فصل: مناسبة الآية لما قبلها:

مساءً 9 :20
/ﻪـ 
1446
جمادى الاخرة
12
الجمعة
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم




.سورة الإنسان:

.فصول مهمة تتعلق بالسورة الكريمة:

.فصل في فضل السورة الكريمة:

قال مجد الدين الفيروزابادي:
فضل السّورة:
فيه من الأَحاديث المنكَرة حديث أُبي: «مَنْ قرأها كان جزاؤه على الله جَنَّة وحريرًا».
وحديث علي: «يا علي مَنْ قرأ {هَلْ أَتَى عَلَى الإنسان} أَعطاه الله من الثواب مثلَ ثواب آدم، وكان في الجنَّة رفيق آدم، وله بكلّ آية قرأها مثلُ ثواب سيّدَىْ شباب أَهل الجنَّة الحسن والحسين». اهـ.

.فصل في مقصود السورة الكريمة:

.قال البقاعي:

سورة الإنسان وتسمى هل أتى والأمشاج والدهر، مقصودها ترهيب الإنسان بما دل عليه آخر القيامة من العرض على الملك الديان بتعذيب العاصي في النيران وتنعيم المطيع في الجنان بعد جمع الخلائق كلها الإنس والجان والملائكة والجان وغير ذلك من الحيوان، ويكون لهم مواقف طوال وأهوال وزلزال، لكل منها أعظم شأن، وأدل ما فيها على ذلك الإنسان بتأمل آيته وتدبر مبدئه وغايته، وكذا تسميتها بهل أتى وبالدهر وبالأمشاج من غير ميل ولا اعوجاج. اهـ.

.قال مجد الدين الفيروزابادي:

.بصِيرة في {هل أتى على الإنسان}:

السّورة مكِّيّة.
وآياتها إِحدى وثلاثون.
وكلماتها مائتان وأَربعون.
وحروفها أَلْف وخمسون.
وفواصل آياتها على الأَلِف، ولها ثلاثة أَسماء: سورة (هل أَتى)؛ لمفتتحها، وسورة الإنسان؛ لقوله: {عَلَى الإنسان}، وسورة الدّهر؛ لقوله: {حِينٌ مِّنَ الدَّهْرِ}.

.معظم مقصود السّورة:

بيان مُدّة خِلقة آدم، وهداية الخَلْق بمصالحهم، وذكر ثواب الأَبرار، في دار القرأر، وذكر المِنّة على الرّسول صلى الله عليه وسلم وأَمره بالصّبر، وقيام اللَّيل، والمِنَّة على الخَلْق بإِحكام خَلْقهم، وإِضافة كلِّيّة المشيئة إِلى الله، في قوله: {يُدْخِلُ مَن يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً}.

.الناسخ والمنسوخ:

فيها من المنسوخ ثلاث آيات: م {أَسِيرًا} في قوله: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ} م، والصّبر من قوله: {فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ} م، والتخيير من قوله: {فَمَن شَاءَ اتَّخَذَ} ن آية السّيف. اهـ.

.فصل في متشابهات السورة الكريمة:

.قال ابن جماعة:

سورة الإنسان:
457- مسألة:
قوله تعالى: {إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا} ولم يقل شكورا لمطابقة كفورا؟
جوابه:
أنه جاء باللفظ الأعم لأن كل شكور شاكر وليس كل شاكر شكورا، أو قصد المبالغة في جانب الكفر ذماً له لأن كل كافر كفور بالنسبة إلى نعم الله عليه.
458- مسألة:
قوله تعالى: {يُطَافُ عَلَيْهِمْ} {وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْسًا} لما لم يسم فاعله ثم قال تعالى: {وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ} بصيغة الفاعل؟.
جوابه:
أن القصد بالأول: وصف الآنية والمشروب، والمقصود بالثاني: وصف الطائف.
459- مسألة:
قوله تعالى: {كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا}، وقال تعالى بعد ذلك: {مِزَاجُهَا زَنْجَبِيلًا}
جوابه:
أشار بالأولى إلى برودتها وطيبها.
والثانية: إلى طعمها ولذتها، لأن العرب كانت تستطيب الشراب البارد، وتستلذ طعم الزنجبيل، وذكرت ذلك في أشعارها، فظاهر القرآن أنهما أسماء عينين في الجنة، فقيل: الكافور للإبراد، والزنجبيل يمزجون بها أشربتهم، ويشربها المقر بون صرفا.
460- مسألة:
قوله تعالى: {إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ} وفى المدثر: {إِنَّهُ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ}.
جوابه:
أن المراد هنا هذه السورة أو الآيات. وفى المدثر: المراد القرآن. اهـ.

.قال مجد الدين الفيروزابادي:

المتشابهات:
قوله: {وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ}، وبعده: {وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ} إِنَّما ذكر الأَوّل بلفظ المجهول؛ لأَنَّ المقصود ما يطاف به له الطَّائفون.
ولهذا قال: {بِآنِيَةٍ مِّن فِضَّةٍ} ثمّ ذكر الطَّائفين، فقال: {وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُّخَلَّدُونَ}.
قوله: {مِزَاجُهَا كَافُوراً} وبعدها: {زَنْجَبِيلاً}؛ لأَنَّ الثَّانية غير الأُولى.
وقيل: {كَافُوراً} اسم عَلَم لذلك الماءِ، واسم الثانى زنجبيل.
وقيل اسمها: سلسبيل.
قال ابن المبارك: معناه: سَلْ من الله إِليه سبيلاً.
ويجوز أَن يكون اسمها زنجبيلاً، ثمّ ابتدأَ فقال: سلسبيلا.
ويجوز أَن يكون اسمها هذه الجملة، كقوله: تأَبّط شرًّا، وشاب قرناها.
ويجوز أَن يكون معنى تُسمّى: تُذكر، ثمّ قال الله: سل سبيلا، واتصاله في المصحف لا يمنع هذا التأْويل؛ لكثرة أَمثاله فيه. اهـ.

.فصل في التعريف بالسورة الكريمة:

.قال ابن عاشور:

سورة الإنسان:
سميت في زمن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم {سورة هل أتى على الإنسان}. روى البخاري في باب القراءة في الفجر من (صحيحه) عن أبي هريرة قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ في الفجر بـ: {ألم السجدة وهل أتى على الإنسان} (الإنسان: 1).
واقتصر صاحب (الإِتقان) على تسمية هذه السورة (سورة الإنسان) عند ذكر السور المكية والمدنية، ولم يذكرها في عداد السور التي لها أكثر من اسم.
وتسمّى (سورة الدهر) في كثير من المصاحف.
وقال الخفاجي تسمى (سورة الأمشاج)، لوقوع لفظ الأمشاج فيها ولم يقع في غيرها من القرآن.
وذكر الطبرسي: أنها تسمى (سورة الأَبرار)، لأن فيها ذكر نعيم الأبرار وذكرهم بهذا اللفظ ولم أره لغيره.
فهذه خمسة أسماء لهذه السورة.
واختلف فيها فقيل هي مكية، وقيل مدنية، وقيل بعضها مكي وبعضها مدني.
فعن ابن عباس وابن أبي طلحة وقتادة ومقاتل: هي مكية، وهو قول ابن مسعود لأنه كذلك رتبها في مصحفه فيما رواه أبو داود كما سيأتي قريباً.
وعلى هذا اقتصر معظم التفاسير ونسبه الخفاجي إلى الجمهور.
وروى مجاهد عن ابن عباس: أنها مدنية، وهو قول جابر بن زيد وحكي عن قتادة أيضاً.
وقال الحسن وعكرمة والكلبي: هي مدنية إلاّ قوله: {ولا تطع منهم آثماً أو كفوراً} (الإنسان: 24 {إلى آخرها، أوْ قوله:)فاصبر لحكم ربك ولا تطع منهم} (الإنسان: 24) الخ. ولم يذكر هؤلاء أن تلك الآيات من أيَّة سورة كانت تعد في مكة إلى أن نزلت سورة الإنسان بالمدينة وهذا غريب. ولم يعينوا أنه في أية سورة كانَ مَقْرُوءاً.
والأصح أنها مكية فإن أسلوبها ومعانيها جارية على سنن السور المكية ولا أحسب الباعث على عدها في المدني إلاّ ما روي من أن آية {يُطعمون الطعام على حبه} (الإنسان: 8) نزلت في إطعام علي بن أبي طالب بالمدينة مسكيناً ليلةً، ويتيماً أخرى، وأسيراً أخرى، ولم يكن للمسلمين أسرى بمكة حملاً للفظ أسير على معنى أسير الحرب، أو ما روي أنه نزل في أبي الدحداح وهو أنصاري، وكثيراً ما حملوا نزول الآية على مُثل تنطبق عليها معانيها فعبروا عنها بأسباب نزول كما بيناه في المقدمة الخامسة.
وعدّها جابر بن زيد الثامنة والتسعين في ترتيب نزول السور. وقال: نزلت بعد سورة الرحمن وقَبْل سورة الطلاق. وهذا جريٌ على ما رآه أنها مدنية.
فإذا كان الأصح أنها مكية أخذاً بترتيب مصحف ابن مسعود فتكون الثلاثين أو الحادية والثلاثين وجديرة بأن تعد قبل سورة القيامة أو نحو ذلك حسبما ورد في ترتيب ابن مسعود.
روي أبو داود في باب تَحْزيب القرآن من (سُننه) عن علقمة والأسود عن ابن مسعود قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ النظائر السورتين وعدّ سوراً فقال: {هل أتى} {ولا أقسم بيوم القيامة} في ركعة. قال أبو داود: هذا تأليف ابن مسعود (أي تأليف مصحفه).
واتفق العادُّون على عد آيها إحدى وثلاثين. اهـ.

.قال سيد قطب:

تعريف بسورة الإنسان:
في بعض الروايات أن هذه السورة مدنية، ولكنها مكية؛ ومكيتها ظاهرة جدا، في موضوعها وفي سياقها، وفي سماتها كلها. لهذا رجحنا الروايات الأخرى القائلة بمكيتها. بل نحن نلمح من سياقها أنها من بواكير ما نزل من القرآن المكي.. تشي بهذا صور النعيم الحسية المفصلة الطويلة، وصور العذاب الغليظ، كما يشي به توجيه الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الصبر لحكم ربه، وعدم إطاعة آثم منهم أو كفور؛ مما كان يتنزل عند اشتداد الأذى على الدعوة وأصحابها في مكة، مع إمهال المشركين وتثبيت الرسول صلى الله عليه وسلم على الحق الذي نزل عليه، وعدم الميل إلى ما يدهنون به.. كما جاء في سورة القلم، وفي سورة المزمل، وفي سورة المدثر، مما هو قريب من التوجيه في هذه السورة.. واحتمال أن هذه السورة مدنية- في نظرنا- هو احتمال ضعيف جدا، يمكن عدم اعتباره!
والسورة في مجموعها هتاف رخي ندي إلى الطاعة، والالتجاء إلى الله، وابتغاء رضاه، وتذكر نعمته، والإحساس بفضله، واتقاء عذابه، واليقظة لابتلائه، وإدراك حكمته في الخلق والإنعام والابتلاء والإملاء.. وهي تبدأ بلمسة رفيقة للقلب البشري: أين كان قبل أن يكون؟ من الذي أوجده؟ ومن الذي جعله شيئا مذكورا في هذا الوجود؟ بعد أن لم يكن له ذكر ولا وجود: {هل أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئا مذكورا}.. تتلوها لمسة أخرى عن حقيقة أصله ونشأته، وحكمة الله في خلقه، وتزويده بطاقاته ومداركه: {إنا خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج نبتليه فجعلناه سميعا بصيرا}..
ولمسة ثالثة عن هدايته إلى الطريق، وعونه على الهدى، وتركه بعد ذلك لمصيره الذي يختاره: {إنا هديناه السبيل إما شاكرا وإما كفورا}..
وبعد هذه اللمسات الثلاث الموحية، وما تثيره في القلب من تفكير عميق، ونظرة إلى الوراء. ثم نظرة إلى الأمام، ثم التحرج والتدبر عند اختيار الطريق.. بعد هذه اللمسات الثلاث تأخذ السورة في الهتاف للإنسان وهو على مفرق الطريق لتحذيره من طريق النار.. وترغيبه في طريق الجنة، بكل صور الترغيب، وبكلهواتف الراحة والمتاع والنعيم والتكريم: {إنا أعتدنا للكافرين سلاسل وأغلالا وسعيرا إن الأبرار يشربون من كأس كان مزاجها كافورا عينا يشرب بها عباد الله يفجرونها تفجيرا}..
وقبل أن تمضي في عرض صور المتاع ترسم سمات هؤلاء الأبرار في عبارات كلها انعطاف ورقة وجمال وخشوع يناسب ذلك النعيم الهانئ الرغيد: {يوفون بالنذر ويخافون يوما كان شره مستطيرا ويطعمون الطعام على حبه مسكينا ويتيما وأسيرا إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاء ولا شكورا إنا نخاف من ربنا يوما عبوسا قمطريرا}..
ثم تعرض جزاء هؤلاء القائمين بالعزائم والتكاليف، الخائفين من اليوم العبوس القمطرير، الخيرين المطعمين على حاجتهم إلى الطعام، يبتغون وجه الله وحده، لا يريدون شكورا من أحد، إنما يتقون اليوم العبوس القمطرير!
تعرض جزاء هؤلاء الخائفين الوجلين المطعمين المؤثرين. فإذا هو الأمن والرخاء والنعيم اللين الرغيد:
{فوقاهم الله شر ذلك اليوم ولقاهم نضرة وسرورا وجزاهم بما صبروا جنة وحريرا متكئين فيها على الأرائك لا يرون فيها شمسا ولا زمهريرا ودانية عليهم ظلالها وذللت قطوفها تذليلا ويطاف عليهم بآنية من فضة وأكواب كانت قوارير قوارير من فضة قدروها تقديرا ويسقون فيها كأسا كان مزاجها زنجبيلا عينا فيها تسمى سلسبيلا ويطوف عليهم ولدان مخلدون إذا رأيتهم حسبتهم لؤلؤا منثورا وإذا رأيت ثم رأيت نعيما وملكا كبيرا عاليهم ثياب سندس خضر وإستبرق وحلوا أساور من فضة وسقاهم ربهم شرابا طهورا إن هذا كان لكم جزاء وكان سعيكم مشكورا}.
فإذا انتهى معرض النعيم اللين الرغيد المطمئن الهانئ الودود اتجه الخطاب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لتثبيته على الدعوة- في وجه الإعراض والكفر والتكذيب- وتوجيهه إلى الصبر وانتظار حكم الله في الأمر؛ والاتصال بربه والاستمداد منه كلما طال الطريق: {إنا نحن نزلنا عليك القرآن تنزيلا فاصبر لحكم ربك ولا تطع منهم آثما أو كفورا واذكر اسم ربك بكرة وأصيلا ومن الليل فاسجد له وسبحه ليلا طويلا}..
ثم تذكيرهم باليوم الثقيل الذي لا يحسبون حسابه؛ والذي يخافه الأبرار ويتقونه، والتلويح لهم بهوان أمرهم على الله، الذي خلقهم ومنحهم ما هم فيه من القوة، وهو قادر على الذهاب بهم، والإتيان بقوم آخرين؛ لولا تفضله عليهم بالبقاء، لتمضي مشيئة الابتلاء. ويلوح لهم في الختام بعاقبة هذا الابتلاء: إن هؤلاء يحبون العاجلة ويذرون وراءهم يوما ثقيلا. نحن خلقناهم وشددنا أسرهم وإذا شئنا بدلنا أمثالهم تبديلا. إن هذه تذكرة فمن شاء اتخذ إلى ربه سبيلا. وما تشاؤون إلا أن يشاء الله، إن الله كان عليما حكيما. يدخل من يشاء في رحمته والظالمين أعد لهم عذابا أليما..
تبدأ السورة بالتذكير بنشأة الإنسان وتقدير الله في هذه النشأة، على أساس الابتلاء، وتختم ببيان عاقبة الابتلاء، كما اقتضت المشيئة منذ الابتداء. فتوحي بذلك البدء وهذا الختام بما وراء الحياة كلها من تدبير وتقدير، لا ينبغي معه أن يمضي الإنسان في استهتاره. غير واع ولا مدرك، وهو مخلوق ليبتلى، وموهوب نعمة الإدراك لينجح في الابتلاء.
وبين المطلع والختام ترد أطول صورة قرآنية لمشاهد النعيم. أو من أطولها إذا اعتبرنا ما جاء في سورة الواقعةمن صور النعيم، وهو نعيم حسي في جملته، ومعه القبول والتكريم، وهو بتفصيله هذا وحسيته يوحي بمكيته، حيث كان القوم قريبي عهد بالجاهلية، شديدي التعلق بمتاع الحواس، يبهرهم هذا اللون ويعجبهم، ويثير تطلعهم ورغبتهم. وما يزال هذا اللون من المتاع يثير تطلع صنوف من الناس، ويصلح جزاء لهم يرضي أعمق رغباتهم. والله أعلم بخلقه ما يصلح لهم وما يصلح قلوبهم، وما يليق بهم كذلك وفق تكوينهم وشعورهم. وهناك ما هو أعلى منه وأرق كالذي جاء في سورة القيامة: {وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة}.. والله أعلم بما يصلح للعباد في كل حال. اهـ.

.قال الصابوني:

سورة الإنسان:
مدنية.
وآياتها إحدى وثلاثون آية.
بين يدي السورة:
* سورة الدهر من السور المدنية، وهي تعالج أمورا تتعلق بالآخرة، وبوجه خاص تتحدث عن نعيم المتقين الأبرار، في دار الخلد والإقامة في جنات النعيم، ويكاد يكون جو السورة هو جو السور المكية لإيحاءاتها وأسلوبها ومواضيعها المتنوعة.
* ابتدأت السورة الكريمة ببيان قدرة الله في خلق الإنسان في أطوار، وتهيئته ليقوم بما كلف به من أنواع العبادة، حيث جعل الله تعالى له السمع والبصر وسائر الحواس {هل أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئا مذكورا إنا خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج نبتليه فجعلناه سميعا بصيرا} الآيات.
* ثم تحدثت عن النعيم الذي أعده الله في الآخرة لأهل الجنة {إن الأبرار يشربون من كأس كان مزاجها كافورا عينا يشرب بها عباد الله يفجرونها تفجيرا} الآيات.
* ثم ذكرت أوصاف هؤلاء السعداء بشيء من الاسهاب، فوصفتهم بالوفاء بالنذر، وإطعام الفقراء ابتغاء مرضاة الله، والخوف من عذاب الله، وذكرت أن الله تعالى قد آمنهم من ذلك اليوم العبوس، الذي تكلح فيه الوجوه {يوفون بالنذر ويخافون يوما كان شره مستطيرا ويطعمون الطعام على حبه مسكينا ويتيما وأسيرا إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاء ولا شكورا} الآيات.
* وأشادت بعد ذكر أوصافهم بما لهم عند الله من الأجر والكرامة في دار الإقامة، وبما حباهم الله من الفضل والنعيم يوم الدين {وجزاهم بما صبروا جنة وحربرا متكئين فيها على الأرائك لا يرون فيها شمسا ولا زمهريرا ودانية عليهم ظلالها وذللت قطوفها تذليلا} الآيات.
* وتتابعت السورة في سرد نعيم أهل الجنة في مأكلهم، ومشربهم، وملبسهم، وخدمهم الذين يطوفون عليهم صباح مساء {ويطاف عليهم بآنية من فضة وأكواب كانت قواريرا قوارير من فضة قدروها تقديرا ويسقون فيها كأسا كان مزاجها زنجبيلا عينا فيها تسمى سلسبيلا ويطوف عليهم ولدان مخلدون إذا رأيتهم حسبتهم لؤلؤا منثورا} الآيات.
* وختمت السورة الكريمة ببيان أن هذا القرآن تذكرة لمن كان له قلب يعي، أو فكر ثاقب يستضيء بنوره {إن هذه تذكرة فمن شاء اتخذ إلى ربه سبيلا وما تشاءون إلا أن يشاء الله إن الله كان عليما حكيما يدخل من يشاء في رحمته والظالمين أعد لهم عذابا أليما}. اهـ.

.قال أبو عمرو الداني:

سورة الإنسان 76:
مكية وقال جابر بن زيد هي مدنية.
وقد ذكر نظيرتها في المدني الأخير والمكي ولا نظير لها في غيرهما.
وكلمها مائتان واثنتان وأربعون كلمة.
وحروفها ألف وأربعة وخمسون حرفا.
وهي إحدى وثلاثون آية في جميع العدد ليس فيها اختلاف.
وفيها مما يشبه الفواصل أربعة مواضع:
{السبيل} {مسكينا ويتيما} {مخلدون} {رأيت نعيما}.

.ورءوس الآي:

{مذكورا}.
1- {بصيرا}.
2- {كفورا}.
3- {وسعيرا}.
4- {كافورا}.
5- {تفجيرا}.
6- {مستطيرا}.
7- {وأسيرا}.
8- {شكورا}.
9- {قمطريرا}.
10- {وسرورا}.
11- {وحريرا}.
12- {زمهريرا}.
13- {تذليلا}.
14- {قواريرا}.
15- {تقديرا}.
16- {زنجبيلا}.
17- {سلسبيلا}.
18- {منثورا}.
19- {كبيرا}.
20- {طهورا}.
21- {مشكورا}.
22- {تنزيلا}.
23- {أو كفورا}.
24- {وأصيلا}.
25- {طويلا}.
26- {ثقيلا}.
27- {تبديلا}.
28- {سبيلا}.
29- {حكيما}.
30- {أليما}. اهـ.

