فصل: الْفَصْلُ الْأَوَّلُ: فِي أَسْبَابِهِ

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البرهان في علوم القرآن ***


الْإِيجَازُ

وَهُوَ قِسْمٌ مِنَ الْحَذْفِ، وَيُسَمَّى إِيجَازَ الْقَصْرِ، فَإِنَّ الْإِيجَازَ عِنْدَهُمْ قِسْمَانِ‏:‏ وَجِيزٌ بِلَفْظٍ، وَوَجِيزٌ بِحَذْفٍ‏.‏

فَالْوَجِيزُ بِاللَّفْظِ أَنْ يَكُونَ اللَّفْظُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمَعْنَى أَقَلَّ مِنَ الْقَدْرِ الْمَعْهُودِ عَادَةً؛ وَسَبَبُ حُسْنِهِ أَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى التَّمَكُّنِ فِي الْفَصَاحَةِ، وَلِهَذَا قَالَ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-‏:‏ أُوتِيتُ جَوَامِعَ الْكَلِمِ‏.‏

وَاللَّفْظُ لَا يَخْلُو إِمَّا أَنْ يَكُونَ مُسَاوِيًا لِمَعْنَاهُ وَهُوَ الْمُقَدَّرُ، أَوْ أَقَلَّ مِنْهُ وَهُوَ الْمَقْصُورُ‏.‏

أَمَّا الْمُقَدَّرُ فَكَقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ‏}‏ ‏(‏النَّحْلِ‏:‏ 90‏)‏ الْآيَةَ، وَقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏قُتِلَ الْإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ‏}‏ ‏(‏عَبَسَ‏:‏ 17‏)‏ وَهُوَ كَثِيرٌ‏.‏

وَأَمَّا الْمَقْصُورُ؛ فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ نُقْصَانُ لَفْظِهِ عَنْ مَعْنَاهُ لِاحْتِمَالِ لَفْظِهِ لِمَعَانٍ كَثِيرَةٍ، أَوْ لَا‏.‏

الْأَوَّلُ كَاللَّفْظِ الْمُشْتَرَكِ الَّذِي لَهُ مَجَازَانِ، أَوْ حَقِيقَةٌ وَمَجَازٌ، إِذَا أُرِيدَ مَعَانِيهِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ‏}‏ ‏(‏الْأَحْزَابِ‏:‏ 56‏)‏ فَإِنَّ الصَّلَاةَ مِنَ اللَّهِ مُغَايِرَةٌ لِلصَّلَاةِ مِنَ الْمَلَائِكَةِ، وَالْحَقُّ أَنَّهُ مِنَ الْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ وَهُوَ الِاعْتِنَاءُ وَالتَّعْظِيمُ‏.‏

وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ‏}‏ ‏(‏الْحَجِّ‏:‏ 18‏)‏ الْآيَةَ، فَإِنَّ السُّجُودَ فِي الْكُلِّ يَجْمَعُهُ مَعْنًى وَاحِدٌ وَهُوَ الِانْقِيَادُ‏.‏

وَالثَّانِي كَقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ‏}‏ ‏(‏الْأَعْرَافِ‏:‏ 199‏)‏‏.‏

وَقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ‏}‏ ‏(‏الْأَنْعَامِ‏:‏ 82‏)‏‏.‏

وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ‏}‏ ‏(‏الْبَقَرَةِ‏:‏ 179‏)‏ إِذْ مَعْنَاهُ كَبِيرٌ وَلَفْظُهُ يَسِيرٌ‏.‏

وَقَدْ نُظِرَ لِقَوْلِ الْعَرَبِ‏:‏ ‏"‏ الْقَتْلُ أَنْفَى لِلْقَتْلِ ‏"‏ وَهُوَ بِنُونٍ ثُمَّ فَاءٍ، وَيُرْوَى بِتَاءٍ ثُمَّ قَافٍ، وَيُرْوَى ‏"‏ أَوْقَى ‏"‏ وَالْمَعْنَى‏:‏ أَنَّهُ إِذَا أُقِيمَ وَتَحَقَّقَ حُكْمُهُ خَافَ مَنْ يُرِيدُ قَتْلَ أَحَدٍ أَنْ يُقْتَصَّ مِنْهُ، وَقَدْ حَكَاهُ الْحَوْفِيُّ فِي ‏"‏ تَفْسِيرِهِ ‏"‏ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- وَقَالَ‏:‏ قَوْلُ عَلِيٍّ فِي غَايَةِ الْبَلَاغَةِ، وَقَدْ أَجْمَعَ النَّاسُ عَلَى بَلَاغَتِهِ وَفَصَاحَتِهِ، وَأَبْلَغُ مِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ‏}‏ ‏(‏الْبَقَرَةِ‏:‏ 179‏)‏ وَقَدْ تَكَلَّمُوا فِي وَجْهِ الْأَبْلَغِيَّةِ‏.‏

وَقَدْ أَشَارَ صَاحِبُ ‏"‏ الْمَثَلِ السَّائِرِ ‏"‏ إِلَى إِنْكَارِ ذَلِكَ وَقَالَ‏:‏ لَا نِسْبَةَ بَيْنَ كَلَامِ الْخَالِقِ عَزَّ وَجَلَّ وَكَلَامِ الْمَخْلُوقِ، وَإِنَّمَا الْعُلَمَاءُ يَقْدَحُونَ أَذْهَانَهُمْ فِيمَا يَظْهَرُ لَهُمْ مِنْ ذَلِكَ، وَهُوَ كَمَا قَالَ، وَكَيْفَ يُقَابَلُ الْمُعْجِزُ بِغَيْرِهِ مُفَاضَلَةً، وَهُوَ مِنْهُ فِي مَرْتَبَةِ الْعَجْزِ عَنْ إِدْرَاكِهِ‏:‏

وَمَاذَا يَقُولُ الْقَائِلُونَ إِذَا بَدَا *** جَمَالُ خِطَابٍ فَاتَ فَهْمَ الْخَلَائِقِ

وَجُمْلَةُ مَا ذَكَرُوا فِي ذَلِكَ وُجُوهٌ‏:‏

أَحَدُهَا‏:‏ أَنَّ قَوْلَهُ‏:‏ ‏{‏الْقِصَاصِ حَيَاةٌ‏}‏ ‏(‏الْبَقَرَةِ‏:‏ 179‏)‏ أَوْجَزُ، فَإِنَّ حُرُوفَهُ عَشْرَةٌ، وَحُرُوفُ ‏(‏الْقَتْلُ أَنْفَى لِلْقَتْلِ‏)‏ أَرْبَعَةَ عَشَرَ حَرْفًا، وَالتَّاءُ وَأَلِفُ الْوَصْلِ سَاقِطَانِ لَفْظًا، وَكَذَا التَّنْوِينُ لِتَمَامِ الْكَلَامِ الْمُقْتَضِي لِلْوَقْفِ‏.‏

الثَّانِي‏:‏ أَنَّ قَوْلَهُمْ فِيهِ كُلْفَةٌ بِتَكْرِيرِ الْقَتْلِ، وَلَا تَكْرِيرَ فِي الْآيَةِ‏.‏

الثَّالِثُ‏:‏ أَنَّ لَفْظَ ‏"‏ الْقِصَاصِ ‏"‏ فِيهِ حُرُوفٌ مُتَلَائِمَةٌ؛ لِمَا فِيهِ مِنَ الْخُرُوجِ مِنَ الْقَافِ إِلَى الصَّادِ، إِذِ الْقَافُ مِنْ حُرُوفِ الِاسْتِعْلَاءِ، وَالصَّادُ مِنْ حُرُوفِ الِاسْتِعْلَاءِ وَالْإِطْبَاقِ، بِخِلَافِ الْخُرُوجِ مِنَ الْقَافِ إِلَى التَّاءِ الَّتِي هِيَ حَرْفٌ مُنْخَفِضٌ، فَهُوَ غَيْرُ مُلَائِمٍ لِلْقَافِ، وَكَذَا الْخُرُوجُ مِنَ الصَّادِ إِلَى الْحَاءِ أَحْسَنُ مِنَ الْخُرُوجِ مِنَ اللَّامِ إِلَى الْهَمْزَةِ، لِبُعْدِ مَا دُونَ طَرَفِ اللِّسَانِ وَأَقْصَى الْحَلْقِ‏.‏

