فصل: فصل في مسائل من الشهادات:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البهجة في شرح التحفة (نسخة منقحة)



.فصل في مسائل من الشهادات:

ذكر فيه جواز شهادة المختفي والشهادة على الخط والرجوع عن الشهادات والنقص والزيادة، وحكم إعادة الشهادة بعد كتبها وأدائها وما يتعلق بذلك.
وَيَشْهَدُ الشَّاهِدُ بالإقْرَارِ ** مِنْ غَيْرِ إشْهَادٍ عَلَى المُخْتَارِ

(ويشهد الشاهد بالإقرار) يتعلق بمحذوف حال أي ويشهد الشاهد بالحق على المقر معتمداً على إقراره الصادر منه (من غير إشهاد) وقوله: (على المختار) يتعلق بيشهد وما ذكره هو الذي به العمل كما في المفيد وابن سلمون وغيرهما، وظاهره كان الحق مالياً أو بدنياً كان الشاهد فقيهاً استفتاه المقر فيما لا ينوي فيه أم لا. كان الشاهد مختفياً بحيث لا يراه المقر أم لا. وهو كذلك في الجميع لكن:
بِشَرْطِ أنَّ يَسْتَوْعِبَ الكَلاما ** مِع المُقِرِّ البَدْءَ والتَّمَامَا

(بشرط أن يستوعب) الشاهد (الكلاما) مفعول بالفعل قبله (من المقر) يتعلق بذلك الفعل أو بمحذوف صفة للكلام (البدء والتماما) بدلان من الكلام أي أوله وآخره والألف واللام في الكلام والتمام معاقبة للضمير، وهذا الشرط يعتمد عليه الشاهد فقط. والوثيقة مقبولة إن لم ينص عليه فيها وكان من أهل العلم فإن لم يكن من أهل العلم فينبغي استفساره، وإنما اشترط هذا الشرط لأنه إذا لم يستوعب الكلام قد يفوته شيء لو سمعه لم يشهد عليه، إذ قد يقول له سراً، ما الذي عليك إن جئت بكذا، فيقول لك عندي كذا ويسمع الشاهد الجواب فقط ونحو ذلك، فلا يشهد حتى يحيط بسرهم وجهرهم. اهـ.
وبقي شرط آخر وهو أن لا يكون المقر مخدوعاً ولا خائفاً قاله ابن المواز، وإنما تركه الناظم لأنه شرط في كل شهادة لا في خصوص الشهادة بالإقرار، ومع ذلك لو أنكر الضعيف الجاهل الإقرار جملة لزمته الشهادة وإنما يصدق مع يمينه إذا قال: إنما أقررت لما ذكر من الخوف والخداع ونحوهما. ومثل الإقرار الذي هو موضوع المصنف الإنشاء كما لو سمع رجلاً يطلق زوجته أو يقذف رجلاً، وظاهره أيضاً أنه يشهد عليه بما سمع منه ولو قال له قبل ذلك: لا تشهد عليَّ بما تقول وهو كذلك فعن مالك في الرجلين يقولان للعدل لا تشهد علينا بشيء، فإنا تقاررنا بأشياء من أمرنا لا ندري أيتم ذلك بيننا أم لا. فيتكلمان ثُمَّ يعترفان ويسأله أحدهما الشهادة بما سمعه منهما قال: لا أرى أن يعجل بالشهادة فإن أقرا أو جحدا شهد بما سمعه منهما، ومقابل المختار مروي عن مالك أنه لا يشهد عليه حتى يشهده، ومفهوم قوله: من غير إشهاد أنه إذا أشهده جازت الشهادة عليه اتفاقاً، ويكتب الموثق حينئذ أشهد فلان بأن قبله لفلان كذا ليتخلص من الخلاف وهي حينئذ أصلية ولا تضع علامتك فيها إن كان المشهود عليه ممن يظن أنه لم يحط فيما فيها علماً أو أن يكون مخدوعاً حتى تقرأها عليه، وإن قال لك قبل ذلك ما فيها هو حق أميّاً كان أو قارئاً قاله في التبصرة، وأما في غير موضوع المصنف فهي استرعائية وتصدر وثيقتها بأقر أو أعترف لدينا أو بحضرتنا ونحو ذلك، ولابد فيها من معرفة المشهود عليه أو له أو التعريف بهما أو وصفهما والوصف هو الذي عمل به الموثقون والتعريف ضعيف كما في المعيار والبرزلي، ثُمَّ إذا وصفه لا يحكم عليه حياً كان أو ميتاً حتى يثبت أن تلك الصفات من صفاته، ولابد في الاسترعائية من قوله: لدينا أو بحضرتنا كما مرّ، وإن كان الدين من بيع قالوا: باع منه كذا وكذا بحضرتنا أو بإقراره عندنا بالبيع وقبض المبيع، فإن سقط من الوثيقة لفظ لدينا أو بحضرتنا أو قبض المبيع في البيع لم تعمل الشهادة حتى يبينوا ذلك فإن تعذر استفسارهم بأن غابوا أو ماتوا سقطت كما تسقط إذا لم يتعرضوا لمعرفة ولا تعريف ولا صفة وتعذر أداؤهم على عينه ولم يكونوا من أهل الضبط والتحفظ وإلاَّ قبلت، فإن سئل الشاهد عمن عرفه بالمشهود عليه فلا يعينه، وسؤاله عنه جهل من القضاة فإن عين شخصه بطلت لأنها صارت كالنقل وان عين جنسه ففي أجوبة ابن رشد أن الشاهد إذا قطع بمعرفة المشهود عليها ثُمَّ بعد ذلك قال: إنه لم يعرفها وإنما عينها له حين الإشهاد عليها امرأة وثق بها أن الشهادة عاملة إذا كان هو الذي ابتدأ سؤال المرأة المعرفة لأن ذلك من باب الخبر. اهـ.
فيفهم منه أن تعيين الجنس غير مضر فانظره.
وَما بِهِ قَدْ وَقَعَتْ شَهادَهْ ** وَطُلِبَ العَودُ فَلا إعادَهْ

(وما) مبتدأ موصول واقعة على الحق وجملة (به قد وقعت شهادة) صلتها والمجرور بالباء يتعلق بوقعت أو شهادة هو الرابط (وطلب) بالبناء للمفعول (العود) نائبه وأل فيه عوض عن الضمير وهو اسم مصدر بمعنى إعادة، والجملة معطوفة على الصفة (فلا) نافية للجنس (إعادة) اسمها والخبر محذوف أي: والحق الذي وقعت شهادة به سواء كتبت وأديت أو كتبت فقط أو أديت فقط وطلب من الشاهد إعادة الشهادة به معتذراً بضياع الرسم وشبه ذلك فلا إعادة جائزة، وظاهره سواء طلب إعادة الكتابة والأداء معاً أو إعادة الأداء فقط برسمه أو بدونه عند القاضي الأول أو عند غيره وهو كذلك لئلا يتكرر الحق على المطلوب، وهذا فيما يمكن فيه التكرار كالدين والوصية والكتابة والجراح ونظمها بعضهم فقال:
دين وصية كتابة دما ** لا نسخ في رسومها قد علما

