فصل: فصل في الجراحات:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البهجة في شرح التحفة (نسخة منقحة)



.فصل في الجراحات:

الجوهري: المفرد لفظان أحدهما: جراحة بكسر الجيم والهاء في آخره وجمعه جراحات وجراح بوزن كتاب، وثانيهما جرح بضم فسكون وجمعه جروح قال تعالى: {والجروح قصاص} (المائدة: 45) والمراد به في الترجمة ما يشمل القطع والكسر والفقء وإتلاف المعاني من السمع ونحوه، وإن خالفته اللغة والاصطلاح. ابن عرفة متعلق الجناية غير النفس إن أبانت بعض الجسم فقطع، وإلاَّ فإن أزالت اتصال عظم لم يبن فكسر وإلاَّ فإن أثرت في الجسم فجرح، وإلاَّ فإتلاف منفعة والقصاص فيها كالنفس إلا في جناية أدنى على أعلى. اهـ. (خ): والجرح كالنفس في الفعل والفاعل والمفعول، فقوله في الفعل يعني أنه يشترط في القصاص في الجرح ما اشترط في القتل من كونه عمداً عدواناً وهو قصد الضارب إلى المضروب كما مر أول الباب، وقوله: والفاعل يعني أنه يشترط في الجارح ما اشترط في القاتل من كونه مكلفاً مكافئاً للمجروح غير زائد عليه بحرية أو إسلام وغير حربي أسلم كما مر في قول الناظم: والقود الشرط به المثلية إلخ. فكما تعتبر تلك القيود في القصاص من القاتل كذلك تعتبر في القصاص من الجارح، وقوله: والمفعول يعني أنه يشترط في المجروح ما اشترط في المقتول من كونه معصوم العضو والدم إلى حين الإصابة كما مر في قوله: والشرط في المقتول عصمة الدم إلخ. فينتج من هذا أن كل شخصين يقتص من أحدهما للآخر في القتل يقتص من أحدهما للآخر في الجرح إلا في مسألة واحدة وهي أن الأدنى إذا جرح من هو أعلى منه كما لو قطع عبد يدحر مسلم أو جرحه أو قطع كافر يد مسلم أو جرحه، فإنه لا يقتص للأعلى منهما على المشهور، وإن كان يقتص له منهما في النفس كما مر في قوله: وقتل منحط مضى بالعالي إلخ. وإنما لم يقتص له منهما هنا لأن ذلك كجناية اليد الشلاء على الصحيحة وهي لا قصاص فيها، وإذا لم يقتص من الأدنى للأعلى فدية الجرح في رقبة العبد وفي ذمة الكافر إن كان فيه شيء مقدر من الشارع كموضحة برئت على شين أم لا. وإن لم يكن فيه شيء مقدر ككسر الفخذ مثلاً فحكومة إن برئ على شين وإلا فليس على العبد والكافر إلا الأدب.
جُلُّ الجَرَاحِ عَمْدَها فيه القَوَدْ ** وديةُ معْ خَطَرٍ فيها فَقَدْ

(جل الجراح عمدها) الثابت ولو بشاهد واحد أو قرينة تقوم مقامه كما مر عند قوله: وليس في عبد ولا جنين قسامة إلخ. (فيه القود) بعد البرء إذ لا قصاص في جرح إلا بعد برئه أو مع التكافؤ، إذ لا قصاص في جرح من غير مكافئ كما مر قريباً. وهذا إذا لم يكن في القود خطر ككسر الفخذ وعظم الصدر والعنق والصلب ورض الأنثيين، فإنه لا قود في مثل ذلك وإن ثبت عمده لئلا يؤدي إلى أخذ النفس فيما دونها، (و) عليه فالواجب في ذلك (دية) مغلظة بالتثليث في الأب وفي التربيع في غيره، وهذا فيما فيه شيء مقدر من الشارع كرض الأنثيين إذ فيهما دية كاملة وكدامغة فيها ثلث الدية أو حكومة فيما ليس فيه شيء مقدر ككسر الفخذ وعظم الصدر إن برئ على شين وإلاَّ فلا شيء فيه إلا الأدب، وهذه الدية أو الحكومة إنما هما (مع) وجود (خطر فيها) أي في القصاص من تلك الجراحات المذكورة (فقد) أي فحسب والخطر الإشراف على الهلاك ويرجع في كونه خطراً أو عدمه لأهل المعرفة، ومثل الخطر في وجوب الدية ما إذا تعذر القصاص لعدم وجود المماثل من الجارح. وقولي. أو قرينة إلخ. ليدخل ما إذا لم يثبت الجرح بشاهد، وإنما ادعى المجروح أن فلاناً جرحه وأثبت أنه كانت بينهما ثائرة وعداوة، فإنه يحلف المجروح ويقتص منه كما أفتى به القوري وابن عرضون والتالي وغيرهم حسبما في نوازل العلمي خلافاً لفتوى أبي القاسم العبدوسي من أن اليمين على الجارح. وقوله: جل الجراح هو ما أشار له (خ) بقوله: واقتص من موضحة أوضحت عظم الرأس والجبهة والخدين وإن كابرة واقتص أيضاً من سابقها وهي ستة. دامية: ويقال لها أيضاً دامعة بالعين المهملة وهي التي تضعف الجلد فيسيل منه دم كالدمع. وحارصة: بالصاد المهملة وهي التي شقت الجلد كله وأفضت للحم وسمحاق: وهي التي كشطت الجلد أي أزالته عن محله فيقال لذلك الجلد سمحاق. وباضعة: وهي التي شقت اللحم. ومتلاحمة: وهي التي غاصت فيه أي في اللحم فأخذت يميناً وشمالاً ولم تقرب من العظم. وملطاة: بكسر الميم وهي التي شقت اللحم وقربت من العظم، فهذه الجراحات كلها يقتص منها كانت في الرأس أو في غيره من الجسد، وكذا يقتص من هاشمة ومنقلة في غير الرأس، والهاشمة هي التي هشمت العظم أي كسرته والمنقلة هي التي أطارت فراش العظم بكسر الفاء وفتحها من أجل الدواء ومحل القصاص فيهما في غير الرأس إذا لم يعظم الخطر، وإلاَّ فلا قصاص، وإنما فيهما الحكومة إذا برئا على شين وإلا فالأدب فقط، وفهم من قوله: جل الجراح أن الأقل لا قود فيه وذلك كالمنقلة والهاشمة في الرأس، فإنه لا قصاص فيهما. وكذا لا قصاص في أمة وهي التي أفضت لأم الدماغ أي المخ الذي في الرأس، ولا في دامغة وهي التي خرقت خريطته أي شقتها، وإنما لم يقتص من هذه الجراحات في الرأس لعظم خطرها، وإنما فيها الدية. ففي الهاشمة والمنقلة عشر الدية ونصفه وفي الأمة والدامغة ثلث الدية، وكذا لا يقتص من الجائفة وهي التي أفضت للجوف من بطن أو ظهر، وإنما فيها ثلث الدية بخلاف عظم ترقوة بفتح التاء وضم القاف وهو العظم الذي بأعلى الصدر المتصل بالعنق، فالقصاص فيه اتفاقاً، وكذا يقتص في العين والرجل والأنف والأذن والسن والذكر والأجفان والشفتين، وكذا اللسان إن أمكن ولم يكن متلفاً وإلاَّ فلا كما في المدونة. وقد علمت من هذا أن الموضحة وما قبلها فيه القصاص مطلقاً، والهاشمة والمنقلة فيهما القصاص إذا لم يعظم الخطر وكانتا في غير الرأس، وأما إذا كانتا في الرأس فلا قصاص فيهما بل الدية فقط كما تجب الدية في الأمة والدامغة ولا يكونان، إلا في الرأس، وفي الجائفة ولا تكون إلا في غيره، فهذه الجراحات عمدها كخطئها في الدية إلا أنها يجب فيها الأدب في العمد زيادة على الدية، وبهذا صح قول الناظم: جل الجراح عمدها فيه القود، فمفهومه أن الأقل لا قود فيه، وإنما فيه الدية إن كان فيه شيء مقدر أو حكومة إن لم يكن فيه شيء مقدر ككسر عظم العنق والصلب وغير ذلك مما مر.
تنبيهات:
الأول: لا قصاص في لطمة أو ضربة على الخدين بباطن الراحة إذا لم ينشأ عنها جرح أو ذهاب معنى كبصر، وإلاَّ فيقتص منه، وإنما كان لا قصاص فيها حيث لم ينشأ عنها ما ذكر لعدم انضباطها ومثلها الضرب بالعصا حيث لم ينشأ عنها ما ذكر بخلاف ضربة السوط ففيها القصاص كما في (ح) لانضباطه، وإذا لم يقتص من اللطمة والضرب بالعصا فلا إشكال أن الفاعل يؤدب كما يؤدب من سل سيفه على أحد ولو على وجه المزاح، وكذلك يؤدب من كسر الدعوة للحاكم أو قبل امرأة كرهاً، ولأبي العباس سيدي أحمد بن القاضي ما نصه:
ومن نضى سيفه يوماً على أحد ** فالأربعون له إن للقتال نضى

