فصل: تزيين الآرائك في إرسال النبي صلى الله عليه وسلم إلى الملائك

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي للفتاوي ***


الفتاوى الأصولية الدينية

مبحث الإلهيات

مسألة‏:‏

في تعريف الإيمان وركنه وشرطه وسببه ومحله وهل يزيد وينقص وما الدليل على ذلك‏.‏

الجواب‏:‏

الإيمان هو التصديق بكل ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم وعلم مجيئه به من الدين بالضرورة وشرطه التلفظ بكلمتي الشهادتين وقيل هو ركن له وسببه النظر المؤدي إلى ذلك ومحله القلب وهو يزيد وينقص عندنا وعند أكثر السلف وخالف في ذلك الحنفية، والأدلة على زيادته ونقصه كثيرة ذكر البخاري في صدر صحيحه منها جملة منها قوله تعالى ‏(‏ويزداد الذين آمنوا إيمانا - وزدناهم هدى‏)‏‏.‏ وفي الحديث الإيمان يزيد وينقص أخرجه أحمد في مسنده من حديث معاذ بن جبل مرفوعا والديلمي في مسند الفردوس من حديث أبي هريرة مرفوعا‏.‏

إتمام النعمة في اختصاص الإسلام بهذه الأمة

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى‏.‏ وبعد فقد وقع السؤال هل كان الأمم السابقة يوصفون بأنهم مسلمون أو لا‏.‏ فأجبت بما نصه‏:‏ اختلف العلماء هل يطلق الإسلام على كل دين حق أو يختص بهذه الملة الشريفة على قولين أرجحهما الثاني فبلغني بعد ذلك أن منكرا أنكر ذلك وأنه استدل بأشياء على كون الأمم السابقة يوصفون بكونهم مسلمين فعجبت من ذلك عجبين‏:‏ الأول‏:‏ من إنكاره فإن كان أنكر أن للعلماء في ذلك قولين فهذا دليل على جهله بنصوص العلماء وأقوالهم ومن هذا حاله يقال في حقه ما قاله الغزالي لو سكت من لا يعرف قل الاختلاف ومن قصر باعه وضاق نظره عن كلام علماء الأمة والاطلاع عليه فما له للتكلم فيما لا يدريه والدخول فيما لا يعنيه وحق مثل هذا أن يلزم السكوت وإذا سمع شيئا لم يسمعه قط يعتقد أنه استفاد فائدة جديدة فيعدها نعمة من نعم الله عليه ويدعو لمن أجراها على يديه ويشكر الله عليها ويدعو لمن أجراها على يديه وإن كان أنكر ترجيح القول الثاني فهذا ليس من وظيفته إنما ذلك من وظيفة المجتهدين العالمين بوجوه الترجيحات ومسالك الأدلة وطرق الحجاج والنظر وإنكاره أيضا دليل على جهله بنصوص الكتاب والسنة الواردة في ذلك‏.‏ العجب الثاني من استدلاله فإن الاستدلال إنما يسوغ للمجتهد العالم بطرق الاستدلال أما غيره فما له ولذلك قال الغزالي في كتاب التفرقة أن يسكت ويسكت عنه لأنه قاصر عن سلوك طريق الحجاج ولو كان أهلا له كان مستتبعا لا تابعا وإماما لا مأموما‏.‏ وإن خاض المقلد في المحاجة فذلك منه فضول والمشتغل به ضارب في حديد بارد وطالب لاصلاح فاسد* وهل يصلح العطار ما أفسد الدهر*هذه عبارة الغزالي‏.‏ وقال الشيخ عز الدين بن عبد السلام شرط المفتي أن يكون مجتهدا وأما المقلد إذا أفتى فهو ناقل وحامل فقه ليس بمفت ولا فقيه بل هو كمن ينقل فتوى عن إمام من الأئمة ثم أطال القول في ذلك والعجب من هذا المنكر استدلاله بآيات من القرآن وليس هو ممن أتقن علم المعاني والبيان الذي لا تعرف بلاغة القرآن وأساليبه إلا به وذلك من شروط الاجتهاد والاستنباط بل ولا أتقن واحدا من العلوم الخمسة عشر التي لا يجوز لأحد أن يتكلم في القرآن حتى يتقنها‏.‏ والعجب من تصديه لذكر أدلة ولو أورد عليه أدلة معارضة لما ذكره لم يدر كيف يصنع فيها‏.‏ وقد أردت أن أبسط القول في هذه المسألة بذكر أدلة القول الراجح والأجوبة عما عارضها فأقول‏:‏ للعلماء في هذه المسألة قولان مشهوران حكاهما غير واحد من الأئمة أحدهما إنه يطلق الإسلام على كل دين حق ولا يختص بهذه الملة‏.‏ وبهذا أجاب ابن الصلاح، والقول الثاني أن الإسلام خاص بهذه الملة الشريفة ووصف المسلمين خاص بهذه الأمة المحمدية ولم يوصف به أحد من الأمم السابقة سوى الأنبياء فقط فشرفت هذه الأمة بأن وصفت بالوصف الذي كان يوصف به الأنبياء تشريفا لها وتكريما‏.‏ وهذا القول هو الراجح نقلا ودليلا لما قام عليه من الأدلة الساطعة‏.‏ وقد خصت هذه الأمة من بين سائر الأمم بخصائص لم تكن لأحد سواها إلا للأنبياء من ذلك الوضوء فإنه خصيصة بهذه الأمة ولم يكن أحد من الأمم يتوضأ إلا الأنبياء فقط في أشياء أخر‏.‏ وأخرج البيهقي في دلائل النبوة عن وهب بن منبه قال إن الله أوحى إلى داود في الزبور يا داود إنه سيأتي من بعدك نبي اسمه أحمد إلى أن قال أمته أمة مرحومة أعطيتهم من النوافل مثل ما أعطيت الأنبياء وافترضت عليهم الفرائض التي افترضت على الأنبياء والرسل حتى يأتوني يوم القيامة ونورهم مثل نور الأنبياء وذلك إني افترضت عليهم أن يتطهروا لي لكل صلاة كما افترضت على الأنبياء قبلهم وأمرتهم بالغسل من الجنابة كما أمرت الأنبياء قبلهم وأمرتهم بالحج كما أمرت الأنبياء قبلهم وأمرتهم بالجهاد كما أمرت الرسل قبلهم‏.‏ وأخرج الغرياني في تفسيره عن كعب قال أعطيت هذه الأمة ثلاث خصال لم يعطها إلا الأنبياء كان النبي يقال له بلغ ولا حرج وأنت شهيد على قومك وادع أجبك وقال لهذه الأمة ما جعل عليكم في الدين من حرج‏.‏ وقال لتكونوا شهداء على الناس‏.‏ وقال ادعوني أستجب لكم‏.‏ وأخرج أبو نعيم والبيهقي كلاهما في دلائل النبوة عن كعب قال في كتاب الله إن لكل نبي يوم القيامة نورين ولكل من اتبعه نور ولمحمد صلى الله عليه وسلم في كل شعرة في رأسه ووجهه نور ولكل من اتبعه نوران يمشي بهما كنور الأنبياء‏.‏ وخصائص هذه الأمة كثيرة وفيما أوردناه كفاية‏.‏