.فصل في معاني السورة كاملة:

.قال المراغي:

سورة الإنسان:
{هل}: أي قد، {حين}: أي طائفة محدودة من الزمان، و{الدهر}: الزمان غير المحدود، {أمشاج}: أي أخلاط واحدها مشج (بفتحتين) ومشيج، {نبتليه}: أي نختبره، {السبيل}: الطريق، أي بنصب الدلائل وإنزال الآيات.
{أعتدنا}: أي هيأنا وأعددنا، والأغلال: واحدها غلّ (بالضم) وهو القيد، والسعير: النار الموقدة، و{الأبرار}: واحدهم برّ. قال في الصحاح: جمع البر الأبرار، وجمع البارّ البررة، والأبرار هم أهل الطاعة والإخلاص والصدق وقال قتادة: هم الذين يؤدون حق الله ويوفون بالنذر، وقيل هم الصادقون في إيمانهم، المطيعون لربهم، الذين سمت همتهم عن المحقرات، فظهرت في قلوبهم ينابيع الحكمة، والكأس: هي الإناء الذي فيه الشراب، وقد يطلق الكأس على الخمر نفسها وهو للمراد كما قال أبو نواس:
وكأس شربت على لذة ** وأخرى تداويت منها بها

وقال عمرو بن كلثوم:
صبنت الكأس عنا أم عمرو ** وكان الكأس مجراها اليمينا

والمزاج: ما يمزج به كالحزام لما يحزم به، أي يكون شوبها وخلطها بماء الكافور كما قال:
كأن سبيئة من بيت رأس ** يكون مزاجها عسل وماء

وجعلت كالكافور لما فيه من البياض وطيب الرائحة والبرودة، {بها}: أي منها، {يفجرونها}: أي يجرونها إلى منازلهم وقصورهم حيث شاءوا، {يوفون بالنذر}: أي يؤدون ما أوجبوه على أنفسهم من الطاعات، شره: أي شدائده، {مستطيرا}: أي فاشيا منتشرا في الأقطار من قولهم: استطار الحريق والفجر إذا انتشر، {عبوسا}: أي تعبس فيه الوجوه، {قمطريرا}: أي شديد العبوس، تقول العرب يوم قمطرير وقماطر، وأنشد الفراء:
بنى عمنا هل تذكرون بلاءنا عليكم إذ

وقاهم: أي دفع عنهم، لقّاهم: أي أعطاهم، {نضرة}: أي حبورا. قال الحسن ومجاهد: {نضرة} في وجوههم، و{سرورا} في قلوبهم.
{الأرائك}: واحدتها أريكة، وهو السرير في الحجلة (الناموسية) والزمهرير: البرد الشديد، {دانية}: أي قريبة، {ظلالها}: أي ضلال أشجارها، {وذللت}: أي سخرت ثمارها وسهل أخذها وتناولها، والقطوف: الثمار، واحدها قطف (بكسر القاف) و(آنية): واحدها إناء، وهو ما يوضع فيه الشراب، والأكواب: واحدها كوب، وهو كوز لا عروة له، والقوارير: واحدتها قارورة، وهى إناء رقيق من الزجاج، {قدّروها تقديرا}: أي قدرها السقاة على قدر رىّ شاربها، {كأسا}: أي خمرا، والزنجبيل: نبت في أرض عمّان وهو عروق تسرى في الأرض وليس بشجر، ومنه ما يأتى من بلاد الزنج والصين وهو الأجود، قاله أبو حنيفة الدينوري، وكانت العرب تحبه في الشراب، لأنه يحدث لذعا في اللسان إذا مزج بالشراب، قال الأعشى.
كأن القرنفل والزنجبيل ** باتا بفيها وأريا مشورا

والسلسبيل: الشراب اللذيذ، تقول العرب: هذا شراب سلسل وسلسال وسلسبيل: أي طيب الطعم لذيذه، وتسلسل الماء في الحلق: جرى، {مخلدون}: أي دائمون على البهاء والحسن لا يهرمون ولا يتغيرون، {ثمّ}: أي هناك، والسندس: ما رقّ من الديباج، والإستبرق: ما غلظ منه، والأساور: واحدها سوار.
{نزّلنا عليك القرآن تنزيلا}: أي أنزلناه عليك مفرقا منجما، حكم ربك: هو أخير نصرك على الكفار إلى حين، والآثم: هو الفاجر المجاهر بالمعاصي، والكفور: هو المشرك المجاهر بكفره، {بكرة وأصيلا}: أي أول النهار وآخره، والمراد بذلك جميع الأوقات، اسجد: أي صلّ، سبحه: أي تهجد، {وراءهم}: أي أمامهم، {شددنا أسرهم}: أي أحكمنا ربط مفاصلهم بالأعصاب والعروق، {بدّلنا أمثالهم}: أي أهلكناهم وبدلنا أمثالهم في شدة الخلق. اهـ. باختصار.

.قال الفراء:

سورة الإنسان:
{هَلْ أَتَى عَلَى الإنسان حِينٌ مِّنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُن شَيْئاً مَّذْكُوراً}
قوله تبارك وتعالى: {هَلْ أَتَى عَلَى الإنسان حِينٌ مِّنَ الدَّهْرِ..}..
معناه: قد أتى على الإنسان حين من الدهر. {وهل} قد تكون جحدا، وتكون خبرا. فهذا من الخبر؛ لأنك قد تقول: فهل وعظتك؟ فهل أعطيتك؟ تقرره بأنك قد أعطيته ووعظته والجحد أن تقول: وهل يقدر واحد على مثل هذا؟.
وقوله تبارك وتعالى: {لَمْ يَكُن شَيْئاً مَّذْكُوراً..}..
يريد: كان شيئا، ولم يكن مذكورا. وذلك من حين خلقه الله من طين إلى أن نفخ فيه الروح.
{إِنَّا خَلَقْنَا الإنسان مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نبتليه فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً}
وقوله عز وجل: {أَمْشَاجٍ نبتليه..}..
الأمشاج: الأخلاط، ماء الرجل، وماء المرأة، والدم، والعلَقة، ويقال للشيء من هذا إذا خلط: مشيج؛ كقولك: خليط، وممشوج، كقولك: مخلوط.
وقوله: {نبتليه..}. والمعنى والله أعلم: جعلناه سميعا بصيرا لنبتليه، فهذه متقدّمة معناها التأخير، إنما المعنى: خلقناه وجعلناه سميعا بصيرا لنبتليه.
{إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شاكراً وَإِمَّا كفوراً}
وقوله تبارك وتعالى: {إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ..}..
وإلى السبيل، وللسبيل. كل ذلك جائز في كلام العرب. يقول: هديناه: عرّفناه السبيل، شكر أو كفر، و(إما) ها هنا تكون جزاء، أي: إن شكر وإن كفر، وتكون على (إما) التي مثل قوله: {إِما يُعَذِّبهمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ} فكأنه قال: خلقناه شقيا أو سعيدا.
{إِنَّآ أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سلاسل وَأَغْلاَلاً وَسَعِيراً}
وقوله عز وجل: {سلاسل وَأَغْلاَلاً..}..
كتبت {سلاسل} بالألف، وأجراها بعض القراء لمكان الألف التي في أخرها. ولم يجر بعضهم. وقال الذي لم يجر: العرب تثبت فيما لا يجرى الألف في النصب، فإِذا وصلوا حذفوا الألف، وكلٌّ صواب. ومثل ذلك قوله: {كانَتْ قَوَارِيراً} أثبتت الألف في الأولى؛ لأنها رأس آية، والأخرى ليست بآية. فكان ثباتُ الألف في الأولى أقوى لهذه الحجة، وكذلك رأيتها في مصحف عبد الله، وقرأ بها أهل البصرة، وكتبوها في مصاحفهم كذلك. وأهل الكوفة والمدينة يثبتون الألف فيهما جميعا، وكأنهم استوحشوا أن يكتب حرف واحد في معنًى نصب بكتابين مختلفين. فإن شئت أجريتهما جميعا، وإن شئت لم تجرهما، وإن شئت أجريت الأولى لمكان الألف في كتاب أهل البصرة. ولم تجر الثانية إذ لم يكن فيها الألف.
{إِنَّ الأَبْرَارَ يشربونَ مِن كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُوراً}
وقوله عز وجل: {يشربونَ مِن كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُوراً..}..
يقال: إنها عين تسمى الكافور، وقد تكون كان مزاجها كالكافور لطيب ريحه، فلا تكون حينئذ اسماً، والعرب تجعل النصب في أي هذين الحرفين أحبوا. قال حسان:
كأنَّ خبيئَةً من بيت رأْسٍ ** يكونُ مِزاجُها عَسلٌ وماءُ

وهو أبين في المعنى: أن تجعل الفعل في المزاج، وإن كان معرفة، وكل صواب. تقول: كان سيدَهم أبوك، وكان سيدُهم أباك. والوجه أن تقول: كان سيدَهم أبوك؛ لأن الأب اسم ثابت والسيد صفة من الصفات.
{عيناً يشرب بها عِبَادُ الله يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيراً}
وقوله عز وجل: {عيناً..}..
إن شئت جعلتها تابعة للكافور كالمفسِّرة، وإن شئت نصبتها على القطع من الهاء في {مزاجها}.
وقوله عز وجل: {يشرب بها..}.، و{يشربها}.
سواء في المعنى، وكأن يشرب بها: يَروَى بها، وينقَع. وأما يشربونها فبيّن، وقد أنشدنى بعضهم:
شَرِبْنَ بِمَاءِ البحرِ ثمَّ تَرَفَّعتْ ** مَتى لُججٍ خُضْرٍ لَهُنَّ نئيجُ

ومثله: إنه ليتكلم بكلام حسن، ويتكلم كلاماً حسناً.
وقوله عز وجل: {يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيراً..}..
أيها أحب الرجل من أهل الجنة فجرها لنفسه.
{يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْماً كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً}
وقوله عز وجل: {يُوفُونَ بِالنَّذْرِ..}..
هذه من صفاتهم في الدنيا، كأن فيها إضمار كان: كانوا يوفون بالنذر.
وقوله عز وجل: {وَيَخَافُونَ يَوْماً كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً..}..
ممتد البلاء، والعرب تقول: استطار الصدع في القارورة وشبهها، واستطال.
{إِنَّا نَخَافُ مِن رَّبِّنَا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً}
وقوله عز وجل: {عَبُوساً قَمْطَرِيراً..}..
والقمطرير: الشديد، يقال: يوم قمطرير، ويوم قماطر، أنشدنى بعضهم:
بَنِى عمِّنا، هل تذكُرونَ بَلاءَنا ** علَيكُمْ إذا ما كانَ قُمَاطِرُ

{متكئين فِيهَا عَلَى الأَرَائِكِ لاَ يَرَوْنَ فِيهَا شَمْساً وَلاَ زَمْهَرِيراً}
وقوله عز وجلك {متكئين فِيهَا..}..
منصوبة كالقطع. وإن شئت جعلته تابعاً للجنة، كأنك قلت: جزاؤهم جنة متكئين فيها.
{وَدانية عَلَيْهِمْ ظِلاَلُهَا وَذللت قُطُوفُهَا تَذْلِيلاً}
وقوله جل ذكره: {وَدانية عَلَيْهِمْ ظِلاَلُهَا..}..
يكون نصباً على ذلك: جزاؤهم جنة متكئين فيها، ودانية ظلالها. وإن شئت جعلت: الدانية تابعة للمتكئين على سبيل القطع الذي قد يكون رفعاً على الاستئناف. فيجوز مثل قوله: {وَهَذَا بَعْلِى شَيْخاً} {وشيخٌ}، وهى في قراءة أبى: {ودانٍ عليهم ظلالها} فهذا مستأنف في موضع رفع، وفى قراءة عبد الله: {ودانياً عليهم ظلالها}، وتذكير الدانى وتأنيثه كقوله: {خَاشِعاً أبْصَارُهم} في موضع، وفى موضع {خاشعةً أبصارهم}. وقد تكون الدانية منصوبة على مثل قول العرب: عند فلان جاريةٌ جميلةٌ، وشابةً بعد طريةً، يعترضون بالمدح اعتراضاً، فلا ينوون به النسق على ما قبله، وكأنهم يضمرون مع هذه الواو فعلا تكون به النصب في إحدى القراءتين: {وحوراً عيناً}. أنشدنى بعضهم:
ويأوى إلى نسوة عاطلاتٍ ** وشُعثا مراضيعَ مثل السعالِى

بالنصب يعنى: وشعثا، والخفض أكثر.
وقوله عز وجل: {وَذللت قُطُوفُهَا تَذْلِيلاً..}..
يجتنى أهل الجنة الثمرة قياماً وقعوداً، وعلى كل حال لا كلفة فيها.
{وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِّن فِضَّةٍ وَأَكْوابٍ كَانَتْ قَوَارِيرَاْ}
وقوله عز وجل: {كَانَتْ قَوَارِيرَاْ..}..
يقول: كانت كصفاء القوارير، وبياض الفضة، فاجتمع فيها صفاء القوارير، وبياض الفضة.
{قَوَارِيرَاْ مِن فِضَّةٍ قَدَّرُوهَا تَقْدِيراً}
وقوله عز وجل: {قَدَّرُوهَا..}..
قدروا الكأس على رِى أحدهم لا فضل فيه ولا عجز عن ريه، وهو ألذ الشراب.
وقد رَوى بعضهم عن الشعبى: {قُدِّروها تَقْدِيراً}. والمعنى واحد، والله أعلم، قدِّرت لهم، وقدِروا لها سواء.
{وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْساً كَانَ مِزَاجُهَا زَنجَبِيلاً عيناً فِيهَا تُسَمَّى سَلْسَبِيلاً}
وقوله: {كَأْساً كَانَ مِزَاجُهَا زَنجَبِيلاً..}..
إنما تسمى الكأس إذا كان فيها الشراب، فإذا لم يكن فيها الخمر لم يقع عليها اسم الكأس. وسمعت بعض العرب يقول للطبق الذي يُهدى عليه الهدية: وهو المِهْدَى، ما دامت عليه الهدية، فإذا كان فارغا رجع إلى اسمه إن كان طبقاً أو خواناً، أو غير ذلك.
وقوله عز وجل: {زَنجَبِيلاً... عيناً..}..
ذكر أن الزنجبيل هو العين، وأن الزنجبيل اسم لها، وفيها من التفسير ما في الكافور.
وقوله عز وجل: {تُسَمَّى سَلْسَبِيلاً..}..
ذكروا أن السلسبيل اسم للعين، وذكر أنه صفة للماء لسلسلته وعذوبته، ونرى أنه لو كان اسما للعين لكان ترك الإجراء فيه أكثر، ولم نَر أحدا من القراء ترك إجراءها وهو جائز في العربية، كما كان في قراءة عبد الله: {وَلاَ تَذَرُنّ وَدًّا ولا سُوَاعاً ولا يَغُوثاً ويَعُوقاً} بالألف. وكما قال: {سلاسلا}، و{قواريرا} بالألف، فأجروا ما لا يجرى، وليس بخطأ، لأن العرب تجرى ما لا يجرى في الشعر، فلو كان خطأ ما أدخلوه في أشعارهم، قال متمم بن نويرة:
فما وجد أظآرٍ ثلاثٍ روائمٍ ** رأين مَجَرًّا من حُوارٍ ومصْرعَا

فأجرى روائم، وهى مما لا يجرى فيما لا أحصيه في أشعارهم.
{وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُّخَلَّدُونَ إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤاً مَّنثُوراً}
وقوله عز وجل: {مُّخَلَّدُونَ..}..
يقول: محلّون مُسَورون، ويقال: مُقَرطون، ويقال: مخلدون دائم شبابهم لا يتغيرون عن تلك السنن، وهو أشبهها بالصواب- والله أعلم- وذلك أن العرب إذا كبر الرجل، وثبت سواد شعره قيل: إنه لمخلد، وكذلك يقال إذا كبر ونبتت له أسنانه وأضراسه قيل: إنه لمخلد ثابت الحال. كذلك الوُلدانُ ثابتة أسنانهم.
{وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيماً وَمُلْكاً كَبِيراً}
وقوله عز وجل: {وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيماً..}..
يقال: إذا رأيت ما ثَمّ رأيت نعيما، وصلح إضمار (ما) كما قيل: {لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ}. والمعنى: ما بينكم، والله أعلم. ويقال: إذا رأيت ثم، يريد: إذا نظرت، ثم إذا رميت ببصرك هناك رأيت نعيما.
{عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُندُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبرق وَحُلُّواْ أَسَاوِرَ مِن فِضَّةٍ وَسَقَاهُمْ رَبهمْ شَرَاباً طَهُوراً}
وقوله عز وجل: {عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُندُسٍ..}..
نصبها أبو عبدالرحمن وعاصم والحسن البصرى، جعلوها كالصفة فوقهم. والعرب تقول: قومك داخل الدار، فينصبون داخل الدار؛ لأنه مَحَل، فعاليهم من ذلك. وقد قرأ أهل الحجاز وحمزة: {عَالِيهم} بإرسال الياء، وهى في قراءة عبد الله: {عاليتُهم ثيابُ سُنْدُسٍ} بالتاء. وهى حجةٌ لمن أرسل الياءَ وسكنها. وقد اختلف القراء فى: الخضر والسندس، فخفضهما يحيى بن وثاب أراد أن يجعل الخضر من صفة السندس ويكسر على الاستبرق ثيابَ سندس، وثيابَ استبرق، وقد رفع الحسن الحرفين جميعاً. فجعل الخضر من صفة الثياب، ورفع الاستبرق بالرد على الثياب، ورفع بعضهم الخضر، وخفض الاستبرق ورفع الاستبرق وخفض الخضر، وكل ذلك صواب. والله محمود.
وقوله عز وجل: {شَرَاباً طَهُوراً..}..
يقول: طهور ليس بنجس كما كان في الدنيا مذكوراً بالنجاسة.
{فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلاَ تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كفوراً}
وقوله عز وجل: {وَلاَ تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كفوراً..}..
(وُ) ها هنا بمنزلة (لا)، وأو في الجحد والاستفهام والجزاء تكون في معنى (لا) فهذا من ذلك. وقال الشاعر:
لا وَجْدُ ثَكْلَى كما وَجِدْتُ وَلا ** وَجْدُ عَجُولٍ أَضَلَّهَا رُبَعُ

أَوْ وَجْدُ شيخٍ أصَلَّ ناقَتهُ ** يَوْمَ توافَى الحجيجُ فاندفعُوا

أراد: ولا وجد شيخ وقد يكون في العربية: لا تطيعن منهم من أثم أو كفر. فيكون المعنى في (أو) قريباً من معنى (الواو). كقولك للرجل: لأعطينك سَألت، أو سكتَّ معناه: لأعطينك على كل حال.
{نَّحْنُ خَلَقْنَاهُمْ وَشَدَدْنَآ أَسْرَهُمْ وَإِذَا شِئْنَا بَدَّلْنَآ أَمْثَالَهُمْ تَبْدِيلاً}
وقوله عز وجل: {وَشَدَدْنَآ أَسْرَهُمْ..}..
والأسر؛ الخَلْق. تقول: لقد أُسِر هذا الرجل أحسنُ الأسر، كقولك: خُلِقَ أحْسَن الخَلْق.
{إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَن شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبه سَبِيلاً}
وقوله عز وجل: {إِنَّ هَاذِهِ تَذْكِرَةٌ..}..
يقول: هذه السورة تذكرة وعظة. {فَمَن شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبه سَبِيلاً..}. وِجهة وطريقاً إلى الخير.
{وَمَا تَشَاءُونَ إِلاَّ أَن يَشَاءَ الله إِنَّ الله كَانَ عَلِيماً حَكِيماً}
وقوله عز وجل: {وَمَا تَشَاءُونَ..}..
جواب لقوله: {فَمَنْ شَاءَ اتّخذَ إلَى رَبه سَبِيلاً}.
ثم أخبرهم أن الأمر ليس إليهم، فقال: {وَمَا تَشَاءُونَ} ذلك السبيل {إِلاَّ أَن يَشَاءَ الله} لكم، وفى قراءة عبد الله {وَمَا تَشَاءُونَ إِلاَّ أَن يَشَاءَ الله} والمعنى في (ما) و(أن) متقارب.
{يُدْخِلُ مَن يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً}
وقوله عز وجل: {وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ..}..
نصبت الظالمين؛ لأن الواو في لها تصير كالظرف لأعدّ. ولو كانت رفعاً كان صوابا، كما قال: {والشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ} بغير همز، وهى في قراءة عبد الله: {وللظالمين أعد لهم} فكرر اللام في (الظالمين) وفى (لهم)، وربما فعلت العرب ذلك. أنشدنى بعضهم:
أقول لها إذا سألت طلاقا ** إلامَ تسارعين إلى فراقى

وأنشدنى بعضهم:
فأصبحْنَ لا يَسلنهُ عن بما به ** أصعَّد في غاوى الهَوى أم تصوَّبا؟

فكرر الباء مرتين. فلو قال: لا يسلنه عما به، كان أبين وأجود. ولكن الشاعر ربما زاد ونقص ليكمل الشعر. ولو وجهت قول الله تبارك وتعالى: {عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ عن النَّبَإِ الْعَظِيم} إلى هذا الوجه كان صواباً في العربية.
وله وجه آخر يراد: عم يتساءلون يا محمد! ثم أخبر، فقال: يتساءلون عن النبإ العظيم، ومثل هذا قوله في المرسلات: {لأَِىِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ} تعجباً، ثم قال: {ليوم الفصل} أي: أجلت ليوم الفصل. اهـ.

.قال بيان الحق الغزنوي:

سورة الإنسان:
{هل أتى على الإنسان} [1] يمكن تقدير هل على وضعه في الاستفهام ها هنا، كأنه سؤال عن الإنسان: هل أتى عليه هذا؟ فلابد في جوابه من (نعم) ملفوظاً أو مقدراً، ثم يكون المعنى: إن الأمر كما أنه كذلك، فينبغي للإنسان أن يحتقر نفسه، ولا يرتكب ما قبح له. ويبين هذا ما عدد عليه من النعم بعده.
وقوله: {إنا خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج} [2] المشج: الخلط وهي ماء الرجل والمرأة.
قال صلى الله عليه: «أي الماءين سبق أو علا فمنه يكون الشبه».
{نبتليه} [2] نختبره حالاً بعد حال.
{إما شاكراً وإما كفوراً} [3] الفعول للمبالغة والكثرة، وشكر الإنسان قليل بالإضافة إلى كثرة النعم عليه. وعلى العكس فإن كفره وإن قل كثير بالإضافة إلى الإحسان إليه.
{إنا أعتدنا للكافرين سلاسلاً} [4] بالتنوين بمشاكلة قوله: {أغلالاً وسعيراً}. أو أجرى السلاسل مجرى الواحد، فيكون الجمع (سلاسلات)، كما في الحديث: «إنكن صواحبات يوسف».
وكذلك قوله: {قواريرا}، إذ جمعها قواريرات، ولأنها خاتمة الآية، فصرفت ليتفق النظام. وليس هذا المعنى في {قواريرا} الثانية. قال أبو عبيد: رأيت حك الألف في {قوارير} الثانية في المصحف الإمام.
{كان مزاجها كافوراً} [5] أي: في طيب الجنة. قال قتادة: مزج بالكافور، وختم بالمسك. {يفجرونها} [6] يجرونها كيف شاؤوا.
{مستطيراً} [7] منتشراً.
{قمطريراً} [10] شديداً طويلاً.
{لا يرون فيها شمساً ولا زمهريراً} [13] أي: حراً وبرداً. قال المتلمس:
من القاصرات سجوف الحجال ** لم تر شمساً ولا زمهريراً

{قواريرا من فضة} [16] أي: كأنها في بياضها من فضة، على التشبيه بالفضة، وإن لم يذكر حرفه، كما قال:
حلبانة ركبانة صفوف

تخلط بين وبر وصوف

أي: كأن يديها في إسراعها يدا خالط وبراً بصوف.
وعن ابن عباس: إن قوارير كل أرض من تربتها، وأرض الجنة فضة، فقواريرها من فضة.
{كان مزاجها زنجبيلاً} [17] أي: في لذاذة المقطع، لأن الزنجبيل يحذي اللسان، وهو عند العرب من أجود الأوصاف للخمر، قال الأعشى:
كأن القرنفل والزنجبيلا ** باتا بفيها وأرياً مشوراً.

وقال ابن مقبل:
مما تفتق في الحانوت ناطفها ** بالفلفل الجون والرمان مختوم

وقال حسان:
كأن فاها قهوة مزة ** حديثة العهد بفض الختام

من خمر بيسان تخيرتها ** درياقة تسرع فتر العظام

{سلسبيلاً} [18] سميت به لسهولتها وسلاستها.
{عاليهم} [21] نصبه على أنه صفة جعلت ظرفاً، كقوله تعالى: {والركب أسفل منكم}.
{وشددنا أسرهم} [28] خلقهم. تمت سورة الإنسان. اهـ.

