فصل: فصل في أحكام الدماء:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البهجة في شرح التحفة (نسخة منقحة)



.فصل في أحكام الدماء:

وهو باب مهم بلا شك لأن حفظ النفوس إحدى الخمس التي اجتمعت الملل على وجوب حفظها فقد نقل الأصوليون إجماع الملل على حفظ الأديان والنفوس والعقول والأعراض والأموال، وقد ذكر بعضهم الأنساب بدل الأموال. وفي الحديث الكريم: (لقتل المؤمن أعظم عند الله من زوال الدنيا كلها) وفيه أيضاً: (من أعان على قتل أمرئ مسلم ولو بشطر كلمة جاء يوم القيامة بين عينيه مكتوب آيس من رحمة الله تعالى). اهـ. ونقله ابن الحاج وغيره قال: وورد عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: (كل ذنب عسى الله أن يغفره إلا من مات مشركاً أو من قتل مؤمناً متعمداً) وقد أخبر تعالى أن قتل النفس بغير حق كقتل جميع الناس في عظم الإثم فقال: من قتل نفساً بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعاً} (المائدة: 32) قال مجاهد: جعل الله جزاء من قتل نفساً بغير حق جهنم وغضب عليه ولعنه وأعد له عذاباً عظيماً، فلو قتل جميع الخلق لم يزد من العذاب على ذلك، وما سماه الله عظيماً لا يعلم قدره إلا هو عز وجل. اهـ. واختلف في قبول توبته على قولين مأخوذين من قول مالك لأنه مرة قال: لا تجوز إمامته وإن تاب، ويؤيده أن من شرط قبول التوبة رد التباعات ورد الحياة على المقتول متعذر إلا أن يحلله المقتول قبل موته، ومرة قال: هو في المشيئة يكثر من العمل الصالح والصدقة والجهاد والحج فيؤخذ منه قبول توبته. ابن رشد: من قال إن القاتل مخلد في النار أبداً فقط أخطأ، وخالف أهل السنة لأن القتل لا يحبط ما تقدم من إيمانه ولا ما اكتسب من صالح أعماله. اهـ. وحكى ابن عطية الإجماع منا ومن المعتزلة على أن القصاص كفارة للقتل لحديث (من عوقب في الدنيا فهو كفارة له) قال: والجمهور على قبول توبته. اهـ. وما حكاه من الإجماع طريقة له، بل حكى ابن رشد في ذلك قولين متساويين قيل كفارة، وقيل ليس بكفارة لأن المقتول لا منفعة له في القصاص، وإنما منفعته عائدة على الأحياء ليتناهى الناس عن القتل. قال تعالى: {ولكم في القصاص حياة} (البقرة: 179) أي لكم في مشروعية القصاص حياة لأن الشخص إذا علم أنه يقتص منه انكف عن القتل وهو ضربان قتل خطأ وسيأتي، وقتل عمد ولا واسطة بينهما على المشهور إلا ما ثبت من شبه العمد عند مالك في رمي الأب ولده بحديدة على ما يأتي عند قوله: وغلظت فثلثت في الإبل الخ خلافاً لمن أثبت شبه العمد في غير الأب وإلى العمد المحض أشار الناظم بقوله:
وَالْقَتْلُ عَمْداً للقصَاصِ مُوجِبُ ** بعد ثُبُوتِهِ بِمَا يَسْتَوْجِبُ

(والقتل) بفعل حال كونه (عمداً) عدواناً (للقصاص موجب بعد ثبوته) أي العمد (بما يستوجب) بكسر الجيم وفتح الياء مبنياً للفاعل والسين والتاء زائدتان أي القتل عمداً موجب للقصاص بعد ثبوته بما يجب ثبوته به، والذي يثبت به أحد أشياء ثلاثة بينها بقوله:
مِن اعْتِرَافِ ذِي بُلُوغٍ عَاقِلِ ** أَوْ شَاهِدَيْ عَدْلٍ بِقَتْلِ القَاتِلِ

(من اعتراف) شخص (ذي بلوغ عاقل) طائع أنه قتل فلاناً عمداً عدواناً لا باعتراف صبي أو مجنون أو مكره، فإن أقر أنه قتله خطأ وقال الأولياء: بل عمداً عدواناً فالظاهر أن القول للأولياء كما يأتي فيمن قامت بينة بضربه فقال: لم أقصد ضربه، وقال الأولياء: بل قصدته فإن القول لهم. (أو شاهدي عدل) شهدا (ب) معاينتهما ل (قتل) هذا (القاتل) العاقل البالغ لهذا المقتول أو شهدا بمعاينتهما لضربه وإن بقضيب أو لطمة أو وكزة أو حجر أو عصا فمات عاجلاً أو مغموراً لم يتكلم، فإن تكلم يوماً أو أياماً فالقصاص بقسامة أكل أو لم يأكل ما لم ينفذ مقتله فلا قسامة ولو أكل أو شرب وعاش أياماً كما في ابن الحاجب ولا يصدق أنه لم يقصد ضربه ولا أنه ضربه على وجه اللعب قال في الشامل: ولا يصدق في إرادة اللعب ولا أنه لم يرد قتله.
واعلم أن أركان القصاص ثلاثة. أولها: القتل أي الفعل عمداً وهو معنى ما في البيت الأول، وقولي بفعل شامل للضرب والتخنيق والتثقيل ومنع الطعام وطرح غير محسن العوم في نهر ووضع مزلق بطريق، واتخاذ كلب عقور ونحو ذلك. وإلى هذا الركن أشار (خ) بقوله: إن قصد أي تعمد ضرب الغضب أو عداوة وإن بقضيب لخنق ومنع طعام أو مثقل ولا قسامة إن أنفذ مقتله أو مات مغموراً، ثم قال: وإن تصادما أو تجاذبا مطلقاً قصداً فماتا أو أحدهما فالقود وحملا عليه إلخ. أي: على القصد وهو يوضح لك أن من وجد منه الضرب وإن بقضيب محمول على قصده فلا يقبل منه أنه لم يقصده أو أنه قصده على وجه اللعب. قال ابن فرحون: ويجوز للشهود أن يشهدوا بأنه قتله عمداً عدواناً، والعمدية صفة قائمة بالقلب فجاز للشاهد أن يشهد بها اكتفاه بالقرينة الظاهرة إلخ. يعني لما رأوه من ضربه على وجه الغضب، وظاهر قوله عمداً أنه يقتل به ولو تبين خلاف الذات التي قصد قتلها كما لو ضربه على أنه عمرو فتبين أنه زيداً وعلى أنه عمرو بن فلان فتبين أنه عمرو بن فلان آخر، وهو كذلك إذ كلاهما معصوم ولا علينا في اعتقاده، وكذا لو قصد ضرب رأسه أو رجله فأصاب عينه ففقأها فإنه يقتص منه خلافاً لما في الرجراجي، وأما لو قصد ضرب هذه الذات عدواناً فأصاب ذاتاً أخرى فلا قود وهو خطأ خلافاً لما في (ح) والفرق أنه في الأول قصد هذه الذات فقتلها فتبين أن المقصود غيرها وهذه قصد ضرب هذه الذات فعدلت الرمية عنها إلى غيرها. واحترزت بقولي عدواناً عما إذا قصد ضرب شيء معتقداً أنه غير آدمي أو أنه آدمي غير محترم لكونه حربياً أو زانياً محصناً، فتبين أنه آدمي محترم فلا قصاص أيضاً ولو تكافئا، وإنما فيه الدية ويصدق بيمينه أنه ظنه حربياً لأن هذا وإن كان عمداً لكونه ليس بعدوان فإنه ملحق بالخطأ، ومما إذا كان الضرب على وجه اللعب وقامت قرينة عليه وإلاَّ فلا يصدق في إرادته كما مر، ومما إذا كان الضرب على وجه الأدب ممن يجوز له كالأب ونحوه فمات أو كسر رجله أو فقأ عينه فالدية على العاقلة إن بلغت الثلث وإلاَّ فعليه فقط. ويصدق الأب والمعلم والزوج في إرادة الأدب دون القتل إن كان بآلة يؤدب بمثلها لا إن ضربه المعلم باللوح ونحوه فإنه يقتص منه، وكذا إن ذبح الأب ولده أو شق بطنه لا إن رماه بالسيف وادعى أنه أدبه فلا يقتص منه، وثانيها القاتل وشرطه أن يكون عاقلاً بالغاً فحذفه من البيت الثاني لدلالة الأول عليه، وسيأتي أنه يزاد على ذلك كونه غير حربي مماثلاً للمقتول في الحرية والإسلام حيث قال:
والقود الشرط به المثليه ** في الدم والإسلام والحريه

إلخ.
فلا يقتل حربي بمسلم قتله في حال حربيته ثم أسلم، ولا مسلم بكافر ولو حراً، ولا حر مسلم بعبد كما يأتي. وثالثها: القتيل وشرطه أن يكون معصوم الدم كما يأتي في قوله: والشرط في المقتول عصمة الدم إلخ. فلا يقتص من مسلم قتل مرتداً أو زانياً محصناً. ثم أشار إلى الأمر الثالث الذي يثبت به القتل فقال:
أَوْ بِالْقِسَامَةِ وَباللَّوْثِ تَجِبْ ** وَهْوَ بِعَدِلٍ شَاهِدٍ بما طُلِبْ

(أو بالقسامة) وهي خمسون يميناً على قتل حر مسلم محقق الحياة فلا قسامة على قتل أضدادهم كما يأتي في قوله: وليس في عبد ولا جنين قسامة الخ (خ): والقسامة سببها قتل الحر المسلم يعني المحقق الحياة، ولكن لا يمكن منها الولي مطلقاً بل (وباللوث تجب) وتثبت له بدونه (وهو) أي اللوث أمر يحصل منه غلبة الظن بصدق المدعي وينشأ عن أمور خمسة. أحدها: أنه ينشأ (بعدل) واحد (شاهد بما طلب) من معاينة القتل أو الضرب أو الجرح تأخر الموت بأكل أو شرب أم لا. كان المقتول بالغاً أم لا. مسلماً أو كافر، والمرأتان العدلتان كالشاهد الواحد فيما ذكر فيحلف الأولياء يميناً واحدة تكملة للنصاب أنه لقد قتله أو ضربه ثم خمسين يميناً أنه لقد قتله أو لقد ضربه أو جرحه ولمن ضربه أو جرحه مات ويستحقون القود في العمد والدية في الخطأ أو في عدم المماثل، اللهم إلا أن يشهد بأنه قتله غيلة فلا يقسمون معه لأنه لا يقبل فيها إلا العدلان على المعتمد كما في الزرقاني، وظاهر النظم كغيره أن شهادة العدل لوث ولو لم يوجد أثر الضرب الذي شهد به، وهو كذلك إذ الضرب قد لا يظهر أثره في خارج الجسد.
وثانيها: أنه ينشأ عن شهادة اللفيف كما قال:
أَوْ بِكَثِيرٍ مِنْ لَفِيفِ الشُّهَدَا ** وَيسْقُطُ الإعْذَارُ فيهم أبَدَا

(أو بكثير من لفيف الشهدا) اثني عشر فأكثر على ما به العمل شهدوا بمعاينة قتله أو ضربه أو جرحه على نحو ما تقدم في العدل الواحد، وهذا على ما عند الناظم، ولكن العمل الجاري بفاس قبول شهادة اللفيف في جميع الأمور فإن الستة منهم يقومون مقام العدل الواحد، وقد نص ناظمه على أن العمل جرى بنفي اليمين مع الاثني عشر، وظاهر كلامه وكلام شراحه ولو في الدماء لأن الاثني عشر في مرتبة العدلين ونصفها في مرتبة الواحد وعليه فشهادته ليست لوثاً فقط بل قائمة مقام العدلين ولاسيما على ما يأتي في قوله: ومالك فيما رواه أشهب إلخ. لأنه يفهم منه حيث أوجب القسامة مع غير العدل المتحد أنها لا تجب مع المتعدد الكثير كما في اللفيف المذكور. (ويسقط الإعذار) للخصم (فيهم أبدا) لأنه مدخول فيهم على عدم العدالة فلا يقدح فيهم بكل ما يقدح به في العدول من مطل ولعب نيروز وحلف بعتق أو طلاق وعدم أحكام الصلاة والوضوء والغسل ونحو ذلك: نعم لابد فيهم من ستر الحال فلا يقبل تارك الصلاة ولا مجاهر بالكبائر من كثرة كذب وإظهار سكر ولعب بقمار وسفه ومجون، ولا متهم كصديق وقريب للمشهود له أو عدو للمشهود عليه، وهذا إذا وجد في البلد أمثل منهم، وأما إذا عم الفساد بالسكر وكثرة الكذب والمجاهرة بالكبائر. فلا يقدح في شهادتهم بشيء من ذلك كما لشارح العمل عند قوله:
لابد في شهادة اللفيف ** من ستر حالهم على المعروف

إلخ.
وإذا سقط الإعذار فيهم بما ذكر فلابد أن يعذر إلى القاتل فيقال له: إن كانت لك منفعة من غير باب شهود اللفيف فأثبت بها، أو لك تجريح بالقرابة أو العداوة أو المجاهرة بالكبائر ويوسع له في الأجل كما في ابن سلمون وغيره.
وثالثها: أن ينشأ عن الواحد غير العدل كما قال:
وَمَالِكٌ فيما رَوَاهُ أَشْهَبُ ** قَسَامَةٌ بِغَيْرِ عَدْلٍ يُوجِبُ