‏(‏ذكر الأدلة للقول الراجح‏)‏ الدليل الأول‏:‏ قوله تعالى ‏(‏وجاهدوا في الله حق جهاده هو اجتباكم وما جعل عليكم في الدين من حرج ما أبيكم إبراهيم هو سماكم المسلمين من قبل‏)‏ وفي هذا اختلف في ضمير هو هل هو لإبراهيم أو لله على قولين سيذكران، وقوله سماكم المسلمين لو لم يكن ذلك خاصا بهم كالذي ذكر قبله لم يكن لتخصيصه بالذكر ولا لاقترانه بما قبله معنى وهذا هو الذي فهمه السلف من الآية‏:‏ أخبرني الشيخ جلال الدين بن الملقن مشافهة عن أبي الفرح العزى أنبأنا يونس بن إبراهيم عن أبي الحسن بن المقير أنا الحافظ أبو الفضل بن ناصر إجازة عن أبي القاسم بن مندة أنا أبي أنا أبو محمد بن أبي حاتم في تفسيره أخبرنا أبو يزيد القراطيسي فيما كتب إلي أنا أصبغ سمعت ابن زيد يقول في قول الله تعالى هو سماكم المسلمين من قبل قال لم يذكر الله بالإسلام غير هذه الأمة ولم نسمع بأمة ذكرت بالإسلام غيرها هذا إسناد صحيح إلى ابن زيد وهو أحد أئمة السلف والتفسير وظيفته في اتباع التابعين‏.‏ وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم من طريق عطاء عن ابن عباس في قوله هو سماكم المسلمين من قبل قال الله عز وجل سماكم المسلمين‏.‏ وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله هو سماكم المسلمين قال الله عز وجل سماكم من قبل قال يعني من قبل الكتب كلها ومن قبل الذكر في هذا قال القرآن‏.‏ وأخرج عبد الرزاق وابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله هو سماكم المسلمين قال الله تعالى سماكم المسلمين من قبل في الكتب وفي هذا أي في كتابكم‏.‏ وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر عن سفيان بن عيينة في قوله هو سماكم المسلمين من قبل قال في التوراة والإنجيل وفي هذا قال القرآن وذكر ابن أبي حاتم عن مقاتل بن حيان في قوله هو سماكم المسلمين من قبل قال يعني في الذكر في أم الكتاب وفي هذا قال في القرآن فهذه نصوص أئمة السلف المفسرين من الصحابة والتابعين وأتباعهم أن الله سمى هذه الأمة المسلمين في أم الكتاب وهو اللوح المحفوظ وفي التوراة والإنجيل وسائر كتبه المنزلة في القرآن فإنه اختصهم بهذا الاسم من بين سائر الأمم‏.‏ وسيأتي الأثر عن بعض كتب الله في تسمية هذه الأمة بهذا الاسم‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن زيد في قوله هو سماكم المسلمين قال هو إبراهيم ألا ترى إلى قوله ‏(‏ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة سلمة لك‏)‏‏.‏ ‏"‏الدليل الثاني‏"‏ قوله تعالى حكاية عن إبراهيم عليه السلام ‏(‏ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك‏)‏ دعا بذلك لنفسه ولولده وهما نبيان ثم دعا به الأمة من ذريته وهي هذه الأمة ولهذا قال عقب ذلك ربنا وابعث فيهم رسولا منهم وهو النبي صلى الله عليه وسلم بالإجماع فأجاب الله دعاءه بالأمرين ببعث النبي صلى الله عليه وسلم فيهم وتسميتهم مسلمين ولهذا أشار تعالى إلى أن إبراهيم هو السبب في ذلك بقوله ملة أبيكم إبراهيم هو سماكم المسلمين كما تقدم عن ابن زيد‏.‏ أخرج ابن أبي حاتم عن سلام بن أبي مطيع بن أبي مطيع في قوله ‏(‏ربنا وأجعلنا مسلمين لك‏)‏ قال كانا مسلمين ولكن سألاه الثبات‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم عن السدي في قوله ومن ذريتنا أم مسلمة لك قال يعنيان العرب وفي قوله وابعث فيهم رسولا منهم قال هو محمد صلى الله عليه وسلم وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن أبي العالية في قوله ربنا وابعث فيهم رسولا منهم قال يعني أمة محمد صلى الله عليه وسلم فقيل له قد أستجيب لك وهو كائن في آخر الزمان‏.‏ ‏(‏الدليل الثالث‏)‏ قوله تعالى ‏(‏ورضيت لكم الإسلام دينا‏)‏ هو ظاهر في الاختصاص بهم‏.‏ فإن قلت لا يلزم‏.‏ قلت ذاك لجهلك بقواعد المعاني فأن تقديم لكم يستلزمه ويفيد أنه لم يرضه لغيرهم كما قال صاحب الكشاف في قوله تعالى ‏(‏وبالآخرة هم يوقنون‏)‏ أن تقديم هم تعريض بأهل الكتاب وأنهم لا يوقنون بالآخرة وكما قال الأصفهاني في قوله ‏(‏وما هم بخارجين من النار‏)‏ إن تقديم هم يفيد أن غيرهم يخرج منها وهم الموحدون‏.‏ ‏(‏الدليل الرابع‏)‏ قوله تعالى ‏(‏إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور يحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا‏)‏ وبهذه الآية استدل من قال أن الإسلام كان من وصف الأنبياء دون أممهم أخرج ابن المنذر عن عكرمة وابن جريج في قوله يحكم بها النبيون الآية قال يحكم بها محمد صلى الله عليه وسلم ومن قبله من الأنبياء والربانيون والأحبار كلهم يحكم بما فيها من الحق ليهود‏.‏ ‏(‏الدليل الخامس‏)‏ ما أخرجه إسحاق بن راهوية في مسنده وابن أبي شيبة في مصنفه عن مكحول قال كان لعمر على رجل حق فأتاه يطلبه فقال عمر لا والذي اصطفى محمدا على البشر لا أفارقك فقال اليهودي والله ما اصطفى الله محمدا على البشر فلطمه عمر فأتى اليهودي النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره فقال النبي صلى الله عليه وسلم بل يا يهودي آدم صفى الله وإبراهيم خليل الله وموسى نجى الله وعيسى روح الله وأنا حبيب الله بل يا يهودى تسمى الله باسمين سمى بهما أمتي هو السلام وسمى بها أمتي المسلمين وهو المؤمن وسمى بها أمتي المؤمنين بل يا يهودى طلبتم يوم ذخر لنا لنا اليوم ولكم غد وبعد غد للنصارى بل يا يهودى أنتم الأولون ونحن الآخرون السابقون يوم القيامة بل إن الجنة محرمة على الأنبياء حتى أدخلها وهي محرمة على الأمم حتى تدخلها أمتي، هذا الحديث صريح في اختصاص أمته بوصف الإسلام كما أن جميع ما فيه خصائص لها ولو كانت الأمم مشاركة لها في ذلك لم يحسن إيراده في معرض التفضيل إذا كان اليهودي يقول ونحن أيضا كذلك وسائر الأمم‏.‏ ‏(‏الدليل السادس‏)‏ ما أخرجه البخاري في تاريخه والنسائي في سننه وابن مردويه في تفسيره عند قوله هو سماكم المسلمين عن الحارث الاشعري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال من دعا بدعوى الجاهلية فإنه من جثاء جهنم قال رجل يا رسول الله وإن صام وصلى قال نعم فادعوا بدعوة الله التي سماكم بها المسلمين والمؤمنين عباد الله‏.‏ ‏(‏الدليل السابع‏)‏ ما أخرجه ابن جرير في تفسيره عن قتادة قال ذكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم كان يقول لما أنزلت هذه الآية ‏(‏يحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا‏)‏ نحن نحكم على اليهود وعلى من سواهم من أهل الأديان‏.‏ هذا صريح في أنه صلى الله عليه وسلم فهم اختصاص الإسلام بدينه‏.‏ ‏(‏الدليل الثامن‏)‏ ما أخرجه ابن جرير عند قوله ‏(‏ورضيت لكم الإسلام دينا‏)‏ عن قتادة قال ذكر لنا أنه يمثل لأهل كل دين دينهم يوم القيامة فأما الإيمان فيبشر أصحابه وأهله ويعدهم الخير حتى يجيء الإسلام فيقول رب أنت السلام وأنا الإسلام هذا موقوف له حكم الرفع لأن مثله لا يقال من قبل الرأي وهو صريح في أن الإسلام يختص بهذا الدين ولا يطلق على كل دين حق كما ترى حيث فرق بينه وبين الإيمان المتعلق بأهل الأديان ولهذا أورده ابن جرير عند هذه الآية الدالة على اختصاصه بهذه الأمة وفيه تقوية للحديث السابق هو السلام وسمى أمتي المسلمين‏.‏ ‏(‏الدليل التاسع‏)‏ ما أخرجه أبو نعيم في دلائل النبوة عن وهب بن منبه قال أوحى الله إلى شعيا أني باعث نبيا أميا مولده بمكة ومهاجره طيبة عبدي المتوكل المصطفى إلى أن قال والإسلام ملته وأحمد اسمه‏.‏ فهذا صريح في اختصاص الإسلام بملته وهذا الأثر أورده صاحب الشفا في كتابه‏.‏ والعجب ممن قرأه وسمعه ولم يتفطن له‏.‏ وقد أخرج ابن أبي حاتم عن أبي العالية قال بعث محمد صلى الله عليه وسلم بالإسلام وهو ملة إبراهيم وملة اليهود والنصارى اليهودية والنصرانية‏.‏ ‏(‏الدليل العاشر‏)‏ ما أخرجه ابن أبي حاتم عن ابن عباس إنه كان يقول في قوله ‏(‏ما جعل عليكم في الدين من حرج‏)‏ هو توسعة الإسلام ما جعل الله من التوبة ومن الكفارات‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس أنه قيل له أما علينا في الدين من حرج في أن نسرق أو نزني قال بلى قيل فما جعل عليكم في الدين من حرج قال الأصر الذي كان على بني إسرائيل وضع عنكم، هذا صريح في أن الإسلام هو هذه الشريعة السهلة الواسعة بخلاف اليهودية والنصرانية المشتمل على الأصر والضيق فإنه لا يسمى إسلاما‏.‏ ‏(‏الدليل الحادي عشر‏)‏ ما أخرجه أحمد عن أبي أمامة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثت بالحنيفية السمحة‏.‏ واخرج ابن المنذر عن ابن عباس قال قيل يا رسول الله أي الأديان أحب إلى الله قال الحنيفية السمحة والحنيفية هي الإسلام لما أخرج ابن المنذر عن السدي قال الحنيف المسلم‏.‏ واخرج أبو الشيخ بن حيان في تفسيره في آخر سورة الأنعام عن عبد الرحمن بن أبزى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال أصبحت على فطرة الإسلام وكلمة الإخلاص وعلى ملة إبراهيم حنيفا مسلما وما كان من المشركين‏.‏ فقوله حنيفا مسلما تفسير لقوله وعلى ملة إبراهيم فعلم بمجموع ذلك اختصاص الإسلام بملة النبي صلى الله عليه وسلم التي بعث بها موافقا لملة إبراهيم‏.‏ ‏(‏الدليل الثاني عشر‏)‏ قوله تعالى ‏(‏ما كان إبراهيم يهوديا ولا نصرانيا ولكن كان حنيفا مسلما‏)‏ هذه الآية دالة على أن شريعة موسى تسمى اليهودية وشريعة عيسى تسمى النصرانية وشريعة إبراهيم تسمى الحنيفية وبها بعث النبي صلى الله عليه وسلم وهي صريحة في أن اليهود والنصارى لم يدعوا قط أن شريعتهم تسمى الإسلام ولا أن أحدا منهم يسمى مسلما‏.‏ ‏(‏الدليل الثالث عشر‏)‏ قوله تعالى ‏(‏وقالوا كونوا هودا أو نصارى تهتدوا قل بل ملة إبراهيم حنيفا مسلما‏)‏ هذه الآية كالتي قبلها في الدلالة على ما ذكرنا والصراحة في أنهم لم يدعوا اسم الإسلام لهم قط‏.‏ ‏(‏الدليل الرابع عشر‏)‏ قوله تعالى ‏(‏يا أهل الكتاب لم تحاجون في إبراهيم وما أنزلت التوراة والإنجيل إلا من بعده أفلا تعقلون‏)‏ أخرج ابن جرير وابن المنذر عن قتادة قال ذكر لنا أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا يهود أهل المدينة وهم الذين حاجوا في إبراهيم وزعموا أنه مات يهوديا فأكذبهم الله فقال يا أهل الكتاب لم تحاجون في إبراهيم وتزعمون أنه كان يهوديا أو نصرانيا وما أنزلت التوراة والإنجيل إلا من بعده فكانت اليهودية بعد التوراة وكانت النصرانية بعد الإنجيل‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم عن السدي في الآية قال قالت النصارى كان إبراهيم نصرانيا وقالت اليهود كان يهوديا فأخبرهم الله أن التوراة والإنجيل إنما أنزلتا من بعده وبعده كانت اليهودية والنصرانية‏.‏ هذا صريح في أن شريعة التوراة تسمى يهودية وشريعة الإنجيل تسمى نصرانية ولا يسمى واحدا منهما إسلاما‏.‏ ‏(‏الدليل الخامس عشر‏)‏ قوله تعالى ‏(‏وقل للذين أوتوا الكتاب والأميين أأسلمتم فإن أسلموا فقد اهتدوا‏)‏ هذه الآية دالة على أن الإسلام خاص بهذا الدين وإلا لكان أهل الكتاب يقولون إذا قيل لهم أأسلمتم نحن مسلمون وديننا إسلام‏.‏ ‏(‏الدليل السادس عشر‏)‏ ما أخرجه الشيخان في حديث بدء الوحي من قول الراوي في حق ورقة وكان امرأ تنصر في الجاهلية فلو كان الدين الحق من ملة عيسى يسمى إسلاما وصاحبه مسلم لقال وكان امرأ أسلم في الجاهلية‏.‏ ‏(‏الدليل السابع عشر‏)‏ ما أخرجه ابن أبي حاتم وأبو الشيخ ابن حبان عن عبد الله بن مسعود قال تسمت اليهود باليهودية بكلمة قالها موسى انا هدنا إليك وتسمت النصارى بالنصرانية بكلمة قالها عيسى من أنصاري إلى الله قال الحواريون نحن أنصار الله فتسموا بالنصرانية، هذا صريح في أنهم سموا بهذين الاسمين من عهد نبيهما ولم يسموا بالمسلمين قط ولا نقل ذلك عن أحد ولا عنهم فكيف يدعى لهم وصف شريف لم يدعوه هم لأنفسهم‏.‏ ‏(‏الدليل الثامن عشر‏)‏ ما أخرجه أبو داود والنسائي وابن حبان في صحيحه وغيرهم عن ابن عباس قال كانت المرأة من الأنصار تكون مقلاة لا يكاد يعيش لها ولد فكانت تجعل على نفسها إن عاش لها ولد أن تهوده فلما جاء الإسلام الحديث، هذا صريح في أن دين موسى الحق كان يسمى يهودية لا إسلاما‏.‏ ‏(‏الدليل التاسع عشر‏)‏ ما أخرجه مسلم وغيره عن أبي موسى الأشعري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال والذي نفسي بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة ولا يهودي ولا نصراني ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت إلا كان من أصحاب النار سمى صلى الله عليه وسلم الواحد من أهل الكتاب يهوديا أو نصرانيا ولم يطلق على أحد منهم لفظ الإسلام في أحاديث كثيرة لا تحصى‏.‏ ‏(‏الدليل العشرون‏)‏ إطباق ألسنة الخلق كلهم من الصحابة والتابعين وأتباعهم والمجتهدين والفقهاء والعلماء على اختلاف فنونهم والمسلمين بأسرهم حتى النساء في قعر بيوتهن والأطفال واليهود والنصارى والمجوس وسائر الفرق حتى الحيوانات والحجر في آخر الزمان على تسمية من كان على دين موسى يهوديا ومن كان على دين عيسى نصرانيا ومن كان على دين نبينا صلى الله عليه وسلم مسلما لا يجترئ في ذلك كبير ولا صغير ولا عالم ولا جاهل ولا مسلم ولا كافر فترى هذا الإطباق ناشئ عن لا شيء ومبني على فساد كلا بل هو الحق المطابق للواقع والله الهادي للصواب‏.‏

