فصل: النَّوْعُ الثَّلَاثُونَ: فِي أَنَّهُ هَلْ يَجُوزُ فِي التَّصَانِيفِ وَالرَّسَائِلِ وَالْخُطَبِ اسْتِعْمَالُ بَعْضِ آيَاتِ الْقُرْآنِ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البرهان في علوم القرآن (نسخة منقحة)



.خَاتِمَةٌ:

رَوَى الْبُخَارِيُّ فِي تَارِيخِهِ الْكَبِيرِ بِسَنَدٍ صَالِحٍ حَدِيثَ «مَنْ قَرَأَ الْقُرْآنَ عِنْدَ ظَالِمٍ لَيَرْفَعَ مِنْهُ لُعِنَ بِكُلِّ حِرَفٍ عَشْرَ لَعَنَاتٍ».

.النَّوْعُ الثَّلَاثُونَ: فِي أَنَّهُ هَلْ يَجُوزُ فِي التَّصَانِيفِ وَالرَّسَائِلِ وَالْخُطَبِ اسْتِعْمَالُ بَعْضِ آيَاتِ الْقُرْآنِ:

وَهَلْ يُقْتَبَسُ مِنْهُ فِي شِعْرٍ وَيُغَيَّرُ نَظْمُهُ بِتَقْدِيمٍ وَتَأْخِيرٍ وَحَرَكَةِ إِعْرَابٍ.
جَوَّزَ ذَلِكَ بَعْضُهُمْ لِلْمُتَمَكِّنِ مِنَ الْعَرَبِيَّةِ وَسُئِلَ الشَّيْخُ عِزُّ الدِّينِ فَقَالَ وَرَدَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وجهت وجهي» والتلاوة {إني وجهت وجهي}.
وَمَا رَوَى الْبُخَارِيُّ فِي كِتَابٍ إِلَى هِرَقْلَ: «سلام على من اتبع الهدى {يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء}».
وَمِنْ دُعَائِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اللَّهُمَّ آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً».
وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ لِابْنِ عُمَرَ: «قَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ».
وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «اللَّهُمَّ فَالِقَ الْإِصْبَاحِ وَجَاعِلَ اللَّيْلِ سَكَنًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانَا اقْضِ عَنِّي الدَّيْنَ وَأَغْنِنِي مِنَ الْفَقْرِ».
وفى سياق كلام لأبي بكر: {وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ} فَقَصَدَ الْكَلَامَ وَلَمْ يَقْصِدِ التِّلَاوَةَ.
وَقَوْلُ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: إِنِّي مُبَايِعٌ صَاحِبَكُمْ: {لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا}.
وَقَوْلُ الْخَطِيبِ ابْنِ نُبَاتَةَ: هُنَاكَ يُرْفَعُ الْحِجَابُ وَيُوضَعُ الْكِتَابُ وَيُجْمَعُ مَنْ لَهُ الثَّوَابُ وَحُقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ.
وَقَالَ النَّوَوِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ إذا قال: {خذ الكتاب بقوة} وَهُوَ جُنُبٌ وَقَصَدَ غَيْرَ الْقُرْآنِ جَازَ لَهُ وَلَهُ أَنْ يَقُولَ: {سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هذا وما كنا له مقرنين}.
قَالَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ: إِذَا قَصَدَ الْقُرْآنَ بِهَذِهِ الْآيَاتِ عَصَى وَإِنْ قَصَدَ الذِّكْرَ وَلَمْ يَقْصِدْ شَيْئًا لَمْ يَعْصِ.
وَلِلطُّرْطُوشِيِّ:
رَحَلَ الظَّاعِنُونَ عَنْكَ وَأَبْقَوْا ** فِي حَوَاشِي الْأَحْشَاءِ وَجْدًا مُقِيمًا

قَدْ وَجَدْنَا السَّلَامَ بَرْدًا سَلَامًا ** إِذْ وَجَدْنَا النَّوَى عَذَابًا أَلِيمًا

وَثَبَتَ عَنِ الشَّافِعِيِّ:
أَنِلْنِي بِالَّذِي اسْتَقْرَضْتَ خَطًّا ** وَأَشْهِدْ مَعْشَرًا قَدْ شَاهَدُوهُ

فَإِنَّ اللَّهَ خَلَّاقُ الْبَرَايَا ** عَنَتْ لِجَلَالِ هَيْبَتِهِ الْوُجُوهُ

يَقُولُ إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدِينٍ ** إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ.

ذَكَرَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ الْبَاقِلَّانِيُّ أَنَّ تَضْمِينَ الْقُرْآنِ فِي الشِّعْرِ مَكْرُوهٌ وَأَئِمَّةُ الْبَيَانِ جَوَّزُوهُ وَجَعَلُوهُ مِنْ أَنْوَاعِ الْبَدِيعِ وَسَمَّاهُ الْقُدَمَاءُ تَضْمِينًا وَالْمُتَأَخِّرُونَ اقْتِبَاسًا وَسَمَّوْا مَا كَانَ مِنْ شِعْرٍ تَضْمِينًا.