والسيف يروى لبيت المال مصرفه ** وقيل يقتل والحكم بذاك مضى

ومن نضاه على وجه المزاح فقد ** جفا ويضرب عشراً حكمه فرضا

والأربعون اذا ما دعوت كسرت ** لقاض أو حاكم للمسلمين قضى

من قبل امرأة يوماً وأكرهها ** يزاد عشراً كما إن كان منها رضا

الثاني: قد علمت مما مر أنه لا قصاص ولا حكومة ولا دية في جرح إلا بعد برئه، وأن الدية والحكومة مغلظتان حالتان في مال الجاني وحده وأن الجاني يجبر على دفع الدية، والحكومة فيما وجب فيه ذلك بخلاف ما وجب فيه القصاص فلا يجبر، بل إذا قال: إما أن تقتص وإما أن تعفو مجاناً فله ذلك فإن تراضيا على شيء من المال قليلاً أو كثيراً عمل عليه كما مر عند قوله: وإن ولي الدم للمال قبل إلخ. ويجب تأخير القصاص لزوال حر أو برد مفرطين لئلا يموت إذا اقتص منه فيهما فتؤخذ نفس فيما دونها كما تؤخر الحامل الجانية لوضع حملها، سواء جنت على طرف أو نفس (خ): وآخر لبرد أو حر كالبرء كدية خطأ أو دية عمد أي. فلا تؤدي ديتهما إلا بعد البرء ولو كجائفة وحامل إلى أن قال: لا بدخول الحرم أي لا يؤخر القصاص عن الجاني بدخوله المسجد الحرام، بل يخرج من المسجد الحرام ليقام عليه الحد والقصاص ولو كان محرماً بحج أو عمرة، فإنه لا يؤخر إلى فراغ نسكه بل يقتص منه قبل فراغه، وسواء فعل ما يوجب الحد أو القصاص في الحرم أو خارجه ولجأ إليه.
الثالث: إذا كان لا يؤخر بدخول الحرم الشرعي الذي هو مكة والمدينة كما مر فأحرى أن لا يؤخر بدخوله الزوايا مما ليس بحرم شرعي، ولذا قال أبو عبد الله الأبي: كان ابن عرفة لا يحل إيواء الظلمة والجناة الهاربين إلى الزوايا قائلاً: إلا أن يعلم أنه يتجاوز فيهم فوق ما يستحقون. اهـ. قال العارف بالله سيدي عبد الرحمن الفاسي عقب كلام الأبي ما نصه: هذا وم يظهر من أمور خارجة عما ذكر من ظهور برهان لمن تعدى على زاوية أو روضة فذلك أمر خارج عن الفتوى به، وغيرلا من الله على أوليائه لا تحد بقياس ولا تنضبط بميزان شرعي ولا قانون عادي، فإن الموازين الشرعية كليات وعمومات، وقد يكون مراد الحق سبحانه في خصوص نازلة خلاف ما تقتضيه العمومات، ولذلك الخواص يفتقرون إلى إذن خاص في كل نازلة واعتبر بتكرار قوله تعالى: {بإذني} (المائدة: 110) فيما أخبر به عن عيسى عليه السلام من إبرائه الأكمه والأبرص وإحياء الموتى وغير ذلك انتهى.
قلت: قوله: فذلك أمر خارج عن الفتوى الخ ربما يتوهم قاصر الفهم أنه يراعي حرم الزاوية والروضة لما يخشى من البرهان كما عليه العامة الآن قولاً وفعلاً، وهذا لا يقوله أحد من الأئمة ولا من أصحابهم ولا من أهل السنة، إذ لا حرم لغير مكة والمدينة شرعاً، وغاية ما ذكره الفاسي أن الله تعالى قد أمر بإقامة الحدود على كل من فعل موجباتها، وكون الله سبحانه ينتقم ممن أخرجه من زاوية أو روضة لإقامة الحد عليه أمر خارج عن الفتوى به، لأن ذلك الحد والإخراج مما أمر الله تعالى به، وقد يريد خلافه في خصوص زيد الجاني ونحو ذلك، والله سبحانه وتعالى قد يأمر بالشيء ويريد خلافه كما أمر بإيمان الكفرة وأراد منهم خلافه، وهذا منه ربما يدل على أن المصائب التي تنزل بمخرجهم من الزوايا انتقام من الله لهم على إخراجهم منها وليس كذلك، بل الجاني المحترم بالزاوية أو الروضة يجب إخراجه لإقامة الحد عليه إجماعاً امتثالاً لأمر الله تعالى، والمصيبة التي تنزل بمخرجه إن وقعت إنما هي اتفاقية مكتوبة عليه لقوله تعالى: {ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها} (الحديد: 22) أي نخلفها وليست انتقاماً على الإخراج لكون الله أراد خلافه. ألا ترى أن الله سبحانه أوجب قتال الكفار وأمر به، والمصائب التي تنزل بهم عند قتالهم من هزيمة ونحوها مكتوبة عليهم لأن الله انتقم منهم لإرادته خلاف قتالهم أو غيرة عليهم، بل ذلك مكتوب عليهم في أزله سبحانه ليعظم بذلك أجورهم ويكثر به ثوابهم، فكذلك الجاني فالمصيبة وإن وقعت بأثر إخراجه إنما هي أمر اتفاقي مكتوب عليه نزولها به في ذلك الوقت لابد من وقوعها به أخرجه أو لم يخرجه ليعظم بها أجره ويكثر بها ثوابه إن صبر واحتسب. وقال: إنا لله وإنا إليه راجعون كما في الآية. قال تعالى: {قل لو كنتم في بيوتكم لبرز الذين كتب عليهم القتل إلى مضاجعهم} (آل عمران: 154) وذلك كله