فصل: (تابع: أحاول الاختزال في القرآن)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البرهان في علوم القرآن ***


‏[‏تابع‏:‏ أحاول الاختزال في القرآن‏]‏

حَذْفُ الْحَالِ فِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ

كَقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ‏}‏ ‏(‏الرَّعْدِ‏:‏ 23- 24‏)‏، أَيْ‏:‏ قَائِلِينَ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ‏.‏

قَالَ ابْنُ أَبِي الرَّبِيعِ‏:‏ اعْلَمْ أَنَّ الْعَرَبَ قَدْ تَحْذِفُ الْحَالَ إِذَا كَانَتْ بِالْفِعْلِ لِدَلَالَةِ مَصْدَرِ الْفِعْلِ عَلَيْهِ؛ فَتَقُولُ‏:‏ قَتَلْتُهُ صَبْرًا، وَأَتَيْتُهُ رَكْضًا، قَالَ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا‏}‏ ‏(‏يُوسُفَ‏:‏ 47‏)‏، ‏"‏ فَدَأَبًا ‏"‏ يُقَدَّرُ بِالْفِعْلِ؛ تَقْدِيرُهُ‏:‏ ‏"‏ تَدْأَبُونَ ‏"‏ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ‏.‏

قَالَ أَبُو عَلِيٍّ‏:‏ لَا خِلَافَ بَيْنَ سِيبَوَيْهِ وَأَبِي الْعَبَّاسِ فِي الْحَالِ الْمَحْذُوفِ الَّذِي الْمَصْدَرُ مَنْصُوبٌ بِهِ، وَإِنَّمَا الْخِلَافُ بَيْنَهُمَا فِي الْقِيَاسِ، فَسِيبَوَيْهِ يَذْهَبُ إِلَى السَّمَاعِ وَلَا يَقِيسُ، وَالْأَخْفَشُ وَالْمُبَرِّدُ يَقِيسَانِ‏.‏

حَذْفُ الْمُنَادَى فِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ قَوْلُهُ تَعَالَى‏:‏ ‏(‏أَلَا يَا اسْجُدُوا‏)‏ ‏(‏النَّمْلِ‏:‏ 25‏)‏ عَلَى قِرَاءَةِ الْكِسَائِيِّ بِتَخْفِيفِ ‏"‏ أَلَا ‏"‏ عَلَى أَنَّهَا تَنْبِيهٌ، وَ ‏"‏ يَا ‏"‏ نِدَاءٌ، وَالتَّقْدِيرُ‏:‏ أَلَا يَا هَؤُلَاءِ اسْجُدُوا لِلَّهِ‏.‏

وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ‏"‏ يَا ‏"‏ تَنْبِيهًا وَلَا مُنَادَى هُنَاكَ، وَجَمَعَ بَيْنَهُنَّ تَأْكِيدًا؛ لِأَنَّ الْأَمْرَ قَدْ يَحْتَاجُ إِلَى اسْتِعْطَافِ الْمَأْمُورِ، وَاسْتِدْعَاءِ إِقْبَالِهِ عَلَى الْآمِرِ‏.‏

وَأَمَّا عَلَى قِرَاءَةِ الْأَكْثَرِ بِالتَّشْدِيدِ؛ فَعَلَى أَنَّ ‏"‏ أَنْ ‏"‏ النَّاصِبَةَ لِلْفِعْلِ دَخَلَتْ عَلَيْهَا لَا النَّافِيَةُ؛ وَالْفِعْلُ الْمُضَارِعُ بَعْدَهَا مَنْصُوبٌ، وَحُذِفَتِ النُّونُ عَلَامَةُ النَّصْبِ، فَالْفِعْلُ هُنَا مُعْرَبٌ وَفِي تِلْكَ الْقِرَاءَةِ مَبْنِيٌّ، فَاعْرِفْهُ‏.‏

فَائِدَةٌ كَثُرَ فِي الْقُرْآنِ حَذْفُ الْيَاءِ مِنَ الْمُنَادَى الْمُضَافِ إِلَى يَاءِ الْمُتَكَلِّمِ؛ نَحْوَ‏:‏ يَا رَبِّ، يَا قَوْمِ؛ وَعُلِّلَ ذَلِكَ بِأَنَّ النِّدَاءَ بَابُ حَذْفٍ؛ أَلَا تَرَى أَنَّهُ يُحْذَفُ مِنْهُ التَّنْوِينُ، وَبَعْضُ الِاسْمِ لِلتَّرْخِيمِ؛ وَجَاءَ فِيهِ إِثْبَاتُهَا سَاكِنَةً، كَقِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَ‏:‏ ‏(‏يَا عِبَادِي فَاتَّقُونِ‏)‏ ‏(‏الزُّمَرِ‏:‏ 16‏)‏، وَمُحَرَّكَةً بِالْفَتْحِ؛ كَقِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَ‏:‏ ‏{‏قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ‏}‏ ‏(‏الزُّمَرِ‏:‏ 53‏)‏، وَمُنْقَلِبَةً عَنِ الْيَاءِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ‏}‏ ‏(‏الزُّمَرِ‏:‏ 56‏)‏‏.‏

حَذْفُ الشَّرْطِ فِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ

‏{‏قُلْ لِعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلَاةَ‏}‏ ‏(‏إِبْرَاهِيمَ‏:‏ 31‏)‏، أَيْ‏:‏ إِنْ قُلْتَ لَهُمْ‏:‏ أَقِيمُوا يُقِيمُوا‏.‏

وَجَعَلَ مِنْهُ الزَّمَخْشَرِيُّ مِنْهُ‏:‏ ‏{‏قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدًا فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ‏}‏ ‏(‏الْبَقَرَةِ‏:‏ 80‏)‏‏.‏

فَقَالَ‏:‏ يَتَعَلَّقُ بِمَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ‏:‏ إِنِ اتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدًا فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ‏.‏

وَجَعَلَ أَبُو حَيَّانَ مِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ‏}‏ ‏(‏الْبَقَرَةِ‏:‏ 91‏)‏، أَيْ‏:‏ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ‏؟‏ وَجَوَابُ الشَّرْطِ‏:‏ ‏"‏ إِنْ كُنْتُمْ ‏"‏ مَحْذُوفٌ دَلَّ عَلَيْهِ مَا تَقَدَّمَ؛ أَيْ‏:‏ فَلِمَ فَعَلْتُمْ‏؟‏ وَكُرِّرَ الشَّرْطُ وَجَوَابُهُ مَرَّتَيْنِ لِلتَّأْكِيدِ؛ إِلَّا أَنَّهُ حُذِفَ الشَّرْطُ مِنَ الْأَوَّلِ، وَبَقِيَ جَوَابُهُ، وَحُذِفَ الْجَوَابُ مِنَ الثَّانِي وَبَقِيَ شَرْطُهُ، انْتَهَى‏.‏

وَهُوَ حَسَنٌ، إِلَّا أَنَّهُ قَدْ كَانَ خَالَفَ الزَّمَخْشَرِيُّ؛ وَأَنْكَرَ قَوْلَهُ بِحَذْفِ الشَّرْطِ فِي‏:‏ ‏{‏فَتَابَ عَلَيْكُمْ‏}‏ ‏(‏الْبَقَرَةِ‏:‏ 54‏)‏، وَفِي ‏{‏فَانْفَجَرَتْ‏}‏ ‏(‏الْبَقَرَةِ‏:‏ 60‏)‏، وَقَالَ‏:‏ إِنَّ الشَّرْطَ لَا يُحْذَفُ فِي غَيْرِ الْأَجْوِبَةِ، وَالْآنَ قَدْ رَجَعَ إِلَى مُوَافَقَتِهِ‏.‏

وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهَذَا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلَكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ‏}‏ ‏(‏الرُّومِ‏:‏ 56‏)‏، تَقْدِيرُهُ‏:‏ إِنْ كُنْتُمْ مُنْكِرِينَ فَهَذَا يَوْمُ الْبَعْثِ، أَيْ‏:‏ فَقَدْ تَبَيَّنَ بُطْلَانُ إِنْكَارِكُمْ‏.‏

وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ‏}‏ ‏(‏الْأَنْفَالِ‏:‏ 17‏)‏، بِمَعْنَى‏:‏ إِنِ افْتَخَرْتُمْ بِقَتْلِهِمْ فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ، فَعَدَلَ عَنِ الِافْتِخَارِ بِقَتْلِهِمْ، فَحُذِفَ لِدَلَالَةِ الْفَاعِلِيَّةِ‏.‏

وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ‏}‏ ‏(‏الشُّورَى‏:‏ 9‏)‏ تَقْدِيرُهُ‏:‏ إِنْ أَرَادُوا أَوْلِيَاءً فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ بِالْحَقِّ، لَا وَلِيَّ سِوَاهُ‏.‏

حَذْفُ جَوَابِ الشَّرْطِ فِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ

قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ‏}‏ ‏(‏الْأَحْقَافِ‏:‏ 10‏)‏، أَيْ‏:‏ أَفْلَسْتُمْ ظَالِمِينَ‏؟‏ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ عَقَبَهُ‏:‏ ‏{‏إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ‏}‏ ‏(‏الْأَحْقَافِ‏:‏ 10‏)‏، وَقَدَّرَهُ الْبَغْوِيُّ‏:‏ مَنِ الْمُحِقُّ مِنَّا وَمَنِ الْمُبْطِلُ‏؟‏ وَنَقَلَهُ عَنْ أَكْثَرِ الْمُفَسِّرِينَ‏.‏

وَمِنْ حَذْفِ جَوَابِ الْفِعْلِ‏:‏ ‏{‏اذْهَبَا إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَدَمَّرْنَاهُمْ‏}‏ ‏(‏الْفُرْقَانِ‏:‏ 36‏)‏، تَقْدِيرُهُ‏:‏ ‏"‏ فَذَهَبَا إِلَيْهِمْ فَكَذَّبُوهُمَا فَدَمَّرْنَاهُمْ ‏"‏ وَالْفَاءُ الْعَاطِفَةُ عَلَى الْجَوَابِ الْمَحْذُوفِ هِيَ الْمُسَمَّاةُ عِنْدَهُمْ بِالْفَاءِ الْفَصِيحَةِ‏.‏

وَقَالَ صَاحِبُ ‏"‏ الْمِفْتَاحِ ‏"‏ وَانْظُرْ إِلَى الْفَاءِ الْفَصِيحَةِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ‏}‏ ‏(‏الْبَقَرَةِ‏:‏ 54‏)‏، كَيْفَ أَفَادَتْ‏:‏ ‏"‏ فَفَعَلْتُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ ‏"‏‏.‏

وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا‏}‏ ‏(‏الْبَقَرَةِ‏:‏ 73‏)‏ تَقْدِيرُهُ‏:‏ فَضَرَبُوهُ فَحَيِيَ ‏{‏كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى‏}‏ ‏(‏الْبَقَرَةِ‏:‏ 73‏)‏‏.‏

وَقَالَ صَاحِبُ ‏"‏ الْكَشَّافِ ‏"‏ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ عِلْمًا وَقَالَا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ‏}‏ ‏(‏النَّمْلِ‏:‏ 15‏)‏، تَقْدِيرُهُ‏:‏ فَعَمِلَا بِهِ وَعَلَّمَاهُ، وَعَرِفَا حَقَّ النِّعْمَةِ فِيهِ وَالْفَضِيلَةِ ‏{‏وَقَالَا الْحَمْدُ لِلَّهِ‏}‏ ‏(‏النَّمْلِ‏:‏ 15‏)‏‏.‏

وَقَالَ السَّكَّاكِيُّ‏:‏ هُوَ إِخْبَارٌ عَمَّا صَنَعَ بِهِمَا وَعَمَّا قَالَاهُ، حَتَّى كَأَنَّهُ قِيلَ‏:‏ نَحْنُ فَعَلْنَا إِيتَاءَ الْعِلْمِ، وَهُمَا فَعَلَا الْحَمْدَ؛ تَعْرِيضًا لِاسْتِثَارَةِ الْحَمْدِ عَلَى إِيتَاءِ الْعِلْمِ إِلَى فَهْمِ السَّامِعِ، مِثْلُهُ‏:‏ ‏"‏ قُمْ يَدْعُوكَ ‏"‏ بَدَلُ ‏"‏ قُمْ فَإِنَّهُ يَدْعُوكَ ‏"‏‏.‏

حَذْفُ الْأَجْوِبَةِ فِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ

وَيَكْثُرُ ذَلِكَ فِي جَوَابِ لَوْ وَلَوْلَا؛ كَقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ‏}‏ ‏(‏الْأَنْعَامِ‏:‏ 27‏)‏‏.‏

وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى رَبِّهِمْ‏}‏ ‏(‏الْأَنْعَامِ‏:‏ 30‏)‏‏.‏

وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ‏}‏ ‏(‏سَبَأٍ‏:‏ 31‏)‏‏.‏

وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ‏}‏ ‏(‏الْأَنْفَالِ‏:‏ 50‏)‏‏.‏

وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ‏}‏ ‏(‏السَّجْدَةِ‏:‏ 12‏)‏‏.‏

وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ‏}‏ ‏(‏الْأَنْعَامِ‏:‏ 93‏)‏، تَقْدِيرُهُ فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ‏:‏ ‏"‏ لَرَأَيْتَ عَجَبًا أَوْ أَمْرًا عَظِيمًا، وَلَرَأَيْتَ سُوءَ مُنْقَلَبِهِمْ، أَوْ لَرَأَيْتَ سُوءَ حَالِهِمْ ‏"‏‏.‏

وَالسِّرُّ فِي حَذْفِهِ فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ أَنَّهَا لَمَّا رُبِطَتْ إِحْدَى الْجُمْلَتَيْنِ بِالْأُخْرَى حَتَّى صَارَا جُمْلَةً وَاحِدَةً، أَوْجَبَ ذَلِكَ لَهَا فَضْلًا وَطُولًا؛ فَخُفِّفَ بِالْحَذْفِ خُصُوصًا مَعَ الدَّلَالَةِ عَلَى ذَلِكَ‏.‏

قَالُوا‏:‏ وَحَذْفُ الْجَوَابِ يَقَعُ فِي مَوَاقِعِ التَّفْخِيمِ وَالتَّعْظِيمِ، وَيَجُوزُ حَذْفُهُ لِعِلْمِ الْمُخَاطَبِ، وَإِنَّمَا يُحْذَفُ لِقَصْدِ الْمُبَالَغَةِ؛ لِأَنَّ السَّامِعَ مَعَ أَقْصَى تَخَيُّلِهِ يَذْهَبُ مِنْهُ الذِّهْنُ كُلَّ مَذْهَبٍ، وَلَوْ صُرِّحَ بِالْجَوَابِ لَوَقَفَ الذِّهْنُ عِنْدَ الْمُصَرَّحِ بِهِ فَلَا يَكُونُ لَهُ ذَلِكَ الْوَقْعُ، وَمِنْ ثَمَّ لَا يَحْسُنُ تَقْدِيرُ الْجَوَابِ مَخْصُوصًا إِلَّا بَعْدَ الْعِلْمِ بِالسِّيَاقِ، كَمَا قَدَّرَ بَعْضُ النَّحْوِيِّينَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ ‏(‏الرَّعْدِ‏:‏ 31‏)‏ الْآيَةَ، فَقَالَ‏:‏ تَقْدِيرُهُ‏:‏ ‏"‏ لَكَانَ هَذَا الْقُرْآنُ ‏"‏‏.‏

وَحَكَاهُ أَبُو عَمْرٍو الزَّاهِدُ فِي ‏"‏ الْيَاقُوتَةِ ‏"‏ عَنْ ثَعْلَبٍ وَالْمُبَرِّدِ، وَهُوَ مَرْدُودٌ؛ لِأَنَّ الْآيَةَ مَا سِيقَتْ لِتَفْضِيلِ الْقُرْآنِ، بَلْ سِيقَتْ فِي مَعْرِضِ ذَمِّ الْكُفَّارِ؛ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ قَبْلَهَا‏:‏ ‏{‏إِلَيْكَ وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ قُلْ هُوَ رَبِّي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ‏}‏ ‏(‏الرَّعْدِ‏:‏ 30‏)‏

وَبَعْدَهَا‏:‏ ‏{‏أَفَلَمْ يَيْئَسِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعًا‏}‏ ‏(‏الرَّعْدِ‏:‏ 31‏)‏، فَلَوْ قُدِّرَ الْخَبَرُ ‏"‏ لَمَا آمَنُوا بِهِ ‏"‏ لَكَانَ أَشَدَّ‏.‏

وَنَقَلَ الشَّيْخُ مُحْيِي الدِّينِ النَّوَوِيُّ فِي كِتَابِ ‏"‏ رُءُوسِ الْمَسَائِلِ ‏"‏ كَوْنَ الْجَوَابِ‏:‏ ‏"‏ كَانَ هَذَا الْقُرْآنَ ‏"‏ عَنِ الْأَكْثَرِينَ‏.‏

وَفِيهِ مَا ذَكَرْتُ‏.‏

وَقِيلَ‏:‏ تَقْدِيرُهُ‏:‏ لَوْ قَضَيْتُ أَنَّهُ لَا يُقْرَأُ الْقُرْآنُ عَلَى الْجِبَالِ إِلَّا سَارَتْ وَرَأَوْا ذَلِكَ، لَمَا آمَنُوا‏.‏

وَقِيلَ‏:‏ جَوَابُ ‏"‏ لَوْ ‏"‏ مُقَدَّمٌ مَعْنَاهُ‏:‏ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ، وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ‏.‏

وَهَذَا قَوْلُ الْفَرَّاءِ‏.‏

وَقَوْلُهُ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ‏}‏ ‏(‏لُقْمَانَ‏:‏ 27‏)‏ جَوَابُ لَوْ مَحْذُوفٌ، وَالتَّقْدِيرُ‏:‏ لَنَفِدَتْ هَذِهِ الْأَشْيَاءُ وَمَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ ‏"‏ مَا نَفِدَتْ ‏"‏ هُوَ الْجَوَابُ مُبَالَغَةً فِي نَفْيِ النَّفَادِ؛ لِأَنَّهُ إِذَا كَانَ نَفْيُ النَّفَادِ لَازِمًا عَلَى تَقْدِيرِ كَوْنِ مَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامًا وَالْبَحْرُ مَدَادًا لَكَانَ لُزُومُهَا عَلَى تَقْدِيرِ عَدَمِهَا أَوْلَى‏.‏

وَقَوْلُهُ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ‏}‏ ‏(‏النِّسَاءِ‏:‏ 113‏)‏، فَإِنَّهُ قَدْ قِيلَ‏:‏ ظَاهِرُهُ نَفْيُ وُجُودِ الْهَمِّ مِنْهُمْ بِإِضْلَالِهِ، وَهُوَ خِلَافُ الْوَاقِعِ؛ فَإِنَّهُمْ هَمُّوا وَرَدُّوا الْقَوْلَ‏.‏