.مَسْأَلَةٌ: يُكْرَهُ ضَرْبُ الأمثال بالقرآن:

يُكْرَهُ ضَرْبُ الْأَمْثَالِ بِالْقُرْآنِ نَصَّ عَلَيْهِ مِنْ أَصْحَابِنَا الْعِمَادُ النِّيهِيُّ صَاحِبُ الْبَغَوِيِّ كَمَا وَجَدْتُهُ فِي رِحْلَةِ ابْنِ الصَّلَاحِ بِخَطِّهِ.
وَفَى كِتَابِ فَضَائِلِ الْقُرْآنِ لِأَبِي عُبَيْدٍ عَنِ النَّخَعِيِّ قَالَ كَانُوا يَكْرَهُونَ أَنْ يَتْلُوَ الْآيَةَ عِنْدَ شَيْءٍ يَعْرِضُ مِنْ أُمُورِ الدُّنْيَا.
قَالَ: أَبُو عُبَيْدٍ وَكَذَلِكَ الرَّجُلُ يُرِيدُ لِقَاءَ صَاحِبِهِ أَوْ يَهُمُّ بِحَاجَتِهِ فَيَأْتِيهِ مِنْ غَيْرِ طَلَبٍ فَيَقُولُ كَالْمَازِحِ: {جئت على قدر يا موسى} فَهَذَا مِنَ الِاسْتِخْفَافِ بِالْقُرْآنِ وَمِنْهُ قَوْلُ ابْنِ شِهَابٍ لَا تُنَاظِرْ بِكِتَابِ اللَّهِ وَلَا بِسُنَّةِ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال أَبُو عُبَيْدٍ يَقُولُ لَا تَجْعَلْ لَهُمَا نَظِيرًا مِنَ الْقَوْلِ وَلَا الْفِعْلِ.

.تنبيه: لا يجوز تعدي أمثلة القرآن:

لَا يَجُوزُ تَعَدِّي أَمْثِلَةِ الْقُرْآنِ وَلِذَلِكَ أُنْكِرَ عَلَى الْحَرِيرِيِّ فِي قَوْلِهِ فِي مَقَامَتِهِ الْخَامِسَةَ عشرة فأدخلني بيتا أحرج من التابوت وأوهى مِنْ بَيْتِ الْعَنْكَبُوتِ فَأَيُّ مَعْنًى أَبْلَغُ مِنْ مَعْنًى أَكَّدَهُ اللَّهُ مِنْ سِتَّةِ أَوْجُهٍ حَيْثُ قال {وإن أوهن البيوت لبيت الْعَنْكَبُوتِ} فَأَدْخَلَ إِنَّ وَبَنَى أَفْعَلَ التَّفْضِيلِ وَبَنَاهُ مِنَ الْوَهْنِ وَأَضَافَهُ إِلَى الْجَمْعِ وَعَرَّفَ الْجَمْعَ بِاللَّامِ وَأَتَى فِي خَبَرِ إِنَّ بِاللَّامِ وَقَدْ قال تعالى: {وإذا قلتم فاعدلوا} وَكَانَ اللَّائِقُ بِالْحَرِيرِيِّ أَلَّا يَتَجَاوَزَ هَذِهِ الْمُبَالَغَةَ وَمَا بَعْدَ تَمْثِيلِ اللَّهِ تَمْثِيلٌ وَقَوْلُ اللَّهِ أَقْوَمُ قِيلٍ وَأَوْضَحُ سَبِيلٍ وَلَكِنْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مثلا ما بعوضة} وَقَدْ ضَرَبَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِثَالًا لِمَا دُونَ ذَلِكَ فَقَالَ: «لَوْ كَانَتِ الدُّنْيَا تَزِنُ عِنْدَ اللَّهِ جَنَاحَ بَعُوضَةٍ» وَكَذَلِكَ قَوْلُ بَعْضِهِمْ:
وَلَوْ أَنَّ مَا بِي مِنْ جَوًى وَصَبَابَةٍ ** عَلَى جَمَلٍ لَمْ يَبْقَ فِي النَّارِ خَالِدُ