امتحان واختبار للعبد هل يصبر على المصائب حتى يؤدي ما أمر به سبحانه أو يرجع عن ذلك ولا يصبر. قال تعالى: {ليميز الله الخبيث من الطيب} (الأنفال: 37) وقال: أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون} (العنكبوت: 2) وقوله: وغيرة من الله على أوليائه إلخ. يقال له من لنا بأنها غيرة من الله بل الغيرة من الله إنما وردت بارتكاب ممنوع لا بارتكاب واجب، فوجب أن يكون أمراً اتفاقياً إذ المؤمن لا يخلو من مصائب، وقد تكون تلك المصائب من التواني في الامتثال أو من اكتساب ممنوع تقدم، ولو كان ذلك غيرة لكان نزول المصائب بالكفار أولى حيث يمتهنونهم في الأراضي التي دخلوها، وبمن يفعل الفواحش ويسفك الدماء في أضرحتهم وزواياهم كذلك، وكم من فاعل ذلك في أضرحتهم لم يصبه شيء، وأيضاً لو أقيم حد على شخص فنزلت مصيبة في الحين بمقيمه لوجب أن يقال على هذا أن ذلك غيرة من الله سبحانه وتعالى على المحدود، وذلك مما لا معنى له بل الولي لو كان حياً لوجبت عليه المبادرة إلى إقامته على من اجترم به، وإن حماه ولم يفعل فليس بولي لأن الذي يحمي الظالم ظالم. وقوله: ولذلك الخواص يفتقرون إلى إذن خاص في كل نازلة إلخ. معناه على ما قال من مذهب الخواص أن الله سبحانه وتعالى إذا أمر برجم كل فاسق مثلاً في كل مكان، فزنى زيد المحصن فيحتاجون في رجمه إلى إذن خاص من الله سبحانه وإن زنى عمرو فيحتاجون في رجمه إلى إذن خاص، وهكذا ولا يتمسكون بالعموم المذكور لئلا يكون مراد الحق سبحانه خلاف رجم ذلك المعين بخصوصه، وهذا أمر خارج عن الشرع لم يأمر الله سبحانه باتباعه لا الخواص ولا غيرهم لأن امتثال الأوامر واجب، وإن فرضنا أن مراد الحق سبحانه خلاف ما أمر به، وحينئذ فمعاذ الله أن لا يبادر الخواص إلى تنفيذ أوامر الله ويتربصون إلى أن يرد عليهم الإذن الخاص خشية أن يكون مراده خلاف ما أمر به، إذ ذلك يقتضي أنه لا يصلي ظهر هذا اليوم حتى يرد عليه الإذن الخاص في صلاتها، وهكذا مع أنه مأمور بالامتثال. ولو فرضنا أنه علم أن مراده سبحانه خلاف ذلك لأنه مكلف باتباع الأوامر ولا عليه في الإرادة، وبهذا احتج إبليس اللعين فقال: كيف أسجد لآدم والله لم يرده مني، وهذا إن زعمه بعض الناس وادعى أنه من الخواص وأنه يتربص في تنفيذ أوامر الله إلى إذن خاص وجب ضرب عنقه بلا ريب، ولو كان يغوص في الماء ويطير في الهواء. وقوله: واعتبر بتكرار قوله تعالى: {بإذني} الخ إنما يتم الاحتجاج به للخواص لو كان تكرار الإذن في كل فرد من أفراد الأكمة وفي كل فرد من أفراد الموتى إلخ. وبالجملة؛ فالحرم الشرعي لا يجير عاصياً كما في الحديث فضلاً عن الزوايا وأضرحة الصالحين، فالواجب على من بسط الله يده على عباده أن لا يلتفت إلى شيء مما يتخيله العامة من كون الله سبحانه ينتقم ممن أخرجهم لإقامة الحدود عليهم، بل لو تحققنا الانتقام المذكور وأنه من أجل الإخراج وأن الله سبحانه أراد عدمه، لوجب علينا اخراجهم للامتثال كما مّر، فكيف والانتقام إنما هو متخيل متوهم، وعلى فرض وقوعه فليس هو من أجل الإخراج بل هو أمر اتفاقي كما مر، لا لكون الله أراد عدم إخراجهم. ومن العجائب أنهم يعتبرون المصائب التي تنزل بعد الإخراج ويعدونها انتقامات ولا يعتبرون المصائب التي تنزل مع عدم إخراجهم مع كثرتها ولا يعدونها انتقامات على عدم إلاخراج، وعدم تنفيذ أوامر الله مع أن الله سبحانه إنما رتب المصائب على عدم الامتثال فقال: وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم} (الشورى: 30) إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم} (الرعد: 11) إلى غير ذلك من الآيات. وما انتقم الله من الأمم السابقة إلا لعدم امتثالهم أوامره باتباع رسله، وقد نجا كل من امتثل أوامره باتباعهم، وقد كثر الفساد من عدم إخراج الجناة من الزوايا والأضرحة ويتخيلون أن المصائب التي تنزل ولو بعد مائة عام إنما هي من ذلك، وما أظن ذلك إلا من استخفاف الحكام بامتثال الأوامر وإقامة الحدود مع ضميمة التخيل المذكور، والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم.
ولما تكلم الناظم على ما يجب في جراح العمد شرع في أحكام جراح الخطأ فقال:
وفي جِرَاحِ الخَطَإِ الْحُكْومهْ ** وَخمسةٌ ديتُهَا مَعْلُومَهْ

