فصل: الثَّالِثُ:المحافظة على الفواصل لحسن النظم والتئامه:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البرهان في علوم القرآن (نسخة منقحة)



.الثَّالِثُ:المحافظة على الفواصل لحسن النظم والتئامه:

ذَكَرَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي كَشَّافِهِ الْقَدِيمِ أَنَّهُ لَا تَحْسُنُ الْمُحَافَظَةُ عَلَى الْفَوَاصِلِ لِمُجَرَّدِهَا إِلَّا مَعَ بَقَاءِ الْمَعَانِي عَلَى سَدَادِهَا عَلَى النَّهْجِ الَّذِي يَقْتَضِيهِ حُسْنُ النَّظْمِ وَالْتِئَامِهِ كَمَا لَا يحسن تخير الألفاظ المونقة في السمع السلسلة عَلَى اللِّسَانِ إِلَّا مَعَ مَجِيئِهَا مُنْقَادَةً لِلْمَعَانِي الصحيحة المنتظمة فأما أن تهمل المعاني ويهتم بتحسين اللفظ وحده غير منظور فيه إلى مؤاده عَلَى بَالٍ فَلَيْسَ مِنَ الْبَلَاغَةِ فِي فَتِيلٍ أو نقير ومع ذلك يكون قوله: {وبالآخرة هم يوقنون} وَقوله: {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} لَا يَتَأَتَّى فِيهِ تَرْكُ رِعَايَةِ التَّنَاسُبِ فِي الْعَطْفِ بَيْنَ الْجُمَلِ الْفِعْلِيَّةِ إِيثَارًا لِلْفَاصِلَةِ لِأَنَّ ذَلِكَ أَمْرٌ لَفْظِيٌّ لَا طَائِلَ تَحْتَهُ وَإِنَّمَا عُدِلَ إِلَى هَذَا لقصد الاختصاص.

.الرَّابِعُ: تقسيم الفواصل باعتبار المتماثل والمتقارب في الحروف:

أَنَّ الْفَوَاصِلَ تَنْقَسِمُ إِلَى مَا تَمَاثَلَتْ حُرُوفُهُ فِي الْمَقَاطِعِ وَهَذَا يَكُونُ فِي السَّجْعِ وَإِلَى مَا تَقَارَبَتْ حُرُوفُهُ فِي الْمَقَاطِعِ وَلَمْ تَتَمَاثَلْ وَهَذَا لَا يَكُونُ سَجْعًا وَلَا يَخْلُو كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ هَذَيْنِ الْقِسْمَيْنِ أَعْنِي الْمُتَمَاثِلَ والمتقارب من أن يَأْتِي طَوْعًا سَهْلًا تَابِعًا لِلْمَعَانِي أَوْ مُتَكَلَّفًا يَتْبَعُهُ الْمَعْنَى.
فَالْقِسْمُ الْأَوَّلُ هُوَ الْمَحْمُودُ الدَّالُّ عَلَى الثَّقَافَةِ وَحُسْنِ الْبَيَانِ وَالثَّانِي هُوَ الْمَذْمُومُ فَأَمَّا الْقُرْآنُ فَلَمْ يَرِدْ فِيهِ إِلَّا الْقِسْمُ الْأَوَّلُ لِعُلُوِّهِ فِي الْفَصَاحَةِ.
وَقَدْ وَرَدَتْ فَوَاصِلُهُ متماثلة ومتقاربة:
مِثَالُ الْمُتَمَاثِلَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى {وَالطُّورِ وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ}.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى {طه مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى تَنْزِيلًا مِمَّنْ خلق الأرض والسماوات العلى الرحمن على العرش استوى}.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى {وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا فَالْمُورِيَاتِ قَدْحًا فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحًا فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعًا فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعًا}.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى {وَالْفَجْرِ وَلَيَالٍ عَشْرٍ وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ والليل إذا يسر} إِلَى آخِرِهِ وَحُذِفَتِ الْيَاءُ مَنْ {يَسْرِ} طَلَبًا لِلْمُوَافَقَةِ فِي الْفَوَاصِلِ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وانشق الْقَمَرِ} وَجَمِيعُ هَذِهِ السُّورَةِ عَلَى الِازْدِوَاجِ.
وَقَوْلُهُ تعالى: {فلا أقسم بالخنس الجوار الْكُنَّسِ وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ}.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى {فَلَا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ وَاللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طبق} وَقَوْلُهُ تَعَالَى {فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ وَأَمَّا السَّائِلَ فلا تنهر}.
وقوله تعالى {أمرنا مترفيها ففسقوا فيها}.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى {مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ وإن لك لأجرا غير ممنون}.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى {فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ في الغي ثم لا يقصرون}.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى {كَلَّا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ وَقِيلَ من راق} الآية.
وقوله تعالى {لنخرجنك يا شعيب وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ في ملتنا}.
وَمِثَالُ الْمُتَقَارِبِ فِي الْحُرُوفِ قَوْلُهُ تَعَالَى {الرَّحْمَنِ الرحيم مالك يوم الدين}.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى {ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ بَلْ عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقَالَ الكافرون هذا شيء عجيب}.
وَهَذَا لَا يُسَمَّى سَجْعًا قَطْعًا عِنْدَ الْقَائِلِينَ بِإِطْلَاقِ السَّجْعِ فِي الْقُرْآنِ لِأَنَّ السَّجْعَ مَا تَمَاثَلَتْ حُرُوفُهُ.
إِذَا عَلِمْتَ هَذَا فَاعْلَمْ أَنَّ فَوَاصِلَ الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ لَا تَخْرُجُ عَنْ هَذَيْنِ الْقِسْمَيْنِ بَلْ تَنْحَصِرُ فِي الْمُتَمَاثِلَةِ وَالْمُتَقَارِبَةِ وَبِهَذَا يَتَرَجَّحُ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ عَلَى مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ فِي عَدِّ الْفَاتِحَةِ سَبْعِ آيَاتٍ مَعَ الْبَسْمَلَةِ وَذَلِكَ لِأَنَّ الشَّافِعِيَّ الْمُثْبِتَ لَهَا فِي الْقُرْآنِ قال: {صراط الذين} إلخ السورة آية وَاحِدَةٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ لَمَّا أَسْقَطَ الْبَسْمَلَةَ مِنَ الْفَاتِحَةِ قَالَ: {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} آيَةٌ وَ: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ} آيَةٌ. وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ أَوْلَى لِأَنَّ فَاصِلَةَ قَوْلِهِ: {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} لَا تُشَابِهَ فَاصِلَةَ الْآيَاتِ الْمُتَقَدِّمَةِ وَرِعَايَةُ التَّشَابُهِ فِي الْفَوَاصِلِ لَازِمٌ وَقَوْلُهُ: {أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} لَيْسَ مِنَ الْقِسْمَيْنِ فَامْتَنَعَ جَعْلُهُ مِنَ الْمَقَاطِعِ وَقَدِ اتَّفَقَ الْجَمِيعُ عَلَى أَنَّ الْفَاتِحَةَ سَبْعُ آيات لكن الخلاف في كيفية العدد.

.الخامس: تقسيم الفواصل باعتبار المتوازي والمتوازن والمطرف:

قسم البديعيون السجع والفواصل أَيْضًا إِلَى مُتَوَازٍ وَمُطَرَّفٍ وَمُتَوَازِنٍ وَأَشْرَفُهَا الْمُتَوَازِي وَهُوَ أَنْ تَتَّفِقَ الْكَلِمَتَانِ فِي الْوَزْنِ وَحُرُوفِ السَّجْعِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فِيهَا سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ وَأَكْوَابٌ موضوعة} وَقَوْلِهِ: {وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَرَسُولًا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ}.
وَالْمُطَرَّفُ أَنْ يَتَّفِقَا فِي حُرُوفِ السَّجْعِ لَا فِي الْوَزْنِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى {مَا لَكُمْ لَا ترجون لله وقارا وقد خلقكم أطوارا}.
وَالْمُتَوَازِنُ أَنْ يُرَاعَى فِي مَقَاطِعِ الْكَلَامِ الْوَزْنُ فَقَطْ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَنَمَارِقُ مَصْفُوفَةٌ وَزَرَابِيُّ مَبْثُوثَةٌ} وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَآتَيْنَاهُمَا الْكِتَابَ الْمُسْتَبِينَ وَهَدَيْنَاهُمَا الصِّرَاطَ المستقيم} فلفظ الكتاب والصراط متوازنان ولفظ المستبين والمستقيم مُتَوَازِنَانِ.
وَقوله: {فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلًا إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا وَنَرَاهُ قَرِيبًا يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاءُ كَالْمُهْلِ وتكون الجبال كالعهن}.
وَقَوْلِهِ تَعَالَى {كَلَّا إِنَّهَا لَظَى نَزَّاعَةً لِلشَّوَى تدعو من أدبر وتولى وجمع فأوعى}.
وَقوله: {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى} إِلَى آخِرِهَا.
وَقوله: {وَالضُّحَى وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وما قل} إلى آخرها.
وقد تكرر في سورة حمعسق فِي قَوْلِهِ تَعَالَى {وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ من بعد ما استجيب له} إِلَى آخِرِ الْآيَاتِ السَّبْعِ فَجَمَعَ فِي فَوَاصِلِهَا بين شديد وقريب وبعيد وعزيز ونصيب وأليم وكبير عَلَى هَذَا التَّرْتِيبِ وَهُوَ فِي الْقُرْآنِ كَثِيرٌ وَفِي الْمُفَصَّلِ خَاصَّةً فِي قِصَارِهِ.
وَمِنْهُمْ مَنْ يَذْكُرُ بَدَلَهُ التَّرْصِيعَ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْمُتَقَدِّمُ مِنَ الْفِقْرَتَيْنِ مُؤَلَّفًا مِنْ كَلِمَاتٍ مُخْتَلِفَةٍ وَالثَّانِي مُؤَلَّفًا مِنْ مِثْلِهَا فِي ثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ: وَهِيَ الوزن والتقفية وتقابل الْقَرَائِنِ قِيلَ وَلَمْ يَجِئْ هَذَا الْقِسْمُ فِي الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ لِمَا فِيهِ مِنَ التَّكَلُّفِ.
وَزَعَمَ بَعْضِهِمْ أَنَّ مِنْهُ قَوْلَهُ تَعَالَى {إِنَّ الْأَبْرَارَ لفي نعيم وإن الفجار لفي جحيم} وليس كذلك لورود لفظة إن ولفي كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الشَّطْرَيْنِ وَهُوَ مُخَالِفٌ لِشَرْطِ التَّرْصِيعِ إِذْ شَرَطُهُ اخْتِلَافُ الْكَلِمَاتِ فِي الشَّطْرَيْنِ جَمِيعًا.
وَقَالَ: بَعْضُ الْمَغَارِبَةِ سُورَةُ الْوَاقِعَةِ مِنْ نوع الترصيع وتتبع آخر آيها يَدُلُّ عَلَى أَنَّ فِيهَا مُوَازَنَةً.
قَالُوا وَأَحْسَنُ السَّجْعِ مَا تَسَاوَتْ قَرَائِنُهُ لِيَكُونَ شَبِيهًا بِالشِّعْرِ فَإِنَّ أَبْيَاتَهُ مُتَسَاوِيَةٌ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فِي سِدْرٍ مخضود وطلح منضود وظل ممدود} وَعِلَّتُهُ أَنَّ السَّمْعَ أَلِفَ الِانْتِهَاءَ إِلَى غَايَةٍ في الخفة بالأولى فإذا زيد عليها ثَقُلَ عَنْهُ الزَّائِدُ لِأَنَّهُ يَكُونُ عِنْدَ وُصُولِهَا إِلَى مِقْدَارِ الْأَوَّلِ كَمَنْ تَوَقَّعَ الظَّفَرَ بِمَقْصُودِهِ.
ثم ما طَالَتْ قَرِينَتُهُ الثَّانِيَةُ كَقوله: {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى ما ضل صاحبكم وما غوى} أَوِ الثَّالِثَةُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {خُذُوهُ فَغُلُّوهُ ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذرعها سبعون ذراعا فاسلكوه}.
وَهُوَ إِمَّا قَصِيرٌ كَقوله: {وَالْمُرْسَلَاتِ عُرْفًا فَالْعَاصِفَاتِ عصفا} أَوْ طَوِيلٌ كَقَوْلِهِ: {إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلًا وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيرًا لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَلَكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلًا وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ} أَوْ مُتَوَسِّطٌ كَقوله: {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ}.

.السَّادِسُ: ائتلاف الفواصل مع ما يدل عليه الكلام:

اعْلَمْ أَنَّ مِنَ الْمَوَاضِعِ الَّتِي يَتَأَكَّدُ فِيهَا إِيقَاعُ الْمُنَاسَبَةِ مَقَاطِعُ الْكَلَامِ وَأَوَاخِرُهُ وَإِيقَاعُ الشَّيْءِ فِيهَا بِمَا يُشَاكِلُهُ فَلَا بُدَّ أَنْ تَكُونَ مُنَاسِبَةً لِلْمَعْنَى الْمَذْكُورِ أَوَّلًا وَإِلَّا خَرَجَ بَعْضُ الْكَلَامِ عَنْ بَعْضٍ.
وَفَوَاصِلُ الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ لَا تَخْرُجُ عَنْ ذَلِكَ لَكِنَّ مِنْهُ مَا يَظْهَرُ وَمِنْهُ مَا يُسْتَخْرَجُ بِالتَّأَمُّلِ لِلَّبِيبِ.
وَهِيَ مُنْحَصِرَةٌ فِي أَرْبَعَةِ أَشْيَاءَ: التَّمْكِينِ وَالتَّوْشِيحِ وَالْإِيغَالِ وَالتَّصْدِيرِ.
وَالْفَرْقُ بَيْنَهَا أَنَّهُ أَنْ كَانَ تَقَدَّمَ لَفْظُهَا بِعَيْنِهِ فِي أَوَّلِ الْآيَةِ سُمِّيَ تَصْدِيرًا وَإِنْ كَانَ فِي أَثْنَاءِ الصَّدْرِ سُمِّي تَوْشِيحًا وَإِنْ أَفَادَتْ مَعْنًى زَائِدًا بَعْدَ تَمَامِ مَعْنَى الْكَلَامِ سُمِّيَ إِيغَالًا وَرُبَّمَا اخْتَلَطَ التَّوْشِيحُ بِالتَّصْدِيرِ لِكَوْنِ كُلٍّ مِنْهُمَا صَدْرُهُ يَدُلُّ عَلَى عَجُزِهِ وَالْفَرْقِ بَيْنَهُمَا أَنَّ دَلَالَةَ التَّصْدِيرِ لَفْظِيَّةٌ وَدَلَالَةَ التَّوْشِيحِ مَعْنَوِيَّةٌ.
الْأَوَّلُ: التَّمْكِينُ وَهُوَ أَنْ تُمَهِّدَ قَبْلَهَا تَمْهِيدًا تَأْتِي بِهِ الْفَاصِلَةُ مُمْكِنَةً فِي مَكَانِهَا مُسْتَقِرَّةً فِي قَرَارِهَا مُطْمَئِنَّةً فِي مَوْضِعِهَا غَيْرَ نَافِذَةٍ وَلَا قَلِقَةٍ مُتَعَلِّقًا مَعْنَاهَا بِمَعْنَى الْكَلَامِ كُلِّهِ تَعَلُّقًا تَامًّا بِحَيْثُ لَوْ طُرِحَتِ اخْتَلَّ الْمَعْنَى وَاضْطَرَبَ الْفَهْمُ.
وَهَذَا الْبَابُ يُطْلِعُكَ عَلَى سِرٍّ عَظِيمٍ مِنْ أَسْرَارِ الْقُرْآنِ فَاشْدُدْ يَدَيْكَ بِهِ وَمِنْ أَمْثِلَتِهِ قَوْلُهُ تَعَالَى {وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ القتال وكان الله قويا عزيزا}، فَإِنَّ الْكَلَامَ لَوِ اقْتَصَرَ فِيهِ عَلَى قَوْلِهِ: {وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ} لَأَوْهَمَ ذَلِكَ بَعْضَ الضُّعَفَاءِ مُوَافَقَةَ الْكُفَّارِ فِي اعْتِقَادِهِمْ أَنَّ الرِّيحَ الَّتِي حَدَثَتْ كَانَتْ سَبَبَ رُجُوعِهِمْ وَلَمْ يَبْلُغُوا مَا أَرَادُوا وَأَنَّ ذَلِكَ أَمْرٌ اتِّفَاقِيٌّ فَأَخْبَرَ سُبْحَانَهُ فِي فَاصِلَةِ الْآيَةِ عَنْ نَفْسِهِ بِالْقُوَّةِ وَالْعِزَّةِ لِيُعْلِمَ الْمُؤْمِنِينَ وَيَزِيدَهُمْ يَقِينًا وَإِيمَانًا عَلَى أَنَّهُ الْغَالِبُ الْمُمْتَنِعُ وَأَنَّ حِزْبَهُ كَذَلِكَ وَأَنَّ تِلْكَ الرِّيحَ الَّتِي هَبَّتْ لَيْسَتِ اتِّفَاقًا بَلْ هِيَ مِنْ إِرْسَالِهِ سُبْحَانَهُ عَلَى أَعْدَائِهِ كَعَادَتِهِ وَأَنَّهُ يُنَوِّعُ النَّصْرَ لِلْمُؤْمِنِينَ لِيَزِيدَهُمْ إِيمَانًا وَيَنْصُرَهُمْ مَرَّةً بِالْقِتَالِ كَيَوْمِ بَدْرٍ وَتَارَةً بِالرِّيحِ كَيَوْمِ الْأَحْزَابِ وَتَارَةً بِالرُّعْبِ كَبَنِي النَّضِيرِ وَطَوْرًا يَنْصُرُ عَلَيْهِمْ كَيَوْمِ أُحُدٍ تَعْرِيفًا لَهُمْ أَنَّ الْكَثْرَةَ لَا تُغْنِي شَيْئًا وَأَنَّ النَّصْرَ مِنْ عِنْدِهِ كَيَوْمِ حُنَيْنٍ.
وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى {أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ يمشون في مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ أَفَلَا يَسْمَعُونَ أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْمَاءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وأنفسهم أفلا يبصرون} فَانْظُرْ إِلَى قَوْلِهِ فِي صَدْرِ الْآيَةِ الَّتِي الْمَوْعِظَةُ فِيهَا سَمْعِيَّةٌ {أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ} وَلَمْ يَقُلْ أَوَلَمْ يَرَوْا وَقَالَ بَعْدَ ذِكْرِ الْمَوْعِظَةِ: {أفلا يسمعون} لأنه تَقَدَّمَ ذِكْرُ الْكِتَابِ وَهُوَ مَسْمُوعٌ أَوْ أَخْبَارُ القرون وهو كما يُسْمَعُ وَكَيْفَ قَالَ فِي صَدْرِ الْآيَةِ الَّتِي مَوْعِظَتِهَا مَرْئِيَّةٌ: {أَوْلَمَ يَرَوْا} وَقَالَ بَعْدَهَا أَفَلَا يُبْصِرُونَ لِأَنَّ سَوْقَ الْمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ مرئي.
ومنه قوله تعالى: {قالوا يا شعيب أَصَلَاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ إنك لأنت الحليم الرشيد} فَإِنَّهُ لَمَّا تَقَدَّمَ ذِكْرُ الْعِبَادَةِ وَالتَّصَرُّفِ فِي الْأَمْوَالِ كَانَ ذَلِكَ تَمْهِيدًا تَامًّا لِذِكْرِ الْحُلُمِ وَالرُّشْدِ لِأَنَّ الْحُلُمَ الَّذِي يَصِحُّ بِهِ التَّكْلِيفُ وَالرُّشْدُ حُسْنُ التَّصَرُّفِ فِي الْأَمْوَالِ فَكَانَ آخِرُ الْآيَةِ مُنَاسِبًا لِأَوَّلِهَا مُنَاسَبَةً مَعْنَوِيَّةً وَيُسَمِّيهِ بَعْضُهُمْ مُلَاءَمَةً.
وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير} فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ لَمَّا قَدَّمَ نَفْيَ إِدْرَاكِ الْأَبْصَارِ لَهُ عَطَفَ عَلَى ذَلِكَ قَوْلَهُ: {وَهُوَ اللَّطِيفُ} خِطَابًا لِلسَّامِعِ بِمَا يَفْهَمُ إِذِ الْعَادَةُ أَنَّ كُلَّ لَطِيفٍ لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ أَلَا تَرَى أَنَّ حَاسَّةَ الْبَصَرِ إِنَّمَا تُدْرِكُ اللَّوْنَ مِنْ كُلِّ مُتَلَوِّنٍ وَالْكَوْنَ مِنْ كُلِّ مُتَكَوِّنٍ فَإِدْرَاكُهَا إنما هو للمركبات دون المفردات ولذلك لَمَّا قَالَ {وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ} عَطَفَ عَلَيْهِ قَوْلَهُ الْخَبِيرُ مُخَصِّصًا لِذَاتِهِ سُبْحَانَهُ بِصِفَةِ الْكَمَالِ لِأَنَّهُ لَيْسَ كُلُّ مَنْ أَدْرَكَ شَيْئًا كَانَ خَبِيرًا بِذَلِكَ الشَّيْءِ لِأَنَّ الْمُدْرِكَ لِلشَّيْءِ قَدْ يدركه ليخبره ولما كان الأمر كذلك أَخْبَرَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَنَّهُ يُدْرِكُ كُلَّ شَيْءٍ مَعَ الْخِبْرَةِ بِهِ وَإِنَّمَا خَصَّ الْإِبْصَارَ بِإِدْرَاكِهِ لِيَزِيدَ فِي الْكَلَامِ ضَرْبًا مِنَ الْمَحَاسِنِ يُسَمَّى التَّعَطُّفَ وَلَوْ كَانَ الْكَلَامُ لَا تُبْصِرُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُبْصِرُ الْأَبْصَارَ لَمْ تَكُنْ لَفَظَتَا {اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} مُنَاسِبَتَيْنِ لِمَا قَبْلَهُمَا وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنَّ اللَّهَ لهو الغني الحميد} إلى قوله: {لرؤوف رحيم} إِنَّمَا فَصَّلَ الْأُولَى بِـ لَطِيفٌ خَبِيرٌ لِأَنَّ ذَلِكَ فِي مَوْضِعِ الرَّحْمَةِ لِخَلْقِهِ بِإِنْزَالِ الْغَيْثِ وَإِخْرَاجِ النَّبَاتِ مِنَ الْأَرْضِ وَلِأَنَّهُ خَبِيرٌ بِنَفْعِهِمْ وَإِنَّمَا فَصَّلَ الثَّانِيَةَ بِـ غَنِيٌّ حَمِيدٌ لِأَنَّهُ قَالَ: {لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} أَيْ لَا لِحَاجَةٍ بَلْ هُوَ غَنِيٌّ عَنْهُمَا جَوَادٌ بِهِمَا لِأَنَّهُ لَيْسَ غَنِيٌّ نَافِعًا غِنَاهُ إِلَّا إِذَا جَادَ بِهِ وَإِذَا جَادَ وَأَنْعَمَ حَمِدَهُ الْمُنْعِمُ عَلَيْهِ وَاسْتَحَقَّ عَلَيْهِ الْحَمْدَ فذكر الحمد عَلَى أَنَّهُ الْغَنِيُّ النَّافِعُ بِغِنَاه خَلْقَهُ وَإِنَّمَا فصل الثالثة بـ رؤوف رَحِيمٌ لِأَنَّهُ لَمَّا عَدَّدَ لِلنَّاسِ مَا أَنْعَمَ بِهِ عَلَيْهِمْ مِنْ تَسْخِيرِ مَا فِي الْأَرْضِ لَهُمْ وَإِجْرَاءِ الْفُلْكِ فِي الْبَحْرِ لَهُمْ وَتَسْيِيرِهِمْ فِي ذَلِكَ الْهَوْلِ الْعَظِيمِ وَجَعْلِهِ السَّمَاءَ فَوْقَهُمْ وَإِمْسَاكِهِ إِيَّاهَا عَنِ الْوُقُوعِ حَسُنَ خِتَامُهُ بِالرَّأْفَةِ وَالرَّحْمَةِ.
وَنَظِيرُ هَذِهِ الثَّلَاثِ فَوَاصِلَ مَعَ اخْتِلَافِهَا قَوْلُهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ} الْآيَاتِ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنَّ الله لهو الغني الحميد} فَقَالَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ لِيُنَبَّهَ عَلَى أَنَّ مَا لَهُ لَيْسَ لِحَاجَةٍ بَلْ هُوَ غَنِيٌّ عَنْهُ جَوَادٌ بِهِ وَإِذَا جَادَ بِهِ حَمِدَهُ الْمُنْعِمُ عليه إذ حميد كثير المحامد الْمُوجِبَةِ تَنْزِيهَهُ عَنِ الْحَاجَةِ وَالْبُخْلِ وَسَائِرِ النَّقَائِضِ فَيَكُونُ غَنِيًّا مُفَسَّرًا بِالْغِنَى الْمُطْلَقِ لَا يَحْتَاجُ فِيهِ لِتَقْدِيرِ غَنِيٌّ عَنْهُ.
وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ أَفَلَا تسمعون} لَمَّا كَانَ سُبْحَانَهُ هُوَ الْجَاعِلُ الْأَشْيَاءَ عَلَى الْحَقِيقَةِ وَأَضَافَ إِلَى نَفْسِهِ جَعْلَ اللَّيْلِ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ صَارَ اللَّيْلُ كَأَنَّهُ سَرْمَدٌ بِهَذَا التَّقْدِيرِ وَظَرْفُ اللَّيْلِ ظَرْفٌ مُظْلِمٌ لَا ينفذ فيه البصر لاسيما وَقَدْ أَضَافَ الْإِتْيَانَ بِالضِّيَاءِ الَّذِي تَنْفُذُ فِيهِ الْأَبْصَارُ إِلَى غَيْرِهِ وَغَيْرُهُ لَيْسَ بِفَاعِلٍ عَلَى الْحَقِيقَةِ فَصَارَ النَّهَارُ كَأَنَّهُ مَعْدُومٌ إِذْ نُسِبَ وُجُودُهُ إِلَى غَيْرِ مُوجِدٍ وَاللَّيْلُ كَأَنَّهُ لَا موجود سواه إذ جعل سَرْمَدًا مَنْسُوبًا إِلَيْهِ سُبْحَانَهُ فَاقْتَضَتِ الْبَلَاغَةُ أَنْ يَقُولَ {أَفَلَا تَسْمَعُونَ} لِمُنَاسَبَةِ مَا بَيْنَ السَّمَاعِ وَالظَّرْفِ اللَّيْلِيِّ الَّذِي يَصْلُحُ لِلِاسْتِمَاعِ وَلَا يَصْلُحُ لِلْإِبْصَارِ.
وَكَذَلِكَ قَالَ فِي الْآيَةِ الَّتِي تَلِيهَا: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلَا تُبْصِرُونَ} لِأَنَّهُ لَمَّا أَضَافَ جَعْلَ النَّهَارِ سَرْمَدًا إِلَيْهِ صَارَ النَّهَارُ كَأَنَّهُ سَرْمَدٌ وَهُوَ ظَرْفٌ مُضِيءٌ تُنَوِّرُ فِيهِ الْأَبْصَارُ وَأَضَافَ الْإِتْيَانُ بِاللَّيْلِ إِلَى غيره وغيره ليس بفاعل على الحقيقة فصار اللَّيْلُ كَأَنَّهُ مَعْدُومٌ إِذْ نُسِبَ وُجُودُهُ إِلَى غَيْرِ مُوجِدٍ وَالنَّهَارُ كَأَنَّهُ لَا مَوْجُودَ سِوَاهُ إِذْ جَعَلَ وَجُودَهُ سَرْمَدًا مَنْسُوبًا إِلَيْهِ فَاقْتَضَتِ الْبَلَاغَةُ أَنْ يَقُولَ {أَفَلَا تُبْصِرُونَ} إِذِ الظَّرْفُ مُضِيءٌ صَالِحٌ لِلْإِبْصَارِ وَهَذَا مِنْ دَقِيقِ الْمُنَاسَبَةِ الْمَعْنَوِيَّةِ.
وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْجَاثِيَةِ: {إِنَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ وَفِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِنْ دَابَّةٍ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يعقلون} فَإِنَّ الْبَلَاغَةَ تَقْتَضِي أَنْ تَكُونَ فَاصِلَةُ الْآيَةِ الْأَوْلَى لِلْمُؤْمِنِينَ لِأَنَّهُ سُبْحَانَهُ ذَكَرَ الْعَالَمَ بِجُمْلَتِهِ حَيْثُ قَالَ {السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} وَمَعْرِفَةُ الصَّانِعِ مِنَ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى أَنَّ الْمُخْتَرِعَ لَهُ قَادِرٌ عَلِيمٌ حَكِيمٌ وَإِنْ دَلَّ عَلَى وُجُودِ صَانِعٍ مُخْتَارٍ لِدَلَالَتِهَا عَلَى صِفَاتِهِ مُرَتَّبَةً عَلَى دَلَالَتِهَا عَلَى ذَاتِهِ فَلَا بُدَّ أَوَّلًا مِنَ التَّصْدِيقِ بِذَاتِهِ حَتَّى تَكُونَ هَذِهِ الْآيَاتُ دَالَّةً عَلَى صِفَاتِهِ لِتَقَدُّمِ الْمَوْصُوفِ وُجُودًا وَاعْتِقَادًا عَلَى الصِّفَاتِ.
وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ فِي الآية الثانية {لقوم يعقلون} فإن سر الإنسان وتدبر خلقة الحيوان أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنَ الْأَوَّلِ وَتَفَكُّرُهُ فِي ذَلِكَ مِمَّا يَزِيدُهُ يَقِينًا فِي مُعْتَقَدِهِ الْأَوَّلِ.
وَكَذَلِكَ مَعْرِفَةُ جُزْئِيَّاتِ الْعَالَمِ مِنِ اخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَإِنْزَالِ الرِّزْقِ مِنَ السَّمَاءِ وَإِحْيَاءِ الْأَرْضِ بَعْدَ مَوْتِهَا وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ يَقْتَضِي رَجَاحَةَ الْعَقْلِ وَرَصَانَتِهِ لِنَعْلَمَ أَنَّ مَنْ صَنَعَ هَذِهِ الْجُزْئِيَّاتِ هُوَ الَّذِي صَنَعَ الْعَالَمَ الْكُلِّيَّ الَّتِي هِيَ أَجْرَامُهُ وَعَوَارِضُ عَنْهُ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بَعْضُهَا صَنَعَ بَعْضًا فَقَدْ قَامَ الْبُرْهَانُ عَلَى أَنَّ لِلْعَالَمِ الْكُلِّيِّ صَانِعًا مُخْتَارًا فَلِذَلِكَ اقْتَضَتِ الْبَلَاغَةُ أَنْ تَكُونَ فَاصِلَةَ الْآيَةِ الثَّالِثَةِ {لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} وَإِنِ احْتِيجَ إِلَى الْعَقْلِ فِي الْجَمِيعِ إِلَّا أَنَّ ذِكْرَهُ هَاهُنَا أَنْسَبُ بِالْمَعْنَى الْأَوَّلِ إِذْ بَعْضُ مَنْ يَعْتَقِدُ صَانِعَ الْعَالِمِ رُبَّمَا قَالَ إِنَّ بَعْضَ هَذِهِ الْآثَارِ يَصْنَعُ بَعْضًا فَلَا بُدَّ إِذًا مِنَ التَّدَبُّرِ بِدَقِيقِ الْفِكْرِ وَرَاجِحِ الْعَقْلِ.
وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ لُقْمَانَ: {يا بني إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لطيف خبير}.
وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ}.
وَالْمُنَاسَبَةُ فِيهِ قَوِيَّةٌ لِأَنَّ مَنْ دَلَّ عَدُوَّهُ على عورة نفسه وأعطاه سلاحه لِيَقْتُلَهُ بِهِ فَهُوَ جَدِيرٌ بِأَنْ يَكُونَ مَقْلُوبَ العقل فلهذا ختمها بقوله: {أفلا تعقلون}.
وَهَذِهِ الْفَاصِلَةُ لَا تَقَعُ إِلَّا فِي سِيَاقِ إِنْكَارِ فِعْلٍ غَيْرِ مُنَاسِبٍ فِي الْعَقْلِ نَحْوِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تتلون الكتاب أفلا تعقلون} لِأَنَّ فَاعِلَ غَيْرِ الْمُنَاسِبِ لَيْسَ بِعَاقِلٍ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا ثُمَّ يَفْتَحُ بيننا بالحق وهو الفتاح العليم} خَتَمَ بِصِفَةِ الْعِلْمِ إِشَارَةً إِلَى الْإِحَاطَةِ بِأَحْوَالِنَا وَأَحْوَالِكُمْ وَمَا نَحْنُ عَلَيْهِ مِنَ الْحَقِّ وَمَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ مِنَ الْبَاطِلِ وَإِذَا كَانَ عَالِمًا بِذَلِكَ فَنَسْأَلُهُ الْقَضَاءَ عَلَيْنَا وَعَلَيْكُمْ بِمَا يَعْلَمُ مِنَّا وَمِنْكُمْ.