غَفَرَ اللَّهُ لَهُ وَاللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ: {وَلَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سم الخياط} فَقَدْ جَعَلَ وُلُوجَ الْجَمَلِ فِي السَّمِّ غَايَةً لِنَفْيِ دُخُولِهِمُ الْجَنَّةَ وَتِلْكَ غَايَةٌ لَا تُوجَدُ فَلَا يَزَالُ دُخُولُهُمُ الْجَنَّةَ مَنْفِيًّا وَهَذَا الشَّاعِرُ وَصَفَ جِسْمَهُ بِالنُّحُولِ بِمَا يُنَاقِضُ الْآيَةَ وَمِنْ هذا جَرَتْ مُنَاظَرَةٌ بَيْنَ أَبِي الْعَبَّاسِ أَحْمَدَ بْنِ سُرَيْجٍ وَمُحَمَّدِ بْنِ دَاوُدَ الظَّاهِرِيِّ قَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ لَهُ أَنْتَ تَقُولُ بِالظَّاهِرِ وَتُنْكِرُ الْقِيَاسَ فَمَا تَقُولُ فِي قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مثقال ذرة شرا يره} من يَعْمَلْ مِثْقَالَ نِصْفِ ذَرَّةٍ مَا حُكْمُهُ؟ فَسَكَتَ مُحَمَّدٌ طَوِيلًا وَقَالَ أَبْلِعْنِي رِيقِي قَالَ لَهُ أَبُو الْعَبَّاسِ قَدْ أَبْلَعْتُكَ دِجْلَةَ قَالَ أَنْظِرْنِي سَاعَةً قَالَ أَنْظَرْتُكَ إِلَى قِيَامِ السَّاعَةِ وَافْتَرَقَا وَلَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمَا غَيْرُ ذَلِكَ.
وَقَالَ: بَعْضُهُمْ وَهَذَا مِنْ مُغَالَطَاتِ ابْنِ سُرَيْجٍ وَعَدَمِ تَصَوُّرِ ابْنِ دَاوُدَ لِأَنَّ الذَّرَّةَ لَيْسَ لَهَا أَبْعَاضٌ فَتُمَثَّلَ بِالنِّصْفِ وَالرُّبُعِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأَجْزَاءِ وَلِهَذَا قَالَ سُبْحَانَهُ: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مثقال ذرة} فذكر سبحانه مالا يُتَخَيَّلُ فِي الْوَهْمِ أَجْزَاؤُهُ وَلَا يُدْرَكُ تَفَرُّقُهُ.

.النَّوْعُ الْحَادِي وَالثَّلَاثُونَ: مَعْرِفَةُ الْأَمْثَالِ الْكَائِنَةِ فِيهِ:

وَقَدْ رَوَى الْبَيْهَقِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إِنَّ الْقُرْآنَ نَزَلَ عَلَى خَمْسَةِ أَوْجُهٍ حَلَالٍ وَحَرَامٍ وَمُحْكَمٍ وَمُتَشَابِهٍ وَأَمْثَالٍ فَاعْمَلُوا بِالْحَلَالِ وَاجْتَنِبُوا الْحَرَامَ وَاتَّبِعُوا الْمُحْكَمَ وَآمِنُوا بِالْمُتَشَابِهِ وَاعْتَبِرُوا بِالْأَمْثَالِ».
وَقَدْ عَدَّهُ الشَّافِعِيُّ مِمَّا يَجِبُ عَلَى الْمُجْتَهِدِ مَعْرِفَتُهُ مِنْ عُلُومِ الْقُرْآنِ فَقَالَ ثُمَّ مَعْرِفَةُ مَا ضَرَبَ فِيهِ مِنَ الْأَمْثَالِ الدَّوَالِّ عَلَى طاعته المثبتة لاجتناب معصيته وترك الغفلة عن الحفظ والازدياد من نوافل الفضل.
وقد صنف فيه من المتقدمين الحسن بْنُ الْفَضْلِ وَغَيْرُهُ وَحَقِيقَتُهُ إِخْرَاجُ الْأَغْمَضِ إِلَى الْأَظْهَرِ وَهُوَ قِسْمَانِ ظَاهِرٌ وَهُوَ الْمُصَرَّحُ بِهِ وَكَامِنٌ وَهُوَ الَّذِي لَا ذِكْرَ لِلْمَثَلِ فِيهِ وَحُكْمُهُ حُكْمُ الْأَمْثَالِ.
وَقَسَّمَهُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْبَكْرَابَاذِيُّ إِلَى أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ أَحَدُهَا إِخْرَاجُ مَا لَا يَقَعُ عَلَيْهِ الْحِسُّ إِلَى مَا يَقَعُ عليه وثانيها إخراج ما لا يعلم بِبَدِيهَةِ الْعَقْلِ إِلَى مَا يُعْلَمُ بِالْبَدِيهَةِ وَثَالِثُهَا إِخْرَاجُ مَا لَمْ تَجْرِ بِهِ الْعَادَةُ إِلَى ما جرت به العادة ورابعها إخراج مالا قُوَّةَ لَهُ مِنَ الصِّفَةِ إِلَى مَا لَهُ قوة.
وَضَرْبُ الْأَمْثَالِ فِي الْقُرْآنِ يُسْتَفَادُ مِنْهُ أُمُورٌ كَثِيرَةٌ التَّذْكِيرُ وَالْوَعْظُ وَالْحَثُّ وَالزَّجْرُ وَالِاعْتِبَارُ وَالتَّقْرِيرُ وَتَرْتِيبُ الْمُرَادِ لِلْعَقْلِ وَتَصْوِيرُهُ فِي صُورَةِ الْمَحْسُوسِ بِحَيْثُ يَكُونُ نِسْبَتُهُ لِلْفِعْلِ كَنِسْبَةِ الْمَحْسُوسِ إِلَى الْحِسِّ وَتَأْتِي أَمْثَالُ الْقُرْآنِ مُشْتَمِلَةً عَلَى بَيَانِ تَفَاوُتِ الْأَجْرِ وَعَلَى الْمَدْحِ وَالذَّمِّ وَعَلَى الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ وَعَلَى تَفْخِيمِ الْأَمْرِ أو تحقيره وعلى تحقيق أمر وإبطال أمر قال تعالى: {وضربنا لكم الأمثال} فَامْتَنَّ عَلَيْنَا بِذَلِكَ لَمَّا تَضَمَّنَتْ هَذِهِ الْفَوَائِدَ وَقَالَ تَعَالَى: {وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ من كل مثل} وَقَالَ {وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إلا العالمون}.
وَالْأَمْثَالُ مَقَادِيرُ الْأَفْعَالِ وَالْمُتَمَثِّلُ كَالصَّانِعِ الَّذِي يُقَدِّرُ صناعته كَالْخَيَّاطِ يُقَدِّرُ الثَّوْبَ عَلَى قَامَةِ الْمَخِيطِ ثُمَّ يفريه ثم يقطع وكل شيء به قَالَبٌ وَمِقْدَارٌ وَقَالَبُ الْكَلَامِ وَمِقْدَارُهُ الْأَمْثَالُ.
وَقَالَ الْخَفَاجِيُّ: سُمِّيَ مَثَلًا لِأَنَّهُ مَاثِلٌ بِخَاطِرِ الْإِنْسَانِ أَبَدًا أَيْ شَاخِصٌ فَيَتَأَسَّى بِهِ وَيَتَّعِظُ وَيَخْشَى وَيَرْجُو وَالشَّاخِصُ الْمُنْتَصِبُ وَقَدْ جَاءَ بِمَعْنَى الصِّفَةِ كقوله تعالى: {ولله المثل الأعلى} أَيِ الصِّفَةُ الْعُلْيَا وَهُوَ قَوْلُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَقَوْلُهُ: {مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ المتقون} أَيْ صِفَتُهَا.
وَمِنْ حِكْمَتِهِ تَعْلِيمُ الْبَيَانِ وَهُوَ مِنْ خَصَائِصِ هَذِهِ الشَّرِيعَةِ وَالْمَثَلُ أَعْوَنُ شَيْءٍ عَلَى الْبَيَانِ.
فَإِنْ قُلْتَ: لِمَاذَا كَانَ الْمَثَلُ عَوْنًا عَلَى الْبَيَانِ وَحَاصِلُهُ قِيَاسُ مَعْنًى بِشَيْءٍ مَنْ عَرَفَ ذَلِكَ الْمَقِيسَ فَحَقُّهُ الِاسْتِغْنَاءُ عَنْ شَبِيهِهِ وَمَنْ لَمْ يَعْرِفْهُ لَمْ يُحْدِثِ التَّشْبِيهُ عنده معرفة.