الرَّابِعُ‏:‏ فِي النُّطْقِ بِالصَّادِ وَالْحَاءِ وَالتَّاءِ حُسْنُ الصَّوْتِ، وَلَا كَذَلِكَ تَكْرِيرُ الْقَافِ وَالْفَاءِ‏.‏

الْخَامِسُ‏:‏ تَكْرِيرُ ذَلِكَ فِي كَلِمَتَيْنِ مُتَمَاثِلَتَيْنِ بَعْدَ فَصْلٍ طَوِيلٍ، وَهُوَ ثِقَلٌ فِي الْحُرُوفِ أَوِ الْكَلِمَاتِ‏.‏

السَّادِسُ‏:‏ الْإِثْبَاتُ أَوَّلٌ وَالنَّفْيُ ثَانٍ عَنْهُ، وَالْإِثْبَاتُ أَشْرَفُ‏.‏

السَّابِعُ‏:‏ أَنَّ الْقِصَاصَ الْمَبْنِيَّ عَلَى الْمُسَاوَاةِ أَوْزَنُ فِي الْمُعَادَلَةِ مِنْ مُطْلَقِ الْقَتْلِ، وَلِذَلِكَ يَلْزَمُ التَّخْصِيصُ، بِخِلَافِ الْآيَةِ‏.‏

الثَّامِنُ‏:‏ الطِّبَاعُ أَقْبَلُ لِلَفْظِ ‏"‏ الْحَيَاةِ ‏"‏ مِنْ كَلِمَةِ ‏"‏ الْقَتْلِ ‏"‏؛ لِمَا فِيهِ مِنَ الِاخْتِصَارِ، وَعَدَمِ تَكْرَارِ الْكَلِمَةِ، وَعَدَمِ تَنَافُرِ الْحُرُوفِ، وَعَدَمِ تَكْرَارِ الْحَرْفَيْنِ، وَقَبُولِ الطَّبْعِ لِلَفْظِ ‏"‏ الْحَيَاةِ ‏"‏، وَصِحَّةِ الْإِطْلَاقِ‏.‏

التَّاسِعُ‏:‏ أَنَّ نَفْيَ الْقَتْلِ لَا يَسْتَلْزِمُ الْحَيَاةَ، وَالْآيَةُ نَاصَّةٌ عَلَى ثُبُوتِهَا الَّتِي هِيَ الْغَرَضُ الْمَطْلُوبُ مِنْهُ‏.‏

الْعَاشِرُ‏:‏ أَنَّ قَوْلَهُمْ لَا يَكَادُ يُفْهَمُ إِلَّا بَعْدَ فَهْمِ أَنَّ الْقِصَاصَ هُوَ الْحَيَاةُ، وَقَوْلَهُ‏:‏ ‏{‏فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ‏}‏ ‏(‏الْبَقَرَةِ‏:‏ 179‏)‏ مَفْهُومٌ لِأَوَّلِ وَهْلَةٍ‏.‏

الْحَادِي عَشَرَ‏:‏ أَنَّ قَوْلَهُمْ خَطَأٌ؛ فَإِنَّ الْقَتْلَ كُلَّهُ لَيْسَ نَافِيًا لِلْقَتْلِ؛ فَإِنَّ الْقَتْلَ الْعُدْوَانِيَّ لَا يَنْفِي الْقَتْلَ، وَكَذَا الْقَتْلُ فِي الرِّدَّةِ وَالزِّنَا لَا يَنْفِيهِ، وَإِنَّمَا يَنْفِيهِ قَتْلٌ خَاصٌّ وَهُوَ قَتْلُ الْقِصَاصِ، فَالَّذِي فِي الْآيَةِ تَنْصِيصٌ عَلَى الْمَقْصُودِ، وَالَّذِي فِي الْمَثَلِ لَا يُمْكِنُ حَمْلُهُ عَلَى ظَاهِرِهِ‏.‏

الثَّانِيَ عَشَرَ‏:‏ فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى رَبْطِ الْمَقَادِيرِ بِالْأَسْبَابِ، وَإِنْ كَانَتِ الْأَسْبَابُ أَيْضًا بِالْمَقَادِيرِ، وَكَلَامُ الْعَرَبِ يَتَضَمَّنُهُ؛ إِلَّا أَنَّ فِيهِ زِيَادَةً وَهِيَ الدَّلَالَةُ عَلَى رَبْطِ الْأَجَلِ فِي الْحَيَاةِ بِالسَّبَبِ لَا مِنْ مُجَرَّدِ نَفْيِ الْقَتْلِ‏.‏

الثَّالِثَ عَشَرَ‏:‏ فِي تَنْكِيرِ ‏"‏ حَيَاةٌ ‏"‏ نَوْعُ تَعْظِيمٍ؛ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةً مُتَطَاوِلَةً، كَقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ‏}‏ ‏(‏الْبَقَرَةِ‏:‏ 96‏)‏ وَلَا كَذَلِكَ الْمَثَلُ؛ فَإِنَّ اللَّامَ فِيهِ لِلْجِنْسِ؛ وَلِهَذَا فَسَّرُوا الْحَيَاةَ فِيهَا بِالْبَقَاءِ‏.‏

الرَّابِعَ عَشَرَ‏:‏ فِيهِ بِنَاءُ أَفْعَلِ التَّفْضِيلِ مِنْ فِعْلٍ مُتَعَدٍّ، وَالْآيَةُ سَالِمَةٌ مِنْهُ‏.‏

الْخَامِسَ عَشَرَ‏:‏ أَنَّ ‏"‏ أَفْعَلَ ‏"‏ فِي الْغَالِبِ تَقْتَضِي الِاشْتِرَاكَ؛ فَيَكُونُ تَرْكُ الْقِصَاصِ نَافِيًا الْقَتْلَ، وَلَكِنَّ الْقِصَاصَ أَكْثَرُ نَفْيًا، وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ، وَالْآيَةُ سَالِمَةٌ مِنْ هَذَا‏.‏

السَّادِسَ عَشَرَ‏:‏ أَنَّ اللَّفْظَ الْمَنْطُوقَ بِهِ إِذَا تَوَالَتْ حَرَكَاتُهُ تَمَكَّنَ اللِّسَانُ مِنَ النُّطْقِ، وَظَهَرَتْ فَصَاحَتُهُ، بِخِلَافِهِ إِذَا تَعَقَّبَ كُلَّ حَرَكَةٍ سُكُونٌ، وَالْحَرَكَاتُ تَنْقَطِعُ بِالسَّكَنَاتِ‏.‏ نَظِيرُهُ‏:‏ إِذَا تَحَرَّكَتِ الدَّابَّةُ أَدْنَى حَرَكَةٍ فَخَنِسَتْ، ثُمَّ تَحَرَّكَتْ فَخَنِسَتْ، لَا يُتَبَيَّنُ انْطِلَاقُهَا، وَلَا تَتَمَكَّنُ مِنْ حَرَكَتِهَا عَلَى مَا تَخْتَارُهُ، وَهِيَ كَالْمُقَيَّدَةِ، وَقَوْلُهُمْ‏:‏ ‏"‏ الْقَتْلُ أَنْفَى لِلْقَتْلِ ‏"‏ حَرَكَاتُهُ مُتَعَاقِبَةٌ بِالسُّكُونِ بِخِلَافِ الْآيَةِ‏.‏

السَّابِعَ عَشَرَ‏:‏ الْآيَةُ اشْتَمَلَتْ عَلَى فَنٍّ بَدِيعٍ، وَهُوَ جَعْلُ أَحَدِ الضِّدَّيْنِ الَّذِي هُوَ الْفَنَاءُ وَالْمَوْتُ مَحَلًّا وَمَكَانًا لِضِدِّهِ الَّذِي هُوَ الْحَيَاةُ، وَاسْتِقْرَارُ الْحَيَاةِ فِي الْمَوْتِ مُبَالَغَةٌ عَظِيمَةٌ، ذَكَرَهُ فِي ‏"‏ الْكَشَّافِ ‏"‏‏.‏