وَقِيلَ‏:‏ قَوْلُهُ‏:‏ ‏(‏لَهَمَّتْ‏)‏ لَيْسَ جَوَابَ ‏"‏ لَوْ ‏"‏ بَلْ هُوَ كَلَامٌ تَقَدَّمَ عَلَى ‏"‏ لَوْ ‏"‏، وَجَوَابُهَا مَقُولٌ عَلَى طَرِيقِ الْقَسَمِ، وَجَوَابُ لَوْ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ‏:‏ ‏{‏لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ‏}‏ ‏(‏النِّسَاءِ‏:‏ 113‏)‏ لَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ لَأَضَلُّوكَ‏.‏

وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ‏}‏ ‏(‏يُوسُفَ‏:‏ 24‏)‏، أَيْ‏:‏ هَمَّتْ بِمُخَالَطَتِهِ، وَجَوَابُ ‏"‏ لَوْلَا ‏"‏ مَحْذُوفٌ؛ أَيْ‏:‏ لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ لَخَالَطَهَا‏.‏

وَقِيلَ‏:‏ لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ لَهَمَّ بِهَا؛ وَالْوَقْفُ عَلَى هَذَا ‏{‏وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ‏}‏ ‏(‏يُوسُفَ‏:‏ 24‏)‏، وَالْمَعْنَى أَنَّهُ لَمْ يَهِمَّ بِهَا‏.‏

ذَكَرَهُ أَبُو الْبَقَاءِ، وَالْأَوَّلُ لِلزَّمَخْشَرِيِّ‏.‏

وَلَا يَجُوزُ تَقْدِيمُ جَوَابِ ‏"‏ لَوْ ‏"‏ عَلَيْهَا؛ لِأَنَّهُ فِي حُكْمِ الشَّرْطِ، وَلِلشَّرْطِ صَدْرُ الْكَلَامِ‏.‏

وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ‏}‏ ‏(‏الْبَقَرَةِ‏:‏ 70‏)‏، جَوَابُ الشَّرْطِ مَحْذُوفٌ؛ يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ‏:‏ ‏(‏إِنَّا لَمُهْتَدُونَ‏)‏؛ أَيْ‏:‏ إِنْ شَاءَ اللَّهُ اهْتَدَيْنَا، وَقَدْ تَوَسَّطَ الشَّرْطُ هُنَا بَيْنَ جُزْأَيِ الْجُمْلَةِ بِالْجَزَاءِ؛ لِأَنَّ التَّقْدِيمَ عَلَى الشَّرْطِ، فَيَكُونُ دَلِيلُ الْجَوَابِ مُتَقَدِّمًا عَلَى الشَّرْطِ؛ وَالَّذِي حَسَّنَ تَقْدِيمَ الشَّرْطِ عَلَيْهِ الِاهْتِمَامُ بِتَعْلِيقِ الْهِدَايَةِ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى‏.‏

وَقَوْلُهُ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لَا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ‏}‏ ‏(‏الْأَنْبِيَاءِ‏:‏ 39‏)‏، تَقْدِيرُهُ‏:‏ لَمَا اسْتَعْجَلُوا فَقَالُوا‏:‏ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ‏؟‏ وَقَالَ الزَّجَّاجُ‏:‏ تَقْدِيرُهُ‏:‏ ‏"‏ لَعَلِمُوا صِدْقَ الْوَعْدِ ‏"‏؛ لِأَنَّهُمْ قَالُوا‏:‏ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ‏؟‏ وَجَعَلَ اللَّهُ السَّاعَةَ مَوْعِدَهُمْ، فَقَالَ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏بَلْ تَأْتِيهِمْ بَغْتَةً‏}‏ ‏(‏الْأَنْبِيَاءِ‏:‏ 40‏)‏‏.‏

وَقِيلَ‏:‏ تَقْدِيرُهُ‏:‏ ‏"‏ لَمَا أَقَامُوا عَلَى كُفْرِهِمْ وَلَنَدِمُوا أَوْ تَابُوا ‏"‏‏.‏

وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ التَّكَاثُرِ‏:‏ ‏{‏لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ‏}‏ ‏(‏التَّكَاثُرِ‏:‏ 5‏)‏، تَقْدِيرُهُ‏:‏ لَمَا أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ ‏"‏‏.‏

وَقِيلَ‏:‏ تَقْدِيرُهُ‏:‏ لَشَغَلَكُمْ ذَلِكَ عَمَّا أَنْتُمْ فِيهِ‏.‏

وَقِيلَ‏:‏ لَرَجَعْتُمْ عَنْ كُفْرِكُمْ، أَوْ لَتَحَقَّقْتُمْ مِصْدَاقَ مَا تُحَذَّرُونَهُ‏.‏

وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ‏}‏ ‏(‏الْبَقَرَةِ‏:‏ 170‏)‏ أَيْ‏:‏ لَا يَتْبَعُونَهُمْ‏.‏

وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ‏}‏ ‏(‏الْمُؤْمِنُونَ‏:‏ 114‏)‏ تَقْدِيرُهُ‏:‏ ‏"‏ لَآمَنْتُمْ ‏"‏ أَوْ ‏"‏ لَمَا كَفَرْتُمْ ‏"‏ أَوْ ‏"‏ لَزَهِدْتُمْ فِي الدُّنْيَا ‏"‏ أَوْ ‏"‏ لَتَأَهَّبْتُمْ لِلِقَائِنَا ‏"‏‏.‏

وَنَحْوُهُ‏:‏ ‏{‏وَقِيلَ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَرَأَوُا الْعَذَابَ لَوْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَهْتَدُونَ‏}‏ ‏(‏الْقَصَصِ‏:‏ 64‏)‏، أَيْ‏:‏ يَهْتَدُونَ فِي الدُّنْيَا لَمَا رَأَوُا الْعَذَابَ فِي الْآخِرَةِ، أَوْ لَمَا اتَّبَعُوهُمْ‏.‏

وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ‏}‏ ‏(‏هُودٍ‏:‏ 80‏)‏، قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ‏:‏ مَعْنَاهُ‏:‏ لَوْ أَنَّ لِي قُوَّةً لَحُلْتُ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الْمَعْصِيَةِ‏.‏

وَقَوْلُهُ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَلَوْ تَرَى إِذْ فَزِعُوا فَلَا فَوْتَ‏}‏ ‏(‏سَبَأٍ‏:‏ 51‏)‏، أَيْ‏:‏ رَأَيْتَ مَا يُعْتَبَرُ بِهِ عِبْرَةً عَظِيمَةً‏.‏

وَقَوْلُهُ تَعَالَى عَقِبَ آيَةَ اللِّعَانِ‏:‏ ‏{‏وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ‏}‏ ‏(‏النُّورِ‏:‏ 10‏)‏، قَالَ الْوَاحِدِيُّ‏:‏ قَالَ الْفَرَّاءُ‏:‏ جَوَابُ ‏"‏ لَوْ ‏"‏ مَحْذُوفٌ؛ لِأَنَّهُ مَعْلُومُ الْمَعْنَى، وَكُلُّ مَا عُلِمَ فَإِنَّ الْعَرَبَ تَكْتَفِي بِتَرْكِ جَوَابِهِ؛ أَلَا تَرَى أَنَّ الرَّجُلَ يَشْتُمُ الرَّجُلَ فَيَقُولُ الْمَشْتُومُ‏:‏ أَمَا وَاللَّهِ لَوْلَا أَبُوكَ‏.‏‏.‏‏.‏

فَيُعْلَمُ أَنَّكَ تُرِيدُ‏:‏ لَشَتَمْتُكَ‏.‏

وَقَالَ الْمُبَرِّدُ‏:‏ تَأْوِيلُهُ- وَاللَّهُ أَعْلَمُ-‏:‏ لَهَلَكْتُمْ، أَوْ لَمْ يَبْقَ لَكُمْ بَاقِيَّةٌ، أَوْ لَمْ يَصْلُحْ أَمْرُكُمْ، وَنَحْوُهُ مِنَ الْوَعِيدِ الْمُوجِعِ، فَحُذِفَ لِأَنَّهُ لَا يُشْكِلُ‏.‏

وَقَالَ الزَّجَّاجُ‏:‏ الْمَعْنَى لَنَالَ الْكَاذِبَ مِنْكُمْ أَمْرٌ عَظِيمٌ؛ وَهَذَا أَجْوَدُ مِمَّا قَدَّرَهُ الْمُبَرِّدُ‏.‏

وَكَذَلِكَ ‏"‏ لَوْلَا ‏"‏ الَّتِي بَعْدَهَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ‏}‏ ‏(‏النُّورِ‏:‏ 20‏)‏، جَوَابُهَا مَحْذُوفٌ؛ وَقَدَّرَهُ بَعْضُهُمْ فِي الْأُولَى‏:‏ لَافْتَضَحَ فَاعِلُ ذَلِكَ، وَفِي الثَّانِيَةِ‏:‏ لَعَجَّلَ عَذَابَ فَاعِلِ ذَلِكَ، وَسَوَّغَ الْحَذْفَ طُولُ الْكَلَامِ بِالْمَعْطُوفِ، وَالطُّولُ دَاعٍ لِلْحَذْفِ‏.‏

وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏وَلَوْلَا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ‏}‏ ‏(‏الْقَصَصِ‏:‏ 47‏)‏، جَوَابُهَا مَحْذُوفٌ، أَيْ‏:‏ لَوْلَا احْتِجَاجُهُمْ بِتَرْكِ الْإِرْسَالِ إِلَيْهِمْ لَعَاجَلْنَاهُمْ بِالْعُقُوبَةِ‏.‏

وَقَالَ مُقَاتِلٌ‏:‏ تَقْدِيرُهُ‏:‏ ‏"‏ لَأَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ ‏"‏‏.‏

وَقَالَ الزَّجَّاجُ‏:‏ لَوْلَا ذَلِكَ لَمْ يُحْتَجْ إِلَى إِرْسَالِ الرَّسُولِ وَمُوَاتَرَةِ الِاحْتِجَاجِ‏.‏

وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلَا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا‏}‏ ‏(‏الْقَصَصِ‏:‏ 10‏)‏، أَيْ‏:‏ لَأَبْدَتْ‏.‏

وَقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي‏}‏ ‏(‏الْإِسْرَاءِ‏:‏ 100‏)‏، تَقْدِيرُهُ‏:‏ لَوْ تُمَلَّكُونَ تَمْلِكُونَ، فَأَضْمَرَ ‏"‏ تُمَلَّكُ ‏"‏ الْأُولَى عَلَى شَرِيطَةِ التَّفْسِيرِ، وَأُبْدِلَ مِنَ الضَّمِيرِ الْمُتَّصِلِ، الَّذِي هُوَ ‏"‏ الْوَاوُ ‏"‏ ضَمِيرٌ مُنْفَصِلٌ، وَهُوَ ‏"‏ أَنْتُمْ ‏"‏ لِسُقُوطِ مَا يَتَّصِلُ بِهِ مِنَ الْكَلَامِ فَـ ‏"‏ أَنْتُمْ ‏"‏ فَاعِلُ الْفِعْلِ الْمُضْمَرِ، وَ ‏"‏ تَمْلِكُونَ ‏"‏ تَفْسِيرُهُ‏.‏

وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ‏:‏ هَذَا مَا يَقْتَضِيهِ الْإِعْرَابُ؛ فَأَمَّا مَا يَقْتَضِيهِ عِلْمُ الْبَيَانِ، فَهُوَ أَنَّ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ فِيهِ دَلَالَةً عَلَى الِاخْتِصَاصِ، وَأَنَّ النَّاسَ هُمُ الْمُخْتَصُّونَ بِالشُّحِّ الْمُتَتَابِعِ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْفِعْلَ الْأَوَّلَ لَمَّا سَقَطَ لِأَجْلِ الْمُفَسَّرِ بَرَزَ الْكَلَامُ فِي صُورَةِ الْمُبْتَدَأِ وَالْخَبَرِ‏.‏

وَمِنْ حَذْفِ الْجَوَابِ قَوْلُهُ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّقُوا مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَمَا خَلْفَكُمْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ‏}‏ ‏(‏يس‏:‏ 45‏)‏، أَيْ‏:‏ أَعْرَضُوا؛ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ بَعْدَهُ‏:‏ ‏{‏إِلَّا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ‏}‏ ‏(‏يس‏:‏ 46‏)‏‏.‏

وَقَوْلُهُ فِي قِصَّةِ إِبْرَاهِيمَ فِي الْحِجْرِ‏:‏ ‏{‏فَقَالُوا سَلَامًا قَالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ‏}‏ ‏(‏الْحِجْرِ‏:‏ 52‏)‏، وَفِي غَيْرِهَا مِنَ السُّورِ‏:‏ ‏{‏قَالُوا سَلَامًا‏}‏ ‏(‏الْفُرْقَانِ‏:‏ 63‏)‏، ‏{‏قَالَ سَلَامٌ‏}‏ ‏(‏الذَّارِيَاتِ‏:‏ 25‏)‏، قَالَ الْكَرْمَانِيُّ‏:‏ لِأَنَّ هَذِهِ السُّورَةَ مُتَأَخِّرَةٌ عَنِ الْأُولَى، فَاكْتَفَى بِمَا فِي هَذِهِ، وَلَوْ ثَبَتَ تَعَدُّدُ الْوَقَائِعِ لَنَزَلَتْ عَلَى وَاقِعَتَيْنِ‏.‏

وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ‏}‏ ‏(‏الِانْشِقَاقِ‏:‏ 1‏)‏، قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ‏:‏ فِي حَذْفِ الْجَوَابِ، وَتَقْدِيرُهُ مُصَرَّحٌ بِهِ فِي سُورَتَيِ التَّكْوِيرِ وَالِانْفِطَارِ، وَهُوَ قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏عَلِمَتْ نَفْسٌ‏}‏ ‏(‏التَّكْوِيرِ‏:‏ 14‏)‏‏.‏

وَقَالَ فِي‏:‏ ‏{‏وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ‏}‏ ‏(‏الْبُرُوجِ‏:‏ 1‏)‏‏:‏ الْجَوَابُ مَحْذُوفٌ؛ أَيْ‏:‏ أَنَّهُمْ مَلْعُونُونَ، يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ‏}‏ ‏(‏الْبُرُوجِ‏:‏ 4‏)‏‏.‏

وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا‏}‏ ‏(‏الزُّمَرِ‏:‏ 73‏)‏، أَيْ‏:‏ حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَقَدْ فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا، وَالْوَاوُ وَاوُ حَالٍ، وَفِي هَذَا مَا حُكِيَ أَنَّهُ اجْتَمَعَ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ مَعَ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الْحُسَيْنِ بْنِ خَالَوَيْهِ فِي مَجْلِسِ سَيْفِ الدَّوْلَةِ، فَسُئِلَ ابْنُ خَالَوَيْهِ عَنْ قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا‏}‏ ‏(‏الزُّمَرِ‏:‏ 70‏)‏ فِي النَّارِ بِغَيْرِ وَاوٍ، وَفِي الْجَنَّةِ بِالْوَاوِ‏؟‏ فَقَالَ ابْنُ خَالَوَيْهِ‏:‏ هَذِهِ الْوَاوُ تُسَمَّى وَاوَ الثَّمَانِيَةِ؛ لِأَنَّ الْعَرَبَ لَا تَعْطِفُ الثَّمَانِيَةَ إِلَّا بِالْوَاوِ‏.‏

قَالَ‏:‏ فَنَظَرَ سَيْفُ الدَّوْلَةِ إِلَى أَبِي عَلِيٍّ وَقَالَ‏:‏ أَحَقٌّ هَذَا‏؟‏ فَقَالَ أَبُو عَلِيٍّ‏:‏ لَا أَقُولُ كَمَا قَالَ؛ إِنَّمَا تُرِكَتِ الْوَاوُ فِي النَّارِ لِأَنَّهَا مُغْلَقَةٌ، وَكَانَ مَجِيئُهُمْ شَرْطًا فِي فَتْحِهَا؛ فَقَوْلُهُ‏:‏ ‏(‏فُتِحَتْ‏)‏ فِيهِ مَعْنَى الشَّرْطِ، وَأَمَّا قَوْلُهُ‏:‏ ‏(‏وَفُتِحَتْ‏)‏ فِي الْجَنَّةِ، فَهَذِهِ وَاوُ الْحَالِ، كَأَنَّهُ قَالَ‏:‏ جَاءُوهَا وَهِيَ مُفَتَّحَةُ الْأَبْوَابِ؛ أَوْ هَذِهِ حَالُهَا‏.‏

وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ أَبُو عَلِيٍّ هُوَ الصَّوَابُ، وَيَشْهَدُ لَهُ أَمْرَانِ‏:‏ أَحَدُهُمَا‏:‏ أَنَّ الْعَادَةَ مُطَّرِدَةٌ شَاهِدَةٌ فِي إِهَانَةِ الْمُعَذَّبِينَ بِالسُّجُونِ مِنْ إِغْلَاقِهَا حَتَّى يَرِدُوا عَلَيْهَا، وَإِكْرَامُ الْمُنَعَّمِينَ بِإِعْدَادِ فَتْحِ الْأَبْوَابِ لَهُمْ مُبَادَرَةً وَاهْتِمَامًا‏.‏

وَالثَّانِي‏:‏ النَّظِيرُ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوَابُ‏}‏ ‏(‏ص‏:‏ 50‏)‏‏.‏

وَلِلنَّحْوِيِّينَ فِي الْآيَةِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ‏:‏ أَحَدُهَا‏:‏ أَنَّ الْوَاوَ زَائِدَةٌ، وَالْجَوَابُ قَوْلُهُ ‏"‏ فُتِحَتْ ‏"‏ وَهَؤُلَاءِ قِسْمَانِ‏:‏ مِنْهُمْ مَنْ جَعَلَ هَذِهِ الْوَاوَ مَعَ أَنَّهَا زَائِدَةٌ وَاوَ الثَّمَانِيَةِ، وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ يُثْبِتْهَا‏.‏

وَالثَّانِي‏:‏ أَنَّ الْجَوَابَ مَحْذُوفٌ عُطِفَ عَلَيْهِ قَوْلُهُ‏:‏ ‏(‏وَفُتِحَتْ‏)‏ كَأَنَّهُ قَالَ‏:‏ ‏"‏ حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ ‏"‏ قَالَ الزَّجَّاجُ وَغَيْرُهُ‏:‏ وَفِي هَذَا حَذْفُ الْمَعْطُوفِ وَإِبْقَاءُ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ‏.‏

وَالثَّالِثُ‏:‏ أَنَّ الْجَوَابَ مَحْذُوفٌ آخِرُ الْكَلَامِ؛ كَأَنَّهُ قَالَ بَعْدَ الْفَرَاغِ‏:‏ اسْتَقَرُّوا، أَوْ خُلِّدُوا، أَوِ اسْتَوُوا، مِمَّا يَقْتَضِهِ الْمَقَامُ، وَلَيْسَ فِيهِ حَذْفُ مَعْطُوفٍ‏.‏

وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ‏:‏ إِذَا جَاءُوهَا أَذِنَ لَهُمْ فِي دُخُولِهَا، وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا، الْمَجِيءُ لَيْسَ سَبَبًا مُبَاشِرًا لِلْفَتْحِ، بَلِ الْإِذْنُ فِي الدُّخُولِ هُوَ السَّبَبُ فِي ذَلِكَ‏.‏

وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا‏}‏ أَيْ‏:‏ رَحِمَهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ، وَهَذَا التَّأْوِيلُ أَحْسَنُ مِنَ الْقَوْلِ بِزِيَادَةِ ‏(‏ثُمَّ‏)‏‏.‏

وَحَذْفُ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ وَإِبْقَاءُ الْمَعْطُوفِ سَائِغٌ كَقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏فَقُلْنَا اذْهَبَا إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَدَمَّرْنَاهُمْ تَدْمِيرًا‏}‏ ‏(‏الْفُرْقَانِ‏:‏ 36‏)‏، التَّقْدِيرُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ‏:‏ فَذَهَبَا فَبَلَّغَا فَكُذِّبَا فَدَمَّرْنَاهُمْ؛ لِأَنَّ الْمَعْنَى يُرْشِدُ إِلَى ذَلِكَ‏.‏

وَكَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ‏}‏ ‏(‏الْبَقَرَةِ‏:‏ 54‏)‏، أَيْ‏:‏ فَامْتَثَلْتُمْ، أَوْ فَعَلْتُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ‏.‏

وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ‏}‏ ‏(‏الصَّافَّاتِ‏:‏ 103‏)‏، أَيْ‏:‏ رُحِمَا وَسَعِدَا وَتَلَّهُ‏.‏

وَابْنُ عَطِيَّةَ يَجْعَلُ التَّقْدِيرَ‏:‏ فَلَمَّا أَسْلَمَا أُسْلِمَا؛ وَهُوَ مُشْكِلٌ‏.‏

وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا يَا وَيْلَنَا‏}‏ ‏(‏الْأَنْبِيَاءِ‏:‏ 97‏)‏، الْمَعْنَى‏:‏ حَتَّى إِذَا كَانَ ذَلِكَ نَدِمَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَلَمْ يَنْفَعْهُمْ إِيمَانُهُمْ؛ لِأَنَّهُ مِنَ الْآيَاتِ وَالْأَشْرَاطِ‏.‏

وَقَدْ يَجِيءُ فِي الْكَلَامِ شَرْطَانِ‏:‏ وَيُحْذَفُ جَوَابُ أَحَدِهِمَا اكْتِفَاءً بِالْآخَرِ؛ كَقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ فَسَلَامٌ‏}‏ ‏(‏الْوَاقِعَةِ‏:‏ 90- 91‏)‏ فَجَعَلَ سِيبَوَيْهِ الْجَوَابَ لِـ ‏"‏ أَمَّا ‏"‏ وَأَجْرَى ‏(‏إِنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ‏)‏ فِي الِاعْتِرَاضِ بِهِ مَجْرَى الظَّرْفِ؛ لِأَنَّ الشَّرْطَ وَإِنْ كَانَ جُمْلَةً؛ فَإِنَّهُ لَمَّا لَمْ يَقُمْ بِنَفْسِهِ جَرَى مَجْرَى الْجُزْءِ الْوَاحِدِ، وَلَوْ كَانَ عِنْدَهُ جُمْلَةً لَمَا جَازَ الْفَصْلُ بِهِ بَيْنَ ‏"‏ أَمَّا ‏"‏ وَجَوَابِهَا؛ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ، أَمَّا زَيْدٌ فَمُنْطَلِقٌ، وَذَهَبَ الْأَخْفَشُ إِلَى أَنَّ الْفَاءَ جَوَابٌ لَهُمَا‏.‏

وَنَظِيرُهُ‏:‏ ‏{‏وَلَوْلَا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ‏}‏ ‏(‏الْفَتْحِ‏:‏ 25‏)‏ فَقَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏لَعَذَّبْنَا‏}‏ ‏(‏الْفَتْحِ‏:‏ 25‏)‏ جَوَابٌ لِـ ‏"‏ لَوْلَا ‏"‏، وَلِـ ‏"‏ لَوْ ‏"‏ جَمِيعًا‏.‏

وَاخْتَارَ ابْنُ مَالِكٍ قَوْلَ سِيبَوَيْهِ أَنَّ الْجَوَابَ لِـ ‏"‏ أَمَّا ‏"‏ وَاسْتَغْنَى بِهِ عَنْ جَوَابِ ‏"‏ إِنَّ ‏"‏؛ لِأَنَّ الْجَوَابَ الْأَوَّلَ الشَّرْطَيْنِ الْمُتَوَالِيَيْنِ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ‏}‏ ‏(‏هُودٍ‏:‏ 34‏)‏ وَنَظَائِرِهِ‏.‏

فَإِذَا كَانَ أَوَّلُ الشَّرْطَيْنِ ‏"‏ أَمَّا ‏"‏ كَانَتْ أَحَقَّ بِذَلِكَ لِوَجْهَيْنِ‏:‏ أَحَدُهُمَا‏:‏ أَنَّ جَوَابَهَا إِذَا انْفَرَدَتْ لَا يُحْذَفُ أَصْلًا، وَجَوَابُ غَيْرِهَا إِذَا انْفَرَدَ يُحْذَفُ كَثِيرًا لِدَلِيلٍ، وَحَذْفُ مَا عُهِدَ حَذْفُهُ أَوْلَى مِنْ حَذْفِ مَا لَمْ يُعْهَدْ‏.‏

وَالثَّانِي‏:‏ أَنَّ ‏"‏ أَمَّا ‏"‏ قَدِ الْتُزِمَ مَعَهَا حَذْفُ فِعْلِ الشَّرْطِ، وَقَامَتْ هِيَ مَقَامَهُ، فَلَوْ حُذِفَ جَوَابُهَا لَكَانَ ذَلِكَ إِجْحَافًا وَإِنْ لَيْسَتْ كَذَلِكَ‏.‏

انْتَهَى‏.‏

وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَا حَذْفَ فِي الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ، وَإِنَّمَا الشَّرْطُ الثَّانِي وَجَوَابُهُ جَوَابُ الْأَوَّلِ، وَالْمَحْذُوفُ إِنَّمَا هُوَ أَحَدُ الْفَاءَيْنِ‏.‏

وَقَالَ الْفَارِسِيُّ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ ‏(‏آلِ عِمْرَانَ‏:‏ 26‏)‏ الْآيَةَ‏:‏ إِنَّهُ حُذِفَ مِنْهُ‏:‏ ‏"‏ أَعِزَّنَا وَلَا تُذِلَّنَا ‏"‏‏.‏

وَقَالَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ‏}‏ ‏(‏النِّسَاءِ‏:‏ 62‏)‏، تَقْدِيرُهُ‏:‏ ‏"‏ فَكَيْفَ تَجِدُونَهُمْ مَسْرُورِينَ أَوْ مَحْزُونِينَ‏؟‏ فَـ ‏"‏ كَيْفَ ‏"‏ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ بِهَذَا الْفِعْلِ الْمُضْمَرِ، وَهَذَا الْفِعْلُ الْمُضْمَرُ قَدْ سَدَّ مَسَدَّ جَوَابِ إِذَا‏.‏

حَذْفُ جَوَابِ الْقَسَمِ فِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ لِعِلْمِ السَّامِعِ الْمُرَادَ مِنْهُ

كَقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطًا وَالسَّابِحَاتِ سَبْحًا فَالسَّابِقَاتِ سَبْقًا فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ‏}‏ ‏(‏النَّازِعَاتِ‏:‏ 1- 5‏)‏ تَقْدِيرُهُ‏:‏ لَتُبْعَثُنَّ وَلَتُحَاسَبُنَّ؛ بِدَلِيلِ إِنْكَارِهِمْ لِلْبَعْثِ فِي قَوْلِهِمْ‏:‏ ‏{‏يَقُولُونَ أَئِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحَافِرَةِ‏}‏ ‏(‏النَّازِعَاتِ‏:‏ 10‏)‏‏.‏

وَقِيلَ‏:‏ الْقَسَمُ وَقَعَ عَلَى قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشَى‏}‏ ‏(‏النَّازِعَاتِ‏:‏ 26‏)‏‏.‏

وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏لَنْ نُؤْثِرَكَ‏}‏ ‏(‏طه‏:‏ 72‏)‏، وَحُذِفَ لِدَلَالَةِ الْكَلَامِ السَّابِقِ عَلَيْهِ‏.‏

وَاخْتُلِفَ فِي جَوَابِ الْقَسَمِ فِي‏:‏ ‏{‏ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ‏}‏ ‏(‏ص‏:‏ 1‏)‏، فَقَالَ الزَّجَّاجُ‏:‏ ‏{‏إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ النَّارِ‏}‏ ‏(‏ص‏:‏ 64‏)‏، وَاسْتَبْعَدَهُ الْكِسَائِيُّ‏.‏

وَقَالَ الْفَرَّاءُ‏:‏ قَدْ تَأَخَّرَ كَثِيرًا، وَجَرَتْ بَيْنَهُمَا قِصَصٌ مُخْتَلِفَةٌ، فَلَا يَسْتَقِيمُ ذَلِكَ فِي الْعَرَبِيَّةِ‏.‏

وَقِيلَ‏:‏ ‏{‏كَمْ أَهْلَكْنَا‏}‏ ‏(‏ص‏:‏ 3‏)‏، وَمَعْنَاهُ‏:‏ لَكَمْ أَهْلَكْنَا، وَمَا بَيْنَهُمَا اعْتِرَاضٌ، وَحُذِفَتِ اللَّامُ لِطُولِ الْكَلَامِ‏.‏

وَقَالَ الْأَخْفَشُ‏:‏ ‏{‏إِنْ كُلٌّ إِلَّا كَذَّبَ الرُّسُلَ‏}‏ ‏(‏ص‏:‏ 14‏)‏، وَالْمُعْتَرِضُ بَيْنَهُمَا قِصَّةٌ

وَاحِدَةٌ‏.‏ وَعَنْ قَتَادَةَ‏:‏ بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ ‏(‏ص‏:‏ 2‏)‏ مِثْلُ ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ بَلْ عَجِبُوا ‏(‏ق‏:‏ 1- 2‏)‏‏.‏

وَقَالَ صَاحِبُ ‏"‏ النَّظْمِ ‏"‏ فِي هَذَا الْقَوْلِ‏:‏ مَعْنَى ‏"‏ بَلْ ‏"‏ تَوْكِيدُ الْأَمْرِ بَعْدَهُ فَصَارَ مِثْلَ ‏"‏ أَنَّ ‏"‏ الشَّدِيدَةِ تُثْبِتُ مَا بَعْدَهَا، وَإِنْ كَانَ لَهَا مَعْنًى آخَرَ فِي نَفْيِ خَبَرٍ مُتَقَدِّمٍ؛ كَأَنَّهُ قَالَ‏:‏ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ‏.‏

وَقَالَ أَبُو الْقَاسِمِ الزَّجَّاجِيُّ‏:‏ إِنَّ النَّحْوِيِّينَ قَالُوا‏:‏ إِنَّ ‏"‏ بَلْ ‏"‏ تَقَعُ فِي جَوَابِ الْقَسَمِ كَمَا تَقَعُ ‏"‏ إِنَّ ‏"‏ لِأَنَّ الْمُرَادَ بِهَا تَوْكِيدُ الْخَبَرِ، وَذَلِكَ فِي‏:‏ ص وَالْقُرْآنِ‏.‏‏.‏‏.‏ ‏(‏ص‏:‏ 1‏)‏ الْآيَةَ، وَفِي‏:‏ ق وَالْقُرْآنِ‏.‏‏.‏‏.‏ ‏(‏ق‏:‏ 1‏)‏ الْآيَةَ، وَهَذَا مِنْ طَرِيقِ الِاعْتِبَارِ، وَيَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى ‏"‏ إِنَّ ‏"‏ لِأَنَّهُ سَائِغٌ فِي كَلَامِهِمْ أَوْ يَكُونَ ‏"‏ بَلْ ‏"‏ جَوَابًا لِلْقَسَمِ؛ لَكِنْ لَمَّا كَانَتْ مُتَضَمِّنَةً رَفْعَ خَبَرٍ وَإِتْيَانَ خَبَرٍ بَعْدَهُ كَانَتْ أَوْكَدَ مِنْ سَائِرِ التَّوْكِيدَاتِ؛ فَحَسُنَ وَضْعُهَا مَوْضِعَ ‏"‏ إِنَّ ‏"‏‏.‏

وَقِيلَ‏:‏ الْجَوَابُ مَحْذُوفٌ؛ أَيْ‏:‏ وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ، مَا الْأَمْرُ كَمَا يَقُولُ هَؤُلَاءِ‏.‏ أَوِ‏:‏ الْحَقُّ مَا جَاءَ بِهِ النَّبِيُّ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏.‏

وَقَالَ الْفَرَّاءُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ ‏(‏الِانْشِقَاقِ‏:‏ 1‏)‏ جَوَابُهُ مَحْذُوفٌ، أَيْ‏:‏ فَيَوْمَئِذٍ يُلَاقِي حِسَابَهُ‏.‏

وَعَنْ قَتَادَةَ أَنَّ جَوَابَهُ‏:‏ وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ ‏(‏الِانْشِقَاقِ‏:‏ 2‏)‏ يَعْنِي أَنَّ الْوَاوَ فِيهَا بِمَعْنَى السُّقُوطِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ وَنَادَيْنَاهُ ‏(‏الصَّافَّاتِ‏:‏ 103- 104‏)‏ أَيْ‏:‏ نَادَيْنَاهُ‏.‏

حَذْفُ الْجُمْلَةِ فِي الْآيَاتِ الْقُرْآنِيَّةِ

هِيَ أَقْسَامٌ‏:‏ قِسْمٌ هِيَ مُسَبَّبَةٌ عَنِ الْمَذْكُورِ، وَقِسْمٌ هِيَ سَبَبٌ لَهُ، وَقِسْمٌ خَارِجٌ عَنْهَا‏:‏

فَالْأَوَّلُ‏:‏ كَقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ ‏(‏الْأَنْفَالِ‏:‏ 8‏)‏ فَإِنَّ اللَّامَ الدَّاخِلَةَ عَلَى الْفِعْلِ لَا بُدَّ لَهَا مِنْ مُتَعَلِّقٍ، يَكُونُ سَبَبًا عَنْ مَدْخُولِ اللَّامِ، فَلَمَّا لَمْ يُوجَدْ لَهَا مُتَعَلِّقٌ فِي الظَّاهِرِ وَجَبَ تَقْدِيرُهُ ضَرُورَةً، فَيُقَدَّرُ‏:‏ فَعَلَ مَا فَعَلَ لِيُحِقَّ الْحَقَّ‏.‏

وَالثَّانِي‏:‏ كَقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا ‏(‏الْبَقَرَةِ‏:‏ 60‏)‏ فَإِنَّ الْفَاءَ إِنَّمَا تَدْخُلُ عَلَى شَيْءٍ مُسَبَّبٍ عَنْ شَيْءٍ، وَلَا مُسَبَّبَ إِلَّا لَهُ سَبَبٌ، فَإِذَا وُجِدَ الْمُسَبَّبُ وَلَا سَبَبَ لَهُ ظَاهِرًا أَوْجَبَ أَنْ يُقَدَّرَ ضَرُورَةً، فَيُقَدَّرَ‏:‏ فَضَرَبَهُ فَانْفَجَرَ‏.‏

وَالثَّالِثُ‏:‏ كَقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ ‏(‏الذَّارِيَاتِ‏:‏ 48‏)‏ أَيْ‏:‏ نَحْنُ هُمْ أَوْ هُمْ نَحْنُ‏.‏

وَقَدْ يَكُونُ الْمَحْذُوفُ أَكْثَرَ مِنْ جُمْلَةٍ؛ كَقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ فَأَرْسِلُونِ يُوسُفُ‏.‏‏.‏‏.‏ ‏(‏يُوسُفَ‏:‏ 45- 46‏)‏ الْآيَةَ، فَإِنَّ التَّقْدِيرَ‏:‏ ‏"‏ فَأَرْسِلُونِ إِلَى يُوسُفَ لِأَسْتَعْبِرَهُ الرُّؤْيَا، فَأَرْسَلُوهُ إِلَيْهِ لِذَلِكَ، فَجَاءَ فَقَالَ لَهُ‏:‏ يَا يُوسُفُ ‏"‏ وَإِنَّمَا قُلْنَا‏:‏ إِنَّ هَذَا الْكُلَّ مَحْذُوفٌ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ‏:‏ أَرْسِلُونِ ‏(‏يُوسُفَ‏:‏ 45‏)‏ يَدُلُّ لَا مَحَالَةَ عَلَى الْمُرْسَلِ إِلَيْهِ فَثَبَتَ أَنَّ ‏"‏ إِلَى يُوسُفَ ‏"‏ مَحْذُوفٌ‏.‏ ثُمَّ إِنَّهُ لَمَّا طَلَبَ الْإِرْسَالَ إِلَى يُوسُفَ عِنْدَ الْعَجْزِ الْحَاصِلِ لِلْمُعَبِّرِينَ عَنْ تَعْبِيرِ رُؤْيَا الْمَلِكِ دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ طَلَبِ الْإِرْسَالِ إِلَيْهِ اسْتِعْبَارُهُ الرُّؤْيَا الَّتِي عَجَزُوا عَنْ تَعْبِيرِهَا، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى‏:‏ اذْهَبْ بِكِتَابِي هَذَا فَأَلْقِهِ إِلَيْهِمْ‏.‏‏.‏‏.‏ ‏(‏النَّمْلِ‏:‏ 28‏)‏ الْآيَةَ، فَأَعْقَبَ بِقَوْلِهِ حِكَايَةً عَنْهَا‏:‏ قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ ‏(‏النَّمْلِ‏:‏ 29‏)‏ تَقْدِيرُهُ‏:‏ فَأَخَذَ الْكِتَابَ فَأَلْقَاهُ إِلَيْهِمْ، فَرَأَتْهُ بِلْقِيسُ وَقَرَأَتْهُ، وَقَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ ‏(‏النَّمْلِ‏:‏ 29‏)‏‏.‏

وَقَوْلُهُ‏:‏ يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا ‏(‏مَرْيَمَ‏:‏ 12‏)‏ حَذْفٌ يَطُولُ‏.‏ تَقْدِيرُهُ‏:‏ فَلَمَّا وُلِدَ يَحْيَى وَنَشَأَ وَتَرَعْرَعَ قُلْنَا‏:‏ يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ ‏(‏مَرْيَمَ‏:‏ 12‏)‏‏.‏

وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ قَوْمِ مُوسَى‏:‏ لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى قَالَ يَا هَارُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا أَلَّا تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي ‏(‏طه‏:‏ 91، 92، 93‏)‏‏.‏

وَقَوْلُهُ‏:‏ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ ‏(‏النَّمْلِ‏:‏ 40‏)‏ إِلَى قَوْلِهِ‏:‏ نَكِّرُوا لَهَا عَرْشَهَا ‏(‏النَّمْلِ‏:‏ 41‏)‏‏.‏

وَقَوْلُهُ‏:‏ أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ ‏(‏الزُّمَرِ‏:‏ 22‏)‏ أَيْ‏:‏ كَمَنْ قَسَا قَلْبُهُ تُرِكَ عَلَى ظُلْمِهِ وَكُفْرِهِ، وَدَلَّ عَلَى الْمَحْذُوفِ قَوْلُهُ‏:‏ فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ ‏(‏الزُّمَرِ‏:‏ 22‏)‏‏.‏