‏(‏ذكر الأدلة التي احتج بها القول الآخر‏)‏‏:‏ استند إلى قوله تعالى ‏(‏فأخرجنا من كان فيها من المؤمنين فما وجدنا فيها غير بيت من المسلمين‏)‏‏.‏

والجواب على ذلك ما حققه صاحب القول الراجح إن هذا الوصف كان يطلق فيما تقدم على الأنبياء والبيت المذكور بيت لوط عليه السلام ولم يكن فيه مسلم إلا هو وبناته وهو نبي فصح إطلاقه عليه بالأصالة وأطلق على بناته إما على سبيل التغليب وإما على سبيل التبعية إذ لا مانع من أن يختص أولاد الأنبياء بخصائص لا يشاركهم فيها بقية الأمة كما اختص السيد إبراهيم بن نبينا صلى الله عليه وسلم بأنه لو كان عاش لكان نبيا وكما اختصت فاطمة بأنه لا يتزوج عليها وكما اختصت أيضا بأنها تمكث في المسجد مع الحيض والجنابة وكذلك أزواج النبي صلى الله عليه وسلم اختصوا بذلك وكذلك علي بن أبي طالب والحسن والحسين اختصوا بجواز المكث في المسجد مع الجنابة كل ذلك على سبيل التبعية للنبي صلى الله عليه وسلم فكذلك لا مانع من أن يوصف أولاد الأنبياء بما وصف به آباؤهم تبعا لهم وكذلك قوله تعالى عن أولاد يعقوب عليه السلام ‏(‏قالوا نعبد ألهك- إلى قوله تعالى ونحن له مسلمون‏)‏ إما على سبيل التبعية له إن لم يكونوا أنبياء مع أن فيهم يوسف وهو نبي قطعا فلعله هو الذي تولى الجواب فأخبر عن نفسه بالأصالة وأدرج إخوته معه على سبيل التغليب وإن كانوا أنبياء كلهم فلا إشكال وكذلك قوله تعالى ‏(‏وقال موسى يا قوم إن كنتم آمنتم بالله فعليه توكلوا إن كنتم مسلمين‏)‏ إما أن يحمل على التغليب فإنه خاطبهم وفيهم أخوه هرون ويوشع وهما نبيان فأدرج بقية القوم في الوصف تغليبا أو يحمل على أن المراد إن كنتم منقادين لي فيما آمركم به‏.‏ وهذه الآيات أوردت علي مرة في درس التفسير فأجبت فيها بذلك ولم أر أحدا استند إليها‏.‏ نعم رأيت ابن الصلاح استند إلى قوله تعالى ‏(‏فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون‏)‏ وهذا من قول إبراهيم لبنيه ويعقوب لبنيه وفي بني كل أنبياء فلا يحسن الاستدلال به على غيرهم مع أنه لا يلزم منه طرده في أمة موسى وعيسى لما علم من أن ملة إبراهيم تسمى الإسلام وبها بعث النبي صلى الله عليه وسلم وكان أولاد إبراهيم ويعقوب عليها فصح أن يخاطبوا بذلك ولا يتعدى إلى من ملته اليهودية والنصرانية‏.‏ وقد رأيت من أورد على ابن الصلاح في اختياره ذلك قوله تعالى ‏(‏ورضيت لكم الإسلام دينا‏)‏ وقال فما فائدة ذلك إذا كان كل منهم يسمى مسلما والتحقيق الذي قامت عليه الأدلة ما رجحناه من الخصوصية بالنسبة إلى الأمم وإن كان ما ورد من إطلاق ذلك فيمن تقدم فإنما أطلق على نبي أو ولد نبي تبعا له أو جماعة فيهم نبي غلب لشرفه ومن ذلك قوله تعالى ‏(‏وإذ أوحيت إلى الحواريين أن آمنوا بي وبرسولي قالوا آمنا واشهد بأننا مسلمون‏)‏ فإن الحواريين فيهم الثلاثة المذكورون في قوله تعالى ‏(‏إذ جاءها المرسلون إذ أرسلنا إليهم اثنين فكذبوهما فعززنا بثالث فقالوا إنا إليكم مرسلون‏)‏ نص العلماء على أنهم من حواري عيسى وأحد قولي العلماء أن الثلاثة أنبياء ويرشحه ذكر الوحي إليهم‏.‏ وقال الراغب في قوله ‏(‏يحكم بها النبيون الذين أسلموا‏)‏ أي الذين انقادوا من الأنبياء الذين ليسوا من أولى العزم لأولى العزم الذين يهدون بأمر الله ويأتون بالشرائع انتهى‏.‏