(وفي جراح الخطإ) التي لا شيء فيها مقدر من قبل الشارع ككسر الفخذ والترقوة وعظم الصدر والعنق والصلب ونحو ذلك (الحكومة) إذا برئت على شين، وإلاَّ فلا شيء فيها لا أدب ولا غيره وسيأتي تفسير الحكومة (وخمسة) من جراح الخطا (ديتها معلومة) وكلها في الرأس ما عدا الجائفة.
فَنِصْفُ عُشْرِ دِيَةٌ في الْمُوضِحَهْ ** وَهْيَ التي تُلْفَى لعَظْمٍ مُوضِحَهْ

(فنصف عشر دية في الموضحة) وعرفها بقوله: (وهي التي تلفى لعظم موضحة) أي كاشفة أياً كان العظم في الرأس وفي غيره، لكن الدية التي هي نصف العشر خاصة بما إذا كانت.
في رَأسٍ أو وجهٍ كذَا المُنَقِّلهْ ** عُشْرٌ بهَا ونِصفٌ مَعْدِلَهْ

(في رأس أو وجه) يعني به الجبهة والخدين لا إن كانت في اللحى الأسفل أو في غيره من الجسد، فحكومة إن برئت على شين، وكذا بقية جراح الجسد من ملطاة وحارصة وغيرهما ففيها الحكومة إن برئت على شين، وإلاَّ فلا شيء فيها. وظاهره أن الموضحة فيها ما ذكر فقط برئت على شين أم لا. وليس كذلك بل إذا برئت على شين فيزاد على ديتها حكومة على المشهور فيقوم عبداً صحيحاً ومعيباً على ما يأتي ويزاد على ديتها ما بين القيمتين، وظاهره أيضاً أن ما قبل الموضحة من ملطاة ونحوها في الرأس والوجه لا شيء إلا الحكومة وليس كذلك بل الملطاة في الرأس فيها قولان. مذهب ابن كنانة أن فيها نصف دية الموضحة، وروي أن عثمان وعمر رضي الله عنهما قضيا بذلك، وقيل فيها دية الموضحة ذكر القولين في الشامل مصدراً بالأول. (كذا المنقلة) ديتها معلومة وهي (عشر) بضم العين وسكون الشين (بها ونصف عشر) بسكون الشين أيضاً ولو قال: عشرها ونصفه (معدلة) لا تزن البيت بلا كلفة أي عشر الدية ونصف عشرها يعدل جرحها حال كونها.
في المَوْضِعين مُطْلقاً وهْيَ التي ** كسرَ فِرَاشِ العظمِ قد تَوَلَّتِ

(في الموضعين) الرأس والوجه لا في اللحى الأسفل أو غيره من الجسد، ففيها الحكومة إن برئت على شين (مطلقاً) عمداً أو خطأ إذ لا يقتص منها في العمد كما مر (وهي) أي المنقلة (التي كسر فراش العظم) فكسر مفعول بقوله. (قد تولت) أي هي التي تولت كسر صغار عظم الرأس أي التي ينقل الطبيب منها العظام الصغار كقشر البصل ليلتئم الجرح، وتلك العظام هي التي يقال لها الفراش بالفتح والكسر فإضافته إلى العظم بيانية.
وَعُشْرٌ ونِصْفُه في الهاشِمَهْ ** وهَي لِعْظمِ الرَّأْسِ تُلفَى هاشِمَهْ

(وعشر ونصفه في الهاشمة وهي) التي (لعظم الرأس) أو الوجه أو الخدين (تلفى هاشمة) أي كاسرة عمداً أو خطأ أيضاً، إذ لا قصاص في عمدها. وعند ابن القاسم لابد أن تصير منقلة إذ ما من هاشمة إلا عادت منقلة، فالصواب إسقاطها على مذهبه وهو المعتمد.
وقيل نِصْفُ العُشْرِ أَوْ حُكُومَهْ ** وَثُلُثُ الدِّيَةِ في الْمَأْمُومَهُ

(وقيل) الواجب في الهاشمة (نصف العشر) كالموضحة، وعزاه ابن عبد البر وابن رشد للجمهور. (أو) أي وقيل الواجب فيها (حكومة) فيه ثلاثة أقوال مشهورها أولها: (وثلث الدية في المأمومة) ويقال لها أيضاً الأمة بالمد والتشديد وسواء كانت عمداً أو خطأ أيضاً.
وما انتهتْ للجَوفِ وهي الجائِفَهْ ** كذاكَ والأولى الدِّماغُ كاشِفَهْ

(وما انتهت للجوف) وإن بمقدار إبرة (فهي الجائفة كذاك) فيها ثلث الدية عمداً أو خطأ أيضاً، إذ لا قصاص في عمدها، وسواء وصلت للجوف من البطن أو الظهر فإن نفذت منهما فجائفتان فيهما ثلث الدية. (والأولى) يعني المأمومة وهي التي ألفيت (الدماغ كاشفة) أي أفضت لأم الدماغ وبقي عليه الدامغة وهي التي خرقت خريطته كما مر، وفيها ثلث الدية كما مر. وقد أشار (خ) إلى ما تقدم بقوله: إلا الجائفة والأمة فثلث، والموضحة فنصف عشر، والمنقلة الهاشمة فعشر ونصفه وإن بشين فيهن وإن كن برأس أو لحى أعلى إلخ. واعترض عليه ذكر الهاشمة لأنها المنقلة عند ابن القاسم، وبقيت عليه الدامغة أيضاً وفيها ثلث الدية.
وقد تحصل مما مر أن ما فيه ثلث الدية هو على العاقلة في الخطأ منجماً كما مر، وما لم يبلغ الثلث كالمنقلة والموضحة هو في مال الجاني حال عليه كالعمد فإنه مغلظ حال في مال الجاني وأن ما فيه الدية لا حكومة فيه بعدها برئ على شين أم لا. إلا الموضحة ففيها الحكومة زيادة على الدية إن برئت على شين، وإن ما عدا هذه الجراحات المذكورة ليس فيه إلا الحكومة إن برئ على شين في الخطأ كما قدمه في قوله: في جراح الخطأ الحكومة إلخ. وأما جراح العمد ففيه القصاص أو ما تراضيا عليه من قليل أو كثير إلا ما فيه خطر فلا قصاص فيه، وهو حينئذ على وجهين: إما أن يكون فيه شيء مقدر كالجائفة ونحوها ففيه ما قدره الشارع مغلظاً، وإما أن لا يكون فيه شيء مقدر ككسر الفخذ ونحوه، ففيه الحكومة مغلظة مع الأدب في العمد من حيث هو كما قال:
وَلاجْتِهَادِ حاكِمٍ مَوْكُولُ ** في غيرِها التأدِيب والتَّنْكِيلُ

(ولاجتهاد حاكم موكول في غيرها) أي غير جراح الخطأ وهي جراح العمد (التأديب والتنكيل) أي العقوبة أي لابد من الأدب للجارح عمداً اقتص منه أو لم يقتص لخطر الجرح أو للعفو عن قصاصه وقدر الأدب باجتهاد الحاكم في عظم الجناية وخفتها واعتياد الجاني لها ووقوعها منه فلتة كما في ضيح.
وَجَعَلُوا الْحُكُومَةَ التقويما ** في كونِهِ مَعيباً أَوْ سَليما

(وجعلوا الحكومة) الواجبة فيما ليس فيه شيء مقدر من جراح الخطأ كالمنقلة والموضحة في غير الرأس، ونحو باضعة وسمحاق مطلقاً وعظم ترقوه وفيما فيه خطر من جراح العمد الذي لا قصاص فيه وليس فيه شيء مقدر أيضاً ككسر الفخذ والعنق والصدر ونحو ذلك مما مرّ (التقويما) للمجروح بعد برئه بتقدير كونه عبداً فرضاً أي مفروضاً عبوديته إن ابيض فأبيض وإن اسود فأسود، وينظر (في) قيمة (كونه معيباً) بتسعين مثلاً (أو) بمعنى الواو في قيمة كونه (سليما) من عيب الجناية بمائة مثلاً فقد نقصه عيب الجناية العشر فيأخذ من الجاني عشر ديته كما قال:
وَمَا تَزيدُ حالةُ السَّلاَمَهْ ** يأْخُذُهُ أَرْشاً وَلاَ مَلاَمَهْ

(وما تزيد حالة السلامة) وهو العشر في المثال المذكور (يأخذه) المجنى عليه (أرشاً) أي يأخذ بنسبته من ديته ذكراً كان أو أنثى أو ذمياً أو غير ذلك، فأخذ الذمي في المثال المذكور عشر ديته والمرأة عشر ديتها وهكذا، وإن نقصه العيب سدس قيمته أو ثلثها كما لو قوم معيباً بستين وسالماً بتسعين فيأخد سدس ديته أو ثلثها، ويكون على عاقلة الجاني في الخطأ لأن الحكومة بلغت سدس دية المجنى عليه، وقد تقدم أن ما بلغ الثلث هو على العاقلة في الخطأ وما دون الثلث فهو حال في مال الجاني والحكومة في عمد القصاص فيه تكون مغلظة بالتربيع والتثليث حال في مال الجاني أيضاً كما مر، وأشعر قوله: معيباً أن الحكومة إنما تجب إذا برئ على شين فحينئذ يأخذ من ديته بقدر نسبة نقص قيمته معيباً عن قيمته سالماً، وأما إن برئ على غير شين فلا شيء فيه إلا الأدب في العمد. (ولا ملامة) عليه في تقويمه عبداً تقديراً.
وَيَثْبُتُ الجِرَاحُ للمَالِ بِمَا ** يَثْبُتُ ماليُّ الْحُقُوقِ فاعْلَمَا