على أنه لا مفهوم لهذه الأربع، بل كذلك الوديعة والقراض المقبوضان بإشهاد، وكذا البضاعة والقطاعة المقبوضان به أيضاً فضابط المنع كل ما يخشى فيه التكرار، وأما ما لا يخشى فيه ذلك كرسوم الملكيات المشتملة على التصرف وعدم النزاع ورسوم البيع للأصول ونحوها بالعقد ونحو ذلك فتجوز إعادة كتبه وأدائه لكن في الأداء برضا الشاهد إذ لا يلزمه الأداء مرتين لقوله تعالى: {ولا يضار كاتب ولا شهيد} (البقرة: 282) إلا أن يكون في الرسم إجمال أو إبهام فيلزمه تفسيره كما في المعيار وكما لا تعاد الشهادة فيما يخشى فيه التكرار كذلك لا تعطى النسخة من رسمه مسجلة على القاضي، كما أشار له ناظم العمل:
والحكم بالنسخة مشروط بأن ** تقوى العدالة وحال من فطن

لكن رسم الدين والوصية ** محتمل التكرار والتدمية

وظاهر النظم أنه إن أعادها لا يقضي بها سواء أعادها جهلاً أم لا كان المشهود له مأموناً أم لا. وهو كذلك خلافاً لابن الماجشون في أنه يقضي بها إن أعادها جهلاً، ولمطرف في أنها تعاد للمأمون فقط، وقد سئلت عمن ادعى على شخص بدين من سلف فقال المطلوب: لا حق له قبلي فاستظهر برسم تضمن أنه أسلفه مائة وحازها بالمعاينة، وأنه كتب له بذلك رسماً، وزعم الآن ضياعه فأعيدت له الشهادة بذلك، فأجبت بأن الطالب لا ينتفع بما استظهر به مع فقد أصله لإمكان كون المطلوب مزق الرسم عند أداء ما فيه وسواء ادعى القضاء أو أنكر الدين رأساً كما يقتضيه كلام الكافي وغيره، وقد قال العقباني وغيره: لا يعمل على النسخة إن كان الأصل مما لا يصح نسخه كالدين والوصية ونحوهما لئلا يتكرر التقاضي وإعادة الشاهد شهادته نسخ لها في الحقيقة، وقول ابن الماجشون: إن جهلوا وأعادوا قضى بها مقابل للمشهور بدليل ما مرّ عن العقباني، ويدل أيضاً على كونه مقابلاً قول المشهور يقضي بأخذ المدين الوثيقة أو تقطيعها كما في (خ) إذ لو كان رب الدين ينتفع بالإعادة لم يكن لأخذ المدين الوثيقة أو تقطيعها فائدة وما لا فائدة فيه يمتنع القضاء به، وفي حديث ابن عمر: أرى أن تشق الصحيفة فجعل شقها إبطالاً للحق كما في مسائل ابن الحاج ولو عمل بما لابن الماجشون لم تحصل لغريم أبداً براءة إذ عوائد الناس تمزيق الرسوم عند أداء الديون كما هو مشاهد قديماً وحديثاً ولا يستطيع أن يردهم عن ذلك إلى كتب البراءة حاكم ولا غيره، وما قيل من أن العمل على كتب البراءة دون التقطيع إنما هو عند التنازع فيما يظهر. أعني: إذا طلب أحدهما التقطيع وطلب الآخر الكتب لا فيما بعد الوقوع مع كون العادة جارية بالتقطيع والله أعلم. ووافقني على ذلك مفتي فاس في حينه شيخي سيدي محمد بن إبراهيم وغيره.
وشاهِدٌ بُرِّزَ خَطَّهُ عَرَفْ ** نَسِيَ ما ضَمَّنَهُ فيما سَلَفْ

(وشاهد) مبتدأ سوغ الابتداء به الوصف بقوله: (برز) وبقوله: (خطه عرف) وبقوله: (نسي ما ضمنه) وفاعل الأفعال الثلاثة ضمير مستتر يعود على الشاهد، وما واقعة على القصة، ويجوز أن تكون الجملتان الأخيرتان معطوفتين على جملة برز بحذف العاطف، ولكن المعطوف على الوصف وصف فهو راجع للمعنى الأول (فيما سلف) يتعلق بما قبله يليه وما الثانية واقعة على الزمان، يعني أن الشاهد إذا عرف خطه في الوثيقة، والشكل الذي يكنى به الشاهد عند تسمية نفسه أو في الشكل فقط ونسي القضية التي تضمنتها الوثيقة في الزمان السالف.
لابد مِنْ أَدَائِهِ بِذَلِكْ ** إلاَّ مع اسْتِرَابَةٍ هُنَالِكَ

(لابد من أدائه) عند القاضي (بذلك) المعنى الذي تضمنته الوثيقة معتمداً على خطه أو شكله جازماً بذلك غير ذاكر للقاضي أنه نسي القصة. والجملة من لا وخبرها خبر المبتدأ، ومعنى لابد لا محالة ولا فرار أي لا تخلص موجود من أدائه، وإذا أدى فإنه يقضى بها كما هو ظاهره إذ لا فائدة للأداء إلا ذاك، وظاهره أيضاً أنه يقضي بها، ولو ذكر للقاضي أنه نسيها وهو كذلك على ما يظهر من التعليل بكثرة النسيان اليوم وهو الظاهر من نظم العمل الآتي، وهو المروي عن مالك في الموطأ، فينبغي أن يعتمد وإن كان في الشامل صحح أنه إذا ذكر له أنه نسيها لزمه ردها وعدم القضاء بها، وعزاه في ضيح لمطرف وابن الماجشون واقتصر عليه ابن سلمون (إلا) إن أدى (مع) وجود (استرابة) من محو أو بشر لم يعتذر عنه (هنالك) أي في الرسم ظرف مكان يتعلق باسترابة والسين والتاء زائدتان فإنه لا يقضي بها حينئذ لوجود الريبة زيادة على النسيان، ويفهم من عدم القضاء بها مع الريبة عدم وجوب أدائها إذ لا فائدة له، فالاستثناء من مقدر كما ترى، وما ذكره المصنف هو قول مالك المرجوع عنه، وبه قال ابن الماجشون ومطرف والمغيرة وابن وهب وابن عبد الحكم وابن دينار وابن أبي حازم، وصوبه اللخمي وغيره قائلين: لو وكل الناس اليوم إلى الحفظ لما أدى واحد شهادته ولضاعت الحقوق اه ولأنه لو لم يشهد حتى يذكرها لما كان لوضع شكله فائدة وعليه العمل الآن قال ناظمه:
والشاهد العارف خطه ولم ** يذكر شهادته أدى للحكم

