فصل: النوع الثاني والثلاثون: معرفة أحكامه:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البرهان في علوم القرآن (نسخة منقحة)



.النوع الثاني والثلاثون: معرفة أحكامه:

وَقَدِ اعْتَنَى بذلك الأئمة وَأَفْرَدُوهُ، وَأَوَّلُهُمُ الشَّافِعِيُّ ثُمَّ تَلَاهُ مِنْ أَصْحَابِنَا إِلْكِيَا الْهَرَّاسِيُّ وَمِنَ الْحَنَفِيَّةِ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيُّ وَمِنَ الْمَالِكِيَّةِ الْقَاضِي إِسْمَاعِيلُ وَبَكْرُ بْنُ الْعَلَاءِ الْقُشَيْرِيُّ وَابْنُ بُكَيْرٍ وَمَكِّيٌّ وَابْنُ الْعَرَبِيِّ وَابْنُ الفرس وَمِنَ الْحَنَابِلَةِ الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى الْكَبِيرُ.
ثُمَّ قِيلَ: إِنَّ آيَاتِ الْأَحْكَامِ خَمْسُمِائَةِ آيَةٍ وَهَذَا ذَكَرَهُ الْغَزَالِيُّ وَغَيْرُهُ وَتَبِعَهُمُ الرَّازِيُّ وَلَعَلَّ مُرَادَهُمُ الْمُصَرَّحُ بِهِ فَإِنَّ آيَاتِ الْقَصَصِ وَالْأَمْثَالِ وَغَيْرِهَا يُسْتَنْبَطُ مِنْهَا كَثِيرٌ.
مِنَ الْأَحْكَامِ وَمَنْ أَرَادَ الْوُقُوفَ عَلَى ذَلِكَ فليطالع كتاب الإمام الشيخ عِزِّ الدِّينِ بْنِ عَبْدِ السَّلَامِ.
ثُمَّ هُوَ قِسْمَانِ:
أَحَدُهُمَا: مَا صَرَّحَ بِهِ فِي الْأَحْكَامِ؛ وَهُوَ كَثِيرٌ وَسُورَةُ الْبَقَرَةِ وَالنِّسَاءِ وَالْمَائِدَةِ وَالْأَنْعَامِ مُشْتَمِلَةٌ عَلَى كَثِيرٍ مِنْ ذَلِكَ وَالثَّانِي: مَا يؤخذ بطريق الاستنباط. ثم هو على قسمين: أَحَدُهُمَا: مَا يُسْتَنْبَطُ مِنْ غَيْرِ ضَمِيمَةٍ إِلَى آيَةٍ أُخْرَى كَاسْتِنْبَاطِ الشَّافِعِيِّ تَحْرِيمَ الِاسْتِمْنَاءِ بِالْيَدِ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ ما ملكت أيمانهم} إِلَى قَوْلِهِ: {فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هم العادون} وَاسْتِنْبَاطِ صِحَّةِ أَنْكِحَةِ الْكُفَّارِ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {امرأت فرعون} {وامرأته حمالة الحطب} وَنَحْوِهِ.
وَاسْتِنْبَاطِهِ عِتْقَ الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ بِمُجَرَّدِ الْمِلْكِ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يتخذ ولدا إن إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتي الرحمن عبدا} فَجَعَلَ الْعُبُودِيَّةَ مُنَافِيَةً لِلْوِلَادَةِ حَيْثُ ذُكِرَتْ فِي مُقَابِلَتِهَا فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُمَا لَا يَجْتَمِعَانِ.
وَاسْتِنْبَاطِهِ حُجِّيَّةَ الْإِجْمَاعِ مِنْ قَوْلِهِ: {وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ المؤمنين} وَاسْتِنْبَاطِهِ صِحَّةَ صَوْمِ الْجُنُبِ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {فالآن باشروهن} إِلَى قَوْلِهِ: {حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأسود من الفجر} فدل على جواز الو قاع فِي جَمِيعِ اللَّيْلِ، وَيَلْزَمُ مِنْهُ تَأْخِيرُ الْغُسْلِ إِلَى النَّهَارِ؛ وَإِلَّا لَوَجَبَ أَنْ يَحْرُمَ الْوَطْءُ إلى آخِرِ جُزْءٍ مِنَ اللَّيْلِ بِمِقْدَارِ مَا يَقَعُ الغسل فيه.