(ومالك) مبتدأ (فيما رواه أشهب قسامة بغير عدل يوجب) خبر وقسامة مفعوله والمجروران يتعلقان به أي: ومالك يوجب القسامة بشهادة الواحد غير العدل فيما رواه أشهب ولا إعذار فيه أيضاً إلا بما يعذر به في اللفيف المتقدم، وهذا وإن كان المشهور خلافه، ولكن لا ينبغي أن يهدر هذا القول ويلغى بالنسبة للمتهم المعروف بالعداء لموافقته لما به العمل كما مر في بابي السرقة والغصب ولعل مالكاً إنما قال في هذه الرواية بأن شهادة غير العدل لوث نظراً إلى كون المدعى عليه متهماً معروفاً بالعداء وسفك الدماء، ويؤيده ما يأتي عن ابن رحال في التدمية البيضاء، وأيضاً فإن التكليف شرطه الإمكان، وقد لا يحضر قتله إلا غير العدل فشهادته، وإن لم توجب قصاصاً فلا أقل من أن توجب مع القسامة الدية ولاسيما إذا كان مستور الحال، فشهادته حينئذ أقوى في اللوث من مجرد قول المدعي دمي عند فلان الذي أشار له بقوله:
أو بمقَالةِ الْجَرِيحِ المُسْلِمِ ** البَالِغِ الحُرِّ فُلاَنٌ بِدمِ

(أو بمقالة الجريح) أي الذي به جرح لا يفعله المرء بنفسه أو أثر ضرب أو أثر سم (المسلم البالغ الحر) العاقل ولو سفيهاً أو مسخوطاً ادعى بذلك على ورع أو زوجة على زوجها أو ولد على أبيه أنه ذبحه أو شق بطنه (فلان بدمي) أي قتلني كان فلان كافراً ذكراً أو أنثى حراً أو عبداً مسلماً أو ذمياً صبياً أو بالغاً عاقلاً أم لا. هذا إذا قال: قتلني عمداً بل ولو قال: قتلني خطأ فيقسم الأولياء ويستحقون القود أو الدية، ومفهوم قتلني أنه إذا قال: جرحني أو قطع يدي فإنه لا قسامة وهو كذلك ما لم تكن بينه وبين المدعى عليه عداوة فإنه يحلف ويقتص كما يأتي في الجراح.
يَشْهَدُ عَدْلاَنِ عَلَى اعْتِرَافِهِ ** وَصِفةُ التمييزِ مِنْ أَوْصَافِهِ

(يشهد عدلان على اعترافه) أي على قوله فلان بدمي أو قتلني ويستمر على إقراره، فل قال: قتلني فلان بل فلان بطل الدم، وكذا لو قيل له من جرحك؟ فقال: لا أعرفه، ثم قال: فلان أو قال دمي عند فلان أو فلان على جهة الشك أو دمي على جماعة، ثم أبرأ بعضهم أو دمي على رجل ثم دمي عليه وعلى غيره فإن تدميته ساقطة كما في البيان (و) الحال أن (صفة التمييز) وقت اعترافه (من أوصافه) فلا يقبل قوله مع وجود اختلال في عقله ولو كان بالغاً وفهم من قوله الجريح إن مقالة الذي لا أثر جرح فيه ولا أثر ضرب ولا أنه يتقيأ سماً أو يتنخم دماً لا تقبل، وهو كذلك على المعمول به كما في المتيطية وغيرها لأنها تدمية بيضاء، واعتمده (خ) حيث قال: إن كان بجرح. قالوا: وعليه فلا يسجن المدمي عليه قبل موت المدمى لأنه قد يتهم أن يكون أراد سجنه بدعواه، فإن مات سجن. وقال ابن رحال: المذهب قبول التدمية البيضاء لأنه مذهب المدونة كما صرحوا به، وبعضهم يقول: هو ظاهر المدونة. قال ابن مرزوق: وهو الراجح نقلاً ونظراً قال: وهو الذي ينبغي للمقلد أن يفتي به ثم قال: ومداره على غلبة الظن بصدق المدمى كما قاله الشاطبي. ألا ترى إذا غضب شرير شأنه الفتك على صالح لأجل شهادة عليه مثلاً فقال الصالح: دمي عند فلان فإنه يقتل به لأن الغالب على الصالح أنه لا يكذب عليه انتهى.
وكله مأخوذ من كلام اللخمي، ونص المقصود منه على نقل الأبي القائل بأعمال التدمية، وإن لم يظهر لها أثر. أصبغ: وهو ظاهر إطلاق الروايات والقائل بإلغائها حتى يظهر الأثر. ابن كنانة واختاره اللخمي وابن رشد وبه العمل. قال اللخمي: إلا أن يعلم أنه قد كان بينهما قتال ويلزم الفراش عقب ذلك، أو كان يتصرف تصرف مشتك عليه دليل المرضى وتمادى به ذلك حتى مات قال: يعني الأبي وباختيار اللخمي هذا أفتيت. اهـ. ويؤيده أيضاً ما يأتي في الجراح من أن من ادعى على شخص أنه قطع يده مثلاً وكانت بينهما عداوة أنه يحلف ويقتص منه، وهذا كله مما يقوي قول الناظم: ومالك فيما رواه أشهب. من أنه يعمل بشهادة غير العدل على المعروف بالعداء، ويقوي أيضاً مستند العمل المتقدم في الغضب والله أعلم. واحترز بالمسلم من الكافر، وبالبالغ من الصبي، وبالحر من العبد، وبالمميز من المختل العقل فلا عبرة بتدميتهم وكيفية وثيقتها عاين شهيداه يوم تاريخه فلاناً وبرأسه أو يده أو جسده جرح مخوف مما لا يفعله المرء بنفسه أو أثر ضرب أو يتقيأ سماً أو يتنخم دماً أو بجسده نفخ، وأشهدهم أن فلاناً أصابه بذلك عمداً أو خطأ، أو أشهدهم أن مملوك فلان أصابه بذلك بأمر سيده فلان وتحريضه عليه، وقوله له: اضرب اضرب اقتل اقتل وأنه يجد من ذلك ألم الموت فمتى قضى الله بوفاته ففلان المؤاخذ بدمه أو فلان ومملوكه المؤاخذان به إشهاداً صحيحاً عارفاً قدره وهو في صحة عقله وثبات ميزه ومرض من ألم الجرح وطوع وجواز وعرفه وعرف المدمى عليه وفي كذا بأن سقط منها معاينة الجرح المذكور وما معه أو لم يقل مخوف مما لا يفعله المرء بنفسه إلخ. فإنها تدمية بيضاء لأن الجرح الخفيف لا يعتبر، وقد علمت ما في البيضاء من الخلاف، والراجح أعمالها في هذه الأزمنة لغلبة الفساد كما مر، ولاسيما إذا كانت بينهما عداوة. وقولي: وأشهدهم إلخ. لا مفهوم له بل وكذلك إذا لم يشهدهم وإنما قالوا سمعنا منه ذلك يحكيه للغير كما هو ظاهر قوله: يشهد عدلان على اعترافه، وقوله: أو بمقالة الجريح، وقول (خ): كأن يقول بالغ حر إلخ. وقوله: عمد أو خطأ لا مفهوم له أيضاً، بل كذلك إذا لم يبين عمداً ولا خطأ فإن أولياءه يبينون ويقسمون على ما بينوا فيستحقون كما قال (خ) أو أطلق وبينوا لا خالفوا أي لا إن قال عمداً وقالوا هم خطأ أو بالعكس، فتبطل التدمية. وقولي: بأمر سيده احترازاً مما إذا لم يقل ذلك فإن السيد لا شيء عليه، وقوله: اضرب اضرب إلخ. زيادة تأكيد وإلاَّ فقوله بأمر سيده كاف في مؤاخذة سيده (خ) وكأب أو معلم أمر ولداً صغيراً أو سيد أمر عبداً مطلقاً إلخ. وهذا وإن كان في الثالث أمره له بالبينة فالتدمية كذلك لأنها هاهنا قائمة مقام البينة. وقوله: وأنه يجد من ذلك ألم الموت إلى قوله إشهاداً صحيحاً إلخ. كله إن سقط من الرسم لم يضر، وكذا قوله عارفاً قدره لأنه محمول على معرفته، وكذا قوله وهو في صحة عقله إلى قوله وجواز إلخ. لأنه محمول على ثبات العقل والطوع والجواز حتى يثبت اختلال عقله وإكراهه، وأما السفيه فإنه يعمل بتدميتة، وقوله: وعرفه احترازاً مما إذا سقطت المعرفة والتعريف والوصف فإن كان الشاهد معروفاً بالضبط والتحفظ صحت وإلا سقطت، والا أن تكون على مشهور معروف كما مّر. قوله: وعرف المدمى عليه لا يضر سقوطه إذا وصفه بصفاته التي يتميز بها كما يأتي آخر الباب في قوله: وسوغت قسامة الولاة إلخ. فإن لم يصفه فلا يضر أيضاً لأن الأصل أنه هو حتى يثبت من يشاركه في البلد في اسمه ونسبه (خ) آخر القضاء: وإن لم يميز ففي أعدائه أو لا حتى تثبت أحديته قولان. أرجحهما أعداؤه وعليه إثبات أن هناك من يشاركه وسقوط التاريخ لا يضر أيضاً كما مر أول الكتاب، ثم إن الأولياء لا يمكنون من القسامة في هذا المثال، وفي غيره حيث لم يحضر جسده حتى يثبت موت المدمى كما قال (خ) إن ثبت الموت، ويأتي قول الناظم أيضاً بعد ثبوت الموت إلخ. ويكتب فيه عاين شهيداه يوم كذا فلاناً المدمى بمحوله أو أعلاه ميتاً أو تقول يعرف شهوده فلاناً معرفة تامة لعينه واسمه ونسبه، ومعها يشهدون بأنه توفي من الجرح الذي دمي به على فلان قبل أن يظهر برؤه وتتبين إفاقته، وفي كذا فإن سقط من الرسم قبل أن يظهر برؤه إلخ. لم يضر لأن الأصل الاستصحاب حتى يثبت برؤه وهم إنما علقوا الحكم بالقسامة على ثبوت الموت لا على كونه قبل البرء، وقول صاحب المفيد من تمام الشهادة أن يقولوا إن الجريح لم يفق من جرحه في علمهم إلخ. إنما يعني من تمامها على وجه الكمال لا على وجه الشرطية بدليل قول ابن مغيث وغيره: إذا ثبتت صحة المدمى سقطت التدمية وبه الفتيا فقوله: إذا ثبتت إلخ. صريح في أنه إذا لم تثبت فيبقى الأمر على حاله.
ثم أشار الناظم إلى خامس الأمور التي ينشأ عنها اللوث فقال عاطفاً على: بمقالة الجريح أو على بعدل شاهد بما طلب.
أو بقتيلٍ مَعَهُ قد وُجِدَا ** مَنْ أَثَرُ الْقَتْلِ عليهِ قَدْ بَدَا

(أو بقتيل) من نعته وصفته (معه قد وجدا من) بفتح الميم موصول نائب فاعل وجد (أثر القتل) مبتدأ وجملة (عليه قد بدا) خبره، والجملة من المبتدأ والخبر صلة من ومعه يتعلق بوجد، والتقدير أو بمقتول قد وجد معه الشخص الذي أثر القتل قد بدا عليه، وهذا نحو قول الجلاب إن وجد قتيل وبقربه رجل معه سيف أو عليه شيء من دم أو عليه أثر القتل فهو لوث (خ) عاطفاً على ما يوجب اللوث أو رآه أي العدل الواحد أو العدلان يتشحط في دمه والمتهم قربه وعليه أثره إلخ. أي: أو خارجاً من مكان المقتول ولم يوجد فيه غيره ولا مفهوم لقوله يتشحط كما يفيده مرَّ عن الجلاب، وقيل ليس ذلك بلوث، وبه قال ابن زرب، وأفتى به ابن عتاب قال ابن سهل: وبه جرى العمل، وبه أفتى سيدي إبراهيم الجلالي حسبما في أول الدماء من العلمي لكن اقتصار (خ) وابن الحاجب على الأول يشعر بأن ذلك العمل قد نسخ وصار العمل على خلافه إذ لو كان ذلك العمل مستمراً ما صح لهما إهماله وعدم ذكره فلا تغتر بالعمل المذكور، ولا بما أفتى به الجلالي تبعاً لابن عتاب والله أعلم. وفي ابن سهل عن مالك وابن القاسم في رجلين شهدا أنه مر بهما ثلاثة رجال يحملون خشبة ومعهم صبي هو ابن لأحدهم، فلما غابوا عنهما سمعا وقع الخشبة في الأرض وبكاء الصبي فاتبعاهم فوجدا الخشبة في الأرض والصبي يموت في حجر أبيه ومات من ساعته قال: هي شهادة قاطعة تجب فيها الدية على عواقلهم وإن لم يشهدوا بالمعاينة. قال ابن القاسم: ومثله لو شهدا أنهما رأيا رجلاً خرج من دار في حال ريبة فاستنكراه فدخلا الدار من ساعتهما فواجدا قتيلاً يسيل دمه ولا أحد في الدار غير الخارج فهي شهادة قاطعة، وإن لم تكن على المعاينة يعني يثبت الدم فيها بدون قسامة.
وبقي على الناظم مثال سادس، وهو أن يشهد شاهدان بمعاينة جرح أو ضرب لحر مسلم أو غيرهما، سواء وجدا أثر الجرح والضرب أم لا. ثم يتأخر الموت عن كلامه أو أكله أو شربه فيقسم الأولياء لمن ضربه أو جرحه مات ويستحقون الدم أو الدية في الخطأ، وفي غير المكافئ ولهم أن يتركوا القسامة ويقتصون من الجارح في العمد ويأخذون ديته في الخطأ. ومثال سابع، وهو أن يشهد شاهد واحد على إقرار القاتل بالقتل عمداً إلا أن شهد على إقراره خطأ فليس بلوث لأن العاقلة لا تحمل الاعتراف على المعتمد وتكون الدية في ماله، نعم إن شهد شاهد بإقراره في الخطأ وشهد آخر بمعاينة القتل خطأ فلوث فيقسمون ويستحقون الدية على العاقلة، وهذه الأمثلة كلها في (خ) ما عدا اللفيف وغير العدل. ويزاد أيضاً مثال ثامن، وهو السماع الفاشي بأنهم قتلوه كما مّر في الشهادات وأما ما في (م) من زيادة مثال شاهد على الإجهاز أي القتل أو على معاينة الضرب، ثم يموت بعد أيام فهو مستغنى عنه بالمثال الأول في النظم، وكذا ما زاده (ت) من قوله: وكشاهد بذلك أي بالمعاينة إن ثبت الموت إلخ. فإنه مستغنى عنه إذ هو داخل في المثال الأول أيضاً، وأما قوله: إن ثبت الموت فهو شرط في جميع أمثلة اللوث كما مر.
وَهْيَ بخَمْسِينَ يميناً وُزِّعَتْ ** عَلَى الذّكُورِ وَلأُنْثَى مُنِعَتْ