‏(‏فصل‏)‏ قال قائل من الأدلة على ذلك قوله تعالى ‏(‏شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا - الآية‏)‏ وهذا من أعجب العجب فإن المراد من الآية استواء الشرائع كلها في أصل التوحيد وليس الإسلام اسما للتوحيد فقط بل لمجموع الشريعة بفروعها وأعمالها فالمستدل بهذه الآية إما أن يزعم أن الإسلام لا يطلق على الأعمال أو يزعم استواء الشرائع في الفروع وكلاهما جهل من قائله ثم لو قدر الاستواء لم يصلح الاستدلال لأن محل النزاع في أمر لفظي وهو أنه هل تسمى تلك الشرائع إسلاما أو لا تسمى مع قطع النظر عن اتفاقها في الفروع واختلافها وذلك راجع إلى قاعدة أن الإطلاق متوقف على الورود والذي ورد به الحديث والأثر أنه لا يطلق على شيء من الشرائع السابقة إسلاما وإن كان حقا كما أنه لا يطلق على شيء من الكتب السابقة قرآن وإن كان فيها معنى الضم والجمع وكما أنه لا يطلق على شيء من أواخر آي القرآن سجع بل فواصل وقوفا مع ما ورد كما قال النووي أنه لا يقال في حق النبي صلى الله عليه وسلم عز وجل وإن كان عزيزا جليلا ولا في حق غير الأنبياء صلى الله عليه وسلم وإن كانت الصلاة بمعنى الرحمة وتطلق عليهم الرحمة كل ذلك وقوفا مع الورود، وقد تقدم عن ابن زيد أنه قال لم يذكر الله بالإسلام غير هذه الأمة وابن زيد أحد أئمة السلف العالمين بالقرآن والتفسير أفتراه غفل عن هذه الآيات التي استدل بها قائل هذه المقالة كلا لم يغفل عنها بل علم تأويلها واطلع على مدرك الجواب عنها فنفى وهو آمن من إيرادها عليه وأعظم من ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم اعلم خلق الله بكتاب الله حيث نص على اختصاص الإسلام بأمته وذكر ذلك لليهودي مبينا به تمييز أمته على سائر الأمم فلولا أنه صلى الله عليه وسلم فهم ذلك من الآيات الدالة عليه وعلم أن الآي الآخر لا تعارضها لم يقل ذلك ولو كان يطلق على الأمم السابقة مسلمون لكان اليهودي يقول له وأمة موسى أيضا مسلمون فلا مزية لأمتك عليهم ومن العجب من يستدل بآيات القرآن وهو غير متضلع من الحديث ومن المعلوم أن في القرآن المجمل والمبهم والمحتمل وكل من الثلاثة محتاج إلى السنة تبينه وتعينه وتوضح المراد منه وقد قال عمر بن الخطاب إنه سيأتي قوم يجادلونكم بشبهات القرآن فخذوهم بالسنن فإن أصحاب السنن أعلم بكتاب الله‏.‏ وأخرج ابن سعد عن ابن عباس أن علي بن أبي طالب أرسله إلى الخوارج فقال اذهب إليهم فخاصمهم ولا تحاججهم بالقرآن فإنه ذو وجود ولكن خاصمهم بالسنة فقال له ابن عباس يا أمير المؤمنين أنا أعلم بكتاب الله منهم في بيوتنا نزل قال صدقت ولكن القرآن جمال ذو وجوه تقول ويقولون ولكن حاججهم بالسنن فإنهم لن يجدوا عنها محيصا فخرج إليهم فحاجهم بالسنن فلم تبق بأيديهم حجة، وقال يحيى بن ابن كثير السنة قاضية على القرآن أي مبينة له ومفسرة‏.‏ وقال الإمام فخر الدين أنزل القرآن على قسمين محكم ومتشابه ليكون فيه مجال لكل ذي مذهب فينظر فيه جميع أرباب المذاهب طمعا أن يجد كل فيه ما يؤيد مذهبه وينصر مقالته فيجتهدون في التأمل فيه فإذا بالغوا في ذلك صارت المحكمات مفسرة للمتشابهات وبهذا الطريق يتخلص المبطل من باطله ويتصل إلى الحق ولو كان القرآن كله محكما لما كان مطابقا إلا لمذهب واحد وكان بصريحه مبطلا لكل ما سوى ذلك المذهب وذلك مما ينفر أرباب سائر المذهب عن قبوله وعن النظر فيه قال وأيضا إذا كان القرآن مشتملا على المتشابه افتقر إلى العلم بطريق التأويلات وترجيح بعضها على بعض وافتقر في تعلم ذلك إلى تحصيل علوم كثيرة من علم اللغة والنحو والمعاني والبيان وأصول الفقه وغير ذلك وفي ذلك مزيد مشقة في الوصول إلى المراد منه وزيادة المشقة توجب مزيد الثواب ولو لم يكن الأمر كذلك لم يحتج إلى تحصيل هذه العلوم الكثيرة فلم يكن فيه مشقة توجب مزيد الثواب وكان يستوي في إدراك الحق منه الخواص والعوام هذا كلام الإمام فخر الدين - قلت فإذا كان كذلك فكيف يحل لمن لم يتيقن واحدا من العلوم المشترطة التكلم في القرآن وعدتها خمسة عشر أن يتجرأ على الاستدلال بآيات القرآن على حكم من الأحكام أو على أمر من الأمور جاهلا بطريق الاستدلال عاجزا عن تحصيل شروطه ومثل هذا هو الذي ورد فيه الحديث من قال في القرآن بغير علم فليتبوأ مقعده من النار وفي رواية فقد كفر‏.‏ والعجب أنه يعمد إلى الاستدلال بآيات مع قطع النظر عن معارضها وعن النظر فيها هل هي مصروفة عن ظاهرها أو لا وقد أوجب أهل الأصول على المجتهد المستدل بآية أو حديث أن يبحث عن المعارض وجوابه وعن الذي استدل به هل معه قرينة تصرفه عن ظاهره، وهذا نطح مع الناطحين من غير تأمل ولا مراعاة لشرط من الشروط فلو استحيا هذا الرجل من الله لوقف عند مرتبته وهي التقليد وترك الاستدلال لأهله قال الله تعالى ‏(‏ولو ردوه إلى الرسول والى أولى الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم‏)‏ وأولو الأمر هم المجتهدون كما قال ابن عباس وجابر بن عبد الله ومجاهد وأبو العالية والضحاك وغيرهم أولو الأمر هم أولو الفقه وأول الخبر ولفظ مجاهد هم الفقهاء والعلماء‏.‏ وأخرج ابن جرير عن أبي العالية في قوله تعالى ‏(‏يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولى الأمر منكم‏)‏ قال هم أهل العلم ألا ترى أنه يقول ولو ردوه إلى الرسول والى أولى الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم ومعلوم أن لفظ الفقهاء والعلماء إنما يطلق على المجتهدين وأما المقلد فلا يسمى فقيها ولا عالما كما نص عليه أهل الفقه والأصول وامتناع إطلاق الفقيه والعالم على المقلد كامتناع إطلاق لفظ المسلم على اليهودي والنصراني خصوصية من الله لا يسأل عما يفعل وهم يسألون‏.‏ ‏(‏فصل‏)‏ ثم ظهر لي ‏(‏دليل حاد وعشرون‏)‏ وهو ما أخرجه أحمد وغيره عن عبد الله بن ثابت قال جاء عمر إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله إني مررت بأخ لي من قريظة فكتب لي جوامع من التوراة ألا أعرضها عليك فتغير وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال عمر رضينا بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد رسولا فسرى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال والذي نفس محمد بيده لو أصبح فيكم موسى ثم اتبعتموه لضللتم إنكم حظي من الأمم وأنا حظكم من النبيين‏.‏ هذا الحديث يدل على أن شريعة التوراة لا تسمى إسلاما لأن عمر لما رأى غضب النبي صلى الله عليه وسلم من كتابته جوامع من التوراة بادر إلى قوله رضينا بالإسلام دينا ليبرئ نفسه من الرضا بشريعة التوراة واتباعها‏.‏ فلما قال ذلك سرى عن النبي صلى الله عليه وسلم لحصول المقصود من عمر وهو اقتصاره على شريعة الإسلام وإعراضه عن شريعة التوراة‏.‏ ‏(‏دليل ثان وعشرون‏)‏ وهو قوله صلى الله عليه وسلم لجبريل وقد سأله ما الإسلام فقال الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وتقيم الصلاة المكتوبة وتؤتي الزكاة المفروضة وتصوم رمضان وتحج البيت زاد في رواية وتغتسل من الجنابة وهذا صريح في أن الإسلام مجموع هذه الأعمال وهذا المجموع مخصوص بهذه الأمة فإن اللام في الصلاة المكتوبة لعهد وهي الخمس ولم تكتب الخمس إلا على هذه الأمة وصوم رمضان من خصائص هذه الأمة كما أخرجه ابن جرير عن عطاء والحج والغسل من الجنابة من خصائصها أيضا كما تقدم في أثر وهب فدل على أن من لم يعمل هذه الأعمال لا يسمى مسلما والأمم السابقة لم تعملها فلا يسمون مسلمين‏.‏ ‏"‏تحقيق‏"‏ فإن قلنا ما تحرير المعنى في التخصيص بالتسمية‏.‏ قلت‏:‏ فيه معان أحدها أن الإسلام اسم للشريعة السمحة السهلة كما قال صلى الله عليه وسلم بعثت بالحنيفية السمحة وقال ابن عباس في قوله تعالى ‏(‏ما جعل عليكم في الدين من حرج‏)‏ توسعة الإسلام ووضع الأصر الذي كان على بني إسرائيل وشريعة اليهود والنصارى لا سهولة فيها بل هي في غاية المشقة والثقل كما هو معلوم من قوله تعالى ‏(‏ربنا ولا تحمل علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا‏)‏ وغير ذلك فلذلك لا تسمى إسلاما‏.‏ ‏"‏المعنى الثاني‏"‏ أن الإسلام اسم للشريعة المشتملة على فواضل العبادات من الجهاد والحج والوضوء والغسل من الجنابة ونحو ذلك وذلك خاص بهذه الأمة لم يكتب على غيرها من الأمم وإنما كتب على الأنبياء فقط كما تقدم في أثر وهب أعطيتهم من النوافل مثل ما أعطيت الأنبياء وافترضت عليهم الفرائض التي افترضت على الأنبياء والرسل فلذلك سميت هذه الأمة مسلمين كما سمي بذلك الأنبياء والرسل ولم يسم غيرها من الأمم‏.‏ ويؤيد هذا المعنى ما أخرجه أبو يعلي من حديث علي مرفوعا الإسلام ثمانية أسهم شهادة أن لا إله إلا الله والصلاة والزكاة والحج والجهاد وصوم رمضان والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وما أخرجه ابن جرير في تفسيره والحاكم في المستدرك عن ابن عباس قال ما ابتلى أحد بهذا الدين فقام به كله إلا إبراهيم قال تعالى ‏(‏وإذا ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فاتمهن‏)‏ قيل ما الكلمات قال الإسلام ثلاثون سهما عشر في قوله ‏(‏التائبون العابدون‏)‏ إلى آخر الآية وعشر في أول سورة قد أفلح وسأل سائل وعشر في الأحزاب ‏(‏أن المسلمين والمسلمات‏)‏ إلى آخر الآية فأتمهن كلهن فكتب له براءة قال تعالى ‏(‏وإبراهيم الذي وفى‏)‏‏.‏ وأخرج الحاكم من وجه آخر عن ابن عباس قال سهام الإسلام ثلاثون سهما لم يتمها أحد إلا إبراهيم ومحمد عليهما السلام‏.‏ فعرف بذلك أن الإسلام اسم لمجموع هذه السهام ولم تشرع كلها إلا في هذه الملة وملة إبراهيم ولهذا أمر النبي صلى الله عليه وسلم في غير ما آية من القرآن باتباع ملة إبراهيم وهي الحنيفية‏.‏ ‏"‏المعنى الثالث‏"‏ أن الإسلام مدار معناه على الانقياد والإذعان ولم تذعن أمة لنبيها كما أذعنت هذه الأمة فلذلك سموا مسلمين وكانت الأنبياء تذعن للرسل الذين يأتون بالشرائع كما تقدم في عبارة الراغب فسموا مسلمين وكانت الأمم كثيرة الاستعصاء على أنبيائهم كما دلت على ذلك الأحاديث والآثار، منها‏:‏ حديث إنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم وقد قال المقداد يوم بدر لا نقول كما قال بنو إسرائيل لموسى اذهب أنت وربك فقاتلا إنا ههنا قاعدون ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكم مقاتلون والله لو سرت بنا إلى برك الغماد لاتبعناك وفي لفظ لو خضت بنا البحر لخضناه معك فلذلك اختصت هذه الأمة بأن سموا مسلمين من بين سائر الأمم وكلما وقع في عبارة السلف من قولهم الإسلام دين الأنبياء ونحوه فمرادهم به دين الأنبياء وحدهم دون أممهم لما تقدم تقريره على حد قوله صلى الله عليه وسلم ‏"‏هذا وضوئي ووضوء الأنبياء من قبلي‏"‏‏.‏ ‏(‏فصل‏)‏ لما فرغت من تأليف هذه الكراسة واضطجعت على الفراش للنوم ورد علي قوله تعالى ‏(‏الذين آتيناهم الكتاب من قبله هم به يؤمنون وإذا يتلى عليهم قالوا آمنا به أنه الحق من ربنا إنا كنا من قبله مسلمين‏)‏ فكأنما لقي عليّ جبل فإن هذه الآية ظاهرها الدلالة للقول بعدم الخصوصية وقد أفكرت فيها ساعة ولم يتجه لي شيء فلجأت إلى الله تعالى ورجوت أن يفتح بالجواب عنها فلما استيقظت وقت السحر إذا بالجواب قد فتح فظهر لي عنها ثلاثة أجوبة‏:‏ الأول‏:‏ إن الوصف في قوله مسلمين اسم فاعل مراد به الاستقبال كما هو حقيقة فيه لا الحال ولا الماضي الذي هو مجاز والتمسك بالحقيقة هو الأصل وتقدير الآية إنا كنا من قبل مجيئه عازمين على الإسلام به إذا جاء لما كنا نجده في كتبنا من نعته ووصفه، ونظيره قوله تعالى ‏(‏إنك ميت وإنهم ميتون‏)‏ فالوصفان مراد بهما الاستقبال أي ستموت وسيموتون وليس المراد بهما الحال قطعا كما هو ظاهر فكذلك المراد في الآية أنا كنا من قبله ناوين أن سنسلم إذا جاء ويرشح هذا الجواب أن السياق يرشد إلى أن قصدهم الأخبار بحقيقة القرآن وأنهم كانوا على قصد الإسلام به إذا جاء به النبي صلى الله عليه وسلم لما كان عندهم من صفاته وظهر لهم من دنو زمانه واقتراب بعثته وليس قصدهم الثناء على أنفسهم في حد ذاتهم بأنهم كانوا بصفة الإسلام أو لا فإن ذلك ينبو عنه المقام كما لا يخفى‏.‏ ‏"‏الجواب الثاني‏"‏ أن يقدر في الآية إنا كنا من قبله به مسلمين فوصف الإسلام سببه القرآن لا التوراة والإنجيل ويرشح ذلك ذكر الصلة في الآية الأولى حيث قال هم به يؤمنون فدل على أن الصلة مرادة في الثانية أيضا وإنما حذفت كراهة لتكرارها في الآية وحذفت إزالة لتعلق التكرار‏.‏ ‏"‏الجواب الثالث‏"‏ إن هذا الوصف منهم بناء على مذهب الأشعري من أن من كتب الله أنه يموت مؤمنا فهو يسمى عند الله مؤمنا ولو في حالة كفر سبقت وكذا بالعكس والعياذ بالله‏.‏ وإنما لم يطلق عليه هذا الوصف عندنا لعدم علمنا بالخواتم والمستقبلات فكذلك هؤلاء لما ختم لهم بالدخول في الإسلام وصفوا أنفسهم به من أول أمرهم لأن العبرة في هذا الوصف بالخاتمة وإذا كان الكافر المشرك يوصف في حال شركه بأنه مؤمن عند الأشعري لما قدر له من الإيمان عند الخاتمة فلأن يوصف بالإسلام عند الخاتمة من باب أولى وهذا معنى دقيق استفدناه في هذه الآية من قواعد علم الكلام وبهذا يعرف أن من لم يتقن العلوم كلها ويطلع على مذاهب علماء الأمة ومداركها وقواعدها لم يمكنه استدلال ولا استنباط وهذا أمر ليس بالهين‏:‏