وَالثَّانِي: مَا يُسْتَنْبَطُ مَعَ ضَمِيمَةِ آيَةٍ أُخْرَى، كَاسْتِنْبَاطِ عَلِيٍّ وَابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ أَقَلَّ الْحَمْلِ سِتَّةُ أَشْهُرٍ مِنْ قَوْلِهِ تعالى: {وحمله وفصاله ثلاثون شهرا} مع قوله: {وفصاله في عامين}؛ وَعَلَيْهِ جَرَى الشَّافِعِيُّ وَاحْتَجَّ بِهَا أَبُو حَنِيفَةَ عَلَى أَنَّ أَكْثَرَ الرِّضَاعَ سَنَتَانِ وَنِصْفٌ ثَلَاثُونَ شَهْرًا.
وَوَجْهُهُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدَّرَ لِشَيْئَيْنِ مُدَّةً وَاحِدَةً فَانْصَرَفَتِ الْمُدَّةُ بِكَمَالِهَا إِلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، فَلَمَّا قَامَ النَّصُّ فِي أَحَدِهِمَا بقي الثاني على أصله، ومثل ذلك بالأجل الواحد للدينين، فَإِنَّهُ مَضْرُوبٌ بِكَمَالِهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، وَأَيْضًا فإنه لابد مِنِ اعْتِبَارِ مُدَّةٍ يَبْقَى فِيهَا الْإِنْسَانُ بِحَيْثُ يتغير الغذاء، فَاعْتُبِرَتْ مُدَّةً يَعْتَادُ الصَّبِيُّ فِيهَا غِذَاءً طَبِيعِيًّا غَيْرَ اللَّبَنِ، وَمُدَّةُ الْحَمْلِ قَصِيرَةٌ، فَقُدِّمَتِ الزِّيَادَةُ عَلَى الْحَوْلَيْنِ.
فَإِنْ قِيلَ: الْعَادَةُ الْغَالِبَةُ فِي مُدَّةِ الْحَمْلِ تِسْعَةُ أَشْهُرٍ، وَكَانَ الْمُنَاسِبُ فِي مقام الامتنان ذِكْرَ الْأَكْثَرِ الْمُعْتَادِ، لَا الْأَقَلِّ النَّادِرِ كَمَا فِي جَانِبِ الْفِصَالِ.
قُلْنَا: لِأَنَّ هَذِهِ الْمُدَّةَ أَقَلُّ مُدَّةِ الْحَمْلِ، وَلَمَّا كَانَ الْوَلَدُ لَا يَعِيشُ غَالِبًا إِذَا وُضِعَ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ، كَانَتْ مَشَقَّةُ الْحَمْلِ فِي هَذِهِ الْمُدَّةِ مَوْجُودَةً لَا مَحَالَةَ فِي حَقِّ كُلِّ مُخَاطَبٍ، فَكَانَ ذِكْرُهُ أَدْخَلَ فِي بَابِ الْمُنَاسَبَةِ، بِخِلَافِ الْفِصَالِ لِأَنَّهُ لَا حَدَّ لِجَانِبِ الْقِلَّةِ فِيهِ، بَلْ يَجُوزُ أَنْ يَعِيشَ الْوَلَدُ بِدُونِ ارْتِضَاعٍ مِنَ الْأُمِّ؛ وَلِهَذَا اعْتُبِرَ فِيهِ الْأَكْثَرُ، لِأَنَّهُ الْغَالِبُ، وَلِأَنَّهُ اخْتِيَارِيٌّ؛ كَأَنَّهُ قِيلَ: حَمَلَتْهُ سِتَّةَ أَشْهُرٍ لَا مَحَالَةَ إِنْ لَمْ تَحْمِلْهُ أَكْثَرَ.
وَمِثْلُهُ اسْتِنْبَاطُ الأصوليين أن تارك الأمر يستحق العقاب من قوله تعالى: {أفعصيت أمري} مَعَ قَوْلِهِ: {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ له نار جهنم}، وكذلك اسْتِنْبَاطُ بَعْضِ الْمُتَكَلِّمِينَ أَنَّ اللَّهَ خَالِقٌ لِأَفْعَالِ الْعِبَادِ، مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أن يشاء الله} مَعَ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ ويختار} فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ، وَأَنَّ مَشِيئَةَ الْعَبْدِ لَا تَحْصُلُ إِلَّا إِذَا شَاءَ اللَّهُ أَنْتَجَ أَنَّهُ تَعَالَى خَالِقٌ لِمَشِيئَةِ الْعَبْدِ.
فائدة: في ضرورة معرفة المفسر قواعد أصول الفقه ولا بد مِنْ مَعْرِفَةِ قَوَاعِدِ أُصُولِ الْفِقْهِ فَإِنَّهُ مِنْ أَعْظَمِ الطُّرُقِ فِي اسْتِثْمَارِ الْأَحْكَامِ مِنَ الْآيَاتِ.
فَيُسْتَفَادُ عُمُومُ النَّكِرَةِ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ مِنْ قوله تعالى: {ولا يظلم ربك أحدا} وَقَوْلِهِ: {فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ من قرة أعين}.
وَفِي الِاسْتِفْهَامِ مِنْ قَوْلِهِ: {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سميا}.
وَفِي الشَّرْطِ مِنْ قَوْلِهِ: {فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ البشر أحدا}، {وإن أحد من المشركين استجارك}.
وَفِي النَّهْيِ مِنْ قَوْلِهِ: {وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أحد}.
وفي سياق الإثبات بعموم القلة المقتضى من قوله: {علمت نفس ما أحضرت} وقوله: {ونفس وما سواها}.
وَإِذَا أُضِيفَ إِلَيْهَا (كُلٌّ) نَحْوُ: {وَجَاءَتْ كُلُّ نفس} وَيُسْتَفَادُ عُمُومُ الْمُفْرَدِ الْمُحَلَّى بِاللَّامِ مِنْ قَوْلِهِ: {إن الإنسان لفي خسر} {وسيعلم الكفار} {ويقول الكافر}.
وَعُمُومُ الْمُفْرَدِ الْمُضَافِ مِنْ قَوْلِهِ: {وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ ربها وكتبه} وقوله: {هذا كتابنا ينطق عليكم بالحق}؛والمراد جميع الكتب التي اقتضت فِيهَا أَعْمَالُهُمْ.
وَعُمُومُ الْجَمْعِ الْمُحَلَّى بِاللَّامِ فِي قوله: {وإذا الرسل أقتت} وقوله: {وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم}، وقوله: {إن المسلمين والمسلمات} إِلَى آخِرِهَا.
وَالشَّرْطُ مِنْ قَوْلِهِ: {وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا يَخَافُ ظُلْمًا ولا هضما} وَقَوْلِهِ: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ} وَقَوْلِهِ: {وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ} {أينما تكونوا يدرككم الموت} وقوله: {وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره}، وَقَوْلِهِ: {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم} وقوله: {وإذا وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلَامٌ عليكم}.
هَذَا إِذَا كَانَ الْجَوَابُ طَلَبًا مِثْلَ هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ فَإِنْ كَانَ مَاضِيًا لَمْ يَلْزِمِ الْعُمُومُ.
وَكَقَوْلِهِ: {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا} وَ: {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ الله} وَإِنْ كَانَ مُسْتَقْبَلًا فَأَكْثَرُ مَوَارِدِهِ لِلْعُمُومِ كَقَوْلِهِ: {وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون} وقوله: {وإذا مروا بهم يتغامزون} وقوله: {نهم كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا الله يستكبرون}.
وَقَدْ لَا يَعُمُّ كَقَوْلِهِ: {وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أجسامهم}.
وَيُسْتَفَادُ كَوْنُ الْأَمْرِ الْمُطْلَقِ لِلْوُجُوبِ مِنْ ذَمِّهِ لِمَنْ خَالَفَهُ وَتَسْمِيَتِهِ إِيَّاهُ عَاصِيًا، وَتَرْتِيبِهِ الْعِقَابَ الْعَاجِلَ أَوِ الْآجِلَ عَلَى فِعْلِهِ.
وَيُسْتَفَادُ كَوْنُ النهي مِنْ ذَمِّهِ لِمَنِ ارْتَكَبَهُ وَتَسْمِيَتِهِ عَاصِيًا، وَتَرْتِيبِهِ العقاب على فعله.
ويستفاد الوجوب بالأمر بالتصريح بِالْإِيجَابِ، وَالْفَرْضِ، وَالْكَتْبِ، وَلَفْظَةِ (عَلَى)وَلَفْظَةِ (حَقٌّ عَلَى الْعِبَادِ) وَ: (عَلَى الْمُؤْمِنِينَ) وَتَرْتِيبِ الذَّمِّ وَالْعِقَابِ عَلَى التَّرْكِ، وَإِحْبَاطِ الْعَمَلِ بِالتَّرْكِ وَغَيْرِ ذَلِكَ.
وَيُسْتَفَادُ التَّحْرِيمُ مِنَ النَّهْيِ وَالتَّصْرِيحِ بِالتَّحْرِيمِ، وَالْحَظْرِ وَالْوَعِيدِ عَلَى الْفِعْلِ، وَذَمِّ الْفَاعِلِ وَإِيجَابِ الْكَفَّارَةِ، وَقَوْلِهِ (لَا يَنْبَغِي) فَإِنَّهَا فِي لُغَةِ الْقُرْآنِ وَالرَّسُولِ لِلْمَنْعِ شَرْعًا أَوْ عَقْلًا، وَلَفْظَةِ (مَا كَانَ لَهُمْ كَذَا وَكَذَا) وَ: (لَمْ يَكُنْ لَهُمْ) وَتَرْتِيبِ الْحَدِّ عَلَى الْفِعْلِ، وَلَفْظَةِ (لَا يَحِلُّ) وَ: (لَا يَصْلُحُ) ووصف الفعل بأنه فساد، أو من تزيين الشيطان وعمله، وأن الله لَا يُحِبُّهُ، وَأَنَّهُ لَا يَرْضَاهُ لِعِبَادِهِ، وَلَا يُزَكِّي فَاعِلَهُ، وَلَا يُكَلِّمُهُ، وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ.
وَيُسْتَفَادُ الْإِبَاحَةُ مِنَ الْإِذْنِ وَالتَّخْيِيرِ، وَالْأَمْرِ بَعْدَ الْحَظْرِ، وَنَفْيِ الْجُنَاحِ وَالْحَرَجِ وَالْإِثْمِ وَالْمُؤَاخَذَةِ، وَالْإِخْبَارِ بِأَنَّهُ يَعْفُو عَنْهُ، وَبِالْإِقْرَارِ عَلَى فِعْلِهِ فِي زَمَنِ الْوَحْيِ، وَبِالْإِنْكَارِ عَلَى مَنْ حرم الشيء، والإخبار بأنه خلق لَنَا وَجَعَلَهُ لَنَا وَامْتِنَانِهِ عَلَيْنَا بِهِ، وَإِخْبَارِهِ عَنْ فِعْلِ مَنْ قَبْلَنَا لَهُ غَيْرَ ذَامٍّ لَهُمْ عَلَيْهِ، فَإِنِ اقْتَرَنَ بِإِخْبَارِهِ مَدْحٌ دَلَّ عَلَى رُجْحَانِهِ اسْتِحْبَابًا أَوْ وُجُوبًا.

.فَصْلٌ:

وَيُسْتَفَادُ التَّعْلِيلُ مِنْ إِضَافَةِ الْحُكْمِ إِلَى الْوَصْفِ الْمُنَاسِبِ، كقوله تعالى: {والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما}، {الزانية والزاني فاجلدوا}، فَكَمَا يُفْهَمُ مِنْهُ وُجُوبُ الْجَلْدِ وَالْقَطْعِ يُفْهَمُ مِنْهُ كَوْنُ السَّرِقَةِ وَالزِّنَا عِلَّةً، وَأَنَّ الْوُجُوبَ كَانَ لِأَجْلِهِمَا مَعَ أَنَّ اللَّفْظَ مِنْ حَيْثُ النطق لم يتعرض لذلك؛ بل يَتَبَادَرُ إِلَى الْفَهْمِ مِنْ فَحْوَى الْكَلَامِ.
وَكَذَلِكَ قوله تعالى: {إن الأبرار لفي نعيم} أي: لبرهم، {وإن الفجار لفي جحيم} أَيْ: لِفُجُورِهِمْ وَكَذَا كُلُّ كَلَامٍ خَرَجَ مَخْرَجَ الذَّمِّ وَالْمَدْحِ فِي حَقِّ الْعَاصِي وَالْمُطِيعِ، وَقَدْ يُسَمَّى هَذَا فِي عِلْمِ الْأُصُولِ لَحْنَ الْخِطَابِ.

.فَصْلٌ:

وَكُلُّ فِعْلٍ عَظَّمَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ، أَوْ مَدَحَهُ أَوْ مَدَحَ فَاعِلَهُ لِأَجْلِهِ، أَوْ أَحَبَّهُ، أَوْ أَحَبَّ فَاعِلَهُ، أَوْ رَضِيَ بِهِ أَوْ رَضِيَ عَنْ فَاعِلِهِ، أَوْ وَصَفَهُ بِالطَّيِّبِ أَوِ الْبَرَكَةِ أَوِ الْحَسَنِ، أَوْ نَصَبَهُ سَبَبًا لِمَحَبَّتِهِ، أَوْ لِثَوَابٍ عَاجِلٍ أَوْ آجِلٍ، أَوْ نَصَبَهُ سَبَبًا لِذِكْرِهِ لِعَبْدِهِ، أَوْ لِشُكْرِهِ لَهُ، أَوْ لهدايته إياه، أو لإرضاء فَاعِلَهُ، أَوْ لِمَغْفِرَةِ ذَنْبِهِ وَتَكْفِيرِ سَيِّئَاتِهِ، أَوْ لِقَبُولِهِ، أَوْ لِنُصْرَةِ فَاعِلِهِ، أَوْ بِشَارَةِ فَاعِلِهِ أَوْ وَصْفِ فَاعِلِهِ بِالطَّيِّبِ، أَوْ وَصْفِ الْفِعْلِ بِكَوْنِهِ مَعْرُوفًا، أَوْ نَفْيِ الْحُزْنِ وَالْخَوْفِ عَنْ فَاعِلِهِ، أَوْ وَعْدِهِ بِالْأَمْنِ، أَوْ نَصْبِهِ سَبَبًا لِوِلَايَتِهِ، أَوْ أَخْبَرَ عَنْ دُعَاءِ الرَّسُولِ بِحُصُولِهِ، أَوْ وَصْفِهِ بِكَوْنِهِ قُرْبَةً، أَوْ أَقْسَمَ بِهِ وَبِفَاعِلِهِ؛ كَالْقَسَمِ بِخَيْلِ الْمُجَاهِدِينَ وَإِغَارَتِهَا، فَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى مَشْرُوعِيَّتِهِ الْمُشْتَرَكَةِ بَيْنَ الْوُجُوبِ وَالنَّدْبِ.