وَالْجَوَابُ أَنَّ الْحِكَمَ وَالْأَمْثَالَ تُصَوِّرُ الْمَعَانِيَ تَصَوُّرَ الْأَشْخَاصِ فَإِنَّ الْأَشْخَاصَ وَالْأَعْيَانَ أَثْبَتُ فِي الْأَذْهَانِ لِاسْتِعَانَةِ الذِّهْنِ فِيهَا بِالْحَوَاسِّ بِخِلَافِ الْمَعَانِي الْمَعْقُولَةِ فَإِنَّهَا مُجَرَّدَةٌ عَنِ الْحِسِّ وَلِذَلِكَ دَقَّتْ وَلَا يَنْتَظِمُ مَقْصُودُ التَّشْبِيهِ وَالتَّمْثِيلِ إِلَّا بِأَنْ يَكُونَ الْمَثَلُ الْمَضْرُوبُ مُجَرَّبًا مُسَلَّمًا عِنْدَ السَّامِعِ.
وَفِي ضرب الأمثال من تقرير المقصود مالا يَخْفَى إِذِ الْغَرَضُ مِنَ الْمَثَلِ تَشْبِيهُ الْخَفِيِّ بِالْجَلِيِّ وَالشَّاهِدِ بِالْغَائِبِ فَالْمُرَغَّبُ فِي الْإِيمَانِ مَثَلًا إِذَا مُثِّلَ لَهُ بِالنُّورِ تَأَكَّدَ فِي قَلْبِهِ الْمَقْصُودُ وَالْمُزَهَّدُ فِي الْكُفْرِ إِذَا مُثِّلَ لَهُ بِالظُّلْمَةِ تَأَكَّدَ قُبْحُهُ فِي نَفْسِهِ.
وَفِيهِ أَيْضًا تَبْكِيتُ الْخَصْمِ وَقَدْ أَكْثَرَ تَعَالَى فِي الْقُرْآنِ وَفَى سَائِرِ كُتُبِهِ مِنَ الْأَمْثَالِ وَفِي سُوَرِ الْإِنْجِيلِ سُورَةُ الْأَمْثَالِ.
قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: التَّمْثِيلُ إِنَّمَا يُصَارُ إِلَيْهِ لِكَشْفِ الْمَعَانِي وَإِدْنَاءِ الْمُتَوَهَّمِ مِنَ الْمُشَاهَدِ فَإِنْ كَانَ الْمُتَمَثَّلُ لَهُ عَظِيمًا كَانَ الْمُتَمَثَّلُ بِهِ مِثْلَهُ وَإِنْ كَانَ حَقِيرًا كَانَ الْمُتَمَثَّلُ بِهِ كَذَلِكَ فَلَيْسَ الْعِظَمُ وَالْحَقَارَةُ فِي الْمَضْرُوبِ بِهِ الْمَثَلُ إِلَّا بِأَمْرٍ اسْتَدْعَتْهُ حَالُ الْمُمَثَّلِ لَهُ أَلَا تَرَى أَنَّ الْحَقَّ لَمَّا كَانَ وَاضِحًا جَلِيًّا تُمُثِّلَ لَهُ بِالضِّيَاءِ وَالنُّورِ وَأَنَّ الْبَاطِلَ لَمَّا كَانَ بِضِدِّهِ تُمُثِّلَ لَهُ بِالظُّلْمَةِ وَكَذَلِكَ جُعِلَ بَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ مَثَلًا فِي الوهن والضعف.
وَالْمَثَلُ هُوَ الْمُسْتَغْرَبُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلِلَّهِ المثل الأعلى} وَقَالَ تَعَالَى: {مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ} وَلَمَّا كَانَ الْمَثَلُ السَّائِرُ فِيهِ غَرَابَةٌ اسْتُعِيرَ لَفْظُ الْمَثَلِ لِلْحَالِ أَوِ الصِّفَةِ أَوِ الْقِصَّةِ إِذَا كَانَ لَهَا شَأْنٌ وَفِيهَا غَرَابَةٌ.
أَمَّا اسْتِعَارَتُهُ لِلْحَالِ فَكَقَوْلِهِ: {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي استوقد نارا} أَيْ حَالُهُمُ الْعَجِيبُ الشَّأْنِ كَحَالِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا.
وَأَمَّا اسْتِعَارَتُهُ لِلْوَصْفِ فَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلِلَّهِ المثل الأعلى} أَيِ الْوَصْفُ الَّذِي لَهُ شَأْنٌ وَكَقَوْلِهِ: {مَثَلُهُمْ في التوراة ومثلهم في الأنجيل} وَكَقَوْلِهِ: {كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فتركه صلدا} وقوله: {كمثل العنكبوت اتخذت بيتا} وقوله سبحانه: {كمثل الحمار يحمل أسفارا}.
وَأَمَّا اسْتِعَارَتُهُ لِلْقِصَّةِ فَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: {مَثَلُ الْجَنَّةِ التي وعد المتقون} أَيْ فِيمَا قَصَصْنَا عَلَيْكَ مِنَ الْعَجَائِبِ قِصَّةُ الْجَنَّةِ الْعَجِيبَةُ ثُمَّ أَخَذَ فِي بَيَانِ عَجَائِبِهَا.