(وهي) أي القسامة (بخمسين يميناً) الباء زائدة ولو حرك الهاء لاستغنى عنها (وزعت على الذكور) المكلفين من الأولياء إن كانوا أقل من خمسين كولدين فيحلف كل منهما خمساً وعشرين، فإن انكسرت كثلاثة بنين حلف كل واحد منهم سبعة عشر، وكذا لو كانوا ثلاثين أخاً فإنه يجب لكل واحد يمين وثلثان فيحلف كل واحد يمينين فإن قالوا: يحلف عشرون منا يمينين لكل واحد وعشرة يميناً لكل واحد لم يمكنوا من ذلك على الأصح، ولا يتأتى هنا جبرها على أكثر كسرها إنما يتأتى ذلك في الخطأ لأنه يحلفها كل من يرث وإن واحداً أو امرأة وفهم من قوله: وزعت أنهم إذا كانوا أكثر من خمسين لا توزع بل يكتفي بحلف الخمسين وهو كذلك، وإذا كان العصبة خمسين أو أقل أو أكثر فطاع إثنان يحلف جميع الأيمان فإنه يكتفي بذلك (خ): واجتزى باثنين طاعا من أكثر. (ولأنثى منعت) فلا تحلف شيئاً من أيمانها لأن الحلف شهادة والأنثى لا تشهد في العمد، وظاهر أن العصبة يحلفونها وإن لم يرثوا بأن حجبهم ذوو الفروض وهو كذلك فإن لم يوجد للمقتول عاصب ولو من الموالي الأعلين صار المقتول بمنزلة من لا وارث له فترد الإيمان على المدمى عليه فإن حلفها ضرب مائة وحبس عاماً وإلا حبس حتى يحلف ولو طال سجنه، ثم إنهم إنما يمكنون من القسامة حيث كانت الشهادة بأنه ضربه أو جرحه وتأخر موته ولم يوجد جسده حياً ولا ميتاً.
بَعْدَ ثُبُوتِ الْمَوْتِ وَالْوُلاَةِ ** وَيَحْلِفُونَهَا عَلَى البَتَاتِ

(بعد ثبوت الموت) كما مّر لاحتمال كونه حياً. وقولي: ضربه إلخ. احترازاً مما إذا شهد شاهد واحد على معاينة قتله أو على إقراره بالقتل فإنه لا يحتاج لثبوت الموت وإن رجع عن إقراره لأنه ثابت بما ذكر (و) بعد ثبوت (الولاة) وأنهم عصبته المستحقون لدمه فحينئذ يمكنون منها (ويحلفونها) ولاء (على البتات) لا على نفي العلم (خ) وهي خمسون يميناً متوالية بتاً وإن أعمى أو غائباً إلخ. وذلك لأن أسباب العلم تحصل بالسماع والخبر كما تحصل بالمعاينة فيعتمد كل واحد منهم على ذلك ويبت اليمين (خ): واعتمد البات على ظن قوي إلخ. ففي الشاهدين بمعاينة الضرب أو الجرح، ثم يتأخر الموت يقسمون لمن ضربه أو جرحه مات وفي الشاهد لواحد بذلك يقسمون لقد ضربه ولمن ضربه مات في كل يمين من الخمسين، فإن شهد الواحد بمعاينة القتل فيقسمون لقد قتله كما مّر في المثال الأول، ثم إذا كان القتل خطأ فيحلف كل وارث منهم جميع حظه ولو قبل حلف أصحابه، ومن نكل سقط حظه من الدية، وأمّا في العمد فيحلف هذا يميناً وهذا يميناً فإذا كانوا عشرة حلف كل واحد منهم يميناً يميناً ثم تعاد فيحلف كل واحد كذلك، وهكذا لأنه في العمد إذا نكل واحد بطل الدم فتذهب أيمان من حلف باطلاً.
تنبيهان:
الأول: إذا قتل الأولياء القاتل قبل القسامة فهل يقتلون وهو الذي في ابن عرفة عن ابن المواز لأنهم قتلوا قبل أن يستحقوا، أو يمكنون من القسامة فإن نكلوا قتلوا حينئذ، وبه أفتى المجاصي ومن وافقه، وهو الظاهر من كلام ابن عرفة آخراً وهو الذي ينبغي اعتماده كما يقتضيه كلام العلمي في نوازله.
الثاني: لو صالح العصبة على مال بعد القسامة والحال أنهم محجوبون بذوي الفروض، فإن ما وقعت المصالحة به يكون ميراثاً بعد أن تقضى به ديونه ولا شيء للعصبة. قال في المدونة: ما أخذ في صلح العمد تقضى به ديون المقتول وباقيه يورث على فرائض الله ونحوه في أوائل الدماء من العلمي، وهذا ظاهر إذا لم يكن العصبة اشترطوا على الورثة أنهم إنما يصالحون إذا أسهموهم من مال الصلح قدراً معلوماً وإلاَّ فيعمل على شرطهم لأنهم إنما تركوا قتله حينئذ لمال يأخذونه فيوصى لهم بذلك والله أعلم.
وَتُقْلَبُ الأَيْمَانُ مهما نَكَلاَ ** وَليُّ مَقْتُولٍ عَلَى مَنْ قَتَلاَ

(وتقلب الأيمان) أي أيمان القسامة (مهما نكلا ولي مقتول) أي نكلوا كلهم وهم في درجة وأحدة أو بقي واحد منهم ولم يجد معيناً يستعين به عليها (على من قتلا) أي تقلب على المدعى عليه، فإن كانوا جماعة حلف كل واحد منهم خمسين يميناً فمن حلفها برئ من القتل وضرب مائة وحبس عاماً، ومن نكل حبس حتى يحلف ولو طال سجنه على المشهور (خ): ونكول المعين غير معتبر بخلاف غيره ولو بعدوا، فترد على المدعى عليهم ويحلف كل خمسين يميناً ومن نكل حبس حتى يحلف ولا استعانة إلخ. وقيل له أن يستعين فيحلف معه عصبته كما يستعين ولي المقتول بعصبته على ما يأتي، وقولي: ولم يجد معيناً يستعين به عليها إلخ. إشارة إلى أنه لا يبطل الدم بنكول البعض لأن نكوله قد يكون على وجه التورع عن الأيمان في الغالب فللباقي أن يحلف إن كان متعدداً وإن كان واحداً فيستعين بعصبته ولا يبطل حقه كما جزم به (ت) تبع للشراح خلافاً لما في ابن رحال من أنه يبطل بنكول البعض، وفي المسألة أقوال ولكن الذي يجب اعتماده هو ما ذكرناه والله أعلم.
وَيَحْلِفُ اثنانِ بهَا فَمَا عَلاَ ** وَغَيْرُ وَاحِدٍ بهَا لَنْ يُقْتَلاَ

(ويحلف اثنان بها) أي في قسامة العمد (فما علا) أي فما زاد عليهما (خ): ولا يحلف في العمد أقل من رجلين عصبة من نسب القتيل وإن لم يرثوا بأن حجبهم ذوو الفروض كما مّر فإن لم يوجدوا فمواليه الذكور الأعلون لأنهم عصبة، وإنما لم يحلف أقل من رجلين لأن ذلك كالشهادة وهو لا يقتل بأقل من شاهدين، ولذلك لا يحلفها النساء لأنهن لا يشهدن في العمد فإن لم يوجد عاصب أصلاً فترد الأيمان على المدعى عليه كما مر. فتحصل أن الأيمان تقلب فيما إذا لم يوجد عاصب أصلاً وفيما إذا وجدوا، ولكن نكلوا عنها أو عن بعضها فإن وجد عاصب واحد فله أن يستعين عليها بعصبة نفسه، وإن لم يكونوا عصبة للمقتول كامرأة مقتولة ليس لها غير ابنها وله أخوة من أبيه فيستعين بهم أو بواحد منهم أو بعمه، ثم إذا نكل هذا المستعان به فنكوله غير معتبر (خ): وللولي الاستعانة بعاصبه إلى قوله ونكول المعين غير معتبر إلخ. يعني وينظر الولي من يستعين به غير هذا الناكل فإن لم يجد ردت الأيمان كما مر. (وغير واحد بها) أي القسامة (لن يقتلا) فإذا قام اللوث على جماعة أو قال دمي عندهم أو قامت بينة بالسماع الفاشي أنهم قتلوه فالمشهور أنهم يقسمون على واحد منهم يعينونه لها ويقولون لقد قتله أو لمن ضربه أو جرحه مات ولا يقولون لقد قتلوه أو لمن ضربهم أو جرحهم مات (خ): ووجب بها الدية في الخطأ والقود في العمد من واحد يعين لها إلخ. وقال أشهب: يقسمون على جميعهم ثم يختارون واحداً للقتل:
قلت: وهو أظهر لأن الأولياء تارة يترجح لهم الأقوى فعلاً فيقسمون عليه، وتارة لا يترجح لهم فيقسمون على الجميع لئلا يحلفوا غموساً، والمشهور يقول في هذه إما أن يحلفوا غموساً أو يبطل حقهم فلزم عليه أنه ترجيح بلا مرجح مع لزوم الغموس أو إهدار دم المقتول، وأشهب لا يلزمه إلاَّ الترجيح بلا مرجح والله أعلم. وعلى المشهور لو قدم واحد منهم للقتل بعد القسامة عليه بعينه فأقر غيره بأنه الذي قتله خير الأولياء في قتل واحد منهما ولا يمكنون من قتلهما معاً قاله ابن القاسم في الموازية والمجموعة. ثم أشار إلى أنه لا قسامة في غير الحر المسلم وفي غير محقق الحياة فقال:
وليس في عبْدٍ ولا جَنينِ ** قَسَامَةٌ وَلاَ عَدُوِّ الدِّينِ

(وليس في) قتل (عبد ولا جنين قسامة ولا) في قتل (عدو الدين) من ذمي أو معاهد ولا في جرح فإذا قال العبد أو الكافر: دمي عند فلان أو قالت المرأة: جنيني عند فلان فيحلف المدعى عليه يميناً واحدة ويبرأ وكذا إن قال شخص: جرحني فلان فإن المدعى عليه يحلف لرد دعواه ما لم تكن تقدمت بينهما عداوة على ما يأتي في فصل الجراح، فإن قام شاهد واحد على معاينة قتل العبد أو ضرب المرأة أو على إقرار القاتل أو الضارب بذلك أو شهادة سماع على ذلك ونحو ذلك من أمثلة اللوث حلف سيد العبد يميناً واحدة وأخذ قيمته وولي الكافر وأخذ ديته ولو من كافر مكافئ للمقتول ووارث الجنين وأخذ غرته، وإن نكلوا حلف القاتل واحدة أيضاً وبرئ فإن ثبت ضرب المرأة حتى ألقت جنينها بشاهد واحد وماتت كانت القسامة في المرأة ويمين واحدة مع الشاهد في الجنين، إذ لا مدخل للقسامة في الجنين، وكذلك في الجرح يحلف مع شاهده واحدة ويقتص في العمد ويأخذ الدية في الخطأ. (خ): ومن أقام شاهداً على جرح أو قتل كافر أو عبد أو جنين حلف واحدة وأخذ الدية يعني: واقتص في جرح العمد وإن نكل برئ الجارح ومن معه إن حلف وإلا يحلف غرم في الصور كلها ما عدا جرح العمد فإنه يحبس حتى يحلف.
والقوَدُ الشَّرْطُ بهِ المُثْلِيَّه ** في الدَّمِ بالإسْلامِ وَالحُرِّيَّهْ

(والقود) وهو القصاص سمي قوداً لأن العرب كانت تقود الجاني بحبل وتسلمه لولي الدم (الشرط) مبتدأ ثان (به) أي فيه (المثلية) خبر عن الثاني وهما خبران عن الأول (في الدم) يتعلق بالشرط (بالإسلام) الباء بمعنى في يتعلق بالمثلية (والحرية) معطوف على الإسلام والتقدير: والقود في الدم أي القتل شرط فيه زيادة على شرطية التكليف المتقدمة المثلية في الحرية والإسلام من حين السبب أي الرمي إلى حين المسبب أي الموت. وتقدم أن من جملة الشروط أن يكون القاتل غير حربي فلا يقتل حربي بمسلم ولا مسلم ولو عبداً بكافر ولو حراً كذمي ولا حر مسلم برقيق ولو مسلماً، وكذا لو رمى عبد رقيقاً مثله في الدين فعتق الرامي قبل موت المرمى لم يقتل به لزيادة الرامي بالحرية حين المسبب أي الموت وإنما عليه قيمته، ولو رمى حربي مسلماً ثم صار الرامي من أهل الإسلام أو أهل الذمة ثم مات المرمى لم يقتل به لأنه حربي حين السبب ولا شيء عليه، ولو رمى حر ذمي عبداً ذمياً ثم حارب الرامي فأخذ واسترق ثم مات المرمى لم يقتل به لزيادة الرامي حين السبب عليه بالحرية وإن ساواه حين الموت، وكذا لو رمى مسلم كافراً أو مرتداً فأسلم قبل وصول الرمية إليه ثم وصلته لم يقتل لزيادة الرامي عليه بالإسلام حين السبب وإن ساواه حين القتل، وعليه دية مسلم عند ابن القاسم كمن رمى صيداً وهو حلال فلم تصل الرمية إليه حتى أحرم فعليه جزاؤه. (خ): إن أتلف مكلف وإن رق غير حربي ولا زائدة حرية أو إسلام حين القتل فالقود إلخ. واحترز الناظم بقوله في الدم أي في القتل من الجرح فإنه لا يقتص من الأدنى للأعلى كما يأتي في فصله إن شاء الله.
وَقَتْلُ مُنْحَطٍ مَضَى بالعالِي ** لا العكْسُ والنساءُ كالرِّجَالِ

