فصل: فصل:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البرهان في علوم القرآن (نسخة منقحة)



.فصل:

قد يَكُونُ اللَّفْظُ مُقْتَضِيًا لِأَمْرٍ وَيُحْمَلُ عَلَى غَيْرِهِ وَقَدْ يَكُونُ اللَّفْظُ مُقْتَضِيًا لِأَمْرٍ وَيُحْمَلُ عَلَى غَيْرِهِ لِأَنَّهُ أَوْلَى بِذَلِكَ الِاسْمِ مِنْهُ وَلَهُ أمثلة: منها تفسيرهم السبع المثاني بِالْفَاتِحَةِ مَعَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَخْبَرَ أَنَّ القرآن كله مثاني.
وَمِنْهَا قَوْلُهُ عَنْ أَهْلِ الْكِسَاءِ: «هَؤُلَاءِ أَهْلُ بَيْتِي فَأَذْهِبْ عَنْهُمُ الرِّجْسَ وَطَهِّرَهُمْ تَطْهِيرًا» وَسِيَاقُ الْقُرْآنِ يَدُلُّ عَلَى إِرَادَةِ الْأَزْوَاجِ وَفِيهِنَّ نَزَلَتْ وَلَا يُمْكِنُ خُرُوجُهُنَّ عَنِ الْآيَةِ لَكِنْ لَمَّا أُرِيدَ دُخُولُ غَيْرِهِنَّ قِيلَ بِلَفْظِ التَّذْكِيرِ: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ} فَعُلِمَ أَنَّ هَذِهِ الْإِرَادَةَ شَامِلَةٌ لِجَمِيعِ أَهْلِ البيت الذكور والإناث بخلاف قوله: {يا نساء النبي} ودل أَنَّ عَلِيًّا وَفَاطِمَةَ أَحَقُّ بِهَذَا الْوَصْفِ مِنَ الْأَزْوَاجِ.
وَمِنْهَا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الْمَسْجِدِ الَّذِي أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى: «هُوَ مَسْجِدِي هَذَا» وَهُوَ يَقْتَضِي أَنَّ مَا ذَكَرَهُ أَحَقُّ بِهَذَا الِاسْمِ مِنْ غَيْرِهِ وَالْحَصْرُ الْمَذْكُورُ حَصْرُ الْكَمَالِ كَمَا يُقَالُ: هَذَا هُوَ الْعَالِمُ الْعَدْلُ وَإِلَّا فَلَا شَكَّ أَنَّ مَسْجِدَ قُبَاءَ هو مؤسس عَلَى التَّقْوَى وَسِيَاقُ الْقُرْآنِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ مراد بالآية.

.فصل:

قد يكون اللفظ محتملا لمعنيين في موضع ويعين في موضع آخر.
وَقَدْ يَكُونُ اللَّفْظُ مُحْتَمِلًا لِمَعْنَيَيْنِ وَفِي مَوْضِعٍ آخَرَ مَا يُعَيِّنُهُ لِأَحَدِهِمَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ: {خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أبصارهم غشاوة} فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ السَّمْعُ مَعْطُوفًا عَلَى خَتَمَ ويحتمل الوقف على قُلُوبِهِمْ لِأَنَّ الْخَتْمَ إِنَّمَا يَكُونُ عَلَى الْقَلْبِ وَهَذَا أَوْلَى لِقَوْلِهِ فِي الْجَاثِيَةِ: {وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غشاوة}.
وَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْحِجْرِ: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ من الغاوين} فَالِاسْتِثْنَاءُ مُنْقَطِعٌ لِقَوْلِهِ فِي الْإِسْرَاءِ: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلًا} وَلَوْ كَانَ مُتَّصِلًا لَاسْتَثْنَاهُمْ فَلَمَّا لَمْ يَسْتَثْنِهِمْ دَلَّ عَلَى أَنَّهُمْ لَمْ يَدْخُلُوا.