لَا يُقَالُ: إِنَّ فِي هَذِهِ الْأَقْسَامِ الثَّلَاثَةِ تَدَاخُلًا فَإِنَّ حَالَ الشَّيْءِ هِيَ وَصْفُهُ وَوَصْفُهُ هُوَ حَالُهُ لِأَنَّا نَقُولُ الْوَصْفُ يُشْعِرُ ذِكْرُهُ بِالْأُمُورِ الثَّابِتَةِ الذَّاتِيَّةِ أَوْ قَارَبَهَا مِنْ جِهَةِ اللُّزُومِ لِلشَّيْءِ وَعَدَمِ الِانْفِكَاكِ عَنْهُ وَأَمَّا الْحَالُ فَيُطْلَقُ عَلَى مَا يَتَلَبَّسُ بِهِ الشَّخْصُ مِمَّا هُوَ غَيْرُ ذَاتِيٍّ لَهُ وَلَا لَازِمٍ فَتَغَايَرَا وَإِنْ أُطْلِقَ أَحَدُهُمَا عَلَى الْآخَرِ فَلَيْسَ ذَلِكَ إِطْلَاقًا حَقِيقِيًّا وَقَدْ يَكُونُ الشَّيْءُ مَثَلًا لَهُ فِي الْجِرْمِ وَقَدْ يَكُونُ مَا تَعَلَّقُهُ النَّفْسُ وَيُتَوَهَّمُ مِنَ الشَّيْءِ مَثَلًا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا} معناه أن الذي يتحصل في النفس النَّاظِرِ فِي أَمْرِهِمْ كَالَّذِي يَتَحَصَّلُ فِي نَفْسِ النَّاظِرِ مِنْ أَمْرِ الْمُسْتَوْقِدِ قَالَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ وَبِهَذَا يَزُولُ الْإِشْكَالُ الَّذِي فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ: {مثل الجنة} وقوله: {ليس كمثله شيء} لِأَنَّ مَا يَحْصُلُ لِلْعَقْلِ مِنْ وَحْدَانِيَّتِهِ وَأَزَلِيَّتِهِ وَنَفْيِ مَا لَا يَجُوزُ عَلَيْهِ لَيْسَ يُمَاثِلُهُ فيه شيء.
وَذَلِكَ الْمُتَحَصَّلُ هُوَ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي قَوْلِهِ تعالى: {ولله المثل الأعلى} وَقَدْ جَاءَ: {أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ} فُفِسِّرَ بِجِهَةِ الْوَحْدَانِيَّةِ.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ فِي قَوْلِهِ تعالى: {وقد خلت من قبلهم المثلات} هِيَ الْأَمْثَالُ وَقِيلَ الْعُقُوبَاتُ.
وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: الْمَثَلُ فِي الْأَصْلِ بِمَعْنَى الْمِثْلِ أَيِ النَّظِيرِ يُقَالُ مَثَلٌ وَمِثْلٌ وَمَثِيلٌ كَشَبَهٍ وَشِبْهٍ وَشَبِيهٍ ثُمَّ قَالَ وَيُسْتَعَارُ لِلْحَالِ أَوِ الصِّفَةِ أَوِ الْقِصَّةِ إِذَا كَانَ لَهَا شَأْنٌ وَفِيهَا غَرَابَةٌ.
وَظَاهِرُ كَلَامِ أَهْلِ اللُّغَةِ أَنَّ الْمَثَلَ بِفَتْحَتَيْنِ الصِّفَةُ كقوله: {مثلهم كمثل الذي استوقد نارا} وكذا: {مثل الجنة} وَمَا اقْتَضَاهُ كَلَامُهُ مِنِ اشْتِرَاطِ الْغَرَابَةِ مُخَالِفٌ أَيْضًا لِكَلَامِ اللُّغَوِيِّينَ وَمَا قَالَهُ مِنْ أَنَّ الْمَثَلَ وَالْمِثْلَ بِمَعْنًى يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ مُرَادُهُ بِاعْتِبَارِ الْأَصْلِ وَهُوَ الشَّبَهُ وَإِلَّا فَالْمُحَقِّقُونَ كَمَا قَالَهُ ابْنُ الْعَرَبِيِّ عَلَى أَنَّ الْمِثْلَ بِالْكَسْرِ عِبَارَةٌ عَنْ شِبْهِ الْمَحْسُوسِ وَبِفَتْحِهَا عِبَارَةٌ عَنْ شِبْهِ الْمَعَانِي الْمَعْقُولَةِ فَالْإِنْسَانُ مُخَالِفٌ لِلْأَسَدِ فِي صُورَتِهِ مُشْبِهٌ لَهُ فِي جَرَاءَتِهِ وَحِدَّتِهِ فَيُقَالُ لِلشُّجَاعِ أَسَدٌ أَيْ يُشْبِهُ الْأَسَدَ فِي الْجُرْأَةِ وَلِذَلِكَ يُخَالِفُ الْإِنْسَانُ الْغَيْثَ فِي صُورَتِهِ وَالْكَرِيمُ مِنَ الْإِنْسَانِ يُشَابِهُهُ فِي عُمُومِ مَنْفَعَتِهِ.
وَقَالَ غَيْرُهُ لَوْ كَانَ الْمَثَلُ وَالْمِثْلُ سِيَّانِ لَلَزِمَ التنافي بين قوله: {ليس كمثله شيء} وبين قوله: {ولله المثل الأعلى} فَإِنَّ الْأُولَى نَافِيَةٌ لَهُ وَالثَّانِيَةَ مُثْبِتَةٌ لَهُ.
وَفَرَّقَ الْإِمَامُ فَخْرُ الدِّينِ بَيْنَهُمَا بِأَنَّ الْمِثْلَ هُوَ الَّذِي يَكُونُ مُسَاوِيًا لِلشَّيْءِ فِي تَمَامِ الْمَاهِيَّةِ وَالْمَثَلَ هُوَ الَّذِي يَكُونُ مُسَاوِيًا لَهُ فِي بَعْضِ الصِّفَاتِ الْخَارِجَةِ عَنِ الْمَاهِيَّةِ.