(ويثبت الجراح للمال) أي لأجل المال يعني الجراح التي لا قود فيها عمداً كانت أو خطأ، وإنما فيها المال المقدر من الشارع أو الحكومة (بما يثبت) به (مالي الحقوق) أي الحقوق المالية وهو عدل وامرأتان أو أحدهما مع اليمين (فاعلما) (خ): وفي الجراح حكومة بنسبة نقصان الجناية إذا برئ من قيمته عبداً فرضاً من الدية إلخ. ومفهوم قوله: للمال أن جراح غير المال وهي جراح العمد التي فيها القصاص لا تثبت بما يثبت به مالي الحقوق ولابد فيها من عدلين، وليس كذلك، ففي المدونة: ومن أقام شاهداً عدلاً على جرح عمداً وخطأ فيحلف معه يميناً واحدة ويقتص في العمد ويأخذ الفعل في الخطأ. اهـ. وتقدم قول (خ): ومن أقاما شاهداً على جرح حلف واحدة إلى آخر ما تقدم عند قوله: وليس في عبد ولا جنين إلخ. فلو قال الناظم: ويثبت الجراح مطلقاً بما إلخ. لوفي بالمراد وثبوت جراح العمد بالشاهد واليمين إحدى المستحسنات الأربع التي استحسنها الإمام ولم يسمع فيها شيئاً من غيره، ثانيها: شفعة الثمار المشار لها بقول (خ) في الشفعة وكثمرة ومقائي إلخ. وتقدمت للناظم في الشفعة أيضاً. وثالثها: شفعة الأشجار المشار لها بقول (خ) في الشفعة أيضاً وكشجر وبناء بأرض حبس أو معير إلخ. ومعناه أنه إذا انقصت مدة العارية وباع أحدهما واجبه في النقص، فلصاحبه الشفعة إن امتنع المعير من أخذه. ورابعها: أنملة الإبهام ففيها نصف دية الأصبع استحساناً المشار لها بقول (خ) في الدماء والأنملة ثلثه إلا في الإبهام فنصفه فالمستحسنات اثنان منها في الشفعة واثنان منها في الدماء.
وفي ادّعاءِ العَفْوِ مِنْ وَلِيِّ دَمْ ** أَوْ مِنْ جَريحٍ الْيَمِينُ تُلْتَزَمْ

(وفي ادعاء العفو من ولي دم أو من جريح اليمين) مبتدأ خبره (تلتزم) وفي متعلق به ومعناه أن اليمين تلزم ولي الدم في ادعاء القاتل عليه العفو أو ادعاء الجارح ذلك على المجروح (خ): وللقاتل الاستحلاف على العفو فإن نكل الولي حلف أي القاتل واحدة وبرئ وتلوم له في بينته الغائبة يعني القريبة وإن نكل القاتل قتل، وهذا صحيح على قاعدة قولهم: كل دعوى لو أنكرها المدعى عليه انتفع المدعي بنكوله سمعت وتوجهت فيها اليمين، ووارد على قولهم كل دعوى لا تثبت إلا بعدلين فلا يمين بمجردها لأن العفو ليس بمال ولا آيل إليه، وما كان كذلك لا تتوجه فيه اليمين بمجرد الدعوى، وهذا توجهت فيه. فالقاعدة الثانية حينئذ أغلبية وإنما خرج العفو منها للاحتياط للدم وعليه، فإذا قام للقاتل شاهد واحد بالعفو فإنه يحلف مع شاهد ويبرأ كما كان يحلف مع نكول الولي ويبرأ، قاله بعض القرويين لأن النكول بمنزلة الشاهد، وقيل لا تجوز شهادة الشاهد بالعفو وهي كالعدم، وحكاه ابن أبي زيد في مختصره ونحوه لأبي عمران.
تنبيه:
إذا عفا المجروح عن جرحه أو صالح ثم مات فلورثته أن يقسموا لمن ذلك الجرح مات ويقتصوا في العمد ويأخذوا الدية في الخطأ، وسواء صالح عنه وعما يؤول إليه وعنه فقط على المعتمد خلافاً لما اقتصر عليه ابن سلمون من أنه إذا صالح عنه وعما يؤول إليه فلا قيام لهم إذا مات انظر (خ) وشراحه في الصلح.
وقَوَدٌ في القَطْعِ للأَعْضاءِ ** في العَمْدِ مَا لَمْ يُفْضِ لِلْفَنَاءِ

(وقود) يجب (في القطع للأعضاء) كيد أو رجل أو ذكر أو شفتين أو لسان أو مارن أنف وكذا لو قطع بضعة من لحم ففيها القصاص (في العمد ما لم) يخف أن (يفض) القود المذكور (للفناء) أي الموت كقطع الفخذ أو اللسان أو الذكر أو الأنثيين، وإلا فلا قود لئلا يؤدي إلى أخذ النفس فيما دونها. وإنما فيه الدية إن كان فيها شيء مقدر كاللسان والذكر والأنثيين كما يأتي، وإن لم يكن فيه شيء مقدر ككسر الفخذ والعنق ففيه الحكومة وإن برئ على شين وإلاَّ فلا شيء فيه إلا الأدب كما مر، وربما يستغنى عن هذا البيت بقوله فيما مر: ودية مع خطر فيها فقد.

والخطأ الدِّيَةُ فيهِ تُقْتَفَى ** بحَسَبِ الْعُضْوِ الذي قدْ أُتْلِفَا

(والخطأ) مبتدأ (الدية) مبتدأ ثان (فيه تقتفى) خبر الثاني وهو وخبره خبر الأول أي: والقطع خطأ تتبع الدية فيه (بحسب العضو الذي قد أتلفا) فمنه ما تجب فيه الدية كاملة، ومنه ما يجب فيه نصفها كما قال:
وَديةٌ كاملةٌ في المُزْدَوِجْ ** ونِصفُها في واحِدٍ مِنْه انْتُهِجْ

(ودية) لو فرعه بالفاء لكان أولى (كاملة في) قطع (المزدوج) من الأعضاء خطا كاليدين والرجلين والعينين والأذنين والشفتين والأنثيين والشفرين إن بدا العظم وثديي المرأة وحلمتيها إن بطل اللبن، فإن لم يبد العظم أو لم يبطل اللبن بقطع الحلمتين فحكومة، وأما قطع ثديي الرجل ففيهما حكومة فقط (ونصفها) أي الدية (في) قطع (واحد منه) أي المزدوج (انتهج) أي سلك. ففي اليد الواحدة نصف الدية وفي الرجل الواحدة كذلك، وفي العين كذلك وهكذا إلا عين الأعور ففيها الدية كاملة كما يأتي.
وَفي اللسَانِ كُمِلَتْ وَالذَّكَرِ ** والأَنْفِ وَالْعَقْلِ وَعينِ الأَعْوَرِ

