الطَّاعَاتِ، وَالِاسْتِكْثَارِ مِنْهَا، فَهَذَا مُجَرَّدُ حَظِّ الْعَبْدِ وَمُرَادُهُ، وَهُوَ- بِلَا شَكٍّ- أَنْعَمُ وَأَلَذُّ وَأَطْيَبُ مِنْ تَفْرِقَةِ الِاسْتِكْثَارِ مِنَ الطَّاعَاتِ، لَا سِيَّمَا إِذَا شَهِدُوا تَفْرِقَةَ الْمُسْتَكْثِرِينَ مِنْهَا، وَقِلَّةَ نَصِيبِهِمْ مِنَ الْجَمْعِيَّةِ، فَإِنَّهُمْ تَشْتَدُّ نَفْرَتُهُمْ مِنْهُمْ، وَيَعِيبُونَ عَلَيْهِمْ، وَيُزْرُونَ بِهِمْ، وَقَدْ يُسَمُّونَ مَنْ رَأَوْهُ كَثِيرَ الصَّلَاةِ ‏"‏ ثَقَاقِيلَ الْحُصُرِ ‏"‏ وَمَنْ رَأَوْهُ كَثِيرَ الطَّوَافِ ‏"‏ حُمُرَ الْمَدَارِ ‏"‏ وَنَحْوَ ذَلِكَ‏.‏

وَقَدْ أَخْبَرَنِي مَنْ رَأَى ابْنَ سَبْعِينَ قَاعِدًا فِي طَرَفِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَهُوَ يَسْخَرُ مِنَ الطَّائِفِينَ وَيَذُمُّهُمْ، وَيَقُولُ‏:‏ كَأَنَّهُمُ الْحُمُرُ حَوْلَ الْمَدَارِ، وَنَحْوَ هَذَا، وَكَانَ يَقُولُ‏:‏ إِقْبَالُهُمْ عَلَى الْجَمْعِيَّةِ أَفْضَلُ لَهُمْ‏.‏

وَلَا رَيْبَ أَنَّ هَؤُلَاءِ مُؤْثِرُونَ لِحُظُوظِهِمْ عَلَى حُقُوقِ رَبِّهِمْ، وَاقِفُونَ مَعَ أَذْوَاقِهِمْ وَمَوَاجِيدِهِمْ، فَانِينَ بِهَا عَنْ حَقِّ اللَّهِ وَمُرَادِهِ‏.‏

وَسَمِعْتُ شَيْخَ الْإِسْلَامِ ابْنَ تَيْمِيَّةَ- قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ- يَحْكِي عَنْ بَعْضِ الْعَارِفِينَ أَنَّهُ قَالَ‏:‏ الْعَامَّةُ يَعْبُدُونَ اللَّهَ، وَهَؤُلَاءِ يَعْبُدُونَ نُفُوسَهُمْ‏.‏

وَصَدَقَ- رَحِمَهُ اللَّهُ- فَإِنَّ هَؤُلَاءِ الْمُسْتَكْثِرِينَ مِنَ الطَّاعَاتِ الذَّائِقِينَ لِرُوحِ الْعِبَادَةِ، الرَّاجِينَ ثَوَابَهَا، قَدْ رُفِعَ لَهُمْ عِلْمُ الثَّوَابِ، وَأَنَّهُ مُسَبَّبٌ عَنِ الْأَعْمَالِ، فَشَمَّرُوا إِلَيْهِ، رَاجِينَ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ أَعْمَالُهُمْ- عَلَى عَيْبِهَا وَنَقْصِهَا- بِفَضْلِ اللَّهِ، خَائِفِينَ أَنْ تُرَدَّ عَلَيْهِمْ، إِذْ لَا تَصْلُحُ لِلَّهِ وَلَا تَلِيقُ بِهِ، فَيَرُدَّهَا بِعَدْلِهِ وَحَقِّهِ، فَهُمْ مُسْتَكْثِرُونَ بِجُهْدِهِمْ مِنْ طَاعَاتِهِ بَيْنَ خَوْفِهِ وَرَجَائِهِ، وَالْإِزْرَاءِ عَلَى أَنْفُسِهِمْ، وَالْحِرْصِ عَلَى اسْتِعْمَالِ جَوَارِحِهِمْ فِي كُلِّ وَجْهٍ مِنْ وُجُوهِ الطَّاعَاتِ، رَجَاءَ مَغْفِرَتِهِ وَرَحْمَتِهِ، وَطَمَعًا فِي النَّجَاةِ، فَهُمْ يُقَاتِلُونَ بِكُلِّ سِلَاحٍ لَعَلَّهُمْ يَنْجَوْنَ‏.‏

قَالُوا‏:‏ وَأَمَّا مَا أَنْتُمْ فِيهِ مِنَ الْفَنَاءِ، وَمُشَاهَدَةِ الْحَقِيقَةِ وَالْقَيُّومِيَّةِ، وَالِاسْتِغْرَاقِ فِي ذَلِكَ فَنَحْنُ فِي شُغْلٍ عَنْهُ بِتَنْفِيذِ أَوَامِرِ صَاحِبِ الْحَقِيقَـةِ وَالْقَيُّومِيَّـةِ، وَالِاسْتِكْثَارِ مِنْ طَاعَاتِهِ، وَتَصْرِيفِ الْجَوَارِحِ فِي مَرْضَاتِهِ، كَمَا أَنَّكُمْ- بِفَنَائِكُمْ وَاسْتِغْرَاقِكُمْ فِي شُهُودِ الْحَقِيقَةِ وَحَضْرَةِ الرُّبُوبِيَّةِ- فِي شُغْلٍ عَمَّا نَحْنُ فِيهِ، فَكَيْفَ كُنْتُمْ أَوْلَى بِاللَّهِ مِنَّا، وَنَحْنُ فِي حُقُوقِهِ وَمُرَادِهِ مِنَّا، وَأَنْتُمْ فِي حُظُوظِكُمْ وَمُرَادِكُمْ مِنْهُ‏؟‏

قَالُوا‏:‏ وَقَدْ ضُرِبَ لَنَا وَلَكُمْ مَثَلٌ مُطَابِقٌ لِمَنْ تَأَمَّلَهُ بِمَلِكٍ ادَّعَى مَحَبَّتَهُ مَمْلُوكَانِ مِنْ مَمَالِيكِهِ، فَاسْتَحْضَرَهُمَا وَسَأَلَهُمَا عَنْ ذَلِكَ‏؟‏ فَقَالَا‏:‏ أَنْتَ أَحَبُّ شَيْءٍ إِلَيْنَا، وَلَا نُؤْثِرُ عَلَيْكَ غَيْرَكَ، فَقَالَ‏:‏ إِنْ كُنْتُمَا صَادِقَيْنِ فَاذْهَبَا إِلَى سَائِرِ مَمَالِيكِي وَعَرِّفَاهُمْ بِحُقُوقِي عَلَيْهِمْ، وَأَخْبِرَاهُمْ بِمَا يُرْضِينِي عَنْهُمْ، وَيُسْخِطُنِي عَلَيْهِمْ، وَابْذُلَا قُوَاكُمَا فِي تَخْلِيصِهِمْ مِنْ مَسَاخِطِي، وَنَفِّذَا فِيهِمْ أَوَامِرِي، وَاصْبِرَا عَلَى أَذَاهُمْ، وَعُودَا مَرِيضَهُمْ، وَشَيِّعَا مَيِّتَهُمْ، وَأَعِينَا ضَعِيفَهُمْ بِقُوَاكُمَا، وَأَمْوَالِكُمَا وَجَاهِكُمَا، ثُمَّ اذْهَبَا إِلَى بِلَادِ أَعْدَائِي بِهَذِهِ الْمُلَطِّفَاتِ وَخَالِطُوهُمْ، وَادْعُوهُمْ إِلَى مُوَالَاتِي، وَاشْتَغِلَا بِهِمْ، وَلَا تَخَافُوهُمْ، فَعِنْدَهُمْ مِنْ جُنْدِي وَأَوْلِيَائِي مَنْ يَكْفِيكُمَا شَرَّهُمْ‏.‏

فَأَمَّا أَحَدُ الْمَمْلُوكَيْنِ فَقَامَ مُبَادِرًا إِلَى امْتِثَالِ أَمْرِهِ، وَبَعُدَ عَنْ حَضْرَتِهِ فِي طَلَبِ مَرْضَاتِهِ‏.‏

وَأَمَّا الْآخَرُ، فَقَالَ لَهُ‏:‏ لَقَدْ غَلَبَ عَلَى قَلْبِي مِنْ مَحَبَّتِكَ، وَالِاسْتِغْرَاقِ فِي مُشَاهَدَةِ حَضْرَتِكَ وَجِمَالِكَ مَا لَا أَقْدِرُ مَعَهُ عَلَى مُفَارَقَةِ حَضْرَتِكَ وَمُشَاهَدَتِكَ‏.‏

فَقَالَ لَهُ‏:‏ إِنَّ رِضَائِي فِي أَنْ تَذْهَبَ مَعَ صَاحِبِكَ، فَتَفْعَلَ كَمَا فَعَلَ، وَإِنْ بَعُدْتَ عَنْ مُشَاهَدَتِي‏.‏

فَقَالَ‏:‏ لَا أُوثِرُ عَلَى مُشَاهَدَتِكَ وَالِاسْتِغْرَاقِ فِيكَ شَيْئًا‏.‏

فَأَيُّ الْمَمْلُوكَيْنِ أَحَبُّ إِلَى هَذَا الْمَلِكِ، وَأَحْظَى عِنْدَهُ، وَأَخَصُّ بِهِ، وَأَقْرَبُ إِلَيْهِ‏؟‏ أَهَذَا الَّذِي آثَرَ حَظَّهُ وَمُرَادَهُ وَمَا فِيهِ لَذَّتُهُ عَلَى مُرَادِ الْمَلِكِ وَأَمْرِهِ وَرِضَاهُ‏؟‏ أَمْ ذَلِكَ الَّذِي ذَهَبَ فِي تَنْفِيذِ أَوَامِرِهِ، وَفَرَّغَ لَهَا قُوَاهُ وَجَوَارِحَهُ، وَتَفَرَّقَ فِيهَا فِي كُلِّ وَجْهٍ‏؟‏ فَمَا أَوْلَاهُ أَنْ يَجْمَعَهُ أُسْتَاذَهُ عَلَيْهِ بَعْدَ قَضَاءِ أَوَامِرِهِ وَفَرَاغِهِ مِنْهَا، وَيَجْعَلَهُ مِنْ خَاصَّتِهِ وَأَهْلِ قُرْبِهِ‏!‏ وَمَا أَوْلَى صَاحِبَهُ بِأَنْ يُبْعِدَهُ عَنْ قُرْبِهِ، وَيَحْجُبَهُ عَنْ مُشَاهَدَتِهِ، وَيُفَرِّقَهُ عَنْ جَمْعِيَّتِهِ عَلَيْهِ، وَيُبَدِّلَهُ بِالتَّفْرِقَةِ الَّتِي هَرَبَ مِنْهَا- فِي تَفْرِقَةِ أَمْرِهِ- تَفْرِقَةً فِي هَوَاهُ وَمُرَادِهِ بِطَبْعِهِ وَبِنَفْسِهِ‏.‏

فَلْيَتَأَمَّلِ اللَّبِيبُ هَذَا حَقَّ التَّأَمُّلِ، وَلْيَفْتَحْ عَيْنَ بَصِيرَتِهِ، وَيَسِيرُ بِقَلْبِهِ، فَيَنْظُرَ فِي مَقَامَاتِ الْعَبِيدِ وَأَحْوَالِهِمْ وَهِمَمِهِمْ، وَمَنْ هُوَ أَوْلَى بِالْعُبُودِيَّةِ، وَمَنْ هُوَ الْبَعِيدُ مِنْهَا‏.‏

وَلَا رَيْبَ أَنَّ مَنْ أَظْهَرَ الِاسْتِغْنَاءَ عَنِ اللَّهِ وَطَاعَاتِهِ، وَتَوَثَّبَ عَلَيْهِ، وَأَوْرَثَتْهُ الطَّاعَاتُ جَبَرُوتًا وَحَجْبًا عَنْ رُؤْيَتِهِ عُيُوبَ نَفْسِهِ وَعَمَلِهِ، وَكَثُرَتْ حَسَنَاتُهُ فِي عَيْنِهِ، فَهُوَ أَبْغَضُ الْخَلْقِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَأَبْعَدُهُمْ عَنِ الْعُبُودِيَّةِ، وَأَقْرَبُهُمْ إِلَى الْهَلَاكِ، لَا مَنِ اسْتَكْثَرَ مِنَ الْبَاقِيَاتِ الصَّالِحَاتِ، وَمِنْ مِثْلِ مَا وَصَّى بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ سَأَلَهُ مُرَافَقَتَهُ فِي الْجَنَّةِ، فَقَالَ‏:‏ أَعِنِّي عَلَى نَفْسِكَ بِكَثْرَةِ السُّجُودِ وَمِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ

وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ‏}‏ قَالَ الْحَسَنُ‏:‏ مَدُّوا الصَّلَاةَ إِلَى السَّحَرِ، ثُمَّ جَلَسُوا يَسْتَغْفِرُونَ، وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏ تَابِعُوا بَيْنَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ، فَإِنَّهُمَا يَنْفِيَانِ الْفَقْرَ وَالذُّنُوبَ كَمَا يَنْفِي الْكِيرُ خَبَثَ الْحَدِيدِ وَقَالَ لِمَنْ سَأَلَهُ أَنْ يُوصِيَهُ بِشَيْءٍ يَتَشَبَّثُ بِهِ‏:‏ لَا يَزَالُ لِسَانُكَ رَطْبًا مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ‏.‏