.قال الأخفش:

سورة الإنسان:
{إِنَّا خَلَقْنَا الإنسان مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نبتليه فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً}
قال {أَمْشَاجٍ} واحدها: (المَشَج).
{إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شاكراً وَإِمَّا كفوراً}
وقال {إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شاكراً وَإِمَّا كفوراً} كذلك {إِمَّا العَذَابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ} كأنك لم تذكر {إمَّا} [180] وان شئت ابتدأت ما بعدها فرفعته.
{عيناً يشرب بها عِبَادُ الله يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيراً}
وقال {عيناً يشرب بها عِبَادُ الله} فنصبه من ثلاثة أوجه، ان شئت فعلى قوله: {يشربونَ} [5] {عيناً} وان شئت فعلى {يشربونَ مِن كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُوراً} {عيناً} وان شئت فعلى وجه المدح كما يذكر لك الرجل فتقول انت: العاقلَ واللبيبَ. أي: ذكرتَ العاقلَ اللبيبَ. على (أَعْنِي عيناً).
{إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ الله لاَ نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاءً وَلاَ شُكُوراً}
وقال {وَلاَ شُكُوراً} ان شئت جعلته جماعة (الشُكْر) وجعلت (الكُفُور) جماعة (الكُفْر) مثل (الفَلْس) و(الفُلُوس). وان شئت جعلته مصدرا واحدا في معنى جميع مثل: (قَعَد قُعُودا) و(خَرَج خُروجا).
{متكئين فِيهَا عَلَى الأَرَائِكِ لاَ يَرَوْنَ فِيهَا شَمْساً وَلاَ زَمْهَرِيراً وَدانية عَلَيْهِمْ ظِلاَلُهَا وَذللت قُطُوفُهَا تَذْلِيلاً}
وقال {متكئين} على المدح أو على: (جَزَاهُمْ جَنَّةً متكئين فيها) على الحال. وقد تقول (جَزاهُم ذلكَ قِياماً) وكذلك {وَدانية} على الحال أو على المدح، انما انتصابه بفعل مضمر. وقد يجوز في قوله: {وَدانية} أن يكون على وجهين على (وجزاهمْ دانية ظِلاَلُها) تقول: (اَعطَيْتُكَ جَيْداً طَرَفاهُ) و(رأينَا حَسَناً وَجْهُهُ).
{وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْساً كَانَ مِزَاجُهَا زَنجَبِيلاً}
وقال {كَانَ مِزَاجُهَا زَنجَبِيلاً} فنصب العين على اربعة وجوه على (يُسْقَوْنَ عيناً) أو على الحال، أو بدلاً من الكأس أو على المدح والفعل مضمر. وقال بعضهم (أن) (سلسبيل) صفة للعين بالسلسبيل. وقال بعضهم: إِنّما أراد (عيناً تُسَمَّى سَلْسَبِيلاً) أي: تسمى من طِيبها، أيْ: تُوصَفُ للناسِ كما تقول: (الأعوجيّ) و(الأَرْحَبِيّ) و(المَهْرِيّ من الإِبل) وكما تنسب الخيل اذا وصفت إلى هذه الخيل المعروفة والمنسوبة كذلك تنسب العين إلى أنها تسمى (سَلسبيلا) لأن القرآن يدل على كلام العرب. قال الشاعر وانشدناه يونس هكذا: من الكامل وهو الشاهد الرابع والسبعون بعد المئتين:
صَفْراءُ مِنْ نَبْعٍ يُسَمَّى سَهْمُها ** مِنْ طُولِ ما صَرَعَ الصُّيُودَ الصَّيِّبُ

فرفع (الصيِّب) لأنه لم يرد (يسمى سهمها بالصيِّب) انما (الصيِّب) من صفة الاسم والسهم. وقوله (يسمى سهمها): يُذْكَرُ سهمُها. وقال بعضهم: لا بل هو اسم العين وهو معرفة ولكن لما كان رأس آية وكان مفتوحاً زدت فيه الألف كما كانت {قَوَارِيرَاْ} [15].
{وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيماً وَمُلْكاً كَبِيراً}
وقال {وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيماً} يريد ان يجعل {رأَيْتَ} لا تتعدى كما يقول: (ظننت في الدار خيرٌ) لمكان ظنه وأخبر بمكان رؤيته. اهـ.

.قال ابن قتيبة:

سورة الدهر:
1- {هَلْ أَتى عَلَى الإنسان} قال المفسرون: (أراد: قد أتي على الإنسان).
2- {أَمْشاجٍ}: أخلاط، يقال: مشجته فهو مشيخ. يريد: اختلاط ماء الرجل بماء المرأة، {نبتليه...}: أي إنا جعلناه سمعيا بصيرا، لنبتليه بذلك.
7- {كانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً} أي فاشيا منتشرا. يقال: استطار الحريق، إذا انتشر. واستطار الفجر: إذا انتشر الضوء.
10- {يَوْماً عَبُوساً} أي يوما تعبس فيه الوجوه. فجعل عبوسا من صفة اليوم، كما قال: {فِي يَوْمٍ عاصِفٍ} [إبراهيم آية: 18]، أراد: عاصف الريح.
و (القمطرير): الصعب الشديد. يقال: يوم قمطرير وقماطر، إذا كان صعبا شديدا أشدّ ما يكون من الأيام، وأطوله في البلاء. ويقال: المعبس الوجه.
14- {وَذللت قُطُوفُها تَذْلِيلًا} أي أدنيت منهم. ممن قولك: حائط ذليل، إذا كان قصير السّمك.
ونحوه قوله: {قُطُوفُها دانية}. و(القطوف): الثمر، واحدها: (قطف).
و (التذليل) أيضا: تسوية العذوق. يقول أهل المدينة: ذلّل النخل، أي سوي عذوقه.
15- و(الأكواب): كيزان لا عري لها. واحدها: كوب.
16- {قَوارِيرَا مِنْ فِضَّةٍ} مفسر في كتاب (تأويل المشكل).
ق {دَّرُوها تَقْدِيراً} على قدر الرّيّ.
17- و18- {كانَ مِزاجُها زَنْجَبِيلًا} يقال: هو اسم العين. وكذلك (السلسبيل): اسم العين.
قال مجاهد: السلسبيل: الشديدة الجرية.
وقال غيره: السلسبيل: السّلسة اللينة.
وأمّا (الزنجبيل): فإن العرب تضرب به المثل وبالخمر ممتزجين. قال المسيّب ابن علس يصف فم المرأة:
وكان طعم الزنجبيل به- إذ ذقته- وسلافة الخمر.
21- و(السندس) و(الإستبرق) قد تقدم ذكرهما.
28- {وَشَدَدْنا أَسْرَهُمْ} أي خلقهم. يقال: امرأة حسنة الأسر، أي حسنه الخلق: كأنها أسرت، أي شدّت.
وأصل هذا من (الإسار) وهو: القدّ الذي يشدّ به الأقتاب.
يقال: ما احسن ما اسر قتبه! أي ما احسن ما شدّه بالقد! وكذلك امرأة حسنة العصب، إذا كانت مدمجة الخلق: كأنها عصّبت، أي شدت. اهـ.

.قال الغزنوي:

ومن سورة الإنسان:
2 {أَمْشاجٍ}: المشج: الخلط، وهي ماء الرّجل والمرأة.
قال عليه السلام: «أيّ الماءين سبق فمنه الشّبه».
3 {إِمَّا شاكراً وَإِمَّا كفوراً}: ال (فعول) للمبالغة والكثرة، وشكر الإنسان قليل وكفرانه كثير.
4 {سلاسلا}: بالتنوين لتشاكل أَغْلالًا وَسَعِيراً أو أجرى (السلاسل) مجرى الواحد والجمع (السلاسلات)، وفي الحديث: «إنكنّ صواحبات يوسف».
5 {كانَ مِزاجُها كافُوراً}: مزج بالكافور وختم بالمسك.
6 {يُفَجِّرُونَها}: يجرونها كيف شاؤوا.
7 {مُسْتَطِيراً}: منتشرا.
10 {قَمْطَرِيراً}: شديدا طويلا.
16 {قَوارِيرَا مِنْ فِضَّةٍ}: أي: كأنها في بياضها من فضة على التشبيه من غير أداة أراد به.
قال ابن عبّاس: «قوارير كلّ أرض من تربتها وأرض الجنة فضة».
17 {مِزاجُها زَنْجَبِيلًا}: أي: في لذاذة المقاطع، والزّنجبيل يحذى اللسان، وهو عند العرب من أجود أوصاف الخمر.
21 {عالِيَهُمْ}: نصبه على أنه صفة جعلت ظرفا، كقوله: {وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ}.
28 {أَسْرَهُمْ}: خلقهم. قال المبرد: الأسر القوى كلها، وأصله القدّ يشدّ به الأقتاب. وقيل: أسير لأنّه مشدود بالقدّ. اهـ.

.قال ملا حويش:

تفسير سورة الإنسان:
عدد 12- 98 و76.
نزلت بالمدينة بعد سورة الرّحمن.
وهي إحدى وثلاثون آية.
ومائتان وأربعون كلمة.
وألف وأربعمائة وخمسون حرفا.
وتسمى سورة الدّهر.
بِسْمِ الله الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
قال تعالى: {هَلْ أَتى} قال أكثر المفسرين معناه قد مضى.
وظاهره استفهام للحمل على الإقرار بما دخلت عليه هل الاستفهامية، أي مضى عليه زمن كثير ولم يدر ما هو على المعنى الأول، والمقرر به من ينكر البعث لأنهم يقولون مضى على انسان دهور وهو كذلك، أي قولوا لهم إن الذي أوجده بعد أن لم يكن، كيف يمتنع عليه إعادته بعد موته؟ ثم بين كيف كان وما آل إليه فقال عز قوله مرّ {عَلَى الإنسان} آدم عليه السلام في بداية خلقه {حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ} مدة كثيرة وهي من معاني الحين {لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً} ولم يدر ما هو وما يراد به لأنه عبارة عن هيكل مصنوع من طين لا حراك به.
وهذا الاستفهام على المعنى الثاني تقريري يجاب ببلى أي أنه مر عليه زمن طويل وهو مجندل مصور من الطّين لم يذكره ولم يعلم بأنه سيكون بشرا، وتتولد منه هذه الخلائق وما قيل أن آدم صور وطرح بين مكة والطّائف ينفيه ما رواه مسلم عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «لما صور الله آدم في الجنّة تركه ما شاء الله أن يتركه، فجعل إبليس يطوف به وينظر إليه فلما رآه أجوف علم أنه خلق لا يتمالك» أي لا يملك نفسه ويحبسها عن الشّهوات، وإذا كان كذلك فمن الممكن التسلط عليه وإغواؤه، قال تعالى: {إِنَّا خَلَقْنَا الإنسان} المذكور بعد أن كوناه من التراب جعلنا ذريته مخلوقة {مِنْ نُطْفَةٍ} حقيرة {أَمْشاجٍ} ممزوجة من ماء المرأة والرّجل يقال مشجت الشّيء بمعنى مزجته وخلطته، وإنا بعد أن خلقناه على هذه الصّورة {نبتليه} فنختبره ونمتحنه بأوامرنا ونواهينا بعد أن نركب فيه العقل ونصيّره قادرا على تمييز الخير من الشّر {فَجَعَلْناهُ} بعد تمام خلقه وكمال حواسه على الصّورة المبينة في الآية 17 فما بعدها من سورة المؤمن {سَمِيعاً بَصِيراً} قدم السّمع على البصر لأنه أفضل منه، لأن الأعمى يمكن التفاهم معه بخلاف الأطرش، وخصّ هاتين الحاستين من بين الحواس العشر المشار إليها في الآية 73 من سورة يوسف لعظم فضلهما {إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ} السوي في دنياه وبينا له عاقبة الخير والشّر وأعطيناه عقلا يميز به النّفع من الضّر، وجعلنا له الخيار فيما يريد {إِمَّا شاكراً} يكون لنعمنا هذه مقدرها حق تقديرها موحدا لإلهيتنا مؤمنا بقدرتنا آخذا بإرشاد رسلنا {وَإِمَّا كفوراً} بذلك جحودا لما أوليناه من النّعم كافرا برسلنا وكتبنا.
هذا، وقال ابن عباس إنه بقي مئة وعشرين سنة، يريد أربعين سنة طينا وأربعين صلصالا، وأربعين حمأة، وقال الفخر إن الحين له معنيان الأوّل أنه طائفة من الزمن الطّويل الممتد وغير مقدر في نفسه، والثاني مقدر بأربعين سنة وبالنظر للأحاديث الواردة في هذا الشّأن المعبرة للأول وهو الأولى، والله أعلم {إِنَّا أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ} بنا في الآخرة {سلاسل} يوثقون بها بأرجلهم {وَأَغْلالًا} تربط بها أيديهم وأعناقهم {وَسَعِيراً} نارا موقدة تحرقهم {إِنَّ الْأَبْرارَ} الشاكرين لنعمنا قد هيأنا لهم الجنّة يدخلونها مع الشّهداء {يشربونَ مِنْ كَأْسٍ} راجع معناه في الآية 18 من سورة الواقعة {كانَ مِزاجُها كافُوراً} من حيث بياضه ورائحته وبرده وهذا اسم لعين الماء التي يخلط بها شرابهم لا الكافور المعروف، لأنه لا يشرب، ومما يدل على ما ذكرناه قوله تعالى: {عيناً} بدل من كافور {يشرب بها عِبادُ الله يُفَجِّرُونَها تَفْجِيراً} إلى حيث شاءوا وأرادوا من قصورهم وخيامهم، لأن التفجير شق الشّيء بان يجروها جداول إلى حيث شاءوا في مساكنهم وغيرها بمجرد إشارتهم إليها، وقد أعطوا هذا الشّيء العظيم في الآخرة لأنهم في الدّنيا كانوا {يُوفُونَ بِالنَّذْرِ} الذي أوجبوه على أنفسهم لذلك فإن الله تعالى وفّى لهم ما وعدهم به وأوجبه على نفسه تفضلا منه إذ لا واجب عليه.

.مطلب في الحين والنّذر والكرم وأنواعه وثوابه وأول من سنه:

روى البخاري ومسلم عن ابن عباس قال استفتى سعد بن عبادة رسول الله صلى الله عليه وسلم في نذر كان على أمه فتوفيت قبل أن تقضيه فأمره أن يقضيه عنها وفي هذا دليل على وجوب الوفاء بالنّذر أما إذا كان معصية فلا، فقد روى البخاري عن عائشة قالت سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول «من نذر أن يطيع الله فليف بنذره، ومن نذر أن يعصيه فلا يف به». وعنها قال: «لا نذر في معصية الله وكفارته كفارة يمين»- أخرجه الترمذي- وأبو داود والنّسائي.
{وَيَخافُونَ يَوْماً} عظيما لأن تنكيره يدل على هول ما فيه من الفزع {كانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً} منتشرا على الخلائق والسّموات والأرضين وما فيهما {وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ} في الدّنيا قصد الثواب ابتغاء مرضاة الله تعالى: {عَلى حُبه} وحاجتهم إليه ويؤثرون على أنفسهم {مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً}ويقولون لمن يتفضلون عليهم {إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ الله لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزاءً وَلا شُكُوراً} لئلا يعزم المحتاجون على مكافتهم وتكون طيبة أنفسهم ويتأثمون من المن والأذى بنفقاتهم قائلين {إِنَّا نَخافُ مِنْ رَبِّنا يَوْماً عَبُوساً} وجه أهله المفرطين بدنياهم {قَمْطَرِيراً} شديد الا كفهرار تتغير فيه الوجوه حتى لا تكاد تعرف وعليه قوله:
واصطليت الحروب في كلّ يوم ** باسل الشّر قمطرير الصّباح

أي إنما يقصدون بإحسانهم الوقاية من هول ذلك اليوم فقط لا لأمر آخر.
{فوقاهم الله شَرَّ ذلِكَ الْيَوْمِ} جزاء إطعامهم واعتقادهم وإحسانهم للوقاية من هوله وحسن ظنهم بالله والله عند حسن ظن عبده {وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً} بهاء وبهجة في وجوههم {وَسُرُوراً} في قلوبهم أشرق لمعانه على وجوههم، لأن فرح القلب يبعث الانطلاق على الوجه فيظهر الابتسام عليه وهو نوره {وَجَزاهُمْ بِما صَبَرُوا} على إيثار الفقراء على أنفسهم وعلى فعل الطّاعات والكف عن المعاصي وأذى النّاس إليهم {جَنَّةً وَحَرِيراً} يلبسونه في تلك الجنّة {متكئين فِيها عَلَى الْأَرائِكِ} الأسرة الجميلة خلال الحجال، ولا تسمى أريكة إلّا وهي فيها {لا يَرَوْنَ فِيها} أي تلك الجنّة {شَمْساً وَلا زَمْهَرِيراً} (13) لا حرا ولا بردا مزعجين وليسوا بحاجة إلى ضوء الشّمس والقمر لأن الجنّة مضيئة بنفسها بنور ربها المشرق عليها قال تعالى وأشرقت الأرض (أي أرض الجنّة) بنور ربها الآية 69 من سورة الزمر، والزمهرير هو القمر على لغة طيء وعليه قولهم:
وليلة ظلامها قد اعتكر قطعتها والزمهرير ما زهر أي ما درّ وما طلع {وَدانية عَلَيْهِمْ ظِلالُها} الحاصلة من أشجارها بدليل قوله {وَذللت قُطُوفُها تَذْلِيلًا} أي سخرت للتناول تسخيرا كما يشاء طالبها بحيث يتمكن من قطعها على أي حالة كان راجع الآية 54 من سورة الرّحمن، وقيل المراد بتذليلها ثقل حملها وليس بشيء إذ لا فضل لهم به، والقصد هنا تفضيلهم وإكرامهم حتى في مثل هذا {وَيُطافُ عَلَيْهِمْ} بواسطة الجوار الحسان {بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ} كؤوس ملأى من الشّراب اللذيذ لها عرى {وَأَكْوابٍ} كيزان لا عرى لها {كانَتْ} هذه الأوان والأكواب {قَوارِيرَا} شفافة لطيفة ليست بجام بل هي {قَوارِيرَا مِنْ فِضَّةٍ} جامعة بين بياض الفضة وحسنها وصفاء الجام ولطافته بحيث يرى الشّراب من خارجها وتتلون بلون ما فيها {قَدَّرُوها تَقْدِيراً} لدى الرّجل الواحد بلا زيادة ولا نقص وهذا يكون في غاية اللّذة، وهكذا كلّ ما في الجنّة كامل طيب {وَيُسْقَوْنَ فِيها كَأْساً} ملأي خمرا لم تمزج بماء بل {كانَ مِزاجُها زَنْجَبِيلًا} اسم لعين ماء خاص لمزج شراب الأبرار، ولهذا أبدل منه {عيناً فِيها تُسَمَّى سَلْسَبِيلًا} كانت العرب تضع الزنجبيل في شرابهم لما فيه من الرّائحة واللّذع، قال المسيب ابن علس:
وكأن طعم الزنجبيل إذا ذقته وسلافة الخمر

وقال الأعشى:
كان القرنفل والزنجبيل ** باتا بفيها وأره مشورا

الأرى العسل، والمشور المستخرج من بيوت النّحل.
وقد ذكره الله تعالى لأنه كان مستطابا عند العرب، والآن يضعون اليانسون في شرابهم قبح الله شاربيه إذا ماتوا مدمنين عليه، وسميت هذه العين سل سبيلا كأنها تقول لأهل الجنّة اختاروا أي طريق تريدون أن أجري فيه إلى قصوركم وخيامكم.
وقدمنا وصف خمرة الآخرة في الآية 18 من سورة الواقعة والآية 25 من المطففين فراجعهما {وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ} راجع الآية 17 من سورة الواقعة المذكورة في معنى مخلدون، لأن معنى الخلد هنا لا يتم عن كبير معنى، لأن الخلود في الجنّة لمن فيها محقق وكلّ ما فيها خالد فلا حاجة لذكر خلود خدمها وهي دار الخلد، بل معناه مقرطون، وقيل مسوّرون أي لابسون أقراطا وأسورة من ذهب كالمخدومين، راجع الآية 24 من سورة الحج الآتية فيشابهون أسيادهم من هذه الجهة، وان إلباس العبيد يشير إلى عظمة الأسياد في الدّنيا، لأنا نرى بعض الشيوخ يلبسون عبيدهم أحسن منهم، فلأن يكون في الآخرة من باب أولى {إِذا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤاً مَنْثُوراً} في البياض والحسن والكثرة و{إِذا رَأَيْتَ ثَمَّ} هناك يا سيد الرّسل في تلك الجنان الباهرة {رَأَيْتَ نَعِيماً} عظيما لا يوصف بهاؤه {وَمُلْكاً كَبِيراً} لا يقدر قدره وإن أهل هذه الجنان.
{عالِيَهُمْ} لباسهم الفوقي كالعباءة والملحفة والجبة وهو مبتدأ خبره {ثِيابُ سُندُسٍ} هو ما، رقّ من الحرير {خُضْرٌ وَإِسْتَبرق} هو أثخنه {وَحُلُّوا أَساوِرَ مِنْ فِضَّةٍ} وقد مر في سورة فاطر يحلون فيها من أساور من ذهب الآية 23 وفي آية الحج الآتية في ذهب ولؤلؤ الآية 23، وعليه يكون المعنى أن كلا من أهل الجنّة يلبس اسورة من فضة وذهب ولؤلؤ، ومن هنا تعلم أن أهل الدّنيا لما صاروا يوسون اللّؤلؤ بالذهب ويتحلون به أخذوه من كتاب الله {وَسَقاهُمْ رَبهمْ شَراباً طَهُوراً} لم تلمسه يد ولم تدنسه رجل، لأنه صنع الله بكلمة كن {إِنَّ هذا} المذكور كله وأضعافه {كانَ لَكُمْ} أيها المؤمنون {جَزاءً} لأعمالكم الصّالحة {وَكانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُوراً} عند ربكم محمودا مرضيا، لأن أعمالكم في الدّنيا كانت مرضية عنده، ولأنكم قلتم للفقراء لا نريد منكم جزاء ولا شكورا، لمثل هذا فليعمل العاملون أيها النّاس، وبه فليتنافس المتنافسون.
نعمت جزاء المؤمنين الجنه ** دار الأمالي والمنى والمنه

من الزرابي فرشها أي صاح ** ترى بها الحرام كالمباح

و هذه الآيات عامة في كلّ مؤمن يعمل مثل هذا العمل، وإن سبب نزولها على ما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أن عليا كرم الله وجهه كان عمل ليهودي بشعير، فأصلحوا هو وزوجته فاطمة رضي الله عنهما وخادمته فضة قسما منه ليأكلوه، فجاءهم مسكين فأعطوه إياه، ثم أصلحوا القسم الآخر فجاءهم يتيم فأعطوه إياه، ثم أصلحوا باقيه وعند ما تم نضجه أتاهم أسير فدفعوه له، وباتوا طاوين شاكرين الله على ذلك، لأنهم تصدقوا بما عندهم مع احتياجهم إليه، وهذا معنى قوله تعالى: {عَلى حُبه} إذا صح لا يخصصها فيه عليه السلام دون غيره بل يشمل عمومها كل من عمل عمله لعموم اللفظ، ويدخل فيها هو دخولا أوليا، كيف وهو من بيت الكرم، لأن أول من سن القرى جده ابراهيم عليه السلام وأول من هشم الثريد جده هاشم، وأول من أفطر جيرانه على مائدته في الإسلام عمه عبد الله بن عباس، وهو أول من وضع الموائد على الطّريق وكان إذا خرج الطّعام من بيته لا يرد منه شيئا بل يتركه لمن يأكله وهو أول من وضع الطّعام على الطّرق للمسافرين والقافلين، وهذه سنة لم يسبقه بها أحد من أجواد الجاهلية والإسلام مثل حاتم وهرم بن سنان وكعب بن مامه وغيرهم.
قالوا وقد جدد هذه السّنة الأخيرة من أكارم العرب صفوك الجرياء شيخ عشائر شمر في الجزيرة جد مشعل باشا الموجود الآن وجد عجيل الياور القاطن في الموصل كثر الله الكرام وأدام نعمه عليهم في الدنيا والآخرة.
ومما قاله معدن الكرم عبد الله بن عباس:
إذا طارقات الهم ضاجعت الفتى ** وأعمل فكر اللّيل واللّيل عاكر