الثَّامِنَ عَشَرَ‏:‏ أَنْ فِي الْآيَةِ طِبَاقًا؛ لِأَنَّ الْقِصَاصَ مُشْعِرٌ بِضِدِّ الْحَيَاةِ، بِخِلَافِ الْمَثَلِ‏.‏

التَّاسِعَ عَشَرَ‏:‏ الْقِصَاصُ فِي الْأَعْضَاءِ وَالنُّفُوسِ، وَقَدْ جُعِلَ فِي الْكُلِّ حَيَاةٌ؛ فَيَكُونُ جَمْعًا بَيْنَ حَيَاةِ النَّفْسِ وَالْأَطْرَافِ، وَإِنْ فُرِضَ قِصَاصٌ بِمَا لَا حَيَاةَ فِيهِ كَالسِّنِّ؛ فَإِنَّ مَصْلَحَةَ الْحَيَاةِ تَنْقُصُ بِذَهَابِهِ، وَيَصِيرُ كَنَوْعٍ آخَرَ، وَهَذِهِ اللَّطِيفَةُ لَا يَتَضَمَّنُهَا الْمَثَلُ‏.‏

الْعِشْرُونَ‏:‏ أَنَّهَا أَكْثَرُ فَائِدَةً؛ لِتُضَمُّنِهَا الْقِصَاصَ فِي الْأَعْضَاءِ، وَأَنَّهُ نَبَّهَ عَلَى حَيَاةِ النَّفْسِ مِنْ وَجْهَيْنِ‏:‏ مِنْ وَجْهٍ بِهِ الْقِصَاصُ صَرِيحًا، وَمِنْ وَجْهِ الْقِصَاصِ فِي الطَّرْفِ؛ لِأَنَّ أَحَدَ أَحْوَالِهَا أَنْ يَسْرِيَ إِلَى النَّفْسِ فَيُزِيلَهَا، وَلَا كَذَلِكَ الْمَثَلُ‏.‏

وَقَدْ قِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ‏.‏

وَأَمَّا زِيَادَةُ ‏(‏لَكُمْ‏)‏ فَفِيهَا لَطِيفَةٌ؛ وَهِيَ بَيَانُ الْعِنَايَةِ بِالْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْخُصُوصِ، وَأَنَّهُمُ الْمُرَادُ حَيَاتُهُمْ لَا غَيْرُهُمْ؛ لِتَخْصِيصِهِمْ بِالْمَعْنَى مَعَ وُجُودِهِ فِيمَنْ سِوَاهُمْ‏.‏

وَالْحَاصِلُ أَنَّ هَذَا مِنَ الْبَيَانِ الْمُوجَزِ الَّذِي لَا يَقْتَرِنُ بِهِ شَيْءٌ بَدِيعُ الْإِيجَازِ فِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ‏.‏

وَمِنْ بَدِيعِ الْإِيجَازِ مِنْ نَظْمِ اللُّغَةِ فِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ قَوْلُهُ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ اللَّهُ الصَّمَدُ‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الْآيَةَ، فَإِنَّهَا نِهَايَةُ التَّنْزِيهِ‏.‏

وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ‏}‏ الدُّخَانِ‏:‏ ‏(‏25- 26‏)‏ وَهَذَا بَيَانٌ عَجِيبٌ يُوجِبُ التَّحْذِيرَ مِنَ الِاغْتِرَارِ بِالْإِمْهَالِ‏.‏

وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقَاتُهُمْ أَجْمَعِينَ‏}‏ ‏(‏الدُّخَانِ‏:‏ 40‏)‏‏.‏

وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ‏}‏ ‏(‏الدُّخَانِ‏:‏ 51‏)‏ وَهَذَا مِنْ أَحْسَنِ الْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ‏.‏

وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ‏}‏ ‏(‏الْحِجْرِ‏:‏ 94‏)‏ فَهَذِهِ ثَلَاثُ كَلِمَاتٍ اشْتَمَلَتْ عَلَى جَمِيعِ مَا فِي الرِّسَالَةِ‏.‏

وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ‏}‏ ‏(‏الْأَعْرَافِ‏:‏ 199‏)‏ فَهَذِهِ جَمَعَتْ مَكَارِمَ الْأَخْلَاقِ كُلَّهَا؛ لِأَنَّ فِي ‏(‏خُذِ الْعَفْوَ‏)‏ صِلَةَ الْقَاطِعِينَ وَالصَّفْحَ عَنِ الظَّالِمِينَ، وَفِي الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ تَقْوَى اللَّهِ، وَصِلَةَ الْأَرْحَامِ، وَصَرْفَ اللِّسَانِ عَنِ الْكَذِبِ، وَفِي الْإِعْرَاضِ عَنِ الْجَاهِلِينَ الصَّبْرَ وَالْحِلْمَ وَتَنْزِيهَ النَّفْسِ عَنْ مُمَارَاةِ السَّفِيهِ‏.‏

قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏مُدْهَامَّتَانِ‏}‏ ‏(‏الرَّحْمَنِ‏:‏ 64‏)‏ مَعْنَاهُ مُسَوَّدَتَانِ مِنْ شِدَّةِ الْخُضْرَةِ‏.‏

وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ‏}‏ ‏(‏الْبَقَرَةِ‏:‏ 286‏)‏‏.‏

وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا‏}‏ ‏(‏النَّازِعَاتِ‏:‏ 31‏)‏ فَدَلَّ بِأَمْرَيْنِ عَلَى جَمِيعِ مَا أَخْرَجَهُ مِنَ الْأَرْضِ قُوتًا وَمَتَاعًا لِلْأَنَامِ؛ مِنَ الْعُشْبِ، وَالشَّجَرِ، وَالْحَبِّ، وَالتَّمْرِ، وَالْعَصْفِ، وَالْحَطَبِ، وَاللِّبَاسِ، وَالنَّارِ، وَالْمِلْحِ؛ لِأَنَّ النَّارَ مِنَ الْعِيدَانِ وَالْمِلْحَ مِنَ الْمَاءِ‏.‏

وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ‏}‏ ‏(‏الرَّعْدِ‏:‏ 4‏)‏ فَدَلَّ عَلَى نَفْسِهِ وَلُطْفِهِ وَوَحْدَانِيَّتِهِ وَقُدْرَتِهِ، وَهَدَى لِلْحُجَّةِ عَلَى مَنْ ضَلَّ عَنْهُ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ ظُهُورُ الثَّمَرَةِ بِالْمَاءِ وَالتُّرْبَةِ لَوَجَبَ فِي الْقِيَاسِ أَلَّا تَخْتَلِفَ الطُّعُومُ وَالرَّوَائِحُ، وَلَا يَقَعَ التَّفَاضُلُ فِي الْجِنْسِ الْوَاحِدِ إِذَا نَبَتَ فِي مَغْرِسٍ وَاحِدٍ، وَلَكِنَّهُ صُنْعُ اللَّطِيفِ الْخَبِيرِ‏.‏

وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏لَا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلَا يُنْزِفُونَ‏}‏ ‏(‏الْوَاقِعَةِ‏:‏ 19‏)‏ كَيْفَ نَفَى عَنْهَا بِهَذَيْنِ جَمِيعَ عُيُوبِ الْخَمْرِ، وَجَمَعَ بِقَوْلِهِ‏:‏ لَا يُنْزِفُونَ عَدَمَ الْعَقْلِ، وَذَهَابَ الْمَالِ، وَنَفَادَ الشَّرَابِ‏.‏

وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كَانُوا لَا يَعْقِلُونَ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وَلَوْ كَانُوا لَا يُبْصِرُونَ‏}‏ ‏(‏يُونُسَ‏:‏ 42- 43‏)‏ فَدَلَّ عَلَى فَضْلِ السَّمْعِ عَلَى الْبَصَرِ، حَيْثُ جَعَلَ مَعَ الصَّمَمِ فُقْدَانَ الْعَقْلِ، وَلَمْ يَجْعَلْ مَعَ الْعَمَى إِلَّا فُقْدَانَ الْبَصَرِ وَحْدَهُ‏.‏

وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ‏}‏ ‏(‏هُودٍ‏:‏ 44‏)‏ كَيْفَ أَمَرَ وَنَهَى وَأَخْبَرَ وَنَادَى وَنَعَتَ وَسَمَّى وَأَهْلَكَ وَأَبْقَى وَأَسْعَدَ وَأَشْقَى، قَصَّ مِنَ الْأَنْبَاءِ مَا لَوْ شُرِحَ مَا انْدَرَجَ فِي هَذِهِ الْجُمْلَةِ مِنْ بَدِيعِ اللَّفْظِ وَالْبَلَاغَةِ وَالْإِيجَازِ وَالْبَيَانِ لَجَفَّتِ الْأَقْلَامُ وَانْحَسَرَتِ الْأَيْدِي‏.‏

وَقَوْلُهُ تَعَالَى عَنِ النَّمْلَةِ‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ‏}‏ ‏(‏النَّمْلِ‏:‏ 18‏)‏ فَجَمَعَ فِي هَذِهِ اللَّفْظَةِ أَحَدَ عَشَرَ جِنْسًا مِنَ الْكَلَامِ؛ نَادَتْ، وَكَنَّتْ، وَنَبَّهَتْ، وَسَمَّعَتْ، وَأَمَرَتْ، وَقَصَّتْ، وَحَذَّرَتْ، وَخَصَّتْ، وَعَمَّتْ، وَأَشَارَتْ، وَغَدَرَتْ؛ فَالنِّدَاءُ ‏"‏ يَا ‏"‏، وَالْكِنَايَةُ ‏"‏ أَيُّ ‏"‏، وَالتَّنْبِيهُ ‏"‏ هَا ‏"‏، وَالتَّسْمِيَةُ ‏"‏ النَّمْلُ ‏"‏، وَالْأَمْرُ ‏"‏ ادْخُلُوا ‏"‏، وَالْقَصَصُ ‏"‏ مَسَاكِنَكُمْ ‏"‏، وَالتَّحْذِيرُ ‏"‏ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ ‏"‏، وَالتَّخْصِيصُ ‏"‏ سُلَيْمَانُ ‏"‏، وَالتَّعْمِيمُ ‏"‏ جُنُودُهُ ‏"‏، وَالْإِشَارَةُ ‏"‏ وَهُمْ ‏"‏، وَالْعُذْرُ ‏"‏ لَا يَشْعُرُونَ ‏"‏، فَأَدَّتْ خَمْسَ حُقُوقٍ‏:‏ حَقَّ اللَّهِ، وَحَقَّ رَسُولِهِ، وَحَقَّهَا، وَحَقَّ رَعِيَّتِهَا، وَحَقَّ جُنُودِ سُلَيْمَانَ؛ فَحَقُّ اللَّهِ أَنَّهَا اسْتُرْعِيَتْ عَلَى النَّمْلِ فَقَامَتْ بِحَقِّهِمْ، وَحَقُّ سُلَيْمَانَ أَنَّهَا نَبَّهَتْهُ عَلَى النَّمْلِ، وَحَقُّهَا إِسْقَاطُهَا حَقَّ اللَّهِ عَنِ الرَّعِيَّةِ فِي نُصْحِهِمْ، وَحَقُّ الرَّعِيَّةِ بِنُصْحِهَا لَهُمْ لِيَدْخُلُوا مَسَاكِنَهُمْ، وَحَقُّ الْجُنُودِ إِعْلَامُهَا إِيَّاهُمْ وَجَمِيعَ الْخَلْقِ أَنَّ مَنِ اسْتَرْعَا رَعِيَّةً فَوَجَبَ عَلَيْهِ حِفْظُهَا وَالذَّبُّ عَنْهَا، وَهُوَ دَاخِلٌ فِي الْخَبَرِ الْمَشْهُورِ‏:‏ كُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ‏.‏

وَيُقَالُ إِنَّ سُلَيْمَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمْ يَضْحَكْ فِي عُمْرِهِ إِلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً، وَأُخْرَى حِينَ أَشْرَفَ عَلَى وَادِي النَّمْلِ فَرَآهَا عَلَى كِبَرِ الثَّعَالِبِ، لَهَا خَرَاطِيمُ وَأَنْيَابٌ، فَقَالَ رَئِيسُهُمُ‏:‏ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ، فَخَرَجَ كَبِيرُ النَّمْلِ فِي عِظَمِ الْجَوَامِيسِ، فَلَمَّا نَظَرَ إِلَيْهِ سُلَيْمَانُ هَالَهُ، فَأَرَاهُ الْخَاتَمَ فَخَضَعَ لَهُ، ثُمَّ قَالَ‏:‏ أَهَذِهِ كُلُّهَا نَمْلٌ‏؟‏ فَقَالَ إِنَّ النَّمْلَ لَكَبِيرٌ، إِنَّهَا ثَلَاثَةُ أَصْنَافٍ‏:‏ صِنْفٌ فِي الْجِبَالِ، وَصِنْفٌ فِي الْقُرَى، وَصِنْفٌ فِي الْمُدُنِ‏.‏ فَقَالَ سُلَيْمَانُ عَلَيْهِ السَّلَامُ‏:‏ اعْرِضْهَا عَلَيَّ‏.‏ فَقَالَ لَهُ‏:‏ قِفْ‏.‏ فَبَقِيَ سُلَيْمَانُ عَلَيْهِ السَّلَامُ تِسْعِينَ يَوْمًا وَاقِفًا يَمُرُّ عَلَيْهِ النَّمْلُ، فَقَالَ‏:‏ هَلِ انْقَطَعَتْ عَسَاكِرُكُمْ‏؟‏ فَقَالَ مَلِكُ النَّمْلِ‏:‏ لَوْ وَقَفْتَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَا انْقَطَعَتْ‏.‏ فَذَكَرَ الْجُنَيْدُ أَنَّ سُلَيْمَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ لِعَظِيمِ النَّمْلِ‏:‏ لِمَ قُلْتَ لِلنَّمْلِ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ، أَخِفْتَ عَلَيْهِمْ مِنْ ظُلْمِنَا‏؟‏ قَالَ‏:‏ لَا؛ وَلَكِنْ خِفْتُ أَنْ يُفْتَتَنُوا بِمَا رَأَوْا مِنْ مُلْكِكَ، فَيَشْغَلَهُمْ ذَلِكَ عَنْ طَاعَةِ اللَّهِ تَعَالَى‏.‏

وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ‏}‏ ‏(‏يس‏:‏ 78- 79‏)‏ وَهَذَا أَشَدُّ مَا يَكُونُ مِنَ الْحِجَاجِ‏.‏

وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ‏}‏ ‏(‏الزُّخْرُفِ‏:‏ 39‏)‏ وَهَذَا أَعْظَمُ مَا يَكُونُ مِنَ التَّحْسِيرِ‏.‏

وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ‏}‏ ‏(‏الزُّخْرُفِ‏:‏ 67‏)‏ وَهَذَا أَشَدُّ مَا يَكُونُ مِنَ التَّنْفِيرِ عَنِ الْخَلَّةِ إِلَّا عَلَى التَّقْوَى‏.‏

وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَى عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ‏}‏ وَهَذَا أَشَدُّ مَا يَكُونُ مِنَ التَّحْذِيرِ مِنَ التَّفْرِيطِ‏.‏

وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏أَفَمَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِنًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ‏}‏ ‏(‏فُصِّلَتْ‏:‏ 40‏)‏ وَهَذَا أَشَدُّ مَا يَكُونُ مِنَ التَّبْعِيدِ‏.‏

وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ‏}‏ ‏(‏فُصِّلَتْ‏:‏ 40‏)‏ فَهَذَا أَعْظَمُ مَا يَكُونُ مِنَ التَّخْيِيرِ‏.‏

وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ‏}‏ ‏(‏ق‏:‏ 19- 22‏)‏ وَهَذَا أَبْلَغُ مَا يَكُونُ مِنَ التَّذْكِيرِ‏.‏

وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ‏}‏ ‏(‏الذَّارِيَاتِ‏:‏ 52- 53‏)‏ وَهَذَا أَشَدُّ مَا يَكُونُ فِي التَّقْرِيعِ عَلَى التَّمَادِي فِي الْبَاطِلِ‏.‏

وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ‏}‏ ‏(‏الرَّحْمَنِ‏:‏ 43- 44‏)‏ وَهَذَا أَشَدُّ مَا يَكُونُ مِنَ التَّقْرِيعِ‏.‏

وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ‏}‏ ‏(‏آلِ عِمْرَانَ‏:‏ 185‏)‏ وَهَذَا غَايَةُ التَّرْهِيبِ‏.‏

وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ‏}‏ ‏(‏فُصِّلَتْ‏:‏ 31‏)‏ وَهَذِهِ غَايَةُ التَّرْغِيبِ‏.‏

وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ‏}‏ ‏(‏الْمُؤْمِنُونَ‏:‏ 91‏)‏‏.‏

وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا‏}‏ ‏(‏الْأَنْبِيَاءِ‏:‏ 22‏)‏ وَهَذَا أَبْلَغُ مَا يَكُونُ مِنَ الْحِجَاجِ، وَهُوَ الْأَصْلُ الَّذِي عَلَيْهِ أُثْبِتَتْ دَلَالَةُ التَّمَانُعِ فِي عِلْمِ الْكَلَامِ‏.‏

وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ‏}‏ ‏(‏الزُّخْرُفِ‏:‏ 71‏)‏ وَهَذَا أَبْلَغُ مَا يَكُونُ مِنَ الْوَصْفِ بِكُلِّ مَا تَمِيلُ إِلَيْهِ النَّفْسُ مِنَ الشَّهَوَاتِ، وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ مِنَ الْمَرْئِيَّاتِ؛ لِيُعْلَمَ أَنَّ هَذَا اللَّفْظَ الْقَلِيلَ جِدًّا حَوَى مَعَانِيَ كَثِيرَةً لَا تَنْحَصِرُ عَدَدًا‏.‏

وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ‏}‏ ‏(‏الْمُنَافِقُونَ‏:‏ 4‏)‏ وَهَذَا أَشَدُّ مَا يَكُونُ مِنَ الْخَوْفِ‏.‏

وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ‏}‏ ‏(‏فَاطِرٍ‏:‏ 43‏)‏‏.‏

وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ‏}‏ ‏(‏يُونُسَ‏:‏ 23‏)‏‏.‏

وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏وَلَوْ تَرَى إِذْ فَزِعُوا فَلَا فَوْتَ وَأُخِذُوا مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ‏}‏ ‏(‏سَبَأٍ‏:‏ 51‏)‏‏.‏

وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏هُدًى لِلْمُتَّقِينَ‏}‏ ‏(‏الْبَقَرَةِ‏:‏ 2‏)‏‏.‏

وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ‏}‏ ‏(‏غَافِرٍ‏:‏ 18‏)‏‏.‏

وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ‏}‏ ‏(‏الْأَنْفَالِ‏:‏ 58‏)‏ مَعْنَاهُ‏:‏ قَابِلْهُمْ بِمَا يَفْعَلُونَهُ مَعَكَ، وَعَامِلْهُمْ مِثْلَ مُعَامَلَتِهِمْ لَكَ سَوَاءً، مَعَ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ ‏"‏ سَوَاءٍ ‏"‏ مِنَ الْأَمْرِ بِالْعَدْلِ‏.‏

وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ‏}‏ ‏(‏هُودٍ‏:‏ 44‏)‏ فَإِنَّهُ أَشَارَ بِهِ إِلَى انْقِطَاعِ مُدَّةِ الْمَاءِ النَّازِلِ مِنَ السَّمَاءِ وَالنَّابِعِ مِنَ الْأَرْضِ، وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏وَقُضِيَ الْأَمْرُ‏}‏ ‏(‏هُودٍ‏:‏ 44‏)‏ أَيْ‏:‏ هَلَكَ مَنْ قُضِيَ هَلَاكُهُ، وَنَجَا مَنْ قُدِّرَتْ نَجَاتُهُ، وَإِنَّمَا عَدَلَ عَنْ لَفْظِهِ إِلَى لَفْظِ التَّمْثِيلِ لِأَمْرَيْنِ‏:‏ اخْتِصَارِ اللَّفْظِ، وَكَوْنِ الْهَلَاكِ وَالنَّجَاةِ كَانَا بِأَمْرٍ مُطَاعٍ؛ إِذِ الْأَمْرُ يَسْتَدْعِي آمِرًا وَمُطَاعًا، وَقَضَاؤُهُ يَدُلُّ عَلَى قُدْرَتِهِ‏.‏

وَمِنْ أَقْسَامِ الْإِيجَازِ الِاقْتِصَارُ عَلَى السَّبَبِ الظَّاهِرِ لِلشَّيْءِ؛ اكْتِفَاءً بِذَلِكَ عَنْ جَمِيعِ الْأَسْبَابِ، كَمَا يُقَالُ‏:‏ فُلَانٌ لَا يَخَافُ الشُّجْعَانَ، وَالْمُرَادُ لَا يَخَافُ أَحَدًا‏.‏

وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ‏}‏ ‏(‏الْبَقَرَةِ‏:‏ 228‏)‏ وَلَا شَكَّ أَنَّ مَنْ فَسَخَتِ النِّكَاحَ أَيْضًا تَتَرَبَّصُ؛ لِأَنَّ السَّبَبَ الْغَالِبَ لِلْفِرَاقِ الطَّلَاقُ‏.‏

وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ‏}‏ ‏(‏النِّسَاءِ‏:‏ 43‏)‏ وَلَمْ يَذْكُرِ النَّوْمَ وَغَيْرَهُ؛ لِأَنَّ السَّبَبَ الضَّرُورِيَّ النَّاقِضَ خُرُوجُ الْخَارِجِ؛ فَإِنَّ النَّوْمَ النَّاقِضَ لَيْسَ بِضَرُورِيٍّ، فَذَكَرَ السَّبَبَ الظَّاهِرَ، وَعُلِمَ مِنْهُ الْحُكْمُ فِي الْبَاقِي‏.‏

وَمِنْهُ قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى‏}‏ ‏(‏طه‏:‏ 7‏)‏ أَيْ‏:‏ وَهُوَ مَا لَمْ يَقَعْ فِي وَهْمِ الضَّمِيرِ مِنَ الْهَوَاجِسِ، وَلَمْ يَخْطُرْ عَلَى الْقُلُوبِ مِنْ مُخَيِّلَاتِ الْوَسَاوِسِ‏.‏

وَمِنْهُ‏:‏ ‏{‏إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ‏}‏ ‏(‏الْأَحْزَابِ‏:‏ 56‏)‏ وَنَظَائِرُهُ‏.‏

وَكَذَلِكَ زَيْدٌ وَعَمْرٌو قَائِمٌ، عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ ‏"‏ قَائِمٌ ‏"‏ خَبَرٌ عَنْ أَحَدِهِمَا، وَاسْتُغْنِيَ بِهِ عَنْ خَبَرِ الْآخَرِ‏.‏

وَمِنْهَا الِاقْتِصَارُ عَلَى الْمُبْتَدَأِ وَإِقَامَةُ الشَّيْءِ مَقَامَ الْخَبَرِ نَحْوُ‏:‏ أَقَائِمٌ الزَّيْدَانِ، فَإِنَّ ‏"‏ قَائِمٌ ‏"‏ مُبْتَدَأٌ لَا خَبَرَ لَهُ‏.‏

وَمِنْهَا بَابُ ‏"‏ عَلِمْتُ أَنَّكَ قَائِمٌ ‏"‏ إِذَا جَعَلْنَا الْجُمْلَةَ سَادَّةً مَسَدَّ الْمَفْعُولَيْنِ؛ فَإِنَّ الْجُمْلَةَ مَحِلَّةٌ لِاسْمٍ وَاحِدٍ سَدَّ مَسَدَّ اسْمَيْنِ مَفْعُولَيْنِ مِنْ غَيْرِ حَذْفٍ‏.‏