(وفي) قطع (اللسان) كله (كملت) الدية على عاقلة قاطعة، وكذا تكمل إن قطع منه ما منعه من الكلام، فإن لم يمنعه من الكلام فحكومة (خ) عاطفاً على ما فيه الدية كاملة ما نصه: وفي لسان الناطق وإن لم يمنع النطق ما قطعه فحكومة كلسان الأخرس واليد الشلاء والساعد وأليتي المرأة وسن مضطربة جداً وعسيب ذكر بعد الحشفة إلخ. أي هذه الأشياء التي بعد الكاف إنما فيها حكومة فقط. (و) كملت أيضاً في قطع (الذكر) كله أو في قطع حشفته فقط، فإن قطع بعضها كثلثها فيأخذ المجنى عليه من الدية بحساب ذلك، فإن قطع الذكر والأنثيين فديتان كاملتان ولو بضربة واحدة على المشهور، فإن كان مقطوع الحشفة وقطع هذا عسيبه فقط فحكومة كما مرّ. (و) كملت أيضاً في قطع (الأنف) كله أو في قطع مارنه وهو ما لان من الأنف، فإن قطع بعض المارن فبحسابه أيضاً، فإن كان مقطوع المارن وقطع هذا باقي الأنف فحكومة فيما يظهر. (و) كملت أيضاً في إذهاب (العقل) بضربة ونحوها (و) في (عين الأعور) للسنة بخلاف ما عداها من آحاد المزدوجين كأذن أو رجل فإنما فيه نصف الدية وإن لم يكن له غيره.
وفي إزَالَةٍ لِسَمْعٍ أَوْ بَصَرْ ** والنصْفُ في النصفِ وَشَمَ كالنَّظَرْ

(و) كملت أيضاً (في إزالة لسمع) كله (أو بصر) كله بضربة أو أكل أو شرب أو فعل من الأفعال (والنصف) من الدية (في) إزالة (النصف) من سمع أو بصر أو غيرهما (و) إزالة (شم ك) إزالة (النظر) فإن أزاله كله فالدية كاملة. وإن أزال نصفه وجب فيه نصفها أو ثلثه فثلثها وهكذا.
وَالنطْقِ والصوتِ كذا الذوقِ وفي ** إذْهاب قوةِ الجماعِ ذَا اقتُفي

(والنطق والصوت) بالجر فيهما أي في إزالة كل واحد منهما دية كاملة ولا يندرج أحدهما في الآخر إلا أن يذهبا معاً بضربة أو أكل، ونحو ذلك فدية واحدة. والنطق صوت بحروف والصوت هواء منضغط يخرج من داخل الرئة كان بحروف أم لا، فعطفه على النطق من عطف العام على الخاص، إذ لا يلزم من ذهاب الخاص ذهاب العام والكلام هو اللفظ المفيد فهو أخص من النطق، فإذا جنى عليه فأذهب كلامه ونطقه وصوته فدية واحدة، وإذا أذهب الكلام فقط بحيث لا يقدر على تركيب المفردات حتى تحصل الفائدة فدية واحدة أيضاً، فإن لم يكن له إلا النطق بالمفردات فأذهبه أو الصوت فأذهبه فدية كاملة أيضاً، وإذا أذهب بعض نطقه أو صوته فبحسابه من الدية. (كذا الذوق) أي في إذهابه كله ففيه الدية كاملة وبعضه بحسابه (وفي إذهاب قوة الجماع) بضربة أو أكل ونحوهما (ذا) مبتدأ أي وجوب الدية الكاملة (اقتفي) في إذهاب قوة الجماع بأن أبطل إنعاظه أو قطع ماءه أو أفسده حتى صار ماؤه لا يتكون منه نسل، وكذا إبطال قيامه أو جلوسه أو تجذيمه أو تبريصه (خ): والدية في العقل أو السمع أو البصر أو الشم أو النطق أو الصوت أو الذوق أو قوة الجماع أو نسله أو تجذيمه أو تبريصه أو قيامه أو جلوسه أو تسويده إلى أن قال: وجرب العقل بالخلوات والسمع بأن يصاح من أماكن مختلفة مع سد الصحيحة ونسب لسمعه الآخر، وإلاَّ فسمع وسط وله نسبته إن حلف ولم يختلف قوله: وإلاَّ فهدر والبصر بإغلاق الصحيحة كذلك، والشم برائحة حادة والنطق بالكلام اجتهاداً بأن يقول أهل المعرفة: ذهب من كلامه نصفه أو ثلثه فيعطى بقدر من ديته، والذوق بالمر كصبر بفتح الصاد وكسر الباء الموحدة وقد تسكن في ضرورة الشعر كقوله:
الصبر كالصبر مر في مذاقته ** لكن عواقبه أحلى من العسل

وإن لم يمكن اختباره بما تقدم أو أخبر وأشكل أمره صدق مدعي ذهاب الجميع بيمين ما عدا العقل فإنه لا تمكن الدعوى فيه من المجنى عليه، بل من وليه وهو لا يحلف ليستحق غيره فيصدق بغير يمين.
وكلُّ سِنَ فيهِ مِنْ جِنْسِ الإبِلْ ** خَمْسٌ وَفي الأصْبَعِ ضِعْفُهَا جُعِلْ