وباكرني في حاجة لم يجد بها سواي ** ولا من نكبة الدّهر ناصر

فرجت بما لي همه من مقامه ** وزايله هم طروق مسافر

وكان له فضل عليّ بظنه بي ** الخير إني للذي ظن شاكر

و من مروءة ابن عمه عبد الله بن جعفر أنه أسلف الزبير الف درهم، فلما توفي الزبير قال ابنه عبد الله له اني أجد في كتب أبي أن له عليك الف الف درهم قال هو صادق فاقبضها إن شئت، ثم لقيه بعد ذلك، فقال يا أبا جعفر اني واهم المال لك على أبي، قال فهو له، فقال لا أريد ذلك، قال فاختر إن شئت فهو له، وإن كرهت ذلك فلك فيه نظرة ما شئت، فانظروا أيها النّاس أين هؤلاء الكرام ألا يوجد من يتأسى بهم فينال الثناء من النّاس في الدّنيا والثواب من الله في الآخرة، ولكن النّاس ويا للأسف حرصوا على الدّنيا بحبهم لحطامها الذي يسهل لهم كلّ شيء كما قيل:
وإذا رأيت صعوبة في مطلب ** فاحمل صعوبته على الدّينار

وابعثه فيما تشتهيه فإنه ** حجر يلين قوة الأحجار

فخير للناس من أن يجمعوه ويتركوه فيحاسبوا عليه أن يصرفوه في طرق الخير، وينالوا ثوابه، اللهم وفقنا لما فيه خيرنا وفلاحنا.
قال تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنا عَلَيْكَ القرآن تَنْزِيلًا} كثيرا، المرة بعد المرة لأن التشديد يفيد التكثير والتضعيف، إذ أنزل آية آية، وخمس خمس، وسورة سورة، كما اقتضته حكمة الله.
وفي هذه الآية ردّ على الكافرين والمنافقين القائلين إنه سحر وكهانة وشعر واختلاق وتعلم وخرافات {فَاصْبِرْ} يا حبيبي على أذى قومك وتحمل ثقلهم، فقد آن أن يأتيك الفرج العام والنّصر المبين، فانتظر {لِحُكْمِ رَبِّكَ} بهذا إلى أن يأتي الوقت المقدر للفتح العظيم الذي وعدناك به {وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كفوراً} وإنما وصمهم بهاتين الخصلتين لأنهم أحد رجلين: إما كثير الإثم كأهل الكتابين أو مشرك كأهل مكة وحلفاهم من العرب، وإن كلا منهم يدعو إلى ما هو عليه.
هذا ولا يصح نزول هذه الآية في عتبة بن ربيعة والوليد بن المغيرة أو في أبي جهل كما قاله بعض المفسرين، لأنهم قتلوا قبل نزولها ولا قائل بأنها مكية أو أن هذه الآية مستثناة منها، وكون مجيئها مسوقة على ما كان منهم عند حدوث ذكرهم بعيد أيضا، ولهذا فإنها عامة مطلقة في كلّ من هو كذلك.
قال تعالى: {وَاذْكُرِ} يا سيد الرّسل {اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلًا} أول النّهار وآخره، وهذا إشارة إلى صلاة الصّبح والظّهر والعصر {وَمِنَ اللَّيل فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلًا طَوِيلًا} وهذه اعلام بصلاة المغرب والعشاء والتطوع، والقصد منها إدامة ذكر الله تعالى ليل نهار وفي كلّ حال، واعلم يا سيد الرّسل {إِنَّ هؤُلاءِ} الكفرة والمنافقين {يُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ} متوغلين في الدّنيا متهالكين عليها ولذلك يعرضون عنك لأنك تدعوهم إلى ضدها، ولكنهم لا يريدون الآخرة التي تدعوهم إليها لأنهم لم يصدقوا بوجودها ويرون إجابة طلبك بالرشد والنّصح صعبا عليهم قال:
ومكلف الأيام ضد طباعها ** متطلّب في الماء جذوة نار

وهيهات ذلك لأن الآخرة لمن يؤمن بالغيب الذي تخبر به وهم جاحدون له كافرون به مقتصرون على الدّنيا {وَيَذَرُونَ وَراءَهُمْ يَوْماً ثَقِيلًا} عليهم وقعه شديدا بلاؤه، ولو علموه لجعلوه أمامهم صباح مساء ولكن لم يعرفوه فتركوه وراءهم، ولم يلتفتوا إليه، قال تعالى: {نَحْنُ خَلَقْناهُمْ وَشَدَدْنا أَسْرَهُمْ} مفاصلهم بالأعصاب ليتمكنّوا من القيام والقعود والأخذ والدّفع والقبض والبسط ولو لا هذا الرّبط المحكم بهذا النّظام البديع لما انتفعنا بجوارحنا وحق لمن فعل هذا معنا أيها النّاس الشّكر والطّاعة لا الكفر والمعصية {وَإِذا شِئْنا بَدَّلْنا أَمْثالَهُمْ تَبْدِيلًا} فجعلناهم على صور أخرى وأهلكناهم وخلقنا قوما غيرهم يشكرون ويطيعون ليعلموا أنا قادرون على إحيائهم بعد الموت، كما نحن قادرون على تبديلهم الآن، وهذه الآية بمعنى الآية 27 من سورة النّساء {إِنَّ هذِهِ} الآيات المندرجة في هذه السّورة {تَذْكِرَةٌ} عظيمة وعظة بليغة لمن يوفقه الله لامتثالها والقيام بمقتضاها {فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبه سَبِيلًا} بالتذكر فيها واتباع سبيل النّجاح الموصل إلى النّجاة {وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ الله} لأن الأمر كله له وحده فلا تقدرون على طاعته إلّا بتوفيقه وإرادته ولا ينكفون عن معصيته إلّا بمشيئته وأمره {إِنَّ الله كانَ عَلِيماً} بأحوال خلقه وما يؤل إليه حالهم في الدّنيا والآخرة {حَكِيماً} مصيبا بما يفعله بخلقه.
{يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ} بهدايته لدينه القويم وتأهيله لها {وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ} باختيارهم المعاصي وظلمهم أنفسهم وغيرهم {عَذاباً أَلِيماً} في الآخرة لا تطيقه قواهم لأنه علم إصرارهم على الكفر فلم يوفقهم للتوبة ولم يهديهم لسلوك طريقة السّوي فاستحقوا العذاب الدّائم بسوء نيتهم. هذا والله أعلم.
وأستغفر الله ولا حول ولا قوة إلّا بالله العلي العظيم وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وآله وأصحابه وأتباعه أجمعين.
والحمد للّه رب العالمين. اهـ.

.فصل في الوقف والابتداء في آيات السورة الكريمة:

.قال زكريا الأنصاري:

سورة الإنسان:
مكية أو مدنية.
{مذكورا} كاف.
{نبتليه} تام عند بعضهم.
{بصيرا} حسن.
{كفورا} تام وكذا {سعيرا}.
{تفجيرا} حسن.
{مستطيرا} صالح وكذا {ولا شكور}.
{قمطريرا} تام.
{وسرورا} صالح وكذا {على الأرائك} و{تذليلا} وهو أصلحها.
{كانت قواريرا} كاف وكذا {تقديرا} و{سلسبيلا}.
والعامة تقف على {إذا رأيت ثم} وليس بشيء لأن الجواب بعده.
{كبيرا} صالح.
{وإستبرق} كاف.
{من فضة} صالح.
{طهورا} كاف.
{مشكورا} تام.
{تنزيلا} حسن وكذا {كفورا}.
{وأصيلا} تام. وكذا {ثقيلا}.
{أسرهم} كاف.
{تبديلا} تام.
{تذكرة} صالح.
{سبيلا} حسن.
{حكيما} كاف.
{في رحمته} تام وكذا آخر السورة. اهـ.

.قال أحمد عبد الكريم الأشموني:

سورة الإنسان:
مكية أو مدنية.
إحدى وثلاثون آية إجماعاً.
وكلمها مائتان واثنتان وأربعون كلمة.
وحروفها ألف وأربعة وخمسون حرفاً.
وفيها مما يشبه الفواصل وليس معدوداً إجماعاً خمسة مواضع:
{السبيل} و{مسكيناً} و{يتيماً} و{مخلدون} و{رأيت نعيماً}.
{مذكوراً} كاف.
{أمشاج} حسن عند بعضهم.
و {نبتليه} جواب بعد سؤال سائل قال كيف كان خلق الإنسان فقال {نبتليه} أي نختبره {فجعلناه سميعاً بصيراً} وقال جمع أمشاج نبتليه.
وقال آخرون الوقف على آخر الآية على التقديم والتأخير أي فجعلناه سميعاً بصيراً لنبتليه وهو الكافي والأمشاج الأخلاط واحدها مشج بفتحتين أو مشج كعدول أعدال أو مشيج كشريف وأشراف قاله ابن الأعرابي.
قال الزمخشري ومشجه ومزجه بمعنى والمعنى من نطفة امتزج فيها المان قاله السمين وقيل عروق النطفة وقيل ألوانها وقيل ماء الرجل وماء المرأة وهما لونان فماء الرجل أبيض ثخين وماء المرأة أصفر رقيق وأيهما علا ماؤه كان الشبه له قال أبو حاتم الوقف التام {نبتليه} وبه يتم المعنى لأنَّه في موضع الحال من فاعل {خلقنا} أي خلقناه حال كوننا مبتلين له أو من الإنسان.
وقال الفراء ليس بتام لأنَّ المعنى على التقديم والتأخير أي فجعلناه سميعاً بصيراً لنبتليه في الدنيا بالتكليف وغلط في هذا لآنَّ الآية ليس فيها لام ولا المعنى على ما قاله وقد يبتلى ويختبر وهو صحيح وإن لم يكن سميعاً بصيراً وردَّ عليه بعين ما علل به لأنَّ من شرط التام أن لا يتعلق بما بعده وتتم الفائدة بما دونه فإذا جعل على التقديم والتأخير فكيف يتم الوقف على {نبتليه} وأبى بعضهم هذا الوقف وجعل موضع {نبتليه} نصباً حالاً أي خلقناه مبتلين له أي مريدين ابتلاءه كقولك مررت برجل معه صقر صائداً به غداً أي قاصداً به الصيد غداً.
قال أبو عثمان {أمشاج نبتليه} ابتلى الله الخلق بتسعة أمشاج ثلاث مفتنات وثلاث كافرات وثلاث مؤمنات فالمفتنات سمعه وبصره ولسانه والكافرات نفسه وهواه وشيطانه والمؤمنات عقله وروحه وملكته فإذا أيد الله العبد بالمعونة سلط العقل على القلب فملكه وأسرت النفس الهوى فلا يجد إلى الجراءة سبيلاً فجانست النفس الروح وجانس الهوى العقل وصارت كلمة الله هي العليا وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة.
{سميعاً بصيراً} حسن.
{كفوراً} تام. ومثله {وسعيراً}.
ولا يوقف على {كافوراً} لأنَّ {عيناً} منصوب بدلاً من {كافوراً} أي وماء عين أو بدلاً من محل {من كأس} أو مفعول {يشربون} أو حالاً من الضمير في {مزاجها} وإن نصب على الاختصاص جاز الوقف على {كافوراً}.
{عباد الله} جائز.
{تفجيراً} حسن.
بالنذر جائز..
{ويخافون يوماً} ليس بوقف ونصب على أنَّه مفعول به فليس هو بمعنى في.
{مستطيراً} حسن.
{على حبه} ليس بوقف لأنَّ ما بعده مفعول ثان لـ: {يطعمون} فلا يقطع منه وهو مصدر مضاف للمفعول أي على حب الطعام فهو حال من الطعام أو من الفاعل.
وأسيراً حسن ومثله {لوجه الله} وكذا {ولا شكوراً} لأنَّ الكلام متحد في صفة الأبرار.
{قمطريراً} تام.
{شرّ ذلك} اليوم حسن ومثله {وسروراً}.
ولا يوقف على {حريراً} لأنَّ {متكئين} حال من مفعول {جزاهم} ولا يجوز أن يكون صفة لـ: {جنة} عند البصريين لأنَّه كان يلزم بروز الضمير فيقال متكئين هم فيها لجريان الصفة على غير من هي له خلافاً للزمخشري حيث جوز أن يكون {متكئين} و{لا يرون} و{دانية} كلها صفات لـ: {جنة} ولا يجوز أن يكون حالاً من فاعل {صبروا} لأنَّ الصبر كان في الدنيا واتكاؤهم إنَّما هو في الآخرة قاله مكي انظر السمين.
{على الأرائك} حسن على استئناف ما بعده.
ولا يوقف على {زمهريرا} لأنَّ {ودانية} منصوب بالعطف على {جنة} كأنَّه قال جزاؤهم حنة ودانية عليهم ظلالها أي وشجرة دانية عليهم ظلالها وانظر قول السمين {ودانية} عطف على محل لا {يرون} مع أنَّه لا يعطف إلاَّ على محل الحرف الزائد وما هنا ليس كذلك.
{تذليلاً} جائز ومثله {كانت قوارير} كاف. أي أنَّ أهل الجنة قدَّروا الأواني في أنفسهم على أشكال مخصوصة فجاءت كما قدورها تكرمة لهم جعلها السقاة على قد رويّ شاربيها.
{زنجبيلاً} ليس بوقف لأنَّ {عيناً} بدل من {زنجبيلاً} فلا يفصل بين البدل والمبدل منه بالوقف وإن نصبت عيناً على الاختصاص جاز.
{سلسبيلاً} كاف.
وأغرب بعضهم ووقف على {وإذا رأيت ثم} فكأنَّه حذف الجواب تعظيماً لوصف ما رأى المعنى وإذا رأيت الجنة رأيت ما لا تدركه العيون ولا يبلغه علم أحد كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «فيها ما لا عينٌ رأت ولا أذنٌ سمعت ولا خطر على قلب بشر» وما أرادوه ليس بشيء لأنَّ ثم ظرف لا يتصرف فلا يقع فاعلاً ولا مفعولاً وغلط من أعربه مفعولاً لـ: {رأيت} لأنَّه لا مفعول لها لا ظاهراً ولا مقدراً خلافاً للأخفش والفراء ليكون أشيع لكل مرئي وزعم الفراء أن تقديره إذا رأيت ما ثم وهذا غير جائز عند البصريين لأنَّ ثم صلة لما ولا يجوز حذف الموصول وترك الصلة بل تقديره إذا وجدت الرؤية في الجنة رأيت نعيما.
و{كبيراً} جائز لمن قرأ {عاليهم} بإسكان الياء مبتدأ خبره {ثياب} وهو حمزة ونافع والباقون بنصبها ظرفاً أو حالاً من الضمير في {يطوف عليهم} أو في {حسبتهم} أي يطوف عليهم ولدان مخلدون عالياً للمطوف عليهم ثياب أو حسبتهم لؤلؤاً عاليهم ثياب ومحلها نصب حال وليس بوقف لمن قرأ {عاليهم} بالنصب على الحال مما قبله.
{وإستبرق} كاف على القراءتين أعني برفعه أو جره فمن رفعه عطفه على {ثياب} ومن جره عطفه على {سندس} وهمزة {إستبرق} همزة قطع.
{من فضة } حسن. على استئناف ما بعده.
{طهوراً} كاف.
{جزاء} جائز.
{مشكوراً} تام.
{تنزيلاً} كاف..
{لحكم ربك} جائز.
{أو كفوراً} حسن.
{وأصيلاً} كاف.
{فاسجد له} جائز.
{طويلاً} كاف.
{العاجلة} حسن.
{ثقيلاً} كاف.
{أسرهم} حسن ومعناه خلقهم.
{تبديلاً} تام.
{تذكرة} حسن للابتداء بالشرط مع الفاء.
{سبيلاً} كاف.
{إلا أن يشاء الله} حسن على استئناف ما بعده.
{حكيماً} كاف. وقيل تام على استئناف ما بعده وليس بوقف إن جعل متصلاً بما قبله.
{في رحمته} كاف.
{والظالمين} منصوب بمقدر أي وعذب الظالمين ولا يجوز أن يكون معطوفاً على {من} أي يدخل من يشاء في رحمته ويدخل الظالمين أو وعذب الظالمين أعدَّ لهم.
وتام على قراءة الحسن {والظالمون} بالرفع.
آخر السورة تام.. اهـ.

.فصل في ذكر قراءات السورة كاملة:

.قال ابن جني:

سورة الإنسان:
بِسْمِ الله الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
قرأ: {وَاسْتَبرق}، بوصل الألف، وفتح القاف- ابن محيصن.
قال أبو الفتح: قد تقدم القول على هذا عند قول الله تعالى: {بَطَائِنُهَا مِنْ إِسْتَبرق} وغيره.
ومن ذلك قراءة عبد الله بن الزبير وأبان بن عثمان: {والظالمون أعدّ}، بالواو.
قال أبو الفتح: هذا على ارتجال جلمة مستأنفة، كأنه قال: الظالمون أعد لهم عذابا أليما، ثم إنه عطف الجملة على ما قبلها. وقد سبق الرفع إلى مبتدئها، غير أن الذي عليه الجماعة أسبق، وهو النصب. ألا ترى أن معناه يدخل من يشاء في رحمته ويعذب الظالمين؟ فلما أضمر هذا الفعل فسره بقوله: {أَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا}، وهذا أكثر من أن يؤتى له بشاهد. اهـ.

.قال الدمياطي:

سورة الإنسان:
مكية وقيل مدنية إلا آية {ولا تطع} إلخ وقيل من {فاصبر} الخ.
وآيها إحدى وثلاثون.
مشبه الفاصلة خمسة:
{السبيل} و{قوارير} الثاني {مخلدون} {نعيما} وعكسه {قوارير} الأول.
القراءات:
أمال {أتى} حمزة والكسائي وخلف وقلله الأزرق بخلفه.
واختلف في {سلاسل} الآية 4 فنافع وهشام من طريق الحلواني والشذائي عن الداجوني وأبو بكر والكسائي وأبو جعفر ورويس عن طريق أبي الطيب بالتنوين للتناسب لأن ما قبله منون منصوب. وقال الكسائي وغيره من الكوفيين إن بعض العرب يصرفون جميع ما لا ينصرف إلا أفعل التفضيل وعن الأخفش يصرفون مطلقا وهم بنو أسد لأن الأصل في الأسماء الصرف والوقف في هذه القراءة بالألف بدل التنوين وعن الحسن والشنبوذي كذلك والباقون بالمنع من الصرف على الأصل بلا تنوين لكونه جمع تكسير بعد ألفه حرفان كمساجد وهو رواية زيد عن الداجوني وهؤلاء في الوقف على ثلاث فرق منهم من وقف بالألف بلا خلاف وهو أبو عمرو وروح من طريق المعدل وافقه اليزيدي ومنهم من وقف بغير ألف كذلك وهم حمزة وخلف وزيد عن الداجوني عن هشام ورويس من غير طريق أبي الطيب وروح من غير طريق المعدل وافقهم المطوعي واختلف عن الباقين وهم ابن كثير وابن ذكوان وحفص وافقهم ابن محيصن فروى الحمامي عن النقاش عن أبي ربيعة وابن الحباب عن البزي وابن شنبوذ عن قنبل وغالب العراقيين عن ابن ذكوان وأكثر المغاربة عن حفص كل هؤلاء بالألف عمن ذكر ووقف عنهم بغير ألف باقي أصحاب النقاش عن أبي ربيعة عن البزي وابن مجاهد عن قنبل والنقاش عن الأخفش عن ابن ذكوان والعراقيون عن حفص وأطلق الوجهين عنهم في التيسير.
وأمال {فوقاهم الله} و{لقاهم} و{جزاهم} و{تسمى} و{سقاهم} وحمزة والكسائي وخلف وبالفتح والصغرى الأزرق.
وحذف أبو جعفر همز {متكئين} كوقف حمزة في أحد وجهيه والثاني بين بين على القياس.
واختلف في {قوارير قوارير} الآية 15 فنافع وابو بكر والكسائي وأبو جعفر بتنوينها معا لأنهما كسلاسل جمعا وتوجيها غير أن السلاسل على مفاعل و{قوارير} على مفاعيل ووقفوا عليهما بالألف للتناسب موافقة لمصاحفهم وافقهم الحسن والأعمش وعن الأعمش وجه آخر رفعهما بلا تنوين على إضمار مبتدأ أي هي.
وقرأ ابن كثير وخلف عن نفسه بالتنوين في الأول وبدونه في الثاني مناسبة لرؤوس الآي في الأول ووقفا بالألف في الأول وبدونها في الثاني وافقهما ابن محيصن.
وقرأ أبو عمرو وابن عامر وحفص وروح بغير تنوين فيهما ووقفوا على الأول بالألف لكونه رأس آية بخلف عن روح في الوقف وعلى الثاني بدونها إلا هشاما فاختلف عنه في الثاني من حيث الوقف من طريق الحلواني فوقف عليه بالألف عنه المغاربة وبدونها عنه المشارقه وافقهم اليزيدي.
وقرأ حمزة ورويس بغير تنوين فيهما أيضا ووقفا بغير ألف فيهما ومرضم هاء عليهم لحمزة ويعقوب.
ويوقف لحمزة على {لؤلؤا} بوجه واحد وهو إبدال الأولى واوا ساكنة والثانية واوا مفتوحة وافقه في الأولى أبو عمرو بخلفه وأبو بكر وأبو جعفر.
ويوقف لرويس على {ثم} بهاء السكت بخلفه.
واختلف في {عاليهم} الآية 21 فنافع وحمزة وأبو جعفر بسكون الياء خبر مقدم و{ثياب} مبتدأ مؤخر وافقهم ابن محيصن والحسن وعن المطوعي كذلك مع ضم الهاء والباقون بفتح الياء وضم الهاء على أنه حال من الضمير المجرور في {عليهم} أو من مفعول {حسبتهم} أو على الظرفية خبرا مقدما لـ: {ثياب} كأنه قيل فوقيهم.
واختلف في {خضر وإستبرق} الآية 21 فنافع وحفص بالرفع فيهما فرفع {خضر} على النعت لثياب {وإستبرق} نسقا على {ثياب} على حذف مضاف أي وثياب إستبرق وافقهما الحسن لكنه بغير تنوين في {إستبرق} وهمزة القطع.
وقرأ ابن كثير وأبو بكر بخفض الأول ورفع الثاني فـ: {خضر} نعت لـ: {سندس} وفيه وصف المفرد بالجمع وأجازه الأخفش وأجيب عنه بأنه اسم جنس وقيل جمع لسندسه واسم الجنس يوصف بالجمع قال تعالى {السحاب الثقال} {وإستبرق} نسق على {ثياب} على ما مر وافقهما ابن محيصن إلا أنه لم ينونه وعنه بخلف وصل همزة القطع.
وقرأ أبو عمرو وابن عامر وأبو جعفر ويعقوب برفع الأول وخفض الثاني فـ: {خضر} نعت لـ: {ثياب} {وإستبرق} نسق على {سندس} أي ثياب خضر من سندس ومن إستبرق وافقهم اليزيدي.
وقرأ حمزة والكسائي وخلف بخفضهما فـ: {خضر} نعت لـ: {سندس} على ما مر {وإستبرق} نسق على {سندس} وافقهم الأعمش.
واختلف في {وما تشاؤون} الآية 30 هنا فابن كثير وأبو عمر وابن عامر بخلف عنه من روايتيه بالياء من تحت وافقهم ابن محيصن والحسن واليزيدي والباقون بالتاء من فوق والوجهان صحيحان عن ابن عامر من روايتي هشام وابن ذكوان كما في النشر أي من طريقي كل منهما كما يفهم منه وخرج موضع التكوير المتفق على الخطاب فيه.
المرسوم في كل الرسوم {سلاسل} و{كانت قواريرا} بألف مكان التنوين.
واختلفوا في {قوارير من فضة} ففي بعضها بألف وفي بعضها بدونها.
واتفقوا على حذف ألف {عليهم}. اهـ.

.قال عبد الفتاح القاضي:

سورة الدهر:
{نبتليه}، {بصيرا} {شاكرا}، {وسعيرا}، {كأس}، {يفجرونها تفجيرا}، {مستطيرا}، {وأسيرا} {قمطريرا}، {وحريرا}، {زمهريرا}، {عليهم}، {تقديرا} {كأسا}، لا يخفى ما فيه.
{وسلاسل} قرأ المدنيان وهشام وشعبة والكسائي التنوين وصلا وبإبداله ألفا وقفا، والباقون بحذف التنوين وصلا.
واختلفوا في الوقف فوقف أبو عمرو وروح بالألف وحمزة وقنبل ورويس وخلف من غير ألف مع إسكان اللام. ولحفص والبزي وابن ذكوان وجهان وقفا: الأول كأبي عمرو وروح، والثاني كحمزة ومن معه.
{متكئين} قرأ أبو جعفر بحذف الهمزة في الحالين ولحمزة في الوقف عليه وجهان: الأول كأبي جعفر والثاني التسهيل بين بين.
{قوارير قوارير} قرأ المدنيان وشعبة والكسائي بالتنوين فيهما وبإبداله ألفا وقفا، وقرأ ابن كثير وخلف في اختياره بالتنوين في الأول وبتركه في الثاني ووقفا على الأول بالألف وعلى الثاني بحذفها مع إسكان الراء، وأبو عمرو وابن عامر وروح وحفص بترك التنوين فيهما ووقفوا على الأول بالألف وعلى الثاني بحذفها مع إسكان الراء إلا هشاما فوقف على الثاني بالألف أيضا. وقرأ حمزة ورويس بترك التنوين فيهما وإذا وقفا حذفا الألف فيهما مع إسكان الراء.
{سلسبيلا} آخر الربع.
الممال:
رءوس الآي الممالة:
{صلى}، {وتولى}، {يتمطى}، {فأولى} معا، {سدى}، {يمنى}، {فسوى}، {والأنثى}، {الموتى}، وهي معدودة إجماعا، وقد أمالها كلها الأخوان وخلف ووافقهم شعبة على إمالة شعبة على إمالة {سدى} فقط وقللها كلها البصري وورش بلا خلاف عنهما.
ما ليس برأس آية:
{بلى}، و{ألقى}، و{أولى} معا، و{أتى}، و{فوقاهم}، و{لقاهم}، و{جزاهم} و{تسمى} بالإمالة للأصحاب والتقليل لورش بخلف عنه.
{للكافرين} بالإمالة للبصري والدوري رويس وبالتقليل لورش.
المدغم الصغير:
{بل تحبون} للأخوين وهشام.
الكبير:
{لا أقسم بيوم}، {ولا أقسم بالنفس}، {نجمع عظامه}، {الدهر لم}، {يشرب بها}.
{لؤلؤا} أبدل الهمزة الأولى ووا ساكنة شعبة والسوسي وأبو جعفر مطلقا وكذلك حمزة إن وقف ويبدل حمزة أيضا الثانية عند الوقف واوا محضة.
{ثم} وقف عليه رويس بهاء السكت وغيره بتركها.
{عاليهم} قرأ المدنيان وحمزة بإسكان الياء ويلزمه كسر الهاء وغيرهم بنصب الياء ويلزمه ضم الهاء.
{خضر وإستبرق} قرأ نافع وحفص برفع الراء والقاف. وابن كثير وشعبة بخفض الأول ورفع الثاني وأبو جعفر والبصريان والشامي برفع الأول وخفض الثاني، والأخوان وخلف بخفضهما.
{القرآن}، و{سبحه}، {شئنا}، {تذكرة}، جلي.
{تشاءون} قرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر بياء الغيبة وغيرهم بتاء الخطاب وثلاثة البدل لورش واضحة. اهـ.

.فصل في حجة القراءات في السورة الكريمة:

.قال ابن خالويه:

ومن سورة الإنسان:
قوله تعالى: {سلاسل} يقرأ بالتنوين وتركه فالحجة لمن نون انه شاكل به ما قبله من رؤوس الآي لانها بالالف وان لم تكن رأس آية ووقف عليهما بالالف والحجة لمن ترك التنوين قال هي على وزن فعالل وهذا الوزن لأن ينصرف الا في ضرورة شاعر وليس في القرآن ضرورة وكان ابو عمرو يتبع السواد في الوقف فيقف بالالف ويحذف عند الادراج.
قوله تعالى: {كانت قواريرا قوارير} يقرآن معا بالتنوين وبالالف في الوقف وبطرح التنوين فيهما والوقف على الاول وعلى الثاني بغير ألف إلا ما روي عن حمزة انه كان يقف عليهما بغير الف فالحجة لمن قرأهما بالتنوين انه نون الأولى لأنها رأس آية وكتابتها في السواد بألف وأتبعها الثانية لفظا لقربها منها وكراهية للمخالفة بينهما وهما سيان كما قال الكسائي {ألا إن ثمود كفروا ربهم ألا بعدا لثمود} فصرف الثاني لقربه من الاول والحجة لمن ترك التنوين انه أتى بمحض قياس العربية لأنه على وزن فواعيل وهذا الوزن نهاية الجمع المخالف لبناء الواحد فهذا ثقل وهو مع ذلك جمع والجمع فيه ثقل ثان فلما اجتمع فيه ثقلان منعاه من الصرف.
فأما الوقف عليه في هذه القراءة بالالف فاتباع للخط ولان من العرب من يقول رأيت عمرا فيقف على ما لا ينصرف بالالف ولزم حمزة القياس وصلا ووقفا.
وأراد بقوله: {من فضة} صفاء لونها وانها تؤدي ما داخلها كما يؤدي الزجاج.
قوله تعالى: {عاليهم} يقرأ بفتح الياء وسكونها فالحجة لمن فتح انه جعله ظرفا من المكان لأن الثاني فيه غير الاول كما تقول فوقك السقف وامامك الخير والحجة لمن أسكن انه جعله اسما واراد به ان الاول هو الثاني كما تقول فوقك رأسك وامامك طهرك فهذا فرق ما بين الظرف والاسم في هذا القبيل وما اشبهه فمن فتح الياء ضم الهاء ومن اسكنها كسر الهاء.
قوله تعالى: {خضر وإستبرق} يقرآن بالرفع والخفض فالحجة لمن رفع انه جعل الخضر نعتا للثياب وعطف الاستبرق عليها ودليله قوله {يلبسون ثيابا خضرا} على النعت والحجة لمن خفض انه جعل الخضر نعتا للسندس وجعل الاستبرق عطفا على سندس واصله بالعجمية استبره فعربته العرب فقالت استبرق وهو الديباج الغليظ.
قوله تعالى: {وما تشاؤون} يقرأ بالياء والتاء وقد تقدم ذكره فيما سلف. اهـ.

.قال ابن زنجلة:

76- سورة الإنسان:
{إنا أعتدنا للكفرين سلسلا وأغللا وسعيرا}
قرأ نافع وأبو بكر والكسائي {سلاسلا} بالتنوين، وقرأ الباقون {سلاسل} بغير تنوين لأن فعالل لا تنصرف وكل جمع ثالثه ألف وبعدها حرف مشدد أو حرفان خفيفان أو أكثر فإنه لا ينصرف في معرفة ولا نكرة نحو مساجد قال الله تعالى {مساجد يذكر فيها اسم الله كثيرا}.
وحجة من صرف أمران أحدهما ذكر الفراء فقال إن العرب تجري ما لا يجري في الشعر فلو كان خطأ ما أدخلوه في أشعارهم فكذلك هؤلاء اجروا سلاسلا قال الشاعر:
فما وجد أظآر ثلاث روائم

فأجرى روائم والوجه الثاني أنهم اتبعوا مرسوم المصاحف في الوصل والوقف لأنها مكتوبة بالألف وإن لم تكن رأس آية فهي تشاكل رؤوس الآي لأن بعده {أغلالا} و{سعيرا} و{أكواب كانت قواريرا قواريرا من فضة قدروها تقديرا} 16، 15.
قرأ نافع وأبو بكر والكسائي {قواريرا قواريرا} منونا كلاهما وإذا وقفوا وقفوا عليهما بالف اتباعا للمصحف ولأن الأولى راس آية وكرهوا أن يخالفوا بين لفظين معناهما واحد كما قرأ الكسائي {ألا إن ثمودا كفروا ربهم ألا بعدا لثمود}فصرف الثاني لقربه من الأول.
قرأ ابن كثير {قواريرا} منونا و{قوارير من فضة} بغير تنوين وهو الاختيار لأن الأولى رأس آية وليست الثانية كذلك.
فمن قرأ {قواريرا قواريرا} بإجرائهما جميعا كانت له ثلاث حجج إحداهن أن يقول نونت الأولى لأنها رأس آية ورؤوس الآيات جاءت بالتنوين كقوله {مذكورا} {سميعا} {بصيرا} فنون الأولى ليوافق بين رؤوس الآيات ونون الثاني على ا لجوار للأول.
والحجة الثانية أن العرب تجري ما لا يجرى في كثير من كلامها من ذلك قول عمرو بن كلثوم:
كأن سيوفنا فينا وفيهم ** مخاريق بأيدي لاعبينا

فأجرى مخاريق.
والثالثة اتباع المصاحف وذلك أنهم جميعا في مصاحف أهل الحجاز والكوفة بالألف.
وقرأ أبو عمرو وابن عامر وحمزة وحفص {قوارير قوارير} بغير تنوين وهو محض العربية لأن فواعل لا تنصرف في معرفة ولا نكرة ووقفوا على الأولى بالألف لأنها رأس آية وآيتها على الألف ووقفوا على الثانية بغير ألف لأنها ليست برأس آية ووقف حمزة بغير ألف فيهما.
قوله {كانت قوارير قوارير من فضة} يقول كانت كصفاء القوارير وبياض الفضة فاجتمع فيها صفاء القوراير وبياض الفضة {قدروها تقديرا} أي قدروا الكأس على ري أحدهم لا فضل فيه ولا عجز عن ريه.
{عليهم ثياب سندس خضر وإستبرق 21}
قرأ نافع وحمزة {عاليهم} ساكنة الياء وهي في موضع رفع على الابتداء وخبره {ثياب سندس} لأن العالي هو الثياب.
وقرأ الباقون عاليهم بفتح الياء على الحال قال الزجاج نصب على الحال من شيئين أحدهما من الهاء والميم المعنى يطوف على الأبرار ولدان مخلدون على الأبرار ثياب سندس لأنه قد وصفت أحوالهم في الحنة فيكون المعنى يطوف عليهم في هذه الحال هؤلاء ويجوز أن يكون حالا من الولدان المعنى إذا رأيته حسبتهم لؤلؤا منثورا في حال علو الثياب إياهم وقال قوم نصب على الظرف بمعنى فوقهم.
وقرأ ابن كثير وأبو بكر {ثياب سندس خضر} خفضا {وإستبرق} رفعا، وقرأ أبو عمرو وابن عامر {خضر} رفع {وإستبرق} خفض وقرأ نافع وحفص بالرفع فيهما، وقرأ حمزة والكسائي بالخفض فيهما.
فمن قرأ {خضر} بالرفع فهو أحسن لأنه يكون نعتا للثياب ولفظ الثياب لفظ الجمع وخضر لفظها لفظ الجمع، ومن قرأ {خضر} فهو من نعت السندس والسندس في المعنى راجع إلى الثياب، ومن قرأ {إستبرق} بالرفع فهو نسق على ثياب المعنى وعليهم إستبرق ومن خفض فهو نسق على السندس وثياب إستبرق.
ويكون المعنى عليهم ثياب من هذين النوعين ثياب سندس وإستبرق، وأجود هذه الوجوه قول أبي عمرو ومن معه فرفع الخضر لأنه صفة مجموعة لموصوف مجموع فأتبع الخضر الذي هو جمع مرفوع الجمع المرفوع الذي هو ثياب وأما {إستبرق} فجر من حيث كان جنسا أضيف إليه الثياب كما اضيف إلى {سندس} فاضاف الثياب إلى الجنسين كما تقول ثياب خز وكتان ويدل على ذلك قوله تعالى: {ويلبسون ثيابا خضرا من سندس وإستبرق} وأما خفض {خضر} و{إستبرق} بالرفع فإنه أجرى الخضر وهو جمع على السندس لما كان المعنى أن الثياب من هذا الجنس.
وأجاز أبو الحسن الأخفش وصف بعض هذه الأجناس بالجمع فقال تقول أهلك الناس الدينار الصفر والدرهم البيض والصفر والبيض جمعان والدرهم لفظه واحد أراد به الجنس وما تشاءون إلا أن يشاء الله 30.
قرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر {وما يشاؤون} بالياء ردوه على قوله {ويذرون وراءهم} 27 و{نحن خلقناهم وشددنا أسرهم} فجعلوا قوله {يشاؤون} خبرا عنهم إذ أتى في سياق الخبر عنهم ليأتلف الكلام على نظام واحد.
وقرأ الباقون {وما تشاءون} بالتاء على الخطاب وإنما خاطبهم بذلك بعد انقضاء الخبر عنهم ولأن الخطاب يدخل فيه معنى الخبر فهو أوعب. اهـ.

.فصل في فوائد لغوية وإعرابية وبلاغية في جميع آيات السورة:

.قال في الجدول في إعراب القرآن الكريم:

سورة الإنسان:
بِسْمِ الله الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

.[الإنسان: آية 1]

{هَلْ أَتى عَلَى الإنسان حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً (1)}

.الإعراب:

{هل} حرف استفهام للتقرير، {على الإنسان} متعلّق بـ {أتى}، {حين} فاعل {أتى} مرفوع.
جملة: {أتى... حين} لا محلّ لها ابتدائيّة.
وجملة: {لم يكن..}. في محلّ نصب حال من {الإنسان}.

.الصرف:

{حين}، اسم بمعنى المدّة غير المحدودة الكثيرة أو القليلة، وزنه فعل بكسر فسكون.
{الدهر}، اسم للزمان الممتدّ غير المحدود، وزنه فعل بفتح فسكون.
{مذكور}، اسم مفعول من الثلاثيّ ذكر، وزنه مفعول.

.[الإنسان: آية 2]

{إِنَّا خَلَقْنَا الإنسان مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشاجٍ نبتليه فَجَعَلْناهُ سَمِيعاً بَصِيراً (2)}.

.الإعراب:

{من نطفة} متعلّق بـ {خلقنا}، {أمشاج} نعت لـ {نطفة} مجرور (الفاء) عاطفة {سميعا} حال منصوبة من المفعول بتضمين الفعل معنى خلقناه {بصيرا} حال ثانية منصوبة..
جملة: {إنّا خلقنا..}. لا محلّ لها استئناف بيانيّ.
وجملة: {خلقنا..}. في محلّ رفع خبر إنّ.
وجملة: {نبتليه..}. في محلّ نصب حال من فاعل {خلقنا} أو من المفعول.
وجملة: {جعلناه..}. في محلّ رفع معطوفة على جملة {خلقنا..}.

.الصرف:

{أمشاج}، جمع مشج زنة فعل بفتحتين أو بفتح فسكون بمعنى خليط.

.[الإنسان: آية 3]

{إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ إِمَّا شاكراً وَإِمَّا كفوراً (3)}.

.الإعراب:

{إمّا} حرف لتفصيل الأحوال {شاكرا} حال من مفعول {هديناه} منصوبة (الواو) عاطفة..
جملة: {إنّا هديناه..}. لا محلّ لها استئنافيّة.
وجملة: {هديناه..}. في محلّ رفع خبر إنّ.

.البلاغة:

في قوله تعالى: {إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ إِمَّا شاكراً وَإِمَّا كفوراً..}..
فعند ما كان الشكر قليلا من يتصف به قال {شاكرا...}، فعبّر عنه باسم الفاعل، للدلالة على قلته، وأما إيراد الكفور بصيغة المبالغة، لمراعاة الفواصل، والإشعار بأن الإنسان قلما يخلو من كفران ما، فهو كثير من يتصف به، ويكثر وقوعه من الإنسان.

.الفوائد:

- {إمّا}:
وهي حرف شرط وتفصيل، ولها خمسة معان:
1- الشك نحو: (جاءني إما حسن وإما حسين) إذا لم تعلم الجائي منهما.
1- الشك نحو: (جاءني إما حسن وإما حسين) إذا لم تعلم الجائي منهما.
2- الإبهام، كقوله تعالى: {وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ الله إِمَّا يُعَذِّبهمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ..}..
3- التخيير، كقوله تعالى: {إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقى}.
4- الإباحة، نحو (جالس إما الحسن وإما ابن سيرين).
5- التفصيل، كقوله تعالى: {إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ إِمَّا شاكراً وَإِمَّا كفوراً}.
و (إما) يبنى الكلام معها- من أول الأمر- على ما جيء بها لأجله، من شك وغيره، لذلك وجب تكرارها في غير ندور، و(أو) يفتتح الكلام معها على الجزم، ثم يطرأ الشك أو غيره، ولهذا لم تتكرر.

.[الإنسان: آية 4]

{إِنَّا أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ سلاسل وَأَغْلالاً وَسَعِيراً (4)}.

.الإعراب:

{للكافرين} متعلّق بـ {أعتدنا}، ومنع {سلاسل} من التنوين لأنه جمع على صيغة منتهى الجموع.
جملة: {إنّا أعتدنا..}. لا محلّ لها استئنافيّة.
وجملة: {أعتدنا..}. في محلّ رفع خبر إنّ.

.[الإنسان: الآيات 5- 10]

{إِنَّ الْأَبْرارَ يشربونَ مِنْ كَأْسٍ كانَ مِزاجُها كافُوراً (5) عيناً يشرب بها عِبادُ الله يُفَجِّرُونَها تَفْجِيراً (6) يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخافُونَ يَوْماً كانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً (7) وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبه مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً (8) إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ الله لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزاءً وَلا شُكُوراً (9) إِنَّا نَخافُ مِنْ رَبِّنا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً (10)}

.الإعراب:

{من كأس} متعلّق بـ {يشربون}، {عينا} بدل من {كافورا} منصوب، {بها} متعلّق بـ {يشرب} بتضمينه معنى يلتذّ أو يرتوي، {تفجيرا} مفعول مطلق منصوب.
جملة: {إنّ الأبرار يشربون..}. لا محلّ لها استئنافيّة.
وجملة: {يشربون..}. في محلّ رفع خبر إنّ.
وجملة: {كان مزاجها كافورا..}. في محلّ جرّ نعت لكأس.
وجملة: {يشرب بها..}. في محلّ نصب نعت لـ عينا وجملة: {يفجّرونها..}. في محلّ نصب حال من فاعل يشرب.
7- {بالنذر} متعلّق بـ {يوفون}، {يوما} مفعول به منصوب..
وجملة: {يوفون..}. لا محلّ لها استئناف بيانيّ- أو تعليل لما سبق- وجملة: {يخافون..}. لا محلّ لها معطوفة على جملة يوفون.
وجملة: {كان شرّه مستطيرا..}. في محلّ نصب نعت لـ {يوما}.
8- (الواو) عاطفة {على حبه} حال من الفاعل أو المفعول..
وجملة: {يطعمون..}. لا محلّ لها معطوفة على جملة يوفون.
9- {إنّما} كافّة ومكفوفة {لوجه} متعلّق بحال من فاعل نطعم، {لا} نافية {منكم} متعلّق بـ {نريد} {لا} الثانية زائدة لتأكيد النفي {شكورا} معطوف على {جزاء} منصوب مثله.
وجملة: {نطعمكم..}. في محلّ نصب مقول القول لقول مقدّر هو حال من فاعل {يطعمون} أي: يطعمون الطعام قائلين إنّما نطعمكم..
وجملة: {لا نريد..}. في محلّ نصب حال من فاعل {نطعمكم}.
10- {من ربّنا} متعلّق بـ {نخاف}..
وجملة: {إنّا نخاف..}. لا محلّ لها تعليليّة.
وجملة: {نخاف..}. في محلّ رفع خبر إنّ.

.الصرف:

(5) {مزاجها}: اسم لما يمزج به، وزنه فعال بكسر الفاء.
{كافورا}، اسم للمادّة المعروفة ذات اللون الأبيض والرائحة الطيّبة، وقد يكون علما لعين ماء في الجنّة، وزنه فاعول مشتقّ من الكفر وهو الستر، قيل لأنه يغطّي الأشياء برائحته.
(7) {يوفون}: فيه إعلال بالتسكين وإعلال بالحذف، أصله يوفيون..
استثقلت الضمّة على الياء فسكّنت ونقلت الضمّة إلى الفاء قبلها، ثمّ حذفت الياء لالتقائها ساكنة مع الواو.. وزنه يفعون.. وفيه أيضا حذف الهمزة من أوّله حذفا قياسيّا فهو مضارع أوفى مثل أكرم فحذفت الهمزة من المضارع كما حذفت من (يكرم).
{مستطيرا}، اسم فاعل من السداسيّ استطار بمعنى انتشر، مشتقّ من الطيران، وقال الفرّاء: المستطير المستطيل، وزنه مستفعل بضمّ الميم وكسر العين، وفيه إعلال بالتسكين أي تسكين الياء.
(10) {عبوسا}: صيغة مبالغة- أو صفة مشبهة- من الثلاثيّ عبس، وزنه فعول بفتح الفاء.
{قمطريرا}، اسم بمعنى الشديد من الأيام أو الشرّ، وزنه فعلليل.

.البلاغة:

المجاز: في قوله تعالى: {يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً..}..
وصف اليوم بالعبوس، مجاز على طريقين: أن يوصف بصفة أهله من الأشقياء، كقولهم: نهارك صائم- وأن يشبه في شدته وضرره بالأسد العبوس أو الشجاع الباسل.