.فَصْلٌ:

وَكُلُّ فِعْلٍ طَلَبَ الشَّرْعُ تَرْكَهُ، أَوْ ذَمَّ فاعله، عَتَبَ عَلَيْهِ أَوْ لَعَنَهُ، أَوْ مَقَتَ فَاعِلَهُ، أَوْ نَفَى مَحَبَّتَهُ إِيَّاهُ أَوْ مَحَبَّةَ فَاعِلِهِ، أَوْ نَفَى الرِّضَا بِهِ أَوِ الرِّضَا عَنْ فَاعِلِهِ، أَوْ شَبَّهَ فَاعِلَهُ بِالْبَهَائِمِ أَوْ بِالشَّيَاطِينِ، أَوْ جَعَلَهُ مَانِعًا مِنَ الْهُدَى أَوْ مِنَ الْقَبُولِ، أَوْ وَصَفَهُ بِسُوءٍ أَوْ كَرَاهَةٍ أَوِ اسْتَعَاذَ الْأَنْبِيَاءُ مِنْهُ، أَوْ أَبْغَضُوهُ، أَوْ جُعِلَ سَبَبًا لِنَفْيِ الْفَلَاحِ، أَوْ لِعَذَابٍ عَاجِلٍ أَوْ آجِلٍ، أَوْ لِذَمٍّ أَوْ لَوْمٍ، أَوْ ضَلَالَةٍ أَوْ مَعْصِيَةٍ، أَوْ وَصْفٍ بِخُبْثٍ أَوْ رِجْسٍ أَوْ نَجِسٍ، أَوْ بِكَوْنِهِ فِسْقًا أَوْ إِثْمًا، أو سببا لإثم أو رجس أَوْ غَضَبٍ، أَوْ زَوَالِ نِعْمَةٍ، أَوْ حُلُولِ نِقْمَةٍ، أَوْ حَدٍّ مِنَ الْحُدُودِ أَوْ قَسْوَةٍ أَوْ خِزْيٍ أَوِ امْتِهَانِ نَفْسٍ، أَوْ لِعَدَاوَةِ اللَّهِ وَمُحَارَبَتِهِ وَالِاسْتِهْزَاءِ بِهِ، أَوْ سُخْرِيَّتِهِ، أَوْ جَعَلَهُ الرَّبُّ سَبَبًا لِنِسْيَانِهِ لِفَاعِلِهِ، أَوْ وَصَفَ نَفْسَهُ بِالصَّبْرِ عَلَيْهِ، أَوْ بِالْحِلْمِ أَوْ بِالصَّفْحِ عَنْهُ، أَوْ دَعَا إِلَى التَّوْبَةِ مِنْهُ، أَوْ وَصَفَ فَاعِلَهُ بِخُبْثٍ أَوِ احْتِقَارٍ، أَوْ نَسَبَهُ إِلَى عَمَلِ الشَّيْطَانِ وَتَزْيِينِهِ، أَوْ تَوَلِّي الشَّيْطَانِ لِفَاعِلِهِ، أَوْ وَصْفٍ بِصِفَةِ ذَمٍّ؛ مِثْلِ كَوْنِهِ ظُلْمًا أَوْ بَغْيًا أَوْ عُدْوَانًا أَوْ إِثْمًا، أَوْ تَبَرَّأَ الْأَنْبِيَاءُ مِنْهُ أَوْ مِنْ فَاعِلِهِ، أَوْ شَكَوْا إِلَى اللَّهِ مِنْ فَاعِلِهِ، أَوْ جَاهَرُوا فَاعِلَهُ بِالْعَدَاوَةِ، أَوْ نُصِبَ سَبَبًا لِخَيْبَةِ فَاعِلِهِ عَاجِلًا أَوْ آجِلًا، أَوْ تَرَتَّبَ عَلَيْهِ حِرْمَانٌ مِنَ الْجَنَّةِ، أَوْ وُصِفَ فَاعِلُهُ بِأَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ، أَوْ أَعْلَمَ فَاعِلَهُ بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، أَوْ حَمَّلَ فَاعِلَهُ إِثْمَ غَيْرِهِ، أَوْ قِيلَ فِيهِ (لَا ينبغي هذا) و: (لَا يَصْلُحُ) أَوْ أُمِرَ بِالتَّقْوَى عِنْدَ السُّؤَالِ عَنْهُ، أَوْ أُمِرَ بِفِعْلٍ يُضَادُّهُ، أَوْ هُجِرَ فاعله، أو يلاعن فِي الْآخِرَةِ، أَوْ يَتَبَرَّأُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ، أَوْ وُصِفَ صَاحِبُهُ بِالضَّلَالَةِ، أَوْ أَنَّهُ لَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ، أَوْ أَنَّهُ لَيْسَ مِنَ الرَّسُولِ وَأَصْحَابِهِ، أَوْ قُرِنَ بِمُحَرَّمٍ ظَاهِرِ التَّحْرِيمِ فِي الْحُكْمِ، أَوْ أَخْبَرَ عَنْهُمَا بِخَبَرٍ وَاحِدٍ، أَوْ جَعَلَ اجْتِنَابَهُ سَبَبًا لِلْفَلَاحِ، أَوْ جَعَلَهُ سَبَبًا لِإِيقَاعِ الْعَدَاوَةِ وَالْبَغْضَاءِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ، أَوْ قِيلَ لِفَاعِلِهِ: (هَلْ أَنْتَ مُنْتَهٍ) أَوْ نَهَى الْأَنْبِيَاءُ عَنِ الدُّعَاءِ لِفَاعِلِهِ، أَوْ رَتَّبَ عَلَيْهِ إِبْعَادًا وَطَرْدًا، أَوْ لَفْظَةِ (قُتِلَ مَنْ فَعَلَهُ) أَوْ (قَاتَلَ اللَّهُ مَنْ فَعَلَهُ) أَوْ أَخْبَرَ أَنَّ فَاعِلَهُ لَا يُكَلِّمُهُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِ وَلَا يُزَكِّيهِ، أَوْ أَنَّ اللَّهَ لَا يُصْلِحُ عَمَلَهُ، أَوْ لَا يَهْدِي كَيْدَهُ، أَوْ أَنَّ فَاعِلَهُ لَا يُفْلِحُ، أو لا يكون في الْقِيَامَةِ مِنَ الشُّهَدَاءِ، وَلَا مِنَ الشُّفَعَاءِ، أَوْ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَغَارُ مِنْ فِعْلِهِ، أَوْ نَبَّهَ عَلَى وُجُودِ الْمَفْسَدَةِ فِيهِ، أَوْ أَخْبَرَ أَنَّهُ لَا يَقْبَلُ مِنْ فَاعِلِهِ صَرْفًا وَلَا عَدْلًا، أَوْ أَخْبَرَ أَنَّ مَنْ فَعَلَهُ قُيِّضَ لَهُ الشَّيْطَانُ فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ، أَوْ جَعَلَ الْفِعْلَ سَبَبًا لِإِزَاغَةِ اللَّهِ قَلْبَ فَاعِلِهِ، أَوْ صَرْفِهِ عَنْ آيَاتِ اللَّهِ وَفَهْمِ الْآيَةِ، وَسُؤَالُهُ سبحانه عن علة الفعل نَحْوُ: {لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمن}، {لم تلبسون الحق بالباطل}، {ما منعك أن تسجد}، {لم تقولون ما لا تفعلون}، مَا لَمْ يَقْتَرِنْ بِهِ جَوَابٌ عَنِ السُّؤَالِ؛ فإذا قرن بِهِ جَوَابٌ كَانَ بِحَسْبِ جَوَابِهِ.
فَهَذَا وَنَحْوُهُ يَدُلُّ عَلَى الْمَنْعِ مِنَ الْفِعْلِ وَدَلَالَتُهُ عَلَى التَّحْرِيمِ أَطْرَدُ مِنْ دَلَالَتِهِ عَلَى مُجَرَّدِ الْكَرَاهَةِ.
وأما لفظ (يَكْرَهُهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ)، وَقَوْلُهُ: {عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا} فَأَكْثَرُ مَا يُسْتَعْمَلُ فِي الْمُحَرَّمِ؛ وَقَدْ يُسْتَعْمَلُ فِي كَرَاهَةِ التَّنْزِيهِ.
وَأَمَّا لَفْظُ (أَمَّا أَنَا فَلَا أَفْعَلُ) فَالْمُحَقَّقُ فِيهِ الْكَرَاهَةُ كَقَوْلِهِ: (أَمَّا أنا فلا آكل متكئا)، وأما لفظ (مَا يَكُونُ لَكَ) وَ: (مَا يَكُونُ لَنَا) فَاطَّرَدَ اسْتِعْمَالُهَا فِي الْمُحَرَّمِ، نَحْوُ: {فَمَا يَكُونُ لك أن تتكبر فيها}، {وما يكون لنا أن نعود فيها}، {مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لي بحق}.