فصل: النَّوْعُ الثَّالِثُ وَالْأَرْبَعُونَ: فِي بَيَانِ حَقِيقَتِهِ وَمَجَازِهِ

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البرهان في علوم القرآن ***


النَّوْعُ الثَّالِثُ وَالْأَرْبَعُونَ‏:‏ فِي بَيَانِ حَقِيقَتِهِ وَمَجَازِهِ

الْحَقِيقَةُ

مِنْ وُجُوهِ الْخِطَابِ فِي الْقُرْآنِ لَا خِلَافَ أَنَّ كِتَابَ اللَّهِ يَشْتَمِلُ عَلَى الْحَقَائِقِ، وَهِيَ كُلُّ كَلَامٍ بَقِيَ عَلَى مَوْضُوعِهِ كَالْآيَاتِ الَّتِي لَمْ يُتَجَوَّزْ فِيهَا؛ وَهِيَ الْآيَاتُ النَّاطِقَةُ ظَوَاهِرُهَا بِوُجُودِ اللَّهِ تَعَالَى وَتَوْحِيدِهِ وَتَنْزِيهِهِ، وَالدَّاعِيَةُ إِلَى أَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشِّهَادَةِ‏}‏ ‏(‏الْحَشْرِ‏:‏ 22‏)‏ الْآيَةَ‏.‏

وَقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ‏}‏ ‏(‏النَّمْلِ‏:‏ 60‏)‏، ‏{‏أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَارًا‏}‏ ‏(‏النَّمْلِ‏:‏ 61‏)‏، ‏{‏أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ‏}‏ ‏(‏النَّمْلِ‏:‏ 62‏)‏، ‏{‏أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ‏}‏ ‏(‏النَّمْلِ‏:‏ 63‏)‏، ‏{‏أَمَّنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ‏}‏ ‏(‏النَّمْلِ‏:‏ 64‏)‏‏.‏ وَقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ‏}‏ ‏(‏يس‏:‏ 78‏)‏‏.‏ وَقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ‏}‏ ‏(‏الْوَاقِعَةِ‏:‏ 58‏)‏، ‏{‏أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ‏}‏ ‏(‏الْوَاقِعَةِ‏:‏ 63‏)‏، ‏{‏أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ‏}‏ ‏(‏الْوَاقِعَةِ‏:‏ 68‏)‏، ‏{‏أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ‏}‏ ‏(‏الْوَاقِعَةِ‏:‏ 71‏)‏‏.‏

قِيلَ‏:‏ وَمِنْهُ الْآيَاتُ الَّتِي لَمْ تُنْسَخْ، وَهِيَ كَالْآيَاتِ الْمُحْكَمَاتِ، وَالْآيَاتُ الْمُشْتَمِلَةُ، وَلَا تَقْدِيمَ فِيهِ وَلَا تَأْخِيرَ، كَقَوْلِ الْقَائِلِ‏:‏ أَحْمَدُ اللَّهَ عَلَى نَعْمَائِهِ وَإِحْسَانِهِ، وَهَذَا أَكْثَرُ الْكَلَامِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ‏}‏ ‏(‏الْبَقَرَةِ‏:‏ 4‏)‏ وَأَكْثَرُ مَا يَأْتِي مِنَ الْآيِ عَلَى هَذَا‏.‏

‏[‏الْمَجَازُ، والِاخْتِلَافُ فِي وُقُوعِهِ فِي الْقُرْآنِ‏]‏

وَأَمَّا الْمَجَازُ فَاخْتُلِفَ فِي وُقُوعِهِ فِي الْقُرْآنِ، وَالْجُمْهُورُ عَلَى الْوُقُوعِ وَأَنْكَرَهُ جَمَاعَةٌ، مِنْهُمُ ابْنُ الْقَاصِّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ، وَابْنُ خُوَيْزِ مَنْدَاذَ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ، وَحُكِيَ عَنْ دَاوُدَ الظَّاهِرِيِّ وَابْنِهِ، وَأَبِي مُسْلِمٍ الْأَصْبَهَانِيِّ‏.‏

وَشُبْهَتُهُمْ أَنَّ الْمُتَكَلِّمَ لَا يَعْدِلُ عَنِ الْحَقِيقَةِ إِلَى الْمَجَازِ إِلَّا إِذَا ضَاقَتْ بِهِ الْحَقِيقَةُ فَيَسْتَعِيرُ، وَهُوَ مُسْتَحِيلٌ عَلَى اللَّهِ- سُبْحَانَهُ، وَهَذَا بَاطِلٌ، وَلَوْ وَجَبَ خُلُوُّ الْقُرْآنِ مِنَ الْمَجَازِ لَوَجَبَ خُلُوُّهُ مِنَ التَّوْكِيدِ وَالْحَذْفِ، وَتَثْنِيَةِ الْقَصَصِ وَغَيْرِهِ، وَلَوْ سَقَطَ الْمَجَازُ مِنَ الْقُرْآنِ سَقَطَ شَطْرُ الْحُسْنِ‏.‏

وَقَدْ أَفْرَدَهُ بِالتَّصْنِيفِ الْإِمَامُ أَبُو مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ السَّلَامِ، وَجَمَعَ فَأَوْعَى‏.‏

وَأَمَّا مَعْنَاهُ، فَقَالَ الْحَاتِمِيُّ‏:‏ مَعْنَاهُ طَرِيقُ الْقَوْلِ، وَمَأْخَذُهُ مَصْدَرُ ‏"‏ جُزْتُ مَجَازًا ‏"‏ كَمَا يُقَالُ‏:‏ قُمْتُ مَقَامًا‏.‏ قَالَ الْأَصْمَعِيُّ‏:‏ كَلَامُ الْعَرَبِ إِنَّمَا هُوَ مِثَالٌ شِبْهُ الْوَحْيِ‏.‏

وَلَهُ سَبَبَانِ‏:‏ أَحَدُهُمَا‏:‏ الشَّبَهُ، وَيُسَمَّى الْمَجَازُ اللُّغَوِيُّ، وَهُوَ الَّذِي يَتَكَلَّمُ فِيهِ الْأُصُولِيُّ‏.‏

وَالثَّانِي‏:‏ الْمُلَابَسَةُ، وَهَذَا هُوَ الَّذِي يَتَكَلَّمُ فِيهِ أَهْلُ اللِّسَانِ؛ وَيُسَمَّى الْمَجَازُ الْعَقْلِيُّ، وَهُوَ أَنْ تُسْنَدَ الْكَلِمَةُ إِلَى غَيْرِ مَا هِيَ لَهُ أَصَالَةً بِضَرْبٍ مِنَ التَّأْوِيلِ، كَسَبَّ زَيْدٌ أَبَاهُ، إِذَا كَانَ سَبَبًا فِيهِ‏.‏ وَالْأَوَّلُ مَجَازٌ فِي الْمُفْرَدِ؛ وَهَذَا مَجَازٌ فِي الْمُرَكَّبِ‏.‏

وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا‏}‏ ‏(‏الْأَنْفَالِ‏:‏ 2‏)‏ وَنُسِبَتِ الزِّيَادَةُ الَّتِي هِيَ فِعْلُ اللَّهِ إِلَى الْآيَاتِ لِكَوْنِهَا سَبَبًا فِيهَا‏.‏

وَكَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ‏}‏ ‏(‏فُصِّلَتْ‏:‏ 23‏)‏‏.‏

وَقَوْلُهُ‏:‏ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ ‏(‏الْقَصَصِ‏:‏ 4‏)‏ وَالْفَاعِلُ غَيْرُهُ، وَنُسِبَ الْفِعْلُ إِلَيْهِ لِكَوْنِهِ الْآمِرَ بِهِ‏.‏

وَكَقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا‏}‏ ‏(‏الْأَعْرَافِ‏:‏ 27‏)‏ نَسَبَ النَّزْعَ الَّذِي هُوَ فِعْلُ اللَّهِ إِلَى إِبْلِيسَ- لَعَنَهُ اللَّهُ؛ لِأَنَّ سَبَبَهُ أَكْلُ الشَّجَرَةَ، وَسَبَبَ أَكْلِهَا وَسْوَسَتُهُ وَمُقَاسَمَتُهُ إِيَّاهُمَا، إِنَّهُ لَهُمَا لِمَنِ النَّاصِحِينَ‏.‏

وَقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ‏}‏ ‏(‏الْبَقَرَةِ‏:‏ 16‏)‏ جَعَلَ التِّجَارَةَ الرَّابِحَةَ‏.‏ وَقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏فَإِذَا عَزَمَ الْأَمْرُ‏}‏ ‏(‏مُحَمَّدٍ‏:‏ 21‏)‏ لِأَنَّ الْأَمْرَ هُوَ الْمَعْزُومُ عَلَيْهِ بِدَلِيلِ‏:‏ ‏{‏فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ‏}‏ ‏(‏آلِ عِمْرَانَ‏:‏ 159‏)‏‏.‏

وَقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْرًا وَاحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ‏}‏ ‏(‏إِبْرَاهِيمَ‏:‏ 28‏)‏ فَنَسَبَ الْإِحْلَالِ الَّذِي هُوَ فِعْلُ اللَّهِ إِلَى أَكَابِرِهِمْ؛ لِأَنَّ سَبَبَهُ كُفْرُهُمْ، وَسَبَبُ كُفْرِهِمْ أَمْرُ أَكَابِرِهِمْ إِيَّاهُمْ بِالْكُفْرِ‏.‏

وَقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏يَوْمًا يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا‏}‏ ‏(‏الْمُزَّمِّلِ‏:‏ 17‏)‏ نَسَبَ الْفِعْلِ إِلَى الظَّرْفِ لِوُقُوعِهِ فِيهِ‏.‏

وَقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا‏}‏ ‏(‏الزَّلْزَلَةِ‏:‏ 2‏)‏‏.‏ وَقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى‏}‏ ‏(‏طه‏:‏ 117‏)‏‏.‏

وَقَدْ يُقَالُ‏:‏ إِنَّ النَّزْعَ وَالْإِحْلَالَ يُعَبَّرُ بِهِمَا عَنْ فِعْلِ مَا أَوْجَبَهُمَا؛ فَالْمَجَازُ إِفْرَادِيٌّ لَا إِسْنَادِيٌّ‏.‏

وَقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏يَوْمًا يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا‏}‏ ‏(‏الْمُزَّمِّلِ‏:‏ 17‏)‏ يِحْتَمِلُ مَعْنَاهُ‏:‏ يَجْعَلُ هَوْلُهُ، فَهُوَ مِنْ مَجَازِ الْحَذْفِ‏.‏

وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ‏}‏ ‏(‏الْقَارِعَةِ‏:‏ 7‏)‏ فَقِيلَ عَلَى النَّسَبِ، أَيْ ذَاتِ رِضًا، وَقِيلَ‏:‏ بِمَعْنَى مَرْضِيَّةٍ، وَكِلَاهُمَا مَجَازُ إِفْرَادٍ لَا مَجَازَ إِسْنَادٍ؛ لِأَنَّ الْمَجَازَ فِي لَفْظِ رَاضِيَةٍ لَا فِي إِسْنَادِهَا؛ وَلَكِنَّهُمْ كَأَنَّهُمْ قَدَّرُوا أَنَّهُمْ قَالُوا‏:‏ رَضِيَتْ عِيشَتُهُ، فَقَالُوا‏:‏ عِيشَةٌ رَاضِيَةٌ‏.‏

وَهُوَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ‏:‏ ‏(‏أَحَدُهَا‏)‏‏:‏ مَا طَرَفَاهُ حَقِيقَتَانِ، نَحْوُ‏:‏ أَنْبَتَ الْمَطَرُ الْبَقْلَ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا‏}‏ ‏(‏الْأَنْفَالِ‏:‏ 2‏)‏ وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا‏}‏ ‏(‏الزَّلْزَلَةِ‏:‏ 2‏)‏‏.‏ ‏(‏وَالثَّانِي‏)‏‏:‏ مَجَازِيَّانِ نَحْوُ‏:‏ ‏{‏فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ‏}‏ ‏(‏الْبَقَرَةِ‏:‏ 16‏)‏ ‏(‏وَالثَّالِثُ‏)‏‏:‏ مَا كَانَ أَحَدُ طَرَفَيْهِ مَجَازًا دُونَ الْآخَرِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا‏}‏ ‏(‏إِبْرَاهِيمَ‏:‏ 25‏)‏ وَقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا‏}‏ ‏(‏مُحَمَّدٍ‏:‏ 4‏)‏‏.‏ قَالَ بَعْضُهُمْ‏:‏ وَمِنْ شَرْطِ هَذَا الْمَجَازِ أَنْ يَكُونَ لِلْمُسْنَدِ إِلَيْهِ شَبَهٌ بِالْمَتْرُوكِ فِي تَعَلُّقِهِ بِالْعَامِلِ‏.‏

‏[‏الْمَجَازُ الْإِفْرَادِيُّ وَأَقْسَامُهُ‏]‏

‏[‏الْأَوَّلُ إِيقَاعُ الْمُسَبَّبِ مَوْقِعَ السَّبَبِ‏]‏

وَأَنْوَاعُ الْإِفْرَادِيِّ فِي الْقُرْآنِ كَثِيرٌ يَعْجِزُ الْعَدُّ عَنْ إِحْصَائِهَا‏.‏ كَقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏كَلَّا إِنَّهَا لَظَى نَزَّاعَةً لِلشَّوَى تَدْعُو‏}‏ ‏(‏الْمَعَارِجِ‏:‏ 15- 17‏)‏ قَالَ‏:‏ الدُّعَاءُ مِنَ النَّارِ مَجَازٌ‏.‏

وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏أَمْ أَنْزَلْنَا عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا‏}‏ الْآيَةَ ‏(‏الرُّومِ‏:‏ 35‏)‏ وَالسُّلْطَانُ هُنَا هُوَ الْبُرْهَانُ، أَيْ بُرْهَانٌ يَسْتَدِلُّونَ بِهِ، فَيَكُونُ صَامِتًا نَاطِقًا، كَالدَّلَائِلِ الْمُخْبِرَةِ، وَالْعِبْرَةِ وَالْمَوْعِظَةِ‏.‏ وَقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ‏}‏ ‏(‏الْقَارِعَةِ‏:‏ 9‏)‏ فَاسْمُ الْأُمِّ الْهَاوِيَةِ مَجَازٌ؛ أَيْ كَمَا أَنَّ الْأُمَّ كَافِلَةٌ لِوَلَدِهَا وَمَلْجَأٌ لَهُ، كَذَلِكَ أَيْضًا النَّارُ لِلْكَافِرِينَ كَافِلَةٌ وَمَأْوًى وَمَرْجِعٌ‏.‏

وَقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ‏}‏ ‏(‏الذَّارِيَاتِ‏:‏ 10‏)‏ ‏{‏قُتِلَ الْإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ‏}‏ ‏(‏عَبَسَ‏:‏ 17‏)‏ ‏{‏قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ‏}‏ ‏(‏الْمُنَافِقُونَ‏:‏ 4‏)‏ وَالْفِعْلُ فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ مَجَازٌ أَيْضًا لِأَنَّهُ بِمَعْنَى أَبْعَدَهُ اللَّهُ وَأَذَلَّهُ‏.‏ وَقِيلَ‏:‏ قَهَرَهُ وَغَلَبَهُ‏.‏

وَهُوَ كَثِيرٌ، فَلْنَذْكُرْ أَنْوَاعَهُ لِتَكُونَ ضَوَابِطَ لِبَقِيَّةِ الْآيَاتِ الشَّرِيفَةِ‏.‏

‏(‏الْأَوَّلُ‏)‏‏:‏ إِيقَاعُ الْمُسَبَّبِ مُوقِعَ السَّبَبِ مِنْ أَنْوَاعِ الْمَجَازِ الْإِفْرَادِيِّ فِي الْقُرْآنِ‏.‏ كَقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ‏}‏ ‏(‏الْأَعْرَافِ‏:‏ 26‏)‏ وَإِنَّمَا نُزِّلَ سَبَبُهُ، وَهُوَ الْمَاءُ‏.‏ وَكَقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏يَا بَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ‏}‏ ‏(‏الْأَعْرَافِ‏:‏ 27‏)‏‏.‏ وَلَمْ يَقُلْ‏:‏ ‏"‏ كَمَا فَتَنَ أَبَوَيْكُمْ ‏"‏، لِأَنَّ الْخُرُوجَ مِنَ الْجَنَّةِ هُوَ الْمُسَبَّبُ النَّاشِئُ عَنِ الْفِتْنَةِ، فَأَوْقَعَ الْمُسَبَّبَ مَوْقِعَ السَّبَبِ، أَيْ لَا تَفْتَتِنُوا بِفِتْنَةِ الشَّيْطَانِ، فَأُقِيمُ فِيهِ السَّبَبُ مَقَامَ الْمُسَبَّبِ، وَهُوَ سَبَبٌ خَاصٌّ، فَإِذَا عُدِمَ فَيُعْدَمُ الْمُسَبَّبُ، فَالنَّهْيُ فِي الْحَقِيقَةِ لِبَنِي آدَمَ، وَالْمَقْصُودُ عَدَمُ وُقُوعِ هَذَا الْفِعْلِ مِنْهُمْ، فَلَمَّا أُخْرِجَ السَّبَبُ مِنْ أَنْ يُوجَدَ بِإِيرَادِ النَّهْيِ عَلَيْهِ، كَانَ أَدَلَّ عَلَى امْتِنَاعِ النَّهْيِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى‏.‏

وَقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ‏}‏ ‏(‏الْمُؤْمِنِ‏:‏ 41‏)‏ وَهُمْ لَمْ يَدْعُوهُ إِلَى النَّارِ إِنَّمَا دَعَوْهُ إِلَى الْكُفْرِ؛ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللَّهِ‏}‏ ‏(‏الْمُؤْمِنِ‏:‏ 42‏)‏ لَكِنَّ لَمَّا كَانَتِ النَّارُ مُسَبَّبَةً عَنْهُ أَطْلَقَهَا عَلَيْهِ‏.‏

وَقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ فَاتَّقُوا النَّارَ ‏(‏الْبَقَرَةِ‏:‏ 24‏)‏ أَيِ الْعِنَادِ الْمُسْتَلْزِمِ لِلنَّارِ‏.‏ وَقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا‏}‏ ‏(‏النِّسَاءِ‏:‏ 10‏)‏ لِاسْتِلْزَامِ أَمْوَالِ الْيَتَامَى إِيَّاهَا‏.‏

وَقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا‏}‏ ‏(‏النُّورِ‏:‏ 33‏)‏ إِنَّمَا أَرَادَ- وَاللَّهُ أَعْلَمُ- الشَّيْءَ الَّذِي يُنْكَحُ بِهِ، مِنْ مَهْرٍ وَنَفَقَةٍ وَمَا لَا بُدَّ لِلْمُتَزَوِّجِ مِنْهُ‏.‏

وَقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ‏}‏ ‏(‏الْبَقَرَةِ‏:‏ 188‏)‏ أَيْ لَا تَأْكُلُوهَا بِالسَّبَبِ الْبَاطِلِ الَّذِي هُوَ الْقُمَارُ‏.‏

وَقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ‏}‏ ‏(‏الْمُدَّثِّرِ‏:‏ 5‏)‏ أَيْ عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ؛ لِأَنَّ الْعَذَابَ مُسَبَّبٌ عَنْهَا‏.‏

وَقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً‏}‏ ‏(‏التَّوْبَةِ‏:‏ 123‏)‏ أَيْ وَأَغْلِظُوا عَلَيْهِمْ، لِيَجِدُوا ذَلِكَ وَإِنَّمَا عَدَلَ إِلَى الْأَمْرِ بِالْوِجْدَانِ تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّهُ الْمَقْصُودُ لِذَاتِهِ، وَأَمَّا الْإِغْلَاظُ فَلَمْ يُقْصَدْ لِذَاتِهِ بَلْ لِتَجِدُوهُ‏.‏

الثَّانِي‏:‏ عَكْسُهُ

وَهُوَ إِيقَاعُ السَّبَبِ مُوقِعَ الْمُسَبَّبِ مِنْ أَنْوَاعِ الْمَجَازِ الْإِفْرَادِيِّ فِي الْقُرْآنِ

كَقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا‏}‏ ‏(‏الشُّورَى‏:‏ 40‏)‏‏.‏ وَقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ‏}‏ ‏(‏الْبَقَرَةِ‏:‏ 194‏)‏ سُمِّيَ الْجَزَاءُ الَّذِي هُوَ السَّبَبُ سَيِّئَةً وَاعْتِدَاءً، فَسُمِّيَ الشَّيْءُ بِاسْمِ سَبَبِهِ وَإِنْ عَبَّرَتِ السَّيِّئَةُ عَمَّا سَاءَ- أَيْ أَحْزَنَ- لَمْ يَكُنْ مِنْ هَذَا الْبَابِ؛ لِأَنَّ الْإِسَاءَةَ تُحْزِنُ فِي الْحَقِيقَةِ، كَالْجِنَايَةِ‏.‏

وَمِنْهُ‏:‏ ‏{‏وَمَكَرُوا وَمَكْرَ اللَّهُ‏}‏ ‏(‏آلِ عِمْرَانَ‏:‏ 54‏)‏ تَجُوزُ بِلَفْظِ الْمَكْرِ عَنْ عُقُوبَتِهِ لِأَنَّهُ سَبَبٌ لَهَا‏.‏

وَمِنْهُ قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى‏}‏ ‏(‏الْبَقَرَةِ‏:‏ 282‏)‏ إِنَّمَا جُعِلَتِ الْمَرْأَتَانِ لِلتَّذْكِيرِ إِذَا وَقَعَ الضَّلَالُ لَا لِيَقَعَ الضَّلَالُ؛ فَلَمَّا كَانَ الضَّلَالُ سَبَبًا لِلتَّذْكِيرِ أُقِيمَ مَقَامَهُ‏.‏

وَمِنْهُ إِطْلَاقُ اسْمِ الْكِتَابِ عَلَى الْحِفْظِ؛ أَيِ الْمَكْتُوبِ فَإِنَّ الْكِتَابَةَ سَبَبٌ لَهُ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا‏}‏ ‏(‏آلِ عِمْرَانَ‏:‏ 181‏)‏ أَيْ سَنَحْفَظُهُ حَتَّى يُجَازِيَهُمْ عَلَيْهِ‏.‏

وَمِنْهُ إِطْلَاقُ اسْمِ السَّمْعِ عَلَى الْقَبُولِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ‏}‏ ‏(‏هُودٍ‏:‏ 20‏)‏ أَيْ مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ قَبُولَ ذَلِكَ وَالْعَمَلَ بِهِ؛ لِأَنَّ قَبُولَ الشَّيْءِ مُرَتَّبٌ عَلَى سَمَاعِهِ وَمُسَبَّبٌ عَنْهُ‏.‏ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِي نَفْيِ السَّمْعِ لِابْتِغَاءِ فَائِدَتِهِ‏.‏ وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ‏:‏

وَإِنْ حَلِفَتْ لَا يَنْقُضُ النَّأْيُ عَهْدَهَا *** فَلَيْسَ لِمَخْضُوبِ الْبَنَانِ يَمِينُ

أَيْ وَفَاءُ يَمِينٍ‏.‏

وَمِنْهُ إِطْلَاقُ الْإِيمَانِ عَلَى مَا نَشَأَ عَنْهُ مِنَ الطَّاعَةِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ‏}‏ ‏(‏الْبَقَرَةِ‏:‏ 143‏)‏‏.‏ ‏{‏أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ‏}‏ ‏(‏الْبَقَرَةِ‏:‏ 85‏)‏ أَيْ أَفَتَعْلَمُونَ بِبَعْضِ التَّوْرَاةِ وَهُوَ فِدَاءُ الْأَسَارَى، وَتَتْرُكُونَ الْعَمَلَ بِبَعْضٍ وَهُوَ قَتْلُ إِخْوَانِهِمْ وَإِخْرَاجُهُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ‏.‏

وَجَعَلَ الشَّيْخُ عِزُّ الدِّينِ مِنَ الْأَنْوَاعِ نِسْبَةَ الْفِعْلِ إِلَى سَبَبِ سَبَبِهِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ‏}‏ ‏(‏الْبَقَرَةِ‏:‏ 36‏)‏ أَيْ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ فَلَا يُخْرِجْنَكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ‏:‏ ‏{‏يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا‏}‏ ‏(‏الْأَعْرَافِ‏:‏ 27‏)‏ الْمُخْرِجُ وَالنَّازِعُ فِي الْحَقِيقَةِ هُوَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ، وَسَبَبُ ذَلِكَ أَكْلُ الشَّجَرَةِ، وَسَبَبُ أَكْلِ الشَّجَرَةِ وَسْوَسَةُ الشَّيْطَانِ وَمُقَاسَمَتُهُ عَلَى أَنَّهُ مِنَ النَّاصِحِينَ‏.‏ وَقَدْ مَثَّلَ الْبَيَانِّيُونَ بِهَذِهِ الْآيَةِ لِلسَّبَبِ وَإِنَّمَا هِيَ لِسَبَبِ السَّبَبِ‏.‏ وَقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ‏}‏ ‏(‏إِبْرَاهِيمَ‏:‏ 28‏)‏ لَمَّا أَمَرُوهُمْ بِالْكُفْرِ الْمُوجِبِ لِحُلُولِ النَّارِ‏.‏

الثَّالِثُ‏:‏ إِطْلَاقُ اسْمِ الْكُلِّ عَلَى الْجُزْءِ مِنْ أَنْوَاعِ الْمَجَازِ الْإِفْرَادِيِّ فِي الْقُرْآنِ

قَالَ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ‏}‏ ‏(‏الْبَقَرَةِ‏:‏ 19‏)‏ أَيْ أَنَامِلَهُمْ؛ وَحِكْمَةُ التَّعْبِيرِ عَنْهَا بِالْأَصَابِعِ الْإِشَارَةُ إِلَى أَنَّهُمْ يُدْخِلُونَ أَنَامِلَهُمْ فِي آذَانِهِمْ بِغَيْرِ الْمُعْتَادِ، فِرَارًا مِنَ الشِّدَّةِ، فَكَأَنَّهُمْ جَعَلُوا الْأَصَابِعَ‏.‏ وَقَالَ- تَعَالَى‏:‏ ‏{‏فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ‏}‏ ‏(‏الْمَائِدَةِ‏:‏ 6‏)‏ وَالْيَدُ حَقِيقَةً إِلَى الْمَنْكِبِ، هَذَا إِنَّ جَعْلَنَا ‏(‏إِلَى‏)‏ بِمَعْنَى ‏"‏ مَعَ ‏"‏، وَلَا يَجِبُ غَسْلُ جَمِيعِ الْوَجْهِ إِذَا سَتَرَهُ بَعْضُ الشُّعُورِ الْكَثِيفَةِ‏.‏

وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا‏}‏ ‏(‏الْمَائِدَةِ‏:‏ 38‏)‏ وَالْمُرَادُ هُوَ الْبَعْضُ الَّذِي هُوَ الرُّسْغُ‏.‏ وَقَالَ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ‏}‏ ‏(‏الْبَقَرَةِ‏:‏ 249‏)‏ أَيْ مِنْ لَمْ يَذُقْ‏.‏ وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ‏}‏ ‏(‏الْمُنَافِقُونَ‏:‏ 4‏)‏ وَالْمُرَادُ وُجُوهُهُمْ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَرَ جُمْلَتَهُمْ‏.‏

وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ‏}‏ ‏(‏الْبَقَرَةِ‏:‏ 185‏)‏ اسْتَشْكَلَهُ الْإِمَامُ فِي تَفْسِيرِهِ مِنْ جِهَةِ أَنَّ الْجَزَاءَ إِنَّمَا يَكُونُ بَعْدَ تَمَامِ الشَّرْطِ، وَالشَّرْطُ أَنْ يَشْهَدَ الشَّهْرُ، وَهُوَ اسْمٌ لِثَلَاثِينَ يَوْمًا‏.‏ وَحَاصِلُ جَوَابِهِ أَنَّهُ أَوْقَعَ الشَّهْرَ وَأَرَادَ جُزْءًا مِنْهُ، وَإِرَادَةُ الْكُلِّ بِاسْمِ الْجُزْءِ مَجَازٌ شَهِيرٌ‏.‏ وَنُقِلَ عَنْ عَلِيٍّ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- أَنَّ الْمَعْنَى‏:‏ مَنْ شَهِدَ أَوَّلَ الشَّهْرِ فَلْيَصُمْ جَمِيعَهُ، وَأَنَّ الشَّخْصَ مَتَى كَانَ مُقِيمًا أَوْ فِي الْبَرِّ ثُمَّ سَافَرَ، يَجِبُ عَلَيْهِ صَوْمُ الْجَمِيعِ‏.‏ وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ هَذَا عَامٌّ، مُخَصَّصٌ بِقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا‏}‏ الْآيَةَ ‏(‏الْبَقَرَةِ‏:‏ 196‏)‏‏.‏ وَيَتَفَرَّعُ عَلَى هَذَا أَنَّ مَنْ أَدْرَكَ الْجُزْءَ الْأَخِيرَ مِنْ رَمَضَانَ‏:‏ هَلْ يَلْزَمُهُ صَوْمُ مَا سَبَقَ إِنْ كَانَ مَجْنُونًا فِي أَوَّلِهِ‏؟‏ فِيهِ قَوْلَانِ‏.‏

الرَّابِعُ‏:‏ إِطْلَاقُ اسْمِ الْجُزْءِ عَلَى الْكُلِّ مِنْ أَنْوَاعِ الْمَجَازِ الْإِفْرَادِيِّ فِي الْقُرْآنِ

كَقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ‏}‏ ‏(‏الْقَصَصِ‏:‏ 88‏)‏ أَيْ ذَاتَهُ ‏{‏وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ‏}‏ ‏(‏الرَّحْمَنِ‏:‏ 27‏)‏ وَقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَحَيْثُمَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ‏}‏ ‏(‏الْبَقَرَةِ‏:‏ 144‏)‏‏.‏ وَقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ‏}‏ ‏(‏الْغَاشِيَةِ‏:‏ 2 وَ 3‏)‏ يُرِيدُ الْأَجْسَادَ؛ لِأَنَّ الْعَمَلَ وَالنَّصْبَ مِنْ صِفَاتِهَا، وَأَمَّا قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاعِمَةٌ‏}‏ ‏(‏الْغَاشِيَةِ‏:‏ 8‏)‏ فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنْ هَذَا؛ عَبَّرَ بِالْوُجُوهِ عَنِ الرِّجَالِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنْ وَصْفِ الْبَعْضِ بِصِفَةِ الْكُلِّ؛ لِأَنَّ التَّنَعُّمَ مَنْسُوبٌ إِلَى جَمِيعِ الْجَسَدِ‏.‏ وَمِنْهُ‏:‏ ‏{‏وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ‏}‏ ‏(‏الْقِيَامَةِ‏:‏ 22‏)‏ فَالْوَجْهُ الْمُرَادُ بِهِ جَمِيعُ مَا تَقَعُ بِهِ الْمُوَاجَهَةُ لَا الْوَجْهُ وَحْدَهُ‏.‏

وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي تَأْوِيلِ الْوَجْهِ الَّذِي جَاءَ مُضَافًا إِلَى اللَّهِ فِي مَوَاضِعَ مِنَ الْقُرْآنِ، فَنَقَلَ ابْنُ عَطِيَّةَ عَنِ الْحُذَّاقِ أَنَّهُ رَاجِعٌ إِلَى الْوُجُودِ، وَالْعِبَارَةُ عَنْهُ بِالْوَجْهِ مَجَازٌ؛ إِذْ هُوَ أَظْهَرُ الْأَعْضَاءِ فِـ الْمُشَاهَدَةِ وَأَجَلُّهَا قَدْرًا‏.‏ وَقِيلَ- وَهُوَ الصَّوَابُ-‏:‏ هِيَ صِفَةٌ ثَابِتَةٌ بِالسَّمْعِ، زَائِدَةٌ عَلَى مَا تُوجِبُهُ الْعُقُولُ مِنْ صِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى، وَضَعَّفَهُ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ‏.‏ وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ‏}‏ ‏(‏الْبَقَرَةِ‏:‏ 115‏)‏ فَالْمُرَادُ الْجِهَةُ الَّتِي وُجِّهْنَا إِلَيْهَا فِي الْقِبْلَةِ، وَقِيلَ‏:‏ الْمُرَادُ بِهِ الْجَاهُ، أَيْ فَثَمَّ جَلَالُ اللَّهِ وَعَظَمَتُهُ‏.‏

وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ‏}‏ ‏(‏الشُّورَى‏:‏ 30‏)‏، ‏{‏وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ‏}‏ ‏(‏الْبَقَرَةِ‏:‏ 195‏)‏ تَجَوَّزَ بِذَلِكَ عَنِ الْجُمْلَةِ‏.‏ وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ‏}‏ ‏(‏الْأَنْفَالِ‏:‏ 12‏)‏ الْبَنَانُ الْإِصْبَعُ؛ تَجَوَّزَ بِهَا عَنِ الْأَيْدِي وَالْأَرْجُلِ، عَكْسُ قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ‏}‏ ‏(‏الْبَقَرَةِ‏:‏ 19‏)‏‏.‏ وَقَوْلُهُ‏:‏ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ ‏(‏الْمُجَادَلَةِ‏:‏ 3‏)‏‏.‏ وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ‏}‏ ‏(‏الْقَلَمِ‏:‏ 16‏)‏ عَبَّرَ بِالْأَنْفِ عَنِ الْوَجْهِ‏.‏ ‏{‏لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ‏}‏ ‏(‏الْحَاقَّةِ‏:‏ 45‏)‏‏.‏

وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ‏}‏ ‏(‏الْبَقَرَةِ‏:‏ 283‏)‏ أَضَافَ الْإِثْمَ إِلَى الْقَلْبِ وَإِنْ كَانَتِ الْجُمْلَةُ كُلُّهَا آثِمَةً؛ مِنْ حَيْثُ كَانَ مَحَلًّا لِاعْتِقَادِ الْإِثْمِ وَالْبِرِّ، كَمَا نُسِبَتِ الْكِتَابَةُ إِلَى الْيَدِ مِنْ حَيْثُ إِنَّهَا تُفْعَلُ بِهَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ‏}‏ ‏(‏الْبَقَرَةِ‏:‏ 79‏)‏ وَإِنْ كَانَتِ الْجُمْلَةُ كُلُّهَا كَاتِبَةً، وَلِهَذَا قَالَ‏:‏ ‏{‏وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ‏}‏ ‏(‏الْبَقَرَةِ‏:‏ 79‏)‏‏.‏