وَقَوْلِهِ: {وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ} فَقَدْ قِيلَ: إِنَّ حَيَاةَ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّمَا هُوَ بِالْمَاءِ قَالَ ابْنُ دَرَسْتَوَيْهِ: وَهَذَا غَيْرُ جَائِزٍ فِي الْعَرَبِيَّةِ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ الْمَعْنَى كَذَلِكَ لَمْ يَكُنْ {حَيٍّ} مَجْرُورًا وَلَكَانَ مَنْصُوبًا وَإِنَّمَا {حَيٍّ} صِفَةٌ لِشَيْءٍ وَمَعْنَى الْآيَةِ: خَلَقَ الْخَلْقِ مِنَ الْمَاءِ وَيَدُلُّ لَهُ قَوْلُهُ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: {وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ ماء}.
وَمِمَّا يَحْتَمِلُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فليلقه اليم بالساحل} فَإِنَّ فَلْيُلْقِهِ يَحْتَمِلُ الْأَمْرَ وَالْخَبَرَ كَأَنَّهُ قَالَ فاقذفيه في اليم يلقيه اليم ونحتمل أَنْ يَكُونَ أَمْرًا بِإِلْقَائِهِ.
وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {ذرني ومن خلقت وحيدا} فَإِنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ خَلَقْتُهُ وَحِيدًا فَرِيدًا مِنْ مَالِهِ وَوَلَدِهِ وَفِي الْآيَةِ بَحْثٌ آخَرُ وَهُوَ أَنَّ أَبَا الْبَقَاءِ أَجَازَ فِيهَا وَفِي قوله: {وذرني والمكذبين} أَنْ تَكُونَ الْوَاوُ عَاطِفَةً وَهُوَ فَاسِدٌ لِأَنَّهُ يَلْزَمُ مِنْهُ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ قَدْ أَمَرَ نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَتْرُكَهُ وَكَأَنَّهُ قَالَ: اتْرُكْنِي وَاتْرُكْ مَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا وَكَذَلِكَ اتْرُكْنِي وَاتْرُكِ الْمُكَذِّبِينَ فَيَتَعَيَّنُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ: خَلِّ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ وَهِيَ وَاوُ مَعَ كَقَوْلِهِ: (لَوْ تُرِكَتِ النَّاقَةُ وَفَصِيلَهَا لَرَضَعَهَا).
وَقَدْ يَكُونُ لِلَّفْظِ ظَاهِرٌ وَبَاطِنٌ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَنْ طهرا بيتي للطائفين} ظَاهِرُهُ الْكَعْبَةُ وَبَاطِنُهُ الْقَلْبُ قَالَ الْعُلَمَاءُ وَنَحْنُ نَقْطَعُ أَنَّ الْمُرَادَ بِخِطَابِ إِبْرَاهِيمَ الْكَعْبَةُ لَكِنَّ الْعَالِمَ يَتَجَاوَزُ إِلَى الْقَلْبِ بِطَرِيقِ الِاعْتِبَارِ عِنْدَ قَوْمٍ وَالْأَوْلَى عِنْدَ آخَرِينَ وَمِنْ بَاطِنِهِ إِلْحَاقُ سَائِرِ الْمَسَاجِدِ بِهِ وَمِنْ ظَاهِرِهِ عِنْدَ قَوْمٍ العبور فيه.

.فصل في ذكر الأمور التي تعين على المعنى عند الإشكال:

وَمِمَّا يُعِينُ عَلَى الْمَعْنَى عِنْدَ الْإِشْكَالِ أُمُورٌ.
أَحَدُهَا: رَدُّ الْكَلِمَةِ لِضِدِّهَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كفورا} أَيْ: وَلَا كَفُورًا وَالطَّرِيقَةُ أَنْ يُرَدَّ النَّهْيُ مِنْهُ إِلَى الْأَمْرِ فَنَقُولُ مَعْنَى: أَطِعْ هَذَا أَوْ هَذَا أَطِعْ أَحَدَهُمَا وَعَلَى هَذَا مَعْنَاهُ فِي النَّهْيِ وَلَا تُطِعْ وَاحِدًا مِنْهُمَا.