وَمِنْ حَذْفِ الْجُمْلَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى‏:‏ وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا ‏(‏الْبَقَرَةِ‏:‏ 30‏)‏ قِيلَ‏:‏ الْمَعْنَى‏:‏ جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً يَفْعَلُ كَذَا وَكَذَا، وَإِلَّا فَمِنْ أَيْنَ عَلِمَ الْمَلَائِكَةُ أَنَّهُمْ يُفْسِدُونَ‏؟‏ وَبَاقِي الْكَلَامِ يَدُلُّ عَلَى الْمَحْذُوفِ‏.‏

وَقَوْلُهُ‏:‏ أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ ‏(‏الْحُجُرَاتِ‏:‏ 12‏)‏ قَالَ الْفَارِسِيُّ‏:‏ الْمَعْنَى‏:‏ فَكَمَا كَرِهْتُمُوهُ فَاكْرَهُوا الْغِيبَةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ ‏(‏الْحُجُرَاتِ‏:‏ 12‏)‏ عَطْفٌ عَلَى قَوْلِهِ‏:‏ ‏"‏ فَاكْرَهُوا ‏"‏ وَإِنْ لَمْ يُذْكَرْ لِدَلَالَةِ الْكَلَامِ عَلَيْهِ؛ كَقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ فَانْفَجَرَتْ ‏(‏الْبَقَرَةِ‏:‏ 60‏)‏ أَيْ‏:‏ فَضَرَبَ فَانْفَجَرَتْ‏.‏ فَقَوْلُهُ‏:‏ ‏"‏ كَرِهْتُمُوهُ ‏"‏ كَلَامٌ مُسْتَأْنَفٌ، وَإِنَّمَا دَخَلَتِ الْفَاءُ لِمَا فِي الْكَلَامِ مِنْ مَعْنَى الْجَوَابِ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ‏:‏ أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ ‏(‏الْحُجُرَاتِ‏:‏ 12‏)‏ كَأَنَّهُمْ قَالُوا فِي جَوَابِهِ‏:‏ لَا، فَقَالَ‏:‏ فَكَرِهْتُمُوهُ‏.‏ أَيْ‏:‏ فَكَمَا كَرِهْتُمُوهُ فَاكْرَهُوا الْغِيبَةَ‏.‏

قَالَ ابْنُ الشَّجَرِيِّ‏:‏ وَهَذَا التَّقْدِيرُ بَعِيدٌ؛ لِأَنَّهُ قَدَّرَ الْمَحْذُوفَ مَوْصُولًا، وَهُوَ ‏"‏ مَا ‏"‏ الْمَصْدَرِيَّةُ، وَحَذْفُ الْمَوْصُولِ وَإِبْقَاءُ صِلَتِهِ ضَعِيفٌ؛ وَإِنَّمَا التَّقْدِيرُ‏:‏ فَهَذَا كَرِهْتُمُوهُ، وَالْجُمْلَةُ الْمُقَدَّرَةُ الْمَحْذُوفَةُ ابْتِدَائِيَّةٌ لَا أَمْرِيَّةٌ، وَالْمَعْنَى‏:‏ فَهَذَا كَرِهْتُمُوهُ، وَالْغِيبَةُ مِثْلُهُ، وَإِنَّمَا قَدَّرَهَا أَمْرِيَّةً لِيَعْطِفَ عَلَيْهَا الْجُمْلَةَ الْأَمْرِيَّةَ فِي قَوْلِهِ‏:‏ وَاتَّقُوا اللَّهَ ‏(‏الْحُجُرَاتِ‏:‏ 12‏)‏‏.‏

حَذْفُ الْقَوْلِ فِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ

قَدْ كَثُرَ فِي الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ حَتَّى إِنَّهُ فِي الْإِضْمَارِ بِمَنْزِلَةِ الْإِظْهَارِ؛ كَقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى ‏(‏الزُّمَرِ‏:‏ 3‏)‏ أَيْ‏:‏ يَقُولُونَ‏:‏ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِلْقُرْبَةِ‏.‏

وَمِنْهُ‏:‏ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُوا ‏(‏طه‏:‏ 80- 81‏)‏ أَيْ‏:‏ وَقُلْنَا‏:‏ كُلُوا، أَوْ قَائِلِينَ‏.‏

وَقَوْلُهُ‏:‏ قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ ‏(‏الْبَقَرَةِ‏:‏ 60‏)‏ أَيْ‏:‏ قُلْنَا‏.‏

وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا ‏(‏الْبَقَرَةِ‏:‏ 63‏)‏ أَيْ‏:‏ وَقُلْنَا‏:‏ خُذُوا‏.‏

وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى ‏(‏الْبَقَرَةِ‏:‏ 125‏)‏ أَيْ وَقُلْنَا‏:‏ اتَّخِذُوا‏.‏

وَقَوْلُهُ‏:‏ وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا ‏(‏الْبَقَرَةِ‏:‏ 127‏)‏ أَيْ‏:‏ يَقُولَانِ‏:‏ رَبَّنَا، وَعَلَيْهِ قِرَاءَةُ عَبْدِ اللَّهِ‏.‏

فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ ‏(‏آلِ عِمْرَانَ‏:‏ 106‏)‏ أَيْ‏:‏ فَيُقَالُ لَهُمْ‏.‏ لِأَنَّ ‏"‏ أَمَّا ‏"‏ لَا بُدَّ لَهَا فِي الْخَبَرِ مِنْ فَاءٍ، فَلَمَّا أُضْمِرَ الْقَوْلُ أُضْمِرَ الْفَاءُ‏.‏

وَقَوْلُهُ‏:‏ وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ أَتْرَابٌ هَذَا مَا تُوعَدُونَ ‏(‏ص‏:‏ 52- 53‏)‏ أَيْ‏:‏ يُقَالُ لَهُمْ‏:‏ هَذَا‏.‏

وَقَوْلُهُ‏:‏ وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ ‏(‏الرَّعْدِ‏:‏ 23- 24‏)‏ أَيْ‏:‏ يَقُولُونَ‏:‏ سَلَامٌ‏.‏

وَقَوْلُهُ‏:‏ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمْ ‏(‏الْأَنْبِيَاءِ‏:‏ 103‏)‏ أَيْ‏:‏ يَقُولُونَ لَهُمْ ذَلِكَ‏.‏

وَقَوْلُهُ‏:‏ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا ‏(‏الزُّمَرِ‏:‏ 3‏)‏ أَيْ‏:‏ يَقُولُونَ مَا نَعْبُدُهُمْ‏.‏

وَقَوْلُهُ‏:‏ فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ إِنَّا لَمُغْرَمُونَ ‏(‏الْوَاقِعَةِ‏:‏ 65- 66‏)‏ أَيْ‏:‏ يَقُولُونَ‏:‏ إِنَّا لَمُغْرَمُونَ، أَيْ‏:‏ مُعَذَّبُونَ، وَتَفَكَّهُونَ‏:‏ تَنْدَمُونَ‏.‏

وَقَوْلُهُ‏:‏ وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا ‏(‏السَّجْدَةِ‏:‏ 12‏)‏ أَيْ‏:‏ يَقُولُونَ‏:‏ رَبَّنَا‏.‏

وَقَوْلُهُ‏:‏ مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ ‏(‏سَبَأٍ‏:‏ 23‏)‏ أَيْ‏:‏ قَالُوا‏:‏ قَالَ الْحَقَّ‏.‏

حَذْفُ الْفِعْلِ فِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ

وَيَنْقَسِمُ إِلَى عَامٍّ وَخَاصٍّ‏:‏

فَالْخَاصُّ حَذْفُ الْفِعْلِ فِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ نَحْوُ ‏"‏ أَعْنِي ‏"‏ مُضْمَرًا، وَيَنْتَصِبُ الْمَفْعُولُ بِهِ فِي الْمَدْحِ؛ نَحْوُ‏:‏ وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ ‏(‏الْبَقَرَةِ‏:‏ 177‏)‏ وَقَوْلُهُ‏:‏ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلَاةِ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَاةِ ‏(‏النِّسَاءِ‏:‏ 162‏)‏ أَيْ‏:‏ أَمْدَحُ‏.‏

وَاعْلَمْ أَنَّهُ إِذَا كَانَ الْمَنْعُوتُ مُتَعَيِّنًا لَمْ يَجُزْ تَقْدِيرُ نَاصِبِ نَعْتِهِ بِـ ‏(‏أَعْنِي‏)‏ نَحْوُ‏:‏ الْحَمْدُ لِلَّهِ الْحَمِيدِ؛ بَلِ الْمُقَدَّرُ فِيهِ وَفِي نَحْوِهِ ‏(‏أَذْكُرُ‏)‏ أَوْ ‏(‏أَمْدَحُ‏)‏ فَاعْرِفْ ذَلِكَ‏.‏

وَالذَّمُّ نَحْوُ قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ ‏(‏الْمَسَدِ‏:‏ 4‏)‏ فِي قِرَاءَةِ النَّصْبِ، وَالْأَخْفَشُ يَنْصِبُ فِي الْمَدْحِ بِـ ‏(‏أَمْدَحُ‏)‏ وَفِي الذَّمِّ بِـ ‏(‏أَذُمُّ‏)‏‏.‏

وَاعْلَمْ أَنَّ مُرَادَ الْمَادِحِ إِبَانَةُ الْمَمْدُوحِ مِنْ غَيْرِهِ، فَلَا بُدَّ مِنْ إِبَانَةِ إِعْرَابِهِ عَنْ غَيْرِهِ؛ لِيَدُلَّ اللَّفْظُ عَلَى الْمَعْنَى الْمَقْصُودِ، وَيَجُوزُ فِيهِ النَّصْبُ بِتَقْدِيرِ ‏(‏أَمْدَحُ‏)‏ وَالرَّفْعُ عَلَى مَعْنَى ‏(‏هُوَ‏)‏ وَلَا يَظْهَرَانِ لِئَلَّا يَصِيرَا بِمَنْزِلَةِ الْخَبَرِ‏.‏

وَالَّذِي لَا مَدْحَ فِيهِ فَاخْتِزَالُ الْعَامِلِ فِيهِ وَاجِبٌ، كَاخْتِزَالِهِ فِي ‏"‏ وَاللَّهِ لَأَفْعَلَنَّ ‏"‏ إِذْ لَوْ قِيلَ‏:‏ ‏"‏ أَحْلِفُ بِاللَّهِ ‏"‏ لَكَانَ عِدَةً لَا قَسَمًا‏.‏

وَالْعَامُّ حَذْفُ الْفِعْلِ فِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ كُلُّ مَنْصُوبٍ دَلَّ عَلَيْهِ الْفِعْلُ لَفْظًا أَوْ مَعْنًى أَوْ تَقْدِيرًا، وَيُحْذَفُ لِأَسْبَابٍ‏:‏

أَحَدُهَا‏:‏ أَنْ يَكُونَ مُفَسَّرًا؛ أَسْبَابُ حَذْفِ الْعَامِّ كَقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ‏}‏ ‏(‏الِانْشِقَاقِ‏:‏ 1‏)‏ ‏{‏وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ‏}‏ ‏(‏الْبَقَرَةِ‏:‏ 40‏)‏‏.‏

وَمِنْهُ‏:‏ ‏{‏أَبَشَرًا مِنَّا وَاحِدًا نَتَّبِعُهُ‏}‏ ‏(‏الْقَمَرِ‏:‏ 24‏)‏ وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا ‏(‏الرَّحْمَنِ‏:‏ 7‏)‏ ‏{‏إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ‏}‏ ‏(‏التَّكْوِيرِ‏:‏ 1‏)‏ ‏{‏وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ‏}‏ ‏(‏التَّوْبَةِ‏:‏ 6‏)‏ وَإِنْ طَائِفَتَانِ ‏(‏الْحُجُرَاتِ‏:‏ 9‏)‏ فَإِنَّهُ ارْتَفَعَ بِـ ‏"‏ اقْتَتَلَ ‏"‏ مُقَدَّرًا‏.‏

قَالُوا‏:‏ وَلَا يَجُوزُ حَذْفُ الْفِعْلِ مَعَ شَيْءٍ مِنْ حُرُوفِ الشَّرْطِ الْعَامِلَةِ سِوَى ‏"‏ إِنْ ‏"‏؛ لِأَنَّهَا الْأَصْلُ‏.‏

وَجَعَلَ ابْنُ الزَّمْلَكَانِيِّ هَذَا مِمَّا هُوَ دَائِرٌ بَيْنَ الْحَذْفِ وَالذِّكْرِ؛ فَإِنَّ الْفِعْلَ الْمُفَسِّرَ كَالْمُتَسَلِّطِ عَلَى الْمَذْكُورِ، وَلَكِنْ لَا يَتَعَيَّنُ إِلَّا بَعْدَ تَقَدُّمِ إِبْهَامٍ، وَلَقَدْ يَزِيدُهُ الْإِضْمَارُ إِبْهَامًا إِذَا لَمْ يَكُنِ الْمُضْمَرُ مِنْ جِنْسِ الْمَلْفُوظِ بِهِ؛ نَحْوَ‏:‏ ‏{‏وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا‏}‏ ‏(‏الْإِنْسَانِ‏:‏ 31‏)‏‏.‏ إِذِ الْمَذْكُورُ فِي حُكْمِ الشَّاهِدِ لِلْمُقَدَّرِ فَيَلْتَحِقُ بِبَابِ الْكِنَايَةِ‏.‏ وَالتَّقْدِيرُ‏:‏ وَيُعَذِّبُ الظَّالِمِينَ لِأَنَّهُ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا‏.‏

الثَّانِي‏:‏ أَنْ يَكُونَ هُنَاكَ حَرْفُ جَرٍّ؛ أَسْبَابُ حَذْفِ الْعَامِّ نَحْوُ‏:‏ ‏{‏بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ‏}‏ ‏(‏الْفَاتِحَةِ‏:‏ 1‏)‏ فَإِنَّهُ يُفِيدُ أَنَّ الْمُرَادَ‏:‏ بِسْمِ اللَّهِ أَقْرَأُ، أَوْ أَقُومُ، أَوْ أَقْعُدُ، عِنْدَ الْقِرَاءَةِ وَعِنْدَ الشُّرُوعِ فِي الْقِيَامِ أَوِ الْقُعُودِ، أَيُّ فِعْلٍ كَانَ‏.‏

وَاعْلَمْ أَنَّ النُّحَاةَ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ ‏"‏ بِسْمِ اللَّهِ ‏"‏ بَعْضُ جُمْلَةٍ، وَاخْتَلَفُوا‏.‏

فَقَالَ الْبَصْرِيُّونَ‏:‏ الْجُمْلَةُ اسْمِيَّةٌ؛ أَيِ‏:‏ ابْتِدَائِي بِسْمِ اللَّهِ‏.‏

وَقَالَ الْكُوفِيُّونَ‏:‏ الْجُمْلَةُ فِعْلِيَّةٌ، وَتَابَعَهُمُ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي تَقْدِيرِ الْجُمْلَةِ فِعْلِيَّةً، وَلَكِنْ خَالَفَهُمْ فِي مَوْضِعَيْنِ‏:‏

أَحَدُهُمَا‏:‏ أَنَّهُمْ يُقَدِّرُونَ الْفِعْلَ مُقَدَّمًا وَهُوَ يُقَدِّرُهُ مُؤَخَّرًا‏.‏

وَالثَّانِي‏:‏ أَنَّهُمْ يُقَدِّرُونَهُ فِعْلَ الْبِدَايَةِ، وَهُوَ يُقَدِّرُهُ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ بِحَسْبِهِ؛ فَإِذَا قَالَ الذَّابِحُ‏:‏ ‏"‏ بِسْمِ اللَّهِ ‏"‏، كَانَ التَّقْدِيرُ‏:‏ بِسْمِ اللَّهِ أَذْبَحُ، وَإِذَا قَالَ الْقَارِئُ‏:‏ ‏"‏ بِسْمِ اللَّهِ ‏"‏ فَالتَّقْدِيرُ‏:‏ بِسْمِ اللَّهِ أَقْرَأُ‏.‏

وَمَا قَالَ أَجْوَدُ مِمَّا قَالُوا؛ لِأَنَّ مُرَاعَاةَ الْمُنَاسَبَةِ أَوْلَى مِنْ إِهْمَالِهَا، وَلِأَنَّ اسْمَ اللَّهِ أَهَمُّ مِنَ الْفِعْلِ، فَكَانَ أَوْلَى بِالتَّقْدِيمِ، وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-‏:‏ بِاسْمِكَ رَبِّي وَضَعْتُ جَنْبِي فَقَدَّمَ اسْمَ اللَّهِ عَلَى الْفِعْلِ الْمُتَعَلِّقِ فِيهِ الْجَارُّ وَهُوَ ‏"‏ وَضَعْتُ ‏"‏‏.‏

الثَّالِثُ‏:‏ أَنْ يَكُونَ جَوَابًا لِسُؤَالٍ وَقَعَ، أَسْبَابُ حَذْفِ الْعَامِّ كَقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ‏}‏ ‏(‏لُقْمَانَ‏:‏ 25‏)‏‏.‏

وَقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ‏}‏ ‏(‏الْعَنْكَبُوتِ‏:‏ 63‏)‏‏.‏

وَقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ‏}‏ ‏(‏الْبَقَرَةِ‏:‏ 135‏)‏ أَيْ‏:‏ بَلْ نَتَّبِعُ‏.‏

أَوْ جَوَابًا لِسُؤَالٍ مُقَدَّرٍ؛ كَقِرَاءَةِ‏:‏ ‏{‏يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ رِجَالٌ‏}‏ ‏(‏النُّورِ‏:‏ 36- 37‏)‏ بِبِنَاءِ الْفِعْلِ لِلْمَفْعُولِ؛ فَإِنَّ التَّقْدِيرَ‏:‏ يُسَبِّحُهُ فِيهَا رِجَالٌ‏.‏

وَفِيهِ فَوَائِدُ‏:‏ مِنْهَا الْإِخْبَارُ بِالْفِعْلِ مَرَّتَيْنِ، وَمِنْهَا جَعْلُ الْفَضْلَةِ عُمْدَةً‏.‏

وَمِنْهَا‏:‏ أَنَّ الْفَاعِلَ فُسِّرَ بَعْدَ الْيَأْسِ مِنْهُ؛ كَضَالَّةٍ وَجَدَهَا بَعْدَ الْيَأْسِ، وَيَصِحُّ أَنْ يَكُونَ ‏"‏ يُسَبَّحُ ‏"‏ بَدَلًا مِنْ ‏"‏ يُذْكَرُ ‏"‏ عَلَى طَرِيقَةِ‏:‏ ‏{‏سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى‏}‏ ‏(‏الْأَعْلَى‏:‏ 1‏)‏ وَ ‏"‏ لَهُ فِيهَا ‏"‏ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ هُوَ ‏"‏ رِجَالٌ ‏"‏‏.‏