وَكَذَا قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏وَلَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ‏}‏ ‏(‏الْأَنْعَامِ‏:‏ 103‏)‏ وَقِيلَ‏:‏ الْمَعْنَى عَلَى حَذْفِ الْمُضَافِ؛ لِأَنَّ الْمُدْرِكَ هُوَ الْجُمْلَةُ دُونَ الْحَاسَّةِ، فَأَسْنَدَ الْإِدْرَاكَ إِلَى الْأَبْصَارِ، لِأَنَّهُ بِهَا يَكُونُ‏.‏ وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ‏}‏ ‏(‏آلِ عِمْرَانَ‏:‏ 28‏)‏ أَيْ إِيَّاهُ‏.‏ ‏{‏تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي‏}‏ ‏(‏الْمَائِدَةِ‏:‏ 116‏)‏‏.‏

وَجَعَلَ مِنْهُ بَعْضُهُمْ قَوْلَهُ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ‏}‏ ‏(‏النُّورِ‏:‏ 30‏)‏ وَحَكَى ابْنُ فَارِسٍ عَنْ جَمَاعَةٍ أَنَّ ‏(‏مِنْ‏)‏ هُنَا لِلتَّبْعِيضِ؛ لِأَنَّهُمْ أُمِرُوا بِالْغَضِّ عَمَّا يَحْرُمُ النَّظَرُ إِلَيْهِ‏.‏

وَقَوْلُهُ‏:‏ قُمِ اللَّيْلَ ‏(‏الْمُزَّمِّلِ‏:‏ 2‏)‏ أَيْ صَلِّ فِي اللَّيْلِ؛ لِأَنَّ الْقِيَامَ بَعْضُ الصَّلَاةِ‏.‏

وَكَقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَقُرْآنَ الْفَجْرِ‏}‏ ‏(‏الْإِسْرَاءِ‏:‏ 78‏)‏ أَيْ صَلَاةَ الْفَجْرِ‏.‏ وَمِنْهُ ‏{‏الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ‏}‏ ‏(‏الْبَقَرَةِ‏:‏ 144‏)‏ وَالْمُرَادُ جَمِيعُ الْحَرَمِ‏.‏ وَقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ‏}‏ ‏(‏الْبَقَرَةِ‏:‏ 43‏)‏ أَيِ الْمُصَلِّينَ‏.‏ ‏{‏يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا‏}‏ ‏(‏الْإِسْرَاءِ‏:‏ 107‏)‏ ‏{‏وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ‏}‏ ‏(‏الْإِسْرَاءِ‏:‏ 109‏)‏ أَيِ الْوُجُوهِ‏.‏

وَقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏إِنَّ اللَّهَ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ‏}‏ ‏(‏آلِ عِمْرَانَ‏:‏ 5‏)‏ فَعَبَّرَ بِالْأَرْضِ وَالسَّمَاءِ عَنِ الْعَالَمِ؛ لِأَنَّ الْمَقَامَ مَقَامُ الْوَعِيدِ، وَالْوَعِيدُ إِنَّمَا يَحْصُلُ لَوْ بُيِّنَ أَنَّ اللَّهَ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ أَحْوَالُ الْعِبَادِ؛ حَتَّى يُجَازِيَهُمْ عَلَى كُفْرِهِمْ وَإِيمَانِهِمْ، وَالْعِبَادُ وَأَحْوَالُهُمْ لَيْسَتِ السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ بَلْ مِنَ الْعَالَمِ؛ فَيَكُونُ الْمُرَادُ بِالسَّمَاءِ وَالْأَرْضِ الْعَالَمُ؛ إِطْلَاقًا لِلْجُزْءِ عَلَى الْكُلِّ‏.‏

وَقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ‏}‏ ‏(‏التَّوْبَةِ‏:‏ 61‏)‏ قَالَ الْفَارِسِيُّ‏:‏ جَعَلَهُ عَلَى الْمَجَازِ ‏"‏ أُذُنُ ‏"‏ لِأَجْلِ إِصْغَائِهِ؛ قَالَ‏:‏ وَلَوْ صُغِّرَتْ ‏"‏ أُذُنُ ‏"‏ هَذِهِ الَّتِي فِي هَذِهِ الْآيَةِ، كَانَ فِي لَحَاقِ التَّاءِ فِيهَا وَتَرْكِهَا نَظَرٌ‏.‏

وَجَعَلَ الْإِمَامُ فَخْرُ الدِّينِ قَوْلَهُ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا‏}‏ ‏(‏الْبَقَرَةِ‏:‏ 125‏)‏ الْمُرَادُ بِهِ جَمِيعُ الْحَرَمِ، لَا صِفَةُ الْكَعْبَةِ فَقَطْ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا‏}‏ ‏(‏الْعَنْكَبُوتِ‏:‏ 67‏)‏ وَقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ‏}‏ ‏(‏الْمَائِدَةِ‏:‏ 95‏)‏ وَالْمُرَادُ الْحَرَمُ كُلُّهُ، لِأَنَّهُ لَا يُذْبَحُ فِي الْكَعْبَةِ، قَالَ‏:‏ وَكَذَلِكَ ‏"‏ الْمَسْجِدُ الْحَرَامُ، فِي قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا‏}‏ ‏(‏التَّوْبَةِ‏:‏ 28‏)‏ وَالْمُرَادُ مَنْعُهُمْ مِنَ الْحَجِّ وَحُضُورِ مَوَاضِعِ النُّسُكِ‏.‏

وَقِيلَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ‏}‏ ‏(‏الْقِيَامَةَ‏:‏ 4‏)‏ أَيْ نَجْعَلُهَا صَفْحَةً مُسْتَوِيَةً لَا شُقُوقَ فِيهَا كَخُفِّ الْبَعِيرِ، فَيَعْدَمُ الِارْتِفَاقَ بِالْأَعْمَالِ اللَّطِيفَةِ، كَالْكِتَابَةِ وَالْخِيَاطَةِ وَنَحْوِهَا مِنَ الْأَعْمَالِ الَّتِي يُسْتَعَانُ فِيهَا بِالْأَصَابِعِ، قَالُوا‏:‏ وَذُكِرَتِ الْبَنَانُ؛ لِأَنَّهُ قَدْ ذُكِرَتِ الْيَدَانِ، فَاخْتَصَّ مِنْهَا أَلْطَفَهَا‏.‏

وَجَوَّزَ أَبُو عُبَيْدَةَ وُرُودَ الْبَعْضِ وَإِرَادَةَ الْكُلِّ؛ وَخَرَّجَ عَلَيْهِ قَوْلَهُ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَلَمَّا جَاءَ عِيسَى بِالْبَيِّنَاتِ قَالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ‏}‏ ‏(‏الزُّخْرُفِ‏:‏ 63‏)‏ أَيْ كُلِّهِ، وَقَوْلَهُ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَإِنْ يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ‏}‏ ‏(‏غَافِرٍ‏:‏ 28‏)‏ وَأَنْشَدَ بَيْتَ لَبِيَدٍ‏:‏

تَرَّاكُ أَمْكِنَةٍ إِذَا لَمْ أَرْضَهَا *** أَوْ يَعْتَلِقْ بَعْضَ النُّفُوسِ حِمَامُهَا

قَالَ‏:‏ وَالْمَوْتُ لَا يَعْتَلِقُ بَعْضَ النُّفُوسِ دُونَ بَعْضٍ؛ وَيُقَالُ لِلْمَنِيَّةِ‏:‏ عَلُوقٌ، وَعُلَاقَةٌ‏.‏ انْتَهَى‏.‏ وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ فِيهِ أَمْرَانِ‏:‏ ‏(‏أَحَدُهُمَا‏)‏‏:‏ أَنَّهُ ظَنَّ أَنَّ النَّبِيَّ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُبَيِّنَ فِي شَرِيعَتِهِ جَمِيعَ مَا اخْتَلَفُوا فِيهِ؛ وَلَيْسَ كَذَلِكَ؛ بِدَلِيلِ سُؤَالِهِمْ عَنِ السَّاعَةِ وَعَنِ الرُّوحِ وَغَيْرِهِمَا مِمَّا لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللَّهُ‏.‏ وَأَمَّا الْآيَةُ الْأُخْرَى، فَقَالَ ثَعْلَبٌ‏:‏ إِنَّهُ كَانَ وَعَدَهُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْعَذَابِ‏:‏ عَذَابِ الدُّنْيَا وَعَذَابِ الْآخِرَةِ، فَقَالَ‏:‏ ‏"‏ يُصِبْكُمْ ‏"‏ هَذَا الْعَذَابُ فِي الدُّنْيَا، وَهُوَ بَعْضُ الْوَعِيدِ، مِنْ غَيْرِ نَفْيِ عَذَابِ الْآخِرَةِ‏.‏

الثَّانِي‏:‏ أَنَّهُ أَخْطَأَ فِي فَهْمِ الْبَيْتِ؛ وَإِنَّمَا مُرَادُ الشَّاعِرِ بِبَعْضِ النُّفُوسِ نَفْسُهُ هُوَ، لِأَنَّهَا بَعْضُ النُّفُوسِ حَقِيقَةً؛ وَمَعْنَى الْبَيْتِ‏:‏ أَنَا إِذَا لَمْ أَرْضَ الْأَمْكِنَةَ اتْرُكْهَا إِلَى أَنْ أَمُوتَ؛ أَيْ إِذَا تَرَكَتْ شَيْئًا لَا أَعُودُ إِلَيْهِ إِلَى أَنْ أَمُوتَ كَقَوْلِ الْآخَرِ‏:‏

إِذَا انْصَرَفَتْ نَفْسِي عَنِ الشَّيْءِ لَمْ تَكَدْ *** إِلَيْهِ بِوَجْهٍ آخِرَ الدَّهْرِ تَرْجِعُ

وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ‏:‏ إِنْ صَحَّتِ الرِّوَايَةُ عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ، فَيَدْخُلُ فِيهِ قَوْلُ الْمَازِنِيِّ فِي مَسْأَلَةِ الْعَلْقَى‏:‏ كَانَ أَجْفَى مِنْ أَنْ يَفْقَهَ مَا أَقُولُ لَهُ‏.‏ وَأَشَارَ الزَّمَخْشَرِيُّ بِذَلِكَ إِلَى أَنَّ أَبَا عُبَيْدَةَ قَالَ لِلْمَازِنِيِّ‏:‏ مَا أَكْذَبَ النَّحْوِيِّينَ‏!‏ يَقُولُونَ‏:‏ هَاءُ التَّأْنِيثِ لَا تَدْخُلُ عَلَى أَلِفِ التَّأْنِيثِ، وَإِنَّ الْأَلْفَ فِي عَلْقَى مُلْحَقَةٌ، قَالَ‏:‏ فَقُلْتُ لَهُ‏:‏ وَمَا أَنْكَرْتَ مِنْ ذَلِكَ‏؟‏ قَالَ‏:‏ سَمِعْتُ رُؤْبَةَ يَنْشِدُ‏:‏

فَحَطَّ فِي عَلْقَى وَفِي مُكُورٍ

فَلَمْ يُنَوِّنْهَا، فَقُلْتُ‏:‏ مَا وَاحِدُ الْعَلْقَى‏؟‏ فَقَالَ‏:‏ عَلْقَاةٌ، قَالَ الْمَازِنِيُّ‏:‏ فَأَسِفْتُ وَلَمْ أُفَسِّرْ لَهُ، لِأَنَّهُ كَانَ أَغْلَظُ مِنْ أَنْ يَفْهَمَ مِثْلَ هَذَا‏.‏

قُلْتُ‏:‏ وَيُحْتَمَلُ قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ‏}‏ ‏(‏غَافِرٍ‏:‏ 28‏)‏ أَنَّ الْوَعِيدَ مِمَّا لَا يُسْتَنْكَرُ تَرْكُ جَمِيعِهِ، فَكَيْفَ بَعْضُهُ‏؟‏‏!‏ وَيَدُلُّ قَوْلُهُ فِي آخِرِ هَذِهِ السُّورَةِ‏:‏ ‏{‏فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ‏}‏ ‏(‏غَافِرٍ‏:‏ 77‏)‏ وَفِيهَا تَأْيِيدٌ لِكَلَامِ ثَعْلَبٍ أَيْضًا‏.‏

وَقَدْ يُوصَفُ الْبَعْضُ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ‏}‏ ‏(‏غَافِرٍ‏:‏ 19‏)‏ وَقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ‏}‏ ‏(‏الْعَلَقِ‏:‏ 16‏)‏ الْخَطَأُ صِفَةُ الْكُلِّ، فَوَصَفَ بِهِ النَّاصِيَةَ، وَأَمَّا الْكَاذِبَةُ فَصِفَةُ اللِّسَانِ‏.‏ وَقَدْ يُوصَفُ الْكُلُّ بِصِفَةِ الْبَعْضِ كَقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ‏}‏ ‏(‏الْحِجْرِ‏:‏ 52‏)‏ وَالْوَجَلُ صِفَةُ الْقَلْبِ‏.‏ وَقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا‏}‏ ‏(‏الْكَهْفِ‏:‏ 18‏)‏ وَالرُّعْبُ إِنَّمَا يَكُونُ فِي الْقَلْبِ‏.‏

الْخَامِسُ‏:‏ إِطْلَاقُ اسْمِ الْمَلْزُومِ عَلَى الْمُلَازِمِ مِنْ أَنْوَاعِ الْمَجَازِ الْإِفْرَادِيِّ فِي الْقُرْآنِ

كَقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏أَمْ أَنْزَلْنَا عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِمَا كَانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ‏}‏ ‏(‏الرُّومِ‏:‏ 35‏)‏ أَيْ أَنْزَلْنَا بُرْهَانًا يَسْتَدِلُّونَ بِهِ، وَهُوَ يَدُلُّهُمْ، سَمَّى الدَّلَالَةَ كَلَامًا، لِأَنَّهَا مِنْ لَوَازِمِ الْكَلَامِ‏.‏

وَقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُمَاتِ‏}‏ ‏(‏الْأَنْعَامِ‏:‏ 39‏)‏ فَإِنَّ الْأَصْلَ عُمْيٌ، لِقَوْلِهِ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ‏:‏ ‏{‏صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ‏}‏ ‏(‏الْبَقَرَةِ‏:‏ 18‏)‏ لَكِنْ أَتَى بِالظُّلُمَاتِ لِأَنَّهَا مِنْ لَوَازِمَ الْعُمْيِ‏.‏

فَإِنْ قِيلَ‏:‏ مَا الْحِكْمَةُ فِي دُخُولِ الْوَاوِ هُنَا وَفِي التَّعْبِيرِ بِالظُّلُمَاتِ عَنِ الْعَمَى بِخِلَافِهِ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى‏؟‏

السَّادِسُ‏:‏ إِطْلَاقُ اسْمِ اللَّازِمِ عَلَى الْمَلْزُومِ مِنْ أَنْوَاعِ الْمَجَازِ الْإِفْرَادِيِّ فِي الْقُرْآنِ

كَقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ‏}‏ ‏(‏الصَّافَّاتِ‏:‏ 143‏)‏ ‏(‏الصَّافَّاتِ‏:‏ 143‏)‏ أَيِ الْمُصَلِّينَ‏.‏

السَّابِعُ‏:‏ إِطْلَاقُ اسْمِ الْمُطْلَقِ عَلَى الْمُقَيَّدِ مِنْ أَنْوَاعِ الْمَجَازِ الْإِفْرَادِيِّ فِي الْقُرْآنِ

كَقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏فَعَقَرُوا النَّاقَةَ‏}‏ ‏(‏الْأَعْرَافِ‏:‏ 77‏)‏ وَالْعَاقِرُ لَهَا مِنْ قَوْمِ صَالِحٍ قُدَارٌ؛ لَكِنَّهُمْ لَمَّا رَضُوا الْفِعْلَ نُزِّلُوا مَنْزِلَةَ الْفَاعِلِ‏.‏

الثَّامِنُ‏:‏ عَكْسُهُ مِنْ أَنْوَاعِ الْمَجَازِ الْأَفْرَادِيِّ فِي الْقُرْآنِ إِطْلَاقُ اسْمِ الْمُقَيَّدِ عَلَى الْمُطْلَقِ

كَقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ‏}‏ ‏(‏آلِ عِمْرَانَ‏:‏ 64‏)‏ وَالْمُرَادُ كَلِمَةُ الشِّهَادَةِ، وَهِيَ عِدَّةُ كَلِمَاتٍ‏.‏

التَّاسِعُ‏:‏ إِطْلَاقُ اسْمِ الْخَاصِّ وَإِرَادَةُ الْعَامِّ مِنْ أَنْوَاعِ الْمَجَازِ الْإِفْرَادِيِّ فِي الْقُرْآنِ

كَقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏إِنِّي رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ‏}‏ ‏(‏الزُّخْرُفِ‏:‏ 46‏)‏ أَيْ رُسُلُهُ‏.‏ وَقَالَ‏:‏ ‏{‏هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ‏}‏ ‏(‏الْمُنَافِقُونَ‏:‏ 4‏)‏ أَيِ الْأَعْدَاءِ‏.‏ ‏{‏وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا‏}‏ ‏(‏التَّوْبَةِ‏:‏ 69‏)‏ أَيِ الَّذِينَ‏.‏ وَقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏عَلِمَتْ نَفْسٌ‏}‏ ‏(‏التَّكْوِيرِ‏:‏ 14‏)‏ أَيْ كُلُّ نَفْسٍ‏.‏ وَقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا‏}‏ ‏(‏الشُّورَى‏:‏ 45‏)‏ أَيْ كُلِّ سَيِّئَةٍ‏.‏ وَقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ‏}‏ ‏(‏الْأَحْزَابِ‏:‏ 1‏)‏ الْخِطَابُ لِلنَّبِيِّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وَالْمُرَادُ النَّاسُ جَمِيعًا‏.‏