الثَّانِي: رَدُّهَا إِلَى نَظِيرِهَا كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ} فهذا عام وقوله: {فوق اثنتين} قَوْلٌ حُدَّ أَحَدُ طَرَفَيْهِ وَأُرْخِيَ الطَّرَفُ الْآخَرُ إِلَى غَيْرِ نِهَايَةٍ لِأَنَّ أَوَّلُ مَا فَوْقَ الثِّنْتَيْنِ الثَّلَاثَ وَآخِرَهُ لَا نِهَايَةَ لَهُ وَقَوْلِهِ: {وإن كانت واحدة} مَحْدُودَةُ الطَّرَفَيْنِ فَالثِّنْتَانِ خَارِجَتَانِ مِنْ هَذَا الْفَصْلِ وأمسك الله عَنْ ذِكْرِ الثِّنْتَيْنِ وَذَكَرَ الْوَاحِدَةَ وَالثَّلَاثَ وَمَا فَوْقَهَا وَأَمَّا قَوْلُهُ فِي الْأَخَوَاتِ: {إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نصف ما ترك} الْآيَةَ فَذَكَرَ الْوَاحِدَةَ وَالِاثْنَتَيْنِ وَأَمْسَكَ عَنْ ذِكْرِ الثَّلَاثِ وَمَا فَوْقَهُنَّ فَضَمَّنَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنَ الْفَصْلَيْنِ مَا كَفَّ عَنْ ذِكْرِهِ فِي الْآخَرِ فَوَجَبَ حَمْلُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِيمَا أَمْسَكَ عَنْهُ فِيهِ عَلَى مَا ذَكَرَهُ فِي غَيْرِهِ.
الثَّالِثُ: مَا يَتَّصِلُ بِهَا مِنْ خَبَرٍ أَوْ شَرْطٍ أَوْ إِيضَاحٍ فِي مَعْنًى آخَرَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا} يحتمل أن يكون معناها: من كان يريد أَنْ يَعِزَّ أَوْ تَكُونُ الْعِزَّةُ لَهُ لَكِنَّ قوله تعالى: {فلله العزة جميعا} يحتمل أن يكون معناها: من كان يريد أَنْ يَعْلَمَ لِمَنِ الْعِزَّةُ فَإِنَّهَا لِلَّهِ.
وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} فَإِنَّهُ لَا دَلَالَةَ فِيهَا عَلَى الْحَالِ الَّتِي هِيَ شَرْطٌ فِي عُقُوبَتِهِ الْمُعَيَّنَةِ وَأَنْوَاعُ الْمُحَارَبَةِ وَالْفَسَادِ كَثِيرَةٌ وَإِنَّمَا اسْتُفِيدَتِ الْحَالُ مِنَ الْأَدِلَّةِ الدَّالَّةِ عَلَى أَنَّ الْقَتْلَ عَلَى مَنْ قَتَلَ وَلَمْ يَأْخُذِ الْمَالَ وَالصَّلْبَ عَلَى مَنْ جَمَعَهُمَا وَالْقِطَعَ عَلَى مَنْ أَخَذَ الْمَالَ وَلَمْ يَقْتُلْ وَالنَّفْيَ عَلَى مَنْ لَمْ يَفْعَلْ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ سِوَى السَّعْيِ فِي الْأَرْضِ بِالْفَسَادِ.
الرَّابِعُ: دَلَالَةُ السِّيَاقِ فَإِنَّهَا تُرْشِدُ إِلَى تَبْيِينِ الْمُجْمَلِ وَالْقَطْعِ بِعَدَمِ احْتِمَالِ غَيْرِ الْمُرَادِ وَتَخْصِيصِ الْعَامِّ وَتَقْيِيدِ الْمُطْلَقِ وَتَنَوُّعِ الدَّلَالَةِ وَهُوَ مِنْ أَعْظَمِ الْقَرَائِنِ الدَّالَّةِ عَلَى مُرَادِ الْمُتَكَلِّمِ فَمَنْ أَهْمَلَهُ غَلِطَ فِي نَظِيرِهِ وَغَالَطَ فِي مُنَاظَرَاتِهِ وَانْظُرْ إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ العزيز الكريم} كَيْفَ تَجِدُ سِيَاقَهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ الذَّلِيلُ الْحَقِيرُ.