وَالدِّينُ كُلُّهُ اسْتِكْثَارٌ مِنَ الطَّاعَاتِ، وَأَحَبُّ خَلْقِ اللَّهِ إِلَيْهِ أَعْظَمُهُمُ اسْتِكْثَارًا مِنْهَا‏.‏

وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ الْإِلَهِيِّ مَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِمِثْلِ أَدَاءِ مَا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ، وَلَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ، فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ، وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبَصِرُ بِهِ، وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا، وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا، فَبِي يَسْمَعُ، وَبِي يُبْصِرُ، وَبِي يَبْطِشُ، وَبِي يَمْشِي، وَلَئِنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنَّهُ وَلَئِنِ اسَتَعَاذَنِي لَأُعِيذَنَّهُ‏.‏

فَهَذَا جَزَاؤُهُ وَكَرَامَتُهُ لِلْمُسْتَكْثِرِينَ مِنْ طَاعَتِهِ، لَا لِأَهْلِ الْفَنَاءِ الْمُسْتَغْرِقِينَ فِي شُهُودِ الرُّبُوبِيَّةِ‏.‏

وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِآخَرَ‏:‏ عَلَيْكَ بِكَثْرَةِ السُّجُودِ، فَإِنَّكَ لَا تَسْجُدُ لِلَّهِ سَجْدَةً إِلَّا رَفَعَكَ اللَّهُ بِهَا دَرَجَةً، وَحَطَّ عَنْكَ بِهَا خَطِيئَةً‏.‏

فَصْلٌ‏:‏ وَهَذِهِ الطَّرِيقَةُ فِي الْإِرَادَةِ وَالطَّلَبِ نَظِيرُ طَرِيقَةِ التَّجَهُّمِ فِي الْعِلْمِ وَالْمَعْرِفَةِ

تِلْكَ تَعْطِيلٌ لِلصِّفَاتِ وَالتَّوْحِيدِ، وَهَذِهِ تَعْطِيلٌ لِلْأَمْرِ وَالْعُبُودِيَّةِ، وَانْظُرْ إِلَى هَذَا النَّسَبِ وَالْإِخَاءِ الَّذِي بَيْنَهُمَا، كَيْفَ شُرِكَ بَيْنَهُمَا فِي اللَّفْظِ، كَمَا شُرِكَ بَيْنَهُمَا فِي الْمَعْنَى‏؟‏ فَتِلْكَ طَرِيقَةُ النَّفْيِ، وَهَذِهِ طَرِيقَةُ الْفَنَاءِ، تِلْكَ نَفْيٌ لِصِفَاتِ الْمَعْبُودِ، وَهَذِهِ فَنَاءٌ عَنْ عُبُودِيَّتِهِ‏.‏

وَأَمَّا نَفْيُ خَوَاصِّ الْعَبِيدِ وَفَنَاؤُهُمْ فَأَمْرٌ وَرَاءَ نَفْيِ أُولَئِكَ وَفَنَائِهِمْ، لِأَنَّ نَفْيَهُمْ لِصِفَاتِ النَّقَائِصِ، وَمَا يُضَادُّ أَوْصَافَ الْكَمَالِ، وَفِنَاءَهُمْ عَنْ إِرَادَةِ غَيْرِهِ وَمَحَبَّتِهِ، وَخَوْفِهِ وَرَجَائِهِ، فَفَنَاؤُهُمْ عَنْ كُلِّ مَا يُخَالِفُ أَمْرَهُ وَمَحَابَّهُ، وَنَفْيُهُمْ لِكُلِّ مَا يُضَادُّ كَمَالَهُ وَجَلَالَهُ، وَمَنْ لَهُ فُرْقَانٌ فَهُوَ يَعْرِفُ هَذَا وَهَذَا، وَغَيْرُهُ لَا اعْتِبَارَ بِهِ‏.‏

وَصَاحِبُ الْمَنَازِلِ- رَحِمَهُ اللَّهُ- كَانَ شَدِيدَ الْإِثْبَاتِ لِلْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ، مُضَادًّا لِلْجَهْمِيَّةِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، وَلَهُ كِتَابُ الْفَارُوقِ اسْتَوْعَبَ فِيهِ أَحَادِيثَ الصِّفَاتَ وَآثَارَهَا، وَلَمْ يُسْبَقْ إِلَى مِثْلِهِ، وَكِتَابُ ذَمِّ الْكَلَامِ وَأَهْلِهِ طَرِيقَتُهُ فِيهِ أَحْسَنُ طَرِيقَةٍ، وَكِتَابٌ لَطِيفٌ فِي أُصُولِ الدِّينِ، يَسْلُكُ فِيهِ طَرِيقَةَ أَهْلِ الْإِثْبَاتِ وَيُقَرِّرُهَا، وَلَهُ مَعَ الْجَهْمِيَّةِ الْمَقَامَاتُ الْمَشْهُودَةُ، وَسَعَوْا بِقَتْلِهِ إِلَى السُّلْطَانِ مِرَارًا عَدِيدَةً، وَاللَّهُ يَعْصِمُهُ مِنْهُمْ، وَرَمَوْهُ بِالتَّشْبِيهِ وَالتَّجْسِيمِ، عَلَى عَادَةِ بَهْتِ الْجَهْمِيَّةِ وَالْمُعْتَزِلَةِ لِأَهْلِ السُّنَّةِ وَالْحَدِيثِ، الَّذِينَ لَمْ يَتَحَيَّزُوا إِلَى مَقَالَةِ غَيْرِ مَا دَلَّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ‏.‏

وَلَكِنَّهُ- رَحِمَهُ اللَّهُ- كَانَتْ طَرِيقَتُهُ فِي السُّلُوكِ مُضَادَّةً لِطَرِيقَتِهِ فِي الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ، فَإِنَّهُ لَا يُقَدِّمُ عَلَى الْفَنَاءِ شَيْئًا، وَيَرَاهُ الْغَايَةَ الَّتِي يُشَمِّرُ إِلَيْهَا السَّالِكُونَ، وَالْعِلْمَ الَّذِي يَؤُمُّهُ السَّائِرُونَ، وَاسْتَوْلَى عَلَيْهِ ذَوْقُ الْفَنَاءِ وَشُهُودُ الْجَمْعِ، وَعَظُمَ مَوْقِعُهُ عِنْدَهُ، وَاتَّسَعَتْ إِشَارَاتُهُ إِلَيْهِ، وَتَنَوَّعَتْ بِهِ الطُّرُقُ الْمُوَصِّلَةُ إِلَيْهِ، عِلْمًا وَحَالًا وَذَوْقًا، فَتَضَمَّنَ ذَلِكَ تَعْطِيلًا مِنَ الْعُبُودِيَّةِ، بَادِيًا عَلَى صَفَحَاتِ كَلَامِهِ‏.‏ وِزَانَ تَعْطِيلِ الْجَهْمِيَّةِ لِمَا اقْتَضَتْهُ أُصُولُهُمْ مِنْ نَفْيِ الصِّفَاتِ‏.‏

وَلَمَّا اجْتَمَعَ التَّعْطِيلَانِ لِمَنِ اجَتَمَعَا لَهُ- مِنَ السَّالِكِينَ- تَوَلَّدَ مِنْهُمَا الْقَوْلُ بِوَحْدَةِ الْوُجُودِ، الْمُتَضَمِّنُ لِإِنْكَارِ الصَّانِعِ وَصِفَاتِهِ، وَعُبُودِيَّتِهِ، وَعَصَمَ اللَّهُ أَبَا إِسْمَاعِيلَ بِاعْتِصَامِهِ بِطَرِيقَةِ السَّلَفِ فِي إِثْبَاتِ الصِّفَاتِ، فَأَشْرَفَ مِنْ عُقْبَةِ الْفَنَاءِ عَلَى وَادِي الِاتِّحَادِ بِأَرْضِ الْحُلُولِ، فَلَمْ يَسْلُكْ فِيهَا، وَلِوُقُوفِهِ عَلَى عُقْبَتِهِ، وَإِشْرَافِهِ عَلَى تِلْكَ الرُّبُوعِ الْخِرَابِ، وَدَعْوَةِ الْخَلْقِ إِلَى الْوُقُوفِ عَلَى تِلْكَ الْعُقْبَةِ، أَقْسَمَتِ الِاتِّحَادِيَّةُ بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إِنَّهُ لَمَعَهُمْ، وَمِنْهُمْ، وَحَاشَاهُ‏.‏

وَتَوَلَّى شَرْحَ كِتَابِهِ أَشَدُّهُمْ فِي الِاتِّحَادِ طَرِيقَةً، وَأَعْظَمُهُمْ فِيهِ مُبَالَغَةً وَعِنَادًا لِأَهْلِ الْفَرْقِ الْعَفِيفِ التِّلِمْسَانِيُّ وَنَزَّلَ الْجَمْعَ الَّذِي يُشِيرُ إِلَيْهِ صَاحِبُ الْمَنَازِلِ عَلَى جَمْعِ الْوُجُودِ، وَهُوَ لَمْ يَرِدْ بِهِ- حَيْثُ ذَكَرَهُ- إِلَّا جَمْعُ الشُّهُودِ، وَلَكِنَّ الْأَلْفَاظَ مُجْمَلَةٌ، وَصَادَفَتْ قَلْبًا مَشْحُونًا بِالِاتِّحَادِ، وَلِسَانًا فَصِيحًا مُتَمَكِّنًا مِنَ التَّعْبِيرِ عَنِ الْمُرَادِ ‏{‏وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ‏}‏‏.‏

فَصْلٌ‏:‏ تَوْبَةُ الْأَوْسَاطِ

قَالَ‏:‏ وَتَوْبَةُ الْأَوْسَاطِ مِنِ اسْتِقْلَالِ الْعَبْدِ الْمَعْصِيَةَ، وَهُوَ عَيْنُ الْجُرْأَةِ وَالْمُبَارَزَةِ، وَمَحْضُ التَّزَيُّنِ بِالْحَمِيَّةِ، وَالِاسْتِرْسَالِ لِلْقَطِيعَةِ‏.‏

يُرِيدُ أَنَّ اسْتِقْلَالَ الْمَعْصِيَةِ ذَنْبٌ، كَمَا أَنَّ اسْتِكْثَارَ الطَّاعَةِ ذَنْبٌ، وَالْعَارِفُ مَنْ صَغُرَتْ حَسَنَاتُهُ فِي عَيْنِهِ، وَعَظُمَتْ ذُنُوبُهُ عِنْدَهُ، وَكُلَّمَا صَغُرَتِ الْحَسَنَاتُ فِي عَيْنِكَ كَبُرَتْ عِنْدَ اللَّهِ، وَكُلَّمَا كَبُرَتْ وَعَظُمَتْ فِي قَلْبِكَ قَلَّتْ وَصَغُرَتْ عِنْدَ اللَّهِ، وَسَيِّئَاتُكَ بِالْعَكْسِ، وَمَنْ عَرَفَ اللَّهَ وَحَقَّهُ وَمَا يَنْبَغِي لِعَظَمَتِهِ مِنَ الْعُبُودِيَّةِ تَلَاشَتْ حَسَنَاتُهُ عِنْدَهُ، وَصَغُرَتْ جِدًّا فِي عَيْنِهِ، وَعَلِمَ أَنَّهَا لَيْسَتْ مِمَّا يَنْجُو بِهَا مِنْ عَذَابِهِ، وَأَنَّ الَّذِي يَلِيقُ بِعِزَّتِهِ، وَيَصْلُحُ لَهُ مِنَ الْعُبُودِيَّةِ أَمْرٌ آخَرُ، وَكُلَّمَا اسْتَكْثَرَ مِنْهَا اسْتَقَلَّهَا وَاسْتَصْغَرَهَا، لِأَنَّهُ كُلَّمَا اسْتَكْثَرَ مِنْهَا فُتِحَتْ لَهُ أَبْوَابُ الْمَعْرِفَةِ بِاللَّهِ وَالْقُرْبِ مِنْهُ، فَشَاهَدَ قَلْبُهُ مِنْ عَظَمَتِهِ سُبْحَانَهُ وَجَلَالِهِ مَا يَسْتَصْغِرُ مَعَهُ جَمِيعَ أَعْمَالِهِ، وَلَوْ كَانَتْ أَعْمَالَ الثَّقَلَيْنِ، وَإِذَا كَثُرَتْ فِي عَيْنِهِ وَعَظُمَتْ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ مَحْجُوبٌ عَنِ اللَّهِ، غَيْرُ عَارِفٍ بِهِ وَبِمَا يَنْبَغِي لَهُ، وَبِحَسَبِ هَذِهِ الْمَعْرِفَةِ وَمَعْرِفَتِهِ بِنَفْسِهِ يَسْتَكْثِرُ ذُنُوبَهُ وَتَعْظُمُ فِي عَيْنِهِ، لِمُشَاهَدَتِهِ الْحَقَّ وَمُسْتَحَقَّهُ، وَتَقْصِيرِهِ فِي الْقِيَامِ بِهِ، وَإِيقَاعِهِ عَلَى الْوَجْهِ اللَّائِقِ الْمُوَافِقِ لِمَا يُحِبُّهُ الرَّبُّ وَيَرْضَاهُ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ‏.‏

إِذَا عَرَفَ هَذَا، فَاسْتِقْلَالُ الْعَبْدِ الْمَعْصِيَةَ عَيْنُ الْجُرْأَةِ عَلَى اللَّهِ، وَجَهْلٌ بِقَدْرِ مَنْ عَصَاهُ وَبِقَدْرِ حَقِّهِ، وَإِنَّمَا كَانَ مُبَارَزَةً لِأَنَّهُ إِذَا اسْتَصْغَرَ الْمَعْصِيَةَ وَاسْتَقَلَّهَا هَانَ عَلَيْهِ أَمْرُهَا، وَخَفَّتْ عَلَى قَلْبِهِ، وَذَلِكَ نَوْعُ مُبَارَزَةٍ‏.‏