الْعَاشِرُ‏:‏ إِطْلَاقُ اسْمِ الْعَامِّ وَإِرَادَةُ الْخَاصِّ مِنْ أَنْوَاعِ الْمَجَازِ الْإِفْرَادِيِّ فِي الْقُرْآنِ

كَقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ‏}‏ ‏(‏الشُّورَى‏:‏ 5‏)‏ أَيْ لِلْمُؤْمِنِينَ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ‏:‏ ‏{‏وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا‏}‏ ‏(‏غَافِرٍ‏:‏ 7‏)‏ وَلَمَّا خَفِيَ هَذَا عَلَى بَعْضِهِمْ زَعَمَ أَنَّ الْأُولَى مَنْسُوخَةٌ بِالثَّانِيَةِ‏.‏ وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ‏}‏ ‏(‏الْبَقَرَةِ‏:‏ 116‏)‏ أَيْ أَهْلُ طَاعَتِهِ، لَا النَّاسُ أَجْمَعُونَ، حَكَاهُ الْوَاحِدَيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرِهِ، وَاخْتَارَهُ الْفَرَّاءُ‏.‏ وَقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً‏}‏ ‏(‏الْبَقَرَةِ‏:‏ 213‏)‏ قِيلَ‏:‏ الْمُرَادُ بِالنَّاسِ هُنَا نُوحٌ وَمَنْ مَعَهُ فِي السَّفِينَةِ‏.‏ وَقِيلَ آدَمُ وَحَوَّاءُ‏.‏

قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ‏}‏ ‏(‏آلِ عِمْرَانَ‏:‏ 33‏)‏ أَيْ عَالَمِي زَمَانِهِ، وَلَا يَصِحُّ الْعُمُومُ؛ لِأَنَّهُ إِذَا فُضِّلَ أَحَدُهُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ فَقَدْ فُضِّلَ عَلَى سَائِرِهِمْ؛ لِأَنَّهُ مِنَ الْعَالَمِينَ، فَإِذَا فَضَّلَ الْآخَرِينَ عَلَى الْعَالَمِينَ فَقَدْ فَضَّلَهُمْ أَيْضًا عَلَى الْأَوَّلِ، لِأَنَّهُ مِنَ الْعَالَمِينَ فَيَصِيرُ الْفَاضِلُ مَفْضُولًا، وَلَا يَصِحُّ‏.‏

وَقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏مَا تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ‏}‏ ‏(‏الذَّارِيَاتِ‏:‏ 42‏)‏ أَيْ شَيْءٍ يُحْكَمُ عَلَيْهِ بِالذَّهَابِ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏فَأَصْبَحُوا لَا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ‏}‏ ‏(‏الْأَحْقَافِ‏:‏ 25‏)‏‏.‏ وَقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا‏}‏ ‏(‏الْأَحْقَافِ‏:‏ 25‏)‏ وَلَمْ تَجْتَحْ هُودًا وَالْمُسْلِمِينَ مَعَهُ‏.‏

وَقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ‏}‏ ‏(‏النَّمْلِ‏:‏ 23‏)‏ مَعَ أَنَّهَا لَمْ تُؤْتَ لِحْيَةً وَلَا ذَكَرًا‏.‏ وَقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ‏}‏ ‏(‏الْأَنْعَامِ‏:‏ 44‏)‏ أَيْ أَحَبُّوهُ‏.‏

وَقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا‏}‏ ‏(‏النُّورِ‏:‏ 39‏)‏ أَيْ شَيْئًا مِمَّا ظَنَّهُ وَقَدَّرَهُ‏.‏ وَقَوْلِهِ حِكَايَةً عَنْ نَبِيِّهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-‏:‏ ‏{‏وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ‏}‏ ‏(‏الْأَنْعَامِ‏:‏ 163‏)‏ وَعَنْ مُوسَى‏:‏ ‏{‏وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ‏}‏ ‏(‏الْأَعْرَافِ‏:‏ 143‏)‏ وَلَمْ يَرُدِ الْكُلَّ؛ لِأَنَّ الْأَنْبِيَاءَ قَبْلَهُمَا كَانُوا مُسْلِمِينَ وَ مُؤْمِنِينَ‏.‏ وَقَالَ‏:‏ ‏{‏وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ‏}‏ ‏(‏الشُّعَرَاءُ‏:‏ 224‏)‏ وَلَمْ يَعْنِ كُلَّ الشُّعَرَاءِ‏.‏ وَقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ‏}‏ ‏(‏النِّسَاءِ‏:‏ 11‏)‏ أَيْ أَخَوَانِ فَصَاعِدًا‏.‏

وَقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا‏}‏ ‏(‏الْأَعْرَافِ‏:‏ 161‏)‏ أَيْ بَابًا مِنْ أَبْوَابِهَا، كَذَا قَالَهُ الْمُفَسِّرُونَ‏.‏

وَقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا‏}‏ ‏(‏الْحُجُرَاتِ‏:‏ 14‏)‏ وَإِنَّمَا قَالَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ‏.‏ ‏{‏وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآيَاتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ‏}‏ ‏(‏الْإِسْرَاءِ‏:‏ 59‏)‏ وَأَرَادَ الْآيَاتِ الَّتِي إِذَا كُذِّبَ بِهَا نَزَلَ الْعَذَابُ عَلَى الْمُكَذِّبِ‏.‏ وَقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ‏}‏ ‏(‏الشُّورَى‏:‏ 5‏)‏ أَيْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ‏.‏ وَقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا‏}‏ ‏(‏الْمُؤْمِنِ‏:‏ 7‏)‏‏.‏ وَقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ‏}‏ ‏(‏الْأَنْعَامِ‏:‏ 66‏)‏ وَالْمُرَادُ بَعْضُهُمْ، فَإِنَّ مِنْهُمْ أَفَاضِلَ الْمُسْلِمِينَ، وَالصِّدِّيقَ، وَعَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا‏.‏

وَقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ‏}‏ ‏(‏آلِ عِمْرَانَ‏:‏ 173‏)‏ فَإِنَّ ‏(‏النَّاسَ‏)‏ الْأَوْلَى لَوْ كَانَ الْمُرَادُ بِهِ الِاسْتِغْرَاقُ لَمَا انْتَظَمَ قَوْلُهُ تَعَالَى بَعْدَ ذَلِكَ‏:‏ ‏(‏إِنَّ النَّاسَ‏)‏؛ وَلِأَنَّ ‏(‏الَّذِينَ‏)‏ مِنَ النَّاسِ؛ فَلَا يَكُونُ الثَّانِي مُسْتَغْرِقًا ضَرُورَةَ خُرُوجِ ‏(‏الَّذِينَ‏)‏ مِنْهُمْ؛ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَقُولُوا لِأَنْفُسِهِمْ‏.‏ وَقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ‏}‏ ‏(‏الْبَقَرَةِ‏:‏ 197‏)‏ وَالْمُرَادُ شَهْرَانِ وَبَعْضُ الثَّالِثِ‏.‏

الْحَادِي عَشَرَ‏:‏ إِطْلَاقُ الْجَمْعِ وَإِرَادَةُ الْمُثَنَّى مِنْ أَنْوَاعِ الْمَجَازِ الْإِفْرَادِيِّ فِي الْقُرْآنِ

كَقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا‏}‏ ‏(‏التَّحْرِيمِ‏:‏ 4‏)‏ أَطْلَقَ اسْمَ الْقُلُوبِ عَلَى الْقَلْبَيْنِ‏.‏

الثَّانِي عَشَرَ‏:‏ النُّقْصَانُ مِنْ أَنْوَاعِ الْمَجَازِ الْإِفْرَادِيِّ فِي الْقُرْآنِ

وَمِنْهُ حَذْفُ الْمُضَافِ وَإِقَامَةِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ مَقَامَهُ، كَقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ‏}‏ ‏(‏يُوسُفَ‏:‏ 82‏)‏ أَيْ أَهْلَهَا‏.‏ وَقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ‏}‏ ‏(‏آلِ عِمْرَانَ‏:‏ 194‏)‏ أَيْ عَلَى لِسَانِ رُسُلِكَ‏.‏

وَقَالُوا‏:‏ ‏{‏نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ‏}‏ ‏(‏الصَّفِّ‏:‏ 14‏)‏ أَيْ أَنْصَارُ دِينِ اللَّهِ‏.‏ وَقَالَ‏:‏ ‏{‏وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ‏}‏ ‏(‏الْبَقَرَةِ‏:‏ 93‏)‏ أَيْ حُبَّهُ‏.‏

‏{‏وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ‏}‏ ‏(‏الْأَعْرَافِ‏:‏ 155‏)‏ أَيْ مِنْ قَوْمِهِ‏.‏ قَالُوا‏:‏ وَإِنَّمَا يَحْسُنُ الْحَذْفُ إِذَا كَانَ فِيهِ زِيَادَةُ مُبَالَغَةٍ، وَالْمَحْذُوفَاتُ فِي الْقُرْآنِ عَلَى هَذَا النَّمَطِ، وَسَيَأْتِي الْإِشْبَاعُ فِيهِ وَفِي شُرُوطِهِ- إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى‏.‏ وَذَهَبَ الْمُحَقِّقُونَ إِلَى أَنَّ حَذْفَ الْمُضَافِ لَيْسَ مِنَ الْمَجَازِ؛ لِأَنَّهُ اسْتِعْمَالُ اللَّفْظِ فِيمَا وُضِعَ لَهُ، وَلِأَنَّ الْكَلِمَةَ الْمَحْذُوفَةَ لَيْسَتْ كَذَلِكَ، وَإِنَّمَا التَّجَوُّزُ فِي أَنْ يُنْسَبَ إِلَى الْمُضَافِ إِلَيْهِ مَا كَانَ مَنْسُوبًا إِلَى الْمُضَافِ، كَالْأَمْثِلَةِ السَّابِقَةِ‏.‏

الثَّالِثَ عَشَرَ‏:‏ الزِّيَادَةُ مِنْ أَنْوَاعِ الْمَجَازِ الْإِفْرَادِيِّ فِي الْقُرْآنِ

كَقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ‏}‏ ‏(‏الشُّورَى‏:‏ 11‏)‏ ذَكَرَهُ الْأُصُولِيُّونَ‏.‏ وَلِلنَّحْوِيِّينَ فِيهَا قَوْلَانِ‏:‏

أَحَدُهُمَا أَنَّ ‏"‏ مِثْلِ ‏"‏ زَائِدَةٌ وَالتَّقْدِيرُ لَيْسَ كَهُوَ شَيْءٌ‏.‏

وَالثَّانِي وَهُوَ الْمَشْهُورُ أَنَّ الْكَافَ هِيَ الزَّائِدَةُ وَأَنَّ ‏"‏ مِثْلِ ‏"‏ خَبَرُ لَيْسَ وَلَا خَفَاءَ أَنَّ الْقَوْلَ بِزِيَادَةِ الْحَرْفِ أَسْهَلُ مِنَ الْقَوْلِ بِزِيَادَةِ الِاسْمِ‏.‏

وَمِمَّنْ قَالَ بِهِ ابْنُ جِنِّي وَالسِّيرَافِيُّ وَغَيْرُهُمَا فَقَالُوا الْمَعْنَى لَيْسَ مِثْلَهُ شَيْءٌ وَالْكَافُ زَائِدَةٌ وَإِلَّا لَاسْتَحَالَ الْكَلَامُ لِأَنَّهَا لَوْ لَمْ تَكُنْ زَائِدَةً كَانَتْ بِمَعْنَى مِثْلَ وَإِنْ كَانَتْ حَرْفًا فَيَكُونُ التَّقْدِيرُ لَيْسَ مِثْلَ مِثْلِهِ شَيْءٌ وَإِذَا قُدِّرَ هَذَا التَّقْدِيرُ ثَبَتَ لَهُ مِثْلٌ وَنُفِيَ الشَّبَهُ عَنْ مِثْلِهِ وَهَذَا مُحَالٌ مِنْ وَجْهَيْنِ‏.‏

أَحَدُهُمَا أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ لَا مِثْلَ لَهُ‏.‏ وَالثَّانِي‏:‏ أَنَّ نَفْسَ اللَّفْظِ بِهِ مُحَالٌ فِي حَقِّ كُلِّ أَحَدٍ، وَذَلِكَ أَنَا لَوْ قُلْنَا‏:‏ لَيْسَ مِثْلٌ مِثْلَ زَيْدٍ، لَاسْتَحَالَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ فِيهِ إِثْبَاتُ أَنَّ لِزَيْدٍ مِثْلًا، وَذَلِكَ يَسْتَلْزِمُ جَعْلَ زَيْدٍ مِثْلًا لَهُ؛ لِأَنَّ مَا مَاثَلَ الشَّيْءَ فَقَدْ مَاثَلَهُ ذَلِكَ الشَّيْءُ، وَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يَكُونَ زَيْدٌ مِثْلًا لِعَمْرٍو، وَعَمْرٌو لَيْسَ مِثْلًا لِزَيْدٍ، فَإِذَا نَفَيْنَا الْمِثْلَ عَنْ مِثْلِ زَيْدٍ، وَزَيْدٌ هُوَ مِثْلُ مِثْلِهِ، فَقَدِ اخْتَلَفْنَا‏.‏ وَلِأَنَّهُ يَلْزَمُ مِنْهُ التَّنَاقُضُ عَلَى تَقْدِيرِ إِثْبَاتِ الْمِثْلِ؛ لِأَنَّ مِثْلَ الْمِثْلِ يَصِحُّ نَفْيُهُ ضَرُورَةَ كَوْنِهِ مِثْلًا لِشَيْءٍ وَهُوَ مِثْلٌ لَهُ‏.‏

وَأُجِيبَ عَنِ الْأَوَّلِ بِأَنَّا لَا نُسَلِّمُ لُزُومَ إِثْبَاتِ الْمِثْلِ، غَايَةُ مَا فِيهِ نَفْيُ مِثْلِ مِثْلِ اللَّهِ؛ وَذَلِكَ يَسْتَلْزِمُ أَلَّا يَكُونَ لَهُ مِثْلٌ أَصْلًا، ضَرُورَةَ أَنَّ مِثْلَ كُلِّ شَيْءٍ فَذَلِكَ الشَّيْءُ مِثْلُهُ، فَإِذَا انْتَفَى عَنْ شَيْءٍ أَنْ يَكُونَ مِثْلَ عَمْرٍو انْتَفَى عَنْ عَمْرٍو أَنْ يَكُونَ مِثْلَهُ‏.‏

وَأَمَّا الثَّانِي فَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْعِبَارَاتِ يَلْزَمُ مِنْهَا إِثْبَاتُ الْمِثْلِ، وَنَحْنُ قَدْ مَنَعْنَاهُ، بَلْ أَحَلْنَاهُ مِنَ الْعِبَارَةِ‏.‏

وَقِيلَ‏:‏ لَيْسَتْ زَائِدَةٌ إِمَّا لِاعْتِبَارِ جَوَازِ سَلْبِ الشَّيْءِ عَنِ الْمَعْدُومِ، كَمَا تُسْلَبُ الْكِتَابَةُ عَنْ زَيْدٍ وَهُوَ مَعْدُومٌ، أَوْ بِحَمْلِ الْمِثْلِ عَلَى الْمِثْلِ، أَيِ الصِّفَةِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏مَثَلُ الْجَنَّةِ‏}‏ ‏(‏الرَّعْدِ‏:‏ 35‏)‏ أَيْ صِفَتُهَا، فَالتَّقْدِيرُ‏:‏ لَيْسَتْ كَصِفَتِهِ شَيْءٌ‏.‏

وَبِهَذَيْنِ التَّقْدِيرَيْنِ يَحْصُلُ التَّخَلُّصُ عَنْ لُزُومِ إِثْبَاتِ مِثْلٍ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ زَائِدَةً‏.‏ وَأَمَّا الْقَائِلُونَ بِأَنَّ الزَّائِدَ ‏"‏ مِثْلٌ ‏"‏ وَإِلَّا لَزِمَ إِثْبَاتُ الْمِثْلِ، فَفِيهِ نَظَرٌ، لِاسْتِلْزَامِ تَقْدِيرِ دُخُولِ الْكَافِ عَلَى الضَّمِيرِ؛ وَهُوَ ضَعِيفٌ لَا يَجِيءُ إِلَّا فِي الشِّعْرِ، وَقَدْ ذَكَرْنَا مَا يَخْلُصُ مِنْ لُزُومِ إِثْبَاتِ الْمِثْلِ‏.‏

وَقِيلَ‏:‏ الْمُرَادُ الذَّاتُ وَالْعَيْنُ، كَقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ‏}‏ ‏(‏الْبَقَرَةِ‏:‏ 137‏)‏، وَقَوْلُ امْرِئِ الْقَيْسِ‏:‏

عَلَى مِثْلِ لَيْلَى يَقْتُلُ الْمَرْءُ نَفْسَهُ ***

فَالْكَافُ عَلَى بَابِهَا، وَلَيْسَ كَذَاكَ، بَلِ الْمُرَادُ حَقِيقَةُ الْمِثْلِ لِيَكُونَ نَفْيًا عَنِ الذَّاتِ بِطَرِيقٍ بُرْهَانِيٍّ كَسَائِرِ الْكِنَايَاتِ‏.‏ ثُمَّ لَا يُشْتَرَطُ عَلَى هَذَا أَنْ يَكُونَ لِتِلْكَ الذَّاتِ الْمَمْدُوحَةِ مِثْلٌ فِي الْخَارِجِ حَصَلَ النَّفْيُ عَنْهُ؛ بَلْ هُوَ مِنْ بَابِ التَّخْيِيلُ فِي الِاسْتِعَارَةِ الَّتِي يَتَكَلَّمُ فِيهَا الْبَيَانِيُّ‏.‏