مِثْلُهُ قِرَاءَةُ مَنْ قَرَأَ‏:‏ ‏{‏زُيِّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلُ أَوْلَادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ‏}‏ ‏(‏الْأَنْعَامِ‏:‏ 137‏)‏ قَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ‏:‏ الْمَعْنَى زَيَّنَهُ شُرَكَاؤُهُمْ؛ فَيُرْفَعُ الشُّرَكَاءُ بِفِعْلٍ مُضْمَرٍ دَلَّ عَلَيْهِ ‏"‏ زُيِّنَ ‏"‏‏.‏

وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى‏:‏ وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ ‏(‏الْأَنْعَامَ‏:‏ 100‏)‏ إِنْ جَعَلْنَا قَوْلَهُ ‏"‏ لِلَّهِ شُرَكَاءَ ‏"‏ مَفْعُولَيْ ‏(‏جَعَلُوا‏)‏ لِأَنَّ ‏(‏لِلَّهِ‏)‏ فِي مَوْضِعِ الْخَبَرِ الْمَنْسُوخِ، وَ ‏(‏شُرَكَاءَ‏)‏ نَصْبٌ فِي مَوْضِعِ الْمُبْتَدَأِ‏.‏ وَعَلَى هَذَا فَيَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ‏:‏

أَحَدُهُمَا‏:‏ أَنْ يَكُونَ مَفْعُولًا بِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ دَلَّ عَلَيْهِ سُؤَالٌ مُقَدَّرٌ، كَأَنَّهُ قِيلَ‏:‏ أَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ‏؟‏ قِيلَ‏:‏ جَعَلُوا الْجِنَّ، فَيُفِيدُ الْكَلَامُ إِنْكَارَ الشَّرِيكِ مُطْلَقًا، فَدَخَلَ اعْتِقَادُ الشَّرِيكِ مِنْ غَيْرِ الْجِنِّ فِي إِنْكَارِ دُخُولِ اتِّخَاذِهِ مِنَ الْجِنِّ‏.‏

وَالثَّانِي‏:‏ ذَكَرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ‏:‏ أَنَّ الْجِنَّ بَدَلٌ مِنْ ‏(‏شُرَكَاءَ‏)‏ فَيُفِيدُ إِنْكَارَ الشَّرِيكِ مُطْلَقًا، كَمَا سَبَقَ، وَإِنْ جُعِلَ ‏(‏لِلَّهِ‏)‏ صِلَةً كَانَ ‏(‏شُرَكَاءَ الْجِنَّ‏)‏ مَفْعُولَيْنِ، قُدِّمَ ثَانِيهِمَا عَلَى أَوَّلِهِمَا، وَعَلَى هَذَا فَلَا حَذْفَ‏.‏

فَأَمَّا عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ فَقِيلَ‏:‏ ‏{‏وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ‏}‏ ‏(‏الْأَنْعَامِ‏:‏ 100‏)‏ وَلَمْ يَقُلْ‏:‏ ‏"‏ وَجَعَلُوا الْجِنَّ شُرَكَاءَ لِلَّهِ ‏"‏ تَعْظِيمًا لِاسْمِ اللَّهِ تَعَالَى؛ لِأَنَّ شَأْنَ اللَّهِ أَعْظَمُ فِي النُّفُوسِ، فَإِذَا قُدِّمَ ‏"‏ لِلَّهِ ‏"‏ وَالْكَلَامُ فِيهِ يَسْتَدْعِي طَلَبَ الْمَجْعُولِ لَهُ مَا هُوَ‏؟‏ فَقِيلَ‏:‏ شُرَكَاءُ، وَقَعَ فِي غَايَةِ التَّشْنِيعِ؛ لِأَنَّ النَّفْسَ مُنْتَظِرَةٌ لِهَذَا الْمُهِمِّ الْمُعَلَّقِ بِهَذَا الْمُعَظَّمِ نِهَايَةَ التَّعْظِيمِ؛ فَإِذَا عُلِمَ أَنَّهُ عُلِّقَ بِهِ هَذَا الْمُسْتَبْشَعُ فِي النِّهَايَةِ كَانَ أَعْظَمَ مَوْقِعًا مِنَ الْعَكْسِ؛ لِأَنَّهُ إِذَا قِيلَ‏:‏ وَجَعَلُوا شُرَكَاءَ‏.‏ لَمْ يُعْطِهِ تَشَوُّفَ النُّفُوسِ؛ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ جَعَلُوا شُرَكَاءَ فِي أَمْوَالِهِمْ وَصَدَقَاتِهِمْ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ‏.‏

الثَّالِثُ‏:‏ أَنَّ الْجَعْلَ غَالِبًا لَا يَتَعَلَّقُ بِاللَّهِ وَيُخْبَرُ بِهِ إِلَّا وَهُوَ جَعْلٌ مُسْتَقْبَحٌ كَاذِبٌ؛ إِذْ لَا يُسْتَعْمَلُ‏:‏ جَعَلَ اللَّهُ رَحْمَةً وَمَشِيئَةً وَعِلْمًا وَنَحْوَهُ‏.‏ لَا سِيَّمَا بِالِاسْتِقْرَاءِ الْقُرْآنِيِّ؛ كَـ‏:‏ ‏{‏وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ‏}‏ ‏(‏النَّحْلِ‏:‏ 57‏)‏ ‏{‏وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ مَا يَكْرَهُونَ‏}‏ ‏(‏النَّحْلِ‏:‏ 62‏)‏ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ‏.‏ فَإِذَا قِيلَ‏:‏ وَجَعَلُوا عُصْبَةً اقْتَرَحُوهَا وَافْتَرَوْهَا، وَقَصَدُوا بِهَا تَشَوُّفَ النُّفُوسِ إِلَى ذَلِكَ مَا لَا يَحْصُلُ فِي ‏"‏ جَعَلُوا شُرَكَاءَ ‏"‏‏.‏

الرَّابِعُ‏:‏ أَنَّ أَصْلَ الْجَعْلِ وَإِنْ جَازَ إِسْنَادُهُ إِلَى اللَّهِ فِيمَا إِذَا كَانَ الْأَمْرُ لَائِقًا، فَإِنَّ بَابَهُ مَهُولٌ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ عَلَّمَنَا عَظِيمَ خَطَرِهِ، وَأَلَّا نَقُولَ فِيهِ إِلَّا بِالْعِلْمِ؛ كَقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ‏}‏ ‏(‏الْبَقَرَةِ‏:‏ 169‏)‏ ‏{‏وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا‏}‏ ‏(‏النَّجْمِ‏:‏ 28‏)‏ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مَعَ مَا دَلَّ عَلَيْهِ الْأَدَبُ عَقْلًا، وَكَانَ نَفْسُ الْجَعْلِ مُسْتَنْكَرًا إِنْ لَمْ يُتْبَعْ بِمَجْعُولٍ لَائِقٍ، فَإِذَا أُتْبِعَ بِمَجْعُولٍ غَيْرِ لَائِقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ فُسِّرَ بِخَاصٍّ مُسْتَنْكَرٍ، صَارَ قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ‏}‏ ‏(‏الْأَنْعَامِ‏:‏ 100‏)‏ فِي قُوَّةِ إِنْكَارِ ذَلِكَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ‏:‏

الْأَوَّلُ‏:‏ جَسَارَتُهُمْ فِي أَصْلِ الْجَعْلِ‏.‏

الثَّانِي‏:‏ فِي كَوْنِ الْمَجْعُولِ شُرَكَاءَ‏.‏

الثَّالِثُ‏:‏ فِي أَنَّهُمْ شُرَكَاءُ جِنٍّ‏.‏

الْخَامِسُ‏:‏ أَنَّ فِي تَقْدِيمِ ‏"‏ لِلَّهِ ‏"‏ إِفَادَةَ تَخْصِيصِهِمْ إِيَّاهُ بِالشَّرِكَةِ عَلَى الْوَجْهِ الثَّالِثِ دُونَ جَمِيعِ مَا يَعْبُدُونَ؛ لِأَنَّهُ الْإِلَهُ الْحَقُّ‏.‏

السَّادِسُ‏:‏ أَنَّهُ جِيءَ بِكَلِمَةِ ‏"‏ جَعَلُوا ‏"‏ لَا ‏"‏ اعْتَقَدُوا ‏"‏ وَلَا ‏"‏ قَالُوا ‏"‏؛ لِأَنَّهُ أَدَلُّ عَلَى إِثْبَاتِ الْمُعْتَقَدِ؛ لِأَنَّهُ يُسْتَعْمَلُ فِي الْخَلْقِ وَالْإِبْدَاعِ‏.‏

السَّابِعُ‏:‏ كَلِمَةُ ‏"‏ شُرَكَاءَ ‏"‏ وَلَمْ يَقُلْ ‏"‏ شَرِيكًا ‏"‏ وِفَاقًا لِمَزِيدِ مَا فَتَحُوا مِنِ اعْتِقَادِهِمْ‏.‏

الثَّامِنُ‏:‏ لَمْ يَقُلْ ‏"‏ جِنًّا ‏"‏ وَإِنَّمَا قَالَ‏:‏ ‏"‏ الْجِنَّ ‏"‏؛ دَلَالَةً عَلَى أَنَّهُمُ اتَّخَذُوا الْجِنَّ كُلَّهَا، وَجَعَلُوهُ مِنْ حَيْثُ هُوَ صَالِحٌ لِذَلِكَ، وَهُوَ أَقْبَحُ مِنَ التَّنْكِيرِ الَّذِي وَضَعَهُ لِلْمُفْرَدَاتِ الْمَعْدُولَةِ‏.‏

الرَّابِعُ‏:‏ أَنْ يَدُلَّ عَلَيْهِ مَعْنَى الْفِعْلِ الظَّاهِرِ؛ كَقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏انْتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ‏}‏ ‏(‏النِّسَاءِ‏:‏ 171‏)‏ أَيْ‏:‏ وَائْتُوا أَمْرًا خَيْرًا لَكُمْ، فَعِنْدَ سِيبَوَيْهِ‏:‏ أَنَّ ‏"‏ خَيْرًا ‏"‏ انْتَصَبَ بِإِضْمَارِ ‏"‏ ائْتِ ‏"‏؛ لِأَنَّهُ لَمَّا نَهَاهُ عَلِمَ أَنَّهُ يَأْمُرُهُ بِمَا هُوَ خَيْرٌ؛ فَكَأَنَّهُ قَالَ‏:‏ ‏"‏ وَائْتُوا خَيْرًا ‏"‏؛ لِأَنَّ النَّهْيَ عَنِ الشَّيْءِ أَمْرٌ بِضِدِّهِ؛ وَلِأَنَّ النَّهْيَ تَكْلِيفٌ، وَتَكْلِيفُ الْعَدَمِ مُحَالٌ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مَقْدُورًا، فَثَبَتَ أَنَّ مُتَعَلِّقَ التَّكْلِيفِ أَمْرٌ وُجُودِيٌّ، يُنَافِي الْمَنْهِيَّ عَنْهُ، وَهُوَ الضِّدُّ‏.‏

وَحَمَلَهُ الْكِسَائِيُّ عَلَى إِضْمَارِ ‏(‏كَانَ‏)‏ أَيْ‏:‏ يَكُنِ الِانْتِهَاءُ خَيْرًا لَكُمْ، وَيَمْنَعُهُ إِضْمَارُ ‏(‏كَانَ‏)‏ وَلَا تُضْمَرُ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ، وَمِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى إِذْ مَنْ تَرَكَ مَا نُهِيَ عَنْهُ فَقَدْ سَقَطَ عَنْهُ اللَّوْمُ، وَعُلِمَ أَنَّ تَرْكَ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ خَيْرٌ مِنْ فِعْلِهِ، فَلَا فَائِدَةَ فِي قَوْلِهِ ‏(‏خَيْرًا‏)‏‏.‏

وَحَمَلَهُ الْفَرَّاءُ عَلَى أَنَّهُ صِفَةٌ لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ؛ أَيِ‏:‏ انْتَهُوا انْتِهَاءً خَيْرًا لَكُمْ‏.‏ وَقَالَ‏:‏ إِنَّ هَذَا الْحَذْفَ لَمْ يَأْتِ إِلَّا فِيمَا كَانَ ‏(‏أَفْعَلَ‏)‏ نَحْوَ‏:‏ خَيْرٌ لَكَ، وَأَفْعَلُ‏.‏

وَرُدَّ مَذْهَبُهُ وَمَذْهَبُ الْكِسَائِيِّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَلَا تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ انْتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ‏}‏ ‏(‏النِّسَاءِ‏:‏ 171‏)‏ لَوْ حُمِلَ عَلَى مَا قَالَا لَا يَكُونُ خَيْرًا؛ لَأَنَّ مَنِ انْتَهَى عَنِ التَّثْلِيثِ وَكَانَ مُعَطِّلًا لَا يَكُونُ خَيْرًا لَهُ، وَقَوْلُ سِيبَوَيْهِ‏:‏ وَائْتِ خَيْرًا يَكُونُ أَمْرًا بِالتَّوْحِيدِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ‏.‏ فَلِلَّهِ دَرُّ الْخَلِيلِ وَسِيبَوَيْهِ، مَا أَطْلَعَهُمَا عَلَى الْمَعَانِي‏!‏

وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ‏}‏ ‏(‏يُونُسَ‏:‏ 71‏)‏ إِنْ لَمْ يَجْعَلْ مَفْعُولًا مَعَهُ، أَيْ‏:‏ وَادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ، وَبِإِظْهَارِ ‏"‏ ادْعُوا ‏"‏ قَرَأَ أُبَيٌّ، وَكَذَلِكَ هُوَ مُثْبَتٌ فِي مُصْحَفِ ابْنِ مَسْعُودٍ‏.‏

وَقَوْلُهُ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْبًا بِالْيَمِينِ‏}‏ ‏(‏الصَّافَّاتِ‏:‏ 93‏)‏ قَالَ ابْنُ الشَّجَرِيِّ‏:‏ مَعْنَاهُ مَالَ عَلَيْهِمْ يَضْرِبُهُمْ ضَرْبًا‏.‏ وَيَجُوزُ نَصْبُهُ عَلَى الْحَالِ؛ نَحْوَ‏:‏ أَتَيْتُهُ مَشْيًا، أَيْ‏:‏ مَاشِيًا‏.‏ ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا ‏(‏الْبَقَرَةِ‏:‏ 260‏)‏ أَيْ‏:‏ سَاعِيَاتٍ‏.‏ وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏"‏ بِالْيَمِينِ ‏"‏ إِمَّا الْيَدُ أَوِ الْقُوَّةُ‏.‏ وَجَوَّزَ ابْنُ الشَّجَرِيِّ إِرَادَةَ الْقَسَمِ، وَالْبَاءُ لِلتَّعْلِيلِ؛ أَيْ‏:‏ لِلْيَمِينِ الَّتِي حَلَفَهَا، وَهِيَ قَوْلُهُ تَعَالَى‏:‏ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ ‏(‏الْأَنْبِيَاءِ‏:‏ 57‏)‏‏.‏

وَزَعَمَ النَّوَوِيُّ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏قُلْ لَا تُقْسِمُوا طَاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ‏}‏ ‏(‏النُّورِ‏:‏ 53‏)‏ أَنَّ التَّقْدِيرَ‏:‏ لِيَكُنْ مِنْكُمْ طَاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ‏.‏

الْخَامِسُ‏:‏ أَنْ يَدُلَّ عَلَيْهِ الْعَقْلُ؛ كَقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ‏}‏ ‏(‏الْبَقَرَةِ‏:‏ 60‏)‏ أَيْ‏:‏ فَضَرَبَ فَانْفَجَرَتْ‏.‏

وَقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ فَفَتَحْنَا‏}‏ ‏(‏الْقَمَرِ‏:‏ 10- 11‏)‏ قَالَ النَّحَّاسُ‏:‏ التَّقْدِيرُ‏:‏ فَنَصَرْنَاهُ فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ؛ لِأَنَّ مَا ظَهَرَ مِنَ الْكَلَامِ يَدُلُّ عَلَى مَا حُذِفَ‏.‏

وَقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ‏}‏ ‏(‏لُقْمَانَ‏:‏ 27‏)‏ أَيْ‏:‏ يُكْتَبُ بِذَلِكَ كَلِمَاتُ اللَّهِ مَا نَفِدَتْ، قَالَهُ أَبُو الْفَتْحِ‏.‏

وَقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ‏}‏ ‏(‏الْبَقَرَةِ‏:‏ 243‏)‏‏.‏

فَقَوْلُهُ‏:‏ ثُمَّ أَحْيَاهُمْ‏.‏ مَعْطُوفٌ عَلَى فِعْلٍ مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ‏:‏ فَمَاتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ، وَلَا يَصِحُّ عَطْفُ قَوْلِهِ‏:‏ ثُمَّ أَحْيَاهُمْ عَلَى قَوْلِهِ‏:‏ مُوتُوا؛ لِأَنَّهُ أَمْرٌ، وَفِعْلُ الْأَمْرِ لَا يُعْطَفُ عَلَى الْمَاضِي‏.‏

وَقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ‏}‏ ‏(‏الْبَقَرَةِ‏:‏ 213‏)‏ أَيْ‏:‏ فَاخْتَلَفُوا فَبَعَثَ، وَحُذِفَ لِدَلَالَةِ قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ‏}‏ ‏(‏الْبَقَرَةِ‏:‏ 213‏)‏ وَهِيَ فِي قِرَاءَةِ عَبْدِ اللَّهِ كَذَلِكَ‏.‏

وَقِيلَ‏:‏ تَقْدِيرُهُ‏:‏ ‏"‏ كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً كُفَّارًا فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ فَاخْتَلَفُوا ‏"‏‏.‏ وَالْأَوَّلُ أَوْجُهُ‏.‏

وَقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ‏}‏ ‏(‏الْأَعْرَافِ‏:‏ 63‏)‏ فَالْهَمْزَةُ لِلْإِنْكَارِ، وَالْوَاوُ لِلْعَطْفِ، وَالْمَعْطُوفُ عَلَيْهِ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ ‏"‏ أَكَذَّبْتُمْ وَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ‏"‏‏.‏

وَقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ‏}‏ ‏(‏الْأَعْرَافِ‏:‏ 114‏)‏ هُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى مَحْذُوفٍ سَدَّ مَسَدَّهُ حَرْفُ الْإِيجَابِ؛ كَأَنَّهُ قَالَ إِيجَابًا لِقَوْلِهِمْ‏:‏ إِنَّ لَنَا لَأَجْرًا ‏(‏الْأَعْرَافِ‏:‏ 113‏)‏ نَعَمْ، إِنَّ لَكُمْ أَجْرًا، وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ‏.‏

وَقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ ‏{‏الْبَقَرَةِ‏:‏ 184‏)‏ أَيْ‏:‏ فَأَفْطَرَ فَعِدَّةٌ، خِلَافًا لِلظَّاهِرِيَّةِ؛ حَيْثُ أَوْجَبُوا الْفِطْرَ عَلَى الْمُسَافِرِ أَخْذًا مِنَ الظَّاهِرِ‏.‏

وَقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ‏}‏ ‏(‏الْبَقَرَةِ‏:‏ 196‏)‏ أَيْ‏:‏ فَحَلَقَ فَفِدْيَةٌ‏.‏

وَقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا‏}‏ ‏(‏الْبَقَرَةِ‏:‏ 73‏)‏ قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ‏:‏ التَّقْدِيرُ ‏"‏ فَضَرَبُوهُ فَحَيِيَ ‏"‏ فَحُذِفَ ذَلِكَ لِدَلَالَةِ قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى‏}‏ ‏(‏الْبَقَرَةِ‏:‏ 73‏)‏‏.‏

وَزَعَمَ ابْنُ جِنِّيٍّ أَنَّ التَّقْدِيرَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ‏}‏ ‏(‏النِّسَاءِ‏:‏ 41‏)‏ أَنَّ التَّقْدِيرَ‏:‏ فَكَيْفَ يَكُونُ إِذَا جِئْنَا‏.‏

السَّادِسُ‏:‏ أَنْ يَدُلَّ عَلَيْهِ ذِكْرُهُ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا ‏(‏الْبَقَرَةِ‏:‏ 72‏)‏ قَالَ الْوَاحِدِيُّ‏:‏ هُوَ بِإِضْمَارِ ‏"‏ اذْكُرْ ‏"‏؛ وَلِهَذَا لَمْ يَأْتِ لِـ ‏"‏ إِذْ ‏"‏ بِجَوَابٍ‏.‏ وَمِثْلُهُ

قَوْلُهُ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا‏}‏ ‏(‏هُودٍ‏:‏ 61‏)‏ وَلَيْسَ شَيْءٌ قَبْلَهُ تَرَاهُ نَاصِبًا لِـ ‏"‏ صَالِحًا ‏"‏ بَلْ عُلِمَ بِذِكْرِ النَّبِيِّ وَالْمُرْسَلِ إِلَيْهِ أَنَّ فِيهِ إِضْمَارَ ‏"‏ أَرْسَلْنَا ‏"‏‏.‏

وَقَوْلُهُ‏:‏ وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ ‏(‏الْأَنْبِيَاءِ‏:‏ 81‏)‏ أَيْ‏:‏ وَسَخَّرْنَا‏.‏

وَمِثْلُهُ ‏{‏وَنُوحًا إِذْ نَادَى مِنْ قَبْلُ‏}‏ ‏(‏الْأَنْبِيَاءِ‏:‏ 76‏)‏ وَذَا النُّونِ ‏(‏الْأَنْبِيَاءِ‏:‏ 87‏)‏

وَكَذَا‏:‏ ‏{‏وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ‏}‏ ‏(‏الْأَنْبِيَاءِ‏:‏ 78‏)‏ أَيْ‏:‏ وَاذْكُرْ‏.‏

قَالَ‏:‏ وَيَدُلُّ عَلَى ‏"‏ اذْكُرْ ‏"‏ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ قَوْلُهُ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ‏}‏ ‏(‏الْأَنْفَالِ‏:‏ 26‏)‏ ‏{‏وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلًا فَكَثَّرَكُمْ‏}‏ ‏(‏الْأَعْرَافِ‏:‏ 86‏)‏‏.‏

وَمَا قَالَهُ ظَاهِرٌ؛ لِأَنَّ مَفْعُولَ ‏"‏ اذْكُرْ ‏"‏ يَكُونُ مَحْذُوفًا أَيْضًا تَقْدِيرُهُ‏:‏ وَاذْكُرُوا حَالَكُمْ وَنَحْوَهُ إِذَا كَانَ كَذَا، وَذَلِكَ لِيَكُونَ ‏"‏ إِذْ ‏"‏ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلَى الظَّرْفِ، وَلَوْ لَمْ يُقَدَّرْ ذَلِكَ الْمَحْذُوفُ لَزِمَ وُقُوعُ ‏"‏ إِذْ ‏"‏ مَفْعُولًا بِهِ، وَالْأَصَحُّ أَنَّهَا لَا تُفَارِقُ الظَّرْفِيَّةَ‏.‏

السَّابِعُ‏:‏ الْمُشَاكَلَةُ؛ كَحَذْفِ الْفَاعِلِ فِي ‏"‏ بِسْمِ اللَّهِ ‏"‏؛ لِأَنَّهُ مَوْطِنٌ لَا يَنْبَغِي أَنْ يَتَقَدَّمَ فِيهِ سِوَى ذِكْرُ اللَّهِ؛ فَلَوْ ذُكِرَ الْفِعْلُ وَهُوَ لَا يُسْتَغْنَى عَنْ فَاعِلِهِ كَانَ ذَلِكَ مُنَاقِضًا لِلْمَقْصُودِ، وَكَانَ فِي حَذْفِهِ مُشَاكَلَةُ اللَّفْظِ لِلْمَعْنَى؛ لِيَكُونَ الْمَبْدُوءُ بِهِ اسْمَ اللَّهِ، كَمَا تَقُولُ فِي الصَّلَاةِ‏:‏ اللَّهُ أَكْبَرُ، وَمَعْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ، وَلَكِنْ لَا تَقُولُ هَذَا الْمُقَدَّرَ لِيَكُونَ اللَّفْظُ فِي اللِّسَانِ مُطَابِقًا لِمَقْصُودِ الْجَنَانِ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ فِي الْقَلْبِ ذِكْرُ اللَّهِ الْعَظِيمِ وَحْدَهُ، وَأَيْضًا فَلِأَنَّ الْحَذْفَ أَعَمُّ مِنَ الذِّكْرِ، فَإِنَّ أَيَّ فِعْلٍ ذَكَرْتَهُ كَانَ الْمَحْذُوفُ أَعَمَّ مِنْهُ؛ لِأَنَّ التَّسْمِيَةَ تُشْرَعُ عِنْدَ كُلِّ فِعْلٍ‏.‏

الثَّامِنُ‏:‏ أَنْ يَكُونَ بَدَلًا مِنْ مَصْدَرِهِ؛ كَقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ فَضَرْبَ الرِّقَابِ ‏(‏مُحَمَّدٍ‏:‏ 4‏)‏ وَقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً‏}‏ ‏(‏مُحَمَّدٍ‏:‏ 4‏)‏ أَيْ‏:‏ فَإِمَّا أَنْ تَمُنُّوا وَإِمَّا أَنْ تُفَادُوا‏.‏

وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي نَصْبِ ‏"‏ السَّلَامِ ‏"‏ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ هُودٍ‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا سَلَامًا‏}‏ ‏(‏هُودٍ‏:‏ 69‏)‏ وَفِي الذَّارِيَاتِ‏:‏ ‏{‏هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَامًا‏}‏ ‏(‏الذَّارِيَاتِ‏:‏ 24- 25‏)‏ وَفِي نَصْبِهَا وَجْهَانِ‏:‏

أَحَدُهُمَا‏:‏ أَنْ يَكُونَ مَنْصُوبًا بِالْقَوْلِ، أَيْ‏:‏ يَذْكُرُونَ قَوْلًا سَلَامًا فَيَكُونَ مِنْ بَابِ‏:‏ قُلْتُ حَقًّا وَصِدْقًا‏.‏

الثَّانِي‏:‏ أَنْ يَكُونَ مَنْصُوبًا بِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ‏:‏ فَقَالُوا سَلَّمْنَا سَلَامًا؛ أَيْ‏:‏ سَلَّمْنَا تَسْلِيمًا، فَيَكُونَ قَدْ حَكَى الْجُمْلَةَ بَعْدَ الْقَوْلِ ثُمَّ حَذَفَهَا، وَاكْتَفَى بِبَعْضِهَا‏.‏

وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ هَلْ هُوَ مَنْصُوبٌ بِالْقَوْلِ، أَوْ بِكَوْنِهِ مَصْدَرًا لِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ‏؟‏

وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا خَيْرًا‏}‏ ‏(‏النَّحْلِ‏:‏ 30‏)‏ مَنْصُوبٌ بِـ ‏(‏قَالُوا‏)‏ كَقَوْلِكَ‏:‏ فَقُلْتُ حَقًّا، أَوْ مَنْصُوبٌ بِفِعْلٍ مُضْمَرٍ؛ أَيْ‏:‏ قَالُوا أَنْزَلَ خَيْرًا، مِنْ بَابِ حَذْفِ الْجُمْلَةِ الْمَحْكِيَّةِ وَتَبْقِيَةِ بَعْضِهَا‏.‏

وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ‏}‏ ‏(‏النَّحْلِ‏:‏ 24‏)‏ فَمَرْفُوعٌ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ نَصْبُهُ عَلَى تَقْدِيرِ ‏"‏ قَالُوا أَسَاطِيرَ الْأَوَّلِينَ ‏"‏ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَهُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ حَتَّى يَقُولُوا ذَلِكَ، وَلَا هُوَ أَيْضًا مِنْ بَابِ‏:‏ قُلْتُ حَقًّا وَصِدْقًا، فَلَمْ يَبْقَ إِلَّا رَفْعُهُ‏.‏

تنبيه‏:‏

قَدْ يَشْتَبِهُ الْحَالُ فِي أَمْرِ الْمَحْذُوفِ وَعَدَمِهِ؛ لِعَدَمِ تَحْصِيلِ مَعْنَى الْفِعْلِ، كَمَا قَالُوا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى‏}‏ ‏(‏الْإِسْرَاءِ‏:‏ 110‏)‏ فَإِنَّهُ قَدْ يُظَنُّ أَنَّ الدُّعَاءَ فِيهِ بِمَعْنَى النِّدَاءِ؛ فَلَا يُقَدَّرُ فِي الْكَلَامِ حَذْفٌ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ، وَإِلَّا لَزِمَ الِاشْتِرَاكُ إِنْ كَانَا مُتَفَاوِتَيْنِ، أَوْ عَطْفُ الشَّيْءِ عَلَى نَفْسِهِ، وَإِنَّمَا الدُّعَاءُ هُنَا بِمَعْنَى التَّسْمِيَةِ الَّتِي تَتَعَدَّى لِمَفْعُولَيْنِ؛ أَيْ‏:‏ سَمُّوهُ اللَّهَ أَوِ الرَّحْمَنَ‏.‏

وَقَدْ يَشْتَبِهُ فِي تَعْيِينِ الْمَحْذُوفِ لِقِيَامِ قَرِينَتَيْنِ؛ كَقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ بَلَى قَادِرِينَ ‏(‏الْقِيَامَةِ‏:‏ 4‏)‏ قَدَّرَهُ سِيبَوَيْهِ بِـ ‏"‏ بَلَى نَجْمَعُهَا قَادِرِينَ ‏"‏ فَـ ‏(‏قَادِرِينَ‏)‏ حَالٌ، وَحُذِفَ الْفِعْلُ لِدَلَالَةِ‏:‏ أَنْ لَنْ نَجْمَعَ ‏(‏الْقِيَامَةِ‏:‏ 3‏)‏ عَلَيْهِ‏.‏

وَقَدَّرَهُ الْفَرَّاءُ ‏"‏ نَحْسَبُ ‏"‏ لِدَلَالَةِ أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ ‏(‏الْقِيَامَةِ‏:‏ 3‏)‏ أَيْ‏:‏ بَلَى نَحْسَبُنَا قَادِرِينَ‏.‏

وَتَقْدِيرُ سِيبَوَيْهِ أَوْلَى؛ لِأَنَّ ‏(‏بَلَى‏)‏ لَيْسَ جَوَابًا لِـ ‏"‏ يَحْسَبُ ‏"‏ إِنَّمَا هُوَ جَوَابٌ لِـ ‏"‏ أَنْ لَنْ نَجْمَعَ ‏"‏ وَقَدَّرَهُ بَعْضُهُمْ‏:‏ بَلَى نَقْدِرُ قَادِرِينَ‏.‏

وَقِيلَ‏:‏ مَنْصُوبٌ لِوُقُوعِهِ مَوْقِعَ الْفِعْلِ، وَهُوَ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ نَوَاصِبِ الِاسْمِ وُقُوعُهُ مَوْقِعَ الْفِعْلِ

تنبيه آخَرُ‏:‏

إِنَّ الْحَذْفَ أَنْوَاعُهُ عَلَى ضَرْبَيْنِ‏:‏

أَحَدُهُمَا‏:‏ أَلَّا يُقَامَ شَيْءٌ مَقَامَ الْمَحْذُوفِ، أَنْوَاعُ الْحَذْفِ كَمَا سَبَقَ‏.‏

وَالثَّانِي‏:‏ أَنْ يُقَامَ مَقَامُهُ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ؛ أَنْوَاعُ الْحَذْفِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ‏}‏ ‏(‏هُودٍ‏:‏ 57‏)‏ لَيْسَ الْإِبْلَاغُ هُوَ الْجَوَابَ؛ لِتَقَدُّمِهِ عَلَى قَوْلِهِمْ، فَالتَّقْدِيرُ‏:‏ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَلَا مَلَامَ عَلَيَّ لِأَنِّي قَدْ أَبْلَغْتُكُمْ، أَوْ‏:‏ فَلَا عُذْرَ لَكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ لِأَنِّي أَبْلَغْتُكُمْ‏.‏ وَقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ‏}‏ ‏(‏فَاطِرٍ‏:‏ 4‏)‏ فَلَا تَحْزَنْ وَاصْبِرْ‏.‏

وَقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ‏}‏ ‏(‏الْأَنْفَالِ‏:‏ 38‏)‏ أَيْ‏:‏ يُصِيبُهُمْ مَا أَصَابَ الْأَوَّلِينَ‏.‏

حَذْفُ الْحَرْفِ فِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ

قَالَ أَبُو الْفَتْحِ فِي ‏"‏ الْمُحْتَسِبِ ‏"‏‏:‏ أَخْبَرَنَا أَبُو عَلِيٍّ قَالَ‏:‏ قَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ السَّرَّاجِ‏:‏ حَذْفُ الْحَرْفِ لَيْسَ يُقَاسُ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْحَرْفَ نَائِبٌ عَنِ الْفِعْلِ بِفَاعِلِهِ، أَلَا تَرَاكَ إِذَا قُلْتَ‏:‏ مَا قَامَ زَيْدٌ، فَقَدْ نَابَتْ ‏"‏ مَا ‏"‏ عَنْ ‏"‏ أَنْفِي ‏"‏ كَمَا نَابَتْ ‏"‏ إِلَّا ‏"‏ عَنْ ‏"‏ أَسْتَثْنِي ‏"‏، وَكَمَا نَابَتِ الْهَمْزَةُ وَهَلْ عَنْ ‏"‏ أَسْتَفْهِمُ ‏"‏، وَكَمَا نَابَتْ حُرُوفُ الْعَطْفِ عَنْ ‏"‏ أَعْطِفُ ‏"‏ وَنَحْوُ ذَلِكَ‏.‏ فَلَوْ ذَهَبْتَ تَحْذِفُ الْحَرْفَ لَكَانَ ذَلِكَ اخْتِصَارًا، وَاخْتِصَارُ الْمُخْتَصَرِ إِجْحَافٌ بِهِ؛ إِلَّا أَنَّهُ إِذَا صَحَّ التَّوَجُّهُ إِلَيْهِ، وَقَدْ جَازَ فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ حَذْفُهُ لِقُوَّةِ الدَّلَالَةِ عَلَيْهِ‏.‏ انْتَهَى‏.‏

فَمِنْهُ الْوَاوُ، تُحْذَفُ لِقَصْدِ الْبَلَاغَةِ؛ فَإِنَّ فِي إِثْبَاتِهَا مَا يَقْتَضِي تَغَايُرَ الْمُتَعَاطِفَيْنِ، فَإِذَا حُذِفَتْ أَشْعَرَ بِأَنَّ الْكُلَّ كَالْوَاحِدِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ‏}‏ ‏(‏آلِ عِمْرَانَ‏:‏ 118‏)‏ تَقْدِيرُهُ‏:‏ وَلَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا‏.‏

وَقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاعِمَةٌ‏}‏ ‏(‏الْغَاشِيَةِ‏:‏ 8‏)‏ أَيْ‏:‏ وَوُجُوهٌ‏.‏

وَخَرَّجَ عَلَيْهِ الْفَارِسِيُّ قَوْلَهُ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا‏}‏ ‏(‏التَّوْبَةِ‏:‏ 92‏)‏ الْآيَةَ‏.‏ وَقَالَ‏:‏ تَقْدِيرُهُ ‏"‏ وَقُلْتَ لَا أَجِدُ ‏"‏ فَهُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ‏:‏ ‏"‏ أَتَوْكَ ‏"‏؛ لِأَنَّ جَوَابَ ‏"‏ إِذَا ‏"‏ قَوْلُهُ‏:‏ تَوَلَّوْا‏.‏

وَمَنَعَهُ ابْنُ الشَّجَرِيِّ فِي أَمَالِيهِ، وَعَلَى هَذَا فَلَا مَوْضِعَ لَهُ مِنَ الْإِعْرَابِ؛ لِأَنَّهُ مَعْطُوفٌ عَلَى الصِّلَةِ، وَالصِّلَةُ لَا مَوْضِعَ لَهَا مِنَ الْإِعْرَابِ، فَكَذَلِكَ مَا عُطِفَ عَلَيْهَا‏.‏

وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ‏:‏ هِيَ حَالٌ مِنَ الْكَافِ فِي ‏(‏أَتَوْكَ‏)‏ وَ ‏"‏ قَدْ ‏"‏ قَبْلَهُ مُضْمَرَةٌ، كَمَا فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏أَوْ جَاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ‏}‏ ‏(‏النِّسَاءِ‏:‏ 90‏)‏ أَيْ‏:‏ إِذَا مَا أَتَوْكَ قَائِلًا لَا أَجِدُ تَوَلَّوْا، وَعَلَى هَذَا فَلَهُ مَوْضِعٌ مِنَ الْإِعْرَابِ لِأَنَّهُ حَالٌ‏.‏

قَالَ السُّهَيْلِيُّ فِي ‏"‏ أَمَالِيهِ ‏"‏‏:‏ لَيْسَ مَعْنَى الْآيَةِ كَمَا قَالُوا؛ لِأَنَّ رَفْعَ الْحَرَجِ عَنِ الْقَوْمِ لَيْسَ مَشْرُوطًا بِالْبُكَاءِ عِنْدَ التَّوَلِّي، وَإِنَّمَا شَرْطُهُ عَدَمُ الْجِدَةِ، وَالْآيَةُ نَزَلَتْ فِي السَّبْعَةِ الَّذِينَ سَمَّاهُمُ ابْنُ إِسْحَاقَ، وَلَوْ كَانَ جَوَابُ ‏(‏إِذَا أَتَوْكَ‏)‏ فِي قَوْلِهِ‏:‏ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ ‏(‏التَّوْبَةِ‏:‏ 92‏)‏ لَكَانَ مَنْ لَمْ تُفِضْ عَيْنَاهُ مِنَ الدَّمْعِ هُوَ الَّذِي حَرِجَ وَأَثِمَ، وَمَا رَفَعَ اللَّهُ الْحَرَجَ عَنْهُمْ إِلَّا لِأَنَّ الرَّسُولَ لَمْ يَجِدْ مَا يَحْمِلُهُمْ عَلَيْهِ‏.‏ وَإِذَا عَطَفْتَ ‏"‏ قُلْتَ لَا أَجِدُ ‏"‏ عَلَى ‏"‏ أَتَوْكَ ‏"‏ كَانَ الْحَرَجُ غَيْرَ مَرْفُوعٍ عَنْهُمْ حَتَّى يُقَالَ‏:‏ وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ ‏(‏التَّوْبَةِ‏:‏ 92‏)‏ فَجَوَابُ ‏"‏ إِذَا ‏"‏ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏"‏ لَا أَجِدُ ‏"‏ وَمَا بَعْدَ ذَلِكَ خَبَرٌ وَنَبَأٌ عَلَى هَؤُلَاءِ السَّبْعَةِ الَّذِينَ كَانُوا سَبَبَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ، فَفَضِيلَةُ الْبُكَاءِ مَخْصُوصَةٌ بِهِمْ، وَرَفْعُ الْحَرَجِ بِشَرْطِ عَدَمِ الْجِدَةِ عَامٌّ فِيهِمْ وَفِي غَيْرِهِمْ‏.‏

