الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
.الحكم الخامس: ما هو سن البلوغ الذي يلزم به التكليف؟ أشارت الآية الكريمة، وهي قوله تعالى: {وَإِذَا بَلَغَ الأطفال مِنكُمُ الحلم} إلى أن الطفل يصبح مكلفًا بمجرد الاحتلام وقد اتفق الفقهاء على أن الصبيّ إذا احتلم فقد بلغ وكذلك الجارية الفتاة إذا احتلمت أو حاضت أو حَمَلت فقد بلغت. فالاحتلام علامة واضحة على بلوغ الصبي أو الجارية سن التكليف وهذا بإجماع الفقهاء لم يختلف فيه أحد.. ولكنهم اختلفوا في تقدير السن التي يصبح بها الإنسان مكلفًا على رأيين:1- مذهب الحنفية في المشهور: إلى أن الطفل لا يكون بالغًا حتى يتم له ثماني عشرة سنة ودليله قوله تعالى: {وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ اليتيم إِلاَّ بالتي هِيَ أَحْسَنُ حتى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ} [الأنعام: 152] وأشدُّ الصبي كما روي عن ابن عباس: أنه ثماني عشرة سنة، وأما الإناث فنشوءهن وإدراكهن يكون أسرع فنقص في حقهن سنة فيكون بلوغهن سبع عشرة سنة.2- مذهب الشافعية والحنابلة الشافعي وأحمد وأبو يوسف ومحمد إلى أنه بلغ الغلام والجارية خمس عشرة سنة فقد بلغا وهو رواية عن أبي حنيفة أيضًا.واستدلوا بما روي عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه عُرِض على النبي صلى الله عليه وسلم يوم أُحدٍ وله أربع عشرة سنة فلم يُجِزْه، وعُرِض عليه يوم الخندق وله خمس عشرة سنة فأجازه.وقالوا: إنّ العادة جارية ألاّ يتأخر البلوغ في الغلام والجارية عن خمس عشرة سنة فيكون هو سن البلوغ الذي يصبح به الإنسان مكلفًا وذلك بحكم العادة.قال الجصاص في تفسيره أحكام القرآن: قوله تعالى: {والذين لَمْ يَبْلُغُواْ الحلم} يدل على بطلان قول من جعل حد البلوغ خمس عشرة سنة إذا لم يحتلم قبل ذلك، لأن الله تعالى لم يفرّق بين من بلغها وبين من قصّر عنها بعد أن لا يكون قد بلغ الحلم، وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم من جهات كثيرة «رفع القلم عن ثلاثة: عن النائم حتى يستيقظ، وعن المجنون حتى يُقيق، وعن الصبي حتى يحتلم» ولم يفرّق بين من بلغ خمس عشرة وبين من لم يبلغها.وأما حديث ابن عمر: أنه عرض على النبي صلى الله عليه وسلم يوم أُحد.. إلخ فإنه مضطرب لأن الخندق كان في سنة خمس، وأُحد في سنة ثلاث، فكيف يكون بينهما سنة؟ ثم مع ذلك فإن الإجازة في القتال لا تَعلُّق لها بالبلوغ لأنه قد يُرَدّ البالغ لضعفه، ويجاز غير البالغ لقوته على القتال. وطاقته لحمل السلاح كما أجاز رافع بن خديج وردّ سمرة بن جندب ويدل عليه أنه يسأله عن الاحتلام ولا عن السن.وقد تكلم بكلام كثير انتصر فيه لمذهب الإمام حنيفة رحمه الله.الترجيح: والصحيح هو قول الجمهور لما علمنا أن مثل هذا إنما يثبت بحكم العادة، وقد جرت العادة في الأغلب على الاحتلام في مثل هذا الس، فيكون هو سن البلوغ المعتبر في التكليف. وقد نص فقهاء الحنفية على أن الفتوى بقول الصاحبين وهو رواية عن الإمام أبي حنيفة رحمه الله أيضًا فيكون هو المعتبر، وكفى الله المؤمنين القتال..