وَمِنْهُ بَابُ النَّائِبِ عَنِ الْفَاعِلِ، فِي ‏"‏ ضُرِبَ زَيْدٌ ‏"‏ فَـ ‏"‏ زَيْدٌ ‏"‏ دَلَّ عَلَى الْفَاعِلِ بِإِعْطَائِهِ حُكْمَهُ، وَعَلَى الْمَفْعُولِ بِوَضْعِهِ‏.‏

وَمِنْهَا جَمِيعُ أَدَوَاتِ الِاسْتِفْهَامِ وَالشَّرْطِ، فَإِنَّ ‏"‏ كَمْ مَالَكَ‏؟‏ ‏"‏ يُغْنِي عَنْ عِشْرِينَ أَوْ ثَلَاثِينَ، وَ ‏"‏ مَنْ يَقُمْ أُكْرِمْهُ ‏"‏ يُغْنِي عَنْ زَيْدٍ وَعَمْرٍو، قَالَهُ ابْنُ الْأَثِيرِ فِي ‏"‏ الْجَامِعِ ‏"‏‏.‏

وَمِنْهُ الْأَلْفَاظُ اللَّازِمَةُ لِلْعُمُومِ، مِثْلَ أَحَدٍ وَدَيَّارٍ، قَالَهُ ابْنُ الْأَثِيرِ أَيْضًا‏.‏

وَمِنْهُ لَفْظُ الْجَمْعِ؛ فَإِنَّ ‏"‏ الزَّيْدِينَ ‏"‏ يُغْنِي عَنْ زَيْدٍ وَزَيْدٍ وَزَيْدٍ، وَكَذَا التَّثْنِيَةُ أَصْلُهَا رَجُلٌ وَرَجُلٌ، فَحَذَفُوا الْعَطْفَ وَالْمَعْطُوفَ، وَأَقَامُوا حَرْفَ الْجَمْعِ وَالتَّثْنِيَةِ مَقَامَهُمَا اخْتِصَارًا، وَصَحَّ ذَلِكَ لِاتِّفَاقِ الذَّاتَيْنِ فِي التَّسْمِيَةِ بِلَفْظٍ وَاحِدٍ، فَإِنِ اخْتَلَفَ لَفْظُ الِاسْمَيْنِ رَجَعُوا إِلَى التَّكْرَارِ بِالْعَطْفِ؛ نَحْوِ‏:‏ مَرَرْتُ بِزَيْدٍ وَبَكْرٍ‏.‏

وَمِنْهُ بَابُ الضَّمَائِرِ عَلَى مَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ، فِي قَاعِدَةِ الضَّمِيرِ‏.‏

وَمِنْهُ لَفْظُ ‏"‏ فَعَلَ ‏"‏ فَإِنَّهُ يَجِيءُ كَثِيرًا كِنَايَةً عَنْ أَفْعَالٍ مُتَعَدِّدَةٍ، قَالَ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ‏}‏ ‏(‏الْمَائِدَةِ‏:‏ 79‏)‏ ‏{‏وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ‏}‏ ‏(‏النِّسَاءِ‏:‏ 66‏)‏‏.‏

‏{‏فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا‏}‏ ‏(‏الْبَقَرَةِ‏:‏ 24‏)‏ أَيْ‏:‏ فَإِنْ لَمْ تَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ، وَلَنْ تَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ‏.‏

الْقَوْلُ فِي التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ

هُوَ أَحَدُ أَسَالِيبِ الْبَلَاغَةِ؛ فِي الْقُرْآنِ فَإِنَّهُمْ أَتَوْا بِهِ دَلَالَةً عَلَى تَمَكُّنِهِمْ فِي الْفَصَاحَةِ، وَمَلَكَتِهِمْ فِي الْكَلَامِ، وَانْقِيَادِهِ لَهُمْ، وَلَهُ فِي الْقُلُوبِ أَحْسَنُ مَوْقِعٍ، وَأَعْذَبُ مَذَاقٍ‏.‏

وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي عَدِّهِ مِنَ الْمَجَازِ، فَمِنْهُمْ مَنْ عَدَّهُ مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ تَقْدِيمُ مَا رُتْبَتُهُ التَّأْخِيرُ كَالْمَفْعُولِ، وَتَأْخِيرُ مَا رُتْبَتُهُ التَّقْدِيمُ كَالْفَاعِلِ، نُقِلَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَنْ رُتْبَتِهِ وَحَقِّهِ‏.‏

وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَيْسَ مِنْهُ؛ فَإِنَّ الْمَجَازَ نَقْلُ مَا وُضِعَ لَهُ إِلَى مَا لَمْ يُوضَعْ‏.‏

وَيَقَعُ الْكَلَامُ فِيهِ فِي فَصُولٍ

الْفَصْلُ الْأَوَّلُ‏:‏ فِي أَسْبَابِهِ

وَهِيَ كَثِيرَةٌ‏:‏

أَحَدُهَا‏:‏ أَنْ يَكُونَ أَصْلَهُ التَّقْدِيمُ، وَلَا مُقْتَضًى لِلْعُدُولِ عَنْهُ، كَتَقْدِيمِ الْفَاعِلِ عَلَى الْمَفْعُولِ، وَالْمُبْتَدَأِ عَلَى الْخَبَرِ، وَصَاحِبِ الْحَالِ عَلَيْهَا، نَحْوَ‏:‏ ‏"‏ جَاءَ زَيْدٌ رَاكِبًا ‏"‏‏.‏

وَالثَّانِي‏:‏ أَنْ يَكُونَ فِي التَّأْخِيرِ إِخْلَالٌ بِبَيَانِ الْمَعْنَى، كَقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ‏}‏ ‏(‏غَافِرٍ‏:‏ 28‏)‏ فَإِنَّهُ لَوْ أَخَّرَ قَوْلَهُ‏:‏ ‏{‏مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ‏}‏ ‏(‏غَافِرٍ‏:‏ 28‏)‏ عَنْ قوله‏:‏ ‏{‏يَكْتُمُ إِيمَانَهُ‏}‏ لَتُوُهِّمَ أَنَّهُ مِنْ صِفَةِ ‏(‏يَكْتُمُ‏)‏ فَيَكُونُ الْمَعْنَى‏:‏ إِنِ الرَّجُلَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ، فَلَا يُفْهَمُ أَنَّهُ مِنْهُمْ‏.‏

وَجَعَلَ السَّكَّاكِيُّ مِنَ الْأَسْبَابِ كَوْنَ التَّأْخِيرِ مَانِعًا مِثْلَ الْإِخْلَالِ بِالْمَقْصُودِ؛ مِنْ أَسْبَابِ التَّقْدِيمِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقَاءِ الْآخِرَةِ وَأَتْرَفْنَاهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا‏}‏ ‏(‏الْمُؤْمِنُونَ‏:‏ 33‏)‏ بِتَقْدِيمِ الْحَالِ أَعْنِي ‏(‏مِنْ قَوْمِهِ‏)‏ ‏(‏الْمُؤْمِنُونَ‏:‏ 33‏)‏ عَلَى الْوَصْفِ أَعْنِي ‏(‏الَّذِينَ كَفَرُوا‏)‏ ‏(‏الْمُؤْمِنُونَ‏:‏ 33‏)‏ وَلَوْ تَأَخَّرَ لَتُوُهِّمَ أَنَّهُ مِنْ صِفَةِ الدُّنْيَا؛ لِأَنَّهَا هَاهُنَا اسْمُ تَفْضِيلٍ مِنَ الدُّنُوِّ وَلَيْسَتِ اسْمًا، وَالدُّنُوُّ يَتَعَدَّى بِـ ‏"‏ مِنْ ‏"‏، وَحِينَئِذٍ يَشْتَبِهُ الْأَمْرُ فِي الْقَائِلِينَ أَنَّهُمْ أَهُمْ مِنْ قَوْمِهِ أَمْ لَا‏؟‏ فَقَدَّمَ لِاشْتِمَالِ التَّأْخِيرِ عَلَى الْإِخْلَالِ بِبَيَانِ الْمَعْنَى الْمَقْصُودِ، وَهُوَ كَوْنُ الْقَائِلِينَ مِنْ قَوْمِهِ، وَحِينَ أُمِنَ هَذَا الْإِخْلَالُ بِالتَّأْخِيرِ قَالَ تَعَالَى فِي مَوْضِعٍ آخَرَ مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ‏:‏ ‏{‏فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ‏}‏ ‏(‏الْمُؤْمِنُونَ‏:‏ 24‏)‏ بِتَأْخِيرِ الْمَجْرُورِ عَنْ صِفَةِ الْمَرْفُوعِ‏.‏

الثَّالِثُ‏:‏ أَنْ يَكُونَ فِي التَّأْخِيرِ إِخْلَالٌ بِالتَّنَاسُبِ، فَيُقَدَّمَ لِمُشَاكَلَةِ الْكَلَامِ وَلِرِعَايَةِ الْفَاصِلَةِ، كَقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ‏}‏ ‏(‏فُصِّلَتْ‏:‏‏:‏ 37‏)‏ بِتَقْدِيمِ ‏"‏ إِيَّاهُ ‏"‏ عَلَى ‏"‏ تَعْبُدُونَ ‏"‏؛ لِمُشَاكَلَةِ رُءُوسِ الْآيِ، وَكَقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى‏}‏ ‏(‏طه‏:‏ 67‏)‏ فَإِنَّهُ لَوْ أَخَّرَ ‏(‏فِي نَفْسِهِ‏)‏ ‏(‏طه‏:‏ 67‏)‏ عَنْ مُوسَى ‏(‏طه‏:‏ 67‏)‏ فَاتَ تَنَاسُبُ الْفَوَاصِلِ؛ لِأَنَّ قَبْلَهُ ‏{‏يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى‏}‏ ‏(‏طه‏:‏ 66‏)‏ وَبَعْدَهُ ‏{‏إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلَى‏}‏ ‏(‏طه‏:‏ 68‏)‏‏.‏

وَكَقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَتَغْشَى وُجُوهَهُمُ النَّارُ‏}‏ ‏(‏إِبْرَاهِيمَ‏:‏ 50‏)‏ فَإِنَّ تَأْخِيرَ الْفَاعِلِ عَنِ الْمَفْعُولِ لِمُنَاسَبَتِهِ لِمَا بَعْدَهُ‏.‏

وَكَقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ‏}‏ ‏(‏إِبْرَاهِيمَ‏:‏ 51‏)‏ وَهُوَ أَشْكَلُ بِمَا قَبْلَهُ؛ لِأَنَّ قَبْلَهُ ‏{‏مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ‏}‏ ‏(‏إِبْرَاهِيمَ‏:‏ 49‏)‏‏.‏

وَجَعَلَ مِنْهُ السَّكَّاكِيُّ‏:‏ ‏{‏آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى‏}‏ ‏(‏طه‏:‏ 70‏)‏ بِتَقْدِيمِ هَارُونَ ‏(‏طه‏:‏ 70‏)‏ مَعَ أَنَّ مُوسَى ‏(‏طه‏:‏ 70‏)‏ أَحَقُّ بِالتَّقْدِيمِ‏.‏

الرَّابِعُ‏:‏ لِعِظَمِهِ وَالِاهْتِمَامِ بِهِ؛ وَذَلِكَ أَنَّ مِنْ عَادَةِ الْعَرَبِ الْفُصَحَاءِ إِذَا أَخْبَرَتْ عَنْ مُخْبَرٍ مَا، وَأَنَاطَتْ بِهِ حُكْمًا، وَقَدْ يُشْرِكُهُ غَيْرُهُ فِي ذَلِكَ الْحُكْمِ، أَوْ فِيمَا أُخْبِرَ بِهِ عَنْهُ، وَقَدْ عَطَفَتْ أَحَدَهُمَا عَلَى الْآخَرِ بِالْوَاوِ الْمُقْتَضِيَةِ عَدَمَ التَّرْتِيبِ، فَإِنَّهُمْ مَعَ ذَلِكَ إِنَّمَا يَبْدَءُونَ بِالْأَهَمِّ وَالْأَوْلَى، قَالَ سِيبَوَيْهِ‏:‏ ‏"‏ كَأَنَّهُمْ يُقَدِّمُونَ الَّذِي شَأْنُهُ أَهَمُّ لَهُمْ وَهُمْ بِبَيَانِهِ أَعْنَى، وَإِنْ كَانَا جَمِيعًا يُهِمَّانِهِمْ وَيَعْنِيَانِهِمْ‏.‏ انْتَهَى‏.‏

قَالَ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ‏}‏ فَبَدَأَ بِالصَّلَاةِ لِأَنَّهَا أَهَمُّ‏.‏

وَقَالَ سُبْحَانَهُ‏:‏ ‏{‏وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ‏}‏ ‏(‏التَّغَابُنِ‏:‏ 12‏)‏‏.‏

وَقَالَ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ‏}‏ ‏(‏الْأَعْرَافِ‏:‏ 158‏)‏‏.‏

وَقَالَ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ‏}‏ ‏(‏التَّوْبَةِ‏:‏ 62‏)‏‏.‏

وَقَالَ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ‏}‏ ‏(‏الْفَاتِحَةِ‏:‏ 5‏)‏ فَقَدَّمَ الْعِبَادَةَ لِلِاهْتِمَامِ بِهَا‏.‏

وَمِنْهُ تَقْدِيرُ الْمَحْذُوفِ فِي ‏(‏بِسْمِ اللَّهِ‏)‏ مُؤَخَّرًا‏.‏

وَأَوْرَدُوا ‏{‏اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ‏}‏ ‏(‏الْعَلَقِ‏:‏ 1‏)‏ وَأُجِيبَ بِوَجْهَيْنِ‏:‏

أَحَدُهُمَا‏:‏ أَنَّ تَقْدِيمَ الْفِعْلِ هُنَاكَ أَهَمُّ؛ لِأَنَّهَا أَوَّلُ سُورَةٍ نَزَلَتْ‏.‏

وَالثَّانِي أَنْ ‏(‏بِاسْمِ رَبِّكَ‏)‏ ‏(‏الْعَلَقِ‏:‏ 1‏)‏ مُتَعَلِّقٌ بِـ ‏(‏اقْرَأِ‏)‏ الثَّانِي، وَمَعْنَى الْأَوَّلِ‏:‏ أَوْجِدِ الْقِرَاءَةَ، وَالْقَصْدُ التَّعْمِيمُ‏.‏

الْخَامِسُ‏:‏ أَنْ يَكُونَ الْخَاطِرُ مُلْتَفَتًا إِلَيْهِ، وَالْهِمَّةُ مَعْقُودَةٌ بِهِ، وَذَلِكَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ‏}‏ ‏(‏الْأَنْعَامِ‏:‏ 100‏)‏ بِتَقْدِيمِ الْمَجْرُورِ عَلَى الْمَفْعُولِ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّ الْإِنْكَارَ مُتَوَجِّهٌ إِلَى الْجَعْلِ لِلَّهِ لَا إِلَى مُطْلَقِ الْجَعْلِ‏.‏

السَّادِسُ‏:‏ أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيمُ لِإِرَادَةِ التَّبْكِيتِ وَالتَّعْجِيبِ مِنْ حَالِ الْمَذْكُورِ، كَتَقْدِيمِ الْمَفْعُولِ الثَّانِي عَلَى الْأَوَّلِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ‏}‏ ‏(‏الْأَنْعَامِ‏:‏ 100‏)‏ وَالْأَصْلُ‏:‏ الْجِنَّ شُرَكَاءَ، وَقُدِّمَ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ التَّوْبِيخُ، وَتَقْدِيمُ ‏(‏الشُّرَكَاءِ‏)‏ أَبْلَغُ فِي حُصُولِهِ‏.‏

وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ يس‏:‏ ‏{‏وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى‏}‏ ‏(‏يس‏:‏ 20‏)‏ وَسَنَذْكُرُهُ‏.‏

السَّابِعُ‏:‏ الِاخْتِصَاصُ، وَذَلِكَ بِتَقْدِيمِ الْمَفْعُولِ وَالْخَبَرِ وَالظَّرْفِ وَالْجَارِّ وَالْمَجْرُورِ، وَنَحْوُهَا تَقْدِيمُ الْمَفْعُولِ عَلَى الْفِعْلِ؛ كَقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏إِيَّاكَ نَعْبُدُ‏}‏ ‏(‏الْفَاتِحَةِ‏:‏ 5‏)‏ أَيْ‏:‏ نَخُصُّكَ بِالْعِبَادَةِ، فَلَا نَعْبُدُ غَيْرَكَ‏.‏

وَقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ‏}‏ ‏(‏النَّحْلِ‏:‏ 114‏)‏ أَيْ‏:‏ إِنْ كُنْتُمْ تَخُصُّونَهُ بِالْعِبَادَةِ‏.‏

وَالْخَبَرُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي‏}‏ ‏(‏مَرْيَمَ‏:‏ 46‏)‏ وَقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ‏}‏ ‏(‏الْحَشْرِ‏:‏ 2‏)‏‏.‏

وَأَمَّا تَقْدِيمُ الظَّرْفِ فَفِيهِ تَفْصِيلٌ، فَإِنْ كَانَ فِي الْإِثْبَاتِ دَلَّ عَلَى الِاخْتِصَاصِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ‏}‏ ‏(‏الْغَاشِيَةِ‏:‏ 25- 26‏)‏ وَكَذَلِكَ‏:‏ ‏{‏لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ‏}‏ ‏(‏التَّغَابُنِ‏:‏ 1‏)‏ فَإِنَّ ذَلِكَ يُفِيدُ اخْتِصَاصَ ذَلِكَ بِاللَّهِ تَعَالَى، وَقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏لَإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ‏}‏ ‏(‏آلِ عِمْرَانَ‏:‏ 158‏)‏ أَيْ‏:‏ لَا إِلَى غَيْرِهِ، وَقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا‏}‏ ‏(‏الْبَقَرَةِ‏:‏ 143‏)‏ أُخِّرَتْ صِلَةُ الشَّهَادَةِ فِي الْأَوَّلِ، وَقُدِّمَتْ فِي الثَّانِي؛ لِأَنَّ الْغَرَضَ فِي الْأَوَّلِ إِثْبَاتُ شَهَادَتِهِمْ عَلَى الْأُمَمِ، وَفِي اخْتِصَاصِهِمْ بِكَوْنِ الرَّسُولِ شَهِيدًا عَلَيْهِمْ‏.‏

وَقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولًا‏}‏ ‏(‏النِّسَاءِ‏:‏ 79‏)‏ أَيْ‏:‏ لِجَمِيعِ النَّاسِ مِنَ الْعَجَمِ وَالْعَرَبِ عَلَى أَنَّ التَّعْرِيفَ لِلِاسْتِغْرَاقِ‏.‏

وَإِنْ كَانَ فِي النَّفْيِ فَإِنَّ تَقْدِيمَهُ يُفِيدُ تَفْضِيلَ الْمَنْفِيَّ عَنْهُ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏لَا فِيهَا غَوْلٌ وَلَا هُمْ عَنْهَا يُنْزَفُونَ‏}‏ ‏(‏الصَّافَّاتِ‏:‏ 47‏)‏ أَيْ‏:‏ لَيْسَ فِي خَمْرِ الْجَنَّةِ مَا فِي خَمْرَةِ غَيْرِهَا مِنَ الْغَوْلِ‏.‏

وَأَمَّا تَأْخِيرُهُ فَإِنَّهَا تُفِيدُ النَّفْيَ فَقَطْ، كَمَا فِي قَوْلِهِ‏:‏ لَا رَيْبَ فِيهِ ‏(‏الْبَقَرَةِ‏:‏ 2‏)‏ فَكَذَلِكَ إِذَا قُلْنَا لَا عَيْبَ فِي الدَّارِ؛ كَانَ مَعْنَاهُ نَفْيَ الْعَيْبِ فِي الدَّارِ، وَإِذَا قُلْنَا لَا فِي الدَّارِ عَيْبٌ‏.‏ كَانَ مَعْنَاهُ‏:‏ أَنَّهَا تُفَضَّلُ عَلَى غَيْرِهَا بِعَدَمِ الْعَيْبِ‏.‏

تنبيه‏:‏

مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ أَنَّ تَقْدِيمَ الْمَعْمُولِ يُفِيدُ الِاخْتِصَاصَ، فَهِمَهُ الشَّيْخُ أَبُو حَيَّانَ فِي كَلَامِ الزَّمَخْشَرِيِّ وَغَيْرِهِ، وَالَّذِي عَلَيْهِ مُحَقِّقُو الْبَيَانِيِّينَ أَنَّ ذَلِكَ غَالِبٌ لَا لَازِمٌ؛ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏كُلًّا هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ‏}‏ ‏(‏الْأَنْعَامِ‏:‏ 84‏)‏ وَقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏أَفِي اللَّهِ شَكٌّ‏}‏ ‏(‏إِبْرَاهِيمَ‏:‏ 10‏)‏ إِنْ جَعَلْنَا مَا بَعْدَ الظَّرْفِ مُبْتَدَأً‏.‏

وَقَدْ رَدَّ صَاحِبُ ‏"‏ الْفَلَكِ الدَّائِرِ ‏"‏ الْقَاعِدَةَ بِالْآيَةِ الْأُولَى، وَكَذَلِكَ ابْنُ الْحَاجِبِ وَالشَّيْخُ أَبُو حَيَّانَ، وَخَالَفُوا الْبَيَانِيِّينَ فِي ذَلِكَ، وَأَنْتَ إِذَا عَلِمْتَ أَنَّهُمْ ذَكَرُوا فِي ذَلِكَ قَيْدَ الْغَلَبَةِ سَهُلَ الْأَمْرُ، نَعَمْ لَهُ شَرْطَانِ‏:‏

أَحَدُهُمَا‏:‏ أَلَّا يَكُونَ الْمَعْمُولُ مُقَدَّمًا بِالْوَضْعِ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يُسَمَّى تَقْدِيمًا حَقِيقَةً، كَاسْمِ الِاسْتِفْهَامِ، وَكَالْمُبْتَدَأِ عِنْدَ مَنْ يَجْعَلُهُ مَعْمُولًا لِخَبَرِهِ‏.‏

وَالثَّانِي‏:‏ أَلَّا يَكُونَ التَّقْدِيمُ لِمَصْلَحَةِ التَّرْكِيبِ، مِثْلَ‏:‏ ‏{‏وَأَمَّا ثَمُودَ فَهَدَيْنَاهُمْ‏}‏ ‏(‏فُصِّلَتْ‏:‏ 17‏)‏ عَلَى قِرَاءَةِ النَّصْبِ‏.‏

وَقَدِ اجْتَمَعَ الِاخْتِصَاصُ وَعَدَمُهُ فِي آيَةٍ وَاحِدَةٍ، وَهِيَ قَوْلُهُ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ‏}‏ ‏(‏الْأَنْعَامِ‏:‏ 40- 41‏)‏ التَّقْدِيمُ فِي الْأَوَّلِ قَطْعًا لَيْسَ لِلِاخْتِصَاصِ بِخِلَافِ الثَّانِي‏.‏

الْفَصْلُ الثَّانِي‏:‏ فِي أَنْوَاعِهِ

وَهِيَ إِمَّا أَنْ يُقَدَّمَ وَالْمَعْنَى عَلَيْهِ، أَوْ يُقَدَّمَ وَهُوَ فِي الْمَعْنَى مُؤَخَّرٌ، أَوْ بِالْعَكْسِ مِنْ أَقْسَامِ التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ‏.‏