وَقَالَ حَازِمٌ فِي كِتَابِ مِنْهَاجُ الْبُلَغَاءِ وَأَمَّا الْحِكَمُ وَالْأَمْثَالُ فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ الِاخْتِيَارُ فِيهَا بِجَرْيِ الْأُمُورِ عَلَى الْمُعْتَادِ فِيهَا وَإِمَّا بِزَوَالِهَا فِي وَقْتٍ عَنِ الْمُعْتَادِ عَنْ جِهَةِ الْغَرَابَةِ أَوِ النُّدُورِ فَقَطْ لِتُوَطَّنَ النَّفْسُ بِذَلِكَ عَلَى مَا لَا يُمْكِنُهَا التَّحَرُّزُ مِنْهُ إِذْ لَا يَحْسُنُ مِنْهَا التَّحَرُّزُ مِنْ ذَلِكَ وَلِتَحْذَرَ مَا يُمْكِنُهَا التَّحَرُّزُ مِنْهُ وَيَحْسُنُ بِهَا ذَلِكَ وَلِتَرْغَبَ فِيمَا يَجِبُ أَنْ يُرْغَبَ فِيهِ وَتَرْهَبَ فِيمَا يَجِبُ أَنْ تَرْهَبَهُ وَلِيَقْرُبَ عِنْدَهَا مَا تَسْتَبْعِدُهُ وَيَبْعُدَ لديها ما تستقر به وَلِيُبَيَّنَ لَهَا أَسْبَابُ الْأُمُورِ وَجِهَاتُ الِاتِّفَاقَاتِ الْبَعِيدَةِ الِاتِّفَاقِ بِهَا فَهَذِهِ قَوَانِينُ الْأَحْكَامِ وَالْأَمْثَالِ قَلَّمَا يَشِذُّ عَنْهَا مِنْ جُزْئِيَّاتِهَا شَيْءٌ.
فَمِنْهُ قَوْلُهُ: {مثلهم كمثل الذي استوقد نارا}.
وقوله: {أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وبرق} وَقَوْلُهُ: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا ما بعوضة فما فوقها}.
وقوله مثل {مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كمثل العنكبوت اتخذت بيتا}.
وقوله: {كمثل الحمار يحمل أسفارا} وقوله: {ضرب الله مثلا للذين كفروا} إلى قوله: {ومريم ابنت عمران} الآيات.
وقوله: {كمثل صفوان عليه تراب} الْآيَةَ.
وَقَوْلُهُ: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يجده شيئا} ثم قال: {أو كظلمات في بحر} الْآيَةَ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غزلها من بعد قوة أنكاثا}.
فهذه أمثال قصار وطوال مقتضية مِنْ كَلَامِ الْكَشَّافِ.
فَإِنْ قُلْتَ: فِي بَعْضِ هَذِهِ الْأَمْثِلَةِ تَشْبِيهُ أَشْيَاءَ بِأَشْيَاءَ لَمْ يَذْكُرْ فِيهَا الْمُشَبَّهَاتِ وَهَلَّا صَرَّحَ بِهَا كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَلَا الْمُسِيءُ قَلِيلًا مَا تتذكرون}.
قُلْتُ كَمَا جَاءَ ذَلِكَ تَصْرِيحًا فَقَدْ جَاءَ مَطْوِيًّا ذَكَرَهُ عَلَى طَرِيقِ الِاسْتِعَارَةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شرابه وهذا ملح أجاج}.
وَكَقَوْلِهِ: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ ورجلا سلما لرجل هل يستويان}.
وَالصَّحِيحُ الَّذِي عَلَيْهِ عُلَمَاءُ الْبَيَانِ أَنَّ التَّمْثِيلَيْنِ مِنْ جُمْلَةِ التَّمْثِيلَاتِ الْمُرَكَّبَةِ الْمُقَرِّبَةِ لَا يُتَكَلَّفُ لِكُلِّ وَاحِدٍ شَيْءٌ بِقَدْرِ شَبَهِهِ بِهِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْعَرَبَ تَأْخُذُ أَشْيَاءَ فُرَادَى مَعْزُولًا بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ تُشَبِّهُهَا بِنَظَائِرِهَا كَمَا جَاءَ فِي بَعْضِ الْآيَاتِ مِنَ الْقُرْآنِ وَقَدْ تُشَبِّهُ أَشْيَاءَ قَدْ تَضَامَّتْ وَتَلَاحَقَتْ حَتَّى عَادَتْ شَيْئًا وَاحِدًا بِأُخْرَى مِثْلِهَا وَذَلِكَ كَقَوْلِهِ:
تَعَالَى: {مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يحملوها كمثل الحمار يحمل أسفارا} فَإِنَّ الْغَرَضَ تَشْبِيهُ حَالِ الْيَهُودِ فِي جَهْلِهَا بِمَا مَعَهَا مِنَ التَّوْرَاةِ وَآيَاتِهَا الْبَاهِرَةِ بِحَالِ الْحِمَارِ الَّذِي يَحْمِلُ أَسْفَارَ الْحِكْمَةِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ حَمْلِهَا إِلَّا الثِّقَلُ وَالتَّعَبُ مِنْ غَيْرِ فَائِدَةٍ وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ من السماء} الْمُرَادُ قِلَّةُ ثَبَاتِ زَهْرَةِ الدُّنْيَا كَقِلَّةِ بَقَاءِ الْخُضْرَةِ.