لا تحسب المجد تمرا أنت آكله * لن تبلغ المجد حتى تلعق الصبرا

‏(‏فصل‏)‏ حيث ذكر الله هذه الأمة في القرآن ذكرها بالإسلام أو الإيمان خطابا وغيبة كقوله هو سماكم المسلمين، يا أيها الذين آمنوا، أيها المؤمنون‏.‏ وحيث ذكر الأمم السابقة لم يصفهم قط بالإسلام لا أن ذمهم ولا أن مدحهم بل إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين‏.‏ وقال قل يا أيها الذين هادو إن زعمتم‏.‏ وقال يحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا وقال ‏(‏لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانا - الآيات‏)‏‏.‏ فهذه الآية ذكرت مدحا لمؤمني النصارى ولم يسمهم مسلمين بل قال الذين قالوا إنا نصارى وقال في غير آية عند مدح المؤمنين منهم ومن اليهود الذين آتيناهم الكتاب وأن من أهل الكتاب فأكثر ما أطلق عليهم عند المدح وصفهم بأنهم أوتوا الكتاب ومن أهل الكتاب هذا في كتابنا وأما كتبهم فوصف فيها هذه الأمة بالإسلام كما قال هو سماكم المسلمين من قبل قال سفيان بن عيينة أي في التوراة والإنجيل ولم يصفهم فيها بالإسلام البتة‏.‏ أخرج ابن أبي حاتم في تفسيره عن حيثمة قال ما تقرؤون في القرآن يا أيها الذين آمنوا فإنه في التوراة يا أيها المساكين‏.‏ ‏"‏فصل‏"‏ رأيت في كلام الإمام أبي عبد الله بن أبي الفضل المرسي ما يشهد لما قدمته فقال في تفسيره عند قوله تعالى ‏(‏يا أهل الكتاب لم تحاجون في إبراهيم‏)‏ ما نصه لما قال الفريقان إن إبراهيم على دينهما رد عليهما وأخبر أنه على الإسلام قال فإن قيل كيف يكون على الإسلام وهو أيضا نازل بعده قيل القرآن أخبر بذلك وما أخبرت كتبهم بما ادعوا فإن قيل أن أريد بكون إبراهيم مسلما كونه موافقا لهم في الأصول فهو أيضا موافق لليهود والنصارى الذين كانوا على ما جاء به موسى وعيسى في الأصول فإن جميع الأنبياء متوافقون في الأصول وإن أريد به في الفروع فيكون النبي صلى الله عليه وسلم مقررا لا شارعا وأيضا فإن التقيد بالقرآن ما جاء موجودا في زمان إبراهيم فتلاوته مشروعة في صلاتنا وغير مشروعة في صلاتهم قيل أريد الفروع ويكون النبي صلى الله عليه وسلم شارعا لا مقررا لأن الله نسخ شريعة إبراهيم بشريعة موسى وعيسى ثم نسخ محمد صلى الله عليه وسلم شريعتهم فكان صاحب شريعة لذلك ثم لما كان موافقا في الأكثر وإن خالفه في الأقل لم يقدح ذلك في الموافقة انتهى كلام المرسي وهو سؤال حسن وجواب نفيس‏.‏

‏(‏فصل‏)‏ دليل ثالث وعشرون‏:‏ وهو قوله تعالى ‏(‏يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة‏)‏ قال أهل التفسير نزلت فيمن أسلم من أهل الكتاب وبقي على تعظيم بعض شريعته كالسبت وترك لحوم الإبل فأمرهم أن يدخلوا في شرائع الإسلام كافة ولا يتمسكوا بشيء من أحكام التوراة لأنها منسوخة ولا تتبعوا خطوات الشيطان في التمسك ببعض أحكام التوراة بعد أن عرفتم نسخه وكافة من وصف السلم كأنه قيل ادخلوا في جميع شرائع الإسلام اعتقادا وعملا‏.‏ هذه عبارة المرسي في تفسير هذه الآية‏.‏ وقد أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في الآية قال نزلت في مؤمني أهل الكتاب تمسكوا ببعض أمور التوراة والشرائع التي أنزلت فيهم يقول ادخلوا في شرائع دين محمد ولا تدعوا منها شيئا وهذا صريح في أن شريعة التوراة لا تسمى إسلاما‏.‏ ‏"‏تنبيه‏"‏ ذكر السبكي في عبارته لما تكلم على عموم رسالته صلى الله عليه وسلم إلى الجن عدة آيات من القرآن استدل بها على ذلك ثم قال عقب ذلك وأعلم أن المقصود بتكثير الأدلة أن الآية الواحدة والآيتين قد يمكن تأويلها ويتطرق إليها الاحتمال فإذا كثرت قد تترقى إلى حد يقطع بإرادتها ظاهرا ونفى الاحتمال والتأويل عنها انتهى‏.‏ أقول ولذلك أوردنا هنا ثلاثة وعشرين دليلا لأن كل دليل منها على انفراده قد يمكن تأويله وتطرق الاحتمال إليه فلما كثرت هذه الكثرة ترقت إلى حد غلب على الظن إرادة ظاهرها ونفى الاحتمال والتأويل عنها وعبرت بغلبة الظن دون القطع لأجل ما عارضها من الآيات التي استدل بها القول الآخر‏.‏ وهذا مقام لا ينظر فيه ويحكم بالترجيح إلا لمجتهد والله الموفق‏.‏ آخر الكتاب‏.‏ قال مؤلفه شيخنا نفع الله المسلمين ببركته ألفته في شوال سنة ثمان وثمانين وثمانمائة‏.‏

مسألة‏:‏

يا مفردا باجتهاد في الأوان ويا * بحر الوفا والصفا والعلم والعمل

ما حد توحيدنا لله خالقنا * سبحانه جل عن أين وعن مثل

الجواب‏:‏

روينا بإسناد صحيح من طريق المزني أن رجلا سأله عن شيء من الكلام فقال إني أكره هذا بل أنهى عنه كما نهى عنه الشافعي فلقد سمعت الشافعي يقول سئل مالك عن الكلام والتوحيد فقال مالك محال أن نظن بالنبي صلى الله عليه وسلم أنه علم أمته الاستنجاء ولم يعلمهم التوحيد والتوحيد ما قاله النبي صلى الله عليه وسلم أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله فما عصم به الدم والمال حقيقة التوحيد‏.‏ هذا جواب الإمام مالك رضي الله عنه عن هذا السؤال وبه أجبت‏.‏