(وقتل منحط مضى بالعالي) فيقتل العبد المسلم بالحر المسلم، وكذا الكافر بالمسلم ولو عبداً لأنه أشرف منه (لا لعكس) أي لا يقتل العالي بالمنحط عنه لعدم وجود المثلية فهو مستغنى عنه لأنه اشترط في القود أن يماثله من حين السبب أي الرمي إلى حين المسبب أي الموت، فإذا كان أعلى منه بالحرية أو الإسلام حين السبب أو المسبب لم يقتل به كما مر في الأمثلة، ويفهم من هذا أنه إذا حدث العلو بالإسلام والحرية بعدهما أي السبب والمسبب لم يسقط القصاص فإذا قتل عبد مثله أو كافر مثله ثم أسلم الكافر أو أعتق العبد فلا يسقط القصاص لأن المانع إذا حصل بعد ترتب الحكم لا أثر له (خ): ولا يسقط القتل عند المساواة بزوالها بعتق أو إسلام إلخ. ومثل القتل الجرح فإذا قطع رِجل أو يد حر مسلم ثم ارتد المقطوعة يده فالقصاص، ويفهم أيضاً من حصره العلو في الحرية والإسلام أنه لا علو إلا بهما، وهو كذلك إذ لا أثر لعلو بشرف وفضل أو عدالة أو سلامة أعضاء أو رجولية، بل يقتل الشريف بالمشروف والعدل بالفاسق والصحيح بالمريض وبالأعمى والمقطوع والرجل بالمرأة كما قال: (والنساء كالرجال) وكذا لا أثر للعدد أيضاً فتقتل الجماعة بالواحد (خ): وقتل الأدنى بالأعلى كحر كتابي بعبد مسلم والكفار بعضهم ببعض من كتابي ومجوسي ومؤمن كذوي الرق وذكر وصحيح وضديهما إلخ. فقوله: والكفار إلخ. أي لأن الكفر كله ملة واحدة فيقتل الكتابي بالمجوسي والمؤمن بغيره، وقوله: كذوي الرق أي ولو كان القاتل ذا شائبة فإنه يقتل بمن لا شائبة فيه، وقوله وضديهما أي ضد الذكر المرأة وضد الصحيح السقيم فيقتل الرجل بالمرأة والصحيح بالمريض، وقال أيضاً: ويقتل الجمع بواحد والمتمالئون وإن بسوط سوط والمتسبب مع المباشر إلخ.
وَالشّرطُ في المقْتُولِ عِصمَةُ الدَّمِ ** زِيادةٌ لِشَرْطِهِ الْمُسْتَقْدَمِ

(والشرط في المقتول) الذي يقتص له من قاتله (عصمة الدم) من حين السبب الذي هو الرمي إلى حين الموت فلو قتل مسلم زانياً محصناً أو قاتل غيلة فلا يقتص منه لعدم عصمة دمهما وإن كانا متساويين له في الحرية والإسلام، بل لو قتلهما ذمي لم يقتل بهما لعدم عصمة دمهما وإنما عليه الأدب للافتيات على الإمام، وكذا لو رمى مسلم مثله فارتد المرمى قبل وصول الرمية إليه فوصلت إليه ومات فإنه لا يقتل به وكذا لو جرحه فارتد المجروح أو زنى في حال إحصانه ثم نزى ومات لأنه صار إلى ما أحل دمه في الصورتين ولم تستمر عصمته للموت، وإنما عليه دية المرتد ولا شيء عليه في المحصن غير الأدب لافتياته على الإمام. وكذا لو رمى كتابي مرتداً فجرحه ثم أسلم المرتد ونزى ومات فإنه لا يقتل به لأنه حين السبب كان غير معصوم (زيادة) منصوب على الحال أي حال كون العصمة زيادة (لشرطه) أي على الشرط في القصاص (المستقدم) لأنه تقدم له أنه يشترط في القصاص ثبوت القتل عمداً، وكون القاتل مكلفاً مكافئاً للمقتول أي غير زائد عليه بحرية أو إسلام وغير حربي، ويزاد على ذلك كون المقتول معصوم الدم لأنه قد يكون مكافئاً في الحرية والإسلام، ولكن دمه غير معصوم كما مر. ولو أبدل الناظم هذا الشطر بقوله: من حالة الرمي لوقت العدم، لوفى بالمراد. وقد اشتمل كلامه من أول الفصل إلى هنا على أركان القصاص الثلاثة كما تقدم التنبيه عليها، والفقهاء يطلقون على الركن شرطاً وبالعكس، وأشار (خ) لهذا الركن بقوله: معصوماً للتلف والإصابة إلخ. أي معصوماً للموت لا حين الجرح فقط وللإصابة لا حين الرمي فقط.
وإنْ وَلِيُّ الدَّمِ للمَالِ قَبِلْ ** والقوْدَ استحقَّهُ فيمن قُتِلْ

(وإن ولي الدم) فاعل بفعل محذوف يفسره ما بعده (للمال) اللام زائدة لأنه مفعول لقوله (قبل) المفسر للمحذوف المذكور (و) الحال أن (القود استحقه) الولي المذكور (فيمن) أي في قريبه الذي (قتل) ومعناه أن الولي إذا قبل المال كان أقل من الدية أو أكثر، وقد كان استحق القود في قريبه المقتول بالشروط المتقدمة ففي ذلك قولان لأشهب وابن القاسم.
فأشهبُ قال لِلاستِحْيَاءِ ** يُجْبَرُ قاتلٌ على الإعْطَاءِ

(فأشهب قال للاستحياء يجبر قاتل على الإعطاء) للمال الذي قبله الولي إذا كان ملياً به.
وليسَ ذا في مَذْهبِ ابنِ القَاسِمِ ** دونَ اخْتيارِ قاتِلٍ بِلاَزمِ

(وليس ذا في مذهب ابن القاسم دون اختيار قاتل بلازم) الإشارة بذا للجبر المتقدم أي ليس الجبر على دفع المال الذي قبله الولي لازماً في مذهب ابن القاسم دون اختيار القاتل له ورضاه به، لأن الواجب عنده هو القود أو العفو مجاناً والدية لا تكون إلا برضاهما معاً، فإذا قال القاتل: إما أن تقتص أو تعفو مجاناً. وقال الولي: إنما أعفو على مال قدره كذا وأنت ملي به، فإن القاتل لا يجبر على ذلك في مذهب ابن القاسم وهو المشهور (خ) فالقود عيناً. وقال أشهب: ورواه عن مالك يجبر لأنه وجد سبيلاً لحقن دمه فليس له أن يسفكه قال: ولو فداه من أرض العدو لكان عليه ما فداه به فالولي عنده مخير بين أن يقتص أو يقبل الدية فيجبر القاتل على دفعها حيث كان ملياً بها. واختاره اللخمي وهو مقتضى الحديث كما في (ح).
وعفوُ بعضٍ مُسقِطُ القَصاصِ ** ما لم يكن من قُعْدُد انتِقاصِ

(وعفو بعض) الأولياء المستحقين للدم المتساوين في الدرجة كابن من الأبناء أو عم من الأعمام (مسقط القصاص) لأن عفوه يتنزل منزلة عفو الجميع (خ): وسقط إن عفا رجل كالباقي أي مساوٍ للباقي في الدرجة، وإذا سقط بعفو البعض فلمن لم يعف نصيبه من دية عمد كما قال أيضاً: ومهما أسقط البعض فلمن بقي نصيبه من دية عمد (ما لم يكن) العافي (من قعدد انتقاص) أي أبعد من درجة من بقي فعبر بانتقاص عن الأبعد فكأنه يقول: يسقط القصاص بعفو البعض ما لم يكن البعض العافي من قعدد أبعد من قعدد من بقي من ولاة الدم كعفو العم مع وجود الأخ أو عفو الأخ مع وجود الابن فإنه لا يسقط القصاص بذلك إذ لا كلام للأبعد مع الأقرب.
واعلم أن المستحقين للدم تارة يكون جميعهم رجالاً وتارة يكون جميعهم نساء، وتارة يكونون رجالاً ونساء فالقسم الأول يسقط القتل بعفو واحد منهم وترتيبهم كالنكاح فيقدم الابن فابنه فأخ فابنه إلا الجد والأخوة فهما في مرتبة واحدة فلا يقدم أحدهما على الآخر (خ): والاستيفاء للعاصب كالولاء إلا الجد والأخ فسيان، والقسم الثاني إما أن يحزن الميراث كله أو لا فإذا لم يحزنه كالبنات أو الأخوات فلهن القتل وإن عفا بعضهن نظر السلطان (خ): وإن عفت بنت من بنات يعني أو أخت من أخوات أو بنات ابن نظر السلطان فيمضي ما يراه سداد وصواباً من عفو أو قتل، وإنما كان ينظر لأنه يرث الباقي، وإذا اجتمعت الأم مع البنات فلا كلام للأم في عفو وعدمه بل الكلام للبنات فقط كما في الشامل وغيره، وإن حزن الميراث كبنت وأخت فالبنت أولى بالقتل أو بالعفو (خ): والبنت أولى من الأخت في عفو وضده، والقسم الثالث: إما أن يكون الرجال والنساء في درجة واحدة أم لا. فإن كانوا في درجة واحدة كبنين وبنات أو إخوة وأخوات فلا كلام للنساء في عفو ولا ضده، فهو كما لو انفرد الرجال وحدهم كما في القسم الأول، وإن لم يكونوا في درجة واحدة، بل كان الرجال أبعد فإما أن يحوز النساء الميراث كله أم لا. فإن لم يحزنه كالبنات والأخوة والأعمام فلا عفو إلا باجتماع البعض من الفريقين، والقول لمن طلب القتل حيث انفرد أحد الفريقين بالعفو وثبت القتل بقسامة أو بينة، وإن حزنه كالبنات والأخوات والأعمام فإن ثبت القتل بقسامة فلا عفو إلا باجتماعهم أيضاً، وإن ثبت بغيرها فلا كلام للعصبة معهن، وإلى هذا القسم أشار (خ) عاطفاً على الاستيفاء للعاصب بقوله: وللنساء أي والاستيفاء للنساء إن ورثن ولم يساوهن عاصب ولكل القتل ولا عفو إلا باجتماعهم كأن حزن الميراث وثبت بقسامة إلخ. فاحترز بقوله: إن ورثن من نحو العمة والخالة فإنه لا كلام لهما ولو انفردتا لعدم إرثهما، ولابد أن يكون النساء الوارثات لو قدرن ذكراً لعصبن لتخرج الأخت للأم والزوجة والجدة للأم لأنهن لا كلام لهن، وإن ورثن ولتدخل الأم لأنها لو قدرت ذكراً عصبت، واحترز بقوله: ولم يساوهن عاصب مما لو ساواهن عاصب فإنه لا كلام لهن معه كما مر في الحالة الأولى من هذا القسم، وقوله: ولكل القتل لو أخره عن قوله: ولا عفو إلاّ باجتماعهم لكان أولى يعني إذا لم يحز النساء الميراث وعصبهن عاصب أسفل منهن فلا عفو إلا باجتماع البعض من الفريقين وإلاَّ فالقول لمن طلب القتل كما مر في الحالة الثانية من هذا القسم أيضاً. وقوله: كأن حزن الميراث إلخ. هي الحالة الثالثة منه، والتشبيه في قوله: ولكل القتل ولا عفو إلا باجتماعهم، ومفهومه إذا ثبت القتل بغير قسامة لا كلام لعاصب معهن، وقد نظم هذه الأقسام سيدي عبد الواحد الوانشريسي بقوله:
إذا انفرد الرجال وهم سواء ** فمن يعفو يبلغ ما يشاء

ودع قول البعيد بكل وجه ** كأن ساوت بقعددهم نساء

فإن يكن النساء أدنى فتمم ** بوفق جميعهم عفوا تشاء

وإن إرثاً يحزن فدع رجالاً ** إذا ثبتت فلا قسم دماء

فالبيت الأول وشطر الثاني هو ما احتوى عليه القسم الأول من هذه الأقسام، وقوله: كأن ساوت إلخ. هو الحالة الأولى من القسم الثالث. وقوله: فإن يكن النسا أدنى إلخ. شامل للحالة الثانية والثالثة منه إلا أنه في الثالثة إذا حزن الميراث وثبت بقسامة ومعنى أدنى أقرب أي أقرب من الرجال، ويقرأ النسا بالقصر للوزن وقوله: وإن إرثاً يحزن إلخ. هو مفهوم ثبت بقسامة من الحالة الثالثة، وبقي عليه القسم الثاني من الأقسام الثلاثة وهو: ما إذا لم يكن معهن عاصب أصلاً، ولذا ذيله الشيخ (م) بقوله:
كذا إذا انفردن وحزن مالاً فحكم للقريبة ما تشاء وإن إرثاً يشط لبيت مال فحاكمنا يجنب ما يشاء وإنما أطلنا في هذه المسألة وتعرضنا لشرح نظمها لتشعبه وتشعبها على كثير من الطلبة.
تنبيه:
إذا لم يكن للمقتول مستحق لدمه لا من الرجال ولا من النساء فإن الإمام يقتص له وليس له العفو إلا أن يكون القاتل والمقتول كافرين ثم يسلم القاتل.
وشُبْهَةٌ تدرَؤهُ وَمِلْكُ ** بعضِ دمِ الذي اعتَرَاه الهلْكُ