إن لم يكن محو به أو ريبة ** وتنفع الشهادة المطلوبة

ومقابله المرجوع إليه هو مذهب المدونة أنه لا يشهد حتى يستيقن الشهادة ويذكرها، وعليه اقتصر (خ) فقال: لا على خط نفسه حتى يذكرها وأدى بلا نفع أي ذاكراً له أنه نسيها، وقيل: إن كانت الوثيقة مكتوبة بخطه فليشهد، وإن لم يكن له إلا مجرد الشكل فلا، وظاهر المصنف أنه يؤدي سواء كان كل من الوثيقة والشكل بخط يده، أو لم يكن بخط يده إلا الشكل وحده وهو كذلك كما قررنا، لكن لا يجب عليه أداؤها في الصورتين إلا إذا تحقق من نفسه أنه لم يكتب خط مسامحة، وأما لو كان يكتب في بعض الأحيان مسامحة، ثُمَّ راجع نفسه وتاب فلا يؤدي ما يجده بخطه حتى يتحقق أنه بعد تاريخ توبته قاله عياض، وظاهر النظم أيضاً أنه لا يؤدي مع وجود الريبة من محو ونحوه ولو كان الباقي يستقل، وليس كذلك بل يؤدي بذلك المستقل ويحكم به القاضي كما مر في قوله: ويثبت القاضي على المحو وما أشبهه إلخ.
وأفهم قوله برز أن غير المبرز لا يؤديها وإن أداها لا يعمل الحاكم عليها، وهو كذلك إذا أقر أنه كان نسيها لأنه إذا اشترط التبريز مع التذكر كما مر عن (خ) في قوله: وذاكر بعد شك فأحرى أن يشترط مع عدمه، ولا يقال ما ذكره (خ) إنما هو فيما إذا لم تكن الشهادة مكتوبة وما هنا في المكتوبة، لأنا نقول: لا فرق بين الكتابة وعدمها عنده في الذاكر بعد الشك كما هو ظاهره كما أنهما عنده سواء فيما إذا لم يتذكرها، وأنها لا تقبل كتب أم لا. لقوله: وأدى بلا نفع فالكتابة لا أثر لها في مثل هذا إذ الخط يمكن الضرب عليه، بل هو كثير ولا تحصل الثقة بعدم الضرب إلا من المبرز لأنه هو الذي يتحراه ويتفطن للضرب وعدمه، ولذا لا يرفع على الخطوط إلا المبرز الفطن كما يأتي والله أعلم.
والْحُكْمُ في القاضِي كمْثلِ الشَّاهِدِ ** وَقِيلَ بالفرْقِ لِمَعْنًى زَائِدِ

(والحكم) مبتدأ (في القاضي) يتعلق به (كمثل الشاهد) خبر، والمعنى أن القاضي إذا وجد في ديوانه حكماً بخطه وهو لا يذكر القضية فإنه ينفذه ويمضيه حيث لم تكن ريبة كما أن الشاهد كذلك (وقيل) مبني للمفعول (بالفرق) نائب عن فاعله (لمعنى) يتعلق بقيل (زائد) صفة لمعنى ومعموله محذوف أي زائد فيه أي في القاضي، وهو أنه كان قادراً على أن يشهد على حكمه عدلين بخلاف الشاهد، فقد فعل مقدوره فهو معذور، وأيضاً فإن القاضي هو المنفذ لما تضمنه خطه ولا يرفع الأمر إلى غيره بخلاف الشاهد فإنه يرفع للقاضي شهادته وينهى إليه ما عنده منها ومع ذلك لا يثبت الحق بشهادته وحده، بل لابد من يمين أو شاهد ثان قاله ابن منظور.
تنبيه:
اعترض الشارح وغيره كلام الناظم بأن الخلاف المستفاد من كلام ابن المناصف على الوجه المذكور إنما هو في قبول كتب القاضي إلى قاض بمجرد معرفة خطه، هذا هو الذي حكى فيه الخلاف بين أهل عصره وأهل المذهب كما تقدم في خطاب القضاة، وأما مسألة القاضي يجد في ديوانه حكماً بخطه فليس عنده إلا عدم جواز التنفيذ قولاً واحداً قال: ولا يتخرج فيه القول بالتنفيذ من الخلاف في الشاهد يتيقن خطه، ولا يذكر الواقعة لعذر الشاهد في الجملة إذ ذاك مقدوره، والقاضي كان قادراً على الإشهاد على حكمه اه باختصار. فمسألة القاضي يجد حكماً في ديوانه بخطه دون أن يذكره ليس فيها قول بالتنفيذ دون إشهاد لا نصاً ولا تخريجاً، وإنما الخلاف في قبول كتاب القاضي بمجرد معرفة خطه كما مرّ وقد أصلحه (ت) بقوله:
والحكم في القاضي بعكس الشاهد ** فلا ينفذ لمعنى زائد