وَقَالَ الْوَاحِدِيُّ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا‏}‏ ‏(‏الْبَقَرَةِ‏:‏ 116‏)‏‏:‏ آيَةُ الْبَقَرَةِ فِي مَصَاحِفِ الشَّامِ بِغَيْرِ وَاوٍ- يَعْنِي قِرَاءَةَ ابْنِ عَامِرٍ- لِأَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مُلَابِسَةٌ لِمَا قَبْلَهَا مِنْ قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ‏}‏ ‏(‏الْبَقَرَةِ‏:‏ 114‏)‏ لِأَنَّ الْقَائِلِينَ‏:‏ اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا، مِنْ جُمْلَةِ الْمُتَقَدِّمِ ذِكْرُهُمْ، فَيُسْتَغْنَى عَنْ ذِكْرِ الْوَاوِ لِالْتِبَاسِ الْجُمْلَةِ بِمَا قَبْلَهَا، كَمَا اسْتُغْنِيَ عَنْهَا فِي نَحْوِ قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ‏}‏ ‏(‏الْبَقَرَةِ‏:‏ 39‏)‏ وَلَوْ كَانَ ‏"‏ وَهُمْ ‏"‏ كَانَ حَسَنًا، إِلَّا أَنَّ الْتِبَاسَ إِحْدَى الْجُمْلَتَيْنِ بِالْأُخْرَى وَارْتِبَاطَهَا بِهَا أَغْنَى عَنِ الْوَاوِ‏.‏

وَمِثْلُهُ‏:‏ سَيَقُولُونَ ثَلَاثَةٌ رَابِعُهُمْ ‏(‏الْكَهْفِ‏:‏ 22‏)‏ وَلَمْ يَقُلْ‏:‏ ‏"‏ وَرَابِعُهُمْ ‏"‏ كَمَا قَالَ‏:‏ وَثَامِنُهُمْ‏.‏ وَلَوْ حُذِفَ الْوَاوُ مِنْهَا كَمَا حُذِفَ مِنَ الَّتِي قَبْلَهَا وَاسْتُغْنِيَ عَنِ الْوَاوِ بِالْمُلَابَسَةِ الَّتِي بَيْنَهُمَا كَانَ حَسَنًا، وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ حَذْفُ الْوَاوِ لِاسْتِئْنَافِ الْجُمْلَةِ، وَلَا يُعْطَفُ عَلَى مَا تَقَدَّمَ‏.‏ انْتَهَى‏.‏

وَحَصَلَ مِنْ كَلَامِهِ أَنَّهُ عِنْدَ حَذْفِ الْوَاوِ يَجُوزُ أَنْ يُلَاحَظَ مَعْنَى الْعَطْفِ، وَيُكْتَفَى لِلرَّبْطِ بَيْنَهَا وَبَيْنَ مَا قَبْلَهَا بِالْمُلَابَسَةِ كَمَا ذَكَرَ، وَيَجُوزُ أَلَّا يُلَاحَظَ ذَلِكَ؛ فَتَكُونَ الْجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةً‏.‏

قَالَ ابْنُ عَمْرُونٍ‏:‏ وَحَذْفُ الْوَاوِ فِي الْجُمَلِ أَسْهَلُ مِنْهُ فِي الْمُفْرَدِ، وَقَدْ كَثُرَ حَذْفُهَا فِي الْجُمَلِ فِي الْكَلَامِ الْمَحْمُولِ بَعْضُهُ عَلَى بَعْضٍ، نَحْوِ قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلَا تَسْتَمِعُونَ قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ‏}‏ ‏(‏الشُّعَرَاءِ‏:‏ 23 إِلَى 28‏)‏ كُلُّهُ مَحْمُولٌ بَعْضُهُ عَلَى بَعْضٍ، وَالْوَاوُ مَزِيدَةٌ، حُذِفَتْ لِاسْتِقْلَالِ الْجُمَلِ بِأَنْفُسِهَا، بِخِلَافِ الْمُفْرَدِ، وَلِأَنَّهُ فِي الْمُفْرَدِ رُبَّمَا أَوْقَعَ لَبْسًا فِي نَحْوِ ‏"‏ رَأَيْتُ زَيْدًا وَرَجُلًا عَاقِلًا ‏"‏ وَلَوْ جَازَ حَذْفُ الْوَاوِ احْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ ‏"‏ رَجُلًا ‏"‏ بَدَلًا بِخِلَافِ الْجُمْلَةِ‏.‏

وَقَرِيبٌ مِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ‏}‏ أَيْ‏:‏ وَقَالَ‏.‏

وَمِنْهُ الْفَاءُ فِي جَوَابِ الشَّرْطِ عَلَى رَأْيٍ، وَخُرِّجَ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ‏}‏ أَيْ‏:‏ فَالْوَصِيَّةُ‏.‏

وَالْفَاءُ فِي الْعَطْفِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ‏}‏ ‏(‏الْبَقَرَةِ‏:‏ 67‏)‏ تَقْدِيرُهُ‏:‏ فَقَالَ‏:‏ أَعُوذُ بِاللَّهِ‏.‏ ذَكَرَهُ ابْنُ الشَّجَرِيِّ فِي ‏"‏ أَمَالِيهِ ‏"‏‏.‏

وَقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ‏}‏ ‏(‏الْأَعْرَافِ‏:‏ 65‏)‏ حُذِفَ حَرْفُ الْعَطْفِ مِنْ قَوْلِهِ‏:‏ قَالَ‏.‏ وَلَمْ يَقُلْ ‏"‏ فَقَالَ ‏"‏ كَمَا فِي قِصَّةِ نُوحٍ؛ لِأَنَّهُ عَلَى تَقْدِيرِ سُؤَالِ سَائِلٍ قَالَ‏:‏ مَا قَالَ لَهُمْ هُودٌ‏؟‏ فَقِيلَ‏:‏ قَالَ‏:‏ ‏{‏يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ‏}‏‏.‏

وَمِنْهُ حَذْفُ هَمْزَةِ الِاسْتِفْهَامِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي‏}‏ أَيْ‏:‏ أَهَذَا رَبِّي‏؟‏

وَقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ‏}‏ ‏(‏النِّسَاءِ‏:‏ 79‏)‏ أَيْ‏:‏ أَفَمِنْ نَفْسِكَ‏.‏

وَقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ‏}‏ ‏(‏الشُّعَرَاءِ‏:‏ 22‏)‏ أَيْ‏:‏ أَوَتِلْكَ نِعْمَةٌ‏.‏

وَقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏إِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ‏}‏ ‏(‏يُوسُفَ‏:‏ 90‏)‏ عَلَى قِرَاءَةِ ابْنِ كَثِيرٍ بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ، عَلَى خِلَافٍ فِي ذَلِكَ جَمِيعِهِ‏.‏

وَمِنْهُ حَذْفُ أَلِفِ ‏(‏مَا‏)‏ الِاسْتِفْهَامِيَّةِ مَعَ حَرْفِ الْجَرِّ لِلْفَرْقِ بَيْنَ الِاسْتِفْهَامِيَّةِ وَالْخَبَرِيَّةِ؛ كَقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ ‏(‏الْبَقَرَةِ‏:‏ 91‏)‏ ‏{‏فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْرَاهَا‏}‏ ‏(‏النَّازِعَاتِ‏:‏ 43‏)‏ ‏{‏عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ‏}‏ ‏(‏النَّبَأِ‏:‏ 1‏)‏ وَ‏:‏ مِمَّ خُلِقَ ‏(‏الطَّارِقِ‏:‏ 5‏)‏‏.‏

وَمِنْهُ حَذْفُ الْيَاءِ فِي‏:‏ وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ ‏(‏الْفَجْرِ‏:‏ 4‏)‏ لِلتَّخْفِيفِ وَرِعَايَةِ الْفَاصِلَةِ‏.‏

وَمِنْهُ حَذْفُ حَرْفِ النِّدَاءِ، كَقَوْلِهِ‏:‏ هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ ‏(‏آلِ عِمْرَانَ‏:‏ 66‏)‏ أَيْ‏:‏ يَا هَؤُلَاءِ‏.‏

وَقَوْلِهِ‏:‏ يُوسُفُ ‏(‏يُوسُفَ‏:‏ 29‏)‏ أَيْ‏:‏ يَا يُوسُفُ‏.‏

وَقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ‏}‏ ‏(‏مَرْيَمَ‏:‏ 4‏)‏ أَيْ‏:‏ يَا رَبِّ‏.‏

وَيَكْثُرُ فِي الْمُضَافِ نَحْوِ‏:‏ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ ‏(‏يُوسُفَ‏:‏ 101‏)‏ ‏{‏رَبَّنَا أَنْزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً‏}‏ ‏(‏الْمَائِدَةِ‏:‏ 114‏)‏‏.‏

وَكَثُرَ ذَلِكَ فِي نِدَاءِ الرَّبِّ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى؛ وَحِكْمَةُ ذَلِكَ دَلَالَتُهُ عَلَى التَّعْظِيمِ وَالتَّنْزِيهِ؛ لِأَنَّ النِّدَاءَ يَتَشَرَّبُ مَعْنَى الْأَمْرِ؛ لِأَنَّكَ إِذَا قُلْتَ‏:‏ يَا زَيْدُ‏.‏ فَمَعْنَاهُ أَدْعُوكَ يَا زَيْدُ، فَحُذِفَتْ ‏"‏ يَا ‏"‏ مِنْ نِدَاءِ الرَّبِّ؛ لِيَزُولَ مَعْنَى الْأَمْرِ، وَيَتَمَحَّضَ التَّعْظِيمُ وَالْإِجْلَالُ‏.‏

وَقَالَ الصَّفَّارُ‏:‏ يَجُوزُ حَذْفُ حَرْفِ النِّدَاءِ مِنَ الْمُنَادَى إِلَّا إِذَا كَانَ الْمُنَادَى نَكِرَةً مُقْبَلًا عَلَيْهَا؛ إِذْ لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ، وَإِلَّا إِذَا كَانَ اسْمَ إِشَارَةٍ‏.‏

وَمِنْهُ حَذْفُ ‏"‏ لَوْ ‏"‏ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ‏}‏ ‏(‏الْمُؤْمِنُونَ‏:‏ 91‏)‏ تَقْدِيرُهُ‏:‏ لَوْ كَانَ مَعَهُ إِلَهٌ لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ‏.‏

وَقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ‏}‏ ‏(‏الْعَنْكَبُوتِ‏:‏ 48‏)‏ مَعْنَاهُ‏:‏ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ‏.‏

وَمِنْهُ حَذْفُ ‏"‏ قَدْ ‏"‏ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ‏}‏ ‏(‏الشُّعَرَاءِ‏:‏ 111‏)‏ أَيْ‏:‏ وَقَدِ اتَّبَعَكَ؛ لِأَنَّ الْمَاضِيَ لَا يَقَعُ مَوْقِعَ الْحَالِ إِلَّا وَ ‏"‏ قَدْ ‏"‏ مَعَهُ ظَاهِرَةً أَوْ مُقَدَّرَةً‏.‏

وَمِثْلُهَا ‏{‏كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ‏}‏ ‏(‏الْبَقَرَةِ‏:‏ 28‏)‏ أَيْ‏:‏ وَقَدْ كُنْتُمْ‏.‏

وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏أَوْ جَاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ‏}‏ ‏(‏النِّسَاءِ‏:‏ 90‏)‏ قِيلَ‏:‏ مَعْنَاهُ ‏"‏ قَدْ حَصِرَتْ ‏"‏، بِدَلَالَةِ قِرَاءَةِ يَعْقُوبَ ‏"‏ حَصِرَةً صُدُورُهُمْ ‏"‏، وَقَالَ الْأَخْفَشُ‏:‏ الْحَالُ مَحْذُوفَةٌ، وَ ‏"‏ حُصِرَتْ صُدُورُهُمْ ‏"‏ صِفَتُهَا، أَيْ‏:‏ جَاءُوكُمْ يَوْمًا حُصِرَتْ صُدُورُهُمْ‏.‏ دُعَاءٌ عَلَيْهِمْ بِأَنْ تُحْصَرَ صُدُورُهُمْ عَنْ قِتَالِهِمْ لِقَوْمِهِمْ عَلَى طَرِيقَةِ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ‏.‏ وَرَدَّهُ أَبُو عَلِيٍّ بِقَوْلِهِ‏:‏ ‏"‏ أَيْ قَاتَلُوا قَوْمَهُمْ ‏"‏ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُدْعَى عَلَيْهِمْ بِأَنْ تُحْصَرَ صُدُورُهُمْ عَنْ قِتَالِهِمْ لِقَوْمِهِمْ؛ لَكِنْ بِقَوْلِ‏:‏ اللَّهُمَّ أَلْقِ بَأْسَهُمْ بَيْنَهُمْ‏.‏

وَمِنْهُ حَذْفُ ‏(‏أَنْ‏)‏ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا‏}‏ ‏(‏الرُّومِ‏:‏ 24‏)‏ الْمَعْنَى‏:‏ أَنْ يُرِيَكُمْ‏.‏

وَحَذْفُ ‏"‏ لَا ‏"‏ فِي قَوْلِهِ‏:‏ تَاللَّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ ‏(‏يُوسُفَ‏:‏ 85‏)‏ أَيْ‏:‏ لَا تَفْتَأُ؛ لِأَنَّهَا مُلَازِمَةٌ لِلنَّفْيِ، وَمَعْنَاهَا لَا تَبْرَحُ‏.‏

قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ‏}‏ ‏(‏النَّحْلِ‏:‏ 15‏)‏ أَيْ‏:‏ لَا تَمِيدُ‏.‏

وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ‏}‏ ‏(‏الْمَائِدَةِ‏:‏ 29‏)‏ أَيْ‏:‏ لَا تَبُوءُ‏.‏

وَبِهَذَا التَّقْدِيرِ يَزُولُ الْإِشْكَالُ مِنَ الْآيَةِ‏:‏ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ ‏(‏الْبَقَرَةِ‏:‏ 184‏)‏ أَيْ‏:‏ لَا يُطِيقُونَهُ عَلَى قَوْلٍ‏.‏

فَائِدَةٌ‏:‏ ‏[‏فِي حَذْفِ الْجَارِّ ثُمَّ إِيصَالِ الْفِعْلِ إِلَى الْمَجْرُورِ بِهِ‏]‏

كَثُرَ فِي الْقُرْآنِ حَذْفُ الْجَارِّ، ثُمَّ إِيصَالُ الْفِعْلِ إِلَى الْمَجْرُورِ بِهِ؛ فِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ ‏(‏الْأَعْرَافِ‏:‏ 155‏)‏ أَيْ‏:‏ مِنْ قَوْمِهِ‏.‏

وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ ‏(‏الْبَقَرَةِ‏:‏ 253‏)‏‏.‏

‏{‏لَا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ‏}‏ ‏(‏الْبَقَرَةِ‏:‏ 235‏)‏ أَيْ عَلَى عُقْدَةِ‏.‏

‏{‏إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ‏}‏، أَيْ‏:‏ يُخَوِّفُكُمْ بِأَوْلِيَائِهِ، وَلِذَلِكَ قَالَ‏:‏ فَلَا تَخَافُوهُمْ ‏(‏آلِ عِمْرَانَ‏:‏ 175‏)‏‏.‏

وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا ‏(‏الْأَعْرَافِ‏:‏ 45‏)‏ أَيْ‏:‏ يَبْغُونَ لَهَا‏.‏

وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ ‏(‏يس‏:‏ 39‏)‏ أَيْ‏:‏ قَدَّرْنَا لَهُ‏.‏

سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا ‏(‏طه‏:‏ 21‏)‏ أَيْ‏:‏ عَلَى سِيرَتِهَا‏.‏

‏[‏فَصْلٌ فِيمَا حُذِفَ فِي آيَةٍ وَأُثْبِتَ فِي أُخْرَى‏]‏

مِنَ الْأَنْوَاعِ مَا حُذِفَ فِي آيَةٍ وَأُثْبِتَ فِي أُخْرَى؛ وَهُوَ قِسْمَانِ‏:‏

أَحَدُهُمَا‏:‏ أَنْ يَكُونَ مَا حُذِفَ مِنْهُ مَحْمُولًا عَلَى الْمَذْكُورِ؛ وَهَذَا كَالْمُطْلَقِ فِي الرَّقَبَةِ فِي كَفَّارَةِ الظِّهَارِ مُقَيَّدًا بِالْمُؤْمِنَةِ فِي كَفَّارَةِ الْقَتْلِ‏.‏

وَكَقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ‏}‏ ‏(‏آلِ عِمْرَانَ‏:‏ 133‏)‏ قُيِّدَتْ بِالتَّشْبِيهِ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ‏.‏

وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ‏:‏ ‏{‏هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ‏}‏ ‏(‏الْبَقَرَةِ‏:‏ 210‏)‏ وَقَوْلُهُ فِي سُورَةِ النَّحْلِ‏:‏ ‏{‏هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ‏}‏ ‏(‏النَّحْلِ‏:‏ 33‏)‏ فَإِنَّ هَذِهِ تَقْتَضِي أَنَّ الْأُولَى عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ‏.‏

وَالْقِسْمُ الثَّانِي‏:‏ لَا يَكُونُ مُرَادًا، فَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْمُؤْمِنِينَ‏:‏ ‏{‏لَكُمْ فِيهَا فَوَاكِهُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ‏}‏ ‏(‏الْمُؤْمِنُونَ‏:‏ 19‏)‏ وَفِي الزُّخْرُفِ‏:‏ ‏{‏لَكُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مِنْهَا تَأْكُلُونَ‏}‏ ‏(‏الزُّخْرُفِ‏:‏ 179‏)‏‏.‏

وَقَوْلُهُ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ‏:‏ ‏{‏أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ‏}‏ ‏(‏الْآيَةَ‏:‏ 5‏)‏ وَفِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ‏:‏ ‏{‏أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ‏}‏ ‏(‏الْآيَةَ‏:‏ 179‏)‏‏.‏