(وشبهة تدرؤه) أي القصاص وتوجب الدية على العاقلة كضرب الزوج لزوجته والأب لولده والمعلم للمتعلم بآلة يؤدب بمثلها، ويحمل فعله على الخطأ لا بما لا يؤدب بمثله كلوح فهو على العمد كما مر أول الباب قال في الشامل: ومن جاز له فعل بضرب وشبهه حمل على الخطأ حتى يثبت العمد كأب وزوج ومعلم وطبيب وخاتن الخ (و) كذا يدرؤه (ملك بعض دم الذي اعتراه الهلك) وهو المقتول كأربعة أولاد قتل أحدهم أباه فالدم للثلاثة، فإذا مات أحدهم سقط القصاص عن القاتل لإرثه من أخيه الميت بعض دم الأب فصار كعفو البعض، وأحرى لو ملك جميع دمه كابنين قتل أحدهما أباه ثم مات غير القاتل فورثه القاتل (خ): تشبيهاً في سقوط القصاص كإرثه ولو قسطاً من نفسه وإرثه كالمال إلخ. وما بعد المبالغة هو نص الناظم. وهذا الحكم إنما هو إذا كان الباقي يستقل بالعفو، وأما إن كان لا يستقل كما لو كانوا رجالاً ونساء والتكلم للجميع كمن قتل أخاه وترك المقتول بنتين وثلاثة أخوة أشقاء غير القاتل فمات أحدهم فقد ورث القاتل قسطاً من دم نفسه فلا يسقط القتل حتى تعفو البنتان أو إحداهما.
وحيثُ تَقْوَى تُهمةٌ في المدَّعَى ** عليه فالسِّجْنُ له قد شُرِعَا

(وحيث تقوى تهمة في المدعى عليه) ولم تصل إلى حد اللوث الموجب للقسامة وأحرى لو وصل إلى حد القسامة ولم يوجد من يطلبها أو تورع الأولياء عنها (فالسجن) الطويل (له قد شرعا) حتى يكشف أمره، وظاهره ولو كان مجهول الحال ولو بمجرد الدعوى وهو كذلك كما مر في بابي السرقة والغصب، وقد تقدم هنا ما فيه كفاية. وفي ابن سلمون: وإن قويت عليه تهمة ولم تتحقق تحقيقاً يوجب القسامة حبس الحبس الطويل. قال ابن حبيب: حتى تتحقق براءته أو تأتي عليه السنون الكثيرة. قال مالك: ولقد كان الرجل يسجن في الدم باللطخ والشبهة حتى إن أهله يتمنون له الموت من طول سجنه. اهـ. وتقدم أنه ربما يسجن أبداً وأنه يضرب وذلك يختلف باختلاف شهرته بذلك وعدم شهرته، وفي أحكام ابن سهل الكبرى: ومن جاءك وعليه جراح مخوفة فاحبس المدعى عليه بالدم حتى يصح المجروح أو تتبين حالة توجب إطلاقه، ومن جاءك معافى في بدنه من الجراح يدعي على رجل ضرباً مؤلماً فإن ثبت تعدي المدعى عليه فعزره وإن رأيت حبسه فذلك إليك على ما يظهر لك من شنعة ما يثبت عليه، ومن جاء بجرح خفيف وهو ممن يظن به أنه يرتكب مثل هذا من نفسه فاسلك به سبيل المعافى من الجراح، فإذا فعلت هذا ارتفعت اليد العادية وانتفعت به العامة وحفظت بذلك دماؤهم وأموالهم. اهـ. باختصار.
والعفوُ لا يُغْنِي عَنِ القَرَابهْ ** في القَتْلِ والْغَيْلَةِ وَالحِرَابهْ

(والعفو لا يغني من القرابة) يتعلق بمحذوف صفة للعفو والتقدير: والعفو الكائن من القرابة حال كونه كائناً (في القتل والغيلة والحرابة) لا يغني عن قتل القاتل لأن القتل فيهما حد من حدود الله تعالى لا يجوز إسقاطه لا للإمام ولا لغيره، فهذا البيت كالتخصيص لعموم قوله: وعفو بعض مسقط القصاص إلخ. فنبه هنا على أن ذلك خاص بغير الغيلة والحرابة، وأما هما فلا عفو فيهما، وظاهره ولو كان المقتول غيلة وحرابة كافراً أو عبداً، وظاهره أيضاً ولو جاء تائباً ولو لم يباشر القتل بل أعان عليه ولو بجاهه وهو كذلك في الجميع (خ): وبالقتل يجب قتله ولو بكافر أو إعانة ولو جاء تائباً وليس للولي العفو إلخ. لكن إذا جاء المحارب تائباً قبل القدرة عليه سقط حق الله وبقي حق الآدمي فله العفو حينئذ كما لشراحه فأما الغيلة فهي من أنواع الحرابة وهي أن يقتله لأخذ ماله أو زوجته أو ابنته، وكذا لو خدع كبيراً أو صغيراً فيدخله موضعاً خالياً ليقتله ويأخذ ماله (خ): ومخادع الصبي أو غيره ليأخذ ما معه. قال في الرسالة: وقتل الغيلة لا عفو فيه. الجزولي: يعني لا للمقتول ولا للأولياء ولا للإمام لأن الحق فيه لله تعالى. اهـ. وظاهره ولو جاء تائباً وهو كذلك، وقيل إذا جاء تائباً للولي العفو كالمحارب والغيلة لا تثبت إلا بعدلين لا بشاهد وقسامة كما مر، وأما الحرابة فتثبت حتى بالشهرة (خ): ولو شهد اثنان أنه المشتهر بها ثبتت وإن لم يعايناها.
ومائةً يُجْلَدُ بالأحْكَامِ ** مَن عنه يُعْفَى مَعْ حَبْسِ عامِ

(ومائة يجلد) أي يضرب (في الأحكام من عنه يعفى) بعد ثبوت القتل عليه عمداً ببينة أو إقرار أو لوث بعد القسامة أو قبلها، ولو قام اللوث على جماعة وقسموا على واحد عينوه لها فإن على أصحابه ضرب مائة (مع حبس عام) بعد الجلد المذكور ولا يحسب فيه سجنه قبل ذلك، ول مفهوم لقوله: يعفى بل كذلك إذا لم يكن عفو، ولكن سقط القتل لعدم التكافئ (خ): وعليه أي القاتل عمداً ولو عبداً أو ذمياً جلد مائة ثم حبس سنة وإن بقتل مجوسي أو عبد إلخ. والحبس قبل العفو لابد فيه من الحديد بخلافه بعده فيحبس بغير حديد، وتقدم في باب السرقة أن القتل إذا ثبت بإقرار رجع عنه وعفا عنه الولي لا حبس فيه ولا ضرب.
والصّلحُ في ذاك مع العَفْوِ استوَى ** كما هما في حُكْمِ الإسقاطِ سَوَا

(والصلح في ذاك) القصاص المتقدم (مع العفو) مجاناً (استوى) في جلد مائة وسجن عام لأن الضرب والسجن المذكورين حقان لله لا يسقطان بالعفو مجاناً ولا بالصلح على مال (كما هما) أي العفو والصلح (في حكم الإسقاط) للقتل (سوا) وهذا الشطر تتميم للبيت.
وَديَةُ العَمْدِ كذاتِ الخَطَإ ** أو ما تَرَاضَى فيه بينَ المَلإ

(و) حيث عفا بعض المستحقين للدم أو صالح أو عفوا كلهم أو بعضهم على دية مبهمة، فالواجب لمن لم يعف ولم يصالح في ذلك كله (دية العمد) كما تقدم في قوله (خ): ومهما أسقط البعض فلمن بقي نصيبه من دية عمد لا ينقص له من نصيبه منها شيء إلا برضاه لتقرر الدية في ذمة القاتل بعفو البعض أو صلحه وقدرها. (كذات الخطا) في كونها مائة من الإبل إلا أنها تكون مربعة بحذف ابن اللبون كما يأتي فيأخذ من لم يعف، ولم يصالح نصيبه منها حيث كانوا من أهل الإبل أو من قيمتها حيث كانوا من أهل بقر أو غنم، ويأخذ نصيبه من ألف دينار إن كانوا من أهل الذهب، وهكذا. وقولي: مبهمة مثاله أن يقول: عفوت عنك على دية ويرضى القاتل فإن قدرها حينئذ كذات الخطأ فإن بين شيئاً كأن يقول: عفوت عنك على ألف عبد أو بقرة أو جمل، ونحو ذلك من قليل أو كثير عمل عليه حيث رضي القاتل بذلك كما قال: (أو) للتنويع أي نوع منها قدره كذات الخطأ وهو ما تقدم ونوع منها قدره (ما تراضى فيه) القاتل (بين) أي مع (الملأ) أي جماعة الأولياء كان ما تراضوا عليه مثل دية الخطأ أو أقل أو أكثر (خ): وجاز صلحه في عمد بأقل أو بأكثر أي لأن العمد لا شيء فيه مقدر من الشارع، فإن لم يرض القاتل بدفع المال وقال: إنما لك القتل أو العفو مجاناً فإنه لا يجبر على مذهب ابن القاسم ويجبر على قول أشهب كما مر.
تنبيه:
إذا عفا الولي عن القاتل عفواً مطلقاً لم يذكر فيه دية ثم بعد ذلك قال: إنما عفوت لأجل الدية فإنه لا يصدق في ذلك إلا أن يظهر من حاله وقرائن الأحوال أنه أراد ذلك كقوله عند العفو: لولا الحاجة ما عفوت عنه أو يكون الولي فقيراً أو القاتل ملياً كما في ابن رحال فإنه يحلف ويبقي على حقه إن امتنع القاتل (خ): ولا دية لعاف مطلقاً إلا أن يظهر إرادتها فيحلف ويبقي على حقه إن امتنع إلخ. وظاهره كظاهر المدونة أنه إذا علمت القرينة عند العفو يصدق سواء قام بالقرب أو بعد طول وهو كذلك خلافاً لما في الزرقاني.
وَهْيَ إذا ما قُبِلَتْ وسُلِّمَتْ ** بحَسَبِ المِيراثِ قَدْ تَقَسَّمَتْ

(وهي) أي دية العمد (إذا ما) زائدة (قبلت) من القاتل تكون حالة عليه لا منجمة إلا برضا الأولياء وتكون في ماله لا على العاقلة فإن كان عديماً اتبعت ذمته بها (و) إذا (سلمت) للأولياء ودفعت لهم فإنها (بحسب الميراث قد تقسمت) على فرائض الله تعالى بعد قضاء ديونه فتأخذ منها الزوجة والأخ للأم ولا شيء لأهل الوصايا منها لأنه مال طرأ لم يعلم به الموصي والوصايا إنما تدخل فيما علم به كما مر في بابها، بل لو قال: إن قبل أولادي الدية، أو قال: وصيتي فيما علمت وفيما لم أعلم لم تدخل الوصايا في شيء من الدية، ابن رشد: لأنه مال لم يكن، نعم إن أنفذت مقاتله وقبل وارثه الدية وعلم بقبوله إياها فإن الوصايا حينئذ تدخل في الدية، سواء كانت الوصايا قبل العلم أو بعده (خ): بخلاف العمد فلا تدخل الوصايا في ديته إلا أن ينفذ مقتله ويقبل وارثه الدية وعلم إلخ. بخلاف دية الخطأ فإن الوصايا تدخل فيها إن عاش بعد الجرح ما يمكنه فيه التغيير فلم يغير، وظاهر قول الناظم: بحسب الميراث إلخ. ولو ثبت القتل بقسامة العصبة المحجوبين بذوي الفروض مثلاً وهو كذلك كما مر عند قوله: ويحلفونها على البتات إلخ. ثم أشار إلى قدر الدية وحبسها وهي كما قال ابن عرفة: مال يجب بقتل آدمي حر عن دمه أو بجرحه مقدراً شرعاً لا باجتهاد إلخ. فقوله مال يشمل الإبل وغيرها، وذلك يختلف باختلاف الناس، وخرج بالحر العبد فإنما فيه القيمة أو ما نقصه إن برئ على شين، وخرج بقوله مقدراً شرعاً الحكومة فإنها بالاجتهاد كما يأتي في قوله: وفي جراح الخطأ الحكومة الخ فقال:
وَجُعِلتْ دِيةُ مُسلِمٍ قُتِلْ ** على البوادِي مائةً مِنَ الإبِلْ

(وجعلت دية) حر (مسلم قتل) خطأ أو عمداً وعفي عنه على دية مبهمة أو عفا البعض أو صالح فلمن لم يعف ولم يصالح نصيبه من الدية كما مر أو قدرها في الخطأ والعمد المذكورين (على) أهل (البوادي) القاتلين (مائة من الإبل) إن كانوا أهل إبل إلا أنها في الخطأ مخمسة كما يأتي منجمة على العاقلة في ثلاث سنين تحل بأواخرها، والجاني كواحد منهم، وأما في العمد فهي على القاتل وحده حالة عليه مربعة كما قال:
والحُكْمُ بالتَّرْبِيع في العَمْدِ وَجَبْ ** وألفُ دِينارٍ على أهْلِ الذّهَبْ