.[الإنسان: الآيات 11- 19]

{فوقاهم الله شَرَّ ذلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً (11) وَجَزاهُمْ بِما صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيراً (12) متكئين فِيها عَلَى الْأَرائِكِ لا يَرَوْنَ فِيها شَمْساً وَلا زَمْهَرِيراً (13) وَدانية عَلَيْهِمْ ظِلالُها وَذللت قُطُوفُها تَذْلِيلاً (14) وَيُطافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوابٍ كانَتْ قَوارِيرَا (15) قَوارِيرَا مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوها تَقْدِيراً (16) وَيُسْقَوْنَ فِيها كَأْساً كانَ مِزاجُها زَنْجَبِيلاً (17) عيناً فِيها تُسَمَّى سَلْسَبِيلاً (18) وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ إِذا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤاً مَنْثُوراً (19)}

.الإعراب:

(الفاء) عاطفة وكذلك (الواو)، {شرّ} مفعول به ثان منصوب وكذلك {نضرة}..
جملة: {وقاهم الله..}. لا محلّ لها معطوفة على جملة {يوفون}...
وجملة: {لقّاهم..}. لا محلّ لها معطوفة على جملة {وقاهم الله}..
12- (الواو) عاطفة (ما) حرف مصدريّ {جنّة} مفعول به ثان منصوب..
وجملة: {جزاهم..}. لا محلّ لها معطوفة على جملة (وقاهم الله).
وجملة: {صبروا..}. لا محلّ لها صلة الموصول الحرفيّ (ما).
والمصدر المؤوّل: {ما صبروا..}. في محلّ جرّ بالباء متعلّق بـ {جزاهم} و(الباء) سببيّة.
13- {متكئين} حال منصوبة من ضمير المفعول في {جزاهم}، {فيها} متعلّق بحال من الضمير في {متكئين}، فهي متداخلة {على الأرائك} متعلّق بـ {متكئين} {لا} نافية {فيها} متعلّق بـ {يرون}، {لا} الثانية زائدة لتأكيد النفي.
وجملة: {لا يرون..}. في محلّ نصب حال ثانية من ضمير {جزاهم}.
14- (الواو) عاطفة في الموضعين {دانية} معطوفة على {متكئين} {عليهم} متعلّق بـ {دانية} بمعنى مائلة {ظلالها} فاعل اسم الفاعل {دانية} مرفوع {تذليلا} مفعول مطلق منصوب..
وجملة: {ذللت قطوفها..}. في محلّ نصب معطوفة على {دانية}.
15- (الواو) عاطفة في الموضعين {عليهم} متعلّق بـ {يطاف}، {بآنية} نائب الفاعل لفعل {يطاف} {من فضّة} متعلّق بنعت لـ {آنية}، {قوارير} الثاني بدل من الأول منصوب {من فضّة} متعلّق بنعت لـ {قوارير}، {تقديرا} مفعول مطلق منصوب.
وجملة: {يطاف.. بآنية..}. لا محلّ لها معطوفة على جملة {جزاهم}..
وجملة: {كانت قواريرا..}. في محلّ جرّ نعت لأكواب.
وجملة: {قدّروها..}. في محلّ نصب نعت لـ: {قوارير} الثاني.
17- (الواو) عاطفة {فيها} متعلّق بحال من ضمير {يسقون} {عينا} بدل من {زنجبيلا}، {فيها} متعلّق بنعت لـ {عينا}.
وجملة: {يسقون..}. لا محلّ لها معطوفة على جملة {يطاف}..
وجملة: {كان مزاجها زنجبيلا..}. في محلّ نصب نعت لـ {كأسا}.
وجملة: {تسمّى..}. في محلّ نصب نعت لـ {عينا} الثاني.
19- (الواو) عاطفة {عليهم} متعلّق بـ {يطوف}، {لؤلؤا} مفعول به ثان منصوب..
وجملة: {يطوف عليهم ولدان..}. لا محلّ لها معطوفة على جملة {يسقون}.
وجملة: الشرط وفعله وجوابه... في محلّ رفع نعت لـ: {ولدان} ثان.
وجملة: {رأيتهم..}. في محلّ جرّ مضاف إليه.
وجملة: {حسبتهم..}. لا محلّ لها جواب شرط غير جازم.

.الصرف:

(11) (وقاهم): فيه إعلال بالقلب، أصله وقيهم، تحركت الياء بعد فتح قلبت ألفا.
{لقّاهم}، فيه إعلال بالقلب، أصله لقّيهم، تحركت الياء بعد فتح قلبت ألفا.
(11) {نضرة}: مصدر الثلاثيّ نضر باب نصر وباب فرح وباب كرم، وزنه فعلة بفتح فسكون بمعنى الحسن.
{سرورا}، مصدر الثلاثيّ سرّ باب نصر، وزنه فعول بضمّ الفاء، وثمّة مصادر أخرى للفعل هي سرّ بضمّ السين، وسرّى بضم السين وفتح الراء المشدّدة، ومسرّة بفتح فكسر، ومسرّة- مصدر ميميّ- بفتحتين.
(12) {جزاهم}: فيه إعلال بالقلب، أصله جزيهم، تحركت الياء بعد فتح قلبت ألفا.
(13) {زمهريرا}: اسم بمعنى شدّة البرد- قيل هو القمر على لغة طيء- وزنه فعلليل.
(14) {تذليلا}: مصدر قياسيّ للرباعيّ ذلّل، وزنه تفعيل.
(15) {يطاف}: فيه إعلال بالقلب لمناسبة البناء للمجهول، جاء ما قبل الواو مفتوحا فقلبت ألفا.
{آنية}، جمع إناء، اسم للوعاء وزنه فعال بكسر الفاء، والهمزة فيه منقلبة عن ياء لتطرّفها بعد ألف ساكنة، وزن آنية فاعلة، والمدّة فيه أصلها همزة وألف (أأنية).
(17) {يسقون}: فيه إعلال بالحذف أصله يسقاون، التقى ساكنان فحذفت الألف وبقي ما قبل الواو مفتوحا دلالة على الحرف المحذوف، وزنه يفعون بضمّ الياء وفتح العين.
{زنجبيلا}، اسم للنبات المعروف- وليس كزنجبيل الدنيا- وزنه فعلليل.
(18) {سلسبيلا}: إمّا اسم علم لماء في الجنّة، أو صفة مشبهة للماء الذي هو في غاية السلاسة، قيل زيدت فيه الباء مبالغة فوزنه فعلبيل، أو بدون زيادته فوزنه فعلليل.

.[الإنسان: الآيات 20- 22]

{وَإِذا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيماً وَمُلْكاً كَبِيراً (20) عالِيَهُمْ ثِيابُ سُندُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبرق وَحُلُّوا أَساوِرَ مِنْ فِضَّةٍ وَسَقاهُمْ رَبهمْ شَراباً طَهُوراً (21) إِنَّ هذا كانَ لَكُمْ جَزاءً وَكانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُوراً (22)}.

.الإعراب:

(الواو) استئنافيّة {ثمّ} ظرف مكان مبنيّ على الفتح في محلّ نصب متعلّق بـ {رأيت} الأول..
جملة: {رأيت..}. في محلّ جرّ مضاف إليه.
وجملة: {رأيت} (الثانية)... لا محلّ لها جواب شرط غير جازم.
21- {عاليهم} ظرف مكان منصوب متعلّق بمحذوف خبر مقدّم للمبتدأ {ثياب}، {خضر} نعت لـ: {ثياب} مرفوع {إستبرق} معطوف بالواو على {ثياب} مرفوع، و(الواو) في {حلّوا} نائب الفاعل {من فضّة} متعلّق بنعت لـ {أساور}، {شرابا} مفعول به ثان منصوب.
وجملة: {عاليهم ثياب..}. لا محلّ لها استئناف بيانيّ.
وجملة: {حلّوا..}. لا محلّ لها معطوفة على جملة {عاليهم ثياب}.
وجملة: {سقاهم ربهم..}. لا محلّ لها معطوفة على جملة {حلّوا}...
22- {لكم} متعلّق بحال من جزاء (الواو) عاطفة..
وجملة: {إنّ هذا كان..}. لا محلّ لها استئناف بيانيّ.
وجملة: {كان لكم جزاء..}. في محلّ رفع خبر إنّ.
وجملة: {كان سعيكم مشكورا..}. في محلّ رفع معطوفة على جملة {كان} (الأولى).

.الصرف:

(21) {عاليهم}: إمّا اسم فاعل من (علا)، أو هو ظرف على وزن اسم الفاعل كداخل الشيء وخارجه.
{حلّوا}، فيه إعلال بالتسكين وإعلال بالحذف.. أصله حلّيوا- بياء مضمومة قبل الواو- استثقلت الضمّة على الياء فسكّنت ونقلت الضمّة إلى اللام قبلها- إعلال بالتسكين- ثمّ حذفت الياء لاجتماعها ساكنة مع واو الجماعة- إعلال بالحذف-، وزنه فعّوا بضمّ الفاء والعين المشدّدة.
{سقاهم}، فيه إعلال بالقلب... أصله سقيهم- تحركت الياء بعد فتح قلبت ألفا.

.الفوائد:

ثمّ اسم يشار به إلى المكان البعيد كقوله تعالى: {وَ أَزْلَفْنا ثَمَّ الْآخَرِينَ} وهو ظرف لا يتصرف، ولذلك غلط من أعربه مفعولا لرأيت في قوله تعالى: {وَ إِذا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيماً وَمُلْكاً كَبِيراً}، ولا يتقدمه حرف التنبيه، ولا يتأخر عنه كاف الخطاب.

.[الإنسان: الآيات 23- 26]

{إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنا عَلَيْكَ القرآن تَنْزِيلاً (23) فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كفوراً (24) وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلاً (25) وَمِنَ اللَّيل فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلاً طَوِيلاً (26)}.

.الإعراب:

{نحن} ضمير في محلّ نصب مستعار لتوكيد الضمير اسم إنّ، {عليك} متعلّق بـ {نزّلنا}، {تنزيلا} مفعول مطلق منصوب.
جملة: {إنّا... نزّلنا..}. لا محلّ لها استئنافيّة.
وجملة: {نزّلنا..}. في محلّ رفع خبر إنّ.
24- (الفاء) رابطة لجواب شرط مقدّر {لحكم} متعلّق بـ (اصبر) بتضمينه معنى أذعن (الواو) عاطفة {لا} ناهية جازمة {منهم} متعلّق بحال من {آثما}، {أو} حرف عطف للإباحة..
وجملة: {اصبر..}. في محلّ جزم جواب شرط مقدّر أي إن جاء قدر الله فاصبر.
وجملة: {لا تطع..}. في محلّ جزم معطوفة على جملة الجواب.
25- (الواو) عاطفة {بكرة} ظرف زمان منصوب متعلّق بـ {اذكر}.
وجملة: {اذكر..}. في محلّ جزم معطوفة على جملة الجواب.
26- (الواو) عاطفة في الموضعين (الفاء) رابطة لجواب شرط مقدّر {له} متعلّق بـ (اسجد)، {ليلا} ظرف منصوب متعلّق بـ {سبّحه}.
وجملة: {اسجد..}. في محلّ جزم جواب شرط مقدّر أي مهما حصل فاسجد والشرط المقدّر معطوف على الشرط المقدّر السابق.
وجملة: {سبّحه..}. في محلّ جزم معطوفة على جملة {اسجد}.

.[الإنسان: آية 27]

{إِنَّ هؤُلاءِ يُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَراءَهُمْ يَوْماً ثَقِيلاً (27)}.

.الإعراب:

{وراءهم} ظرف مكان منصوب متعلّق بحال من {يوما}.
(يوما) مفعول به منصوب.
جملة: {إنّ هؤلاء يحبّون..}. لا محلّ لها استئنافيّة.
وجملة: {يحبّون..}. في محلّ رفع خبر إنّ.
وجملة: {يذرون..}. في محلّ رفع معطوفة على جملة {يحبّون}.

.البلاغة:

الاستعارة التصريحية: في قوله تعالى: {يَوْماً ثَقِيلًا..}.: وصف اليوم بالثقيل لتشبيه شدته وهوله بثقل شيء قادح باهظ لحامله، بطريق الاستعارة.

.[الإنسان: آية 28]

{نَحْنُ خَلَقْناهُمْ وَشَدَدْنا أَسْرَهُمْ وَإِذا شِئْنا بَدَّلْنا أَمْثالَهُمْ تَبْدِيلاً (28)}.

.الإعراب:

{تبديلا} مفعول مطلق منصوب..
جملة: {نحن خلقناهم..}. لا محلّ لها استئنافيّة.
وجملة: {خلقناهم..}. في محلّ رفع خبر المبتدأ (نحن).
وجملة: {شددنا..}. في محلّ رفع معطوفة على جملة {خلقناهم}.
وجملة: {شئنا..}. في محلّ جرّ مضاف إليه.
وجملة: {بدّلنا..}. لا محلّ لها جواب شرط غير جازم.

.الصرف:

{أسرهم}، اسم بمعنى المفاصل والأعضاء، وفي القاموس:
الأسر الشدّة والغضب وشدّة الخلق وشددنا أسرهم أي مفاصلهم. وفي المختار: أسره الله أي خلقه، وشددنا أسرهم أي خلقهم، وزنه فعل بالفتح.

.[الإنسان: الآيات 29- 31]

{إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبه سَبِيلاً (29) وَما تَشاؤُنَ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ الله إِنَّ الله كانَ عَلِيماً حَكِيماً (30) يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً (31)}.

.الإعراب:

الإشارة في {هذه} إلى السورة (الفاء) عاطفة (من) اسم شرط جازم في محلّ رفع مبتدأ {شاء} ماض في محلّ جزم فعل الشرط، وكذلك جواب الشرط {اتّخذ}، {إلى ربه} متعلّق بمحذوف مفعول به ثان عامله {اتّخذ}.
جملة: {إنّ هذه تذكرة..}. لا محلّ لها استئنافيّة.
وجملة: {من شاء..}. لا محلّ لها معطوفة على الاستئنافيّة.
وجملة: {شاء..}. في محلّ رفع خبر المبتدأ (من).
وجملة: {اتّخذ..}. لا محلّ لها جواب الشرط الجازم غير مقترنة بالفاء.
30- (الواو) عاطفة {ما} نافية، ومفعول {تشاؤون} محذوف أي الطاعة {إلّا} للحصر، {أن} حرف مصدريّ.
والمصدر المؤوّل: {أن يشاء الله} في محلّ نصب ظرف زمان بحذف مضاف أي إلا وقت مشيئة الله.
وجملة: {تشاؤون..}. لا محلّ لها معطوفة على جملة {من شاء}.
وجملة: {يشاء الله..}. لا محلّ لها صلة الموصول الحرفيّ (أن).
وجملة: {إنّ الله كان..}. لا محلّ لها تعليليّة.
وجملة: {كان عليما..}. في محلّ رفع خبر إنّ.
31- {في رحمته} متعلّق بـ {يدخل}، (الواو) عاطفة {الظالمين} مفعول به لفعل محذوف على الاشتغال يفسّره ما بعده أي أوعد أو عاقب {لهم} متعلّق بـ {أعدّ}..
وجملة: {يدخل..}. لا محلّ لها استئناف بيانيّ.
وجملة: {يشاء..}. لا محلّ لها صلة الموصول (من).
وجملة: {(أوعد) الظالمين..}. لا محلّ لها معطوفة على جملة {يدخل}.
وجملة: {أعدّ لهم..}. لا محلّ لها تفسيريّة. اهـ.

.قال محيي الدين الدرويش:

76 سورة الإنسان:
مدنية.
وآياتها إحدى وثلاثون.
بِسْمِ الله الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

.[الإنسان: الآيات 1- 12]

{هَلْ أَتى عَلَى الإنسان حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً (1) إِنَّا خَلَقْنَا الإنسان مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشاجٍ نبتليه فَجَعَلْناهُ سَمِيعاً بَصِيراً (2) إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ إِمَّا شاكراً وَإِمَّا كفوراً (3) إِنَّا أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ سلاسل وَأَغْلالاً وَسَعِيراً (4) إِنَّ الْأَبْرارَ يشربونَ مِنْ كَأْسٍ كانَ مِزاجُها كافُوراً (5) عيناً يشرب بها عِبادُ الله يُفَجِّرُونَها تَفْجِيراً (6) يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخافُونَ يَوْماً كانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً (7) وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبه مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً (8) إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ الله لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزاءً وَلا شُكُوراً (9) إِنَّا نَخافُ مِنْ رَبِّنا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً (10) فوقاهم الله شَرَّ ذلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً (11) وَجَزاهُمْ بِما صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيراً (12)}

.اللغة:

{أَمْشاجٍ} أخلاط أي من ماء الرجل وماء المرأة المختلطين الممتزجين، ووقع الجمع صفة لمفرد أي لنطفة لأنه في معنى الجمع أو جعل كل جزء من النطفة نطفة فاعتبر ذلك فوصف بالجمع وفي المختار: مشج بينهما خلط وبابه ضرب والشيء مشيج والجمع أمشاج كيتيم وأيتام ويقال نطفة أمشاج لماء الرجل يختلط بماء المرأة ودمها. وعبارة الزمخشري: نطفة أمشاج كبرمة أعشار وبرد أكباش وهي ألفاظ مفردة غير جموع ولذلك وقعت صفات للأفراد ويقال أيضا نطفة مشج قال الشماخ:
طوت أحشاء مرتجة لوقت ** على مشج سلالته مهين

و لا يصحّ {أمشاج} أن يكون تكسيرا له بل هما مثلان في الإفراد لوصف المفرد بهما ومشجه ومزجه بمعنى، والمعنى: من نطفة امتزج فيها الماءان.
{كافُوراً} الكافور: نبت طيب وكأن اشتقاقه من الكفر وهو الستر لأنه يغطي الأشياء براحته والكافور أيضا كمام الشجر التي تغطي ثمرتها.
{مُسْتَطِيراً}: فاشيا منتشرا بالغا أقصى المبالغ من استطار الحريق واستطار الفجر وهو من طار بمنزلة استنفر من نفر يقال: استطار يستطير استطارة فهو مستطير وهو استفعل من الطيران وقال الفراء: المستطير: المستطيل كأنه يريد أنه مثله في المعنى إلا أنه أبدل من اللام راءه، والفجر فجران مستطيل كذنب السرحان وهو الكاذب ومستطير وهو الصادق لانتشاره في الأفق.
{قَمْطَرِيراً} القمطرير: الشديد العبوس الذي يجمع ما بين عينيه قال الزجّاج: يقال قمطرت الناقة إذا رفعت ذنبها وجمعت قطريها وزقت بأنفها فاشتقته من القطر وجعل الميم زائدة، وقال أسد بن ناعصة:
واصطليت الحروب في كل يوم ** باسل الشر قمطرير الصباح

وفي القاموس: ويوم قماطر كعلابط وقمطرير شديد واقمطرّ اشتد.

.الإعراب:

{هَلْ أَتى عَلَى الإنسان حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً} في {هل} وجهان: أحدهما هي بمعنى قد والثاني هي استفهام على بابها والاستفهام هنا للتقرير وللتوبيخ.
وعبارة السمين: في هل هذه وجهان: أحدهما أنها على بابها من الاستفهام المحض وقال مكّي في تقرير كونها على بابها من الاستفهام الذي معناه التقرير: وهو تقرير لمن أنكر البعث فلابد أن يقول نعم قد مضى دهر طويل لا إنسان فيه فيقال له: من أحدثه بعد أن لم يكن وكونه بعد عدمه كيف يمتنع عليه بعثه وإحياؤه بعد موته؟ وهو معنى قوله: {ولقد علمتم النشأة الأولى فلولا تذكرون} أي فهلّا تذكرون فتعلمون أن من أنشأ شيئا بعد أن لم يكن قادرا على إعادته بعد موته وعدمه فقد جعلها للاستفهام التقريري لا للاستفهام المحض وهذا هو الذي يجب أن يكون لأن الاستفهام لا يرد من الله تعالى ألا على هذا النحو وما أشبهه، الثاني أنها بمعنى قد.
أما الزمخشري فقال: هل بمعنى قد في الاستفهام خاصة والأصل أهل بدليل قوله:
أهل رأونا بسفح القاع ذي الأكم

فالمعنى قد أتى على التقرير والتقريب جميعا أي أتى على الإنسان قبل زمان قريب.
أما شطر البيت الذي أورده الزمخشري فهو عجز البيت:
سائل فوارس يربوع بشدتنا ** أهل رأونا بسفح القاع ذي الأكم

والبيت لزيد الخيل الذي سمّاه النبي صلى الله عليه وسلم زيد الخير، وسائل فعل أمر بمعنى اسألهم وراجعهم في السؤال لتتيقن حقيقة الحال ويربوع أبو حي، والباء بمعنى عن أي سلهم عن قوتنا والأصل في الاستفهام الهمزة ولذلك كان لها تمام التصدير في الكلام وأصل هل بمعنى قد لكن لكثرة الاستعمال فيه صارت الهمزة نسيا منسيا في حيز الإهمال والاستفهام هنا للتقرير.
و {أتى} فعل ماض و{على الإنسان} متعلقان بـ: {أتى} و{حين} فاعل و{من الدهر} نعت لـ: {حين}، وجملة {لم يكن} فيها وجهان أحدهما أنها في موضع نصب على الحال من {الإنسان} أي هل أتى عليه حين في هذه الحالة.
والثاني أنها في موضع رفع نعتا لحين بعد نعت وعلى هذا فالعائد محذوف تقديره حين لم يكن فيه شيئا مذكورا والأول أرجح.
وعبارة الزمخشري فإن قلت: ما محل لم يكن شيئا مذكورا قلت محله النصب على الحال من الإنسان كأنه قيل: هل أتى عليه حين من الدهر غير مذكور أو الرفع على الوصف لحين كقوله يوما لا يجزي والد عن ولده. و{لم} حرف نفي وقلب وجزم و{يكن} فعل مضارع ناقص مجزوم بلم واسمها مستتر تقديره هو يعود على {الإنسان} و{شيئا} خبرها و{مذكورا} نعت لـ: {شيئا}.
{إِنَّا خَلَقْنَا الإنسان مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشاجٍ نبتليه} كلام مستأنف مسوق لبيان كيفية خلق الإنسان وإن واسمها وجملة {خلقنا الإنسان} خبرها و{من نطفة} متعلقان بـ: {خلقنا} و{أمشاج} نعت لـ: {نطفة}، وقد تقدم في باب اللغة سر وقوع الجمع صفة لمفرد على أن أبا البقاء أجاز أن تكون بدلا من {نطفة}، وجملة {نبتليه} فيها وجهان:
أحدهما أنها حال من فاعل {خلقنا} أي خلقناه حال كوننا مبتلين له.
والثاني أنها حال من {الإنسان} وصحّ ذلك لأن في الجملة ضميرين كلّ منهما يعود على ذي الحال ثم هذه الحال يجوز أن تكون مقارنة إن كان المعنى نبتليه بتصريفه في بطن أمه نطفة ثم علقة وأن تكون مقدّرة إن كان المعنى نبتليه نختبره بالتكليف لأنه وقت خلقه غير مكلّف.
{فَجَعَلْناهُ سَمِيعاً بَصِيراً} الفاء عاطفة للترتيب مع التعقيب و{جعلناه} فعل وفاعل ومفعول به و{سميعا بصيرا} مفعول به ثان، وقد نزلت الكلمتان منزلة الكلمة الواحدة لأنهما كناية عن التمييز والفهم إذ آلتهما سبب لذلك وهما أشرف الحواس تدرك بهما أعظم المدركات أي جعلناه بسبب الابتلاء حين تأهله له سميعا بصيرا ليتمكن من مشاهدة الدلائل واستماع الآيات فالعطف على إرادة الابتلاء لا الابتلاء فيه فلا يرد السؤال الآتي: كيف عطف على {نبتليه} ما بعده بالفاء مع أن الابتلاء متأخر عنه.
{إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ إِمَّا شاكراً وَإِمَّا كفوراً} الجملة تعليل للابتلاء وإن واسمها وجملة {هديناه} من الفعل والفاعل والمفعول خبر {إنّا} و{السبيل} مفعول به ثان أو في محل نصب بنزع الخافض والجار والمجرور متعلقان بـ: {هديناه} و{إما} حرف شرط وتفصيل و{شاكرا} و{كفورا} حالان من الهاء في {هديناه} أي مكّناه وأقدرناه على حالتيه جميعا أو دعوناه إلى الإسلام بأدلة العقل والسمع وكان معلوما أنه يؤمن أو يكفر لإلزام الحجة، ويجوز أن يكونا حالين من {السبيل} أي عرفناه إما سبيلا شاكرا وإما سبيلا كفورا كقوله {وهديناه النجدين} ويكون وصف السبيل بالشكر والكفر مجازا، وسيأتي سر المخالفة بين اسم الفاعل وصيغة المبالغة في باب البلاغة.
{إِنَّا أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ سلاسل وَأَغْلالًا وَسَعِيراً} الجملة تعليل أيضا لأنه لما ذكر الفريقين اتبعهما الوعيد والوعد، وإن واسمها وجملة {أعتدنا} خبرها و{للكافرين} متعلقان بـ: {أعتدنا} و{سلاسل} مفعول به ومنع من الصرف لأنه جمع على وزن مفاعل وقرئ بالصرف للمناسبة مع {أغلالا} وهما قراءتان سبعيتان.
و عبارة أبي حيان: وقرأ طلحة وعمرو بن عبيد وابن كثير وأبو عمرو وحمزة {سلاسل} ممنوع الصرف وقفا ووصلا وقيل عن حمزة وأبي عمرو الوقف بالألف وقرأ حفص وابن ذكوان بمنع الصرف واختلف عنهم في الوقف وكذا عن البزّي وقرأ باقي السبعة بالتنوين وصلا وبالألف المبدلة منه وقفا وهي قراءة الأعمش، قيل: وهذا على ما حكاه الأخفش من لغة من يصرف كلّ ما لا ينصرف إلا أفعل وهي لغة الشعراء ثم كثر حتى جرى في كلامهم وعلل ذلك بأن هذا الجمع لما كان يجمع فقالوا صواحبات يوسف ونواكسي الأبصار أشبه المفرد فجرى فيه الصرف وقال بعض الرجّاز:
والصرف في الجمع أتى كثيرا ** حتى ادّعى قوم به التخييرا

{إِنَّ الْأَبْرارَ يشربونَ مِنْ كَأْسٍ كانَ مِزاجُها كافُوراً} إن واسمها وجملة {يشربون} خبرها و{من كأس} متعلقان بـ: {يشربون} ومفعول {يشربون} محذوف أي خمرا من كأس، والكأس الزجاجة إذا كانت فيها خمر وتسمى الخمر نفسها كأسا، قال الأعشى:
وكأس شربت على لذة ** وأخرى تداويت منها بها

وجملة {كان مزاجها كافورا} نعت لـ: {كأس} وكان واسمها وخبرها.
{عيناً يشرب بها عِبادُ الله يُفَجِّرُونَها تَفْجِيراً} {عينا} أفاض النحاة في أوجه إعرابها والأوجه التي أوردوها تتناهى إلى السبعة ونوردها فيما يلي باختصار ثم نعمد إلى الترجيح:
1- بدل من {كافورا} لأن ماءها في بياض الكافور وفي رائحته وبرودته.
2- بدل من محل {من كأس}، وقدّر الزمخشري على هذا الوجه حذف مضاف قال: (كأنه قيل يشربون فيها خمرا خمر عين) وأما أبو البقاء فجعل المضاف مقدّرا على وجه البدل من كافورا فقال: والثاني بدل من {كافورا} أي ماء عين أو خمر عين.
3- مفعول {يشربون} أي يشربون عينا من كأس.
4- النصب على الاختصاص.
5- منصوب بـ: {يشربون} مقدّرا يفسّره ما بعده قاله أبو البقاء أيضا.
6- منصوب بإضمار فعل تقديره يعطون.
7- منصوب على الحال من الضمير في مزاجها قاله مكّي. ونرى أن الأول والرابع أرجح الأوجه وأدناها إلى السهولة على أن ذلك لا يمنع الاعتراف بصحة الأوجه التي أوردناها كلها.
وجملة {يشرب} صفة لـ: {عينا} و{بها} جار ومجرور متعلقان بـ: {يشرب} والضمير يعود على الكأس أي يشربون العين بتلك الكأس والباء للإلصاق.
قال الزمخشري: فإن قلت لم وصل فعل الشرب بحرف الابتداء أولا وبحرف الإلصاق أخيرا؟
قلت: لأن الكأس مبدأ شربهم وأول غايته وأما العين فبها يمزجون شرابهم فكأن المعنى يشرب عباد الله بها الخمر كما تقول شربت الماء بالعسل.
وقيل: الباء زائدة أي يشربها ويدل له قراءة {يشربها} معدى إلى الضمير بنفسه وإنها بمعنى من فتكون للتبعيض أثبته الأصمعي وابن مالك والفارسي والقتبي وجعلوا منه هذه الآية وقوله تعالى {فامسحوا برءوسكم} وعليها بنى الشافعي مذهبه في مسح بعض الرأس في الوضوء لما قام عنده من الأدلة ويجوز أن تكون في موضع نصب على الحال أي ممزوجة ويجوز أن يتضمن يشربون معنى يلتذون بها شاربين أو يتضمن معنى يرتوي أي يرتوي بها عباد الله.
وجملة {يفجرونها} في موضع نصب على الحال أي يجرونها حيث شاءوا من منازلهم فهي سهلة لا تمتنع عليهم أو نعت ثان لـ: {عينا} و{تفجيرا} مفعول مطلق.
{يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخافُونَ يَوْماً كانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً} كلام مستأنف استئنافا بيانيا كأنه قيل: بم استحقوا هذا النعيم؟ فقيل يوفون، و{يوفون} فعل مضارع مرفوع والواو فاعل و{بالنذر} متعلقان بـ: {يوفون} و{يوما} مفعول به وجملة {كان} صفة لـ: {يوم} و{شره} اسم كان و{مستطيرا} خبرها.
{وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبه مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً} عطف على {يوفون} و{يخافون}، و{الطعام} مفعول به و{على حبه} متعلقان بمحذوف حال أي محبين له وعلى بمعنى مع أي للمصاحبة وحبه مصدر أضيف للمفعول فالضمير للطعام أي مع اشتهائه والحاجة إليه ونحوه {وآتى المال على حبه} ويصحّ رجوع الضمير للّه أي على حب الله أي لوجه وابتغاء مرضاته والأول أمدح أن فيه الإيثار على النفس والطعام محبوب للفقراء والأغنياء وأما على الثاني فقد يفعله الأغنياء أكثر ومسكينا مفعول به ثان وما بعده عطف عليه وخصّ هؤلاء بالذكر لسر يأتي في باب البلاغة.
{إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ الله لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزاءً وَلا شُكُوراً} الجملة تعليل لبيان سبب الإطعام وإنما كافّة ومكفوفة و{نطعمكم} فعل مضارع وفاعل مستتر تقديره نحن ومفعول به و{لوجه الله} متعلقان بـ: {نطعمكم} وجملة {لا نريد} إلخ حالية و{لا} نافية و{نريد} فعل مضارع وفاعله مستتر تقديره {نحن} و{منكم} متعلقان بـ: {نريد} و{جزاء} مفعول به {ولا شكورا} عطف عليه.
{إِنَّا نَخافُ مِنْ رَبِّنا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً} تعليل لقوله {إنما نطعمكم} وإن واسمها وجملة {نخاف} خبرها وفاعل {نخاف} ضمير مستتر تقديره نحن و{من ربنا} متعلقان بـ: {نخاف} و{يوما} مفعول به و{عبوسا} نعت و{قمطريرا} نعت ثان لـ: {يوما}.
{فوقاهم الله شَرَّ ذلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً} الفاء عاطفة لبيان السبب أي فبسبب خوفهم وقاهم الله أي دفع عنهم شرّ ذلك اليوم ووطأته، ووقاهم فعل ماض ومفعول به مقدّم و{الله} فاعل مؤخر و{شر} مفعول به ثان وذلك مضاف إليه و{اليوم} بدل من اسم الإشارة و{لقاهم} فعل ماض وفاعل مستتر ومفعول به و{نضرة} مفعول به ثان {وسرورا} عطف على {نضرة}.
{وَجَزاهُمْ بِما صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيراً} {وجزاهم} عطف أيضا {وجزاهم} فعل ماض وفاعل مستتر ومفعول به و{بما} متعلقان بـ: {جزاهم} وما مصدرية أي بصبرهم و{جنة} مفعول به ثان {وحريرا} عطف على {جنة}.

.البلاغة:

1- في قوله: {إنّا هديناه السبيل إما شاكرا وإما كفورا} لما كان الشكر قلّ من يتّصف به قال شاكرا فعبّر عنه باسم الفاعل للدلالة على قلته، ولما كان الكفر كثيرا من يتّصف به ويكثر وقوعه من الإنسان قال كفورا فعبّر عنه بصيغة المبالغة.
2- وفي قوله: {ويطعمون الطعام على حبه مسكينا ويتيما وأسيرا}
خصّ هؤلاء الثلاثة بالذكر لأن المسكين عاجز عن اكتساب قوته بنفسه واليتيم مات أبواه وهما اللذان يكتسبان وبقي عاجزا عن الكسب لصغره والأسير لا يملك لنفسه ضرّا ولا نفعا ولا نصرا ولا حيلة، قال عطاء:
نزلت هذه الآية في علي بن أبي طالب وذلك أنه أجّر نفسه ليلة ليسقي نخلا بشيء من شعير حتى أصبح وقبض الشعير وطحنوا ثلثه فجعلوا منه شيئا ليأكلوه فلما تمّ نضجه أتى مسكين فأخرجوا له الطعام ثم صنع الثلث الباقي فلما تمّ نضجه أتى يتيم فأطعموه ثم الثالث فلما تمّ نضجه أتى أسير من المشركين فسأل فأطعموه وطووا يومهم ذلك فأنزل الله فيهم هذه الآيات.
3- في قوله {إنّا نخاف من ربنا يوما عبوسا قمطريرا} مجاز إسنادي وقد تقدمت له نظائر كثيرة في هذا الكتاب، لأن وصف اليوم بالعبوس مجاز كما يقال نهاره صائم وليله قائم والمراد أهلهما.

.الفوائد:

1- {كان} في القرآن على خمسة أوجه:
1- بمعنى الأول والأبد نحو {وكان الله عليما حكيما}.
2- بمعنى المضي المنقطع نحو {وكان في المدينة تسعة رهط}.
3- بمعنى الحال نحو {كنتم خير أمة}.
4- بمعنى الاستقبال نحو {ويخافون يوما كان شره مستطيرا}.
5- بمعنى صار نحو {وكان من الكافرين}.
2- ولإما خمسة معان:
1- الشك نحو: جاءني إما زيد وإما عمرو إذا لم تعلم الجائي منهما.
2- الإبهام نحو {وآخرون مرجون لأمر الله إما يعذبهم وإما يتوب عليهم} أي إن الله تعالى عالم بحقيقة حالهم، وقصد الإبهام على السامع.
3- التخيير نحو {إما أن تعذب وإما أن تتخذ فيهم حسنا} ولا يكون إلا بعد الطلب فيقدّر في الآية والأصل: يا ذا القرنين افعل فإما أن تعذب إلخ.
4- الإباحة نحو تعلّم إما فقها وإما نحوا.
5- التفصيل نحو: {إنّا هديناه السبيل إما شاكرا وإما كفورا}.

.[الإنسان: الآيات 13- 22]

{متكئين فِيها عَلَى الْأَرائِكِ لا يَرَوْنَ فِيها شَمْساً وَلا زَمْهَرِيراً (13) وَدانية عَلَيْهِمْ ظِلالُها وَذللت قُطُوفُها تَذْلِيلاً (14) وَيُطافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوابٍ كانَتْ قَوارِيرَا (15) قَوارِيرَا مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوها تَقْدِيراً (16) وَيُسْقَوْنَ فِيها كَأْساً كانَ مِزاجُها زَنْجَبِيلاً (17) عيناً فِيها تُسَمَّى سَلْسَبِيلاً (18) وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ إِذا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤاً مَنْثُوراً (19) وَإِذا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيماً وَمُلْكاً كَبِيراً (20) عالِيَهُمْ ثِيابُ سُندُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبرق وَحُلُّوا أَساوِرَ مِنْ فِضَّةٍ وَسَقاهُمْ رَبهمْ شَراباً طَهُوراً (21) إِنَّ هذا كانَ لَكُمْ جَزاءً وَكانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُوراً (22)}.

.اللغة:

{زَمْهَرِيراً} في المختار: الزمهرير: شدة البرد قلت: قال ثعلب الزمهرير أيضا القمر في لغة طيء وبه فسّر قوله تعالى: لا يرون فيها شمسا ولا زمهريرا أي فيها من الضياء والنور ما لا يحتاجون معه إلى شمس ولا قمر.
وعبارة أبي حيّان: الزمهرير أشد البرد وقال ثعلب هو القمر بلغة طيء وأنشد قول الراجز:
وليلة ظلامها قد اعتكر ** قطعتها والزمهرير ما ظهر

وعبارة الزمخشري: يعني أن هواءها معتدل لا حرّ شمس يحمي ولا شدّة برد تؤذي وفي الحديث: «هواء الجنة سجسج لا حرّ ولا قرّ».
{قَوارِيرَا} القارورة إناء صاف توضع فيه الأشربة قيل ويكون من الزجاج.
{زَنْجَبِيلًا} الزنجبيل قال الدينوري: نبت في أرض عمان عروق تسري وليس بشجر يؤكل رطبا وأجوده ما يحمل من بلاد الصين كانت العرب تحبه لأنه يوجب لذعا في اللسان إذا مزج بالشراب فيتلذذون به، قال الشاعر:
كأن القرنفل والزنجبي ل ** باتا بفيها وأريا مشورا

وقال المسيب بن علس:
وكأن طعم الزنجبيل به ** إذ ذقته وسلافة الخمر

والضمير في به يعود للفم وإذ ذقته أي حين ذقت ريقه فهو مجاز وسلافة الخمر أول ما يعصر من العنب وقال آخرون: الزنجبيل: نبات له عروق تسري في الأرض ويتولد فيها عقد حريفة الطعم وتتفرع هذه العروق من نبت كالقصب.
{سَلْسَبِيلًا} السلسبيل: ما سهل انحداره في الحلق وقال الزجّاج: هو في اللغة صفة لما كان في غاية السلاسة. وقال الزمخشري: يقال شراب سلسل وسلسال وسلسبيل وقد زيدت الباء في التركيب حتى صارت الكلمة خماسية ودلّت على غاية السلاسة. وقال ابن الأعرابي: لم أسمع السلسبيل إلا في القرآن. وقال مكّي: هو اسم أعجمي نكرة فلذلك صرف. ووزن سلسبيل مثل دردبيس وقيل فعفليل لأن الفاء مكررة وقرأ طلحة {سلسبيل} دون تنوين ومنعت من الصرف للعلمية والتأنيث لأنها اسم لعين بعينها وعلى هذا فكيف صرفت في قراءة العامة ويجاب بأنها سمّيت بذلك لا على جهة العلمية بل على جهة الإطلاق المجرد أو يكون من باب تنوين {سلاسل} و{قوارير} كما تقدم وكما سيأتي.
{سُندُسٍ} السندس ما رقّ من الحرير ويكون أخضر وغير أخضر.
{إِسْتَبرق} الإستبرق: ما غلظ من الديباج فهو البطائن والسندس الظهائر.

.الإعراب:

{متكئين فِيها عَلَى الْأَرائِكِ لا يَرَوْنَ فِيها شَمْساً وَلا زَمْهَرِيراً} {متكئين} حال من مفعول {جزاهم} ووهم أبو البقاء فأجاز أن تكون صفة لـ: {جنة} ولا أدري كيف سبق هذا إلى وهمه وازداد عجبي عند ما رأيت الزمخشري يجيز ذلك قال: ويجوز أن تجعل {متكئين} و{لا يرون} و{دانية} كلها صفات لـ: {جنة}. وذلك مردود لعدم بروز الضمير ليكون نعتا سببيا فلم يقل {متكئين} هم فيها و{فيها} حال أي في الجنة و{على الأرائك} متعلقان بـ: {متكئين} وجملة {لا يرون} حال ثانية من مفعول {جزاهم} ولك أن تجعلها حالا من الضمير في {متكئين} فتكون حالا متداخلة كما يجوز لك أن تجعلها صفة لـ: {جنة} كما قرر أبو البقاء والزمخشري و{فيها} متعلقان بـ: {يرون} و{شمسا} مفعول و{لا زمهريرا} عطف على {شمسا}.
{وَدانية عَلَيْهِمْ ظِلالُها وَذللت قُطُوفُها تَذْلِيلًا} عطف على {متكئين} فيكون فيها ما فيها ودخلت الواو للدلالة على أن الأمرين يجتمعان لهم كأنه قيل وجزاهم جنة جامعين فيها بين السلامة من الحرّ والقرّ وبين دنو الظلال عليهم ولك أن تجعلها منصوبة عطفا على محل {لا يرون} وقال الزجّاج صفة لـ: {جنة} الملفوظ بها أما أبو البقاء فأغرب إذ أعربها صفة لـ: {جنة} محذوفة أي وجنة دانية وهو تكلّف وتحكم لا مبرر لهما. و{عليهم} متعلقان بـ: {دانية}، ولابد من تضمين على معنى من لأن الدنو لا يتعدى بعلى وإنما لم يقل منهم لأن الظلال عالية عليهم، والواو عاطفة و{ذللت} فعل ماض مبني للمجهول وعطف على {دانية} وإنما خولف بعطف الفعلية على الاسمية للإشارة إلى أن التظليل أمر دائم لا يزول لأنها لا شمس فيها بخلاف التذليل فإنه أمر متجدد طارئ، و{قطوفها} نائب فاعل و{تذليلا} مفعول مطلق.
{وَيُطافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوابٍ كانَتْ قَوارِيرَا} الواو عاطفة و{يطاف} فعل مضارع مبني للمجهول و{عليهم} متعلقان بـ: {يطاف} و{بآنية} نائب مفعول لأنه هو المفعول به في المعنى ويجوز أن تكون عليهم هي النائبة و{بآنية} متعلقان بـ: {يطاف} والآنية جمع إناء والأصل أأنية بهمزتين الأولى مزيدة للجمع والثانية فاء الكلمة فقلبت الثانية ألفا وجوبا وهذا نظير كساء وأكسية وغطاء وأغطية، ونظيره في الصحيح اللام حمار وأحمرة.
و {من فضة} نعت لآنية {وأكواب} عطف على آنية من عطف الخاص على العام وجملة {كانت} نعت لـ: {أكواب} واسم كانت مستتر يعود على الأكواب و{قواريرا} خبر {كانت} ويجوز أن تكون {كانت} تامة فيكون {قواريرا} حالا أي كونت.
وعبارة أبي البقاء: ويقرآن بالتنوين وبغير التنوين والأكثرون يقفون على الأول بالألف لأنه رأس آية.
{قَوارِيرَا مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوها تَقْدِيراً} {قوارير} بدل من {قواريرا} الأولى وقد منعت من الصرف و{من فضة} نعت لـ: {قوارير} وجملة {قدّرت} نعت ثان و{تقديرا} مفعول مطلق وقرئ {قوارير} بالرفع على إضمار مبتدأ أي هي قوارير ومعنى التقدير أنها هيئت على قدر ريّ الشاربين أي شهوتهم لأنه لا ظمأ في الجنة من غير زيادة ولا نقص وذلك ألذ الشراب.
{وَيُسْقَوْنَ فِيها كَأْساً كانَ مِزاجُها زَنْجَبِيلًا} الواو عاطفة و{يسقون} فعل مضارع مبني للمجهول والواو نائب فاعل و{فيها} متعلقان بـ: {يسقون} و{كأسا} مفعول به ثان وجملة {كان} صفة لـ: {كأسا} و{مزاجها} اسم {كان} و{زنجبيلا} خبرها.
{عيناً فِيها تُسَمَّى سَلْسَبِيلًا} {عينا} بدل من {زنجبيلا} وقيل تمزج كأسهم بالزنجبيل بعينه أو يخلق الله طعمه فيها و{عينا} على هذا القول مبدلة من {كأسا} أو منصوبة على الاختصاص ولعلّ هذا هو الأرجح وعلى كل حال تطبق عليها الأوجه المطبقة على {عينا} الأولى و{فيها} نعت لـ: {عينا} وجملة {تسمى} نعت ثان ونائب الفاعل مستتر تقديره هي و{سلسبيلا} مفعول به ثان.
{وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ إِذا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤاً مَنْثُوراً} الواو عاطفة و{يطوف} فعل مضارع و{عليهم} متعلقان بـ: {يطوف} و{ولدان} فاعل و{مخلدون} نعت لـ: {ولدان} و{إذا} ظرف لما يستقبل من الزمن وجملة {رأيتهم} في محل جر بإضافة الظرف إليها وجملة {حسبتهم} لا محل لها لأنها جواب شرط غير جازم و{حسبتهم} فعل ماض وفاعل ومفعول به و{لؤلؤا} مفعول به ثان و{منثورا} نعت أي متفرقا، وفي المصباح نثرته نثرا من بابي قتل وضرب رميت به متفرقا فانتثر.
{وَإِذا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيماً وَمُلْكاً كَبِيراً} الواو عاطفة و{إذا} ظرف لما يستقبل من الزمن متضمن معنى الشرط وجملة {رأيت} في محل جر بإضافة الظرف إليه و{رأيت} فعل وفاعل وليس له مفعول ظاهر ولا مقدّر لإشاعة الرؤية وتعميمها كأنه قيل: وإذا أوجدت الرؤية ثم، و{ثم} ظرف مكان مختص بالعبد متعلق بـ: {ثم} والمعنى وإذا صدرت منك الرؤية في ذلك المكان رأيت وجملة {رأيت} لا محل لها لأنها جواب شرط غير جازم و{نعيما} مفعول {رأيت} الثانية و{ملكا كبيرا} عطف على {نعيما} وقال الفراء {ثم} مفعول به لـ: {رأيت} والتقدير وإذا رأيت ما ثم فحذفت ما وقامت ثم مقامها ولا داعي لهذا التكلّف.
{عالِيَهُمْ ثِيابُ سُندُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبرق} {عاليهم}: في إعرابه وجهان أحدهما أنه ظرف مكان لأنه بمعنى فوقهم وقد اعترض أبو حيان على هذا الإعراب فقال: وعال وعالية اسم فاعل فيحتاج في كونهما ظرفين إلى أن يكون منقولا من كلام العرب عاليك أو عاليتك ثوب.
وهذا اعتراض مردود لأنه وردت ألفاظ من صيغ أسماء الفاعلين ظروفا نحو خارج الدار وداخلها وباطنها وظاهرها تقول جلست خارج الدار وكذا البواقي فكذلك هذا.
وإذا تقرر هذا فإن الظرف متعلق بمحذوف خبر مقدّم و{ثياب سندس} مبتدأ مؤخر و{خضر}نعت لـ: {ثياب} {وإستبرق} عطف على {ثياب} على حذف مضاف أي ثياب إستبرق وقرئ بجر {إستبرق} بالعطف على {سندس} لأن المعنى ثياب من سندس وثياب من إستبرق.
والوجه الثاني وهو الذي جرى عليه الأكثرون أنه حال من الضمير في {يطوف عليهم} أو من مفعول {حسبتهم} أو من مضاف مقدّر أي رأيت أهل نعيم وملك كبير عاليهم، فـ: {عاليهم} حال من أهل المقدّر.
وقد ذكر الزمخشري هذا القول وعبارته: و{عاليهم} بالنصب على أنه حال من الضمير في {يطوف عليهم} أو في {حسبتهم} أي يطوف عليهم ولدان عاليا للمطوف عليهم ثياب أو حسبتهم لؤلؤا عاليا لهم ثياب ويجوز أن يراد أهل نعيم.
وقرئ {عاليهم} بسكون الياء وكسر الهاء على أنها خبر مقدّم و{ثياب} مبتدأ مؤخر كأنه قيل فوقهم ثياب.
أما نص إعراب أبي البقاء فهو:
قوله تعالى: {عاليهم} فيه قولان أحدهما هو فاعل وانتصب على الحال من المجرور في {عليهم} و{ثياب سندس} مرفوع به أي يطوف عليهم في حال علو السندس ولم يؤنث {عاليهم} لأن تأنيث الثياب غير حقيقي.
و القول الثاني هو ظرف لأن عاليهم جلودهم وفي هذا القول ضعف ويقرأ بسكون الياء إما على تخفيف المفتوح المنقوص أو على الابتداء والخبر ويقرأ {عاليتهم} بالتاء وهو ظاهر و{خضر} بالجر صفة لـ: {سندس} وبالرفع لـ: {ثياب} و{إستبرق} بالجر عطف على {سندس} وبالرفع على {ثياب}.
ولا أدري كيف استساغ أبو البقاء أن يستضعف وجه الظرف والخطب فيه أهون من الحال لوروده معرفة مهما قيل في تأويله.
{وَحُلُّوا أَساوِرَ مِنْ فِضَّةٍ وَسَقاهُمْ رَبهمْ شَراباً طَهُوراً} عطف على {ويطوف عليهم} وساغ عطف الماضي على المضارع لأنه مستقبل المعنى وللإيذان بتحقيقه {وحلّوا} فعل ماض مبني للمجهول والواو نائب فاعل و{أساور} مفعول به ثان وقيل نصب بنزع الخافض لأنهم يعدّونه إلى واحد و{من فضة} نعت لـ: {أساور} {وسقاهم} عطف على {حلّوا} و{ربهم} فاعل و{شرابا} مفعول به ثان و{طهورا} نعت لـ: {شرابا}.
{إِنَّ هذا كانَ لَكُمْ جَزاءً وَكانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُوراً} الجملة مقول قول محذوف أي يقال لأهل الجنة و{إن} واسمها وجملة {كان} خبرها و{لكم} متعلقان بـ: {جزاء} واسم كان مستتر تقديره هو و{جزاء} خبرها {وكان} عطف على كان الأولى و{سعيكم} اسمها و{مشكورا} خبرها.