وَحِكْمَتُهُ أَنَّهُ قَدِ اخْتَلَفَ الْخَبَرَانِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ؛ فَلِذَلِكَ دَخَلَ الْعَاطِفُ، بِخِلَافِ الْخَبَرَيْنِ فِي الْأَعْرَافِ، فَإِنَّهُمَا مُتَّفِقَانِ؛ لِأَنَّ التَّسْجِيلَ عَلَيْهِمْ بِالْغَفْلَةِ وَتَشْبِيهَهُمْ بِالْبَهَائِمِ وَاحِدٌ، فَكَانَتِ الْجُمْلَةُ الثَّالِثَةُ مُقَرِّرَةً مَا فِي الْأُولَى، فَهِيَ مِنَ الْعَطْفِ بِمَعْزِلٍ‏.‏

وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي الْبَقَرَةِ‏:‏ ‏{‏إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ‏}‏ ‏(‏الْبَقَرَةِ‏:‏ 6‏)‏ وَقَالَ فِي يس‏:‏ ‏{‏وَسَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ‏}‏ ‏(‏يس‏:‏ 10‏)‏ مَعَ الْعَاطِفِ، وَحِكْمَتُهُ أَنَّ مَا فِي ‏(‏يس‏)‏ وَمَا بَعْدَهُ جُمْلَةٌ مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةٍ أُخْرَى، فَاحْتَاجَتْ إِلَى الْعَاطِفِ، وَالْجُمْلَةُ هُنَا لَيْسَتْ مَعْطُوفَةً فَهِيَ مِنَ الْعَطْفِ بِمَعْزِلٍ‏.‏

وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لَا يَتَّبِعُوكُمْ‏}‏ ‏(‏الْأَعْرَافِ‏:‏ 193‏)‏ فَأَثْبَتَ الْوَاوَ فِي الْأَعْرَافِ وَحَذَفَهَا فِي الْكَهْفِ، فَقَالَ‏:‏ ‏{‏وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى‏}‏ ‏(‏الْكَهْفِ‏:‏ 57‏)‏ وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الَّذِي فِي الْأَعْرَافِ خِطَابٌ لِجَمْعٍ، وَأَصْلُهُ ‏"‏ تَدْعُونَهُمْ ‏"‏ حُذِفَتِ النُّونُ لِلْجَزْمِ، وَالَّتِي فِي الْكَهْفِ خِطَابٌ لِلنَّبِيِّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَهُوَ وَاحِدٌ، وَعَلَامَةُ الْجَزْمِ فِيهِ سُقُوطُ الْوَاوِ‏.‏

وَمِنْهُ فِي آلِ عِمْرَانَ‏:‏ ‏{‏جَاءُوا بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتَابِ الْمُنِيرِ‏}‏ ‏(‏آلِ عِمْرَانَ‏:‏ 184‏)‏ وَفِي فَاطِرٍ‏:‏ ‏{‏جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالزُّبُرِ وَبِالْكِتَابِ الْمُنِيرِ‏}‏ ‏(‏فَاطِرٍ‏:‏ 25‏)‏ وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْأُولَى حُذِفَتِ الْبَاءُ فِيهَا لِلِاخْتِصَارِ اسْتِغْنَاءً بِالَّتِي قَبْلَهَا، وَالثَّانِيَةَ خَرَجَتْ عَنِ الْأَصْلِ لِلتَّوْكِيدِ، وَتَقْدِيرُ الْمَعْنَى كَمَا تَقُولُ‏:‏ مَرَرْتُ بِكَ وَبِأَخِيكَ وَبِأَبِيكَ؛ إِذَا اخْتَصَرْتَ‏.‏

وَمِنْهُ قَوْلُهُ فِي قِصَّةِ ثَمُودَ‏:‏ ‏{‏مَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا‏}‏ ‏(‏الشُّعَرَاءِ‏:‏ 154‏)‏ وَفِي قِصَّةِ شُعَيْبٍ‏:‏ وَمَا أَنْتَ ‏(‏الشُّعَرَاءِ‏:‏ 186‏)‏ بِالْوَاوِ، وَالْفَرْقُ أَنَّ الْأُولَى جَرَى عَلَى انْقِطَاعِ الْكَلَامِ عِنْدَ النَّحْوِيِّينَ، وَاسْتِئْنَافِ‏:‏ مَا أَنْتَ ‏(‏الشُّعَرَاءِ‏:‏ 154‏)‏ فَاسْتَغْنَى عَنِ الْوَاوِ لِمَا تَقَرَّرَ مِنَ الِابْتِدَاءِ، وَفِي الثَّانِيَةِ جَرَى فِي الْعَطْفِ، وَأَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ‏:‏ وَمَا أَنْتَ ‏(‏الشُّعَرَاءِ‏:‏ 186‏)‏ مَعْطُوفًا عَلَى‏:‏ إِنَّمَا أَنْتَ ‏(‏الشُّعَرَاءِ‏:‏ 185‏)‏‏.‏

وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ النَّحْلِ‏:‏ ‏{‏وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ‏}‏ ‏(‏الْآيَةُ‏:‏ 127‏)‏ وَفِي سُورَةِ النَّمْلِ‏:‏ ‏{‏وَلَا تَكُنْ فِي ضَيْقٍ‏}‏ ‏(‏الْآيَةِ‏:‏ 70‏)‏ بِإِثْبَاتِ النُّونِ، وَحِكْمَتُهُ أَنَّ الْقِصَّةَ لَمَّا طَالَتْ فِي سُورَةِ النَّحْلِ نَاسَبَ التَّخْفِيفُ بِحَذْفِ النُّونِ، بِخِلَافِهِ فِي سُورَةِ النَّمْلِ، فَإِنَّ الْوَاوَ اسْتِئْنَافِيَّةٌ، وَلَا تَعَلُّقَ لَهَا بِمَا قَبْلَهَا‏.‏

وَقَوْلُهُ فِي الْبَقَرَةِ‏:‏ ‏{‏فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ‏}‏ ‏(‏الْآيَةِ‏:‏ 147‏)‏ وَفِي آلِ عِمْرَانَ‏:‏ ‏{‏فَلَا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ‏}‏ ‏(‏الْآيَةِ‏:‏ 60‏)‏ وَحِكْمَتُهُ أَنَّ الْخِطَابَ فِي الْبَقَرَةِ لِلْيَهُودِ وَهُمْ أَشَدُّ جِدَالًا‏.‏

وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي الْأَعْرَافِ‏:‏ ‏{‏أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا‏}‏ ‏(‏الْآيَةِ‏:‏ 172‏)‏ وَفِي الْأَنْعَامِ‏:‏ ‏{‏يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا شَهِدْنَا عَلَى أَنْفُسِنَا‏}‏ ‏(‏الْآيَةِ‏:‏ 130‏)‏‏.‏

وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ‏:‏ ‏{‏وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ‏}‏ ‏(‏الْآيَةِ‏:‏ 61‏)‏ وَفِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ‏:‏ ‏{‏بِغَيْرِ حَقٍّ‏}‏ ‏(‏الْآيَةِ‏:‏ 21‏)‏ وَالْحِكْمَةُ فِيهِ أَنَّ الْجُمْلَةَ فِي آلِ عِمْرَانَ خَرَجَتْ مَخْرَجَ الشَّرْطِ، وَهُوَ عَامٌّ، فَنَاسَبَ أَنْ يَكُونَ النَّفْيُ بِصِيغَةِ التَّنْكِيرِ؛ حَتَّى يَكُونَ عَامًّا، وَفِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ جَاءَ عَنْ أُنَاسٍ مَعْهُودِينَ، وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ‏}‏ ‏(‏الْآيَةُ‏:‏ 61‏)‏ فَنَاسَبَ أَنْ يُؤْتَى بِالتَّعْرِيفِ؛ لِأَنَّ الْحَقَّ الَّذِي كَانَ يُسْتَبَاحُ بِهِ قَتْلُ الْأَنْفُسِ عِنْدَهُمْ كَانَ مَعْرُوفًا، كَقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ‏}‏ ‏(‏الْمَائِدَةِ‏:‏ 45‏)‏ فَالْحَقُّ هُنَا الَّذِي تُقْتَلُ بِهِ الْأَنْفُسُ مَعْهُودٌ مَعْرُوفٌ، بِخِلَافِ مَا فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ‏.‏

وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ هُودٍ حَاكِيًا عَنْ شُعَيْبٍ‏:‏ ‏{‏وَيَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ سَوْفَ تَعْلَمُونَ‏}‏ ‏(‏الْآيَةِ‏:‏ 93‏)‏ وَأَمَرَ نَبِيَّنَا- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنْ يَقُولَ لِقُرَيْشٍ‏:‏ ‏{‏لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ‏}‏ ‏(‏النَّحْلِ‏:‏ 55‏)‏‏.‏

وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ‏:‏ لَمَّا كُرِّرَتْ مُرَاجَعَتُهُ لِقَوْمِهِ، نَاسَبَ اخْتِصَاصَ قِصَّتِهِ بِالِاسْتِئْنَافِ الَّذِي هُوَ أَبْلَغُ فِي الْإِنْذَارِ وَالْوَعِيدِ؛ وَأَمَّا نَبِيُّنَا- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَكَانَتْ مُدَّةُ إِنْذَارِهِ لِقَوْمِهِ قَصِيرَةً، فَعَقَّبَ عَمَلَهُمْ عَلَى مُكَافَأَتِهِمْ بِوَعِيدِهِمْ بِالْفَاءِ؛ إِشَارَةً إِلَى قُرْبِ نُزُولِ الْوَعِيدِ لَهُمْ، بِخِلَافِ شُعَيْبٍ فَإِنَّهُ طَالَتْ مُدَّتُهُ فِي قَوْمِهِ فَاسْتَأْنَفَ لَهُمْ ذِكْرَ الْوَعِيدِ‏.‏

وَلَعَلَّ قَوْمَ شُعَيْبٍ سَأَلُوهُ السُّؤَالَ الْمُتَقَدِّمَ، فَأَجَابَهُمْ بِهَذَا الْجَوَابِ، وَالْفَاءُ لَا تَحْسُنُ فِيهِ، وَالنَّبِيُّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لَمْ يَقُلْ ذَلِكَ جَوَابًا لِلسُّؤَالِ، وَلَا يَحْسُنُ مَعَهُ الْحَذْفُ‏.‏

وَمِنْهُ أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ فِي خِطَابِ الْمُؤْمِنِينَ‏:‏ ‏{‏هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ‏}‏ ‏(‏الصَّفِّ‏:‏ 10‏)‏ إِلَى أَنْ قَالَ‏:‏ ‏{‏يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ‏}‏ ‏(‏الصَّفِّ‏:‏ 12‏)‏ وَقَالَ فِي خِطَابِ الْكَافِرِينَ‏:‏ ‏{‏يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ‏}‏ ‏(‏إِبْرَاهِيمَ‏:‏ 10‏)‏ ‏{‏يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ‏}‏ ‏(‏الْأَحْقَافِ‏:‏ 31‏)‏‏.‏

قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ إِبْرَاهِيمَ‏:‏ مَا عَلِمْتُهُ جَاءَ الْخِطَابُ هَكَذَا فِي الْقُرْآنِ إِلَّا فِي خِطَابِ الْكَافِرِينَ، وَكَانَ ذَلِكَ لِلتَّفْرِقَةِ بَيْنَ الْخِطَابَيْنِ، وَلِئَلَّا يُسَوَّى بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ فِي الْمِيعَادِ‏.‏

وَاعْتَرَضَ الْإِمَامُ فَخْرُ الدِّينِ بِأَنَّ هَذَا التَّبْعِيضَ إِنْ حَصَلَ فَلَا حَاجَةَ إِلَى ذِكْرِ هَذَا الْجَوَابِ، وَإِنْ لَمْ يَحْصُلْ كَانَ هَذَا الْكَلَامُ فَاسِدًا‏.‏

وَقَالَ الشَّيْخُ أَثِيرُ الدِّينِ أَبُو حَيَّانَ فِي ‏"‏ تَفْسِيرِهِ ‏"‏‏:‏ وَيُقَالُ‏:‏ مَا فَائِدَةُ الْفَرْقِ فِي الْخِطَابِ وَالْمَعْنَى مُشْتَرَكٌ‏؟‏ إِذِ الْكَافِرُ إِذَا آمَنَ، وَالْمُؤْمِنُ إِذَا تَابَ مُشْتَرِكَانِ فِي الْغُفْرَانِ، وَمَا تَخَيَّلْتَ فِيهِ مَغْفِرَةَ بَعْضِ الذُّنُوبِ مِنَ الْكَافِرِ إِذَا هُوَ آمَنَ مَوْجُودٌ فِي الْمُؤْمِنِ إِذَا تَابَ، وَسَيَأْتِي بَسْطُ الْكَلَامِ عَلَى ذَلِكَ فِي آخِرِ الْكِتَابِ، عِنْدَ الْكَلَامِ عَلَى ‏(‏مِنْ‏)‏‏.‏

فَصْلٌ

وَمِنْ لَوَاحِقِ ذَلِكَ الْإِدْغَامُ فِي مَوْضِعٍ وَتَرْكُهُ فِي آخَرَ، فِي سُورَةِ النِّسَاءِ ‏{‏وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ‏}‏ ‏(‏الْآيَةِ‏:‏ 115‏)‏ وَفِي الْأَنْفَالِ‏:‏ ‏{‏وَمَنْ يُشَاقِقِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ‏}‏ ‏(‏الْآيَةِ‏:‏ 13‏)‏ وَجَاءَ بِالْإِدْغَامِ فِي الْحَشْرِ ‏{‏ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِّ اللَّهَ‏}‏ ‏(‏الْآيَةِ‏:‏ 4‏)‏ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْإِدْغَامَ تَخْفِيفٌ وَلَيْسَ بِالْأَصِيلِ فَوَرَدَ فِي النِّسَاءِ عَلَى الْأَصْلِ، وَلَمْ يَقْتَرِنْ بِهِ مَا يَقْتَضِي تَخْفِيفَهُ، وَلَمَّا تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْحَشْرِ قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ‏}‏ وَتَقَدَّمَ الْمَاضِي مُدْغَمًّا وَلَمْ يُسْمَعْ فِي الْمَاضِي فَجِيءَ بِمَا حُمِلَ عَلَيْهِ مِنْ قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَمَنْ يُشَاقِّ اللَّهَ‏}‏ مُدْغَمًا لِيَحْصُلَ التَّنَاسُبُ‏.‏

وَأَمَّا سُورَةُ الْأَنْفَالِ فَتَعَارَضَ فِيهَا شَيْئَانِ‏:‏ مَجِيءُ الْإِدْغَامِ قَبْلَهُ فِي الْمَاضِي مِنْ قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ‏}‏ وَعَطْفُ ‏{‏وَرَسُولَهُ‏}‏ عَلَى اسْمِ اللَّهِ وَقَدْ وَرَدَتْ نِسْبَةُ الْمُشَاقَّةِ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَرُدَّ ذَلِكَ بِالْعَطْفِ بِالْوَاوِ الْجَامِعَةِ، وَهُوَ مِمَّا يُنَاسِبُ الشَّكَّ، فَاسْتَدْعَى الْمَوْضِعَ دَاعِيَانِ‏:‏

أَحَدُهُمَا‏:‏ مَا قَبْلُ مِنَ الْإِدْغَامِ‏.‏

وَالثَّانِي‏:‏ مَا بَعْدَهُ مِنَ الْعَطْفِ الْمُشْبِهِ لِلَّفْظِ، فَرُوعِيَ الْبَعْدِيُّ لِأَنَّهُ أَقْوَى مِنَ الْقَبْلِيِّ كَمَا فَعَلُوا فِي ‏"‏ الْأَمَامِ ‏"‏ فَلَمْ يُمِيلُوا نَحْوَ ‏"‏ مَنَاشِيطَ ‏"‏ وَنَحْوِهُ مِمَّا تَأَخَّرَ فِيهِ حَرْفُ الِاسْتِعْلَاءِ، وَإِنْ حَالَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْأَلِفِ حَرْفَانِ، وَمَعَ ذَلِكَ فَإِنَّهُ يَنْفَعُ الْإِمَالَةُ، وَلَيْسَ ذَلِكَ فِي قُوَّةِ الْمَنْعِ إِذَا تَقَدَّمَ مَعَ حَائِلٍ‏.‏

وَمِنْهُ فِي الْأَنْعَامِ‏:‏ ‏{‏فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ‏}‏ ‏(‏الْآيَةِ‏:‏ 42‏)‏ بِالْإِدْغَامِ وَوُجِّهَ أَنَّ الْعَرَبَ تُرَاعِي مُجَاوَرَةَ الْأَلْفَاظِ فَيُحْمَلُ اللَّفْظُ عَلَى مُجَاوَرَةِ الْمُشَاكَلَةِ لِلْمُشَاكَلَةِ الْقَطْعِيَّةِ، وَفِيهِ الِاتِّبَاعُ فِي ‏"‏ نَسُوكَ وَبَنُوكَ ‏"‏ وَالْأَصْلُ بَنِيكَ، وَمَاضِي الْفِعْلِ مِنَ الضَّرَاعَةِ لَا إِدْغَامَ فِيهِ إِنَّمَا نَقُولُ ‏"‏ يَضْرَعُ ‏"‏ إِذْ لَا حَرْفَ مُضَارَعَةَ فِيهِ يُسَوِّغُ الْإِدْغَامَ فَلَمَّا أَوْرَدَ الْمَاضِيَ فِيمَا بُنِيَ عَلَى آيَةِ الْأَنْعَامِ مِنْ قوله‏:‏ ‏{‏فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا‏}‏ ‏(‏الْآيَةِ‏:‏ 43‏)‏ وَلَا إِدْغَامَ فِيهِ وَرَدَ الْأَوَّلُ مَفْكُوكًا غَيْرَ مُدْغَمٍ دَعْيًا لِلْمُنَاسَبَةِ بِخِلَافِ آيَةِ الْأَعْرَافِ، إِذْ لَمْ يَرِدْ فِيهِ مَا يَسْتَدْعِي هَذِهِ الْمُنَاسَبَةَ فَجَاءَ مُدْغَمًا عَلَى الْوَجْهِ الْأَخَفِّ، إِذْ لَا يَقْتَضِي خِلَافَهُ‏.‏

وَمِنْهُ‏:‏ ‏{‏فَمَنِ تَبِعَ هُدَايَ‏}‏ فِي ‏(‏الْبَقَرَةِ‏:‏ 38‏)‏، ‏{‏فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ‏}‏ فِي ‏(‏طه‏:‏ 123‏)‏ وَكَذَلِكَ فِي الْأَنْعَامِ ‏{‏وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ‏}‏ ‏(‏الْآيَةِ‏:‏ 99‏)‏ وَقَالَ بِهَذِهِ فِي هَذِهِ السُّورَةِ ‏{‏وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشَابِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ‏}‏ ‏(‏الْآيَةِ‏:‏ 141‏)‏ فَوَرَدَ فِي آخِرِ الْأَمْرِ عَلَى أَخَفِّ التَّبَايُنِ وَفِي الثَّانِي عَلَى أَثْقَلِهِمَا دَعْيًا لِلتَّرْتِيبِ‏.‏