الحكم السادس: هل يعتبر الإنباتُ دليلًا على البلوغ؟ الراجح من أقوال الفقهاء أن البلوغ لا يكون إلا بالاحتلام أن بالسن وهي سن الخامس عشرة كما مر معنا، وقد روي عن الإمام الشافعي رحمه الله أنه اعتبر الإنبات دليلًا على البلوغ، واستدل بما روي عن عطية القرظي أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بقتل من أنبت من قريظة واستحياء من لم ينبت، قال: فنظروا إليّ فلم أكن قد أنبتُّ فاستبقاني.وما روي أيضًا أن عثمان رضي الله عنه سئل عن غلام فقال: هل أخضرّ عذاره؟ وهذا يدل على أن ذلك كان كالأمر المتفق عليه فيما بين الصحابة.وبقية الفقهاء لا يعتبرون الإنبات دليلًا على البلوغ حتى قال الجصاص إن حديث عطية القرظي لا يجوز إثبات الشرع بمثله لوجوه:أحدها: أن عطية هذا مجهول لا يعرف إلا من هذا الخبر ولاسيما مع اعتراضه على الآية والخبرِ في نفي البلوغ إلاَّ بالاحتلام.وثانيها: أنه مختلف الألفاظ ففي بعض الروايات أنه أمر بقتل من جرت عليه الموسى، وفي بعضها من أخضرّ عذاره، ومعلومٌ أنه لا يبلغ هذه الحال إلا وقد تقدّم بلوغة.وثالثها: أن الإنبات يدل على القوة البدنية فالأمر للقتل لذلك لا للبلوغ.والصحيح أن الإمام الشافعي رحمه الله جعل الإنبات دليلًا على البلوغ في حق أطفال الكفار لإجراء أحكام الأسر، والجزية، والمعاهدة، وغيرها من الأحكام لا أنه جعله دليلًا على البلوغ مطلقًا، كما نبّه على ذلك بعض العلماء.قال الألوسي: ومن الغريب ما روي عن قوم من السلف أنهم اعتبروا في البلوغ أن يبلغ الإنسان في طوله خمسة أشبار وروي عن علي كرم الله وجهه أنه قال: إذا بلغ الغلام خمسة أشبار فقد وقعت عليه الحدود ويقتصّ له، ويقتصّ منه.وعن أنس رضي الله عنه قال: أُتي أبو بكر بغلام قد سرق فأمر به فشبر فنقص أنملة فخلّى عنه وبهذا المذهب أخذ الفرزدق في قوله:وأكثر الفقهاء لا يقولون بهذا المذهب، لأن الإنسان قد يكون دون البلوغ ويكون طويلًا، وفوق البلوغ ويكون قصيرًا، فلا عبرة بذلك، ولعلّ الأخبار السابقة لا تصح، وما نقل عن الفرزدق لا يتعيَّن إرادة البلوغ فيه فمن الناس من قال إنه أراد بخمسة أشبار القبر كما قال الآخر: .الحكم السابع: هل يؤمر الطفل بفعل الفرائض والطاعات؟ استدل بعض الفقهاء من قوله تعالى: {والذين لَمْ يَبْلُغُواْ الحلم مِنكُمْ} على أن من لم يبلغ وقد عقل يؤمر بفعل الشرائع وينهى عن ارتكاب القبائح- وإن لم يكن من أهل التكليف- على وجه التعليم، فإن الله أمرهم بالاستئذان في هذه الأوقات، وقال عليه السلام «مروا أولادكم بالصلاة وهم أبناء سبع».وروي عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه قال: نعلِّم الصبي إذا عرف يمينه من شماله.وروي عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال: إذا بلغ الصبي عشر سنين كتبت له الحسنات ولا تكتب عليه السيئات حتى يحتلم.