وَأَمَّا قَوْلُهُ‏:‏ وَمَحْضُ التَّزَيُّنِ بِالْحَمِيَّةِ، أَيْ بِالْمُحَامَاةِ عَنِ النَّفْسِ، وَإِظْهَارِ بَرَاءَةِ سَاحَتِهَا، لَا سِيَّمَا إِنِ انْضَافَ إِلَى ذَلِكَ مُشَاهَدَةُ الْحَقِيقَةِ، وَالِاحْتِجَاجُ بِالْقَدَرِ، وَقَوْلُهُ‏:‏ وَأَيُّ ذَنْبٍ لِي، وَالْمُحَرِّكُ لِي غَيْرِي، وَالْفَاعِلُ فِيَّ سِوَايَ‏؟‏ وَإِنَّمَا أَنَا كَالْمَيِّتِ بَيْنَ يَدَيِ الْغَاسِلِ‏؟‏ وَمَا حِيلَةُ مَنْ لَيْسَ لَهُ حِيلَةٌ، وَمَا قُدْرَةُ مَنْ لَيْسَ لَهُ قُدْرَةٌ‏؟‏ وَنَحْوُ هَذَا مِمَّا يَتَضَمَّنُ الْجُرْأَةَ عَلَى اللَّهِ وَمُبَارَزَتَهُ، وَالْمُحَامَاةَ عَنِ النَّفْسِ، وَاسْتِصْغَارَ ذُنُوبِهِ وَمَعَاصِيهِ إِذَا أَضَافَهَا إِلَى الْحُكْمِ، فَيَسْتَرْسِلُ إِذًا لِلْقَطِيعَةِ وَهِيَ الْمُقَاطَعَةُ لِرَبِّهِ وَالِانْقِطَاعُ عَنْهُ، فَيَصِيرُ خَصْمًا لِلَّهِ مَعَ نَفْسِهِ وَشَيْطَانِهِ، وَهَذَا حَالُ الْمُحْتَجِّينَ بِالْقَدَرِ عَلَى الذُّنُوبِ، فَإِنَّهُمْ خُصَمَاءُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَهُمْ مَعَ الشَّيَاطِينِ وَالنُّفُوسِ عَلَى اللَّهِ، وَهَذَا غَايَةُ الْبُعْدِ وَالطَّرْدِ وَالِانْقِطَاعِ عَنِ اللَّهِ‏؟‏‏.‏

فَإِنْ قُلْتَ‏:‏ فَكَيْفَ كَانَتْ تَوْبَةُ الْعَامَّةِ مِنِ اسْتِكْثَارِ الطَّاعَاتِ‏؟‏ وَتَوْبَةُ مَنْ هُمْ أَخَصُّ مِنْهُمْ، وَأَعْلَى دَرَجَةً مِنِ اسْتِقْلَالِ الْمَعْصِيَةِ‏؟‏ وَهَلَّا كَانَ الْأَمْرُ بِالضِّدِّ‏؟‏‏.‏

قُلْتُ‏:‏ الْأَوْسَاطُ لَمَّا كَانُوا أَشَدَّ طَلَبًا لِعُيُوبِ النَّفْسِ وَالْعَمَلِ، وَأَكْثَرَ تَفْتِيشًا عَلَيْهَا انْكَشَفَ لَهُمْ مِنْ ذُنُوبِهِمْ وَمَعَاصِيهِمْ مَا لَمْ يَنْكَشِفْ لِلْعَامَّةِ، وَحَرَصَ هَؤُلَاءِ عَلَى تَنْقِيَةِ أَنْفُسِهِمْ مِنَ الْآفَاتِ، وَالتَّفْتِيشِ عَلَى عُيُوبِ الْأَعْمَالِ، فَاسْتِقْلَالُ السَّيِّئَاتِ آفَةُ هَؤُلَاءِ، وَقَاطِعُ طَرِيقِهِمْ، وَاسْتِكْثَارُ الْحَسَنَاتِ وَعِظَمُهَا فِي قُلُوبِ أُولَئِكَ آفَتُهُمْ، وَقَاطِعُ طَرِيقِهِمْ، فَذِكْرُ مَا هُوَ الْأَخَصُّ الْأَغْلَبُ عَلَى كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنَ الطَّائِفَتَيْنِ‏.‏

فَصْلٌ‏:‏ تَوْبَةُ الْخَوَاصِّ

قَالَ‏:‏ وَتَوْبَةُ الْخَوَاصِّ مِنْ تَضْيِيعِ الْوَقْتِ، فَإِنَّهُ يُفْضِي إِلَى دَرْكِ النَّقِيصَةِ، وَيُطْفِئُ نُورَ الْمُرَاقَبَةِ، وَيُكَدِّرُ عَيْنَ الصُّحْبَةِ‏.‏

لَيْسَ مُرَادُهُ بِتَضْيِيعِ الْوَقْتِ إِضَاعَتَهُ فِي الِاشْتِغَالِ بِمَعْصِيَةٍ أَوْ لَغْوٍ، أَوِ الْإِعْرَاضِ عَنْ وَاجِبِهِ وَفَرْضِهِ، فَإِنَّهُمْ لَوْ أَضَاعُوهُ بِهَذَا الْمَعْنَى لَمْ يَكُونُوا مِنَ الْخَوَاصِّ، بَلْ هَذِهِ تَوْبَةُ الْعَامَّةِ بِعَيْنِهَا، وَالْوَقْتُ عِنْدَ الْقَوْمِ أَخَصُّ مِنْهُ فِي لُغَةِ الْعَرَبِ، حَتَّى إِنَّ مِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ‏:‏ الْوَقْتُ هُوَ الْحَقُّ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ‏:‏ اسْتِغْرَاقُ رَسْمِ الْعَبْدِ فِي وُجُودِ الْحَقِّ، يُشِيرُونَ إِلَى الْفَنَاءِ فِي حَضْرَةِ الْجَمْعِ، وَالْغَالِبُ عَلَى اصْطِلَاحِهِمْ أَنَّهُ مِنَ الْإِقْبَالِ عَلَى اللَّهِ بِالْمُرَاقَبَةِ، وَالْحُضُورِ وَالْفَنَاءِ فِي الْوَحْدَانِيَّةِ، وَيَقُولُونَ‏:‏ هُوَ صَاحِبُ وَقْتٍ مَعَ اللَّهِ، فَخَصُّوا الْوَقْتَ بِهَذَا الِاسْمِ تَخْصِيصًا لِلَّفْظِ الْعَامِّ بِبَعْضِ أَفْرَادِهِ، وَإِلَّا فَكُلُّ مَنْ هُوَ مَشْغُولٌ بِأَمْرٍ يُعْنَى بِهِ فَانٍ فِي شُهُودِهِ وَطَلَبِهِ، فَلَهُ وَقْتٌ مَعَهُ، بَلْ أَوْقَاتُهُ مُسْتَغْرَقَةٌ فِيهِ‏.‏

فَتَوْبَةُ هَؤُلَاءِ مِنْ إِضَاعَةِ هَذَا الْوَقْتِ الْخَاصِّ الَّذِي هُوَ وَقْتُ وَجْدٍ صَادِقٍ، وَحَالٍ صَحِيحَةٍ مَعَ اللَّهِ لَا يُكَدِّرُهَا الْأَغْيَارُ‏.‏

وَرُبَّمَا يَمُرُّ بِكَ إِشْبَاعُ الْقَوْلِ فِي الْوَقْتِ وَالْفَرْقِ بَيْنَ الصَّحِيحِ مِنْهُ وَالْفَاسِدِ فِيمَا بَعْدُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ‏.‏

وَالْقَصْدُ أَنَّ إِضَاعَةَ الْوَقْتِ الصَّحِيحِ يَدْعُو إِلَى دَرْكِ النَّقِيصَةِ، إِذْ صَاحِبُ حِفْظِهِ مُتَرَقٍّ عَلَى دَرَجَاتِ الْكَمَالِ، فَإِذَا أَضَاعَهُ لَمْ يَقِفْ مَوْضِعَهُ، بَلْ يَنْزِلُ إِلَى دَرَجَاتٍ مِنَ النَّقْصِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي تَقَدُّمٍ فَهُوَ مُتَأَخِّرٌ وَلَا بُدَّ، فَالْعَبْدُ سَائِرٌ لَا وَاقِفٌ، فَإِمَّا إِلَى فَوْقٍ، وَإِمَّا إِلَى أَسْفَلَ، إِمَّا إِلَى أَمَامٍ وَإِمَّا إِلَى وَرَاءَ، وَلَيْسَ فِي الطَّبِيعَةِ وَلَا فِي الشَّرِيعَةِ وُقُوفٌ الْبَتَّةَ، مَا هُوَ إِلَّا مَرَاحِلُ تُطْوَى أَسْرَعَ طَيٍّ إِلَى الْجَنَّةِ أَوِ النَّارِ، فَمُسْرِعٌ وَمُبْطِئٌ، وَمُتَقَدِّمٌ وَمُتَأَخِّرٌ، وَلَيْسَ فِي الطَّرِيقِ وَاقِفٌ الْبَتَّةَ، وَإِنَّمَا يَتَخَالَفُونَ فِي جِهَةِ الْمَسِيرِ، وَفِي السُّرْعَةِ وَالْبُطْءِ ‏{‏إِنَّهَا لَإِحْدَى الْكُبَرِ نَذِيرًا لِلْبَشَرِ لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ‏}‏ وَلَمْ يَذْكُرْ وَاقِفًا، إِذْ لَا مَنْزِلَ بَيْنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ، وَلَا طَرِيقَ لِسَالِكٍ إِلَى غَيْرِ الدَّارَيْنِ الْبَتَّةَ، فَمَنْ لَمْ يَتَقَدَّمْ إِلَى هَذِهِ بِالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ فَهُوَ مُتَأَخِّرٌ إِلَى تِلْكَ بِالْأَعْمَالِ السَّيِّئَةِ‏.‏

فَإِنْ قُلْتَ‏:‏ كُلُّ مُجِدٍّ فِي طَلَبِ شَيْءٍ لَا بُدَّ أَنْ يَعْرِضَ لَهُ وَقْفَةٌ وَفُتُورٌ، ثُمَّ يَنْهَضَ إِلَى طَلَبِهِ‏.‏

قُلْتُ‏:‏ لَا بُدَّ مِنْ ذَلِكَ، وَلَكِنَّ صَاحِبَ الْوَقْفَةِ لَهُ حَالَانِ‏:‏ إِمَّا أَنْ يَقِفَ لِيُجِمَّ نَفْسَهُ، وَيُعِدَّهَا لِلسَّيْرِ، فَهَذَا وَقْفَتُهُ سَيْرٌ، وَلَا تَضُرُّهُ الْوَقْفَةُ، فَإِنَّ لِكُلِّ عَمَلٍ شِرَّةً، وَلِكُلِّ شِرَّةٍ فَتْرَةٌ‏.‏

وَإِمَّا أَنْ يَقِفَ لِدَاعٍ دَعَاهُ مِنْ وَرَائِهِ، وَجَاذِبٍ جَذَبَهُ مِنْ خَلْفِهِ، فَإِنْ أَجَابَهُ أَخَّرَهُ وَلَا بُدَّ، فَإِنْ تَدَارَكَهُ اللَّهُ بِرَحْمَتِهِ، وَأَطْلَعَهُ عَلَى سَبْقِ الرَّكْبِ لَهُ وَعَلَى تَأَخُّرِهِ، نَهَضَ نَهْضَةَ الْغَضْبَانِ الْآسِفِ عَلَى الِانْقِطَاعِ، وَوَثَبَ وَجَمَزَ وَاشْتَدَّ سَعْيًا لِيَلْحَقَ الرَّكْبَ، وَإِنِ اسْتَمَرَّ مَعَ دَاعِي التَّأَخُّرِ، وَأَصْغَى إِلَيْهِ لَمْ يَرْضَ بِرَدِّهِ إِلَى حَالَتِهِ الْأُولَى مِنَ الْغَفْلَةِ، وَإِجَابَةِ دَاعِي الْهَوَى، حَتَّى يَرُدَّهُ إِلَى أَسْوَأَ مِنْهَا وَأَنْزَلَ دَرَكًا، وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ النَّكْسَةِ الشَّدِيدَةِ عُقَيْبَ الْإِبْلَالِ مِنَ الْمَرَضِ، فَإِنَّهَا أَخْطَرُ مِنْهُ وَأَصْعَبُ‏.‏

وَبِالْجُمْلَةِ فَإِنْ تَدَارَكَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى هَذَا الْعَبْدَ بِجَذْبَةٍ مِنْهُ مِنْ يَدِ عَدُوِّهِ وَتَخْلِيصُهُ، وَإِلَّا فَهُوَ فِي تَأَخُّرٍ إِلَى الْمَمَاتِ، رَاجِعٌ الْقَهْقَرَى، نَاكِصٌ عَلَى عَقِبَيْهِ، أَوْ مُولٍ ظَهْرَهُ، وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ، وَالْمَعْصُومُ مَنْ عَصَمَهُ اللَّهُ‏.‏

وَقَوْلُهُ‏:‏ وَيُطْفِئُ نُورَ الْمُرَاقَبَةِ‏.‏

يَعْنِي أَنَّ الْمُرَاقَبَةَ تُعْطِي نُورًا كَاشِفًا لِحَقَائِقِ الْمَعْرِفَةِ وَالْعُبُودِيَّةِ، وَإِضَاعَةَ الْوَقْتِ تُغَطِّي ذَلِكَ النُّورَ، وَتُكَدِّرُ عَيْنَ الصُّحْبَةِ مَعَ اللَّهِ، فَإِنَّ صَاحِبَ الْوَقْتِ مَعَ صُحْبَةِ اللَّهِ، وَلَهُ مَعَ اللَّهِ مَعِيَّةٌ خَاصَّةٌ، بِحَسَبِ حِفْظِهِ وَقْتَهُ مَعَ اللَّهِ، فَإِنْ كَانَ مَعَ اللَّهِ كَانَ اللَّهُ مَعَهُ، فَإِذَا أَضَاعَ وَقْتَهُ كَدَّرَ عَيْنَ هَذِهِ الْمَعِيَّةِ الْخَاصَّةِ، وَتَعَرَّضَ لِقَطْعِ هَذِهِ الصُّحْبَةِ، فَلَا شَيْءَ أَضَرُّ عَلَى الْعَارِفِ بِاللَّهِ مِنْ إِضَاعَةِ وَقْتِهِ مَعَ اللَّهِ، وَيُخْشَى عَلَيْهِ إِنْ لَمْ يَتَدَارَكْهُ بِالرُّجُوعِ أَنْ تَسْتَمِرَّ الْإِضَاعَةُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، فَتَكُونَ حَسْرَتُهُ وَنَدَامَتُهُ أَعْظَمَ مِنْ حَسْرَةِ غَيْرِهِ وَنَدَامَتِهِ، وَحِجَابُهُ عَنِ اللَّهِ أَشَدَّ مِنْ حِجَابِ مَنْ سِوَاهُ، وَيَكُونَ حَالُهُ شَبِيهًا بِحَالِ قَوْمٍ يُؤْمَرُ بِهِمْ إِلَى الْجَنَّةِ، حَتَّى إِذَا عَايَنُوهَا وَشَاهَدُوا مَا فِيهَا، صُرِفَتْ وُجُوهُهُمْ عَنْهَا إِلَى النَّارِ، فَإِذَنْ تَوْبَةُ الْخَوَاصِّ تَكُونُ مِنْ تَضْيِيعِ أَوْقَاتِهِمْ مَعَ اللَّهِ الَّتِي تَدْعُو إِلَى هَذِهِ الْأُمُورِ‏.‏

فَصْلٌ‏:‏ ‏[‏أَرْفَعُ مَقَامَاتِ التَّوْبَةِ‏]‏

وَفَوْقَ هَذَا مَقَامٌ آخَرُ مِنَ التَّوْبَةِ، أَرْفَعُ مِنْهُ وَأَخَصُّ، لَا يَعْرِفُهُ إِلَّا الْخَوَاصُّ الْمُحِبُّونَ، الَّذِينَ يَسْتَقِلُّونَ فِي حَقِّ مَحْبُوبِهِمْ جَمِيعَ أَعْمَالِهِمْ وَأَحْوَالِهِمْ وَأَقْوَالِهِمْ، فَلَا يَرَوْنَهَا قَطُّ إِلَّا بِعَيْنِ النَّقْصِ وَالْإِزْرَاءِ عَلَيْهَا، وَيَرَوْنَ شَأْنَ مَحْبُوبِهِمْ أَعْظَمَ، وَقَدْرَهُ أَعْلَى مِنْ أَنْ يَرْضَوْا نُفُوسَهُمْ وَأَعْمَالَهُمْ لَهُ، فَهُمْ أَشَدُّ شَيْءٍ احْتِقَارًا لَهَا، وَإِزْرَاءً عَلَيْهَا، وَإِذَا غَفَلُوا عَنْ مُرَادِ مَحْبُوبِهِمْ مِنْهُمْ، وَلَمْ يُوَفُّوهُ حَقَّهُ، تَابُوا إِلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ تَوْبَةَ أَرْبَابِ الْكَبَائِرِ مِنْهَا، فَالتَّوْبَةُ لَا تُفَارِقُهُمْ أَبَدًا، وَتَوْبَتُهُمْ لَوْنٌ وَتَوْبَةُ غَيْرِهِمْ لَوْنٌ ‏{‏وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ‏}‏ وَكُلَّمَا ازْدَادُوا حُبًّا لَهُ ازْدَادُوا مَعْرِفَةً بِحَقِّهِ، وَشُهُودًا لِتَقْصِيرِهِمْ، فَعَظُمَتْ لِذَلِكَ تَوْبَتُهُمْ، وَلِذَلِكَ كَانَ خَوْفُهُمْ أَشَدَّ، وَإِزْرَاؤُهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَعْظَمَ، وَمَا يَتُوبُ مِنْهُ هَؤُلَاءِ قَدْ يَكُونُ مِنْ كِبَارِ حَسَنَاتِ غَيْرِهِمْ‏.‏

وَبِالْجُمْلَةِ فَتَوْبَةُ الْمُحِبِّينَ الصَّادِقِينَ الْعَارِفِينَ بِرَبِّهِمْ وَبِحَقِّهِ هِيَ التَّوْبَةُ، وَسِوَاهُمْ مَحْجُوبٌ عَنْهَا، وَفَوْقَ هَذِهِ تَوْبَةٌ أُخْرَى، الْأَوْلَى بِنَا الْإِضْرَابُ عَنْهَا صَفْحًا‏.‏

فَصْلٌ‏:‏ ‏[‏ما يتم به مقام التوبة‏]‏

قَالَ صَاحِبُ الْمَنَازِلِ‏:‏ وَلَا يَتِمُّ مَقَامُ التَّوْبَةِ إِلَّا بِالِانْتِهَاءِ إِلَى التَّوْبَةِ مِمَّا دُونَ الْحَقِّ، ثُمَّ رُؤْيَةُ عِلَّةِ التَّوْبَةِ، ثُمَّ التَّوْبَةُ مِنْ رُؤْيَةِ تِلْكَ الْعِلَّةِ‏.‏

التَّوْبَةُ مِمَّا دُونَ اللَّهِ مَعْنَاهَا أَنْ يَخْرُجَ الْعَبْدُ بِقَلْبِهِ عَنْ إِرَادَةِ مَا سِوَى اللَّهِ تَعَالَى، فَيَعْبُدَهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ بِأَمْرِهِ وَبِاسْتِعَانَتِهِ، فَيَكُونَ كُلُّهُ لَهُ وَبِهِ‏.‏

وَهَذَا أَمْرٌ لَا يَصِحُّ إِلَّا لِمَنِ اسْتَوْلَى عَلَيْهِ سُلْطَانُ الْمَحَبَّةِ، فَامْتَلَأَ قَلْبُهُ مِنَ اللَّهِ مَحَبَّةً لَهُ وَإِجْلَالًا وَتَعْظِيمًا، وَذُلًّا وَخُضُوعًا وَانْكِسَارًا بَيْنَ يَدَيْهِ، وَافْتِقَارًا إِلَيْهِ‏.‏

فَإِذَا صَحَّ لَهُ ذَلِكَ بَقِيَتْ عَلَيْهِ عِنْدَهُمْ بَقِيَّةٌ أُخْرَى، هِيَ عِلَّةٌ فِي تَوْبَتِهِ، وَهِيَ شُعُورُهُ بِهَا، وَرُؤْيَتُهُ لَهَا، وَعَدَمُ فَنَائِهِ عَنْهَا، وَذَلِكَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَقَامِهِ وَحَالِهِ ذَنْبٌ، فَيَتُوبُ مِنْ هَذِهِ الرُّؤْيَةِ‏.‏

فَهَاهُنَا ثَلَاثَةُ أُمُورٍ‏:‏ تَوْبَتُهُ مِمَّا سِوَى اللَّهِ، وَرُؤْيَتِهِ هَذِهِ التَّوْبَةَ، وَهِيَ عِلَّتُهَا، وَتَوْبَتُهُ مِنْ رُؤْيَةِ تِلْكَ الرُّؤْيَةِ، وَهَذَا عِنْدَ الْقَوْمِ الْغَايَةُ الَّتِي لَا شَيْءَ بَعْدَهَا، وَالنِّهَايَةُ الَّتِي لَا تَكُونُ إِلَّا لِخَاصَّةِ الْخَاصَّةِ، وَلَعَمْرُ اللَّهِ إِنَّ رُؤْيَةَ الْعَبْدِ فِعْلَهُ، وَاحْتِجَابَهُ بِهِ عَنْ رَبِّهِ، وَمُشَاهَدَتَهُ لَهُ عِلَّةٌ فِي طَرِيقِهِ مُوجِبَةٌ لِلتَّوْبَةِ‏.‏

وَأَمَّا رُؤْيَتُهُ لَهُ وَاقِعًا بِمِنَّةِ اللَّهِ وَفَضْلِهِ، وَحَوْلِهِ وَقَوَّتِهِ وَإِعَانَتِهِ فَهَذَا أَكْمَلُ مِنْ غَيْبَتِهِ عَنْهُ، وَهُوَ أَكْمَلُ مِنَ الْمَقَامِ الَّذِي يُشِيرُونَ إِلَيْهِ، وَأَتَمُّ عُبُودِيَّةً، وَأَدْعَى لِلْمَحَبَّةِ وَشُهُودِ الْمِنَّةِ، إِذْ يَسْتَحِيلُ شُهُودُ الْمِنَّةِ عَلَى شَيْءٍ لَا شُعُورَ لِلشَّاهِدِ بِهِ الْبَتَّةَ‏.‏

وَالَّذِي سَاقَهُمْ إِلَى ذَلِكَ سُلُوكُ وَادِي الْفَنَاءِ فِي الشُّهُودِ، فَلَا يَشْهَدُ مَعَ الْحَقِّ سَبَبًا، وَلَا وَسِيلَةً وَلَا رَسْمًا الْبَتَّةَ‏.‏

وَنَحْنُ لَا نُنْكِرُ ذَوْقَ هَذَا الْمَقَامِ، وَأَنَّ السَّالِكَ يَنْتَهِي إِلَيْهِ، وَيَجِدُ لَهُ حَلَاوَةً وَوَجْدًا وَلَذَّةً لَا يَجِدُهَا لِغَيْرِهِ الْبَتَّةَ، وَإِنَّمَا يُطَالَبُ أَرْبَابُهُ وَالْمُشَمِّرُونَ إِلَيْهِ بِأَمْرٍ وَرَاءَهُ، وَهُوَ أَنَّ هَذَا هُوَ الْكَمَالُ، وَهُوَ أَكْمَلُ مِنْ حَالِ مَنْ شَهِدَ أَفْعَالَهُ وَرَآهَا، وَرَأَى تَفَاصِيلَهَا مُشَاهِدًا لَهَا، صَادِرَةً عَنْهُ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ وَإِرَادَتِهِ وَمَعُونَتِهِ، فَشَهِدَ عُبُودِيَّتَهُ مَعَ شُهُودِ مَعْبُودِهِ، فَكِلَاهُمَا نَقْصٌ، وَالْكَمَالُ‏:‏ أَنْ تَشْهَدَ الْعُبُودِيَّةَ حَاصِلَةً بِمِنَّةِ الْمَعْبُودِ وَفَضْلِهِ وَمَشِيئَتِهِ، فَيَجْتَمِعَ لَكَ الشُّهُودَانِ، فَإِنْ غِبْتَ بِأَحَدِهِمَا عَنِ الْآخَرِ فَالْمَقَامُ مَقَامُ تَوْبَةٍ، وَهَلْ فِي الْغَيْبَةِ عَنِ الْعُبُودِيَّةِ إِلَّا هَضْمٌ لَهَا‏؟‏‏.‏

وَالْوَاجِبُ‏:‏ أَنْ يَقَعَ التَّحَاكُمُ فِي ذَلِكَ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَإِلَى حَقَائِقِ الْإِيمَانِ دُونَ الذَّوْقِ، فَإِنَّنَا لَا نُنْكِرُ ذَوْقَ هَذِهِ الْحَالِ، وَإِنَّمَا نُنْكِرُ كَوْنَهَا أَكْمَلَ مِنْ غَيْرِهَا، فَأَيْنَ الْإِشَارَةُ فِي الْقُرْآنِ، أَوْ فِي السُّنَّةِ، أَوْ فِي كَلَامِ سَادَاتِ الْعَارِفِينَ مِنَ الصَّحَابَةِ وَمَنْ تَبِعَهُمْ إِلَى هَذَا الْفَنَاءِ، وَأَنَّهُ هُوَ الْكَمَالُ، وَأَنَّ رُؤْيَةَ الْعَبْدِ لِفِعْلِهِ بِاللَّهِ وَحَوْلِهِ وَفَضْلِهِ وَشُهُودَهُ لَهُ كَذَلِكَ عِلَّةٌ تَجِبُ التَّوْبَةُ مِنْهَا‏؟‏‏.‏

وَهَذَا الْقَدْرُ مِمَّا يَصْعُبُ إِنْكَارُهُ عَلَى الْقَوْمِ جِدًّا، وَيَرْمُونَ مُنْكِرَهُ بِأَنَّهُ مَحْجُوبٌ مِنْ أَهْلِ الْفَرْقِ، وَأَنَّهُ لَمْ يَصِلْ إِلَى هَذَا الْمَقَامِ، وَلَوْ وَصَلَ إِلَيْهِ لَمَا أَنْكَرَهُ، وَلَيْسَ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ حُجَّةٌ لِتَصْحِيحِ قَوْلِهِمْ، وَلَا جَوَابُ الْمُطَالَبَةِ، فَقَدْ سَأَلَكَ هَذَا الْمَحْجُوبُ عَنْ مَسْأَلَةٍ شَرْعِيَّةٍ، وَمَا ذَكَرْتُمُوهُ لَيْسَ بِجَوَابٍ لَهَا‏.‏