الْخَامِسُ: مُلَاحَظَةُ النَّقْلِ عَنِ الْمَعْنَى الْأَصْلِيِّ وَذَلِكَ أَنَّهُ قَدْ يُسْتَعَارُ الشَّيْءُ لِمُشَابِهِهِ ثُمَّ يُسْتَعَارُ مِنَ الْمُشَابِهِ لِمُشَابِهِ الْمُشَابِهِ وَيَتَبَاعَدُ عَنِ الْمُسَمَّى الْحَقِيقِيِّ بِدَرَجَاتٍ فَيَذْهَبُ عَنِ الذِّهْنِ الْجِهَةُ الْمُسَوِّغَةُ لِنَقْلِهِ مِنَ الْأَوَّلِ إِلَى الْآخِرِ وَطَرِيقُ مَعْرِفَةِ ذَلِكَ بِالتَّدْرِيجِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ المؤمنين} وَذَلِكَ أَنَّ أَصْلَ دُونَ لِلْمَكَانِ الَّذِي هُوَ أَنْزِلُ مِنْ مَكَانٍ غَيْرِهِ وَمِنْهُ الشَّيْءُ الدُّونُ لِلْحَقِيرِ ثُمَّ اسْتُعِيرَ لِلتَّفَاوُتِ فِي الْأَحْوَالِ وَالرُّتَبِ فَقِيلَ زِيدٌ دُونَ عَمْرٍو فِي الْعِلْمِ وَالشَّرَفِ ثُمَّ اتَّسَعَ فِيهِ فَاسْتُعِيرَ فِي كُلِّ مَا يَتَجَاوَزُ حَدًّا إِلَى حَدٍّ وَتَخَطَّى حُكْمًا إِلَى حُكْمٍ آخَرَ كَمَا فِي الْآيَةِ الْمَذْكُورَةِ وَالتَّقْدِيرُ لَا تَتَجَاوَزُوا وِلَايَةَ الْمُؤْمِنِينَ إِلَى وِلَايَةِ الْكَافِرِينَ.
وكذلك قوله تعالى: {ادعوا شهداءكم من دون الله} أَيْ تَجَاوَزُوا اللَّهَ فِي دُعَائِكُمْ إِلَى دُعَاءِ آلِهَتِكُمْ الَّذِينَ تَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ يَشْهَدُونَ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَيْ لَا تَسْتَشْهِدُوا بِاللَّهِ فَإِنَّهَا حُجَّةٌ يَرْكَنُ إِلَيْهَا الْعَاجِزُ عَنِ الْبَيِّنَاتِ مِنَ النَّاسِ بَلِ ائْتُوا بِبَيِّنَةٍ تَكُونُ حُجَّةً عِنْدَ الْحُكَّامِ وهذا يؤذن بأنه لم يبق تَشَبُّثٌ سِوَى قَوْلِهِمْ: (اللَّهُ يَشْهَدُ لَنَا عَلَيْكُمْ) هَذَا إِذَا جَعَلْتَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مُتَعَلِّقًا بادعوا فَإِنْ جَعَلْتَهُ مُتَعَلِّقًا بِـ: {شُهَدَاءَكُمْ} احْتَمَلَ مَعْنَيَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى ادْعُوا الَّذِينَ تَجَاوَزْتُمْ فِي زَعْمِكُمْ شَهَادَةَ اللَّهِ أَيْ شَهَادَتَهُمْ لَكُمْ يوم القيامة والثاني: على أن يراد بشهدائكم آلِهَتُكُمْ أَيِ ادْعُوا الَّذِينَ تَجَاوَزْتُمْ فِي اتِّخَاذِكُمْ أُلُوهِيَّةَ اللَّهِ إِلَى أُلُوهِيَّتِهِمْ.
وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ: {مِنْ دُونِ اللَّهِ} أَيْ: مِنْ غَيْرِ الْمُؤْمِنِينَ يَشْهَدُونَ لَكُمْ أَنَّكُمْ آمَنْتُمْ بِمِثْلِهِ وَفِي هَذَا إِرْخَاءُ عِنَانِ الِاعْتِمَادِ عَلَى أَنَّ فُصَحَاءَهُمْ تَأْنَفُ نُفُوسُهُمْ مِنْ مُسَاجَلَةِ الحق الجلي بالباطل اللجلجي وتعليقه بادعوا عَلَى هَذَا جَائِزٌ.
وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {أَوْ كالذي مر على قرية} فَإِنَّهُ عَطَفَهُ عَلَى قَوْلِهِ: {أَلَمْ تَرَ} لِأَنَّهَا بِمَعْنَى: هَلْ رَأَيْتَ.
السَّادِسُ: مَعْرِفَةُ النُّزُولِ وَهُوَ مِنْ أَعْظَمِ الْمُعِينِ عَلَى فَهْمِ الْمَعْنَى وَسَبَقَ مِنْهُ فِي أَوَّلِ الْكِتَابِ جُمْلَةٌ وَكَانَتِ الصَّحَابَةُ وَالسَّلَفُ يَعْتَمِدُونَهُ وَكَانَ عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ قَدْ فَهِمَ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أن يطوف بهما} أَنَّ السَّعْيَ لَيْسَ بِرُكْنٍ فَرَدَّتْ عَلَيْهِ عَائِشَةُ ذَلِكَ وَقَالَتْ: «لَوْ كَانَ كَمَا قُلْتَ لَقَالَ فَلَا جَنَاحَ عَلَيْهِ أَلَّا يَطَّوَّفَ بِهِمَا» وَثَبَتَ أَنَّهُ إِنَّمَا أَتَى بِهَذِهِ الصِّيغَةِ لِأَنَّهُ كَانَ وَقَعَ فَزَعٌ فِي قُلُوبِ طَائِفَةٍ مِنَ النَّاسِ كَانُوا يَطُوفُونَ قَبْلَ ذَلِكَ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ لِلْأَصْنَامِ فَلَمَّا جَاءَ الْإِسْلَامُ كَرِهُوا الْفِعْلَ الَّذِي كَانُوا يُشْرِكُونَ بِهِ فَرَفَعَ اللَّهُ ذَلِكَ الْجُنَاحَ مِنْ قُلُوبِهِمْ وَأَمَرَهُمْ بِالطَّوَافِ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ فَثَبَتَ أَنَّهَا نَزَلَتْ رَدًّا عَلَى مَنْ كَانَ يَمْتَنِعُ مِنَ السَّعْيِ.
وَمِنْ ذَلِكَ قِصَّةُ مروان بن الحكم سُؤَالِهِ ابْنَ عَبَّاسٍ: (لَئِنْ كَانَ كُلُّ امْرِئٍ فَرِحَ بِمَا أُوتِيَ وَأَحَبَّ أَنْ يُحْمَدَ بِمَا لم يفعل معذبا لنعذبن أجمعون) فقال ابن عَبَّاسٍ: هَذِهِ الْآيَاتُ نَزَلَتْ فِي أَهْلِ الْكِتَابِ ثُمَّ تَلَا: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ} وَتَلَا: {لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: سَأَلَهُمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ شَيْءٍ فَكَتَمُوهُ وَأَخْبَرُوهُ بِغَيْرِهِ فَخَرَجُوا وَقَدْ أَرَوْهُ أَنْ قَدْ أَخْبَرُوهُ بِمَا سَأَلَهُمْ عَنْهُ وَاسْتَحْمَدُوا بِذَلِكَ إِلَيْهِ وَفَرِحُوا بِمَا أُوتُوا مِنْ كِتْمَانِهِمْ مَا سَأَلَهُمْ عَنْهُ.