قال أبو بكر الرازي: إنما يؤمر بذلك على وجه التعليم والتأدب ليعتاده ويتمرن عليه فيكون أسهل عليه بعد البلوغ وأقل نفورًا منه. وكذلك يجنّب شرب الخمر، ولحم الخنزير، ويُنْهى عن سائر المحظورات، لأنه لو لم يمنع في الصغر، لصعب عليه الامتناع في الكبر، وقد قال الله تعالى: {قوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا} [التحريم: 6] قيل في التفسير أي أدبوهم وعلموهم..الحكم الثامن: ما المراد من وضع الثياب في الآية الكريمة؟ دلت الآية الكريمة وهي قوله تعالى: {فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَن يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ متبرجات بِزِينَةٍ} على أن المرأة العجوز التي لا تُشْتهى والتي لا يُرغب فيها في العادة أنه لا إثم عليها في وضع الثياب أمام الأجانب من الرجال، بشرط عدم التبرج وإظهار الزينة، وليس المراد أن تخلع المرأة كل ما عليها من الثياب حتى تتعرى فإن ذلك لا يجوز للعجوز ولو كان أمام محارمها فكيف بالأجانب؟ ولذلك فقد اتفق الفقهاء والمفسرون على أن المراد بالثياب في هذه الآية الجلباب التي أُمِرت المسلمةُ أن تخفي به زينتها في قوله تعالى في سورة الأحزاب (59): {يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلاَبِيبِهِنَّ} وهذا الإذن في وضع الجلابيب والخُمُر ليس إلا لأولئك النسوة العجائز اللاتي لم يعدن يرغبن في التزين، وانعدمت فيهن الغرائز الجنسية، غير أنه إذا كان لا يزال في هذه النار قبس يتقد، ويكاد يميل بالمرأة إلى إظهار زينتها فلا يصح لها أن تضع جلبابها.قال القرطبي: ومن التبرج أن تلبس المرأة ثوبين رقيقين يصفانها فقد روي في الصحيح عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «صنفان من أهل النار لم أرهما.. وذكر: ونساء كاسيات عاريات مميلات مائلات رؤوسهن كأسْنِمة البخت المائلة، لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها وإن ريحها ليوجد من مسيرة كذا وكذا» وفي رواية: «من مسيرة خمسمائة عام».قال ابن العربي: وإنما جعلهن كاسيات لأن الثياب عليهن، وإنما وصفهن بأنهن عاريات لأن الثوب إذا رقَّ يصفهن ويبدي محاسنهن وذلك حرام.قلت: هذا أحد التأويلين للعلماء في هذا المعنى، والثاني: أنهن كاسيات من الثياب عاريات من لباس التقوى الذي قال الله فيه: {وَلِبَاسُ التقوى ذلك خَيْرٌ} [الأعراف: 26] وأنشدوا:.ما ترشد إليه الآيات الكريمة: أولًا: ضرورة استئذان الخدم من العبيد، والإماء في أوقات الخلوات.ثانيًا: تعليم الأطفال الآداب الإسلامية منها الاستئذان عند الدخول في الأوقات الثلاثة.ثالثًا: لا يطلب من الخادم أن يستأذن في كل وقت لضرورة قيامه بالخدمة لسيده.رابعًا: إذا بلغ الطفل سن المراهقة فعليه أن يستأذن قبل الدخول في جميع الأوقات.خامسًا: لا يجوز للمسلمة أن تنكشف أمام الخدم من الغلمان إذا بلغوا مبلغ الرجال.سادسًا: النساء العجائز لا يجب عليهن المبالغة في التستر والبس الجلباب لرفع الحرج عنهن.سابعًا: التبرج وإظهار الزينة أمام الأجانب يستوي فيه العجائز والأبكار.ثامنًا: شرعُ اللَّهِ حكيم، ونظامه رحيم، فعلى المؤمنين أن يتمسكوا به..حكمة التشريع: الإسلام رسالة إصلاحية فاضلة، وآداب اجتماعية سامية، ومُثُل إنسانية رفيعة، حوى خير ما في التشاريع من نظم ومبادئ، وخير ما في الأديان من سمو وأخلاق، فتعاليمُه الرشيدة تدعو إلى الكمال، ومبادئه الإنسانية تهدف إلى الإصلاح، وإن شئت فقل: إنه رسالة الفضائل والآداب بل إنه رسالة الحياة.وفي هذه الآيات الكريمة دعوة إلى الآداب الإنسانية آداب البيوت وتعليم للأمة أن يتمسكوا بالأخلاق الفاضلة التي ربَّاهم عليها الإسلام، وأن يعلِّموا أطفالهم وخَدَمهم هذه الآداب الحميدة، لتبقى الأسرة المسلمة، والمجتمع المسلم، في منأى عن المفاسد التي تعجُّ بها المجتمعات الأخرى.وأول ما يجده الإنسان من الآداب الاجتماعية أدب الاستئذان عند دخول البيوت، وقد تقدم في الآيات الكريمة السابقة: {يا أيها الذين آمَنُواْ لاَ تَدْخُلُواْ بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حتى تَسْتَأْنِسُواْ وَتُسَلِّمُواْ على أَهْلِهَا} [النور: 27]. ثم يأتي أدب الاستئذان داخل البيوت وهو للخدم والأطفال لئلا يطَّلعوا على العورات، فقد يكون الإنسان في حالة لا يحِبّ أن يطلع عليه أحد، وقد يكون مع أهله في حالة لا يصح أن يدخل عليه فيها أحد. لذلك فقد أوجب الإسلام الاستئذان حتى على الخدم والصغار في ثلاثة أوقات وسماها عورات لانكشاف العورات فيها وفي هذه الأوقات الثلاثة لابد أن يستأذن الخدم، وأن يستأذن الخدم، وأن يستأذن الصغار المميزون الذين لم يبلغوا الحُلُم، كي لا تقع أنظارهم على عورات أهليهم وهو أدب رفيع يُغْفله الكثيرون في حياتهم، مستهينين بآثاره النفسية والخلقية، ظانين أن الخدم لا تمتد أعينهم إلى عورات السادة، وأن الصغار قبل البلوغ لا ينتبهون لهذه المناظر بينما يقرر- علماء النفس- أن بعض المشاهد التي تقع عليها أنظار الأطفال في صغرهم هي التي تؤثر في مستقبل حياتهم وقد تصيبهم بأمراض نفسية، وخلقية، وتوجد فيهم عقدًا يصعب شفاؤهم منها.وهذا الأدب الإسلامي الرفيع لا نجده عند غير المسلمين، ويكفي الإسلام فخرًا وشرفًا أنه دين الأدب والستر ودين الحشمة والوقار، فهو يأمر بغض الأبصار عن عورات الناس ويخصص هذه الأوقات الثلاثة دون غيرها لأنها مظنة انكشاف العورات، ولا يجعل استئذان الخدم والصغار في كل حين منعًا للحرج؛ فهم كثيروا الدخول والخروج على أهليهم بحكم صغر سنهم أو قيامهم بالخدمة وبذلك يجمع بين الحرص على ستر العورات وإزالة الحرج والمشقة عن الناس.وأخيرًا يدعو النساء إلى إخفاء الزينة منعًا لإثارة الفتن والشهوات ويأمر بالتحجب الكامل والتستر الشامل. ويستثني النساء العجائز اللواتي لا يحركن شهوة، ولا يثرن فتنة، فيسمح لهن أن يخلعن ثيابهن الخارجية على ألا تنكشف عوراتهن ولا تظهر زينتهن، وخير لهن وهنَّ العجائز المسنات أن يبقين كاسيات متسترات محتشمات بثيابهن الفضفاضة فذلك هو أدب الإسلام وذلك هو استعفاف المؤمنة الطاهرة التي تريد أن تحفظ نفسها، وتصون كرامتها، وهو ما سماه القرآن بالاستعفاف أي طلب العفة وإيثارها على حب الظهور وذلك لما بين التبرج والفتنة من صلة، وبين التحجب والعفة من صلة وكفى بذلك برهانًا على سمو الشريعة وطُهْر مقصدها ونيل غايتها والله يقول الحق وهو يهدي السبيل. اهـ.
|