وَلَعَمْرُ اللَّهِ إِنَّهُ يَرَاكُمْ مَحْجُوبِينَ عَنْ حَالٍ أَعْظَمَ مِنْ هَذِهِ الْحَالِ، وَمَقَامٍ أَرْفَعَ مِنْهُ، وَلَيْسَ فِي مُجَرَّدِ الْفَنَاءِ وَالِاسْتِغْرَاقِ فِي شُهُودِ الْقَيُّومِيَّةِ، وَإِسْقَاطِ الْأَسْبَابِ وَالْعِلَلِ وَالْحِكَمِ وَالْوَسَائِطِ كَثِيرُ عِلْمٍ، وَلَا مَعْرِفَةٌ وَلَا عُبُودِيَّةٌ، وَهَلِ الْمَعْرِفَةُ كُلُّ الْمَعْرِفَةِ، وَالْعُبُودِيَّةُ إِلَّا شُهُودُ الْأَشْيَاءِ عَلَى مَا هِيَ عَلَيْهِ‏؟‏ وَالْقُرْآنُ كُلُّهُ مَمْلُوءٌ مِنْ دُعَاءِ الْعِبَادِ إِلَى التَّفَكُّرِ فِي الْآيَاتِ، وَالنَّظَرِ فِي أَحْوَالِ الْمَخْلُوقَاتِ، وَنَظَرِ الْإِنْسَانِ فِي نَفْسِهِ وَتَفَاصِيلِ أَحْوَالِهِ، وَأَخَصُّ مِنْ ذَلِكَ نَظَرُهُ فِيمَا قَدَّمَ لِغَدِهِ، وَمُطَالَعَتُهُ لِنِعَمِ اللَّهِ عَلَيْهِ بِالْإِيمَانِ وَالتَّوْفِيقِ وَالْهِدَايَةِ، وَتَذَكُّرُ ذَلِكَ وَالتَّفَكُّرُ فِيهِ، وَحَمْدُ اللَّهِ وَشُكْرُهُ عَلَيْهِ، وَهَذَا لَا يَحْصُلُ مَعَ الْفَنَاءِ حَتَّى عَنْ رُؤْيَةِ الرُّؤْيَةِ، وَشُهُودِ الشُّهُودِ‏.‏

ثُمَّ إِنَّ هَذَا غَيْرُ مُمْكِنٍ الْبَتَّةَ، فَإِنَّكُمْ إِذَا جَعَلْتُمْ رُؤْيَتَهُ لِتَوْبَتِهِ عِلَّةً يَتُوبُ مِنْهَا، فَإِنَّ رُؤْيَتَهُ لِتِلْكَ الرُّؤْيَةِ أَيْضًا عِلَّةٌ تُوجِبُ عَلَيْهِ تَوْبَةً، وَهَلُمَّ جَرَّا، فَلَا يَنْتَهِي الْأَمْرُ إِلَّا بِسُقُوطِ التَّمْيِيزِ جُمْلَةً، وَالسُّكْرِ وَالطَّمْسِ الْمُنَافِي لِلْعُبُودِيَّةِ، فَضْلًا عَنْ أَنْ يَكُونَ غَايَةً لِلْعُبُودِيَّةِ‏.‏

فَتَأَمَّلِ الْآنَ تَفَاصِيلَ عُبُودِيَّةِ الصَّلَاةِ، كَيْفَ لَا تَتِمُّ إِلَّا بِشُهُودِ فِعْلِكَ الَّذِي مَتَى غِبْتَ عَنْهُ كَانَ ذَلِكَ نَقْصًا فِي الْعُبُودِيَّةِ‏.‏

فَإِذَا قَالَ الْمُصَلِّي‏:‏ وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا، فَعُبُودِيَّةُ هَذَا الْقَوْلِ أَنْ يَشْهَدَ وَجْهَهُ، وَهُوَ قَصْدُهُ وَإِرَادَتُهُ، وَأَنْ يَشْهَدَ حَقِيقَتَهُ، وَهِيَ إِقْبَالُهُ عَلَى اللَّهِ‏.‏

ثُمَّ إِذَا قَالَ‏:‏ إِنَّ صِلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، فَعُبُودِيَّةُ هَذَا الْقَوْلِ أَنْ يَشْهَدَ الصَّلَاةَ وَالنُّسُكَ الْمُضَافَيْنِ إِلَيْهِ لِلَّهِ، وَلَوْ غَابَ عَنْهُمَا كَانَ قَدْ أَضَافَ إِلَى اللَّهِ بِلِسَانِهِ مَا هُوَ غَائِبٌ عَنِ اسْتِحْضَارِهِ بِقَلْبِهِ، فَكَيْفَ يَكُونُ هَذَا أَكْمَلَ وَأَعْلَى مِنْ حَالِ مَنِ اسْتَحْضَرَ فِعْلَهُ وَعُبُودِيَّتَهُ، وَأَضَافَهُمَا إِلَى اللَّهِ، وَشَهِدَ مَعَ ذَلِكَ كَوْنَهُمَا بِهِ‏؟‏ فَأَيْنَ هَذَا مِنْ حَالِ الْمُسْتَغْرِقِ الْفَانِي الْمُصْطَلِمِ، الَّذِي قَدْ غَابَ بِمَعْبُودِهِ عَنْ حَقِّهِ، وَقَدْ أُخِذَ مِنْهُ وَغُيِّبَ عَنْهُ‏؟‏‏.‏

نَعَمْ غَايَةُ هَذَا أَنْ يَكُونَ مَعْذُورًا، أَمَّا أَنْ يَكُونَ مَقَامُهُ أَعْلَى مَقَامٍ وَأَجَلَّهُ فَكَلَّا‏.‏

وَكَذَلِكَ إِذَا قَالَ فِي قِرَاءَتِهِ ‏"‏ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ‏"‏ فَعُبُودِيَّةُ هَذَا الْقَوْلِ فَهْمُ مَعْنَى الْعِبَادَةِ وَالِاسْتِعَانَةِ، وَاسْتِحْضَارُهُمَا، وَتَخْصِيصُهُمَا بِاللَّهِ، وَنَفْيُهُمَا عَنْ غَيْرِهِ، فَهَذَا أَكْمَلُ مِنْ قَوْلِ ذَلِكَ بِمُجَرَّدِ اللِّسَانِ‏.‏

وَكَذَلِكَ إِذَا قَالَ فِي رُكُوعِهِ‏:‏ اللَّهُمَّ لَكَ رَكَعْتُ، وَبِكَ آمَنْتُ، وَلَكَ أَسَلَمْتُ، خَشَعَ لَكَ سَمْعِي وَبَصَرِي وَمُخِّي وَعَظْمِي، وَمَا اسْتَقَلَّتْ بِهِ قَدَمِي فَكَيْفَ يُؤَدِّي عُبُودِيَّةَ هَذِهِ الْكَلِمَاتِ غَائِبٌ عَنْ فِعْلِهِ، مُسْتَغْرِقٌ فِي فَنَائِهِ‏؟‏ وَهَلْ يَبْقَى غَيْرُ أَصْوَاتٍ جَارِيَةٍ عَلَى لِسَانِهِ‏؟‏ وَلَوْلَا الْعُذْرُ لَمْ تَكُنْ هَذِهِ عُبُودِيَّةً‏.‏

نَعَمْ، رُؤْيَةُ هَذِهِ الْأَفْعَالِ وَالْوُقُوفُ عِنْدَهَا، وَالِاحْتِجَابُ بِهَا عَنِ الْمُنْعِمِ بِهَا الْمُوَفِّقِ لَهَا، الْمَانِّ بِهَا مِنْ أَعْظَمِ الْعِلَلِ الْقَوَاطِعِ، قَالَ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ‏}‏ فَالْعَارِفُ غَائِبٌ بِمِنَّةِ اللَّهِ عَلَيْهِ فِي طَاعَتِهِ، مَعَ شُهُودِهَا وَرُؤْيَتِهَا، وَالْجَاهِلُ غَائِبٌ بِهَا عَنْ رُؤْيَةِ مِنَّةِ اللَّهِ، وَالْفَانِي غَائِبٌ بِاسْتِغْرَاقِهِ فِي الْفَنَاءِ وَشُهُودِ الْقَيُّومِيَّةِ عَنْ شُهُودِهَا، وَهُوَ نَاقِصٌ، وَقَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدَرًا‏.‏

فَصْلٌ‏:‏ التَّوْبَةُ مِنَ الذَّنْبِ فَرْضٌ

وَنَذْكُرُ نُبَذًا تَتَعَلَّقُ بِأَحْكَامِ التَّوْبَةِ، تَشْتَدُّ الْحَاجَةُ إِلَيْهَا، وَلَا يَلِيقُ بِالْعَبْدِ جَهْلُهَا‏.‏

مِنْهَا‏:‏ أَنَّ الْمُبَادَرَةَ إِلَى التَّوْبَةِ مِنَ الذَّنْبِ فَرْضٌ عَلَى الْفَوْرِ، وَلَا يَجُوزُ تَأْخِيرُهَا، فَمَتَى أَخَّرَهَا عَصَى بِالتَّأْخِيرِ، فَإِذَا تَابَ مِنَ الذَّنْبِ بَقِيَ عَلَيْهِ تَوْبَةٌ أُخْرَى، وَهِيَ تَوْبَتُهُ مِنْ تَأْخِيرِ التَّوْبَةِ، وَقَلَّ أَنْ تَخْطُرَ هَذِهِ بِبَالِ التَّائِبِ، بَلْ عِنْدَهُ أَنَّهُ إِذَا تَابَ مِنَ الذَّنْبِ لَمْ يَبْقَ عَلَيْهِ شَيْءٌ آخَرُ، وَقَدْ بَقِيَ عَلَيْهِ التَّوْبَةُ مِنْ تَأْخِيرِ التَّوْبَةِ، وَلَا يُنْجِي مِنْ هَذَا إِلَّا تَوْبَةٌ عَامَّةٌ، مِمَّا يَعْلَمُ مِنْ ذُنُوبِهِ وَمِمَّا لَا يَعْلَمُ، فَإِنَّ مَا لَا يَعْلَمُهُ الْعَبْدُ مِنْ ذُنُوبِهِ أَكْثَرُ مِمَّا يَعْلَمُهُ، وَلَا يَنْفَعُهُ فِي عَدَمِ الْمُؤَاخَذَةِ بِهَا جَهْلُهُ إِذَا كَانَ مُتَمَكِّنًا مِنَ الْعِلْمِ، فَإِنَّهُ عَاصٍ بِتَرْكِ الْعِلْمِ وَالْعَمَلِ، فَالْمَعْصِيَةُ فِي حَقِّهِ أَشَدُّ، وَفِي صَحِيحِ ابْنِ حِبَّانَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ‏:‏ الشِّرْكُ فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ أَخْفَى مِنْ دَبِيبِ النَّمْلِ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ‏:‏ فَكَيْفَ الْخَلَاصُ مِنْهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ‏؟‏ قَالَ‏:‏ أَنْ تَقُولَ‏:‏ اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أُشْرِكَ بِكَ وَأَنَا أَعْلَمُ، وَأَسْتَغْفِرُكَ لِمَا لَا أَعْلَمُ‏.‏

فَهَذَا طَلَبُ الِاسْتِغْفَارِ مِمَّا يَعْلَمُهُ اللَّهُ أَنَّهُ ذَنْبٌ، وَلَا يَعْلَمُهُ الْعَبْدُ‏.‏

وَفِي الصَّحِيحِ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ كَانَ يَدْعُو فِي صِلَاتِهِ‏:‏ اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي خَطِيئَتِي وَجَهْلِي، وَإِسْرَافِي فِي أَمْرِي، وَمَا أَنْتَ أَعْلَمُ بِهِ مِنِّي، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي جِدِّي وَهَزْلِي، وَخَطَأِي وَعَمْدِي، وَكُلُّ ذَلِكَ عِنْدِي، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي مَا قَدَّمْتُ وَمَا أَخَّرْتُ، وَمَا أَسْرَرْتُ وَمَا أَعْلَنْتُ، وَمَا أَنْتَ أَعْلَمُ بِهِ مِنِّي، أَنْتَ إِلَهِيٌّ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ

وَفِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ‏:‏ اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي ذَنْبِي كُلَّهُ، دِقَّهُ وَجِلَّهُ، خَطَأَهُ وَعَمْدَهُ، سِرَّهُ وَعَلَانِيَتَهُ، أَوَّلَهُ وَآخِرَهُ‏.‏

فَهَذَا التَّعْمِيمُ وَهَذَا الشُّمُولُ لِتَأْتِيَ التَّوْبَةُ عَلَى مَا عَلِمَهُ الْعَبْدُ مِنْ ذُنُوبِهِ وَمَا لَمْ يَعْلَمْهُ‏.‏

التَّوْبَةُ مِنْ ذَنْبٍ مَعَ الْإِصْرَارِ عَلَى غَيْرِهِ

وَهَلْ تَصِحُّ التَّوْبَةُ مِنْ ذَنْبٍ مَعَ الْإِصْرَارِ عَلَى غَيْرِهِ‏؟‏

فِيهِ قَوْلَانِ لِأَهْلِ الْعِلْمِ، وَهُمَا رِوَايَتَانِ عَنِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ، وَلَمْ يَطَّلِعْ عَلَى الْخِلَافِ مَنْ حَكَى الْإِجْمَاعَ عَلَى صِحَّتِهَا، كَالنَّوَوِيِّ وَغَيْرِهِ‏.‏