وخَطُّ عَدْلٍ مَاتَ أَوْ غابَ اكْتُفي ** فِيهِ بِعَدْلَيْنِ وفي المالِ اقْتُفِي

(وخط عدل) مبتدأ ومضاف إليه (مات) في موضع الصفة لعدل (أو غاب) معطوف على مات، ومراده غاب ببعد كما صرح به بعد في قوله وفي مسافة القصر إلخ.
(اكتفي) مبني للمفعول خبر المبتدأ (فيه) يتعلق به وهو على حذف مضاف (بعدلين) نائب فاعل اكتفى أي: اكتفى القاضي في ثبوته بعدلين يشهدان أنهما نظرا إلى الوثيقة أعلاه مثلاً وحروفها أو شكلها المختومة به فتحققا أنها بخط فلان لا يشكان في ذلك، وأنه مات أو غاب ببلد كذا أو جهل محله وبه قيدا شهادتهما إلخ.
وهذه الشهادة على الكيفية هي ظاهر النظم وهي معنى قول (خ) إن عرفه كالمعين وهي كافية حيث كان ذو الخط معروفاً بالعدالة عند القاضي أو غير معروف، وعدله عنده غير الشاهد بخطه فإن لم يعدله أحد ألغيت شهادته. والحاصل أن من لم يعرف عدالة ذي الخط لا يشهد إلا بمعرفة خطه خاصة، ثُمَّ إن احتاج القاضي فيه إلى تعديل عدل وإلاَّ فلا، وليس من تمام التعريف التعرض للتعديل كما هو ظاهر ابن سلمون والفائق وغيرهما لأن التعديل مما يستند فيه القاضي إلى علمه فإن أراد الشاهد بالخط تعديل صاحبه لمعرفته بحاله زاد بعد قوله: لا يشك في ذلك ما نصه: وإنه كان حين إيقاعه لها ووضعها فيه من أهل العدالة وقبول الشهادة، واستمر على ذلك في علمه إلى أن مات أو إلى أن غاب، وكذا إن عدله غير الشاهد بخطه. وهذا معنى قول (خ) وتحملها عدلاً أي ووضعها في حال العدالة، وإنما اشترط هذا لئلا يكون وضعها وهو فاسق ولو كان حياً لم يؤدها، وإنما اشترط الاستمرار على العدالة لئلا يكون قد طرأت جرحته، ففي اختصار المتيطية قال مالك: لا تجوز الشهادة على خط الشاهد ومعرفة عدالته حتى يقول الشاهد بخطه: إنه كان في تاريخ الشهادة عدلاً ولم يزل على ذلك حتى توفي احتياطاً من أن تكون شهادته سقطت لوجه ما ونقله (ح) وغيره. اهـ.
وقوله: ولم يزل على ذلك إلخ.
ظاهر كلام غير واحد كصاحب الشامل وشراح المختصر والمتيطي في باب الحبس وابن سلمون وابن عرفة أنه شرط صحة. وقال ابن رحال في شرحه: لعله شرط كمال فقط لأن العدالة إذا ثبتت فالأصل بقاؤها، ويدل لذلك قوله احتياطاً لأن الاحتياط يدل على عدم الوجوب. اهـ.
وفيه نظر، فإن الرفع بمنزلة أداء الشاهد المرفوع على خطه، وهو إذا طرأ عليه فسق قبل الأداء كان جرحة فيه فلابد حينئذ من قولهم واستمر على ذلك في علمهم حتى مات إلخ.
ولأن الشاهد لا يعمل بشهادته حتى يذكر اقتفاء علمه بالمبطل لها كما مرّ في خطاب القضاة. وظاهر قوله: ولم يزل على ذلك إلخ.
أنه يسوقها مساق القطع، وليس ذلك بل على العلم فقط كما مرّ، وهل لابد أن يشهد الشاهد بالخط أو غيره أن المشهود على خطه كان يعرف من أشهده معرفة عين لئلا يكون قد شهد على من لا يعرف، ولاسيما وقد غلب تساهل الناس في وضع شهادتهم على من لا يعرفون. وهذا قول ابن زرب وصحح ودرج عليه (خ) في قوله: وإنه كان يعرف مشهده أو لا يشترط ذلك وهو ظاهر النظم وكلام المتقدمين. ابن رشد: وهو الصواب وبه العمل لأن ذا الخط يحمل على أنه لم يضعها إلا عن معرفة وإلا كان شاهداً بزور والغرض أنه عدل، وهذا إذا كانت الوثيقة المشهود على خطها خالية من المعرفة والتعريف والوصف، وإلاَّ فلا يشترط ذلك اتفاقاً، وظاهر النظم أنه لا يشترط إدراك صاحب الخط وهو كذلك على ما به العمل، ونقله في المعيار عن اللخمي وغيره قالوا: ولو تكرر عليه خطه وعلمه بالتواتر حتى لا يشك فيه صح أن يشهد أنه خطه لأنه إذا تكرر وطال حصل العلم به كما نقطع بخطوط قوم ماتوا، وما أدركناهم إلخ.
وفي نوازل البيوع ما نصه: إذا كان الشاهد معروفاً بالشهادة في ذلك البلد وتكررت منه في الوثائق جاز لمن عنده العلم بها أن يحييها، وإن لم يعاصره. اهـ.
وعليه عول ناظم العمل حيث قال:
ورفع عدلين على خطوط من ** عاصر أو سواه من أهل الزمن

وقيل: لا يرفع على خطه إلا من رآه يكتب علامته على الرسوم في تلك الوثيقة أو غيرها. وقول الناظم: خط أي سالم من الريبة كمحو وكشط ونحوهما بدليل قوله: إلا مع استرابة إلخ.
لأنه إذا اشترط في خط نفسه فأحرى في غيره، وقوله: عدل أي منتصب للشهادة لأن الغالب إطلاقه عليه، وإلاَّ فلا يرفع على خطه، ولو كان مشهوراً بالعدالة لأن العادة أن الناس إنما يتوثقون في الرسوم من المبرزين المنتصبين لا من غيرهم. قاله العبدوسي وعليه عول ناظم العمل حيث قال:
وارفع على العدول خط العادة ** إذ غيرهم لا يكتب الشهادة

وأما غير العدول وهو الفاسق فلا معنى للرفع عليه. وقوله: عدلين أي: فطنين عارفين بالخطوط ممارسين لها فحذف الصفة في هذا وفي الذين قبله فلا يقبل الرفع من مطلق العدول، وظاهر قوله: اكتفى فيه بعدلين أن القاضي لا يكتفي بمعرفته، بل لابد من الرفع، وإلا كان قاضياً بعلمه وهو كذلك على ما مرَّ في خطاب القضاة ولا ينافي هذا ما مرّ في أول التقرير من أن القاضي إذا عرف عدالة الغائب أو الميت فيعمل عليها لأن ذلك بعد التعريف له بالخط وظاهر النظم أنه لا يمين على المشهود له لضعف الشهادة وهو كذلك، لكن لا يقضي له إلا بعد الاستثناء والتثبت كما في التبصرة لضعف الشهادة، وأما يمينا القضاء والاستحقاق فلابد منهما. ومفهوم قوله عدلين أن الرفع بالواحد لا يكفي وهو المنصوص، وجرى العمل بالاكتفاء بالواحد ولو تعدد الخط دون يمين قاله في الفائق، وبه أفتى المجاصي وغيره قيل وهو مما لا يساعده نص ولا تجريح. وعن الشيخ برذلة أن الاكتفاء بالواحد من باب الخبر قال: هكذا تلقيت ذلك من شيخنا ابن سودة وغيره ونحوه. نقله بعض عن فتوى الشيخ (م) قائلاً أنه بمنزلة المقوم والقاسم والمخبر بالعيب فكما يرجع لأهل الصنائع في صنعتهم كذلك يرجع لأهل الخط في الإخبار بأن هذا خط فلان. اهـ.
وانظر ما يأتي عند قوله وواحد لجزئي في باب الخبر وما في (ت) من أن الاكتفاء بالواحد هو قول أشهب كما في التبصرة تحريف وقع في نسخته، والذي في النسخ المخلطة باللام والله أعلم. وفهم من قوله: مات أو غاب إلخ.
أن الحاضر لا يرفع على خطه وكذلك الغائب غيبة قريبة على أقل من مسافة القصر، لأن امتناع الشاهد من أداء شهادته مع حضوره أو قرب موضعه ريبة فيها قاله في ضيح.
تنبيهات:
الأول: ما تقدم عن (خ) والمتيطي وغيرهما من أنه لابد أن يقول الشاهد أنه وضعها في حال العدالة ولم يزل على ذلك إلى موته إلخ.
هو المنقول المنصوص لغير واحد كالإمام وغيره كما رأيته، وذكر ناظم العمل أن العمل جرى بعدم اشتراطه فقال:
وشاع في الرفع الشهادة على ** موت برسم ما عليه عولا