(والحكم بالتربيع في العمد وجب) فيؤدي خمساً وعشرين من كل صنف من الأصناف الآتية (خ): وربعت في عمد بحذف ابن اللبون، وفهم منه أنها لا تربع في الذهب والفضة أي لا تغلظ فيهما، وهو كذلك على المشهور بخلاف المثلثة الآتية في قوله: وغلظت وثلثت في الإبل، فإنها تغلظ فيها كما يأتي (و) قدرها (ألف دينار على أهل الذهب) كالشامي والمصري والمغربي وصرف الدينار إثنا عشر درهماً شرعياً كما تقدم في باب النكاح.
وَقَدْرُها على أُوْلي الوَرقِ اثْنَا ** عَشَرَ أَلْفَ دِرْهَمٍ لا أَدْنَى

(وقدرها لأهل ورق) بسكون الراء لغة كالعراق وفارس وخراسان. (اثنا عشر ألف درهم لا أدنى) من ذلك فإن لم يكونوا من أهل الإبل ولا الذهب ولا الورق بل كانوا أهل خيل أو بقر أو غنم فهل يكلفون بما يجب على أقرب الحواضر إليهم أو يكلفون بدفع قيمة الإبل لأنها الأصل واستظهر الأول. وفهم من النظم أن المعتبر أهل القاتل في جميع هذه الأمور لا أهل المقتول، وفهم منه أيضاً أن أهل الإبل إذا أرادوا أن يؤدوها من الذهب أو أهل الذهب أرادوا أن يؤدوها من الإبل لا تقبل منهم إلا برضا الأولياء ويراعى في ذلك حينئذ بيع الدين فلا يجوز أخذ ذهب عن ورق لأجل لأنه صرف مؤخر، ويجوز مع حلولهما وتعجيلهما لأنه صرف لما في الذمة وصرف ما في الذمة جائز بعد حلولهما لا قبله، وأما أخذ العرض نقداً من أهل الذهب أو الورق فجائز ولو لم يحل كبيع الدين، ويجوز أخذ الثوب أو الذهب أو الورق من أهل الإبل إن عجل بالفعل، وإلاَّ فلا. لما يلزم عليه من فسخ الدين في الدين، ولا يجوز أيضاً أخذ إبل أو ذهب أو ورق أقل من الواجب قبل حلول أجلها لما يلزم عليه من ضع وتعجل، ولا أخذ أكثر لأبعد من الأجل لأنه سلف بزيادة.
ونِصْفُ ما ذُكِرَ في اليَهُودِ ** وفي النّصَارى ثَابتُ الوُجودِ

(ونصف ما ذكر) وهو خمسون من الإبل مخمسة في الخطأ ومربعة في العمد أو خمسمائة دينار أو ستة آلاف درهم (في) قتل (اليهودي) ذمياً أو معاهداً (و) الحكم كذلك (في) قتل الواحد من (النصارى) وقوله (ثابت الوجود) خبر عن نصف والمجرور متعلق به قال (ت): وكان من حقه أن يزيد هنا بيتاً فيقول مثلاً:
وفي المجوسي وفي المرتد ** ثلث خمس فادره بالعد

ويقرأ ثلث بضم اللام، وخمس بسكون الميم للوزن فدية المجوسي، والمرتد من الذهب ستة وستون ديناراً وثلثا دينار، ومن الفضة ثمانمائة درهم، ومن الإبل ستة أبعرة وثلثان.
وفي النِّسَاءِ الحُكْمُ تَنْصِيفُ الدّيهْ ** وحالُهُ في كلِّ صِنْفٍ مُغْنِيَهْ

(وفي النساء) من كل صنف تقدم مسلمات أو كتابيات أو مجوسيات أو مرتدات. (الحكم تنصيف الدية) فدية كل امرأة على نصف دية ذكر ملتها (وحاله) أي التنصيف (في كل صنف مغنيه) عن بيانها فيجب في المسلمة خمسون من الإبل، وفي اليهودية والنصرانية خمس وعشرون، وفي المجوسية والمرتدة ثلاثة أبعرة وثلث، وقس على ذلك في الذهب والورق (خ): وفي الكتابي والمعاهد نصفه، والمجوسي والمرتد ثلث وخمس وأنثى كل نصفه.
وَتَجِبُ الديةُ في قَتلِ الخَطَا ** والإبِلُ التّخميسُ فيها قُسِّطا

(وتجب الدية في قتل الخطا) ومنه عمد الصبي والمجنون وما لا يقتص منه من الجراح لإتلافه كجائفة وآمة وكسر فخذ فإن ذلك كله على العاقلة، وإنما وجبت الدية في الخطأ لقوله تعالى:
{ومن قتل مؤمناً خطأ فتحرير رقبة مؤمنة ودية مسلمة إلى أهله} (النساء: 92) (والإبل) المأخوذة فيها (التخميس) مبتدأ ثان خبره (فيها قسطا) عشرون بنت مخاض وهي التي دخلت في السنة الثانية وعشرون بنت لبون وهي ما دخلت في الثالثة، وعشرون ابن لبون كذلك، وعشرون حقة وهي ما دخلت في الرابعة وعشرون جذعة وهي ما دخلت في الخامسة، وتقدم أنها تربع في العمد بحذف ابن لبون.
تَحمِلُهَا عاقِلَةٌ للقاتِلِ ** وَهْيَ القَرَابةُ مِنَ الْقَبَائِلِ

(تحملها) أي دية الخطأ (عاقلة للقاتل) وهو كواحد منهم وتكون منجمة عليهم كما يأتي (وهي) أي العاقلة (القرابة من القبائل) أراد الطبقات التي ينتسب إليها القاتل بدليل قوله: بعد الأدنى فالأدنى فيبدأ بالفصيلة ثم الفخذ ثم البطن ثم العمارة بالفتح ثم القبيلة ثم الشعب بالفتح، وقد نظمها بعضهم فقال:
قبيلة قبلها شعب وبعدهما ** عمارة ثم بطن يتلوه فخذ

وليس يأوى الفتى إلا فصيلته ** ولا سداد لسهم ماله قذذ

جمع قذة وهي ريش السهم، فهذه طبقات قبائل العرب، فبنو العباس مثلاً فصيلة، وبنو هاشم فخذ، وبنو قصي بطن، وقريش عمارة وكنانة قبيلة، وخزيمة شعب. وقول ابن الحاجب: يبدأ بالفخذ يعني إذا لم يكن في الفصيلة كفاية، وهذا الترتيب المذكور هو الذي في ابن الحاجب وهو المذهب وهو راجع إلى اللغة (خ): وهل حد العاقلة سبعمائة أو الزائد على ألف؟ قولان. وعلى الأول العمل كما في نظم العمل المطلق فإذا وجد هذا العدد مثلاً من الفصيلة لا يضم إليهم الفخذ وإلاَّ ضم إليهم وهكذا، وعليه فيقال في قبائل المغرب: يبدأ بمد شر القاتل الذين هم إخوانه وقرابته، فإن لم تكن فيهم كفاية ولم يحصل منهم العدد المذكور فجماعته، فإن لم تكن فيهم كفاية فربع قبيلته إن كان القبيلة منقسمة أرباعاً مثلاً، فإن لم تكن فيهم كفاية فجميع قبيلته، فإن لم تكن فيهم كفاية فأقرب القبائل إليهم وهو معنى قول (خ): وغيره وهي أي العاقلة العصبة وبدئ بالديوان إن أعطوا ثم يبدأ بها أي بالعصبة الأقرب فالأقرب، ثم الموالي الأعلون ثم الأسفلون، ثم إذا لم يكن للقاتل عصبة ولا قبيلة فبيت المال يعقل عنه إن كان الجاني مسلماً، فإن لم يكن بيت مال أو كان ولكن لا يمكن الوصول إليه، فالدية على الجاني وحده بناء على المشهور من أنه كواحد من العاقلة وعلى مقابله تسقط. وقوله: وبدئ بالديوان إلخ. يعني أنه يقدم الديوان على عصبة الجاني الذين ليسوا معه في الديوان، والديوان عبارة عن الذمام الذي يجمع فيه الإمام أفراد الأجناد على عطاء يخرج لهم من بيت المال في أوقات معلومة أي: فيقدمون قبل عصبة الجاني، وإن كانوا من قبائل شتى لأجل تناصرهم، فإن لم تكن فيهم كفاية فيعينهم العصبة الذين ليسوا معه في الديوان، وهكذا على الترتيب المتقدم. وما ذكره من أنه يبدأ بالديوان هو الذي في الموازية والعتبية وهو خلاف ظاهر المدونة من أن العقل على القبائل على الترتيب المتقدم كان الجاني داخلاً في ديوان أم لا. وهو المعتمد والقول بتبدئة الديوان ضعيف كما للخمي.
تنبيهان:
الأول: في نوازل العلمي أنه لا عاقلة في هذا الزمان، ولا يمكن الوصول لبيت المال، فالدية في مال الجاني، وسيأتي مثله لابن رحال عند قوله: كذا على المشهور من معترف إلخ.
الثاني: عاقلة الذمي أهل دينه الذين معه في بلده فلا يعقل يهودي مع نصراني ولا عكسه، والمعاهد إذا قتل أحداً فإن الدية في ماله لأنه لا عاقلة له، ثم العاقلة إنما تحمل الدية.
حيثُ ثبوتُ قَتْلِهِ بالبيِّنَه ** أَوْ بِقَسامَةٍ له مُعَيَّنَهْ

(حيث ثبوت قتله بالبينة) التامة (أو بقسامة) بشروطها المتقدمة (له) أي للقتل خطأ (معينة). ومفهوم بالبينة أو القسامة أن القتل إذا ثبت باعتراف القاتل لا تحمل ديته العاقلة، وهو كذلك كما يأتي في قوله: كذا على المشهور من معترف إلخ. لأن العاقلة لا تحمل عمداً عداء ولا اعترافاً ولا قاتل نفسه عمداً أو خطأ ولا ما دون الثلث كدية موضحة، وأما ما بلغ الثلث كدية الجائفة فتحمله كما يأتي في البيت الثالث بعده، ثم من الاعتراف إقرار المرأة أنها نامت على ولدها حتى قتلته (خ): ونجمت دية الحر بلا اعتراف على العاقلة إلخ. فمفهومه أن الاعتراف لا يكون على العاقلة، بل هو في مال الجاني فلو نام الرجل مع زوجته فأصبح الولد ميتاً ولا يدري من رقد عليه فهو هدر كما أفتى به ابن عبد السلام، وأما المرأة الهاربة عن رضيعها حتى مات الولد من عدم اللبن فقال ابن هارون: ديته على عاقلتها، وقاسها بالمسافرين الذين منعوا الماء حتى ماتوا عطشاً. ابن فرحون: إذا شربت الحامل دواء فألقت جنينها فلا شيء عليها إذا كان الدواء مأموناً يعني لا غرة عليها، ولو سقت ولدها دواء فمات فلا شيء عليها.
يَدفَعُها الأَدْنَى فالأَدْنى بِحَسَبْ ** أحوالِهِم وحكْمُ تَنجِيمٍ وَجَبْ

(يدفعها) إلى دية الخطأ (الأدنى) للقاتل (فالأدنى) له فإن كان في الفصيلة كفاية لم يلزم الفخذ شيء كما مر. وتقدم هل حدها سبعمائة الخ؟ وتقسط عليهم (بحسب أحوالهم) وقدر طاقتهم (خ): وضرب على كل ما لا يضر أي: فالغني بحسبه وغيره بحسبه. قال في المناهج: لا حد لما يؤخذ من كل واحد منهم، وإنما ذلك على قدر اليسر والعسر وهو الصحيح. اهـ. وقال الشافعية: يؤخذ من الغني نصف دينار وهو الذي ملك عشرين ديناراً بعد المسكن وما يحتاج إليه، ومن المتوسط ربع دينار وهو الذي يملك أقل من ذلك. اهـ. ولا تسقط على فقير ولا امرأة، ولو وقع القتل منهما كما يأتي في قوله: من موسر إلخ. (وحكم تنجيم) للدية الكاملة على العاقلة في ثلاث سنين (وجب) فتؤدي في آخر كل سنة ثلثها وابتداء التنجيم من يوم الحكم لا من يوم القتل أو الخصام، واحترزت بالكاملة من غيرها كما لو وجب ثلث الدية كجائفة، فإنها تؤجل بسنة والثلثان كآمة وجائفة بسنتين، فإن كان الواجب نصفاً كقطع يد فسنتان للثلث سنة وللسدس سنة أخرى، وكذا لو كان الواجب ثلاثة أرباع الدية كقطع يد وأصبعين وسن واحدة بخمس وسبعين من الإبل فثلثاها بسنتين، وللزائد سنة أخرى (خ): ونجم في الثلاثة الأرباع بالتثليث وللزائد سنة.
من مُوسِرٍ مُكَلَّفٍ حُرَ ذكَرْ ** موافِقٍ في نِحْلَةٍ وفي مَقَرْ