تنزيه الاعتقاد عن الحلول والاتحاد

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى‏.‏ القول بالحلول والاتحاد الذي هو أخو الحلول أول من قال به النصارى إلا أنهم خصوه بعيسى عليه السلام أو به وبمريم أمه ولم يعدوه إلى أحد وخصوه باتحاد الكلمة دون الذات بحيث أن علماء المسلمين سلكوا في الرد عليهم طريق إلزامهم بأن يقولوا بمثل ذلك في موسى عليه السلام وفي الذات أيضا وهم لا يقولون بالأمرين‏.‏ وإذا سلموا بطلان ذلك لزم إبطال ما قالوه‏.‏ أما المتوسمون بسمة الإسلام فلم يبتدع أحد منهم هذه البدعة وحاشاهم من ذلك لأنهم أذكى فطرة وأصح لبا من أن يمشي عليهم هذا المحال وإنما مشى ذلك على النصارى لأنهم أبلد الخلق إذهانا وأعماهم قلوبا غير أن طائفة من غلاة المتصوفة نقل عنهم أنهم قالوا بمثل هذه المقالة وزادوا على النصارى في تعدية ذلك والنصارى قصروه على واحد‏.‏ فإن صح ذلك عنهم فقد زادوا في الكفر على النصارى‏.‏ أحسن ما اعتذر عمن صدرت منه هذه الكلمة الدالة على ذلك وهي قوله أنا الحق بأنه قال ذلك في حال سكر واستغراق غيبوبة عقل وقد رفع الله التكليف عمن غاب عقله وألغى أقواله فلا تعد مقالته هذه شيئا ولا يلتفت إليها فضلا عن أن تعد مذهبا ينقل‏.‏ وما زالت العلماء ومحققو الصوفية يبينون بطلان القول بالحلول والاتحاد وينبهون على فساده ويحذرون من ضلاله وهذه نبذة من كلام الأئمة في ذلك‏:‏ قال حجة الإسلام الغزالي في الإحياء في باب السماع الحالة الرابعة سماع من جاوز الأحوال والمقامات فعزب عن فهمه ما سوى الله تعالى حتى عزب عن نفسه وأحوالها ومعاملاتها وكان كالمدهوش الغائص في عين الشهود الذي يضاهى حاله حال النسوة اللاتي قطعن أيديهن في مشاهدة جمال يوسف حتى بهتن وسقط إحساسهن وعن مثل هذه الحالة يعبر الصوفية بأنه فنى عن نفسه ومهما فنى عن نفسه فهو عن غيره أفنى فكأنه فنى عن كل شيء إلا عن الواحد المشهود‏.‏ وفنى أيضا عن الشهود فإن القلب إن التفت إلى الشهود والى نفسه بأنه مشاهد فقد غفل عن المشهود والمستهر بالمرئي لا التفات له في حال استغراقه إلى رؤيته والى عينه التي بها رؤيته ولا إلى قلبه الذي لذته فالسكران لا خيرة له من سكره والملتذ لا خيرة له من التذاذه إنما خبرته من الملتذ به فقط ومثاله العلم بالشيء فإنه مغاير للعلم بالعلم بذلك الشي فالعالم بالشيء مهما ورد عليه العلم بالعلم بالشيء كان معرضا عن الشيء‏.‏ ومثل هذه الحال قد نظر إلى حق المخلوقين فنظر أيضا في حق الخالقية الخالق ولكنها في الغالب تكون كالبرق الخاطف الذي لا يثبت ولا يدوم فإن دام لم تطقه القوى البشرية فربما يضطرب تحت أعبائه اضطرابا تهلك فيه نفسه فهذه درجة الصديقين في الفهم والوجد وهي أعلى الدرجات لأن السماع على الأحوال وهي ممتزجة بصفات البشرية نوع قصور وإنما الكمال أن يفنى بالكلية عن نفسه وأحواله أعنى أنه ينساها فلا يبقى له التفات إليها كما لم يكن للنسوة إلى السيد والسكين فيسمع بالله ولله وفي الله ومن الله‏.‏ وهذه رتبة من خاض لجة الحقائق وعبر ساحل الأحوال والأعمال واتحد لصفاء التوحيد وتحقق بمحض الإخلاص فلم يبق فيه منه شيء أصلا بل خمدت بالكلية بشريته وأفنى التفاته إلى صفات البشرية رأسا إلى أن قال ومن هنا نشأ خيال من ادعى الحلول والاتحاد وقال أنا الحق وحوله يدندن كلام النصارى في دعوى اتحاد اللاهوت بالناسوت أو تدر عهابها و حلولها فيها على ما اختلفت فيه عباراتهم وهو غلط محض هذا كله لفظ الغزالي‏.‏ وقال أيضا في باب المحبة من قويت بصيرته ولم تضعف منته فإنه في حال اعتدال أمره لا يرى إلا الله ولا يعرف غيره ويعلم أنه ليس في الوجود إلا الله وأفعاله أثر من آثار قدرته فهي تابعة له فلا وجود لها بالحقيقة دونه وإنما الوجود للواحد الحق الذي به وجود الأفعال كلها ومن هذا حاله فلا ينظر في شيء من الأفعال إلا ويرى فيه الفاعل ويذهل عن الفعل من حيث أنه سماء وأرض وحيوان وشجر بل ينظر فيه من حيث أنه أثره لا من حيث أنه صنع فلا يكون نظره مجاوزا له إلى غيره كمن نظر في شعر إنسان أو خطه أو تصنيفه ورأى فيه الشاعر والمصنف ورأى آثاره من حيث أنه أثره لا من حيث أنه حبر وعفص وزاج مرقوم على بياض فلا يكون قد نظر إلى غير المصنف وكذا العالم صنع الله تعالى فمن نظر إليه من حيث أنه فعل الله وعرفه من حيث أنه فعل الله وأحبه من حيث أنه فعل الله لم يكن ناظرا إلا في الله ولا عارفا إلا بالله ولا محبا إلا لله وكان هو الموحد الحق الذي لا يرى إلا الله بل لا ينظر إلى نفسه من حيث نفسه بل من حيث أنه عبد الله فهذا هو الذي يقال فيه أنه فنى في التوحيد وأنه فنى عن نفسه وإليه الإشارة بقول من قال كنا بنا ففنينا بلا نحن فهذه أمور معلومة عند ذوي الأبصار أشكلت لضعف الإفهام عن دركها وقصور قدرة العلماء بها عن إيضاحا وبيانها بعبارة مفهمة موصلة للغرض إلى الإفهام أو لاشتغالهم بأنفسهم واعتقادهم أن بيان ذلك لغيرهم مما لا يعنيهم ثم قال وقد تحزب الناس إلى قاصرين مالوا إلى التشبيه الظاهر والى غالين مسرفين تجاوزا إلى الاتحاد وقالوا بالحلول حتى قال بعضهم أنا الحق وضل النصارى في عيسى عليه السلام فقالوا هو الإله وقال آخرون تدرع الناسوت باللاهوت وقال آخرون اتحد به‏.‏ وأما الذين انكشف لهم استحالة التشبية والتمثيل واستحالة الاتحاد والحلول واتضح لهم وجه الصواب فهم الأقلون انتهى‏.‏ كلام الغزالي وبدأنا بالنقل عنه لأنه فقيه أصولي متكلم صوفي وهو أجل من اعتمد عليه في هذا المقام لاجتماع هذه الفنون فيه‏.‏ وقال إمام الحرمين في الإرشاد أصل مذهب النصارى أن الاتحاد لم يقع إلا بالمسيح عليه السلام دون غيره من الأنبياء واختلفت مذاهبهم فيه فزعم بعضهم أن المعنى به حلول الكلمة جسد المسيح لا يحل العرض محله وذهبت الروم إلى أن الكلمة مازجت جسد المسيح وخالطته مخالطة الخمر اللبن‏.‏ وهذا كله خبط‏.‏ وقال الأستاذ أبو بكر بن فورك في كتابه المسمى بالنظامي في أصول الدين قالت النصارى إن عيسى عليه السلام لاهوتي ناسوتي وتكلموا في حلول الكلمة لمريم عليها السلام فمنهم من قال إن الكلمة حلت في مريم حلول الممازجة كما يحل الماء في اللبن حلول الممازجة والمخالطة ومنهم من قال إنها حلت فيها من غير ممازجة كما أن شخص الإنسان يتبين في المرآة الصقيلة من غير ممازجة بنيهما، ومنهم من قال إن مثل اللاهوت مع الناسوت مثل الخاتم مع الشمع في أنه يؤثر فيه حتى يتبين فيه النقش ثم لا يبقى فيه شيء من الأثر والأول طريقة اليعقوبية والثاني طريقة الملكية والثالث طريق النسطورية، ثم قال وأعلم أنهم قالوا بالاتحاد فقالت طائفة منهم في معنى الاتحاد الكلمة التي هي كن حلت جسد المسيح، وقالت اليعقوبية إن الاتحاد اختلاط وامتزاج وزعمت أن كلمة الله انقلبت لحما ودما بالاتحاد، وقالت طائفة منهم أن الاتحاد هو أنه أودعها بإظهار روح القدس عليه وقد حكينا عمن قاله يجري هذا الاتحاد مجرى وقوع الهيئة في المرآة والنقش من الخاتم في الشمع وما جرى مجراه، ويقال لهذه الطائفة منهم أن ظهور هذه الصورة في المرآة والشيء الصقيل ليس اختلاط شيء بشيء ولا انتقال شيء إلى شيء بل أجرى الله العادة بأن الواحد إذا قابل الشيء الصقيل خلق الله له رؤية يرى بها نفسه إما أن يكون في الصغير على شيء فلا أما ترى أنه أن لمس وجهه فوجه نفسه لمس لا وجه ظهر فيه فعلم أنه ليس في المرآة شيء وهذا القول يوجب عليهم الإقرار بأنه ليس من القديم سبحانه وتعالى في مريم ولا في عيسى شيء ويبطل عليهم القول بأنه لاهوتي وناسوتي وكذلك القول في الخاتم ونقشه مع الشمع فليس يحصل من الفص في الشمع شيء وإنما يتركب الشمع تركيبا من بعضه في بعض ثم أن هذا الذي ذكروه كله إنما يجوز بين المتماسين المتجاورين المتلاصقين الجسمين المحدودين الذين يجوز فيهما طول الحوادث وتغير الأوصاف والله تعالى يتنزه عن ذلك كله‏.‏ وأما قولهم أن الكلمة انقلبت لحما ودما فلا يجوز لأنه لو جاز ذلك لجاز أن ينقلب القديم محدثا ولو جاز ذلك لجاز انقلاب المحدث قديما فيبطل الفصل بينهما وهذا محال فبطل ما قالوه انتهى‏.‏ وقال الإمام فخر الدين الرازي في كتاب المحصل في أصول الدين مسألة الباري تعالى لا يتحد بغيره لأنه حال الاتحاد إن بقيا موجودين فهما اثنان لا واحد وأن صارا معدومين فلم يتحدا بل حدث ثالث وإن عدم أحدهما وبقي الآخر فلم يتحد لأن المعدوم لا يتحد بالموجود وقال الإمام أقضى القضاة أبو الحسن الماوردي صاحب الحاوي الكبير في مناظرة ناظرها لبعض النصارى في ذلك بالحلول أو الاتحاد ليس من المسلمين بالشريعة بل في الظاهر والتسمية ولا ينفع التنزيه مع القول بالاتحاد والحلول فإن دعوى التنزيه مع ذلك إلحاد وكيف يصح توحيد مع اعتقاد أنه سبحانه حل في البشر المأخوذ من مريم وهنالك حلوله إما حلول عرض في جوهر فيقولون بأنه عرض أو حلول تداخل الأجسام فهو جسم وهنالك إن حل كله فقد انحصر في القالب البشري وصار ذا نهاية وبداية أو بعضه فقد انقسم وتبعض وكل هذه الأمور أباطيل وتضاليل‏.‏ وقال القاضي عياض في الشفا ما معناه‏:‏ أجمع المسلمون على كفر أصحاب الحلول ومن أدعى حلول الباري سبحانه في أحد الأشخاص كقول بعض المتصوفة والباطنية والنصارى والقرامطة‏.‏ وقال في موضوع آخر ما عرف الله من شبهه وجسمه من اليهود أو أجاز عليه الحلول والانتقال والامتزاج من النصارى ونقله عنه النووي في شرح مسلم‏.‏ وقال القاضي ناصر الدين البيضاوي في تفسيره في قوله تعالى ‏(‏لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم‏)‏ هذا قول اليعقوبية القائلين بالاتحاد‏.‏ وقال في قوله تعالى ‏(‏أفلا يتوبون إلى الله ويستغفرونه‏)‏ أي ألا يتوبون بالانتهاء عن تلك العقائد والأقوال الزائغة ويستغفرونه بالتوحيد والتنزيه عن الاتحاد والحلول بعد هذا التقرير والتهديد‏.‏ وقال الشيخ عزل الدين بن عبد السلام في قواعده الكبرى ومن زعم أن الإله يحل في شيء من أجساد الناس أو غيرهم فهو كافر لأن الشرع إنما عفا عن المجسمة لغلبة التجسيم على الناس فإنهم لا يفهمون موجودا في غير جهة بخلاف الحلول فإنه لا يعم الابتلاء به ولا يخطر على قلب عاقل فلا يعفى عنه انتهى‏.‏ قلت مقصود الشيخ أنه لا يجري في تكفيرهم الخلاف الذي جرى في المجسمة بل يقطع بتكفير القائلين بالحلول إجماعا وإن جرى في المجسمة خلاف وقال الحافظ أبو نعيم الأصبهاني في أول الحلية أما بعد فقد استعنت بالله وأجبتك إلى ما ابتغيت من جمع كتاب يتضمن أسامي جماعة من أعلام المحققين من المتصوفة وأئمتهم وترتيب طبقاتهم من النساك ومحجتهم من قرن الصحابة والتابعين وتابعيهم ومن بعدهم ممن عرف الأدلة والحقائق وباشر الأحوال والطرائق وساكن الرياض والحدائق وفارق العوارض والعلائق وتبرأ من المتنطعين والمتعمقين ومن أهل الدعاوى من المتسوفين ومن الكسالى والمتثبطين المشبهين بهم في اللباس والمقال والمخالفين لهم في العقيدة والفعال وذلك لما بلغك من بسط لساننا وألسنة أهل الفقه والآثار في كل القطر والأمصار في المنتسبين إليهم من الفسقة الفجار والمباحية والحلولية الكفار وليس ما حل بالكذبة من الوقيعة والإنكار بقادح في منقبة البررة الأخيار وواضع من درجة الصفوة الأبرار‏.‏ وقال صاحب معيار المريدين أعلم أن منشأ أغلاط الفرق التي غلطت في الاتحاد والحلول جهلهم بأصول الدين وفروعه وعدم معرفتهم بالعلم وقد وردت الأحاديث والآثار بالتحذير من عابد جاهل فمن لا يكون له سابقة علم لم ينتج ولم يصح له سلوك وقد قال سهل بن عبد الله التستري أجتنب صحبة ثلاثة أصناف من الناس الجبابرة الغافلين والقراء المداهنين والمتصوفة الجاهلين فافهم ولا تغلط فإن الدين واضح قال وأعلم أنه وقع في عبارة بعض المحققين لفظ الاتحاد إشارة منهم إلى حقيقة التوحيد فإن الاتحاد عندهم هو المبالغة في التوحيد والتوحيد معرفة الواحد والأحد فاشتبه ذلك على من لا يفهم إشارتهم فحملوه على غير محمله فغلطوا وهلكوا بذلك قال والدليل على بطلان اتحاد العبد مع الله تعالى أن الاتحاد بين مربوبين محال فإن رجلين مثلا لا يصير أحدهما عين الآخر لتباينهما في ذاتيهما كما هو معلوم فالتباين بين العبد والرب سبحانه وتعالى أعظم فإذن أصل الاتحاد باطل محال مردود شرعا وعقلا وعرفا بإجماع الأنبياء والأولياء ومشايخ الصوفية وسائر العلماء والمسلمين وليس هذا مذهب الصوفية وإنما قاله طائفة غلاة لقلة علمهم وسوء حظهم من الله تعالى فشابهوا بهذا القول النصارى الذين قالوا في عيسى عليه السلام اتحد ناسوته بلاهوته وأما من حفظه الله تعالى بالعناية فإنهم لم يعتقدوا اتحادا ولا حلولا وإن وقع منهم لفظ الاتحاد فإنما يريدون به محو أنفسهم وإثبات الحق سبحانه قال وقد يذكر الاتحاد بمعنى فناء المخالفات وبقاء الموافقات وفناء حظوظ النفس من الدنيا وبقاء الرغبة في الآخرة وفناء الأوصاف الذميمة وبقاء الأوصاف الحميدة وفناء الشك وبقاء اليقين وفناء الغفلة وبقاء الذكر‏.‏ قال وأما قول أبي يزيد البسطامي سبحاني ما أعظم شأني فهو في معرض الحكاية عن الله وكذلك قول من قال أنا الحق محمول على الحكاية ولا يظن بهؤلاء العارفين الحلول والاتحاد لأن ذلك غير مظنون بعاقل فضلا عن المتميزين بخصوص المكاشفات واليقين والمشاهدات ولا يظن بالعقلاء المتميزين على أهل زمانهم بالعلم الراجح والعمل الصالح والمجاهدة وحفظ حدود الشرع الغلط بالحلول والاتحاد كما غلط النصارى في ظنهم ذلك في حق عيسى عليه السلام وإنما حدث ذلك في الإسلام من واقعات جهلة المتصوفة‏.‏ وأما العلماء العارفون المحققون فحاشاهم من ذلك‏.‏ هذا كله كلام معيار المريدين بلفظه‏.‏ والحاصل أن لفظ الاتحاد مشترك فيطلق على المعنى المذموم الذي أخو الحلول وهو كفر ويطلق على مقام الفناء اصطلاحا اصطلح عليه الصوفية ولا مشاحة في الاصطلاح إذ لا يمنع أحد من استعمال لفظ في معنى صحيح لا محذور فيه شرعا ولو كان ممنوعا لم يجز لأحد أن يتفوه بلفظ الاتحاد وأنت تقول بيني وبين صاحبي زيد اتحاد وكم استعمل المحدثون والفقهاء والنحاة وغيرهم لفظ الاتحاد في معان حديثية وفقهية ونحوية كقول المحدثين اتحاد مخرج الحديث وقول الفقهاء اتحد نوع الماشية وقول النحاة اتحد العالم لفظا أو معنى‏.‏ وحيث وقع لفظ الاتحاد من محققي الصوفية فإنما يريدون به معنى الفناء الذي هو محو النفس وإثبات الأمر كله لله سبحانه لا ذلك المعنى المذموم الذي يقشعر له الجلد وقد أشار إلى ذلك سيدي على وفا فقال من قصيدة له‏:‏