إلى قوله:
فإننا نعرف خطهم ولا ** نعرف من أحوالهم ما جهلا

ونقل كلام ابن سودة فقال: علم حال الشاهد وقت شهادته من عدالة وجرحة والاستمرار على ذلك من المتعذر، فإنا نشهد على خط من قبلنا ولا ندري هل كان عدلاً حين الشهادة، وهل استمر على ذلك أم لا اه؟ قال ابن رحال في شرح المختصر: وفي هذا العمل نظر، ثُمَّ قال وقوله: لم يزل على ذلك إلخ.
لعله شرط كمال إلى آخر ما مرّ. وقوله: فيه نظر أي لكونه مخالفاً للمنصوص والعمل لابد له من موافقة قول.
الثاني: لابد للرافع على الخط من تسمية نفسه ووضع علامته ليتمكن الخصم من الإعذار فيه كما تقدم.
الثالث: لا يجوز الرفع إلا على الخطوط المعروفة التي لا يقدر على الضرب عليها قاله في المعيار ونحوه لابن عرضون قائلاً: إذا كانت العلامة يمكن الضرب عليها من الفجار لعدم قوة تشكيلها، فلا يجوز لحاكم أن يقبل الرفع عليها لأن الشك يتطرق إليها وحيث يتطرق سقط الحكم اه بالمعنى.
الرابع: لابد أن يكون الخط المرفوع عليه حاضراً لأن الخط عين قائمة فلابد من الشهادة على عينه عند القاضي قاله ابن عبد السلام وغيره. وعليه نبهنا بقولنا في الوثيقة نظراً إلى الوثيقة أعلاه الخ لأنها إذا لم تكن حاضرة كانت هي المسألة المعبر عنها بمعاينة الرسوم وهي لا تفيد خلافاً لأبي الحسن في قوله: لا يشترط الحضور.
الخامس: إذا تعارضت الشهادتان في أنه خطه وغير خطه فالمثبتة أولى من النافية قاله ابن زيتون.
السادس: إذا لم يضع ذا والخط علامته فلا يرفع عليه لأنه ربما كتب ولم يتم الأمر قاله البرزلي عن الطرر.
قلت: وتأمله مع ما يقع كثيراً من عدول فاس يقيدون الحقوق حتى يتفرغون لكتابتها، ثُمَّ يطرأ موت قبل الكتابة.
ولما كانت الخطوط تتشابه قال بعضهم: لا تجوز على الخط في شيء من الأشياء لأنه قد يحصل غلط للعقل بذلك، وعزاه الباجي للمشهور، وقيل: إن الغلط نادر، وعليه فهل تجوز فيما يجوز فيه الشاهد واليمين فقط أو فيه وفي الأحباس القديمة وإلى الثاني أشار بقوله: (وفي المال) يتعلق بقوله: (اقتفي) بالبناء للمفعول ونائبه يعود على الاكتفاء المفهوم من اكتفي، والجملة مستأنفة أي وأتبع الاكتفاء بعدلين في المال وما يؤول إليه فقط.
والْحَبْسُ إنْ يَقْدُمْ وقِيلَ يُعْتَمَلْ ** في كلِّ شَيْءٍ وَبِهِ جَرَى الْعَمَلْ

(و) قيل: يكتفي بهما في ذلك وفي (الحبس أن يقدم) شرط حذف جوابه للدلالة عليه، والواو هنا بمعنى أو لتنويع الخلاف كما قال ابن الهندي، وبجوازها في الأموال والأحباس جرى العمل قال: ويلزم من أجازها في الأحباس أن يجيزها في غيرها لأن الحقوق عند الله سواء وكما قال ابن حارث: العمل بجوازها ولا أرى أحداً فرق بين الأحباس وغيرها ونحوه في أحكام ابن سهل عن مولى ابن الطلاع وهو معنى قوله: (وقيل يعتمل) مبني للمفعول ونائب الثاني يعود على الاكتفاء أي يعتمل الاكتفاء بها (في كل شيء) ولو حداً أو طلاقاً أو نكاحاً (وبه) يتعلق بقوله: (جرى العمل) بقرطبة زمن ابن حارث، واستمر إلى زمن الناظم وزماننا.
كَذَاكَ في الْغَيْبَةِ مُطْلَقاً وَفي ** مَسَافَةِ الْقَصْرِ أُجِيزَ فَاعْرِفِ

(كذاك) خبر لمبتدأ محذوف أي العمل الآن به كذلك (في الغيبة) يتعلق بالاستقرار (مطلقاً) حال أي كان المشهود به مالاً أو غيره، وأعاد هذا مع استفادته من قوله: أو غاب الخ لإفادة شرطها الذي هو مسافة القصر فأكثر كما قال: (وفي مسافة القصر) يتعلق بقوله (أجيز) ونائبه يعود على الاكتفاء المذكور، ويجوز أن يكون النائب في اقتفى ويعتمل وأجيز ضميراً يعود على الشهادة المضافة لعدلين في التقدير لأن المعنى اكتفى فيه بشهادة عدلين على خطه على حد قوله: ولا أرض أبقل إبقالها.
(فاعرف) أمر حذف مفعوله أي فاعرف ذلك وهو تتميم وما ذكره من التحديد بمسافة القصر هو قول ابن الماجشون. ابن منظور: وبه العمل عن ابن عبد السلام، والأحسن قول سحنون عدم التحديد إلا بما تنال الشاهد فيه مشقة والقاضي يعلم ذلك عند نزوله قال: وجرت العادة عندنا أن اختلاف عمل القضاة يتنزل منزلة البعد وإن كان ما بين العملين قريباً لأن حال الشاهد يعلم في بلده وعند قاضيه لا في غير ذلك وفيه مع ذلك ضعف فإن الذي يشهد على خطه كالناقل عنه، فلابد أن يعدله أو يكون معلوماً عند القاضي.
وكَاتبٌ بِخَطِّهِ ما شاءَهُ ** وماتَ بَعْدُ أَوْ أبى إمْضاءَهُ

(وكاتب) مبتدأ سوغ الابتداء به عمله في قوله: (بخطه) وقوله: (ما شاءه) مفعول لكاتب وجملة شاءه صلة ما وهي واقعة على حقوق الغير من ديون وأمانات وطلاق ونحوها. والجملة في قوله: (ومات بعد) معطوفة على كاتب أي بعد أن كتب ما ذكر مات وأنكر ذلك وارثه (أو) لم يمت وأنكر هو أن يكون خطه و(أبى إمضاءه) مفعول بقوله أبى، والجملة معطوفة على كاتب أو على مات.
يُثْبَتُ خَطّهُ ويَمْضِي ما اقْتَضى ** دُونَ يَمِينٍ وبِذَا اليَوْمَ القَضَا

(يثبت) بضم أوله وفتح ثالثه مبني للمفعول (خطه) نائب والجملة خبر (ويمضي) بالبناء للمفعول ونائبه قوله (ما) وهي موصولة صلتها (اقتضى) والعائد محذوف أي يمضي الحق الذي اقتضاه خطه، ويجوز بناؤه للفاعل أي يمضي القاضي المفهوم من السياق ما اقتضاه خطه (دون يمين) على الطالب. والظرف يتعلق بيمضي (وبذا) خبر والإشارة للحكم المذكور في قوله: يمضي دون يمين (اليوم) يتعلق بالمبتدأ الذي هو (القضا) ء لأنه المشهور (خ) وجازت على خط مقر بلا يمين. اهـ.
وقيل: لابد من اليمين وهما روايتان ومنشؤهما هل ينزل الشاهدان على خطه منزلة الشاهدين على الإقرار أو منزلة الشاهد فقط لضعف الشهادة على الخط فلا يمين على الأول، ولو قام بالخط شاهد واحد فهل يحلف الطالب معه ويستحق أو تبطل شهادته؟ روايتان أيضاً مبنيتان على الاحتياج مع الشاهدين إلى اليمين فلا تقبل أولاً فتقبل مع اليمين. وفي التبصرة عن صاحب الطرر أن الصواب عدم الحكم بها. اهـ.
ولابن رشد لم يختلف قول مالك في قبول شهادة الشاهد الواحد على الخط مع اليمين ونحوه لابن يونس، فهذا أقوى مما في الطرر انظر شرحنا على الشامل، وظاهر ما به العمل في المسألة التي قبل هذه أنه يثبت خطه هنا بغير يمين أيضاً، وظاهر النظم أنه يقضي بالشهادة على الخط، ولو كان بالغبارى أو غيره كالمعبر عنه برسم الزمان، ولو لم يضع علامته عليه وهو كذلك كما في المعيار وفي الشامل، ولو كتب ذكر حر على نفسه بخطه ولم يكتب شهادته أي علامته فهو إقرار فإن كتبها يعني الشهادة أي العلامة بأقوى أي فهو أقوى في الإقرار. اهـ.
فإن كانت الوثيقة مكتوبة بخط غيره والعلامة مكتوبة بخطه، فالظاهر أنه ليس بإقرار، ولو كتب الحق على أبيه وأقر أن شهادته فيه، وزعم أنه كتبها بغير حق أو أنكرها فشهد عليه فقيل يؤخذ بالحق لأن مال أبيه لما صار إليه فكأن الشهادة على نفسه، واختاره ابن حبيب وقيل: لا يؤخذ بالحق إلا بإقرار وبغير خطه وبشهادته. ابن رشد: وهو أقيس قاله في ضيح ومفهوم قوله يثبت خطه أنه إذا لم يثبت أنه لم يقض عليه بشيء وهل يجبر حينئذ المطلوب على الكتابة ويطول عليه فيها بحيث لا يمكنه استعمال غير خطه لتقابله بالخط الذي عند الطالب، أو لا يجبر؟ قولان للخمي وعبد الحميد، واستظهر ابن عرفة الثاني ورجح بعض الشيوخ الأول كما في التبصرة.
تنبيه:
ما مرّ من جوازها في الطلاق محله كما لابن رشد إذا كتب الزوج بخطه أنه طلق زوجته وأرسل ذلك إليها أو إلى رجل يعلمها بذلك، فيحكم لها حينئذ بطلاقه إذا شهد على خطه عدلان، وأما إن لم يخرج الكتاب من يده فلا يحكم لها به إلا أن يقرّ أنه كتبه مجمعاً على الطلاق أي أو ينص فيه على أنه أنفذه كما قال في نوازله أيضاً في مسألة العتق ونصه: وأما إن كان دفعه أي الكتاب إلى العبد أو كان قد نص فيه على أنه أنفذه على نفسه فالشهادة على خطه يعني في حياته أو بعد موته عاملة كالشهادة على خطه بالإقرار بالمال قال: وفي قبول قوله إنه كتبه غير مجمع على الطلاق بعد إنكاره كتبه خلاف. اهـ.
ويفهم منه أنه إذا كتب الطلاق بخطه ولم يخرجه من يده أنه إذا مات ترثه ولو كان انقضت عدتها على تاريخ الكتاب، وإنما يبقى النظر فيما إذا أشهد بطلاقها وكتبه بعدلين ولم يعلمها بذلك حتى مات، ووجد الكتاب والطلاق بائن أو خرجت من العدة وهي معه في المصر أو بحيث يمكنه إعلامها، والذي في حفظي أنها ترثه مع جهل محل النص الذي وقعت عليه بإرثها إياه في الوقت، وكثيراً ما يفعله بعض الفجار فراراً من أن ترثه والله أعلم.
وامْتَنَعَ النّقْصَانُ والزِّيادَهْ ** إلاَّ لِمَنْ بَرَّزَ في الشَّهادَهْ

(وامتنع النقصان) فاعل على حذف مضاف أي قبول النقصان (والزيادة) معطوف عليه (إلا) استثناء (لمن) موصولة واللام بمعنى من كقوله:
لنا الفضل في الدنيا وأنفك راغم ** ونحن لكم يوم القيامة أفضل

والمستثنى منه محذوف أي من كل أحد إلا ممن (برز) بفتح الراء وتشديدها صلة من (في الشهادة) يتعلق به كأن يشهد بعشرة لزيد على عمرو أو بربع في دار ثُمَّ بعد أدائه شهد بأنها خمسة أو خمسة عشر أو بأن له النصف أو الثمن في الدار فإنها تقبل منه ويعمل على ما أدى به ثانياً إن ادعى نسيان ذلك أو لا. وظاهره كان ذلك قبل الحكم أو بعده طابقت شهادته دعوى المدعي أم لا. وهو كذلك في الزيادة فإن المدعي يحلف معه على طبق دعواه فقط، والزائد يسقط لأن المدعي لا يدعيه فيحمل على أنه قبضه ولا يفيده رجوعه عن الدعوى إلى شهادة الشاهد ومحل القضاء له بما يدعيه إذا لم يكذب الشاهد في الزيادة فإن كذبه فلا شيء له لأنه قد جرحه كمن شهد له بشيء فصدقه في البعض وكذبه في البعض الآخر، وأما في نقصان شهادته عن الدعوى فلا يخلو إما أن يكون قبل الحكم فيحلف على طبق الشهادة فقط ويسقط ما بقي مما ادعاه وإن كان بعد الحكم فلا يسقط شيء ويغرم الشاهد النقص لأنه من الرجوع بعد الحكم إن لم يتعذر، وهذا فيما إذا زاد أو نقص بعد الأداء وإلاَّ فيعمل على ما أدى به كان مبرزاً أم لا. ومفهوم في النقصان والزيادة أن تفسير المجمل وتخصيص العموم وتقييد المطلق يقبل من الشاهد مطلقاً وهو كذلك قاله في هبات المعيار ونحوه لابن ناجي عند قولها في التخيير والتمليك، وإن قالت: اخترت نفسي سئلت عن نيتها إلخ.
قال: أقام شيخنا حفظه الله من قولها سئلت أن الشاهد إذا شهد شهادة مجملة فإنه يفسرها ولا يكون زيادة فيها ووقع الحكم بذلك عندنا بالقيروان. اهـ.
وسئلت عن نازلة من هذا المعنى وهي أن رجلاً حبس على أولاده الصغار جميع البستان في محل كذا، وأشهد بذلك ثُمَّ مات فقام من نازع الصغار، وأثبت أن المحبس كان يأكل غلته من تمر وزرع وغيرهما، واستمر على ذلك ولم ينتقل عنه إلى أن سافر السفر الذي مات فيه بقربه ومستند علمهم في ذلك المخالطة التامة والمعاينة الخ ثُمَّ قالوا في الاستفسار بعد الأداء أنهم عرفوا ذلك بالمخالطة وإقرار المحبس فأفتى من يعتد به من فقهاء سجلماسة ببطلان الحبس لأجل ما ثبت من أكله الغلة المذكورة، وأن زيادة الإقرار في الاستفسار بيان لما أجمله في المخالطة فلا تضره، وأيضاً فإن المضر هو زيادة العدد كما في الشراح. فأجبت عن ذلك بما نصه: الحمد لله من تأمل الشهادة بأكل المحبس غلة حبسه مع استفسارها علم أنها ناقصة عن درجة الاعتبار لأن لفظ المخالطة والمعاينة المؤدى به أولاً ليس من قبيل المجمل كلفظ غريم لرب الدين والمدين حتى يقبل من الشاهد في الاستفسار قصره على بعض محتملاته ولا من العام كمن الشرطية والموصولة حتى يقبل من الشاهد قصره على بعض أفراده ولا من المطلق الدال على مطلق الماهية كنحو دابة ودار حتى يقبل من الشاهد تقييده ببعض خواصه، بل هو نص في معناه الخاص الذي لا يقبل أن يفسر بغيره فذكرهم الإقرار في الاستفسار زيادة على اللفظ المؤدى به قطعاً إذ المخالطة المعاملة والمعاينة المشاهدة بحاسة البصر إذ هو مفاعلة من عاين الشيء يعاينه إذا رآه ببصره فلا يطلق واحد منهما على الآخر، ومما تمجه الأسماع والطباع ويرد على قائله بلا نزاع قول القائل خالطه بإقراره لديه، فالمخالطة لا تدل على الإقرار لا بالمطابقة ولا بالتضمن والالتزام، فالإقرار حينئذ من الزيادة التي لا تقبل إلا من المبرز وأين هو اليوم هذا لو تمحضت الزيادة، كيف والشاهد أسند علمه أولاً إلى المخالطة والمعاينة وثانياً إلى المخالطة والإقرار، وأسقط المعاينة فقد اشتملت شهادته أولاً وثانياً على الزيادة والنقصان معاً، فإسقاطه معاينة بعد أدائه بها رجوع عنها إلى غيرها، وذلك لا يقبل من مبرز ولا من غيره وليست الزيادة في كلام الأئمة خاصة بزيادة العدد، بل فرضهم ذلك في العدد إنما هو على جهة المثال، وإلا فالزيادة كل معنى لا يصح أن يتناوله اللفظ الأول بشيء من الدلالات المذكورة، وفي المعيار عن العبدوسي الاستفسار سؤال الشاهد عن شهادته التي أداها فإن أتى بشهادته نصاً أو معنى وإن اختلف اللفظ صحت وإلاَّ بطلت. وفيه أيضاً من جواب لمؤلفه فيمن شهد بعمرى وأدى بها، ولم يذكر قبول المعمر بالفتح ثُمَّ بعد الأداء ذكر أنه كان قد قبل ما نص الغرض منه إذا نص الشاهد شهادته ثانياً على نقص أو زيادة لم تتضمن شيئاً منه شهادته الأولى سواء قال: إن الزيادة والنقص من شهادته الأولى كان لنسيان أو غفلة، ولو سئلت عنه لأثبته وإنما سكت عنه لأني اعتقدت أن السكوت عنه غير قادح أو ظننت أن الزيادة ثانياً لا يحتاج إليها أولاً وإن ذكرها ثانياً لا يذكر بالبطلان على شهادتي أولاً. فالحكم في ذلك كله قبوله من المبرز دون غيره وشهادته أولاً وثانياً ساقطة. اهـ.
وراجِعٌ عنْها قَبُولُهُ اعتُبِرْ ** ما الحكْمُ لَمْ يَمْضِ وإنْ لَمْ يَعْتَذِرْ

(وراجع) مبتدأ سوغ الابتداء به عمله في (عنها) أي عن شهادته (قبوله) مبتدأ ثان وضميره للرجوع المفهوم من راجع (اعتبر) بالبناء للمفعول خبر الثاني وهو مع خبره خبر عن الأول (ما) ظرفية تتعلق باعتبر (الحكم) مبتدأ (لم يمض) خبره أي قبول رجوعه معتبر مدة كون الحكم لم يقع هذا إذا اعتذر عن رجوعه بأن قال: اشتبه علي مثلاً وظننته أنه المشهود عليه بل (وإن لم يعتذر) فتسقط شهادته وتصير كالعدم ولا يلزمه غرم اتفاقاً، وإنما الخلاف في أدبه وقبول شهادته في المستقبل، ففي المتيطية إن كان مأموناً وأتى بشبهة قبل وإلاَّ فلا. قال: ولا يؤدب عند أشهب وسحنون مخافة أن لا يرجع أحد وبه العمل. وقال ابن القاسم: يؤدب ومحله ما لم يكن الرجوع عن زنا، وإلاَّ فيحد، وظاهره أنه يعتبر رجوعه قبل الحكم ولو بعد الأداء وهو كذلك إن رجع عند القاضي الذي أدى عنده اتفاقاً فإن رجع عند غيره من العدول أو عند غير قاضيه فقولان بالقبول. ابن ناجي: وبه العمل وبعدمه أفتى الغبريني، وصدر به ابن سلمون قال الحميدي: وبه العمل عندنا، وبه أفتى سيدي إبراهيم الجلالي، وظاهر هذا أنه إذا رجع عند غير قاضيه لا يعمل برجوعه ولو مات فظهر بهذا قوة هذا القول دون ما تقدم عن ابن ناجي، واقتصر عليه ناظم العمل المطلق.
قلت: وموضوع هذا الخلاف أن الراجع مقرّ برجوعه أو لم يعلم ما عنده لغيبته أو موته وإلاَّ فلا يعمل برجوعه لأن الرجوع شهادة، والشاهد عليه ناقل، ويشترط في النقل أن لا يكذبه الأصل وإن كان قد علل ذلك سيدي إبراهيم الجلالي بأن تصديقهما ليس بأولى من تصديقه، ولكن التعليل بما مر أولى. وفي التبصرة لو لقي الشاهد المشهود عليه فقال له: ما شهدت به عليك باطل أو لا شهادة لي عليك فلا يضره ذلك، وإن كانت له عليه بينة إلا أن يرجع عن شهادته رجوعاً بيناً ويقف عليه ولا ينكره فإن قال له عند الحاكم أو عند إرادة نقلها عنه فذلك إبطال لها. اهـ.
ونحوه لابن سلمون وابن عرفة. قلت: وتأمله مع مالك وشراحه عند قوله: ومكن مدع رجوعاً من بينة كيمين إن أتى بلطخ، واختلف إذا أدى شهادته ثُمَّ رجع إلى القاضي وقال له: نالني من أجل شهادتي أذى، وبالله الذي لا إله إلا هو ما شهدت إلا بحق لكني قد رجعت عنها فلا تقض بها. فقيل: ليس قوله ذلك برجوع لأن الرجوع أن يكذب نفسه أو يقول: دخلني شك. وقال ابن زرب: إنه رجوع. قاله في المعيار، وليس من الرجوع من أدى شهادته ثُمَّ بعد طول لقي المشهود عليه فقال: ما شهدت عليك بشيء وكتبه له ناسياً لما أدى به أولاً قاله السجستاني في نوازله، ثُمَّ أشار إلى مفهوم قوله: ما الحكم لم يمض إلخ.
فقال:
وإنْ مَضَى الْحكْمُ فَلا واخْتُلِفَا ** في غُرْمِهِ لِمَا بِهَا قَدْ أُتْلِفا

(وإن) شرط (مضى الحكم) فاعل أي وقع (فلا) جواب الشرط أي فلا يقبل رجوعه بعد وقوع الحكم بل ينفذ ويمضي وتبطل شهادته الأخيرة التي رجع إليها (و) إذا أبطلت فقد (اختلفا) بالبناء للمفعول (في غرمه) بفتح الغين وضمها يتعلق باختلف (لما) يتعلق بغرم (بها) أي الشهادة يتعلق بقوله: (قد أتلفا) بالبناء للفاعل أو المفعول صلة ما فقال ابن الماجشون: لا غرامة لأنهما لو غرما حيث لم يتعمدا الزور لتورع الناس عن الشهادة مع كثرة الاحتياج إليها، وبه قال المغيرة وابن أبي حازم وقال مالك وابن القاسم: إذا رجعا بعد الحكم، وقيل الاستيفاء كما إذا حكم بغرم المال أو القصاص وقبل استيفائهما رجع، فإن الحاكم لا ينقض ويستوفي المال والدم ويغرمان الدية والمال للمحكوم عليه لأن العمد والخطأ في أموال الناس سواء ووافقهما أشهب وغيره في استيفاء المال دون الدم لحرمته ورجع إليه ابن القاسم أيضاً قال ابن رحال في شرحه: وهو الذي يظهر رجحانه من كلامهم ولا أقول بغيره، وعلى الأول اقتصر (خ) فقال: لا رجوعهم وغرما مالاً ودية ولو تعمدا الزور فإن المال يستوفى ولا يقتص منهما وإنما عليهما الدية فقط في أموالهما، وأما إن رجعا بعد الحكم والاستيفاء فليس إلا غرم المال والدية وإن لم يثبت عمدهما فإن ثبت فالدية عند ابن القاسم أيضاً والقصاص عند أشهب، فقول الناظم: وإن مضى الحكم الخ، صادق بالصورتين وشمل أيضاً ما إذا تبرأ الشهود من الشهادة بعد الحكم بها وادّعوا عدم أدائها، وإن الإشكال مستعملة عليهم وجوروا القاضي فإنه لا يلتفت إليهم كما مرّ في المعيار وغيره، وتقدم عن التبصرة أن فيه قولين وبعدم النقض قال ابن القاسم لأن ذلك رجوع. وانظر هل يجري فيهم الخلاف بالغرامة وعدمها أو لا لأنهم لم يقروا بالشهادة الموجبة للغرامة، وشمل أيضاً ما إذا ثبت الرسم عند القاضي وأشهد أنه ثبت عنده وأنه حكم بإمضائه وإعماله ثُمَّ طرأت جرحة من عزل أو رجوع أو نحوهما. فالظاهر أنه حكم نفذ فلا تسقط الشهادة لأنه حكم بإنفاذه قاصداً لهذا الوجه قاله البرزلي. وقد تحصل أن الرجوع بعد الحكم وقبل الاستيفاء فيه قولان في الدم، وأما المال فيستوفى اتفاقاً من ابن القاسم وأشهب، وأما بعد الحكم والاستيفاء فقولان في الدم بالقصاص وعدمه مع العمد، وكذا في المال بالغرامة وعدمها كعدم التعمد في الدم ومحل الخلاف في استيفاء الدم ما لم يثبت كذبهم كحياة من قتل أوجبه قبل الزنا ومحله أيضاً إذا ادعى الوهم والتشبيه فإن اعترف بالزور فهو قوله:
وشاهِدُ الزُّورِ اتِّفاقاً يَغْرِمُهْ ** في كلّ حالٍ والعِقابُ يَلْزَمُهْ

(وشاهد الزور) مبتدأ وهو كما لابن عرفة الشاهد بغير ما يعلم عمداً ولو طابق الواقع روي أنه عليه الصلاة والسلام قال: (عدلت شهادة الزور الإشراك بالله) ثلاث مرات. ويدل للحديث الكريم قوله تعالى: {فاجتنبوا الرجس من الأوثان واجتنبوا قول الزور} (الحج: 30) الآية وهو مأخوذ من الزور وهو الانحراف كما أن الإفك مأخوذ من الإفك وهو الصرف، فإن الكذب محرف مصروف عن الواقع قاله البيضاوي.
(اتفاقاً) أي من ابن الماجشون وغيره وهو حال من الغرم المدلول عليه بالخبر الذي هو (يغرمه) فالضمير المستتر يعود على الشاهد والبارز يعود على ما الواقعة على الشيء المتلف بفتح اللام في البيت قبله أي يغرم ما أتلفه حال كون غرمه متفقاً عليه في المذهب (في كل حال) أي كان المشهود به مالاً أو دماً عند ابن القاسم كما مر عن (خ) في قوله: ولو تعمد إلخ.
وقال أشهب: يقتص منه في العمد وهو أقرب لأنهم قتلوا نفساً بغير شبهة، والجار يتعلق بقوله يغرمه فإن علم الحاكم بزورهم أو بقادح فيهم أو علم مقيم البينة بكذبهما فالقصاص عليهما أو على من علم منهما. وفهم من قوله: لما بها الخ أنه إذا رجع أحدهما أو أقر بالزور غرم نصف الحق فقط لأنه لم يتلف بها إلاَّ ذاك، فإن حكم بشهادته مع يمين الطالب فقال ابن القاسم وابن وهب: يغرم المال كله وهو المعتمد، وإن كان مبنياً على ضعيف من أن اليمين استظهار لا كالشاهد. وقال ابن الماجشون: عليه نصف الحق لأن اليمين كالشاهد وهو معنى قول (خ) وإن رجع أحدهما غرم نصف الحق كرجل مع نساء إلى قوله: وعن بعضه غرم نصف البعض وإن رجع من يستقل الحكم بعدمه فلا غرم، فإذا رجع غيره فالجميع (والعقاب) مبتدأ خبره (يلزمه) فيطاف به في المجالس ويضرب ويسجن (خ) وعزر شاهد بزور في الملأ بنداء ولا يحلق رأسه أو لحيته ولا يسخمه ثُمَّ في قبوله تردد إلخ.
وبعدم القبول وإن تاب قال مالك والمتيطي: وبه العمل. اهـ.
فلا تصح ولاية القاضي إن قبل شهادته أو قبل شهادة الفاسق ونحوه لغير عذر، وليس من العذر خوفه من العزل إن لم يقبله كما لابن عرفة وغيره، والقاضي إذا ثبت عليه الجور أو أقرّ به أقبح من شاهد الزور فلا تجوز ولايته أبداً ولا شهادته وإن صلحت حاله وعليه العقوبة الموجعة قاله ابن عتاب وغيره.