وَالْمَسْأَلَةُ مُشْكِلَةٌ، وَلَهَا غَوْرٌ، وَيَحْتَاجُ الْجَزْمُ بِأَحَدِ الْقَوْلَيْنِ إِلَى دَلِيلٍ يَحْصُلُ بِهِ الْجَزْمُ، وَالَّذِينَ صَحَّحُوهَا احْتَجُّوا بِأَنَّهُ لَمَّا صَحَّ الْإِسْلَامُ- وَهُوَ تَوْبَةٌ مِنَ الْكُفْرِ- مَعَ الْبَقَاءِ عَلَى مَعْصِيَةٍ لَمْ يَتُبْ مِنْهَا، فَهَكَذَا تَصِحُّ التَّوْبَةُ مِنْ ذَنْبٍ مَعَ بَقَائِهِ عَلَى آخَرَ‏.‏

وَأَجَابَ الْآخَرُونَ عَنْ هَذَا بِأَنَّ الْإِسْلَامَ لَهُ شَأْنٌ لَيْسَ لِغَيْرِهِ، لِقُوَّتِهِ وَنَفَاذِهِ، وَحُصُولِهِ- تَبَعًا بِإِسْلَامِ الْأَبَوَيْنِ أَوْ أَحَدِهِمَا- لِلطِّفْلِ، وَكَذَلِكَ بِانْقِطَاعِ نَسَبِ الطِّفْلِ مِنْ أَبِيهِ، أَوْ بِمَوْتِ أَحَدِ أَبَوَيْهِ فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ، وَكَذَلِكَ يَكُونُ بِكَوْنِ سَابِيهِ وَمَالِكِهِ مُسْلِمًا فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ أَيْضًا، وَذَلِكَ لِقُوَّتِهِ، وَتَشَوُّفِ الشَّرْعِ إِلَيْهِ، حَتَّى حَصَلَ بِغَيْرِ الْقَصْدِ بَلْ بِالتَّبَعِيَّةِ‏.‏

وَاحْتَجَّ الْآخَرُونَ بِأَنَّ التَّوْبَةَ هِيَ الرُّجُوعُ إِلَى اللَّهِ مِنْ مُخَالَفَتِهِ إِلَى طَاعَتِهِ، وَأَيُّ رُجُوعٍ لِمَنْ تَابَ مِنْ ذَنْبٍ وَاحِدٍ، وَأَصَرَّ عَلَى أَلْفِ ذَنْبٍ‏؟‏‏.‏

قَالُوا‏:‏ وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ إِنَّمَا لَمْ يُؤَاخِذِ التَّائِبَ، لِأَنَّهُ قَدْ رَجَعَ إِلَى طَاعَتِهِ وَعُبُودِيَّتِهِ، وَتَابَ تَوْبَةً نَصُوحًا، وَالْمُصِرُّ عَلَى مِثْلِ مَا تَابَ مِنْهُ- أَوْ أَعْظَمَ- لَمْ يُرَاجِعِ الطَّاعَةَ وَلَمْ يَتُبْ تَوْبَةً نَصُوحًا‏.‏

قَالُوا‏:‏ وَلِأَنَّ التَّائِبَ إِذَا تَابَ إِلَى اللَّهِ، فَقَدْ زَالَ عَنْهُ اسْمُ الْعَاصِي كَالْكَافِرِ إِذَا أَسْلَمَ زَالَ عَنْهُ اسْمُ الْكَافِرِ وَأَمَّا إِذَا أَصَرَّ عَلَى غَيْرِ الذَّنْبِ الَّذِي تَابَ مِنْهُ فَاسْمُ الْمَعْصِيَةِ لَا يُفَارِقُهُ، فَلَا تَصِحُّ تَوْبَتُهُ‏.‏

وَسِرُّ الْمَسْأَلَةِ، أَنَّ التَّوْبَةَ هَلْ تَتَبَعَّضُ، كَالْمَعْصِيَةِ، فَيَكُونُ تَائِبًا مَنْ وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ، كَالْإِيمَانِ وَالْإِسْلَامِ‏؟‏

وَالرَّاجِحُ تَبَعُّضُهَا، فَإِنَّهَا كَمَا تَتَفَاضَلُ فِي كَيْفِيَّتِهَا كَذَلِكَ تَفَاضَلُ فِي كَمِّيَّتِهَا، وَلَوْ أَتَى الْعَبْدُ بِفَرْضٍ وَتَرَكَ فَرْضًا آخَرَ لَاسْتَحَقَّ الْعُقُوبَةَ عَلَى مَا تَرَكَهُ دُونَ مَا فَعَلَهُ، فَهَكَذَا إِذَا تَابَ مِنْ ذَنْبٍ وَأَصَرَّ عَلَى آخَرَ، لِأَنَّ التَّوْبَةَ فَرْضٌ مِنَ الذَّنْبَيْنِ، فَقَدْ أَدَّى أَحَدَ الْفَرْضَيْنِ وَتَرَكَ الْآخَرَ، فَلَا يَكُونُ مَا تَرَكَ مُوجِبًا لِبُطْلَانِ مَا فَعَلَ، كَمَنْ تَرَكَ الْحَجَّ وَأَتَى بِالصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ وَالزَّكَاةِ‏.‏

وَالْآخَرُونَ يُجِيبُونَ عَنْ هَذَا بِأَنَّ التَّوْبَةَ فِعْلٌ وَاحِدٌ، مَعْنَاهُ الْإِقْلَاعُ عَمَّا يَكْرَهُهُ اللَّهُ، وَالنَّدَمُ عَلَيْهِ، وَالرُّجُوعُ إِلَى طَاعَتِهِ، فَإِذَا لَمْ تُوجَدْ بِكَمَالِهَا لَمْ تَكُنْ صَحِيحَةً، إِذْ هِيَ عِبَادَةٌ وَاحِدَةٌ، فَالْإِتْيَانُ بِبَعْضِهَا وَتَرْكُ بَعْضِ وَاجِبَاتِهَا كَالْإِتْيَانِ بِبَعْضِ الْعِبَادَةِ الْوَاجِبَةِ وَتَرْكِ بَعْضِهَا، فَإِنَّ ارْتِبَاطَ أَجْزَاءِ الْعِبَادَةِ الْوَاحِدَةِ بَعْضِهَا بِبَعْضٍ أَشَدُّ مِنَ ارْتِبَاطِ الْعِبَادَاتِ الْمُتَنَوِّعَاتِ بَعْضِهَا بِبَعْضٍ‏.‏

وَأَصْحَابُ الْقَوْلِ الْآخَرِ يَقُولُونَ‏:‏ كُلُّ ذَنْبٍ لَهُ تَوْبَةٌ تَخُصُّهُ، وَهِيَ فَرْضٌ مِنْهُ، لَا تَتَعَلَّقُ بِالتَّوْبَةِ مِنَ الْآخَرِ، كَمَا لَا يَتَعَلَّقُ أَحَدُ الذَّنْبَيْنِ بِالْآخَرِ‏.‏

وَالَّذِي عِنْدِي فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ التَّوْبَةَ لَا تَصِحُّ مِنْ ذَنْبٍ، مَعَ الْإِصْرَارِ عَلَى آخَرَ مِنْ نَوْعِهِ، وَأَمَّا التَّوْبَةُ مِنْ ذَنْبٍ، مَعَ مُبَاشَرَةِ آخَرَ لَا تَعَلُّقَ لَهُ بِهِ، وَلَا هُوَ مِنْ نَوْعِهِ فَتَصِحُّ، كَمَا إِذَا تَابَ مِنَ الرِّبَا، وَلَمْ يَتُبْ مَنْ شُرْبِ الْخَمْرِ مَثَلًا، فَإِنَّ تَوْبَتَهُ مِنَ الرِّبَا صَحِيحَةٌ، وَأَمَّا إِذَا تَابَ مِنْ رِبَا الْفَضْلِ، وَلَمْ يَتُبْ مِنْ رِبَا النَّسِيئَةِ وَأَصَرَّ عَلَيْهِ، أَوْ بِالْعَكْسِ، أَوْ تَابَ مِنْ تَنَاوُلِ الْحَشِيشَةِ وَأَصَرَّ عَلَى شُرْبِ الْخَمْرِ، أَوْ بِالْعَكْسِ فَهَذَا لَا تَصِحُّ تَوْبَتَهُ، وَهُوَ كَمَنْ يَتُوبُ عَنِ الزِّنَا بِامْرَأَةٍ، وَهُوَ مُصِرٌّ عَلَى الزِّنَا بِغَيْرِهَا غَيْرَ تَائِبٍ مِنْهَا، أَوْ تَابَ مِنْ شُرْبِ عَصِيرِ الْعِنَبِ الْمُسْكِرِ، وَهُوَ مُصِرٌّ عَلَى شُرْبِ غَيْرِهِ مِنَ الْأَشْرِبَةِ الْمُسْكِرَةِ، فَهَذَا فِي الْحَقِيقَةِ لَمْ يَتُبْ مِنَ الذَّنْبِ، وَإِنَّمَا عَدَلَ عَنْ نَوْعٍ مِنْهُ إِلَى نَوْعٍ آخَرَ، بِخِلَافِ مَنْ عَدَلَ عَنْ مَعْصِيَةٍ إِلَى مَعْصِيَةٍ أُخْرَى غَيْرِهَا فِي الْجِنْسِ، إِمَّا لِأَنَّ وِزْرَهَا أَخَفُّ، وَإِمَّا لِغَلَبَةِ دَوَاعِي الطَّبْعِ إِلَيْهَا، وَقَهْرِ سُلْطَانِ شَهْوَتِهَا لَهُ، وَإِمَّا لِأَنَّ أَسْبَابَهَا حَاضِرَةٌ لَدَيْهِ عَتِيدَةٌ، لَا يَحْتَاجُ إِلَى اسْتِدْعَائِهَا، بِخِلَافِ مَعْصِيَةٍ يَحْتَاجُ إِلَى اسْتِدْعَاءِ أَسْبَابِهَا، وَإِمَّا لِاسْتِحْوَاذِ قُرَنَائِهِ وَخُلَطَائِهِ عَلَيْهِ، فَلَا يَدَعُونَهُ يَتُوبُ مِنْهَا، وَلَهُ بَيْنَهُمْ حَظْوَةٌ بِهَا وَجَاهٌ، فَلَا تُطَاوِعُهُ نَفْسُهُ عَلَى إِفْسَادِ جَاهِهِ بِالتَّوْبَةِ، كَمَا قَالَ أَبُو نُوَاسٍ لِـ أَبِي الْعَتَاهِيَةِ وَقَدْ لَامَهُ عَلَى تَهَتُّكِهِ فِي الْمَعَاصِي‏:‏

أَتُرَانِي يَا عَتَـــــاهِيُّ *** تَارِكًا تِلْكَ الْمَلَاهِــي

أَتُرَانِي مُفْسِـــدًا بِالنُّـ *** ـسْكِ عِنْدَ الْقَوْمِ جَاهِي

فَمِثْلُ هَذَا إِذَا تَابَ مِنْ قَتْلِ النَّفْسِ، وَسَرِقَةِ أَمْوَالِ الْمَعْصُومِينَ، وَأَكْلِ أَمْوَالِ الْيَتَامَى، وَلَمْ يَتُبْ مَنْ شُرْبِ الْخَمْرِ وَالْفَاحِشَةِ صَحَّتْ تَوْبَتُهُ مِمَّا تَابَ مِنْهُ، وَلَمْ يُؤَاخَذْ بِهِ، وَبَقِيَ مُؤَاخَذًا بِمَا هُوَ مُصِرٌّ عَلَيْهِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ‏.‏

فَصْلٌ‏:‏ ‏[‏أَحْكَامُ التَّوْبَةِ‏]‏

وَمِنْ أَحْكَامِ التَّوْبَةِ أَنَّهُ‏:‏ هَلْ يُشْتَرَطُ فِي صِحَّتِهَا أَنْ لَا يَعُودَ إِلَى الذَّنْبِ أَبَدًا، أَمْ لَيْسَ ذَلِكَ بِشَرْطٍ‏؟‏

فَشَرَطَ بَعْضُ النَّاسِ عَدَمَ مُعَاوَدَةِ الذَّنْبِ، وَقَالَ‏:‏ مَتَى عَادَ إِلَيْهِ تَبَيَّنَّا أَنَّ التَّوْبَةَ كَانَتْ بَاطِلَةً غَيْرَ صَحِيحَةٍ‏.‏

وَالْأَكْثَرُونَ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِشَرْطٍ، وَإِنَّمَا صِحَّةُ التَّوْبَةِ تَتَوَقَّفُ عَلَى الْإِقْلَاعِ عَنِ الذَّنْبِ، وَالنَّدَمِ عَلَيْهِ، وَالْعَزْمِ الْجَازِمِ عَلَى تَرْكِ مُعَاوَدَتِهِ‏.‏

فَإِنْ كَانَتْ فِي حَقِّ آدَمِيٍّ فَهَلْ يُشْتَرَطُ تَحَلُّلُهُ‏؟‏ فِيهِ تَفْصِيلٌ- سَنَذْكُرُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ- فَإِذَا عَاوَدَهُ، مَعَ عَزْمِهِ حَالَ التَّوْبَةِ عَلَى أَنْ لَا يُعَاوِدَهُ، صَارَ كَمَنِ ابْتَدَأَ الْمَعْصِيَةَ، وَلَمْ تَبْطُلْ تَوْبَتُهُ الْمُتَقَدِّمَةُ‏.‏