يظنوا بي حلولا واتحادا * وقلبي من سوى التوحيد خالي

فتبرأ من الاتحاد بمعنى الحلول وقال من أبيات أخر‏:‏

وعلمك أن هذا الأمر أمري * هو المعنى المسمى باتحاد

فذكر أن المعنى الذي يريدونه بالاتحاد إذا أطلقوه هو تسليم الأمر كله لله وترى الإرادة معه والاختيار والجري على مواقع أقداره من غير اعتراض وترك نسبة شيء ما إلى غيره‏.‏ وقال صاحب كتاب نهج الرشاد في الرد على أهل الوحدة والحلول والاتحاد حدثني الشيخ كمال الدين المراغي عن الشيخ تقي الدين بن دقيق العيد أنه قال له مرة النثار إنما انتشر في بلادكم لانتشار الفلسفة هناك وقلة اعتنائهم بالشريعة والكتاب والسنة قال فقلت له في بلادكم ما هو شر من هذا وهو قول الاتحادية فقال هذا لا يقوله عاقل فإن قول هؤلاء كل أحد يعرف فساده‏.‏ قال وحدثني الشيخ كمال الدين المذكور قال اجتمعت بالشيخ أبي العباس المرسي تلميذ الشيخ الكبير أبي الحسن الشاذلي وفاوضته في هؤلاء الاتحادية فوجدته شديد الإنكار عليهم والنهي عن طريقهم وقال أتكون الصنعة هي الصانع انتهى‏.‏ قلت ولهذا كانت طريقة الشاذلي هي أحسن طرق التصوف وهي في المتأخرين نظير طريقة الجنيد في المتقدمين‏؟‏ وقد قال الشيخ تاج الدين بن السبكي في كتاب جمع الجوامع وإن طريق الجنيد وصحبه طريق مقوم‏.‏ وكان والده شيخ الإسلام تقي الدين السبكي يلازم مجلس الشيخ تاج الدين بن عطاء الله يسمع كلامه ووعظه ونقل عنه في كتابه المسمى غيرة الإيمان الجلي فائدة حسنة في حديث لا تسبوا أصحابي فقال أنه ذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم كانت له تجليات فرأى في بعضها سائر أمته الآتين من بعده فقال مخاطبا لهم لا تسبوا أصحابي فلو أنفق أحدكم مثل أحد ذهبا ما أدرك مد أحدهم ولا نصيفه وارتضى السبكي منه هذا التأويل وقال إن الشيخ تاج الدين كان متكلم الصوفية في عصره على طريق الشاذلية انتهى‏.‏ قلت وهو تلميذ الشيخ أبي العباس المرسي والشيخ أبو العباس تلميذ الشاذلي وقد طالعت كلام هؤلاء السادة الثلاثة فلم أر فيه حرفا يحتاج إلى تأويل فضلا عن أن يكون منكرا صريحا وما أحسن قول سيدي علي بن وفا‏:‏

تمسك بحب الشاذلية تلق ما * تروم وحقق ذا الرجاء وحصل

ولا تعدون عيناك عنهم فإنهم * شموس هدى في أعين المتأمل

ثم قال صاحب نهج الرشاد وما زال عباد الله الصالحون من أهل العلم والإيمان ينكرون حال هؤلاء الاتحادية وإن كان بعض الناس قد يكون أعلم واقدر وأحكم من بعض في ذلك وقال الشيخ سعد الدين التفتازاني في شرح المقاصد وأما المنتمون إلى الإسلام فمنهم بعض غلاة الشيعة القائلون بأنه لا يمتنع ظهور الروحاني في الجسماني كجبريل في صورة دحية وبعض الجن أو الشياطين في صورة الأناسي قالوا فلا يبعد أن يظهر الله تعالى في صورة على وأولاه تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا قال ومنهم بعض المتصوفة القائلون بأن السالك إذا أمعن في السلوك وخاض لجة الوصول فربما يحل الله تعالى الله عما يقول الظالمون علوا كبيرا فيه كنار في الجمر بحيث لا يتمايز أو يتحد به بحيث لا أثنينية ولا تغاير وصح أن يقول هو أنا وأنا هو قال وفساد الرأيين غنى عن البيان قال وههنا مذهبان آخران يوهمان الحلول والاتحاد وليسا منه في شيء الأول‏:‏ أن السالك إذا انتهى سلوكه إلى الله وفي الله يستغرق في بحر التوحيد والعرفان بحيث تضمحل ذاته في ذاته وصفاته في صفاته وتغيب عن كل ما سواه ولا يرى في الوجود إلا الله وهذا هو الذي يسمونه الفناء في التوحيد فحينئذ فربما يصدر عنه عبارات تشعر بالحلو والاتحاد لقصور العبارة عن بيان تلك الحال وبعد الكشف عنها بالمثال ونحن على ساحل التمني نغترف من بحر التوحيد بقدر الإمكان ونعترف بأن طريق الفناء فيه العيان دون البرهان والله الموفق ثم ذكر في المذهب الثاني وهو القول بالوحدة المطلقة فإنه به أجدر، وذكر السيد الجرجاني في شرح المواقف نحو ذلك وقد سقت أيضا عبارته في الكتاب المشار إليه‏.‏ وقال العلامة شمس الدين بن القيم في كتابه شرح منازل السائرين الدرجة الثالثة من درجات الفناء فناء خواص الأولياء وأئمة المقربين وهو الفناء عن إرادة السوى شائما برق القنا عن إرادة ما سواه سالكا سبيل الجمع على ما يحبه ويرضاه فانيا بمراد محبوبه منه عن مراده هو من محبوبه فضلا عن إرادة غيره قد اتخذ مراده بمراد محبوبه أعنى المراد الديني الأمري لا المراد الكوني القدري فصار المرادان واحدا قال وليس في العقل اتحاد صحيح إلا هذا والاتحاد في العلم والخبر فيكون المرادان والمعلومان والمذكوران واحدا مع تباين الإرادتين والعلمين والخبرين فغاية المحبة اتحاد مراد المحب بمراد المحبوب وفناء إرادة المحب في مراد المحبوب فهذا الاتحاد والفناء هو اتحاد خواص المحبين وفناؤهم قد فنوا بعبادته عن عبادة ما سواه وبحبه وخوفه ورجائه والتوكل عليه والاستعانة به والطلب منه عن حب ما سواه ومن تحقق بهذا الفناء لا يحب إلا في الله ولا يبغض إلا فيه ولا يوالي إلا فيه ولا يعادي إلا فيه ولا يعطي إلا لله ولا يمنع إلا لله ولا يرجو إلا إياه ولا يستعين إلا به فكون دينه كله ظاهرا لله ويكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما فلا يواد من حاد الله ورسوله ولو كان أقرب الخلق إليه بل‏:‏

يعادي الذي عادى من الناس كلهم * جميعا ولو كان الحبيب المصافيا

وحقيقة ذلك فناؤه عن هوى نفسه وحظوظها بمراضي ربه تعالى وحقوقه والجامع لهذا كله تحقيق شهادة أن لا إله إلا الله علما ومعرفة وعملا وحالا وقصدا وحقيقة هذا النفي والإثبات الذي تضمنته هذه الشهادة هو الفناء والبقاء ففنى عن تأله ما سواه علما وأفرادا وتعمدا وبقي تألهه وحده فهذا الفناء وهذا البقاء هو حقيقة التوحيد الذي اتفقت عليه المرسلون صلوات الله عليهم وأنزلت به الكتب وخلقت لأجله الخليقة وشرعت له الشرائع وقامت عليه سوق الجنة وأسس عليه الخلق والأمر إلى أن قال وهذا الموضع مما غلط فيه كثير من أصحاب الإرادة والمعصوم من عصمه الله والله المستعان‏.‏ وقال في موضع آخر وإن كان مشمرا للفناء العالي وهو الفناء عن إرادة السوي لم يبق في قلبه مراد يزاحم مراده الديني الشرعي النبوي القرآني بل يتحد المرادان فيصير عين مراد الرب تعالى هو عين مراد العبد وهذا حقيقة المحبة الخالصة وفيها يكون الاتحاد الصحيح وهو الاتحاد في المراد لا في المريد ولا في الإرادة قال فتدبر هذا الفرقان في هذا الموضع الذي طالما زلت فيه أقدام السالكين وضلت فيه أفهام الواحدين انتهى‏.‏ وقد تكرر كلام ابن القيم في هذا الكتاب في تضليل الاتحادية والقائلين بالوحدة المطلقة وقد سقت منه أشياء في كتابي الذي أشرت إليه فلينظر منه والله أعلم‏.‏

مسألة‏:‏

في قول أهل السنة إن العبد له في فعله نوع اختيار هل هو معارض لقوله تعالى ‏(‏وربك يخلق ما يشاء ويختار ما كان لهم الخيرة‏)‏‏.‏

الجواب‏:‏

لا معارضة فإن الاختيار الذي بمعنى القدرة والإرادة والإنشاء والإبداع خاص بالله تعالى لا شريك له وأما الاختيار الذي أثبته أهل السنة للعبد فالمراد به قصده ذلك الفعل وميله إليه ورضاه به الذي هو مخلوق لله تعالى أيضا لا على وجه الإكراه والإلجاء إليه والحاصل أن الله تعالى خلق للعبد قدرة بها يميل ويفعل فالخلق من الله والميل والفعل من العبد صادران عن تقدير الله له ذلك فهما أثر الخلق والقدرة فالاختيار المنسوب للعبد المفسر بما ذكرناه أثر الاختيار المنسوب إلى الله تعالى فافترقا ولا إنكار في ذلك ولا معارضة فيه للآية وبهذا يتميز أهل السنة عن أهل القدر والجبر معا، قال الأصبهاني في تفسيره عند قوله تعالى ‏(‏ونمدهم في طغيانهم‏)‏ أعلم أن كل فعل صدر من العبد بالاختيار فله اعتباران إن نظرت إلى وجوده وحدوثه وما هو عليه من وجوه التخصيص فانسب ذلك إلى قدرة الله وإرادته لا شريك له وإن نظرت إلى تميزه عن القسري الضروري فانسبه من هذه الجهة إلى العبد وهي النسبة المعبر عنها شرعا بالكسب في قوله لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت وقوله بما كسبت أيديهم وهي المحققة أيضا إذا عرضت في ذهنك الحركتين الاضطرارية كالرعشة والاختيارية فإنك تميز بينهما لا محالة بتلك النسبة فإذا تقرر تعدد الاعتبار فمدهم في الطغيان مخلوق لله تعالى فإضافه إليه ومن حيث كونه واقعا منهم على وجه الاختيار المعبر عنه بالكسب إضافة إليهم انتهى‏.‏ وقال في موضع آخر منه‏:‏ صفة الإرادة للعبد هي القصد‏.‏ فهذا تحرير مذهب أهل السنة وحاصله أن الاختيار المنسوب إلى العبد هو قصده لذلك الفعل وتوجهه إليه برضا منه وإرادة له وكونه لم يفعله بالجاء ولا إكراه ولا قسر فتأمل ذلك وافهم ترشد‏.‏

مسألة‏:‏

هل العقل أفضل من العلم الحادث أم العلم‏.‏

الجواب‏:‏

هذه المسألة اختلف فيها العلماء ورجحوا تفضيل العلم لأن الباري تعالى يوصف بصفة العلم ولا يوصف بصفة العقل وما ساغ وصفه تعالى به أفضل مما لم يسغ وإن كان العلم الذي يوصف به تعالى قديما ووصفنا حادث فإن الباري لا يوصف بصفة العقل أصلا ولا على جهة القدم ومن الأدلة على تفضيل العلم أن متعلقه أشرف وأنه ورد بفضله أحاديث كثيرة صحيحة وحسنة ولم يرد في فضل العقل حديث وكل ما يروى فيه موضوع كذب وكان شيخنا العلامة محيي الدين الكافيجي يقول العقل أفضل باعتبار كونه متبعا للعلم وأصلا له وحاصله أن فضيلة العلم بالذات وفضيلة العقل بالوسيلة للعلم‏.‏

مبحث النبوات

مسألة‏:‏

كم عدد الأنبياء والرسل‏.‏

الجواب‏:‏

روى الطبراني في الأوسط عن أبي أمامة الباهلي أن رجلا قال يا رسول الله أنبي كان آدم قال نعم قال كم بينه وبين نوح قال عشرة قرون قال كم بين نوح وإبراهيم قال عشرة قرون قال يا رسول الله كم كانت الرسل قال ثلثمائة وخمسة عشر‏.‏ رجاله رجال الصحيح‏.‏ وأخرج ابن حبان في صححيه والحاكم عن أبي ذر قال قلت يا رسول الله كم الأنبياء قال مائة ألف نبي وأربعة وعشرون ألفا قال قلت يا رسول الله كم الرسل منهم قال ثلثمائة وثلاثة عشر جم غفير‏.‏

مسألة‏:‏

ما اشهر القولين يا من علمه * أربى على الأقران والنظراء

في موت مشهور الحياة أبي الخضر * وحياته يا فائزا بثناء

قولان مشهوران قالهما الرضا * شيخ الزمان وفائق العلماء

بقوام دين الله لقب وهو من * بغداد يشهر بين كل ملاء

وأقام برهانا على فقدانه * فأعجب لذا يا كامل الآراء

لا زلت معدودا لكل ملمة * وجزيت يوم الحشر خير جزاء

الجواب‏:‏

من بعد حمدي دائما وثنائي * ثم الصلاة لسيد النجباء

للناس خلف شاع في خضر وهل * أدوى قديما أو حبي ببقاء

ولكل قول حجة مشهورة * تسمو على الجوزاء في العلياء

والمرتضى قول الحياة فكم له * حجج تجل الدهر عن إحصاء

خضر وإلياس بأرض مثل ما * عيسى وإدريس بقوا أسماء

هذا جواب ابن السيوطي الذي * يرجو من الرحمن خير جزاء

مسألة‏:‏

يا عالم العصر يا مفتى الأنام أفد * عبيد بابك أنت البدر في الظلم

كم بين موسى وعيسى من مئ سلفت * وبين عيسى وخير الخلق والأمم

أثابك الله جنات النعيم بما * تبديه من رشد للناس أو كرم

ثم الصلاة على أزكى الورى نسبا * محمد سيد العربان والعجم

الجواب‏:‏

الحمد لله ربي مسبغ النعم * ثم الصلاة على المبعوث للأمم

ألف وتسع مئ مع نيف ضبطوا * ما بين موسى وعيسى صاحب الكلم

ونحو ست مئ في ارجح ذكروا * ما بين عيسى وخير الخلق ذي الكرم

والحمد لله في قولي أقدمه * كذا بحمد إله العرش مختتمي

تزيين الآرائك في إرسال النبي صلى الله عليه وسلم إلى الملائك

بسم الله الرحمن الرحيم

مسألة‏:‏

ما تقولون في قول العلماء أنه صلى الله عليه وسلم لم يبعث إلى الملائكة وفي قول الحافظ زين الدين العراقي إن السماء ليست محلا للتكليف وقد أشكل ذلك بأمور منها قوله صلى الله عليه وسلم وأرسلت إلى الخلق كافة والخلق يعم الأنس والجن والملائكة فإن فسر بالثقلين فقط فما المخصص وقوله تعالى ‏(‏ليكون للعالمين نذيرا‏)‏ والعالم يعم الملائكة وقوله ‏(‏وأوحى إلى هذا القرآن لأنذركم به ومن بلغ‏)‏ وقد بلغ الملائكة‏.‏ وقد ورد إن الملائكة لا يفترون عن عبادة ربهم وورد صريحا أنهم يتعبدون بعبادات هذه الأمة كحديث ابن عمر أن أهل السماء لا يسمعون من أهل الأرض إلا الأذان وحديث سلمان إذا كان الرجل في أرض فأقام الصلاة صلى خلفه ملكان فإذا أذن وأقام صلى خلفه من الملائكة ما لا يرى طرفاه يركعون بركوعه ويسجدون بسجوده ويؤمنون على دعائه وقد قاتلت الملائكة الكفار وتحضر صلاة الجمعة وغير ذلك مما يطول أشكل ذلك‏.‏

الجواب‏:‏

الحمد لله وسلام على عباه الذين اصطفى‏.‏ سألت أكرمك الله فأحسنت غاية الإحسان وأوردت فأتقنت كل الإتقان وأنا أجيبك عن ذلك بجوابين أحدهما جدلي والآخر تحقيقي‏:‏ أما الجواب الجدلي فقولك الخلق يعم والعالمين يعم ومن بلغ يعم جوابه أنه من العام المخصوص أو المراد به الخصوص وقولك ما هو المخصص جوابه أن مستنده الإجماع الذي ادعاه من ادعى وقولك ورد أنهم لا يفترون جوابه منع الملازمة بينه وبين المدعي الذي هو بعثته إليهم لأن عبادتهم تكون بالأخذ عن ربهم أو بإرسال ملك من جنسهم إليهم كجبريل أو إسرافيل أو غيرهما قال تعالى ‏(‏الله يصطفى من الملائكة رسلا ومن الناس‏)‏ وقال تعالى ‏(‏قل لو كان في الأرض ملائكة يمشون مطمئنين لنزلنا عليهم من السماء ملكا رسولا‏)‏ وقولك ورد صريحا أنهم يتعبدون بعبادات هذه الأمة ثم أوردت حديث ابن عمر وليس فيه دلالة فضلا عن صراحة لأن أكثر ما فيه أنهم يسمعون الآذان وليس فيه أنهم يتعبدون به‏.‏ وحديث سلمان ظاهر فيما ذكرت مع أنه يمكن أن لا يكون ذلك صادرا عن بعثته إليهم كما تقدم وقولك وقد قاتلت الملائكة الكفار فيه أيضا ما تقدم من عدم الملازمة مع أنها لم تقاتل إلا في بدر خاصة وقولك وتحضر صلاة الجمعة إنما حضرت لكتابة الحاضرين على طبقات مجيئهم وذلك من التكليفات الكونية التي هي وظيفة الملائكة لا الشرعية التي بعثت بها الرسل هذا آخر الجواب الجدلي‏.‏ وأما الجواب التحقيقي فاعلم أن العلماء اختلفوا في بعثة النبي صلى الله عليه وسلم إلى الملائكة على قولين‏.‏ أحدهما أنه لم يكون مبعوثا إليهم وبهذا جزم الحليمي والبيهقي كلاهما من أئمة أصحابنا ومحمود بن حمزة الكرماني في كتابه العجائب والغرائب وهو من أئمة الحنفية‏.‏ ونقل البرهان النسفي والفخر الرازي في تفسيريهما الإجماع عليه وجزم به من المتأخرين الحافظ زين الدين العراقي في نكته على ابن الصلاح والشيخ جلال الدين المحلي في شرح جمع الجوامع وتبعتهما في كتابي شرح التقريب في الحديث وشرح الكوكب الساطع في الأصول‏.‏ والقول الثاني أنه كان مبعوثا إليهم وهذا القول رجحته في كتاب الخصائص‏.‏ وقد رجحه قبلي الشيخ تقي الدين السبكي وزاد أنه صلى الله عليه وسلم مرسل إلى جميع الأنبياء والأمم السابقة وأن قوله بعثت إلى الناس كافة شامل لهم من لدن آدم إلى قيام الساعة ورجحه أيضا البارزي وزاد أنه مرسل إلى جميع الحيوانات والجمادات واستدل بشهادة الضب له بالرسالة وشهادة الحجر والشجر له وأزيد على ذلك أنه مرسل إلى نفسه‏.‏