ثم بين من تقسط عليه بقوله: (من موسر مكلف حر ذكر) فلا تقسط على فقير ولا صبي ولا مجنون ولا عبد ولا امرأة، وظاهره ولو وقع القتل منهم وهو كذلك (خ): وعقل عن صبي ومجنون وامرأة وفقير وغارم ولا يعقلون أي: لا يعقلون عن أنفسهم ولا عن غيرهم، والمراد بالغارم المديان الذي ليس له ما يفي بالدين أو يبقى بيده ما يعد به فقيراً، وشمل قوله: مكلف السفيه فإنه كالرشيد في العقل عن نفسه وعن غيره، وفهم منه أن المعتبر وقت الضرب والتقسيط، فإذا أسلم الكافر أو عتق العبد أو بلغ الصبي بعد الضرب وقبل أدائها فلا شيء عليهم ولا يقسط ما ضرب على الغني بفقره بعد. (موافق في نحلة) أي دين فلا يعقل مسلم عن كافر مطلقاً، ولو من عصبته على تقدير إسلامه ولا عكسه ولا يهودي عن نصراني ولا عكسه. ابن الحاجب: ولا نضرب على فقير ولا مخالف في دين إلخ. وليس المراد بالنحلة المال المنحول أي المعطى في الدية لأن هذا هو قوله: (وفي مقر) أي محل القرار والسكنى (خ): ولا دخول لبدوي مع حضري أي: ولو من عصبة القاتل، ولا شامي مع مصري ولو من عصبته أيضاً مطلقاً اتحد جنس الدية عند كل أم لا، وذلك لأن العلة التناصر والبدوي لا ينصر الحضري، وكذلك الشامي مع المصري، وإنما الدية على أهل قطره، فإن لم يكن فيهم العدد المعتبر فيضم أقرب الأقطار إليهم كما مر. ثم أشار إلى ما لا تحمله العاقلة فقال:
وكونُهَا مِن مال جانٍ إنْ تَكُنْ ** أَقَلَّ مِن ثُلْثٍ بذَا الحُكْمُ حَسَنْ

(وكونها) أي الدية وما في معناها من الغرة والحكومة (من مال جان) حالة عليه (إن تكن) هي أي الدية وما في معناها (أقل من ثلث) دية المجني عليه ودية الجاني معاً فمتى نقصت عن ديتهما معاً فهي في مال الجاني حالة عليه كجناية حر مسلم على مثله موضحة أو هاشمة أو قطع أصبع من مسلمة ونحو ذلك، ومتى بلغت ثلث ديتهما معاً أو ثلث دية أحدهما حملتها العاقلة، فإذا قطع مسلم من مجوسية أصبعين فتحمل ذلك عاقلته، وإن لم يبلغ ذلك ثلث ديته والإصبعان أكثر من ثلث ديتها لأن لها فيهما مثل ما للرجال من أهل دينها، وذلك مائة وستون درهماً وثلث ديتها مائة وثلاثة وثلاثون درهماً وثلث درهم، وكذلك كل امرأة دية إصبعها أكثر من ثلث ديتها لأنها تساوي ذكرها لثلث ديته ثم ترجع لديتها، فإذا قطع مسلم أصبعين من ذمية فلها فيهما عشر من الإبل لأنها كذكرها فيهما فتحمل ذلك عاقلته لأن عشراً من الإبل أكثر من ثلث خمسة وعشرين التي هي ديتها، وإن قطعت مجوسية أصبعاً واحداً من مسلم حر فذلك على عاقلتها لأن ذلك أكثر من ثلث ديتها بل ومن جميع ديتها لأن عشراً من الإبل الواجبة في قطع أصبع المسلم أكثر من ثلاثة أبعرة وثلث التي هي دية المجوسية وهكذا. (بذا الحكم حسن) بضم السين وهو المشهور (خ): ونجمت دية الحر الخطأ بالاعتراف على العاقلة والجاني إذا بلغ ثلث دية المجني أو الجاني وما لم يبلغ فحال عليه إلخ. واحترز بالحر من العبد فإن قيمته على الجاني كما مر، وإن كان هو الجاني فذلك في رقبته وظاهر النظم و(خ) إن ما لم يبلغ الثلث هو في مال الجاني ولو كان صبياً أو مجنوناً، وهو كذلك كما قرر به الزرقاني وصرح به في الشامل فقال: والدية على عاقلتهما إن بلغت الثلث وإلاَّ ففي مالهما أو ذمتهما إن لم يكن لهما مال إلخ. واعتراض الشيخ بناني على (ز) ساقط.
كذا على الْمَشْهُورِ مِنْ مُعْتَرِفِ ** تُؤْخَذُ أَوْ مِنْ عَامِدٍ مُكَلَّفِ

(كذا على المشهور من) مال (معترف) بالقتل خطأ أو بالجرح خطأ (تؤخذ) حالة من العاقلة، وبه صدر في الشامل، وبه قرر (خ) شراحه. وفي المسألة أقوال. أحدها: ما تقدم وقيل على العاقلة بقسامة من الأولياء، وقيل على العاقلة أيضاً ما لم يتهم المقر بإغناء الورثة لكونهم أقرباء له أو ملاطفين له، وقيل إن كان المقر عدلاً، والذي تجب به الفتوى، وعليه اقتصر ابن الحاجب وعزاه ابن الجلاب لمذهبها وهو في الديات منها، ورجحه ابن مرزوق وابن رحال في شرحه: أن المقر إذا أقر لمن لا يتهم عليه وكان عدلاً مأموناً لا يخشى عليه أخذ الرشوة فالدية على العاقلة بقسامة، فإن أبوا أن يقسموا فلا شيء لهم على العاقلة ولا على المقر، ومنه تعلم أن المرأة لا يقبل اعترافها بنومها على ولدها لاتهامها بإغناء إخوانه أو أبيه، هذا إذا كان المعترف له عاقلة، وأما إذا كان لا عاقلة له فقيل في ماله أيضاً، وقيل في بيت المال، وقيل ما ينوبه في ماله ويسقط الباقي، وقيل هدر. قال أبو الحسن: وكان الفقيه راشد يفتي بأنها في ماله أخذ ذلك من قول ابن القاسم في المعاهد يقتل مسلماً خطأ إن ذلك في ماله إذ لا يتوصل إلى عاقلته وبيت المال متعذر. اهـ. قال ابن رحال: وما أفتى به الفقيه راشد يقوي القول بأن دية الاعتراف على المقر لأن بيت المال اليوم متعذر والأخذ من القبائل كذلك بلا ريب، فإن الأخذ من القبائل إنما يكون بسطوة السلطان والاعتناء بذلك من السلطان غير كائن ومن شك فإن العرب بالباب. اهـ. وهذا صريح في أن الأخذ من العاقلة متعذر اليوم لعدم اعتناء السلاطين بذلك وهو ما تقدم عن نوازل العلمي. (أو من عامد مكلف) أي: وكما أن الدية تؤخذ من المعترف بالخطأ ولا تحملها العاقلة، كذلك تؤخذ من العامد إذا كان مكلفاً لا إن كان صبياً أو مجنوناً فإن عمدهما كالخطأ تحمله العاقلة إن بلغت الثلث، وإلاَّ ففي مالهما كما مر، وكذلك لا تحمل العاقلة دية غلظت على الأب وإن علا في عمد لم يقتل به كما يأتي في قوله: وغلظت فثلثت في الإبل، وكذلك لا تحمل العمد الذي سقط فيه القصاص لعدم المماثل بخلاف العمد الذي لا قصاص فيه لإتلافه كجائفة ومأمومة وكسر فخذ، فإنه ملحق بالخطأ فتحمله العاقلة إن بلغت الحكومة في كسر الفخذ ثلث الدية كما مر (خ): مشبهاً فيما لا تحمله العاقلة ما نصه كعمد ودية غلظت وساقط لعدمه إلا ما لا يقتص منه من الجراح لإتلافه فعليها.
وفي الجَنِينِ غَرَّةٌ مِنْ مَالِهِ ** أَوْ قِيمَةٌ كالإرْثِ في اسْتِعمَالِهِ

(و) يجب على المتسبب (في) إلقاء (الجنين) الواحد وإن علقة وهي الدم المجتمع الذي إذا صب عليه الماء الحار لم يذب (غرة من ماله) وهي عبد أو وليدة أي أمة صغيرة كبنت سبع سنين (أو قيمة) الغرة وهي عشر دية الأم إن كانت أمة جرة أو عشر قيمتها إن كانت أمة ففي جنين الحرة المسلمة عشر دية أمة وهي خمسون ديناراً على أهل الذهب وستمائة درهم على أهل الورق أو عبد أو وليدة تساوي ذلك وهكذا في جنين الحرة الكتابية والمجوسية، ونحو ذلك إذا كان الجنين محكوماً بإسلامه، فإن كان العبد أو الوليدة لا تساوي العشر المذكور بل نقصت عنه، فلا يلزم أهل الغرة قبولهما، ومهما بذل عشر دية الأم أو العبد أو الوليدة التي تساويهم لزمهم القبول، وأما جنين الأمة ففيه عشر قيمة أمه ما لم يكن من سيدها الحر المسلم، فإنه كجنين الحرة المسلمة، وكذلك جنين اليهودية والنصرانية من العبد المسلم فإنه كالحرة المسلمة أيضاً، وظاهره أن الخيار للجاني في دفع العشر أو الغرة وهو كذلك في جنين الحرة، وأما جنين الأمة فيتعين فيه العين، وظاهره أيضاً كان الجنين ذكراً أو أنثى كانت أمة مسلمة أو كافرة كان أبوه حراً أو عبداً، لأن الجنين تابع لأمه، وظاهره أيضاً كان التسبب في إلقائه عمداً أو خطأ بضرب أو شتم أو تخويف، وهو كذلك لا بمجرد شتم فإنه لا شيء فيه، وظاهره كان المتسبب أباه أو أمه أو غيرهما وهو كذلك، فلو ضربت هي بطنها أو شربت ما تلقيه به أو شمت رائحة فألقته بذلك حال تقصيرها عند الشم بتدارك أكل ما شمته لوجدت الغرة عليها، وإن شمت سمكاً أو جبناً أو نحو ذلك فعليها طلب ذلك فإن لم تطلب وإن لم يعلموا بحالها فعليها الغرة لتقصيرها وتسببها، فإن طلبت ولم يعطوها فالغرة عليهم علموا بحملها أم لا، وكذلك إن علموا به، وأن ريح الطعام أو السمك يسقطها، وإن لم تطلب كما في (ز) وقوله: من ماله أي مال الجاني حالة عليه، وهذا في العمد مطلقاً وفي الخطأ إذا لم تبلغ ثلث دية الجاني، وإلا فتحملها العاقلة. ففي المدونة وإن ضرب مجوسي أو مجوسية بطن مسلمة خطأ فألقت جنيناً ميتاً حملته عاقلة الضارب، ومحل هذا كله إذا ألقته ميتاً أو حياً ولم يستهل وهي حية وإلا بأن استهل سواء خرج منها في حال حياتها أو بعد موتها، ففيه في التسبب خطأ الدية بقسامة، ولو مات عاجلاً فإن لم يقسموا فلهم الغرة، وأما في التسبب العمد الذي قصد به إلقاء الجنين فألقته واستهل ففي القصاص وعدمه خلاف والمعتمد القصاص، وأما إن ألقته ميتاً بعد موتها فلا شيء فيه، وإنما الدية في أمه أو القصاص، وإذا تعدد فإن الغرة تتعدد بتعدده، ومحله أيضاً إذا شهدت البينة بالسبب الذي ألقت جنينها من أجله من ضرب أو تخويف وأنه أمر يخاف منه وأنها لزمت الفراش من وقت السبب المذكور وشهدت النساء أو غيرهن على معاينة السقط، وأنه علقة ففوق وإلاَّ فلا شيء فيه إلا الأدب في العمد وقوله:
(كالإرث) حال من الغرة وما عطف عليها أي حال كون الغرة أو قيمتها التي هي عشر دية الأم مقسومة على فرائض الله كالإرث (في استعماله) فيكون للأب منه الثلثان وللأم الثلث ما لم يكن له إخوة فلأمه السدس، وإن لم يكن له أب فهي بين الأم والإخوة أو غيرهم من العصبة إلا أن الضارب أي المتسبب لا يرث منها ولو أباً أو أماً، ولا يحجب وارثاً، وسواء كان التسبب عمداً أو خطأ قاله في المدونة، وإلى مسألة الغرة أشار (خ) بقوله في الجنين: وإن علقة عشر أمه نقداً أو غرة عبد أو وليدة تساويه والأمة من سيدها والنصرانية من العبد المسلم كالحرة إن زايله كله حية إلا أن يحيى فالدية إن قسموا، ولو مات عاجلاً وإن تعمده بضرب ظهر أو بطن أو رأس، ففي القصاص خلاف وتعدد المواجب بتعدده وورث على الفرائض إلخ. فقوله: نقداً أي حالة من الذهب أو الفضة لا من الإبل، وقوله: أو غرة بالرفع عطف على عشر أمه، وقوله: عبد إلخ. بدل من غرة، وقوله: من العبد المسلم وأحرى من الحر المسلم وفهم منه أنه إذا كان من الكتابي لا غرة فيه، وإنما فيه عشر دية أمه الكتابية ولو أسلمت بعد الحمل لأن الجنين حينئذ غير محكوم بإسلامه لأنه تابع لأبيه، فالغرة يشترط فيها حرية الجنين وكونه محكوماً بإسلامه وأما إن كان رقيقاً فعشر قيمة أمه، وإن كان محكوماً بكفره فعشر دية أمه وباقي كلامه يفهم مما مر بأدنى تأمل.
تنبيه:
تؤخذ مسألة تخويف الحامل من قول (خ) في فصل حرم بالإحرام وبسبب، ولو اتفق كفزعه فمات أي فعليه جزاؤه، فكذلك الحامل عليه غرتها وإن لم يقصد فزعها ونزلت بسيدنا عمر رضي الله عنه أرسل أعواناً فرأتهم امرأة فخافت وألقت جنينها فسأل عمر الصحابة رضي الله عنهم فقالوا: لا يلزمك شيء لأنك ما فعلت إلا جائزاً لك. وقال لعلي رضي الله عنه: يا أبا الحسن ما تقوله؟ فقال: أرى أن عليك الغرة فأداها عمر رضي الله عنه.
وغُلِّظتْ فَثُلِّثَثْ في الإبِلِ ** وقُوِّمَتْ بالْعَيْنِ في القَوْلِ الجَلِي