وَقَدْ سَبَقَ فِيهِ كَلَامٌ فِي النَّوْعِ الْأَوَّلِ فِي مَعْرِفَةِ سَبَبِ النُّزُولِ فَاسْتَحْضِرْهُ.
وَمِنْ هَذَا مَا قَالَهُ الشَّافِعِيُّ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {قُلْ لَا أجد في ما أوحي إلي محرما} أَنَّهُ لَا مُتَمَسَّكَ فِيهَا لِمَالِكٍ عَلَى الْعُمُومِ لِأَنَّهُمْ سَأَلُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ أَشْيَاءَ فَأَجَابَهُمْ عَنِ الْمُحَرَّمَاتِ مِنْ تِلْكَ الْأَشْيَاءِ وَحَكَاهُ غَيْرُ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ.
السَّابِعُ: السَّلَامَةُ مِنَ التَّدَافُعِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ} فَإِنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنَّ الطَّوَائِفَ لَا تَنْفِرُ مِنْ أَمَاكِنِهَا وَبَوَادِيهَا جُمْلَةً بَلْ بَعْضُهُمْ لِتَحْصِيلِ التَّفَقُّهِ بِوُفُودِهِمْ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِذَا رَجَعُوا إِلَى قَوْمِهِمْ أَعْلَمُوهُمْ بِمَا حَصَلَ لَهُمْ وَالْفَائِدَةُ فِي كَوْنِهِمْ لَا يَنْفِرُونَ جَمِيعًا عَنْ بِلَادِهِمْ حُصُولُ الْمَصْلَحَةِ فِي حِفْظِ مَنْ يَتَخَلَّفُ مِنْ بَعْضِهِمْ مِمَّنْ لَا يُمْكِنُ نفيره.
وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالْفِئَةِ النَّافِرَةِ هِيَ مَنْ تَسِيرُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَغَازِيهِ وَسَرَايَاهُ وَالْمَعْنَى حِينَئِذٍ أَنَّهُ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَنْفِرُوا أَجْمَعِينَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَغَازِيهِ لِتَحْصِيلِ الْمَصَالِحِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِبَقَاءِ مَنْ يَبْقَى فِي الْمَدِينَةِ وَالْفِئَةُ النَّافِرَةُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَتَفَقَّهُ فِي الدِّينِ بِسَبَبِ مَا يُؤْمَرُونَ بِهِ وَيَسْمَعُونَ مِنْهُ فَإِذَا رَجَعُوا إِلَى مَنْ بَقِيَ بِالْمَدِينَةِ أَعْلَمُوهُمْ بِمَا حَصَلَ لَهُمْ فِي صُحْبَةِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْعِلْمِ وَالِاحْتِمَالَانِ قَوْلَانِ لِلْمُفَسِّرِينَ.
قَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: وَالْأَقْرَبُ عِنْدِي هُوَ الِاحْتِمَالُ الْأَوَّلُ لِأَنَّا لَوْ حَمَلْنَاهُ عَلَى الِاحْتِمَالِ الثَّانِي لَخَالَفَهُ ظَاهِرُ قَوْلِهِ تَعَالَى: {مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ولا يرغبوا بأنفسهم عن نفسه} وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَانْفِرُوا ثُبَاتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعًا} فَإِنَّ ذَلِكَ يَقْتَضِي إِمَّا طَلَبَ الْجَمِيعِ بِالنَّفِيرِ أَوْ إِبَاحَتَهُ وَذَلِكَ فِي ظَاهِرِهِ يُخَالِفُ النَّهْيَ عَنْ نَفْرِ الْجَمِيعِ وَإِذَا تَعَارَضَ مَحْمَلَانِ يَلْزَمُ مِنْ أَحَدِهِمَا مُعَارَضَتُهُ وَلَا يَلْزَمُ مِنَ الْآخَرِ فَالثَّانِي أَوْلَى وَلَا نَعْنِي بِلُزُومِ التَّعَارُضِ لُزُومًا لَا يُجَابُ عَنْهُ وَلَا يَتَخَرَّجُ عَلَى وَجْهٍ مَقْبُولٍ بَلْ مَا هُوَ أَعَمُّ مِنْ ذَلِكَ فَإِنَّ مَا أَشَرْنَا إِلَيْهِ مِنَ الْآيَتَيْنِ يُجَابُ عَنْهُ بِحَمْلِ (أَوْ) فِي قَوْلِهِ: {أَوِ انْفِرُوا جميعا} عَلَى التَّفْصِيلِ دُونَ التَّخْيِيرِ كَمَا رَضِيَهُ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنَ النُّحَاةِ فَيَكُونُ نَفِيرُهُمْ ثُبَاتٍ مِمَّا لا يدعون الْحَاجَةُ إِلَى نَفِيرِهِمْ فِيهِ جَمِيعًا وَنَفِيرُهُمْ جَمِيعًا فِيمَا تَدْعُو الْحَاجَةُ إِلَيْهِ وَيُحْمَلُ قَوْلُهُ: {مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ أن يتخلفوا عن رسول الله} عَلَى مَا إِذَا كَانَ الرَّسُولُ هُوَ النَّافِرُ لِلْجِهَادِ وَلَمْ تَحْصُلِ الْكِفَايَةُ إِلَّا بِنَفِيرِ الْجَمِيعِ مِمَّنْ يَصْلُحُ لِلْجِهَادِ فَهَذَا أَوْلَى مِنْ قَوْلِ مَنْ يَقُولُ بِالنَّسْخِ.
أَوْ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الْآيَةُ نَاسِخَةً لِمَا اقْتَضَى النَّفِيرَ جَمِيعًا.
وَمِنَ الْمُفَسِّرِينَ مَنْ يَقُولُ: إِنَّ مَنْعَ النَّفِيرِ جَمِيعًا حَيْثُ يَكُونُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْمَدِينَةِ فَلَيْسَ لَهُمْ أَنْ يَنْفِرُوا جَمِيعًا وَيَتْرُكُوهُ وَحْدَهُ.
وَالْحَمْلُ أَيْضًا عَلَى هَذَا التَّفْسِيرِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ أَوْلَى مِنْ هَذَا لِأَنَّ اللَّفْظَ يَقْتَضِي أَنَّ نَفِيرَهُمْ لِلتَّفَقُّهِ فِي الدِّينِ وَالْإِنْذَارِ وَنَفِيرُهُمْ مَعَ بَقَاءِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَهُمْ لَا يُنَاسِبُهُ التَّعْلِيلُ بِالتَّفَقُّهِ فِي الدِّينِ إِذِ التَّفَقُّهُ مِنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَعَلُّمُ الشَّرَائِعَ مِنْ جِهَتِهِ فَكَيْفَ يَكُونُ خُرُوجُهُمْ عَلَيْهِ مُعَلِّلًا لِلتَّفَقُّهِ فِي الدِّينِ.
وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {فاتقوا الله ما استطعتم} فَإِنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مِنْ بَابِ التَّسْهِيلِ وَالتَّخْفِيفِ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مِنْ بَابِ التَّشْدِيدِ بِمَعْنَى أَنَّهُ مَا وُجِدَتِ الِاسْتِطَاعَةُ فَاتَّقُوا أَيْ لا تبقى مِنَ الِاسْتِطَاعَةِ شَيْءٌ.
وَبِمَعْنَى التَّخْفِيفِ يَرْجِعُ إِلَى أَنَّ الْمَعْنَى: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا تَيَسَّرَ عَلَيْكُمْ أَوْ مَا أَمْكَنَكُمْ مِنْ غَيْرِ عُسْرٍ.
قَالَ الشيخ تقي الدين الفشيري: وَيُصْلِحُ مَعْنَى التَّخْصِيصِ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا نَهَيْتُكُمْ عَنْ شَيْءٍ فَاجْتَنِبُوهُ وَإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ».