فصل: قال الألوسي:

مساءً 7 :25
/ﻪـ 
1446
جمادى الاخرة
2
الثلاثاء
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الفخر:

اعلم أنه تعالى لما نهى المؤمنين عن اتخاذ الكافرين أولياء ظاهرًا وباطنًا واستثنى عنه التقية في الظاهر أتبع ذلك بالوعيد على أن يصير الباطن موافقًا للظاهر في وقت التقية، وذلك لأن من أقدم عند التقية على إظهار الموالاة، فقد يصير إقدامه على ذلك الفعل بحسب الظاهر سببًا لحصول تلك الموالاة في الباطن، فلا جرم بيّن تعالى أنه عالم بالبواطن كعلمه بالظواهر، فيعلم العبد أنه لابد أن يجازيه على كل ما عزم عليه في قلبه. اهـ.

.من أقوال المفسرين:

.قال أبو حيان:

المفهوم أن الباري تعالى مطلع على ما في الضمائر، لا يتفاوت علمه تعالى بخفاياها، وهو مرتب على ما فيها الثواب والعقاب إن خيرًا فخير، وإن شرًا فشر.
وفي ذلك تأكيد لعدم الموالاة، وتحذير من ذلك. اهـ.

.قال الفخر:

أسئلة وأجوبة:
السؤال الأول: هذه الآية جملة شرطية فقوله: {إِن تُخْفُواْ مَا في صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ} شرط وقوله: {يَعْلَمْهُ الله} جزاء ولا شك أن الجزاء مترتب على الشرط متأخر عنه، فهذا يقتضي حدوث علم الله تعالى.
والجواب: أن تعلق علم الله تعالى بأنه حصل الأن لا يحصل إلا عند حصوله الآن، ثم أن هذه التبدل والتجدد إنما وقع في النسب والإضافات والتعليقات لا في حقيقة العلم، وهذه المسألة لها غور عظيم وهي مذكورة في علم الكلام.
السؤال الثاني: محل البواعث والضمائر هو القلب، فلم قال: {إِن تُخْفُواْ مَا في صُدُورِكُمْ} ولم يقل إن تخفوا ما في قلوبكم؟.
الجواب: لأن القلب في الصدر، فجاز إقامة الصدر مقام القلب كما قال: {يُوَسْوِسُ في صُدُورِ الناس} [الناس: 5] وقال: {فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور} [الحج: 46].
السؤال الثالث: إن كانت هذه الآية وعيدًا على كل ما يخطر بالبال فهو تكليف ما لا يطاق.
الجواب: ذكرنا تفصيل هذه الكلام في آخر سورة البقرة في قوله: {للَّهِ مَا في السموات وَمَا فِي الأرض وَإِن تُبْدُواْ مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ الله} [البقرة: 284]. اهـ.

.من أقوال المفسرين في قوله تعالى: {وَيَعْلَمُ مَا في السموات وَمَا فِي الأرض}:

.قال أبو حيان:

{ويعلم ما في السموات وما في الأرض} هذا دليل على سعة علمه، وذكر عموم بعد خصوص، فصار علمه بما في صدورهم مذكورًا مرتين على سبيل التوكيد، أحدهما: بالخصوص، والآخر: بالعموم، إذ هم ممن في الأرض. اهـ.

.قال الفخر:

اعلم أنه رفع على الاستئناف، وهو كقوله: {قاتلوهم يُعَذّبْهُمُ الله} [التوبة: 14] جزم الأفاعيل، ثم قال: {وَيَتُوبَ الله} فرفع، ومثله قوله: {فَإِن يَشَإِ الله يَخْتِمْ على قَلْبِكَ وَيَمْحُ الله الباطل} [الشورى: 24] رفعًا، وفي قوله: {وَيَعْلَمُ مَا في السموات وَمَا فِي الأرض} غاية التحذير لأنه إذا كأن لا يخفى عليه شيء فيهما فكيف يخفى عليه الضمير. اهـ.

.قال ابن عادل:

قوله: {وَيَعْلَمُ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض} من باب ذكر العام بعد الخاص.
{مَا في صُدُورِكُمْ}، وقدَّم- هنا- الإخْفَاءَ على الإبداء وجعل محلهما الصدور، بخلاف آية البقرةِ- فإنه قدَّم فيها الإبداء على الإخفاء، وجعل محلهما النفس، وجعل جواب الشرطِ المحاسبة؛ تفنُّنًا في البلاغة، وذكر ذلك للتحذير؛ لأنه إذا كأن لا يخفى عليه شيء فكيف يَخْفَى عليه الضميرُ؟ اهـ.

.من أقوال المفسرين في قوله تعالى: {والله على كُلّ شَيْء قَدِيرٌ}:

.قال الفخر:

قال تعالى: {والله على كُلّ شَيْء قَدِيرٌ} إتمامًا للتحذير، وذلك لأنه لما بيّن أنه تعالى عالم بكل المعلومات كان عالمًا بما في قلبه، وكان عالمًا بمقادير استحقاقه من الثواب والعقاب، ثم بيّن أنه قادر على جميع المقدورات، فكأن لا محالة قادرًا على إيصال حق كل أحد إليه، فيكون في هذا تمام الوعد والوعيد، والترغيب والترهيب. اهـ.

.قال الألوسي:

{والله على كُلّ شَيْء قَدِيرٌ} إثبات لصفة القدرة بعد إثبات صفة العلم وبذلك يكمل وجه التحذير، فكأنه سبحانه قال: ويحذركم الله نفسه لأنه متصف بعلم ذاتي محيط بالمعلومات كلها وقدرة ذاتية شاملة للمقدورات بأسرها فلا تجسروا على عصيانه وموالاة أعدائه إذ ما من معصية خفية كانت أو ظاهرة إلا وهو مطلع عليها وقادر على العقاب بها. اهـ.

.قال أبو السعود:

وإظهارُ الاسم الجليل في موضع الإضمارِ لتربية المهابة وتهويلِ الخطب. اهـ.

.قال الطبري:

يعني بذلك جل ثناؤه: قل يا محمد، للذين أمرتهم أن لا يتخذوا الكافرين أولياء من دون المؤمنين {إن تخفوا ما في صدوركم} من موالاة الكفار فتُسِرُّوه، أو تبدوا ذلكم من نفوسكم بألسنتكم وأفعالكم فتظهروه {يعلمه الله}، فلا يخفى عليه. يقول: فلا تُضمروا لهم مودّةً ولا تظهروا لهم موالاة، فينالكم من عقوبة ربكم ما لا طاقة لكم به، لأنه يعلم سرّكم وعلانيتكم، فلا يخفى عليه شيء منه، وهو مُحصيه عليكم حتى يجازيَكم عليه بالإحسان إحسانًا، وبالسيئة مثلها.
وأما قوله: {ويعلم ما في السموات وما في الأرض}، فإنه يعني أنه إذ كأن لا يخفى عليه شيء هو في سماء أو أرض أو حيث كان، فكيف يخفى عليه- أيها القوم الذين يتخذون الكافرين أولياء من دون المؤمنين- ما في صدوركم من الميْل إليهم بالمودة والمحبة، أو ما تبدونه لهم بالمعونة فعلا وقولا.
وأما قوله: {والله على كل شيء قدير}، فإنه يعني: والله قديرٌ على معاجلتكم بالعقوبة على مُوالاتكم إياهم ومظاهرتكموهم على المؤمنين، وعلى ما يشاء من الأمور كلها، لا يتعذَّر عليه شيء أراده، ولا يمتنع عليه شيء طلبه. اهـ. بتصرف يسير.

.قال الزمخشري:

{وَيَعْلَمُ مَا في السماوات وَمَا في الارض} لا يخفى عليه منه شيء قط. فلا يخفى عليه سركم وعلنكم {والله على كُلّ شَيْء قَدِيرٌ} فهو قادر على عقوبتكم. وهذا بيان لقوله: {وَيُحَذّرُكُمُ الله نَفْسَهُ} [آل عمران: 28] لأنّ نفسه وهي ذاته المميزة من سائر الذوات، متصفة بعلم ذاتي لا يختص بمعلوم دون معلوم، فهي متعلقة بالمعلومات كلها وبقدرة ذاتية لا تختص بمقدور دون مقدور، فهي قادرة على المقدورات كلها، فكان حقها أن تحذر وتتقى فلا يجسر أحد على قبيح ولا يقصر عن واجب، فإن ذلك مطلع عليه لا محالة فلاحق به العقاب، ولو علم بعض عبيد السلطان أنه أراد الإطلاع على أحواله، فوكل همه بما يورد ويصدر، ونصب عليه عيونًا، وبث من يتجسس عن بواطن أموره، لأخذ حذره وتيقظ في أمره، واتقى كل ما يتوقع فيه الاسترابة به، فما بال من علم أنّ العالم الذات الذي علم السر وأخفى مهيمن عليه وهو آمن. اللهم إنا نعوذ بك من اغترارنا بسترك. اهـ.

.قال ابن كثير:

يخبر تبارك وتعالى عباده أنه يعلم السرائر والضمائر والظواهر، وأنه لا يخفى عليه منهم خافية، بل علمه محيط بهم في سائر الأحوال والآنات واللحظات وجميع الأوقات، وبجميع ما في السموات والأرض، لا يغيب عنه مثقال ذرة، ولا أصغر من ذلك في جميع أقطار الأرض والبحار والجبال، وهو {عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} أي: قدرته نافذة في جميع ذلك.
وهذا تنبيه منه لعباده على خوفه وخشيته، وألا يرتكبوا ما نهى عنه وما يَبْغضه منهم، فإنه عالم بجميع أمورهم، وهو قادر على معاجلتهم بالعقوبة، وإنْ أنظر من أنظر منهم، فإنه يمهل ثم يأخذ أخذ عزيز مقتدر؛ ولهذا قال بعد هذا: {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا}. اهـ.

.قال الصابوني:

{لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ الله فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ الله نَفْسَهُ وَإِلَى الله الْمَصِيرُ (28) قُلْ إِنْ تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ الله وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَالله عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (29)}.
النهي عن موالاة الكافرين:

.التحليل اللفظي:

{أَوْلِيَاءَ}: جمع ولي، وهو في اللغة بمعنى الناصر والمعين.
قال الراغب: وكلّ من ولي أمرًا الآخر فهو وليه ومنه قوله تعالى: {الله وَلِيُّ الذين آمَنُواْ} [البقرة: 257].
{تقاة}: مصدر بمعنى التقيّة وهي أن يداري الإنسان مخافة شرّه.
قال ابن عباس: التقيّة مداراة ظاهرة، وقد يكون الإنسان مع الكفار أو بين أظهرهم، فيتقيهم بلسانه ولا مودة لهم في قلبه.
قال القرطبي: وأصل تُقَاة (وُقَية) على وزن فُعَلَة مثل: تُؤَدة وتُهَمَة، قلبت الواو تاء والياء ألفًا.
وقال أبو حيان: والمصدر على فُعَلة جاء قليلًا ولو جاء على المقيس لكان اتقاءً ونظيره قوله تعالى: {وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا} [المزمل: 8].
والمعنى: إلا أن تخافوا منهم خوفًا فلا بأس بإظهار مودتهم باللسان تقية ومداراة دفعًا لشرهم وأذاهم من غير اعتقاد بالقلب.
{المصير}: المرجع والمآب، والمعنى: رجوعكم ومآبكم إلى الله فيجازيكم على أعمالكم.

.وجه المناسبة:

لما بيّن تعالى في الآيات السابقة أنه مالك الملك، المعز المذل، المتصرف في الكون حسب مشيئته وإرادته، وأنه القادر على إعطاء الملك لمن شاء، ونزعه ممن شاء، وأن العزة والذلة بيده، نهى المؤمنين في هذه الآيات عن موالاة أعدائه لتكون الرغبة فيما عنده دون أعدائه الكافرين.

.سبب النزول:

نزلت هذه الآية الكريمة في شأن قوم من المؤمنين كان لهم أصحاب من اليهود كانوا يوالونهم فقال لهم بعض الصحابة: اجتنبوا هؤلاء اليهود واحذروا مصاحبتهم لئلا يفتنوكم عن دينكم ويضلوكم بعد إيمانكم فأبى أولئك النصيحة، وبقوا على صداقتهم ومصاحبتهم لهم فنزلت الآية الكريمة {لاَّ يَتَّخِذِ المؤمنون الكافرين أَوْلِيَاءَ} الآية.
وروى القرطبي في تفسيره عن ابن عباسٍ رضي الله عنهما أن هذه الآية نزلت في (عُبَادة بن الصامت) الأنصاري البدري، كان له حلفاء من اليهود فلّما خرج النبي صلى الله عليه وسلم يوم الأحزاب قال له عُبادة: يا نبيّ الله إن معي خمسمائة من اليهود، وقد رأيت أن يخرجوا معي فأستظهر بهم على العدو، فأنزل الله تبارك وتعالى: {لاَّ يَتَّخِذِ المؤمنون الكافرين أَوْلِيَاءَ مِن دُونِ المؤمنين} الآية.

.المعنى الإجمالي:

نهى الله عزّ وجلّ عباده المؤمنين عن موالاة الكافرين أو التقرب إليهم بالمودة والمحبّة، أو مصادقتهم لقرابة أو معرفةٍ، لأنه لا ينبغي للمؤمنين أن يوالوا أعداء الله إذ من غير المعقول أن يجمع الإنسان بين محبة الله عز وجل وبين محبة أعدائه لأنه جمع بين النقيضين فمن أحبّ الله أبغض أعداءه.
فلا يجوز للمسلم أن يوالي غير المؤمنين فيتخذ من الكفّار الذين يتربصون بالمؤمنين السوء أولياء يصادقهم ويتودّد إليهم أو يستعين بهم ويترك إخوانه المؤمنين فليس بين الإيمان والكفر نسب وصلة، فالآية الكريمة تحذّر من موالاة الكافرين إلا في حال الضرورة وهو حال اتقاء شرهم وتجنب ضررهم أو الخوف منهم فتجوز موالاتهم بشرط أن يقتصر ذلك على الظاهر مع إضمار الكراهية والبغض لهم في الباطن، ثم ختمت الآية الكريمة بالوعيد الشديد الذي يدل على عظم الذنب الذي يرتكبه من يخالف أوامر الله ويوالي أعداءه.

.وجوه القراءات:

قرأ الجمهور {إِلاَّ أَن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تقاة} وقرأ يعقوب وأبو الرجاء والمفضّل (تقيّة) بالياء المشدّدة ووزنها فعيلة والتاء بدل من الواو.

.وجوه الإعراب:

أولًا: قوله تعالى: {لاَّ يَتَّخِذِ المؤمنون الكافرين أَوْلِيَاءَ} لا ناهية جازمة والفعل بعدها مجزوم وحرك بالكسر للتخلص من التقاء الساكنين و{يتخذ} ينصب مفعولين {الكافرين} مفعول أول و{أولياء} مفعول ثان.
ثانيًا: قوله تعالى: {إِلاَّ أَن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تقاة} الاستثناء مفرغ من عموم الأحوال أي لا تتخذوهم أولياء في حالٍ من الأحوال إلاّ في حال اتقاء شرهم وضررهم، و{تقاة} مفعول مطلق لـ {تتقوا} وجوّز بعضهم أن يكون مفعولًا به أي إلا أن تتقوا شيئًا حاصلًا من جهتهم.

.لطائف التفسير:

اللطيفة الأولى:
التعبير بقوله تعالى: {وَمَن يَفْعَلْ ذلك} بدل قوله: {ومن يتخذ الكافرين أولياء من دون المؤمنين} للاختصار، واستهجانًا بذكره، وتقبيحًا لهذا الصنيع، فموالاة الكافرين من أقبح القبائح عند الله.
اللطيفة الثانية:
قوله تعالى: {فَلَيْسَ مِنَ الله فِي شَيْءٍ} ليس من الله، أي ليس من دين الله أو شرع الله، فهو على حذف مضاف، والتنكير في شيء للتحقير أي ليس هذا في قليل أو كثير من دين الله، لأنه جمع بين المتناقضين، وقد قال الشاعر:
تودّ عدّوي ثم تزعم أنني ** صديقك ليس النوك عند بعازب

اللطيفة الثالثة:
في قوله تعالى: {إِلاَّ أَن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تقاة} التفات من الغيبة إلى الخطاب، ولو جاء على النظم الأول لكان (إلا أن يتقوا).
اللطيفة الرابعة:
إظهار اسم الجلالة مكان الإضمار في قوله تعالى: {وإلى الله المصير} لتربية المهابة والروعة في النفس وتقديم الخبر على المبتدأ يفيد الحصر.