(وغلظت) الدية على الأبوين وإن علوا ولو مجوسيين كما يأتي في عمد لم يقتلوا به أو جرح كذلك كرميهم ولدهم بحديدة أو سيف قصدوا أدبه أو لم يقصدوا شيئاً، فضابطه أن لا يقصدوا إزهاق روحه. (فثلثت في الإبل) بثلاثين حقة وهي التي دخلت في الرابعة، وثلاثين جذعة وهي التي دخلت في الخامسة، وأربعين خلفة وهي التي أولادها في بطونها بلا حدس فيها (خ): وغلظت في الأب في عمد لم يقتلوا به كجرحة بثلاثين حقة وثلاثين جذعة وأربعين خلفة إلخ. وغلظت أيضاً بحلولها عليهم فهي في مالهم حالة لا منجمة، فإن أعدموا فيتبعون بها كما مرّ، وكذا تغلظ عليهم في الجراح أيضاً كموضحة أو مأمومة، والأصل في تثليثها ما في الموطأ أن رجلاً من بني مدلج حذف ابنه بالسيف فأصاب ساقه فمات، فحكى ذلك لعمر فقال لسراقة. اعدد لي على ماء قديد مائة وعشرين من الإبل حتى أقدم عليك، فلما قدم عمر رضي الله عنه أخذ منها العدد المذكور ودفعه لأخ المقتول وقال: إن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قال: (ليس للقاتل شيء). اهـ. وليس في هذا دليل على أنها أخذت من إبل الجاني وحده، وإنما أخذ كونها من مال الجاني وحده من دليل آخر، ولعل هذا هو دليل مقابل المشهور الذي قال: إن المغلظة تكون على العاقلة، ومفهوم أن لا يقصدوا إزهاق روحه أنهم إذا قصدوا إزهاقها أو فعلوا فعلاً لا يمكن معه قصد الأدب كما لو شقوا بطنه أو ذبحوه أو جذوا يده أو وضعوا أصبعهم في عينه فأخرجوها، فإنه يجب عليهم القصاص ولا يقبل منهم إرادة الأدب. قال الأجهوري: فهم مما ذكرنا أن الأب إذا فعل بابنه ما يمكن فعله إلا لقصد القتل أو الجرح فإنه يقتص منه فيهما، وإن فعل ما يحتمل قصد القتل أو الجرح وما يحتمل غيرهما فإن اعترف بأنه قصد به القتل أو الجرح اقتص منه أيضاً، وإن لم يعترف به لم يتقص منه سواء ادعى أنه أراد الأدب أو لم يرد شيئاً. اهـ. يعني وتغلظ عليه الدية حيث كان ما رماه به ما لا يؤدب بمثله كالحديدة ونحوها، وأما إن كان مما يؤدب بمثله فإن الدية على عاقلته كما مر أول الباب وعند قوله: وشبهة تدرؤه إلخ.
وقد تقدم أول الباب أن القتل إما عمداً أو خطأ لا واسطة بينهما عند مالك إلا في هذه المسألة التي تغلظ فيها الدية على الأب ونحوه، فإنها من شبه العمد قال الباجي: لا خلاف في ثبوت شبه العمد في حق الأب. اهـ. ابن الحاجب: ولذلك لا يرث القاتل فيها من مال المقتول شيئاً ويقتل غيرهم بذلك، وحينئذ فهذه المسألة واسطة بين العمد والخطأ ولا واسطة بينهما غير هذا عند مالك خلافاً للخمي حيث أثبت شبه العمد في ثلاث مسائل غير هذه أحدها: القتل بغير آلة القتل كالسوط والعصا واللطمة. والثانية: أن يكون القتل صدر ممن أذن له في الأدب كالزوج والمعلم. والثالثة: أن يصدر من المتلاعبين والمتصارعين إلخ. وتقدم أن القتل بالسوط والعصا من العمد الذي فيه القصاص وأن الزوج ونحوه إذا ضرب بآلة يؤدب بمثلها فهو من الخطأ، وإلاَّ فهو من العمد وإن القتل من المتلاعبين خطأ كما مر ذلك كله في أول الباب ولما كان التغليظ ليس خاصاً بأهل الإبل كذلك تغلظ الدية على أهل الذهب والورق وكيفية تغليظها عليهما هو ما أشار له بقوله:
(وقومت) دية الإبل مثلثة ومخمسة لأجل تغليظها (في) أي على أهل (العين) أي فتقوم الديتان معاً ليعلم ما بين القيميتن فيزاد بنسبته على الألف دينار أو الاثني عشر ألف درهم، فإذا كانت قيمة المخمسة على أسنانها وتأجيلها مائة وقيمة المثلثة على أسنانها وحلولها مائة وعشرين، فإن العشرين الزائدة تنسب إلى المائة، ونسبتها منها خمس فيدفع الأب ونحوه ألف دينار وخمسة أو اثني عشر ألف درهم وخمسها، وهكذا إذا زادت أقل من ذلك أو أكثر، ويلزم في المأمومة والجائفة ثلث الدية المغلظة، وكذا غيرهما من موضحة ونحوهما مما فيه شيء مقدر ففي الموضحة عشر دية مغلظة وهكذا (في القول الجلي) أي المشهور ومقابلة أنها لا تغلظ إلا على أهل الإبل دون أهل الذهب والورق، وعلى المشهور فإن المغلظة تقوم حالة دون المخمسة فإنها تقوم على تنجيمها على المعتمد كما مر في المثال، وفهم منه أن المربعة المتقدمة في قوله: ودية العمد كذات الخطأ لا تغلظ على أهل الذهب والورق، وهو كذلك على المشهور. وقال أشهب: بل تغلظ عليهما أيضاً وعليه فيسلك بها مسلك المثلثة.
وهْيَ بالآباءِ والأُمَّهَاتِ ** تَخْتَصُّ والأَجْدادِ والجدّاتِ

(وهي) أي المغلظة بالتثليث (بالآباء والأمهات) بنقل حركة الهمزة للام فيهما للوزن والمجرور متعلق بقوله: (تختص) وقوله (والأجداد والجدات) عطف على الآباء، وظاهره وإن علوا كانوا من جهة الأب أو الأم، وهو كذلك على الراجح، وفهم منه أن الأعمام والأخوة والزوجين لا تغلظ بالتثليث في حقهم وهو كذلك، بل تربع حيث وقع العفو على دية مبهمة أو عفا البعض أو صالح فلمن بقي نصيبه من دية عمد مربعة لما مر. ولما قدم أن القسامة خمسون يميناً وأنها في العمد يحلفها الذكور فقط دون الأنثى، وأنه لا يحلفها أقل من رجلين عصبة كما مر ذلك كله في قوله: ولأنثى منعت إلى قوله ويحلف اثنان بها فما علا إلخ. نبه هنا على أنها في الخطأ يحلفها كل من يرث من الذكور والإناث وإن واحداً أو امرأة فقال:
وَيحلِفُ الذكورُ كالإنَاثِ ** بِنِسْبِة الْحُظُوظِ في المِيرَاثِ

(ويحلف الذكور كالإناث) خمسين يميناً ويقتسمونها (بنسبة الحظوظ في الميراث) فتحلف الزوجة ثمن الإيمان مع الولد والأم سدسها وهكذا، وفهم منه أن الغرماء يحلفونها لأنهم مقدمون على الورثة وإن من لا وارث له إلا بيت المال فلا قسامة ولا دية.
وإنْ يمينٌ عِنْدَ ذا تَنْكَسرُ ** يَحْلِفُها مَنْ حَظُّهْ مُوَفِّرُ

(وإن يمين عند ذا) أي عند قسمها بنسبة الحظوظ (تنكسر يحلفها من حظه موفر) أي أكثر كسراً كبنت وابن ينوبها ثلث الإيمان ستة عشر وثلثان فتحلف سبعة عشر ويحلف الابن ثلاثة وثلاثين، فإن تساوت الكسور كثلاثة بنين أو أربعة كمل كل واحد كسره.
وواحِدٌ يَجُوزُ أنْ يُحلَّفَا ** حيْثُ انْفَرادُهُ بما تَخَلَّفَا

(وواحد يجوز أن يحلفا) بضم الياء وتشديد اللام مبنياً للمفعول أي يحلف يميناً كلها (حيث انفراده بما) أي بالميراث الذي (تخلفا) عن الهالك بأن كان لا وارث له غيره كابن أو عم بخلاف العمد، فإنه لا يحلف فيه أقل من رجلين كما مر، وإلى هذه المسألة من أولها أشار (خ) بقول يحلفها في الخطأ من يرث وأن واحداً أو امرأة وجبرت اليمين على أكثر كسرها، وإلاَّ فعلى الجميع إلخ. وفهم من قوله: حيث انفراده إنه إذا لم ينفرد بالميراث بل كان معه غيره فيه، فأما أن يكون هذا الغير بيت مال أو أخت فإنها تحلف جميع الإيمان وتأخذ حظها من الدية ويسقط الباقي منها لتعذر القسامة من بيت المال وأما أن يكون الغير عاصباً مساوياً في الدرجة للحاضر كابنين أحدهما غائب أو صبي أو ناكل فإن الحاضر يحلف جميعها أيضاً ويأخذ حظه فقط ويسقط حظ الناكل عن العاقلة، ويوقف حظ الغائب والصبي، فإذا بلغ الصبي أو قدم الغائب حلف كل منهما حظه من الأيمان وأخذ حظه من الدية، فإن مات الصبي أو الغائب فوارثه يقوم مقامه فإن كان وارثه هو الحالف لجميعها فهل لابد من حلفه ما كان يحلفه موروثه أو يكتفي بأيمانه السابقة؟ قولان. وإنما كان الحاضر لا يأخذ حظه إلا إذا حلف جميع الأيمان لأن العاقلة تقول: لا ندفع شيئاً حتى يثبت الدم وهو لا يثبت إلا بحلف الجميع، وهذا معنى قول (خ): ولا يأخذ أحد شيئاً من الدية إلا بعدها أي بعد جميع أيمانها.
وهذه الأحْكامُ طُرًّا تُعْتَمَدْ ** بحيثُما يَسْقُطُ بالشَّرْعِ الْقَوَدْ

(وهذه الأحكام) المذكورة من حلف الإناث وكون الأيمان تقسم على حظوظ الميراث وأنها تجبر على أكثر الكسور وأن الواحد يحلفها إنما يصار إليها (طراً) أي جميعاً و(تعتمد) في قتل الخطأ فقط، وعنه عبر الناظم بقوله (بحيثما يسقط بالشرع القود) الباء وما زائدتان وحيث ظرف مضمن معنى الشرط حذف جوابه للدلالة عليه، والتقدير: هذه الأحكام إنما تعتمد جميعاً إذا يسقط القود بالشرط والقود إنما يسقط في الخطأ لا في العمد، وحينئذ فالعمد يخالف الخطأ في هذه الأحكام فلا يحلف فيه الإناث ولا تقسم الأيمان بنسبة الحظوظ في الميراث بل يحلفها العصبة، وإن لم يكونوا ورثة ويجتزئ فيها باثنين طاعا من أكثر ولا تجبر فيه اليمين على أكثر كسرها إذ لا يتأتى فيها ذلك ولا يحلفها أقل من رجلين كما مر ذلك كله.
وَسُوِّغَتْ قَسَامَةُ الوُلاةِ ** في غَيْبَةِ الجَانِي على الصِّفَاتِ

(وسوغت قسامة الولاة) أي ولاة دم العمد (في غيبة الجاني على الصفات) أي على صفاته التي تعينه وتميزه من كونه طويلاً أو قصيراً أو أعور اليمنى ونحو ذلك.
وَيَنْفُذُ القِصَاصُ إنْ بهِ ظُفِرْ ** إقْراراً وَوِفَاقَ مَا مِنها ذُكِرْ

(و) إذا أقسموا على صفاته المذكورة ف (ينفذ) بضم الياء وكسر الفاء المخففة من أنفذ الرباعي، ويحتمل أن يكون بفتح الياء وضم الفاء وعلى الأول ف (القصاص) مفعوله وإقرار فاعله، وعلى الثاني فالقصاص فاعله وإقرار حال إلخ. (إن به ظفر) شرط حذف جوابه للدلالة عليه (إقرار) فاعل أو حال من الضمير في به (أو وفاق) معطوف على إقرار (ما) أي الصفات (منها) يتعلق بقوله (ذكر) والتقدير، على الاحتمال الثاني وينفذ القصاص إن ظفر به حال كونه مقراً بأن تلك الصفات المذكورة في رسم القسامة هي صفاته أو لم يقر بذلك، ولكن صفاته التي هو عليها الآن موافقة لما ذكر منها في رسم القسامة وتقديره على الاحتمال الأول ظاهر.
وأشار الناظم بهذا إلى قول ابن سلمون: فإن غاب الجاني وعرفه الشهود ووصفوه بصفاته التي ينحصر بها وتقوم مقام التعيين وذهب الأولياء إلى أن يحلفوا فلهم ذلك فإن استكملوا أيمان القسامة استوجبوا القود منه متى وجدوه، وذلك بعد أن توافق صفاته الصفات التي في عقد التدمية أو يقر أنه هو الذي دمى عليه بعد الإعذار إليه انتهى. وبه تعلم أن قول ابن رحال لم أقف على خصوص مسألة الناظم بعينها قصور، وقول ابن سلمون ووصفوه يعني: وكذلك إن وصفه المدمى حيث لا شاهد أصلاً، ومراده بالشهود ما يشمل العدل الواحد بمعاينة القتل أو الضرب كما مر.