فَإِنْ قِيلَ‏:‏ إِنَّمَا يَكُونُ هَذَا نَفْيًا عَنِ الذَّاتِ بِطَرِيقٍ بُرْهَانِيٍّ أَنْ لَوْ كَانَتِ الْمُمَاثَلَةُ تَسْتَدْعِي الْمُسَاوَاةَ فِي الصِّفَاتِ الذَّاتِيَّةِ وَغَيْرِهَا مِنَ الْأَفْعَالِ، فَإِنَّ اتِّفَاقَ الشَّخْصِيَّتَيْنِ بِالذَّاتِيَّاتِ لَا يَسْتَلْزِمُ اتِّحَادَ أَفْعَالِهِمَا‏.‏ قِيلَ‏:‏ لَيْسَ الْمُرَادُ بِالْمِثْلِ هُنَا الْمُصْطَلَحُ عَلَيْهِ فِي الْعُلُومِ الْعَقْلِيَّةِ، بَلِ الْمُرَادُ مَنْ هُوَ مِثْلُ حَالِهِ فِي الصِّفَاتِ الْمُنَاسِبَةِ لِمَا سِيقَ الْكَلَامُ لَهُ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ مَنْ هُوَ مِثْلٌ فِي كُلِّ شَيْءٍ؛ لِأَنَّ لَفْظَةَ ‏"‏ مِثْلُ ‏"‏ لَا تَسْتَدْعِي الْمُشَابَهَةَ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ‏.‏

وَقَالَ الْكَوَاشِيُّ‏:‏ يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ‏:‏ إِنَّ الْكَافَ، وَمِثْلُ لَيْسَا زَائِدَتَيْنِ، بَلْ يَكُونُ التَّمْثِيلُ هُنَا عَلَى سَبِيلِ الْفَرْضِ، كَقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا‏}‏ ‏(‏الْأَنْبِيَاءِ‏:‏ 22‏)‏ وَتَقْدِيرُ الْكَلَامِ‏:‏ لَوْ فَرَضْنَا لَهُ مِثْلًا لَامْتَنَعَ أَنْ يُشْبِهَ ذَلِكَ الْمِثْلَ الْمَفْرُوضَ شَيْءٌ، وَهَذَا أَبْلَغُ فِي نَفْيِ الْمُمَاثَلَةِ‏.‏

وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا‏}‏ ‏(‏الْبَقَرَةِ‏:‏ 137‏)‏ فَقِيلَ‏:‏ إِنَّ ‏"‏ مَا ‏"‏ فِيهِ مَصْدَرِيَّةٌ، وَهَذَا فِيهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّ مَا لَوْ كَانَتْ مَصْدَرِيَّةً، لَمْ يَعُدْ إِلَيْهَا مِنَ الصِّلَةِ ضَمِيرٌ، وَهُوَ الْهَاءُ فِي‏:‏ ‏(‏بِهِ‏)‏ لِأَنَّ الضَّمِيرَ لَا يَعُودُ عَلَى الْحُرُوفِ وَلَا يُعْتَبَرُ اسْمًا إِلَّا بِالصِّلَةِ، وَالِاسْمُ لَا يَعُودُ عَلَيْهِ مَا هُوَ صِفَتُهُ إِذْ لَا يَحْتَاجُ فِي ذَلِكَ إِلَى رَبْطٍ‏.‏

وَجَوَابُهُ أَنْ تَكُونَ ‏"‏ مَا ‏"‏ مَوْصُولَةً صِلَتُهَا‏:‏ ‏{‏آمَنْتُمْ بِهِ‏}‏ ‏(‏الْبَقَرَةِ‏:‏ 137‏)‏‏.‏ وَقِيلَ‏:‏ مَزِيدَةٌ، وَالتَّقْدِيرُ‏:‏ فَإِنْ آمَنُوا بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ، أَيْ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَجَمِيعِ مَا جَاءَ بِهِ الْأَنْبِيَاءُ‏.‏ وَقِيلَ‏:‏ إِنَّ مِثْلًا صِفَةٌ لِمَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ‏:‏ فَإِنْ آمَنُوا بِشَيْءٍ مِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ، وَفِيهِ نَظَرٌ، لِأَنَّ مَا آمَنُوا بِهِ لَيْسَ لَهُ مِثْلٌ حَتَّى يُؤْمِنُوا بِذَلِكَ الْمِثْلِ‏.‏

وَحَكَى الْوَاحِدِيُّ عَنْ أَكْثَرِ الْمُفَسِّرِينَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ‏}‏ ‏(‏الْبَقَرَةِ‏:‏ 115‏)‏ أَنَّ ‏"‏ الْوَجْهَ ‏"‏ صِلَةٌ، وَالْمَعْنَى‏:‏ فَثَمَّ اللَّهُ يَعْلَمُ وَيَرَى، قَالَ‏:‏ وَالْوَجْهُ قَدْ وَرَدَ صِلَةً مَعَ اسْمِ اللَّهِ كَثِيرًا، كَقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ‏}‏ ‏(‏الرَّحْمَنِ‏:‏ 27‏)‏، ‏{‏إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ‏}‏ ‏(‏الدَّهْرِ‏:‏ 9‏)‏ ‏{‏كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ‏}‏ ‏(‏الْقَصَصِ‏:‏ 88‏)‏‏.‏ قُلْتُ‏:‏ وَالْأَشْبَهُ حَمْلُهُ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الذَّاتُ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏بَلَى مِنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ‏}‏ ‏(‏الْبَقَرَةِ‏:‏ 112‏)‏ وَهُوَ أَوْلَى مِنْ دَعْوَى الزِّيَادَةِ‏.‏

وَمِنَ الزِّيَادَةِ دَعْوَى أَبِي عُبَيْدَةَ ‏{‏يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ‏}‏ ‏(‏الشُّعَرَاءِ‏:‏ 72‏)‏ أَنَّ ‏(‏إِذْ‏)‏ زَائِدَةٌ‏.‏ وَقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ‏}‏ ‏(‏آلِ عِمْرَانَ‏:‏ 50‏)‏‏.‏ وَقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَإِنْ يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ‏}‏ ‏(‏الْمُؤْمِنِ‏:‏ 28‏)‏ وَقَدْ سَبَقَ‏.‏

الرَّابِعَ عَشَرَ‏:‏ تَسْمِيَةُ الشَّيْءِ بِمَا يَؤُولُ إِلَيْهِ مِنْ أَنْوَاعِ الْمَجَازِ الْإِفْرَادِيِّ فِي الْقُرْآنِ

كَقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا‏}‏ ‏(‏نُوحٍ‏:‏ 27‏)‏ أَيْ صَائِرًا إِلَى الْفُجُورِ وَالْكُفْرِ‏.‏ وَقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزًا‏}‏ ‏(‏يُوسُفَ‏:‏ 36‏)‏ أَيْ لِأَنَّ الَّذِي تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ إِنَّمَا هُوَ الْبُرُّ لَا الْخَبْزُ، وَلَمْ يُذْكَرِ الْعُلَمَاءُ هَذَا مِنْ جُمْلَةِ الْأَمْثِلَةِ؛ إِنَّمَا اقْتَصَرُوا فِي التَّمْثِيلِ عَلَى قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏أَعْصِرُ خَمْرًا‏}‏ ‏(‏يُوسُفَ‏:‏ 36‏)‏ أَيْ عِنَبًا، فَعَبَّرَ عَنْهُ لِأَنَّهُ آيِلٌ إِلَى الْخَمْرِيَّةِ، وَقِيلَ‏:‏ لَا مَجَازَ فِيهِ، فَإِنَّ الْخَمْرَ الْعِنَبُ بِعَيْنِهِ، لُغَةٌ لِأَزْدِ عُمَانَ، نَقْلَهُ الْفَارِسِيُّ فِي التَّذْكِرَةِ عَنْ غَرِيبِ الْقُرْآنِ لِابْنُ دُرَيْدٍ‏.‏

وَقِيلَ‏:‏ اكْتَفَى بِالْمُسَبَّبِ، الَّذِي هُوَ الْخَمْرُ، عَنِ السَّبَبِ، الَّذِي هُوَ الْعِنَبُ، قَالَهُ ابْنُ جِنِّي فِي الْخَصَائِصِ‏.‏

وَقِيلَ‏:‏ لَا مَجَازَ فِي الِاسْمِ بَلْ فِي الْفِعْلِ، وَهُوَ ‏(‏أَعْصِرُ‏)‏ فَإِنَّهُ أُطْلِقُ وَأُرِيدُ بِهِ ‏"‏ اسْتَخْرِجُ ‏"‏، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ ابْنُ عَزِيزٍ فِي ‏"‏ غَرِيبِهِ ‏"‏‏.‏

وَقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ‏}‏ ‏(‏الْبَقَرَةِ‏:‏ 230‏)‏ سَمَّاهُ زَوْجًا لِأَنَّ الْعَقْدَ يَؤُولُ إِلَى زَوْجِيَّةٍ لِأَنَّهَا لَا تُنْكَحُ فِي حَالِ كَوْنِهِ زَوْجًا‏.‏ وَقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ‏}‏ ‏(‏الصَّافَّاتِ‏:‏ 101‏)‏، ‏{‏وَبَشَّرُوهُ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ‏}‏ ‏(‏الذَّارِيَاتِ‏:‏ 28‏)‏ وَصَفَهُ فِي حَالِ الْبِشَارَةِ بِمَا يَؤُولُ إِلَيْهِ مِنَ الْعِلْمِ وَالْحِلْمِ‏.‏

تنبيه‏:‏

لَيْسَ هَذَا مِنَ الْحَالِ الْمُقَدَّرَةِ- كَمَا يَتَبَادَرُ إِلَى الذِّهْنِ- لِأَنَّ الَّذِي يَقْتَرِنُ بِالْفَاعِلِ، أَوِ الْمَفْعُولِ، إِنَّمَا هُوَ تَقْدِيرُ ذَلِكَ وَإِرَادَتُهُ، فَيَكُونُ الْمَعْنَى فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا‏}‏ ‏(‏النَّمْلِ‏:‏ 19‏)‏ مُقَدَّرًا ضَحِكُهُ‏.‏ وَكَذَا قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا‏}‏ ‏(‏يُوسُفَ‏:‏ 100‏)‏ عَلَى قَوْلِ أَبِي عَلِيٍّ، وَعَلَى هَذَا حَمْلٌ مِنْهُ لِلْخُرُورِ عَلَى ابْتِدَائِهِ، وَإِنْ حَمَلَهُ عَلَى انْتِهَائِهِ كَانَتِ الْحَالُ الْمَلْفُوظُ بِهَا نَاجِزَةً غَيْرَ مُقَدَّرَةٍ‏.‏

وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ‏}‏ ‏(‏الزُّمَرِ‏:‏ 73‏)‏ أَيِ ادْخُلُوهَا مُقَدِّرِينَ الْخُلُودَ فِيهَا، فَإِنَّ مَنْ دَخَلَ مُدْخَلًا كَرِيمًا مُقَدِّرًا أَلَّا يَخْرُجَ مِنْهُ أَبَدًا كَانَ ذَلِكَ أَتَمَّ لِسُرُورِهِ وَنَعِيمِهِ، وَلَوْ تَوَهَّمَ انْقِطَاعَهُ لِتَنَغَّصَ عَلَيْهِ النَّعِيمُ النَّاجِزُ مِمَّا يَتَوَهَّمُهُ مِنَ الِانْقِطَاعِ اللَّاحِقِ‏.‏

الْخَامِسَ عَشَرَ‏:‏ تَسْمِيَةُ الشَّيْءِ بِمَا كَانَ عَلَيْهِ مِنْ أَنْوَاعِ الْمَجَازِ الْإِفْرَادِيِّ فِي الْقُرْآنِ

كَقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ‏}‏ ‏(‏النِّسَاءِ‏:‏ 2‏)‏ أَيِ الَّذِينَ كَانُوا يَتَامَى؛ إِذْ لَا يُتْمَ بَعْدَ الْبُلُوغِ‏.‏ وَقِيلَ‏:‏ بَلْ هُمْ يَتَامَى حَقِيقَةً، وَأَمَّا حَدِيثُ‏:‏ لَا يُتْمَ بَعْدَ احْتِلَامٍ فَهُوَ مِنْ تَعْلِيمِ الشَّرْعِ لَا اللُّغَةُ، وَهُوَ غَرِيبٌ‏.‏

وَقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ‏}‏ ‏(‏النِّسَاءِ‏:‏ 12‏)‏ وَإِذَا مِتْنَ لَمْ يَكُنَّ أَزْوَاجًا فَسَمَّاهُنَّ بِذَلِكَ، لِأَنَّهُنَّ كُنَّ أَزْوَاجًا‏.‏

وَقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ‏}‏ ‏(‏الْبَقَرَةِ‏:‏ 232‏)‏ أَيِ الَّذِينَ كَانُوا أَزْوَاجَهُنَّ‏.‏ وَكَذَلِكَ‏:‏ وَيَذْرُوَنَ أَزْوَاجًا ‏(‏الْبَقَرَةِ‏:‏ 234‏)‏ لِانْقِطَاعِ الزَّوْجِيَّةِ بِالْمَوْتِ‏.‏

وَقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا‏}‏ ‏(‏طه‏:‏ 74‏)‏ سَمَّاهُ مُجْرِمًا بِاعْتِبَارِ مَا كَانَ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا مِنْ الْإِجْرَامِ‏.‏ وَقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏هَذِهِ بِضَاعَتُنَا رُدَّتْ إِلَيْنَا‏}‏ ‏(‏يُوسُفَ‏:‏ 65‏)‏ وَلَكِنْ مَا رُدَّ عَلَيْهِمْ مَالُهُمْ، وَإِنَّمَا كَانُوا قَدِ اشْتَرَوْا بِهَا الْمِيرَةَ، فَجَعَلَهَا يُوسُفُ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- فِي مَتَاعِهِمْ، وَهِيَ لَهُ دُونَهُمْ، فَنَسَبَهَا اللَّهُ تَعَالَى إِلَيْهِمْ، بِمَعْنَى أَنَّهَا كَانَتْ لَهُمْ‏.‏

السَّادِسَ عَشَرَ‏:‏ إِطْلَاقُ اسْمِ الْمَحَلِّ عَلَى الْحَالِّ مِنْ أَنْوَاعِ الْمَجَازِ الْإِفْرَادِيِّ فِي الْقُرْآنِ

كَقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ‏}‏ ‏(‏الْعَلَقِ‏:‏ 17‏)‏‏.‏ وَقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ‏}‏ ‏(‏الْوَاقِعَةِ‏:‏ 34‏)‏ أَيْ نِسَاؤُهُ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً‏}‏ ‏(‏الْوَاقِعَةِ‏:‏ 35‏)‏‏.‏ وَكَالتَّعْبِيرِ بِالْيَدِ عَنِ الْقُدْرَةِ كَقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏بِيَدِهِ الْمُلْكُ‏}‏ ‏(‏الْمُلْكِ‏:‏ 1‏)‏ وَنَحْوُهُ‏.‏ وَالتَّعْبِيرُ بِالْقَلْبِ عَنِ الْفِعْلِ كَقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا‏}‏ ‏(‏الْأَعْرَافِ‏:‏ 179‏)‏ أَيْ عُقُولٌ‏.‏ وَبِالْأَفْوَاهِ عَنِ الْأَلْسُنِ، كَقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ‏}‏ ‏(‏الْمَائِدَةِ‏:‏ 41‏)‏، ‏{‏يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِمْ‏}‏ ‏(‏آلِ عِمْرَانَ‏:‏ 167‏)‏‏.‏

وَإِطْلَاقُ الْأَلْسُنِ عَلَى اللُّغَاتِ، كَقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ‏}‏ ‏(‏الشُّعَرَاءِ‏:‏ 195‏)‏‏.‏ وَالتَّعْبِيرُ بِالْقَرْيَةِ عَنْ سَاكِنِهَا، نَحْوُ‏:‏ ‏{‏وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ‏}‏ ‏(‏يُوسُفَ‏:‏ 82‏)‏‏.‏

السَّابِعَ عَشَرَ‏:‏ إِطْلَاقُ اسْمِ الْحَالِّ عَلَى الْمَحَلِّ مِنْ أَنْوَاعِ الْمَجَازِ الْإِفْرَادِيِّ فِي الْقُرْآنِ

كَقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ‏}‏ ‏(‏آلِ عِمْرَانَ‏:‏ 107‏)‏ أَيْ فِي الْجَنَّةِ لِأَنَّهَا مَحَلُّ الرَّحْمَةِ‏.‏

وَقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ‏}‏ ‏(‏سَبَأٍ‏:‏ 33‏)‏ أَيْ فِي اللَّيْلِ‏.‏

وَقَالَ الْحَسَنُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنَامِكَ‏}‏ ‏(‏الْأَنْفَالِ‏:‏ 43‏)‏ أَيْ فِي عَيْنِكِ، وَاسْتَبْعَدَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ وَقَدَّرَ‏:‏ يَعْنِي فِي رُؤْيَاكَ‏.‏

وَقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا‏}‏ ‏(‏إِبْرَاهِيمَ‏:‏ 35‏)‏ وَصَفَ الْبَلَدَ بِالْأَمْنِ، وَهُوَ صِفَةٌ لِأَهْلِهِ، وَمِثْلُهُ‏:‏ ‏{‏وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ‏}‏ ‏(‏التِّينِ‏:‏ 3‏)‏، ‏{‏إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ‏}‏ ‏(‏الدُّخَانِ‏:‏ 51‏)‏‏.‏

وَقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ‏}‏ ‏(‏سَبَأٍ‏:‏ 15‏)‏ وَصَفَهَا بِالطَّيِّبِ، وَهُوَ صِفَةٌ لِهَوَائِهَا‏.‏

وَقَدِ اجْتَمَعَ هَذَا وَالَّذِي قَبْلَهُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ‏}‏ ‏(‏الْأَعْرَافِ‏:‏ 31‏)‏ وَذَلِكَ لِأَنَّ أَخْذَ الزِّينَةِ غَيْرُ مُمْكِنٍ لِأَنَّهَا مَصْدَرٌ، فَيَكُونُ الْمُرَادُ مَحَلَّ الزِّينَةِ، وَلَا يَجِبُ أَخْذُ الزِّينَةِ لِلْمَسْجِدِ نَفْسِهِ، فَيَكُونُ الْمُرَادُ بِالْمَسْجِدِ الصَّلَاةَ فَأَطْلَقَ اسْمَ الْمَحَلِّ عَلَى الْحَالِّ، وَفِي الزِّينَةِ بِالْعَكْسِ‏.‏

الثَّامِنَ عَشَرَ‏:‏ إِطْلَاقُ اسْمِ آلَةِ الشَّيْءِ عَلَيْهِ مِنْ أَنْوَاعِ الْمَجَازِ الْإِفْرَادِيِّ فِي الْقُرْآنِ

كَقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ‏}‏ ‏(‏الشُّعَرَاءِ‏:‏ 84‏)‏ أَيْ ذِكْرًا حَسَنًا، أَطْلَقَ اللِّسَانَ وَعَبَّرَ بِهِ عَنِ الذِّكْرِ؛ لِأَنَّ اللِّسَانَ آلَةُ الذِّكْرِ‏.‏ وَقَالَ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا‏}‏ ‏(‏الْقَمَرِ‏:‏ 14‏)‏ أَيْ بِمَرْأًى مِنَّا، لَمَّا كَانَتِ الْعَيْنُ آلَةَ الرُّؤْيَةِ‏.‏ وَقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ‏}‏ ‏(‏إِبْرَاهِيمَ‏:‏ 4‏)‏ أَيْ بِلُغَةِ قَوْمِهِ‏.‏

التَّاسِعَ عَشَرَ‏:‏ إِطْلَاقُ اسْمِ الضِّدَّيْنِ عَلَى الْآخَرِ مِنْ أَنْوَاعِ الْمَجَازِ الْإِفْرَادِيِّ فِي الْقُرْآنِ

كَقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا‏}‏ ‏(‏الشُّورَى‏:‏ 40‏)‏ وَهِيَ مِنَ الْمُبْتَدِئِ سَيِّئَةٌ وَمِنَ اللَّهِ حَسَنَةٌ، فَحُمِلَ اللَّفْظُ عَلَى اللَّفْظِ‏.‏ وَعَكْسُهُ‏:‏ ‏{‏هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ‏}‏ ‏(‏الرَّحْمَنِ‏:‏ 60‏)‏ سُمِّيَ الْأَوَّلُ إِحْسَانًا لِأَنَّهُ مُقَابِلٌ لِجَزَائِهِ، وَهُوَ الْإِحْسَانُ، وَالْأَوَّلُ طَاعَةٌ، كَأَنَّهُ قَالَ‏:‏ هَلْ جَزَاءُ الطَّاعَةِ إِلَّا الثَّوَابُ‏؟‏‏!‏‏.‏ وَكَذَلِكَ‏:‏ ‏{‏وَمَكَرُوا وَمَكْرَ اللَّهُ‏}‏ ‏(‏آلِ عِمْرَانَ‏:‏ 54‏)‏ حُمِلَ اللَّفْظُ عَلَى اللَّفْظِ، فَخَرَجَ الِانْتِقَامُ بِلَفْظِ الذَّنْبِ، لِأَنَّ اللَّهَ لَا يَمْكُرُ‏.‏

وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ‏}‏ ‏(‏الْأَعْرَافِ‏:‏ 99‏)‏ فَهُوَ وَإِنْ لَمْ يَتَقَدَّمْ ذِكْرُ مَكْرِهِمْ فِي اللَّفْظِ، لَكِنْ تَقَدَّمَ فِي سِيَاقِ الْآيَةِ قَبْلَهُ مَا يَصِيرُ إِلَى مَكْرٍ، وَالْمُقَابَلَةُ لَا يُشْتَرَطُ فِيهَا ذِكْرُ الْمُقَابِلِ لَفْظًا، بَلْ هُوَ أَوْ مَا فِي مَعْنَاهُ‏.‏

وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ‏}‏ ‏(‏التَّوْبَةِ‏:‏ 34‏)‏ لَمَّا قَالَ‏:‏ بِشِّرْ هَؤُلَاءِ بِالْجَنَّةِ، قَالَ‏:‏ بِشِّرْ هَؤُلَاءِ بِالْعَذَابِ؛ وَالْبِشَارَةُ إِنَّمَا تَكُونُ فِي الْخَيْرِ لَا فِي الشَّرِّ‏.‏ وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ‏}‏ ‏(‏هُودٍ‏:‏ 38‏)‏ وَالْفِعْلُ الثَّانِي لَيْسَ بِسُخْرِيَةٍ‏.‏

الْعِشْرُونَ‏:‏ تَسْمِيَةُ الدَّاعِي إِلَى الشَّيْءِ بِاسْمِ الصَّارِفِ عَنْهُ مِنْ أَنْوَاعِ الْمَجَازِ الْإِفْرَادِيِّ فِي الْقُرْآنِ

لِمَا بَيْنَهُمَا مِنْ التَّعَلُّقِ ذَكَرَهُ السَّكَّاكِيُّ وَخَرَّجَ عَلَيْهِ قَوْلَهُ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ‏}‏ ‏(‏الْأَعْرَافِ‏:‏ 12‏)‏ يَعْنِي‏:‏ مَا دَعَاكَ أَلَّا تَسْجُدَ‏؟‏ وَاعْتَصَمَ بِذَلِكَ فِي عَدَمِ زِيَادَةِ ‏"‏ لَا ‏"‏ وَقِيلَ‏:‏ مَعْنَاهُ‏:‏ مَا حَمَلَكَ فِي أَلَّا تَسْجُدَ- أَيْ مِنَ الْعُقُوبَةِ- أَيْ مَا جَعَلَكَ فِي مِنْعَةٍ مِنْ عُقُوبَةِ تَرْكِ السُّجُودِ‏.‏ وَهَذَا لَا يَصِحُّ؛ أَمَّا الْأَوَّلُ فَلَمْ يَثْبُتْ فِي اللُّغَةِ، وَأَمَّا الثَّانِي فَكَأَنَّ تَرْكِيبَهُ‏:‏ مَا يَمْنَعُكَ سُؤَالًا يَتَنَاقَضُ عَمَّا يَمْنَعُهُ لَا بِلَفْظِ الْمَاضِي، لِأَنَّهُ لَا تَخْوِيفَ بِمَاضٍ‏.‏

وَيُجَابُ بِأَنَّ الْمُخَالَفَةَ تَقْتَضِي الْأَمَنَةَ، كَأَنَّهُ قِيلَ‏:‏ مَا أَمْنُكَ حَتَّى خَالَفَتْ‏؟‏‏!‏ بَيَانًا لِاغْتِرَارِهِ وَعَدَمِ رُشْدِهِ، وَأَنَّهُ إِنَّمَا خَالَفَ وَحَالُهُ حَالُ مَنِ امْتَنَعَ بِقُوَّتِهِ مِنْ عَذَابِ رَبِّهِ، فَكَنَّى عَنْهُ بِـ ‏"‏ مَا مَنَعَكَ ‏"‏ تَهَكُّمًا، لَا أَنَّهُ امْتَنَعَ حَقِيقَةً وَإِنَّمَا جَسَرَ جَسَارَةَ مَنْ هُوَ فِي مِنْعَةٍ‏.‏ وَرُدَّ أَيْضًا بِأَنَّهُ أَجَابَ‏:‏ ‏(‏أَنَا خَيْرٌ‏)‏ وَهُوَ لَا يَصْلُحُ جَوَابًا إِلَّا لِتَرْكِ السُّجُودِ، وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ لَمْ يُجِبْ، وَلَكِنْ عَدَلَ بِذَلِكَ جَوَابَ مَا لَا يُمْكِنُ جَوَابُهُ‏.‏

الْحَادِي وَالْعِشْرُونَ‏:‏ إِقَامَةُ صِيغَةٍ مَقَامَ أُخْرَى مِنْ أَنْوَاعِ الْمَجَازِ الْإِفْرَادِيِّ فِي الْقُرْآنِ

وَلَهُ صُوَرٌ‏:‏

فَمِنْهُ ‏"‏ فَاعِلٌ ‏"‏ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ‏}‏ ‏(‏هُودِ‏:‏ 43‏)‏ أَيْ لَا مَعْصُومَ‏.‏

وَقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ‏}‏ ‏(‏الطَّارِقِ‏:‏ 6‏)‏ أَيْ مَدْفُوقٍ‏.‏

وَ‏{‏فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ‏}‏ أَيْ مَرَضِيَّةٍ بِهَا، وَقِيلَ‏:‏ عَلَى النَّسَبِ، أَيْ ذَاتِ رِضًا، وَهُوَ مَجَازُ إِفْرَادٍ لَا تَرْكِيبٍ‏.‏

وَقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا‏}‏ ‏(‏الْعَنْكَبُوتِ‏:‏ 67‏)‏ أَيْ مَأْمُونًا فِيهِ‏.‏ ‏{‏وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً‏}‏ ‏(‏الْإِسْرَاءِ‏:‏ 12‏)‏ أَيْ مَبْصُورٌ فِيهَا ‏{‏فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ‏}‏ ‏(‏إِبْرَاهِيمَ‏:‏ 18‏)‏ لِأَنَّ الْمَعْصُوفَ يَكُونُ فِيهِ‏.‏ وَقَوْلِهِ‏:‏ وَخَيْرٌ أَمَلًا ‏(‏الْكَهْفِ‏:‏ 46‏)‏ أَيْ مَأْمُولًا، وَعَكْسُهُ‏:‏ ‏{‏إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا‏}‏ ‏(‏مَرْيَمَ‏:‏ 61‏)‏ أَيْ آتِيًا‏.‏

وَجَعَلَ مِنْهُ بَعْضُهُمْ قَوْلَهُ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏حِجَابًا مَسْتُورًا‏}‏ ‏(‏الْإِسْرَاءِ‏:‏ 45‏)‏ أَيْ سَاتِرًا، وَحَكَى الْهَرَوِيُّ فِي ‏"‏ الْغَرِيبِ ‏"‏ عَنْ أَهْلِ اللُّغَةِ‏:‏ وَتَأْوِيلُ الْحِجَابِ الطَّبْعُ‏.‏ وَقَالَ السُّهَيْلِيُّ‏:‏ الصَّحِيحُ أَنَّهُ عَلَى بَابِهِ، أَيْ مَسْتُورًا عَنِ الْعُيُونِ، وَلَا يُحِسُّ بِهِ أَحَدٌ، وَالْمَعْنَى‏:‏ مَسْتُورٌ عَنْكَ وَعَنْهُمْ، كَمَا قَالَ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ‏}‏ ‏(‏الْمُدَّثِّرِ‏:‏ 31‏)‏ وَقَالَ الْجَوْهَرِيُّ‏:‏ أَيْ حِجَابًا عَلَى حِجَابٍ، وَالْأَوَّلُ مَسْتُورٌ بِالثَّانِي، يُرَادُ بِذَلِكَ كَثَافَةُ الْحِجَابِ؛ لِأَنَّهُ جَعَلَ عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً، وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا‏.‏

قَالَ أَبُو الْفَتْحِ فِي كِتَابِهِ ‏(‏هَذَا الْقَدُّ‏)‏‏:‏ وَسَأَلْتُهُ- يَعْنِي الْفَارِسِيَّ- إِذَا جَعَلْتَ فَاعِلًا بِمَعْنَى مَفْعُولٍ، فَعَلَامَ تَرْفَعُ الضَّمِيرَ الَّذِي فِيهِ‏؟‏ أَعْلَى حَدِّ ارْتِفَاعِ الضَّمِيرِ فِي اسْمِ الْفَاعِلِ أَمِ اسْمِ الْمَفْعُولِ‏؟‏ فَقَالَ‏:‏ إِنْ كَانَ بِمَعْنَى ‏"‏ مَفْعُولٍ ‏"‏ ارْتَفَعَ الضَّمِيرُ فِيهِ ارْتِفَاعَ الضَّمِيرِ فِي اسْمِ الْفَاعِلِ، وَإِنْ جَاءَ عَلَى لَفْظِ اسْمِ الْفَاعِلِ‏.‏

وَمِنْهُ ‏"‏ فَعِيلٌ ‏"‏ بِمَعْنَى ‏"‏ مَفْعُولٍ ‏"‏ كَقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَكَانَ الْكَافِرُ عَلَى رَبِّهِ ظَهِيرًا‏}‏ ‏(‏الْفُرْقَانِ‏:‏ 55‏)‏ أَيْ مَظْهُورًا فِيهِ، وَمِنْهُ ظَهَرْتُ بِهِ فَلَمْ أَلْتَفِتْ إِلَيْهِ‏.‏ أَمَّا نَحْوُ‏:‏ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ ‏(‏الْبَقَرَةِ‏:‏ 178‏)‏ فَقَالَ بَعْضُ النَّحْوِيِّينَ‏:‏ إِنَّهُ بِمَعْنَى ‏"‏ مُؤْلِمٍ ‏"‏ وَرَدَّهُ النَّحَّاسُ، بِأَنَّ ‏"‏ مُؤْلِمًا ‏"‏ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَدْ آلَمَ ثُمَّ زَالَ، وَأَلِيمٌ أَبْلَغُ لِأَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى الْمُلَازَمَةِ، قَالَ‏:‏ وَلِهَذَا مَنَعَ النَّحْوِيُّونَ إِلَّا سِيبَوَيْهِ أَنْ يُعَدَّى فَعِيلٌ‏.‏

وَمِنْهُ مَجِيءُ الْمَصْدَرِ عَلَى فُعُولٍ كَقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا‏}‏ ‏(‏الْفُرْقَانِ‏:‏ 62‏)‏، وَقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا‏}‏ ‏(‏الْإِنْسَانِ‏:‏ 9‏)‏ فَإِنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ الْجَمْعَ هُنَا، بَلِ الْمُرَادُ‏:‏ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ شُكْرًا أَيْ أَصْلًا، وَهَذَا أَبْلَغُ فِي قَصْدِ الْإِخْلَاصِ فِي نَفْيِ الْأَنْوَاعِ‏.‏

وَزَعَمَ السُّهَيْلِيُّ أَنَّهُ جَمْعُ شُكْرٍ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ لِفَوَاتِ هَذَا الْمَعْنَى‏.‏

وَمِنْهَا إِقَامَةُ الْفَاعِلِ مَقَامَ الْمَصْدَرِ نَحْوُ‏:‏ ‏{‏لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ‏}‏ ‏(‏الْوَاقِعَةِ‏:‏ 2‏)‏ أَيْ تَكْذِيبٌ، وَإِقَامَةُ الْمَفْعُولِ مَقَامَ الْمَصْدَرِ نَحْوُ‏:‏ ‏{‏بِأَيِّيكُمُ الْمَفْتُونُ‏}‏ ‏(‏الْقَلَمِ‏:‏ 6‏)‏ أَيِ الْفِتْنَةُ‏.‏

وَمِنْهُ وَصْفُ الشَّيْءِ بِالْمَصْدَرِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي‏}‏ ‏(‏الشُّعَرَاءِ‏:‏ 77‏)‏ قَالُوا‏:‏ إِنَّمَا وَحَّدَهُ، لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى الْمَصْدَرِ، كَأَنَّهُ قَالَ‏:‏ فَإِنَّهُمْ عَدَاوَةٌ‏.‏

وَمَجِيءُ الْمَصْدَرِ بِمَعْنَى الْمَفْعُولِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ‏}‏ ‏(‏الْبَقَرَةِ‏:‏ 255‏)‏ أَيْ مِنْ مَعْلُومِهِ‏.‏

وَقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ‏}‏ ‏(‏النَّجْمِ‏:‏ 30‏)‏ أَيْ مِنَ الْعُلُومِ وَقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏صُنْعَ اللَّهِ‏}‏ ‏(‏النَّمْلِ‏:‏ 88‏)‏ أَيْ مَصْنُوعَهُ‏.‏

وَقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي‏}‏ ‏(‏الْكَهْفِ‏:‏ 98‏)‏ أَيْ مُتَرَحَّمٌ‏:‏ قَالَهُ الْفَارِسِيُّ‏.‏

وَكَذَا قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ‏}‏ ‏(‏الْكَهْفِ‏:‏ 95‏)‏ أَيْ مُقَوًّى بِهِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ أَرَادَ مِنْهُمْ زُبَرَ الْحَدِيدِ وَالنَّفْخَ عَلَيْهَا‏.‏

وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا‏}‏ ‏(‏طه‏:‏ 111‏)‏ أَيْ مَظْلُومًا فِيهِ‏.‏