وَالْمَسْأَلَةُ مَبْنِيَّةُ عَلَى أَصْلٍ، وَهُوَ أَنَّ الْعَبْدَ إِذَا تَابَ مِنَ الذَّنْبِ ثُمَّ عَاوَدَهُ، فَهَلْ يَعُودُ إِلَيْهِ إِثْمُ الذَّنْبِ الَّذِي قَدْ تَابَ مِنْهُ ثُمَّ عَاوَدَهُ، بِحَيْثُ يَسْتَحِقُّ الْعُقُوبَةَ عَلَى الْأَوَّلِ وَالْآخِرِ إِنْ مَاتَ مُصِرًّا‏؟‏ أَوْ إِنَّ ذَلِكَ قَدْ بَطَلَ بِالْكُلِّيَّةِ، فَلَا يَعُودُ إِلَيْهِ إِثْمُهُ، وَإِنَّمَا يُعَاقَبُ عَلَى هَذَا الْأَخِيرِ‏؟‏

وَفِي هَذَا الْأَصْلِ قَوْلَانِ‏:‏

فَقَالَتْ طَائِفَةٌ‏:‏ يَعُودُ إِلَيْهِ إِثْمُ الذَّنْبِ الْأَوَّلِ، لِفَسَادِ التَّوْبَةِ، وَبُطْلَانِهَا بِالْمُعَاوَدَةِ‏.‏

قَالُوا‏:‏ لِأَنَّ التَّوْبَةَ مِنَ الذَّنْبِ بِمَنْزِلَةِ الْإِسْلَامِ مِنَ الْكُفْرِ، وَالْكَافِرُ إِذَا أَسْلَمَ هَدَمَ إِسْلَامُهُ مَا قَبْلَهُ مِنْ إِثْمِ الْكُفْرِ وَتَوَابِعِهِ، فَإِذَا ارْتَدَّ عَادَ إِلَيْهِ الْإِثْمُ الْأَوَّلُ مَعَ إِثْمِ الرِّدَّةِ، كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ‏:‏ مَنْ أَحْسَنَ فِي الْإِسْلَامِ لَمْ يُؤَاخَذْ بِمَا عَمِلَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَمَنْ أَسَاءَ فِي الْإِسْلَامِ أُخِذَ بِالْأَوَّلِ وَالْآخِرِ فَهَذَا حَالُ مَنْ أَسْلَمَ وَأَسَاءَ فِي إِسْلَامِهِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الرِّدَّةَ مِنْ أَعْظَمِ الْإِسَاءَةِ فِي الْإِسْلَامِ، فَإِذَا أُخِذَ بَعْدَهَا بِمَا كَانَ مِنْهُ فِي حَالِ كُفْرِهِ، وَلَمْ يُسْقِطْهُ الْإِسْلَامُ الْمُتَخَلِّلُ بَيْنَهُمَا، فَهَكَذَا التَّوْبَةُ الْمُتَخَلِّلَةُ بَيْنَ الذَّنْبَيْنِ لَا تُسْقِطُ الْإِثْمَ السَّابِقَ، كَمَا لَا تَمْنَعُ الْإِثْمَ اللَّاحِقَ‏.‏

قَالُوا‏:‏ وَلِأَنَّ صِحَّةَ التَّوْبَةِ مَشْرُوطَةٌ بِاسْتِمْرَارِهَا، وَالْمُوَافَاةِ عَلَيْهَا، وَالْمُعَلَّقُ عَلَى الشَّرْطِ يُعْدَمُ عِنْدَ عَدَمِ الشَّرْطِ، كَمَا أَنَّ صِحَّةَ الْإِسْلَامِ مَشْرُوطَةٌ بِاسْتِمْرَارِهِ وَالْمُوَافَاةِ عَلَيْهِ‏.‏

قَالُوا‏:‏ وَالتَّوْبَةُ وَاجِبَةٌ وُجُوبًا مُضَيَّقًا مَدَى الْعُمْرِ، فَوَقْتُهَا مُدَّةُ الْعُمْرِ، إِذْ يَجِبُ عَلَيْهِ اسْتِصْحَابُ حُكْمِهَا فِي مُدَّةِ عُمْرِهِ، فَهِيَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْعُمْرِ كَالْإِمْسَاكِ عَنِ الْمُفْطِرَاتِ فِي صَوْمِ الْيَوْمِ، فَإِذَا أَمْسَكَ مُعْظَمَ النَّهَارِ، ثُمَّ نَقَضَ إِمْسَاكَهُ بِالْمُفْطِرَاتِ بَطَلَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ صِيَامِهِ، وَلَمْ يُعْتَدَّ بِهِ، وَكَانَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ لَمْ يُمْسِكْ شَيْئًا مِنْ يَوْمِهِ‏.‏

قَالُوا‏:‏ وَيَدُلُّ عَلَى هَذَا الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ، وَهُوَ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏ إِنَّ الْعَبْدَ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ حَتَّى مَا يَكُونُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا إِلَّا ذِرَاعٌ، فَيَسْبِقُ عَلَيْهِ الْكِتَابُ، فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ فَيَدْخُلُهَا وَهَذَا أَعَمُّ مِنْ أَنْ يَكُونَ هَذَا الْعَمَلُ الثَّانِي كُفْرًا مُوجِبًا لِلْخُلُودِ، أَوْ مَعْصِيَةً مُوجِبَةً لِلدُّخُولِ، فَإِنَّهُ لَمْ يَقُلْ ‏"‏ فَيَرْتَدُّ فَيُفَارِقُ الْإِسْلَامَ ‏"‏ وَإِنَّمَا أَخْبَرَ أَنَّهُ يَعْمَلُ بِعَمَلٍ يُوجِبُ لَهُ النَّارَ، وَفِي بَعْضِ السُّنَنِ‏:‏ إِنَّ الْعَبْدَ لِيَعْمَلُ بِطَاعَةِ اللَّهِ سِتِّينَ سَنَةً، فَإِذَا كَانَ عِنْدَ الْمَوْتِ جَارَ فِي وَصِيَّتِهِ فَدَخَلَ النَّارَ فَالْخَاتِمَةُ السَّيِّئَةُ أَعَمُّ مِنْ أَنْ تَكُونَ خَاتِمَةً بِكُفْرٍ أَوْ مَعْصِيَةٍ، وَالْأَعْمَالُ بِالْخَوَاتِيمِ‏.‏

فَإِنْ قِيلَ‏:‏ فَهَذَا يَلْزَمُ مِنْهُ إِحْبَاطُ الْحَسَنَاتِ بِالسَّيِّئَاتِ، وَهَذَا قَوْلُ الْمُعْتَزِلَةِ، وَالْقُرْآنُ وَالسَّنَةُ قَدْ دَلَّا عَلَى أَنَّ الْحَسَنَاتِ هِيَ الَّتِي تُحْبِطُ السَّيِّئَاتِ لَا الْعَكْسِ، كَمَا قَالَ‏:‏ ‏{‏إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ‏}‏ وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمُعَاذٍ اتَّقِ اللَّهَ حَيْثُمَا كُنْتَ، وَأَتْبِعِ السَّيِّئَةَ الْحَسَنَةَ تَمْحُهَا، وَخَالِقِ النَّاسَ بِخُلُقٍ حَسَنٍ‏.‏

قِيلَ‏:‏ وَالْقُرْآنُ وَالسُّنَّةُ قَدْ دَلَّا عَلَى الْمُوَازَنَةِ، وَإِحْبَاطِ الْحَسَنَاتِ بِالسَّيِّئَاتِ فَلَا يُضْرَبُ كِتَابُ اللَّهِ بَعْضُهُ بِبَعْضٍ، وَلَا يُرَدُّ الْقُرْآنُ بِمُجَرَّدِ كَوْنِ الْمُعْتَزِلَةِ قَالُوهُ- فِعْلَ أَهْلِ الْهَوَى وَالتَّعَصُّبِ- بَلْ نَقْبَلُ الْحَقَّ مِمَّنْ قَالَهُ، وَنَرُدُّ الْبَاطِلَ عَلَى مَنْ قَالَهُ‏.‏

فَأَمَّا الْمُوَازَنَةُ‏:‏ فَمَذْكُورَةٌ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ وَالْأَنْبِيَاءِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْقَارِعَةِ، وَالْحَاقَّةِ

وَأَمَّا الْإِحْبَاطُ فَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ‏}‏ وَتَفْسِيرُ الْإِبْطَالِ هَاهُنَا بِالرِّدَّةِ لِأَنَّهَا أَعْظَمُ الْمُبْطِلَاتِ، لَا لِأَنَّ الْمُبْطِلَ يَنْحَصِرُ فِيهَا، وَقَالَ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى‏}‏ فَهَذَانِ سَبَبَانِ عَرَضَا بَعْدُ لِلصَّدَقَةِ فَأَبْطَلَاهَا، شَبَّهَ سُبْحَانَهُ بُطْلَانَهَا- بِالْمَنِّ وَالْأَذَى- بِحَالِ الْمُتَصَدِّقِ رِيَاءً فِي بُطْلَانِ صَدَقَةِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، وَقَالَ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ‏}‏ وَفِي الصَّحِيحِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ مَنْ تَرَكَ صَلَاةَ الْعَصْرِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَقَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، لِأُمِّ وَلَدِ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ- وَقَدْ بَاعَ بَيْعَةَ الْعِينَةِ- أَخْبِرِي زَيْدًا‏:‏ أَنَّهُ قَدْ أَبْطَلَ جِهَادَهُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إِلَّا أَنْ يَتُوبَ، وَقَدْ نَصَّ أَحْمَدُ عَلَى هَذَا فِي رِوَايَةٍ، فَقَالَ‏:‏ يَنْبَغِي لِلْعَبْدِ أَنْ يَتَزَوَّجَ إِذَا خَافَ عَلَى نَفْسِهِ، فَيَسْتَدِينُ وَيَتَزَوَّجُ، لَا يَقَعُ فِي مَحْظُورٍ فَيَحْبَطُ عَمَلُهُ‏.‏

فَإِذَا اسْتَقَرَّتْ قَاعِدَةُ الشَّرِيعَةِ- أَنَّ مِنَ السَّيِّئَاتِ مَا يُحْبِطُ الْحَسَنَاتِ بِالْإِجْمَاعِ وَمِنْهَا مَا يُحْبِطُهَا بِالنَّصِّ- جَازَ أَنْ تُحْبِطَ سَيِّئَةُ الْمُعَاوَدَةِ حَسَنَةَ التَّوْبَةِ، فَتَصِيرَ التَّوْبَةُ كَأَنَّهَا لَمْ تَكُنْ، فَيَلْتَقِيَ الْعَمَلَانِ وَلَا حَاجِزَ بَيْنَهُمَا، فَيَكُونَ التَّأْثِيرُ لَهُمَا جَمِيعًا‏.‏

قَالُوا‏:‏ وَقَدْ دَلَّ الْقُرْآنُ، وَالسَّنَةُ، وَإِجْمَاعُ السَّلَفِ عَلَى الْمُوَازَنَةِ، وَفَائِدَتُهَا اعْتِبَارُ الرَّاجِحِ، فَيَكُونُ التَّأْثِيرُ وَالْعَمَلُ لَهُ دُونَ الْمَرْجُوحِ، قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ‏:‏ يُحَاسَبُ النَّاسُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَمَنْ كَانَتْ سَيِّئَاتُهُ أَكْثَرَ مِنْ حَسَنَاتِهِ بِوَاحِدَةٍ دَخَلَ النَّارَ، وَمَنْ كَانَتْ حَسَنَاتُهُ أَكْثَرَ مِنْ سَيِّئَاتِهِ بِوَاحِدَةٍ دَخَلَ الْجَنَّةَ، ثُمَّ قَرَأَ ‏{‏فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ

وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ‏}‏ ثُمَّ قَالَ‏:‏ إِنَّ الْمِيزَانَ يَخِفُّ بِمِثْقَالِ حَبَّةٍ أَوْ يَرْجَحُ، قَالَ‏:‏ وَمَنِ اسْتَوَتْ حَسَنَاتُهُ وَسَيِّئَاتُهُ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْأَعْرَافِ‏.‏

وَعَلَى هَذَا‏:‏ فَهَلْ يُحْبِطُ الرَّاجِحُ الْمَرْجُوحَ، حَتَّى يَجْعَلَهُ كَأَنْ لَمْ يَكُنْ، أَوْ يُحْبِطُ مَا قَابَلَهُ بِالْمُوَازَنَةِ، وَيَبْقَى التَّأْثِيرُ لِلْقَدْرِ الزَّائِدِ‏؟‏ فِيهِ قَوْلَانِ لِلْقَائِلِينَ بِالْمُوَازَنَةِ يَنْبَنِي عَلَيْهِمَا أَنَّهُ إِذَا كَانَتِ الْحَسَنَاتُ أَرْجَحَ مِنَ السَّيِّئَاتِ بِوَاحِدَةٍ مَثَلًا، فَهَلْ يَدْفَعُ الرَّاجِحُ الْمَرْجُوحَ جُمْلَةً‏؟‏ فَيُثَابُ عَلَى الْحَسَنَاتِ كُلِّهَا، أَوْ يُسْقَطُ مِنَ الْحَسَنَاتِ مَا قَابَلَ السَّيِّئَاتِ، فَلَا يُثَابُ عَلَيْهِ، وَلَا يُعَاقَبُ عَلَى تِلْكَ السَّيِّئَاتِ، فَيَبْقَى الْقَدْرُ الزَّائِدُ لَا مُقَابِلَ لَهُ، فَيُثَابُ عَلَيْهِ وَحْدَهُ‏؟‏‏.‏