وَقَدْ ضَرَبَ اللَّهُ تَعَالَى لِمَا أَنْزَلَهُ مِنَ الْإِيمَانِ وَالْقُرْآنِ مَثَلَيْنِ مَثَّلَهُ بِالْمَاءِ وَمَثَّلَهُ بِالنَّارِ فَمَثَّلَهُ بِالْمَاءِ لِمَا فِيهِ مِنَ الْحَيَاةِ وَبِالنَّارِ لِمَا فِيهِ مِنَ النُّورِ وَالْبَيَانِ وَلِهَذَا سَمَّاهُ اللَّهُ رُوحًا لِمَا فِيهِ مِنَ الْحَيَاةِ وَسَمَّاهُ نُورًا لِمَا فِيهِ مِنَ الْإِنَارَةِ فَفِي سُورَةِ الرَّعْدِ قَدْ مَثَّلَهُ بِالْمَاءِ فَقَالَ: {أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا} الْآيَةَ فَضَرَبَ اللَّهُ الْمَاءَ الَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ فَتَسِيلُ الْأَوْدِيَةُ بِقَدَرِهَا كَذَلِكَ مَا يُنْزِلُهُ مِنَ الْعِلْمِ وَالْإِيمَانِ فَتَأْخُذُهُ الْقُلُوبُ كُلُّ قَلْبٍ بِقَدْرِهِ وَالسَّيْلُ يَحْتَمِلُ زَبَدًا رَابِيًا كَذَلِكَ مَا فِي الْقُلُوبِ يَحْتَمِلُ شُبَهَاتٍ وَشَهَوَاتٍ ثُمَّ قَالَ: {وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ متاع زبد مثله} وَهَذَا الْمَثَلُ بِالنَّارِ الَّتِي تُوقَدُ عَلَى الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالرَّصَاصِ وَالنُّحَاسِ فَيَخْتَلِطُ بِذَلِكَ زَبَدٌ أَيْضًا كَالزَّبَدِ الَّذِي يَعْلُو السَّيْلَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ الناس فيمكث في الأرض} كَذَلِكَ الْعِلْمُ النَّافِعُ يَمْكُثُ فِي الْقُلُوبِ بِالتَّوْحِيدِ وَعِبَادَةِ اللَّهِ وَحْدَهُ.
رَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ قَتَادَةَ قَالَ هَذِهِ ثَلَاثَةُ أَمْثَالٍ ضَرَبَهَا اللَّهُ فِي مَثَلٍ وَاحِدٍ يَقُولُ كَمَا اضْمَحَلَّ هَذَا الزَّبَدُ فَصَارَ جُفَاءً لَا يُنْتَفَعُ بِهِ وَلَا تُرْجَى بَرَكَتُهُ وَكَذَلِكَ يَضْمَحِلُّ الْبَاطِلُ عَنْ أَهْلِهِ.
وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: «إِنَّ مَثَلَ مَا بَعَثَنِي اللَّهُ بِهِ مِنَ الْهُدَى وَالْعِلْمِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَصَابَ أَرْضًا فَكَانَ مِنْهَا طَائِفَةٌ قَبِلَتِ الْمَاءَ فَأَنْبَتَتِ الْكَلَأَ وَالْعُشْبَ الْكَثِيرَ وَكَانَ مِنْهَا طَائِفَةٌ أَمْسَكَتِ الْمَاءَ فَشَرِبَ النَّاسُ وَاسْتَقَوْا وَزَرَعُوا وَكَانَتْ مِنْهَا طَائِفَةٌ إِنَّمَا هِيَ قِيعَانٌ لَا تُمْسِكُ مَاءً وَلَا تُنْبِتُ كَلَأً وَذَلِكَ مَثَلُ مَنْ فَقُهَ فِي دِينِ اللَّهِ فَنَفَعَهُ مَا بَعَثَنِيَ اللَّهُ بِهِ مِنَ الْهُدَى وَالْعِلْمِ وَمَثَلُ مَنْ لَمْ يَرْفَعْ بِذَلِكَ رَأْسًا وَلَمْ يَقْبَلْ هُدَى اللَّهِ الَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ».
وَقَدْ ضَرَبَ اللَّهُ لِلْمُنَافِقِينَ مَثَلَيْنِ مَثَلًا بِالنَّارِ وَمَثَلًا بِالْمَطَرِ فَقَالَ: {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي استوقد نارا} الْآيَةَ يُقَالُ أَضَاءَ الشَّيْءُ وَأَضَاءَهُ غَيْرُهُ فَيُسْتَعْمَلُ لازما متعديا فقوله: {أضاءت ما حوله} هُوَ مُتَعَدٍّ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ أَنْ تُضِيءَ النَّارُ مَا حَوْلَ مَنْ يُرِيدُهَا حَتَّى يَرَاهَا وَفِي قوله في البرق: {كلما أضاء لهم} ذِكْرُ اللَّازِمِ لِأَنَّ الْبَرْقَ بِنَفْسِهِ يُضِيءُ بِغَيْرِ اخْتِيَارِ الْإِنْسَانِ فَإِذَا أَضَاءَ الْبَرْقُ سَارَ وَقَدْ لَا يُضِيءُ مَا حَوْلَ الْإِنْسَانِ إِذْ يَكُونُ الْبَرْقُ وَصَلَ إِلَى مَكَانٍ دُونَ مَكَانٍ فَجَعَلَ سُبْحَانَهُ الْمُنَافِقِينَ كَالَّذِي أَوْقَدَ نَارًا فَأَضَاءَتْ ثُمَّ ذَهَبَ ضَوْءُهَا وَلَمْ يَقُلِ انْطَفَأَتْ بَلْ قَالَ ذهب الله بنورهم وَقَدْ يَبْقَى مَعَ ذَهَابِ النُّورِ حَرَارَتُهَا فَتَضُرُّ وَهَذَا الْمَثَلُ يَقْتَضِي أَنَّ الْمُنَافِقَ حَصَلَ لَهُ نور ثم ذهب، كما قال الله تعالى: {ذلك بأنهم آمنوا ثم كفروا فطبع على قلوبهم فهم لا يفقهون}.