وَقَوْلُهُ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَجَاءُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ‏}‏ ‏(‏يُوسُفَ‏:‏ 18‏)‏ أَيْ مَكْذُوبٍ فِيهِ، وَإِلَّا لَوْ كَانَ عَلَى ظَاهِرِهِ لَأَشْكَلَ؛ لَأَنَّ الْكَذِبَ مِنْ صِفَاتِ الْأَقْوَالِ لَا الْأَجْسَامِ‏.‏ وَقَالَ الْفَرَّاءُ‏:‏ يَجُوزُ فِي النَّحْوِ‏:‏ بِدَمٍ كَذِبًا بِالنَّصْبِ عَلَى الْمَصْدَرِ؛ لِأَنَّ جَاءُوا فِيهِ مَعْنَى كَذَبُوا كَذِبًا، كَمَا قَالَ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا‏}‏ ‏(‏الْعَادِيَاتِ‏:‏ 1‏)‏ لِأَنَّ الْعَادِيَاتِ بِمَعْنَى الضَّابِحَاتِ‏.‏ وَعَكْسُهُ‏:‏ ‏{‏وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِمَا عَلَّمْنَاهُ‏}‏ ‏(‏يُوسُفَ‏:‏ 68‏)‏‏.‏

وَمِنْهُ ‏"‏ فَعِيلٌ ‏"‏ بِمَعْنَى الْجَمْعِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ‏}‏ ‏(‏التَّحْرِيمِ‏:‏ 4‏)‏‏.‏ وَقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏خَلَصُوا نَجِيًّا‏}‏ ‏(‏يُوسُفَ‏:‏ 80‏)‏‏.‏ وَقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا‏}‏ ‏(‏النِّسَاءِ‏:‏ 69‏)‏‏.‏ وَشَرَطَ بَعْضُهُمْ أَنْ يَكُونَ الْمُخْبَرُ عَنْهُ جَمْعًا، وَأَنَّهُ لَا يَجِيءُ ذَلِكَ فِي الْمُثَنَّى، وَيَرُدُّهُ قَوْلُهُ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ‏}‏ ‏(‏ق‏:‏ 17‏)‏ فَإِنَّهُ نَقَلَ الْوَاحِدِيُّ عَنِ الْمُبَرِّدِ، وَابْنِ عَطِيَّةَ، عَنِ الْفَرَّاءِ، أَنَّ ‏"‏ قَعِيدٌ ‏"‏ أُسْنِدَ لَهُمَا‏.‏

وَقَدْ يَقَعُ الْإِخْبَارُ بِلَفْظِ الْفَرْدِ عَنْ لَفْظِ الْجَمْعِ، وَإِنْ أُرِيدَ مَعْنَاهُ لِنُكْتَةٍ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ‏}‏ ‏(‏الْقَمَرِ‏:‏ 44‏)‏ فَإِنَّ سَبَبَ النُّزُولِ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي جَهْلٍ‏:‏ نَحْنُ نَنْتَصِرُ الْيَوْمَ، يَقْضِي بِإِعْرَابِ ‏"‏ مُنْتَصِرٌ ‏"‏ خَبَرًا‏.‏

وَمِنْهُ إِطْلَاقُ الْخَبَرِ وَإِرَادَةُ الْأَمْرِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ‏}‏ ‏(‏الْبَقَرَةِ‏:‏ 233‏)‏ أَيْ لَيُرْضِعِ الْوَالِدَاتُ أَوْلَادَهُنَّ‏.‏

وَقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ‏}‏ ‏(‏الْبَقَرَةِ‏:‏ 234‏)‏ أَيْ تَتَرَبَّصُ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا‏.‏

وَقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا‏}‏ ‏(‏يُوسُفَ‏:‏ 47‏)‏ وَالْمَعْنَى ازْرَعُوا سَبْعَ سِنِينَ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ‏}‏ ‏(‏يُوسُفَ‏:‏ 47‏)‏‏.‏

وَقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ‏}‏ ‏(‏الصَّفِّ‏:‏ 11‏)‏ مَعْنَاهُ آمِنُوا وَجَاهِدُوا، وَلِذَلِكَ أُجِيبَ بِالْجَزْمِ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ‏}‏ ‏(‏الصَّفِّ‏:‏ 12‏)‏ وَلَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ جَوَابًا لِلِاسْتِفْهَامِ فِي قَوْلِهِ‏:‏ هَلْ أَدُلُّكُمْ ‏(‏الصَّفِّ‏:‏ 10‏)‏ لِأَنَّ الْمَغْفِرَةَ وَإِدْخَالَ الْجِنَانِ لَا يَتَرَتَّبَانِ عَلَى مُجَرَّدِ الدَّلَالَةِ، قَالَهُ أَبُو الْبَقَاءِ وَالشَّيْخُ عِزُّ الدِّينِ‏.‏

وَالتَّحْقِيقُ مَا قَالَهُ النِّيلِيُّ‏:‏ أَنَّهُ جَعَلَ الدَّلَالَةَ عَلَى التِّجَارَةِ سَبَبًا لِوُجُودِهَا، وَالتِّجَارَةُ هِيَ الْإِيمَانُ، وَلِذَلِكَ فَسَّرَهَا بِقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏تُؤْمِنُونَ‏}‏ ‏(‏الصَّفِّ‏:‏ 11‏)‏ فَعُلِمَ أَنَّ التِّجَارَةَ مِنْ جِهَةِ الدَّلَالَةِ هِيَ الْإِيمَانُ فَالدَّلَالَةُ سَبَبُ الْإِيمَانِ، وَالْإِيمَانُ سَبَبُ الْغُفْرَانِ، وَسَبَبُ السَّبَبِ سَبَبٌ، وَهَذَا النَّوْعُ فِيهِ تَأْكِيدٌ، وَهُوَ مِنْ مَجَازِ التَّشْبِيهِ، شَبَّهَ الطَّلَبَ فِي تَأَكُّدِهِ بِخَبَرِ الصَّادِقِ الَّذِي لَا بُدَّ مِنْ وُقُوعِهِ، وَإِذَا شَبَّهَهُ بِالْخَبَرِ الْمَاضِي كَانَ آكَدَ‏.‏

وَمِنْهُ عَكْسُهُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدًّا‏}‏ ‏(‏مَرْيَمَ‏:‏ 75‏)‏ وَالتَّقْدِيرُ‏:‏ مَدَّهُ الرَّحْمَنُ مَدًّا‏.‏

وَقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏اتَّبِعُوا سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ‏}‏ ‏(‏الْعَنْكَبُوتِ‏:‏ 12‏)‏ أَيْ نَحْمِلُ‏.‏

قَالَ الْكَوَاشِيُّ‏:‏ وَالْأَمْرُ بِمَعْنَى الْخَبَرِ أَبْلُغُ مِنَ الْخَبَرِ لِتَضَمُّنِهِ اللُّزُومَ، نَحْوُ‏:‏ إِنْ زُرْتِنَا فَلْنُكْرِمْكَ‏.‏ يُرِيدُونَ تَأْكِيدَ إِيجَابِ الْإِكْرَامِ عَلَيْهِمْ، كَذَا قَالَ الشَّيْخُ عِزُّ الدِّينِ؛ مَقْصُودُهُ تَأْكِيدُ الْخَبَرِ؛ لِأَنَّ الْأَمْرَ لِلْإِيجَابِ يُشْبِهُ الْخَبَرَ فِي إِيجَابِهِ‏.‏

وَجَعَلَ الْفَارِسِيُّ مِنْهُ قَوْلَهُ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ كُنْ فَيَكُونُ‏}‏ ‏(‏النَّحْلِ‏:‏ 40‏)‏ قَالَ‏:‏ ‏(‏كُنْ‏)‏ لَفْظُهُ أَمْرٌ، وَالْمُرَادُ الْخَبَرُ، وَالتَّقْدِيرُ‏:‏ يَكُونُ فَيَكُونُ، أَوْ عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ فَهُوَ يَكُونُ، قَالَ‏:‏ وَلِهَذَا أَجْمَعَ الْقُرَّاءُ عَلَى رَفْعِ ‏(‏فَيَكُونُ‏)‏ وَرَفَضُوا فِيهِ النَّصْبَ إِلَّا مَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَامِرٍ، وَسَوَّغَ النَّصْبُ لِكَوْنِهِ بِصِيغَةِ الْأَمْرِ، قَالَ‏:‏ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْطُوفًا عَلَى ‏(‏نَقُولَ‏)‏ فَيَجِيءُ النَّصْبِ عَلَى الْفِعْلِ الْمَنْصُوبِ بِأَنَّ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يَطَّرِدُ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ‏}‏ ‏(‏آلِ عِمْرَانَ‏:‏ 59‏)‏ إِذْ لَا يَسْتَقِيمُ هُنَا الْعَطْفُ الْمَذْكُورِ؛ لِأَنَّ ‏(‏قَالَ‏)‏ مَاضٍ، ‏(‏وَيَكُونُ‏)‏ مُضَارِعًا، فَلَا يُحْسِنُ عَطْفُهُ عَلَيْهِ لِاخْتِلَافِهِمَا‏.‏

قُلْتُ‏:‏ وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ الْفَارِسِيُّ ضَعِيفٌ مُخَالِفٌ لِقَوَاعِدِ أَهْلِ السُّنَّةِ‏.‏

وَمِنْهُ إِطْلَاقُ الْخَبَرِ وَإِرَادَةُ النَّهْيِ، كَقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ‏}‏ ‏(‏الْبَقَرَةِ‏:‏ 83‏)‏ وَمَعْنَاهُ لَا تَعْبُدُوا‏.‏

وَقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏لَا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلَا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ‏}‏ ‏(‏الْبَقَرَةِ‏:‏ 84‏)‏ أَيْ لَا تَسْفِكُوا وَلَا تَخْرِجُوا‏.‏

وَقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ‏}‏ ‏(‏الْبَقَرَةِ‏:‏ 272‏)‏ أَيْ وَلَا تُنْفِقُوا‏.‏

الثَّانِي وَالْعِشْرُونَ‏:‏ إِطْلَاقُ الْأَمْرِ وَإِرَادَةُ التَّهْدِيدِ وَالتَّلْوِينِ مِنْ أَنْوَاعِ الْمَجَازِ الْإِفْرَادِيِّ فِي الْقُرْآنِ

وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْمَعَانِي السِّتَّةَ عَشَرَ وَمَا زِيدَ عَلَيْهَا مِنْ أَنْوَاعِ الْمَجَازِ، وَلَمْ يَذْكُرُوهُ هُنَا فِي أَقْسَامِهِ‏.‏

الثَّالِثُ وَالْعِشْرُونَ‏:‏ إِضَافَةُ الْفِعْلِ إِلَى مَا لَيْسَ بِفَاعِلٍ لَهُ فِي الْحَقِيقَةِ مِنْ أَنْوَاعِ الْمَجَازِ الْإِفْرَادِيِّ فِي الْقُرْآنِ

إِمَّا عَلَى التَّشْبِيهِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ‏}‏ ‏(‏الْكَهْفِ‏:‏ 77‏)‏ فَإِنَّهُ شَبَّهَ مَيْلَهُ لِلْوُقُوعِ بِشَبَهِ الْمُرِيدِ لَهُ‏.‏

وَإِمَّا لِأَنَّهُ وَقَعَ فِيهِ ذَلِكَ الْفِعْلُ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏الم غُلِبَتِ الرُّومُ‏}‏ ‏(‏الرُّومِ‏:‏ 1 وَ 2‏)‏ فَالْغَلَبَةُ وَاقِعَةٌ بِهِمْ مِنْ غَيْرِهِمْ، ثُمَّ قَالَ‏:‏ ‏{‏وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ‏}‏ ‏(‏الرُّومِ‏:‏ 3‏)‏ فَأَضَافَ الْغَلَبَ إِلَيْهِمْ، وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْغَلَبَ وَإِنْ كَانَ لِغَيْرِهِمْ، فَهُوَ مُتَّصِلٌ بِهِمْ لِوُقُوعِهِ بِهِمْ‏.‏

وَمِثْلُهُ‏:‏ ‏{‏وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ‏}‏ ‏(‏الْبَقَرَةِ‏:‏ 177‏)‏، ‏{‏وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ‏}‏ ‏(‏الْإِنْسَانِ‏:‏ 8‏)‏ فَالْحُبُّ فِي الظَّاهِرِ مُضَافٌ إِلَى الطَّعَامِ وَالْمَالِ، وَهُوَ فِي الْحَقِيقَةِ لِصَاحِبِهِمَا‏.‏

وَمِثْلُهُ‏:‏ ‏{‏وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ‏}‏ ‏(‏الرَّحْمَنِ‏:‏ 46‏)‏، ‏{‏ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ‏}‏ ‏(‏إِبْرَاهِيمَ‏:‏ 14‏)‏ أَيْ مَقَامَهُ بَيْنَ يَدَيَّ‏.‏

وَإِمَّا لِوُقُوعِهِ فِيهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏يَوْمًا يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا‏}‏ ‏(‏الْمُزَّمِّلِ‏:‏ 17‏)‏‏.‏ وَإِمَّا لِأَنَّهُ سَبَبُهُ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا‏}‏ ‏(‏التَّوْبَةِ‏:‏ 124‏)‏، ‏{‏وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ‏}‏ ‏(‏فُصِّلَتْ‏:‏ 23‏)‏، ‏{‏يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا‏}‏ ‏(‏الْأَعْرَافِ‏:‏ 27‏)‏، ‏{‏وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ‏}‏ ‏(‏إِبْرَاهِيمَ‏:‏ 28‏)‏ كَمَا تَقَدَّمَ فِي أَمْثِلَةِ الْمَجَازِ الْعَقْلِيِّ‏.‏

وَقَدْ يُقَالُ‏:‏ إِنَّ النَّزْعَ وَالْإِحْلَالَ يُعَبَّرُ بِهِمَا عَنْ فِعْلِ مَا أَوْجَبَهُمَا، فَالْمَجَازُ إِفْرَادِيٌّ لَا إِسْنَادِيٌّ‏.‏

وَقَوْلُهُ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏يَوْمًا يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا‏}‏ ‏(‏الْمُزَّمِّلُ‏:‏ 17‏)‏ أَيْ يَجْعَلُ هَوْلُهُ‏:‏ فَهُوَ مِنْ مَجَازِ الْحَذْفِ‏.‏

الرَّابِعُ وَالْعِشْرُونَ‏:‏ إِطْلَاقُ الْفِعْلِ وَالْمُرَادُ مُقَارَبَتُهُ وَمُشَارَفَتُهُ لَا حَقِيقَتُهُ مِنْ أَنْوَاعِ الْمَجَازِ الْإِفْرَادِيِّ فِي الْقُرْآنِ

كَقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ‏}‏ ‏(‏الطَّلَاقِ‏:‏ 2‏)‏ أَيْ قَارَبْنَ بُلُوغَ الْأَجَلِ، أَيِ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ؛ لِأَنَّ الْإِمْسَاكَ لَا يَكُونُ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ فَيَكُونُ بُلُوغُ الْأَجَلِ تَمَامُهُ؛ كَقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ‏}‏ ‏(‏الْبَقَرَةِ‏:‏ 232‏)‏ أَيْ أَتْمَمْنَ الْعِدَّةَ وَأَرَدْنَ مُرَاجَعَةَ الْأَزْوَاجِ، وَلَوْ كَانَتْ مُقَارَبَتُهُ لَمْ يَكُنْ لِلْوَلِيِّ حُكْمٌ فِي إِزَالَةِ الرَّجْعَةِ؛ لِأَنَّهَا بِيَدِ الزَّوْجِ، وَلَوْ كَانَ الطَّلَاقُ غَيْرُ رَجْعِيٍّ لَمْ يَكُنْ لِلْوَلِيِّ أَيْضًا عَلَيْهَا حُكْمٌ قَبْلَ تَمَامِ الْعِدَّةِ، وَلَا تُسَمَّى عَاضِلًا حَتَّى يَمْنَعَهَا تَمَامُ الْعِدَّةِ مِنَ الْمُرَاجَعَةِ‏.‏

وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ‏}‏ ‏(‏النَّحْلِ‏:‏ 61‏)‏ الْمَعْنَى قَارَبَ، وَبِهِ يَنْدَفِعُ السُّؤَالُ الْمَشْهُورُ فِيهَا، إِنَّ عِنْدَ مَجِيءِ الْأَجَلِ لَا يُتَصَوَّرُ تَقْدِيمٌ وَلَا تَأْخِيرٌ‏.‏ وَقَوْلُهُ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ‏}‏ ‏(‏الْبَقَرَةِ‏:‏ 180‏)‏ أَيْ قَارَبَ حُضُورُ الْمَوْتِ‏.‏

وَقَوْلُهُ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏كَذَلِكَ سَلَكْنَاهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ فَيَأْتِيهِمْ بَغْتَةً‏}‏ ‏(‏الشُّعَرَاءِ‏:‏ 200- 202‏)‏ أَيْ حَتَّى يُشَارِفُوا الرُّؤْيَةَ وَيُقَارِبُوهَا‏.‏

وَيُحْتَمَلُ أَنْ تُحْمَلَ الرُّؤْيَةُ عَلَى حَقِيقَتِهَا؛ وَذَلِكَ عَلَى أَنْ يَكُونَ‏:‏ يَرَوْنَهُ فَلَا يَظُنُّونَهُ عَذَابًا‏.‏ ‏{‏وَإِنْ يَرَوْا كِسْفًا مِنَ السَّمَاءِ سَاقِطًا يَقُولُوا سَحَابٌ مَرْكُومٌ‏}‏ ‏(‏الطُّورِ‏:‏ 44‏)‏ أَيْ يَعْتَقِدُونَهُ عَذَابًا، وَلَا يَظُنُّونَهُ وَاقِعًا بِهِمْ، وَحِينَئِذٍ فَيَكُونُ أَخْذُهُ لَهُمْ بَغْتَةً بَعْدَ رُؤْيَتِهِ‏.‏