(وكل سن) مبتدأ خبره (فيه من جنس الإبل خمس) أي يجب في كل سن نصف عشر الدية مخمسة في الخطأ ومثلثة في الأب ونحوه، ولو عبر به لكان أولى ليشمل المسلم وغيره، ففيها في الحر المسلم على أهل الإبل خمس من الإبل، وعلى أهل الذهب خمسون ديناراً وهكذا، وظاهره ثنية كانت السن أو رباعية أو ضرساً قلعت من أصلها أو من اللحم قلعها أو سودها أو اصفرت أو احمرت أو اضطربت جداً، فإن كسرها فبحساب ذلك وهو كذلك في الجميع (خ): وفي كل سن خمس وإن سوداء بقلع أو اسوداد أو بهما أو بحمرة أو صفرة إن كان عرفاً كالسواد أو باضطرابها جداً. (وفي الأصبع ضعفها) وهو عشرة من الإبل ومائة دينار (جعل) وفي الأنملة ثلث إلا في الإبهام فنصفه، وسواء كانت الأصبع من يد أو رجل ولو زائدة حيث كانت لا قوة لها كالأصلية، وسواء كانت الجناية على الزائدة عمداً أو خطأ إذ لا قود فيها لعدم المماثل.
تنبيه:
تقدم أنه إذا قطع ذكره وأنثياه ولو بضربة واحدة فديتان، وكذا تتعدد الدية لو أذهب سمعه وبصره أو أذهب الذوق وقوة الجماع أو قطع يده فذهب عقله، وهكذا إلا المنفعة بمحلها كما لو قطع أذنيه فزال سمعه، أو قطع مارنه فذهب شمه، أو قلع عينيه فذهب بصره فديّة واحدة لأن المنفعة بمحل الجناية، وكذا لو جنى على لسانه فأذهب ذوقه ونطقه أو فعل به ما أذهب النطق والذوق بقاء اللسان فدية واحدة، وأما إن أوضحه فذهب عقله، فإن قلنا إن محله الرأس كما هو مذهب أبي حنيفة وابن الماجشون، فكذلك وإن قلنا إن محله القلب وهو قول مالك وأكثر أهل الشرع فديّة للعقل ونصف عشرها للموضحة، وهذا كله إن أذهب ذلك بضربة أو ضربات في فور، وأما بضربات في غير فور فتتعدد ولو بمحلها (خ): وتعددت الدية بتعددها إلا المنفعة بمحلها إلخ.
ودِيةُ الْجُرُوحِ في النساءِ ** كدِية الرّجال بالسَّوَاءِ

(ودية الجروح في النساء كدية الرجال بالسواء) فديّة جرح المرأة كديّة الرجل من أهل دينها فلها في الموضحة إن كانت حرة مسلمة نصف عشر دية الحر المسلم وهو خمس من الإبل على أهل الإبل وخمسون ديناراً على أهل الذهب ولها في المنقلة والهاشمة عشر الدية ونصف عشرها وهو خمس عشرة من الإبل ومائة وخمسون ديناراً فهي والرجل في ذلك سواء لأن ذلك لم يبلغ ثلث دية الرجل من أهل دينها، ولها في ثلاثة أصابع ثلاثون من الإبل وثلاثمائة دينار، وهكذا في كل جرح لم تبلغ ديته ثلث دية الرجل من أهل دينها فإن بلغت ثلث ديته كجائفة ومأمومة فترجع لديتها كما قال:
إلاّ إذَا زَادَتْ عَلَى ثُلْثِ الدِّيَهْ ** فما لها مِنْ بَعْدِ ذَاكَ تَسْوِيَهْ

(إلا إذا زادت) صوابه ساوت بها (على ثلث الدية فما لها من بعد ذاك تسوية) وإنما قلنا صوابه ساوت لأن كلامه يقتضي أنها لا ترجع لديتها إلا إذا زادت دية جرحها على ثلث ديته كيد أو رجل مثلاً وليس كذلك بل ترجع لديتها إذا ساوت دية جرحها ثلث ديته كما في الجائفة أو المأمومة، فلها فيهما حينئذ ستة عشر بعيراً وثلثا بعير فأحرى إذا زادت كيد أو رجل فلها فيهما خمس وعشرون من الإبل ومائتان وخمسون ديناراً، ولها في أربعة أصابع عشرون من الإبل (خ): وساوت المرأة الرجل لثلث ديته فترجع لديتها إلخ. وقال في المدونة: والمرأة تعاقل الرجل إلى ثلث ديته لا تستكمله، فإذا بلغت ذلك رجعت إلى عقل نفسها فلها في ثلاثة أصابع ونصف أنملة إحدى وثلاثون بعيراً وثلثا بعير، والرجل في هذا وهي سواء، وإذا أصيب منها ثلاثة أصابع وأنملة رجعت إلى عقلها فكان لها في ذلك ستة عشر بعيراً وثلثا بعير. اهـ. وفي الموطأ عن ربيعة قلت لابن المسيب: كم في ثلاثة أصابع من المرأة؟ قال: ثلاثون. قلت: فكم في أربع؟ قال: عشرون. فقلت حين عظم جرحها نقص عقلها. فقال: أعراقي أنت؟ فقلت: بل عالم متثبت أو جاهل متعلم. فقال: تلك السنة يا ابن أخي.
تنبيه:
ظاهر النظم أنها إذا ساوت ثلث الدية أو زادت ترجع لديتها ولو تعدد الفعل وهو كذلك في الأصابع فقط حيث اتحد المحل، فلو قطع لها أربعاً من الأصابع من كل يد أصبعين بضربة واحدة أو ضربات في فور واحد أو جماعة أو قطع لها ثلاثاً من يد أو رجل وأصبعاً من اليد أو الرجل الأخرى بضربة أو ضربات في فور أيضاً أخذت عشرين من الإبل فقط، لأن الفعل الواحد وما في حكمه يضم ما نشأ عنه بعضه إلى بعض، ولو تعدد المحل كافي المثال، وأحرى لو اتحد المحل ولو قطع لها ثلاثاً من يد واحدة أو رجل بضربة أو ضربات أخدت ثلاثين من الإبل لكل أصبع عشر من الإبل ثم إن قطع لها بعد ذلك من تلك باليد أو الرجل أصبعاً رابعاً أو أكثر فلها في كل أصبع خمس من الإبل، وإنما كان لها خمس فقط لأن متحد المحل يضم بعضه إلى بعض ولو تعدد الفعل لكونه في غير فور، وأما إن تعدد الفعل والمحل معاً كما لو قطع لها ثلاثاً من يد فأخذت ثلاثين ثم قطع لها بعد ذلك ثلاثاً من اليد الأخرى فتأخذ ثلاثين أيضاً، ولا يضم من يد أحدهما للآخر لتعدد كل من الفعل والمحل، وهذا كله في الأصابع لا في الأسنان فإنه لا يضم بعضها إلى بعض إذا تعدد الفعل، وسواء كانت من حنك أو حنكين لأن الحنكين محل واحد، فإذا قلع لها عشر أسنان في عشر ضربات متفرقات ليست في فور واحد، فلها في كل سن خمس من الإبل، وإن قلعها في ضربة واحدة أو ما في حكمها كضربات في فور فإنها تضم وترجع إلى ديتها في سبع أسنان فأكثر وضم متحد الفعل وما في حكمه أو المحل في الأصابع لا في الأسنان.