وَهَذَا الْأَصْلُ فِيهِ قَوْلَانِ لِأَصْحَابِ الْمُوَازَنَةِ‏.‏

وَكَذَلِكَ إِذَا رَجَحَتِ السَّيِّئَاتُ بِوَاحِدَةٍ، هَلْ يُدْخَلُ النَّارَ بِتِلْكَ الْوَاحِدَةِ الَّتِي سَلِمَتْ عَنْ مُقَابِلٍ، أَوْ بِكُلِّ السَّيِّئَاتِ الَّتِي رَجَحَتْ‏؟‏ عَلَى الْقَوْلَيْنِ، هَذَا كُلُّهُ عَلَى أَصْلِ أَصْحَابِ التَّعْلِيلِ وَالْحُكْمِ‏.‏

وَأَمَّا عَلَى أُصُولِ الْجَبْرِيَّةِ، نُفَاةِ التَّعْلِيلِ وَالْحُكْمِ وَالْأَسْبَابِ وَاقْتِضَائِهَا لِلثَّوَابِ وَالْعِقَابِ فَالْأَمْرُ مَرْدُودٌ عِنْدَهُمْ إِلَى مَحْضِ الْمَشِيئَةِ، مِنْ غَيْرِ اعْتِبَارِ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، وَلَا يُدْرَى عِنْدَهُمْ مَا يَفْعَلُ اللَّهُ، بَلْ يَجُوزُ عِنْدَهُمْ أَنْ يُعَاقِبَ صَاحِبَ الْحَسَنَاتِ الرَّاجِحَةِ، وَيُثِيبَ صَاحِبَ السَّيِّئَاتِ الرَّاجِحَةِ، وَأَنْ يُدْخِلَ الرَّجُلَيْنِ النَّارَ مَعَ اسْتِوَائِهِمَا فِي الْعَمَلِ، وَأَحَدُهُمَا فِي الدَّرْكِ تَحْتَ الْآخَرِ، وَيَغْفِرُ لِزَيْدٍ وَيُعَاقِبُ عَمْرًا، مَعَ اسْتِوَائِهِمَا مِنْ جَمِيعِ الْوُجُوهِ، وَيُنْعِمُ مَنْ لَمْ يُطِعْهُ قَطُّ، وَيُعَذِّبُ مَنْ لَمْ يَعْصِهِ قَطُّ، فَلَيْسَ عِنْدَهُمْ سَبَبٌ وَلَا حِكْمَةٌ، وَلَا عِلَّةٌ، وَلَا مُوَازَنَةٌ، وَلَا إِحْبَاطٌ، وَلَا تَدَافُعٌ بَيْنَ الْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ، وَالْخَوْفُ عَلَى الْمُحْسِنِ وَالْمُسِيءِ وَاحِدٌ، إِذْ مِنَ الْجَائِزِ تَعْذِيبُهُمَا، وَكُلُّ مَقْدُورٍ لَهُ فَجَائِزٌ عَلَيْهِ، لَا يُعْلَمُ امْتِنَاعُهُ إِلَّا بِإِخْبَارِ الرَّسُولِ أَنَّهُ لَا يَكُونُ، فَيَمْتَنِعُ وُقُوعُهُ لِمُطَابَقَةِ خَبَرِهِ لِعِلْمِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ بَعْدَ وُقُوعِهِ‏.‏

فَصْلٌ‏:‏ ‏[‏الْخِلَافُ فِي اشْتِرَاطِ عَدَمِ الْعَوْدِ إِلَى الذَّنْبِ‏]‏

وَاحْتَجَّ الْفَرِيقُ الْآخَرُ- وَهُمُ الْقَائِلُونَ بِأَنَّهُ لَا يَعُودُ إِلَيْهِ إِثْمُ الذَّنْبِ الَّذِي تَابَ مِنْهُ بِنَقْضِ التَّوْبَةِ- بِأَنَّ ذَلِكَ الْإِثْمَ قَدِ ارْتَفَعَ بِالتَّوْبَةِ، وَصَارَ بِمَنْزِلَةِ مَا لَمْ يَعْمَلْهُ، وَكَأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ، فَلَا يَعُودُ إِلَيْهِ بَعْدَ ذَلِكَ، وَإِنَّمَا الْعَائِدُ إِثْمُ الْمُسْتَأْنَفِ لَا الْمَاضِي‏.‏

قَالُوا‏:‏ وَلَا يُشْتَرَطُ فِي صِحَّةِ التَّوْبَةِ الْعِصْمَةُ إِلَى الْمَمَاتِ، بَلْ إِذَا نَدِمَ وَأَقْلَعَ وَعَزَمَ عَلَى التَّرْكِ مُحِيَ عَنْهُ إِثْمُ الذَّنْبِ بِمُجَرَّدِ ذَلِكَ، فَإِذَا اسْتَأْنَفَهُ اسْتَأْنَفَ إِثْمَهُ‏.‏

قَالُوا‏:‏ فَلَيْسَ هَذَا كَالْكُفْرِ الَّذِي يُحْبِطُ الْأَعْمَالَ، فَإِنَّ الْكُفْرَ لَهُ شَأْنٌ آخَرُ، وَلِهَذَا يُحْبِطُ جَمِيعَ الْحَسَنَاتِ، وَمُعَاوَدَةُ الذَّنْبِ لَا تُحْبِطُ مَا تَقَدَّمَهُ مِنَ الْحَسَنَاتِ‏.‏

قَالُوا‏:‏ وَالتَّوْبَةُ مِنْ أَكْبَرِ الْحَسَنَاتِ، فَلَوْ أَبْطَلَتْهَا مُعَاوَدَةُ الذَّنْبِ لَأَبْطَلَتْ غَيْرَهَا مِنَ الْحَسَنَاتِ، وَهَذَا بَاطِلٌ قَطْعًا، وَهُوَ يُشْبِهُ مَذْهَبَ الْخَوَارِجِ الْمُكَفِّرِينَ بِالذَّنَبِ، وَالْمُعْتَزِلَةِ الْمُخَلِّدِينَ فِي النَّارِ بِالْكَبِيرَةِ الَّتِي تُقَدَّمُهَا الْأُلُوفُ مِنَ الْحَسَنَاتِ، فَإِنَّ الْفَرِيقَيْنِ مُتَّفِقَانِ عَلَى خُلُودِ أَرْبَابِ الْكَبَائِرِ فِي النَّارِ، وَلَكِنَّ الْخَوَارِجَ كَفَّرُوهُمْ، وَالْمُعْتَزِلَةَ فَسَّقُوهُمْ، وَكِلَا الْمَذْهَبَيْنِ بَاطِلٌ فِي دِينِ الْإِسْلَامِ، مُخَالِفٌ لِلْمَنْقُولِ وَالْمَعْقُولِ وَمُوجَبِ الْعَدْلِ ‏{‏إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا‏}‏‏.‏

قَالُوا‏:‏ وَقَدْ ذَكَرَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي مَسْنَدِهِ مَرْفُوعًا إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْعَبْدَ الْمُفَتَّنَ التَّوَّابَ‏.‏

قُلْتُ‏:‏ وَهُوَ الَّذِي كُلَّمَا فُتِنَ بِالذَّنْبِ تَابَ مِنْهُ، فَلَوْ كَانَتْ مُعَاوَدَتُهُ تُبْطِلُ تَوْبَتَهُ لَمَا كَانَ مَحْبُوبًا لِلرَّبِّ، وَلَكَانَ ذَلِكَ أَدْعَى إِلَى مَقْتِهِ‏.‏

قَالُوا‏:‏ وَقَدْ عَلَّقَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ قَبُولَ التَّوْبَةِ بِالِاسْتِغْفَارِ، وَعَدَمِ الْإِصْرَارِ، دُونَ الْمُعَاوَدَةِ، فَقَالَ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ‏}‏ وَالْإِصْرَارُ عَقْدُ الْقَلْبِ عَلَى ارْتِكَابِ الذَّنْبِ مَتَى ظَفِرَ بِهِ، فَهَذَا الَّذِي يَمْنَعُ مَغْفِرَتَهُ‏.‏

قَالُوا‏:‏ وَأَمَّا اسْتِمْرَارُ التَّوْبَةِ فَشَرْطٌ فِي صِحَّةِ كَمَالِهَا وَنَفْعِهَا، لَا شَرْطٌ فِي صِحَّةِ مَا مَضَى مِنْهَا، وَلَيْسَ كَذَلِكَ الْعِبَادَاتُ، كَصِيَامِ الْيَوْمِ، وَعَدَدِ رَكَعَاتِ الصَّلَاةِ، فَإِنَّ تِلْكَ عِبَادَةٌ وَاحِدَةٌ، لَا تَكُونُ مَقْبُولَةً إِلَّا بِالْإِتْيَانِ بِجَمِيعِ أَرْكَانِهَا وَأَجْزَائِهَا، وَأَمَّا التَّوْبَةُ فَهِيَ عِبَادَاتٌ مُتَعَدِّدَةٌ بِتَعَدُّدِ الذُّنُوبِ، فَكُلُّ ذَنْبٍ لَهُ تَوْبَةٌ تَخُصُّهُ، فَإِذَا أَتَى بِعِبَادَةٍ وَتَرَكَ أُخْرَى لَمْ يَكُنْ مَا تَرَكَ مُوجِبًا لِبُطْلَانِ مَا فَعَلَ، كَمَا تَقَدَّمَ تَقْرِيرُهُ‏.‏

بَلْ نَظِيرُ هَذَا أَنْ يَصُومَ مِنْ رَمَضَانَ وَيُفْطِرَ مِنْهُ بِلَا عُذْرٍ، فَهَلْ يَكُونُ مَا أَفْطَرَهُ مِنْهُ مُبْطِلًا لِأَجْرِ مَا صَامَهُ مِنْهُ‏؟‏‏.‏

بَلْ نَظِيرُ مَنْ صَلَّى وَلَمْ يَصُمْ، أَوْ زَكَّى وَلَمْ يَحُجَّ‏.‏

وَنُكْتَةُ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ التَّوْبَةَ الْمُتَقَدِّمَةَ حَسَنَةٌ، وَمُعَاوَدَةَ الذَّنْبِ سَيِّئَةٌ، فَلَا تُبْطِلُ مُعَاوَدَتُهُ هَذِهِ الْحَسَنَةَ، كَمَا لَا تُبْطِلُ مَا قَارَنَهَا مِنَ الْحَسَنَاتِ‏.‏

قَالُوا‏:‏ وَهَذَا عَلَى أُصُولِ أَهْلِ السُّنَّةِ أَظْهَرُ، فَإِنَّهُمْ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ الشَّخْصَ الْوَاحِدَ يَكُونُ فِيهِ وَلَايَةٌ لِلَّهِ وَعَدَاوَةٌ مِنْ وَجْهَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ، وَيَكُونُ مَحْبُوبًا لِلَّهِ مَبْغُوضًا لَهُ مِنْ وَجْهَيْنِ أَيْضًا، بَلْ يَكُونُ فِيهِ إِيمَانٌ وَنِفَاقٌ، وَإِيمَانٌ وَكُفْرٌ، وَيَكُونُ إِلَى أَحَدِهِمَا أَقْرَبَ مِنْهُ إِلَى الْآخَرِ، فَيَكُونُ مِنْ أَهْلِهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمَانِ‏}‏ وَقَالَ‏:‏ ‏{‏وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ‏}‏ أَثْبَتَ لَهُمُ الْإِيمَانَ بِهِ مَعَ مُقَارَنَةِ الشِّرْكِ، فَإِنْ كَانَ مَعَ هَذَا الشِّرْكِ تَكْذِيبٌ لِرُسُلِهِ لَمْ يَنْفَعْهُمْ مَا مَعَهُمْ مِنَ الْإِيمَانِ بِاللَّهِ، وَإِنْ كَانَ مَعَهُ تَصْدِيقٌ لِرُسُلِهِ، وَهُمْ مُرْتَكِبُونَ لِأَنْوَاعٍ مِنَ الشِّرْكِ لَا تُخْرِجُهُمْ عَنِ الْإِيمَانِ بِالرُّسُلِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ، فَهَؤُلَاءِ مُسْتَحِقُّونَ لِلْوَعِيدِ أَعْظَمَ مِنِ اسْتِحْقَاقِ أَرْبَابِ الْكَبَائِرِ‏.‏

وَشِرْكُهُمْ قِسْمَانِ‏:‏ شِرْكٌ خَفِيٌّ، وَشِرْكٌ جَلِيٌّ، فَالْخَفِيُّ قَدْ يُغْفَرُ، وَأَمَّا الْجَلِيُّ فَلَا يَغْفِرُهُ اللَّهُ إِلَّا بِالتَّوْبَةِ مِنْهُ، فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ‏.‏

وَبِهَذَا الْأَصْلِ أَثْبَتَ أَهْلُ السُّنَّةِ دُخُولَ أَهْلِ الْكَبَائِرِ النَّارَ ثُمَّ خُرُوجَهُمْ مِنْهَا وَدُخُولَهُمُ الْجَنَّةَ، لِمَا قَامَ بِهِمْ مِنَ السَّبَبَيْنِ‏.‏

فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَمُعَاوِدُ الذَّنْبِ مَبْغُوضٌ لِلَّهِ مِنْ جِهَةِ مُعَاوَدَةِ الذَّنْبِ، مَحْبُوبٌ لَهُ مِنْ جِهَةِ تَوْبَتِهِ وَحَسَنَاتِهِ السَّابِقَةِ، فَيُرَتِّبُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ عَلَى كُلِّ سَبَبٍ أَثَرَهُ وَمُسَبِّبَهُ بِالْعَدْلِ وَالْحِكْمَةِ، وَلَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ ‏{‏وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ‏}‏‏.‏