وَمِنْ دَقِيقِ هَذَا النَّوْعِ قَوْلُهُ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ‏}‏ ‏(‏هُودٍ‏:‏ 45‏)‏ الْمُرَادُ قَارَبَ النِّدَاءَ، لَا أَوْقَعَ النِّدَاءِ، لِدُخُولِ الْفَاءِ فِي ‏(‏فَقَالَ‏)‏ فَإِنَّهُ لَوْ وَقَعَ النِّدَاءُ لَسَقَطَتْ، وَكَانَ مَا ذُكِرَ تَفْسِيرًا لِلنِّدَاءِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ‏}‏ ‏(‏آلِ عِمْرَانَ‏:‏ 38‏)‏ وَقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا قَالَ رَبِّ‏}‏ ‏(‏مَرْيَمَ‏:‏ 3- 4‏)‏ لَمَّا فَسَّرَ النِّدَاءَ سَقَطَتِ الْفَاءُ‏.‏

وَذَكَرَ النُّحَاةُ أَنَّ هَذِهِ الْفَاءَ تَفْسِيرِيَّةٌ؛ لِأَنَّهَا عَطَفَتْ مُفَسَّرًا عَلَى مُجْمَلٍ، كَقَوْلِهِ‏:‏ تَوَضَّأَ فَغَسَلَ وَجْهَهُ‏.‏ وَفَائِدَةُ ذَلِكَ أَنَّ نُوحًا عَلَيْهِ السَّلَامُ أَرَادَ ذَلِكَ، فَرُدَّ الْقَصْدُ إِلَيْهِ وَلَمْ يَقَعْ، لَا عَنْ قَصْدٍ‏.‏

وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ‏}‏ ‏(‏النِّسَاءِ‏:‏ 9‏)‏ أَيْ وَلْيَخْشَ الَّذِينَ إِنْ شَارَفُوا أَنْ يَتْرُكُوا، وَإِنَّمَا أُوِّلَ التَّرْكُ بِمُشَارَفَةِ التَّرْكِ؛ لِأَنَّ الْخِطَابَ لِلْأَوْصِيَاءِ إِنَّمَا يَتَوَجَّهُ إِلَيْهِمْ قَبْلَ التَّرْكِ؛ لِأَنَّهُمْ بَعْدَهُ أَمْوَاتٌ‏.‏

وَقَرِيبٌ مِنْهُ إِطْلَاقُ الْفِعْلِ وَإِرَادَةُ إِرَادَتِهِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ‏}‏ ‏(‏النَّحْلِ‏:‏ 98‏)‏ أَيْ إِذَا أَرَدْتَ‏.‏ وَقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا‏}‏ ‏(‏الْمَائِدَةِ‏:‏ 6‏)‏ أَيْ إِذَا أَرَدْتُمْ، لِأَنَّ الْإِرَادَةَ سَبَبُ الْقِيَامِ‏.‏ إِذَا قَضَى أَمْرًا ‏(‏مَرْيَمَ‏:‏ 35‏)‏ أَيْ إِذَا أَرَادَ‏.‏ ‏{‏وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ‏}‏ ‏(‏الْمَائِدَةِ‏:‏ 42‏)‏ أَيْ أَرَدْتَ الْحُكْمَ‏.‏

وَمِثْلُهُ‏:‏ ‏{‏وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ‏}‏ ‏(‏النِّسَاءِ‏:‏ 58‏)‏‏.‏

‏{‏إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ‏}‏ ‏(‏الْمُجَادَلَةِ‏:‏ 12‏)‏ أَيْ أَرَدْتُمْ مُنَاجَاتَهُ ‏{‏إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ‏}‏ ‏(‏الطَّلَاقِ‏:‏ 1‏)‏، وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي‏}‏ ‏(‏الْأَعْرَافِ‏:‏ 178‏)‏ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ‏:‏ مَنْ يُرِدِ اللَّهُ هِدَايَتَهُ؛ وَلَقَدْ أَحْسَنَ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- لِئَلَّا يَتَّحِدَ الشَّرْطُ وَالْجَزَاءُ‏.‏

وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا‏}‏ ‏(‏الْأَنْعَامِ‏:‏ 152‏)‏ أَيْ إِذَا أَرَدْتُمُ الْقَوْلَ‏.‏

‏{‏وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا‏}‏ ‏(‏الْفُرْقَانِ‏:‏ 67‏)‏ أَيْ إِذَا أَرَادُوا الْإِنْفَاقَ‏.‏

وَقَوْلُهُ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءَهَا بَأْسُنَا‏}‏ ‏(‏الْأَعْرَافِ‏:‏ 4‏)‏ لِأَنَّ الْإِهْلَاكَ إِنَّمَا هُوَ بَعْدَ مَجِيءِ الْبَأْسِ؛ وَإِنَّمَا خَصَّ هَذَيْنِ الْوَقْتَيْنِ- أَعْنِي الْبَيَاتَ وَالْقَيْلُولَةَ- لِأَنَّهَا وَقْتُ الْغَفْلَةِ وَالدَّعَةِ، فَيَكُونُ نُزُولُ الْعَذَابِ فِيهِمَا أَشَدُّ وَأَفْظَعُ‏.‏

وَقَوْلُهُ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏مَا آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا‏}‏ ‏(‏الْأَنْبِيَاءِ‏:‏ 6‏)‏ أَيْ أَرَدْنَا إِهْلَاكَهَا‏.‏ ‏{‏فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ‏}‏ ‏(‏الْأَعْرَافِ‏:‏ 136‏)‏ أَيْ فَأَرَدْنَا الِانْتِقَامَ مِنْهُمْ؛ وَحِكْمَتُهُ أَنَّا إِذَا أَرَدْنَا أَمْرًا نُقَدِّرُ فِيهِ إِرَادَتَنَا، وَإِنْ كَانَ خَارِقًا لِلْعَادَةِ‏.‏

وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏قَالُوا يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا‏}‏ ‏(‏هُودٍ‏:‏ 32‏)‏ أَيْ أَرَدْتَ جِدَالَنَا وَشَرَعْتَ فِيهِ؛ وَكَانَ الْمُوجِبُ لِهَذَا التَّقْدِيرِ خَوْفَ التَّكْرَارِ؛ لِأَنَّ ‏{‏جَادَلْتَ‏}‏ فَاعَلْتَ ‏"‏ وَهُوَ يُعْطِي التَّكْرَارَ، أَوْ أَنَّ الْمَعْنَى‏:‏ لَمْ تُرِدِ مِنَّا غَيْرَ الْجِدَالِ لَهُ لَا النَّصِيحَةَ‏.‏

قُلْتُ‏:‏ وَإِنَّمَا عَبَّرُوا عَنْ إِرَادَةِ الْفِعْلِ بِالْفِعْلِ؛ لِأَنَّ الْفِعْلَ يُوجَدُ بِقُدْرَةِ الْفَاعِلِ وَإِرَادَتِهِ وَقَصْدِهِ إِلَيْهِ، كَمَا عُبِّرَ بِالْفِعْلِ مِنَ الْقُدْرَةِ عَلَى الْفِعْلِ فِي قَوْلِهِمْ‏:‏ الْإِنْسَانُ لَا يَطِيرُ، وَالْأَعْمَى لَا يُبْصِرُ؛ أَيْ يَقْدِرُ عَلَى الطَّيَرَانِ وَالْإِبْصَارِ؛ وَإِنَّمَا حُمِلَ عَلَى ذَلِكَ دُونَ الْحَمْلِ عَلَى ظَاهِرِهِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى جَوَازِ الصَّلَاةِ بِوُضُوءٍ وَاحِدٍ، وَالْحَمْلُ عَلَى الظَّاهِرِ يُوجِبُ أَنَّ مَنْ جَلَسَ يَتَوَضَّأُ‏.‏ ثُمَّ قَامَ إِلَى الصَّلَاةِ يَلْزَمُهُ وُضُوءٌ آخَرَ، فَلَا يَزَالُ مَشْغُولًا بِالْوُضُوءِ وَلَا يَتَفَرَّغُ لِلصَّلَاةِ‏.‏ وَفَسَادُهُ بَيِّنٌ‏.‏

الْخَامِسُ وَالْعِشْرُونَ‏:‏ إِطْلَاقُ الْأَمْرِ بِالشَّيْءِ لِلتَّلَبُّسِ بِهِ وَالْمُرَادُ دَوَامُهُ مِنْ أَنْوَاعِ الْمَجَازِ الْإِفْرَادِيِّ فِي الْقُرْآنِ

كَقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا‏}‏ ‏(‏النِّسَاءِ‏:‏ 136‏)‏ هَكَذَا أَجَابَ بِهِ الزَّمَخْشَرِيُّ وَغَيْرُهُ‏.‏ وَأَصْلُ السُّؤَالِ غَيْرُ وَارِدٍ؛ لِأَنَّ الْأَمْرَ لَا يَتَعَلَّقُ بِالْمَاضِي وَلَا بِالْحَالِ، وَإِنَّمَا يَتَعَلَّقُ بِالْمُسْتَقْبَلِ الْمَعْدُومِ حَالَةَ تَوَجُّهِ الْخِطَابِ، فَلَيْسَ ذَلِكَ تَحْصِيلًا لِلْحَاصِلِ بَلْ تَحْصِيلًا لِلْمَعْدُومِ؛ فَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الْمُخَاطَبُ حَالَةَ الْخِطَابِ عَلَى ذَلِكَ الْفِعْلِ أَمْ لَا؛ لِأَنَّ الَّذِي هُوَ عَلَيْهِ عِنْدَ الْخِطَابِ مِثْلُ الْمَأْمُورِ بِهِ لَا نَفْسُ الْمَأْمُورِ بِهِ‏.‏ وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْكُلَّ مَأْمُورٌ بِالْإِنْشَاءِ، فَالْمُؤْمِنُ بِشَيْءٍ مَا سَبَقَ لَهُ أَمْثَالُهُ، وَالْكَافِرُ يُنْشِئُ مَا لَمْ يَسْبِقْ مِنْهُ أَمْثَالُهُ‏.‏

السَّادِسُ وَالْعِشْرُونَ‏:‏ إِطْلَاقُ اسْمُ الْبُشْرَى عَلَى الْمُبَشَّرِ بِهِ مِنْ أَنْوَاعِ الْمَجَازِ الْإِفْرَادِيِّ فِي الْقُرْآنِ

كَقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ‏}‏ ‏(‏الْحَدِيدِ‏:‏ 12‏)‏ قَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ‏:‏ التَّقْدِيرُ‏:‏ بُشْرَاكُمْ دُخُولُ جَنَّاتٍ، أَوْ خُلُودُ جَنَّاتٍ؛ لِأَنَّ الْبُشْرَى مَصْدَرٌ، وَالْجَنَّاتُ ذَاتٌ، فَلَا يُخْبَرُ بِالذَّاتِ عَنِ الْمَعْنَى‏.‏

وَنَحْوُهُ إِطْلَاقُ اسْمِ الْمَقُولِ عَلَى الْقَوْلِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏قُلْ لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ‏}‏ ‏(‏الْإِسْرَاءِ‏:‏ 42‏)‏‏.‏ وَمِنْهُ‏:‏ ‏{‏سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا‏}‏ ‏(‏الْإِسْرَاءِ‏:‏ 43‏)‏ أَيْ عَنْ مَدْلُولِ قَوْلِهِمْ وَمِنْهُ‏:‏ ‏{‏فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا‏}‏ ‏(‏الْأَحْزَابِ‏:‏ 69‏)‏ أَيْ مِنْ مَقُولِهِمْ؛ وَهُوَ الْأُدْرَةُ‏.‏

وَإِطْلَاقُ الِاسْمِ عَلَى الْمُسَمَّى، كَقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا‏}‏ ‏(‏يُوسُفَ‏:‏ 40‏)‏ أَيْ مُسَمَّيَاتٍ‏.‏ ‏{‏سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى‏}‏ ‏(‏الْأَعْلَى‏:‏ 1‏)‏ أَيْ رَبَّكَ‏.‏

وَإِطْلَاقُ اسْمِ الْكَلِمَةِ عَلَى الْمُتَكَلِّمِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ‏}‏ ‏(‏يُونُسَ‏:‏ 64‏)‏ أَيْ لِمُقْتَضَى عَذَابِ اللَّهِ، وَ‏{‏إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ‏}‏ ‏(‏آلِ عِمْرَانَ‏:‏ 45‏)‏ تَجَوَّزَ بِالْكَلِمَةِ عَنِ الْمَسِيحِ، لِكَوْنِهِ تَكَوَّنَ بِهَا مِنْ غَيْرِ أَبٍ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ‏}‏ ‏(‏آلِ عِمْرَانَ‏:‏ 45‏)‏ وَلَا تَتَّصِفُ الْكَلِمَةُ بِذَلِكَ‏.‏

وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى‏}‏ ‏(‏آلِ عِمْرَانَ‏:‏ 45‏)‏، فَإِنَّ الضَّمِيرَ فِيهِ عَائِدٌ إِلَى مَدْلُولِ الْكَلِمَةِ، وَالْمُرَادُ بِالِاسْمِ الْمُسَمَّى، فَالْمَعْنَى‏:‏ الْمُسَمَّى الْمُبَشَّرُ بِهِ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ‏.‏

وَإِطْلَاقُ اسْمِ الْيَمِينِ عَلَى الْمَحْلُوفِ بِهِ؛ كَقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ‏}‏ ‏(‏الْبَقَرَةِ‏:‏ 224‏)‏ أَيْ لَا تَجْعَلُوا يَمِينَ اللَّهِ، أَوْ قَسَمُ اللَّهِ مَانِعًا لِمَا تَحْلِفُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْبِرِّ وَالتَّقْوَى بَيْنَ النَّاسِ‏.‏

إِطْلَاقُ الْهَوَى عَنِ الْمَهْوِيِّ، وَمِنْهُ‏:‏ ‏{‏وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى‏}‏ ‏(‏النَّازِعَاتِ‏:‏ 40‏)‏ أَيْ عَمَّا تَهْوَاهُ مِنَ الْمَعَاصِي، وَلَا يَصِحُّ نَهْيُهَا عَنْ هَوَاهَا، وَهُوَ مَيْلُهَا؛ لِأَنَّهُ تَكْلِيفٌ لِمَا لَا يُطَاقُ؛ إِلَّا عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ، أَيْ نَهْيِ النَّفْسِ عَنِ اتِّبَاعِ الْهَوَى‏.‏

التَّجَوُّزُ عَنِ الْمَجَازِ بِالْمَجَازِ

وَهُوَ أَنْ تَجْعَلَ الْمَجَازَ الْمَأْخُوذَ عَنِ الْحَقِيقَةِ بِمَثَابَةِ الْحَقِيقَةِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَجَازٍ آخَرَ؛ فَتَتَجَوَّزُ بِالْمَجَازِ الْأَوَّلِ عَنِ الثَّانِي لِعَلَاقَةٍ بَيْنَهُمَا‏.‏

مِثَالُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَلَكِنْ لَا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا‏}‏ ‏(‏الْبَقَرَةِ‏:‏ 235‏)‏ فَإِنَّهُ مَجَازٌ عَنْ مَجَازٍ، فَإِنَّ الْوَطْءَ تُجُوِّزَ عَنْهُ بِالسِّرِّ، لِأَنَّهُ لَا يَقَعُ غَالِبًا إِلَّا فِي السِّرِّ، وَتُجُوِّزَ بِالسِّرِّ عَنِ الْعَقْدِ؛ لِأَنَّهُ مُسَبَّبٌ عَنْهُ، فَالصَّحِيحُ لِلْمَجَازِ الْأَوَّلِ الْمُلَازَمَةُ، وَالثَّانِي السَّبَبِيَّةُ، وَالْمَعْنَى‏:‏ لَا تُوَاعِدُوهُنَّ عَقْدَ نِكَاحٍ‏.‏

وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ‏}‏ ‏(‏الْمَائِدَةِ‏:‏ 5‏)‏ إِنْ حُمِلَ عَلَى ظَهْرِهِ كَانَ مِنْ مَجَازِ الْمَجَازِ، لِأَنَّ قَوْلَهُ‏:‏ ‏"‏ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ ‏"‏ مَجَازٌ عَنْ تَصْدِيقِ الْقَلْبِ بِمَدْلُولِ هَذَا اللَّفْظِ، وَالتَّعْبِيرُ بِلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ عَنِ الْوَحْدَانِيَّةِ مِنْ مَجَازِ التَّعْبِيرِ بِالْمَقُولِ عَنِ الْمَقُولِ فِيهِ‏.‏

وَالْأَوَّلُ مِنْ مَجَازِ السَّبَبِيَّةِ؛ لِأَنَّ تَوْحِيدَ اللِّسَانِ، مُسَبَّبٌ عَنْ تَوْحِيدِ الْجَنَانِ‏.‏

قُلْتُ‏:‏ وَهَذَا يُسَمِّيهِ ابْنُ السَّيِّدِ ‏"‏ مَجَازَ الْمَرَاتِبِ ‏"‏؛ وَجَعَلَ مِنْهُ قَوْلَهُ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا‏}‏ ‏(‏الْأَعْرَافِ‏:‏ 26‏)‏ فَإِنَّ الْمُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ لَيْسَ هُوَ نَفْسَ اللِّبَاسِ؛ بَلِ الْمَاءُ الْمُنْبِتُ لِلزَّرْعِ، الْمُتَّخَذُ مِنْهُ الْغَزَلُ الْمَنْسُوجُ مِنْهُ اللِّبَاسُ‏.‏