.[الإنسان: الآيات 23- 31]

{إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنا عَلَيْكَ القرآن تَنْزِيلاً (23) فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كفوراً (24) وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلاً (25) وَمِنَ اللَّيل فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلاً طَوِيلاً (26) إِنَّ هؤُلاءِ يُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَراءَهُمْ يَوْماً ثَقِيلاً (27) نَحْنُ خَلَقْناهُمْ وَشَدَدْنا أَسْرَهُمْ وَإِذا شِئْنا بَدَّلْنا أَمْثالَهُمْ تَبْدِيلاً (28) إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبه سَبِيلاً (29) وَما تَشاؤُنَ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ الله إِنَّ الله كانَ عَلِيماً حَكِيماً (30) يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً (31)}.

.الإعراب:

{إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنا عَلَيْكَ القرآن تَنْزِيلًا} إن واسمها و{نحن} ضمير فصل أو تأكيد لاسم إن وجملة {نزلنا} خبر {إنّا} و{عليك} متعلقان بـ: {نزلنا} و{القرآن} مفعول به و{تنزيلا} مفعول مطلق ولك أن تجعل {نحن} مبتدأ فتكون جملة {نزلنا} خبر {نحن} والجملة خبر إن.
{فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كفوراً} الفاء الفصيحة أي إن عرفت هذا فاصبر، واصبر فعل أمر وفاعله مستتر تقديره أنت و{لحكم ربك} متعلقان باصبر والواو حرف عطف و{لا} ناهية و{تطع} فعل مضارع مجزوم بلا وفاعله مستتر تقديره أنت و{منهم} حال و{آثما} مفعول به و{أو} حرف عطف و{كفورا} عطف على {آثما} وإنما جنح إلى {أو} دون الواو لإفهام النهي عن طاعتهما معا ولو عطف بالواو لأفهم جواز طاعة أحدهما وليس مرادا.
وعبارة الزجّاج: أو هنا أوكد من الواو لأنك لو قلت لا تطع زيدا وعمرا فأطاع أحدهما كان غير عاص فإذا أبدلتها بأو فقد دللت على أن كل واحد منهما أهل أن يعصى.
وعبارة أبي حيان: والنهي عن طاعة كل واحد منهما أبلغ من النهي عن طاعتهما لأنه يستلزم النهي عن أحدهما لأن في طاعتهما طاعة أحدهما ولو قال لا تضرب زيدا وعمرا لجاز أن يكون نهيا عن ضربهما جميعا لا عن ضرب أحدهما.
وقال أبو عبيدة {أو} بمعنى الواو والكفور وإن كان آثما فإن فيه مبالغة في الكفر ولما كان وصف الكفور مباينا للموصوف لمجرد الإثم صلح التغاير فحسن العطف.
{وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلًا} عطف على ما تقدم و{اذكر} فعل أمر و{اسم ربك} مفعول به و{بكرة وأصيلا} ظرفان متعلقان بـ: {اذكر} والمراد الدوام على الصلاة في أوقاتها.
{وَمِنَ اللَّيل فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلًا طَوِيلًا} و{من الليل} متعلقان باسجد ومعنى من التبعيض أي اسجد وصل له بعض الليل، واسجد فعل أمر وفاعله مستتر تقديره أنت و{له} متعلقان باسجد أيضا و{سبّحه} فعل أمر وفاعل مستتر ومفعول به و{ليلا} ظرف متعلق بـ: {سبّحه} و{طويلا} نعت.
{إِنَّ هؤُلاءِ يُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَراءَهُمْ يَوْماً ثَقِيلًا} الجملة تعليل لما قبلها من النهي والأمر وعبارة الشهاب الخفاجي: هذا التعليل لما قبله من النهي والأمر في قوله {ولا تطع} إلى هنا فكأنه قال: لا تطعهم واشتغل بالأهمّ من العبادة لأن هؤلاء تركوا الآخرة للدنيا فاترك أنت الدنيا وأهلها للآخرة فالأول علّة للنهي عن طاعة الآثم والكفور والثاني علّة للأمر بالطاعة، و{إن} حرف مشبه بالفعل و{هؤلاء} اسم إشارة مبني على الكسر في محل نصب اسمها وجملة {يحبون} خبرها و{العاجلة} مفعول به {ويذرون} عطف على {يحبون} و{وراءهم} ظرف مكان بمعنى قدّام متعلق بمحذوف حال من المفعول مقدم عليه و{يوما} مفعول به و{ثقيلا} ظرف، وسيأتي معنى الثقل في باب البلاغة.
{نَحْنُ خَلَقْناهُمْ وَشَدَدْنا أَسْرَهُمْ} {نحن} مبتدأ وجملة {خلقناهم} خبر {و شددنا} عطف على {خلقناهم} و{أسرهم} مفعول به أي قوينا أسرهم والأسر كما في القاموس الشدة والغضب وشدة الخلق والخلق وشددنا أسرهم أي مفاصلهم. وفي المختار: أسره من باب ضرب أي شدّه بالإسار بوزن الإزار وهو القدّ بالكسر وهو سير يقدّ من جلد غير مدبوغ ومنه سمي الأسير لأنهم كانوا يشدّونه بالقدّ فسمي كل مأخوذ أسيرا وإن لم يشدّ به وأسره الله خلقه وبابه ضرب ومنه: وشددنا أسرهم أي خلقهم والأسر بالضم احتباس البول كالحصر في الغائط وأسرة الرجل أهله لأنه يتقوى بهم.
{وَإِذا شِئْنا بَدَّلْنا أَمْثالَهُمْ تَبْدِيلًا} الواو عاطفة و{إذا} ظرف مستقبل متضمن معنى الشرط وجملة {شئنا} في محل جر بإضافة الظرف إليها وجملة {بدّلنا} لا محل لها لأنها جواب شرط غير جازم و{أمثالهم} مفعول به و{تبديلا} مفعول مطلق، ومفعول {بدّلنا} الثاني لأنها بمعنى جعلنا محذوف تقديره بدلا منهم. هذا وقد تورط الزمخشري ورطة كان له مندوحة عنها ذلك أنه قال وحقه أن يؤتى بإن لا بإذا كقوله: {وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم}، {إن يشأ يذهبكم}.
ولم يعقب على ذلك بشيء فأوهم أنه يعني ورود القرآن في تعبيره بإذا على خلاف الحق والواقع أن إذا وإن تتعاوران فقد قالوا: إن إذا للمحقق وإن للممكن وهو تعالى لم يشأ فالظاهر أن تستعمل إن لكنه قد توضع إذا موضع إن وإن موضع إذا كقوله: {أفإن متّ فهم الخالدون}.
{إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبه سَبِيلًا} إن واسمها والإشارة إلى السورة و{تذكرة} خبرها والفاء عاطفة و{من} شرطية مبتدأ و{شاء} فعل ماض في محل جزم فعل الشرط ومفعول {شاء} محذوف أي الخير لنفسه وحسن العاقبة و{اتخذ} فعل ماض في محل جزم جواب الشرط و{إلى ربه} في موضع المفعول الثاني و{سبيلا} مفعول اتخذ الأول.
{وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ الله إِنَّ الله كانَ عَلِيماً حَكِيماً} الواو عاطفة و{ما} نافية و{تشاءون} فعل مضارع مرفوع والواو فاعل والمفعول به محذوف أي الطاعة و{إلا} أداة حصر و{أن يشاء الله} المصدر المؤول في موضع نصب على الظرفية لأنه استثناء من أعمّ الظروف وأصله إلا وقت مشيئة الله وأجاز أبو البقاء أن يكون الاستثناء من أعمّ الأحوال فيكون المصدر حالا وإن واسمها وجملة {كان} خبرها واسم كان مستتر و{عليما} خبرها الأول و{حكيما} خبرها الثاني.
{يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً} الجملة حالية من {الله} و{يدخل} فعل مضارع مرفوع وفاعله هو و{من} مفعول به وجملة {يشاء} صلة من و{في رحمته} متعلقان بـ: {يدخل}، {و الظالمين}: الواو عاطفة و{الظالمين} منصوب بفعل مقدّر يفسّره ما بعده وقدّره أبو البقاء: ويعذب الظالمين، وجملة {أعدّ} مفسّرة و{لهم} متعلقان بـ: {أعدّ} و{عذابا} مفعول به و{أليما} نعت.

.البلاغة:

في قوله {يوما ثقيلا} استعارة تصريحية، فقد استعير الثقل لشدة ذلك اليوم وهوله من الشيء الثقيل الباهظ لحامله ونحوه ثقلت في السموات والأرض.
خطأ وقياس في غير محله:
هذا ومن المضحك أن بعضهم علّق على قوله {وسبّحه ليلا طويلا} فقال هذه الآية رد على عدم ما قاله أهل علم المعاني والبيان إن الجمع بين الحاء والهاء مثلا يخرج الكلمة من فصاحتها وجعلوا من ذلك قول أبي تمام:
كريم متى أمدحه أمدحه والورى معي ** وإذا ما لمته لمته وحدي

وهذا خطأ من الناقد الذي ظن أنه يبرئ القرآن الكريم من العيوب المخلّة بالفصاحة بشجبه لما قرره علماء البلاغة وقياس في غير محله فالفرق واضح بين الآية والشعر وهو أن تكرار أمدحه هو الذي أخرجه عن مهيع الفصاحة لا مجرد اجتماع الحاء والهاء، وإذن فالآية سليمة من تنافر الحروف قال الشيخ مخلوف الميناوي في حاشيته على شرح الشيخ أحمد الدمنهوري لمتن الإمام الأخضري: فإن منشأ الثقل هو تكرار أمدحه دون مجرد الجمع لوقوعه بين الحاء والهاء في التنزيل نحو فسبّحه.

.الفوائد:

(أن) و(إذا) يشتركان في إفادة تعليق حصول الجزاء في المستقبل بحصول الشرط فيه، لكن أصل إن، أي موضع استعمالها الحقيقي، الشك في وقوع الشرط، قيل والتوهم وقيل وكذا المظنون. وأصل إذا الجزم بوقوعه، ولا تستعمل إن في غير الشك وإذا في غير الجزم إلا لنكتة، كما أنهما لا يدخلان على ماض من شرط أو جزاء إلا لنكتة ولو لتعليق حصول مضمون الجزاء بحصول مضمون الشرط. اهـ.

.قال أبو البقاء العكبري:

سورة الإنسان:
بِسْمِ الله الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
في (هل) وجهان: أحدهما هي بمعنى قد.
والثانى هي استفهام على بابها والاستفهام هنا للتقرير أو التوبيخ، و{لم يكن شيئا} حال من {الإنسان}، و{أمشاج} بدل أو صفة، وهو جمع مشيج، وجاز وصف الواحد بالجمع هنا لأنه كان في الإصل متفرقا ثم جمع: أي نطفة أخلاط، و{نبتليه} حال من {الإنسان}، أو من ضمير الفاعل.
قوله تعالى: {إما شاكرا} إما هاهنا لتفصيل الأحوال، و{شاكرا} و{كفورا} حالان أي يناله في كلتا حالتيه.
قوله تعالى: {سلاسل} القراءة بترك التنوين، ونونه قوم أخرجوه على الأصل، وقرب ذلك عندهم شيئان: أحدهما إتباعه ما بعده.
والثانى أنهم وجدوا في الشعر مثل ذلك منونا في الفواصل، وإن هذا الجمع قد جمع كقول الراجز:
قد جرت الطير أيا منينا

قوله تعالى: {من كأس} المفعول محذوف: أي خمرا أو ماء من كأس، وقيل {من} زائدة، و{كان مزاجها} نعت لـ: {كأس}، وأما {عينا} ففي نصبها أوجه: أحدها هو بدل من موضع {من كأس}. والثانى {من كافور}: أي ماء عين أو خمر عين.
والثالث بفعل محذوف: أي أعنى والرابع تقديره: أعطوا عينا.
والخامس {يشربون عينا} وقد فسره ما بعده.
قوله تعالى: {يشرب بها} قيل الباء زائدة، وقيل هي بمعنى (من) وقيل هو حال أي يشرب ممزوجا بها، والأولى أن يكون محمولا على المعنى، والمعنى يلتذ بها، و{يفجرونها} حال.
قوله تعالى: {يوفون} هو مستأنف ألبتة.
قوله تعالى: {متكئين فيها} يجوزأن يكون حالا من المفعول في {جزاهم}، وأن يكون صفة لـ: {جنة}، و{لا يرون} يجوز أن يكون حالا من الضمير المرفوع في {متكئين} وأن يكون حالا أخرى، وأن يكون صفة لـ: {جنة}، وأما {ودانية} ففيه أوجه: أحدها أن يكون معطوفا على {لا يرون} أو على {متكئين}، فيكون فيه من الوجوه ما في المعطوف عليه.
والثانى أن يكون صفة لمحذوف تقديره: وجنة دانية، وقرئ {ودانية} بالرفع على أنه خبر، والمبتدأ {ظلالها} وحكى بالجر: أي في جنة دانية، وهو ضعيف لأنه عطف على المجرور من غير إعادة الجار، وأما {ظلالها} فمبتدأ، و{عليهم} الخبر على قول من نصب {دانية} أو جره، لأن دنا يتعدى بإلى، ويجوز أن يرتفع بـ: {دانية} لأن دنا وأشر ف بمعنى، وأما {وذللت} فيجوز أن يكون حالا: أي وقد ذللت، وأن يكون مستأنفا.
قوله تعالى: {قواريرا قوارير} يقرآن بالتنوين وبغير التنوين وقد ذكر، والأكثرون يقفون على الإول بالإلف لأنه رأس آية.
وفي نصبه وجهان: أحدهما هو خبر كان والثانى حال، وكان تامة: أي كونت، وحسن التكرير لما اتصل به من بيان أصلها، ولولا التكرير لم يحسن أن يكون الأول رأس آية لشدة اتصال الصفة بالموصوف، و{قدروها} يجوز أن يكون نعتا لـ: {قوارير}، وأن يكون مستأنفا، و{عينا} فيها من الوجوه ما تقدم في الأول والسلسبيل كلمة واحدة ووزنها فعليل مثل إدريس.
قوله تعالى: {عاليهم} فيه قولان: أحدهما هو فاعل، وانتصب على الحال من المجرور في {عاليهم}، و{ثياب سندس} مرفوع به: أي يطوف عليهم في حال علو السندس، ولم يؤنث عاليا لأن تأنيث الثياب غير حقيقي والقول الثاني هو ظرف لأن {عاليهم} جلودهم، وفي هذا القول ضعف، ويقرأ بسكون الياء إما على تخفيف المفتوح المنقوص، أو على الابتداء والخبر، ويقرأ: {عاليتهم} بالتاء وهو ظاهر، و{خضر} بالجر صفة لسندس، وبالرفع لثياب {وإستبرق} بالجر عطفا على سندس، وبالرفع على {ثياب}.
قوله تعالى: {أو كفورا} أو هنا على بابها عند سيبويه، وتفيد في النهى المنع من الجميع، لأنك إذا قلت في الإباحة جالس الحسن أو ابن سيرين كان التقدير: جالس أحدهما، فإذا نهى قال لاتكلم زيدا أو عمرا، فالتقدير: لاتكلم أحدهما.
فأيهما كلمه كان أحدهما فيكون ممنوعا منه، فكذلك في الآية، ويئول المنع إلى تقدير: فلا تطع منهما آثما ولا كفورا.
قوله تعالى: {إلا أن يشاء الله} أي إلا وقت مشيئة الله أو إلا في حال مشيئة الله عز وجل {والظالمين} منصوب بفعل محذوف تقديره: ويعذب الظالمين، وفسره الفعل المذكور، وكان النصب أحسن لأن المعطوف عليه قد عمل فيه الفعل وقرئ بالرفع على الابتداء، والله أعلم. اهـ.

.قال حميدان دعاس:

سورة الإنسان:
بِسْمِ الله الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

.[الإنسان: آية 1]:

{هَلْ أَتى عَلَى الإنسان حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً (1)}
{هَلْ أَتى} حرف استفهام للتشويق وماض و{عَلَى الإنسان} متعلقان بالفعل و{حِينٌ} فاعل {أتى} و{مِنَ الدَّهْرِ} متعلقان بمحذوف صفة {حين} والجملة ابتدائية لا محل لها. و{لَمْ يَكُنْ} مضارع ناقص مجزوم بلم واسمه مستتر و{شَيْئاً} خبر {يكن} و{مَذْكُوراً} صفة والجملة حال.

.[الإنسان: آية 2]:

{إِنَّا خَلَقْنَا الإنسان مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشاجٍ نبتليه فَجَعَلْناهُ سَمِيعاً بَصِيراً (2)}
{إِنَّا خَلَقْنَا الإنسان} إن واسمها وماض وفاعله ومفعوله والجملة الفعلية خبر إنا والجملة الاسمية مستأنفة لا محل لها و{مِنْ نُطْفَةٍ} متعلقان بالفعل و{أَمْشاجٍ} صفة {نطفة} و{نبتليه} مضارع ومفعوله والفاعل مستتر والجملة حال. و{فَجَعَلْناهُ} ماض وفاعله ومفعوله الأول و{سَمِيعاً} مفعول به ثان و{بَصِيراً} صفة والجملة معطوفة على ما قبلها.

.[الإنسان: آية 3]:

{إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ إِمَّا شاكراً وَإِمَّا كفوراً (3)}.
{إِنَّا هَدَيْناهُ} إن واسمها وماض وفاعله ومفعوله الأول و{السَّبِيلَ} مفعوله الثاني والجملة الفعلية خبر {إنا} والجملة الاسمية تعليل لا محل لها و{إِمَّا} أداة شرط وتفصيل و{شاكراً} حال {وَإِمَّا كفوراً} معطوف على ما قبله.

.[الإنسان: آية 4]:

{إِنَّا أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ سلاسل وَأَغْلالاً وَسَعِيراً (4)}.
{إِنَّا أَعْتَدْنا} إن واسمها وماض وفاعله والجملة الفعلية خبر {إنا} والجملة الاسمية مستأنفة و{لِلْكافِرِينَ} متعلقان بالفعل و{سلاسل} مفعول به {وَأَغْلالًا وَسَعِيراً} معطوفان على ما قبلهما.

.[الإنسان: آية 5]:

{إِنَّ الْأَبْرارَ يشربونَ مِنْ كَأْسٍ كانَ مِزاجُها كافُوراً (5)}.
{إِنَّ الْأَبْرارَ يشربونَ} إن واسمها ومضارع مرفوع والواو فاعله و{مِنْ كَأْسٍ} متعلقان بمحذوف صفة لمفعول محذوف والجملة الفعلية خبر إن والجملة الاسمية مستأنفة و{كانَ مِزاجُها كافُوراً} كان واسمها وخبرها والجملة صفة {كأس}.

.[الإنسان: آية 6]:

{عيناً يشرب بها عِبادُ الله يُفَجِّرُونَها تَفْجِيراً (6)}.
{عيناً} بدل من {كافورا} و{يشرب} مضارع و{بها} متعلقان بالفعل و{عِبادُ الله} فاعل مضاف إلى لفظ الجلالة والجملة الفعلية صفة {عينا} و{يُفَجِّرُونَها} مضارع وفاعله ومفعوله والجملة حال و{تَفْجِيراً} مفعول مطلق.

.[الإنسان: آية 7]:

{يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخافُونَ يَوْماً كانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً (7)}.
{يُوفُونَ} مضارع مرفوع والواو فاعله و{بِالنَّذْرِ} متعلقان بالفعل والجملة مستأنفة و{وَيَخافُونَ} مضارع وفاعله و{يَوْماً} مفعول به والجملة معطوفة على ما قبلها و{كانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً} كان واسمها وخبرها والجملة صفة يوما.

.[الإنسان: آية 8]:

{وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبه مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً (8)}.
{وَيُطْعِمُونَ} مضارع مرفوع والواو فاعله و{الطَّعامَ} مفعول به أول والجملة معطوفة على ما قبلها و{عَلى حُبه} متعلقان بالفعل و{مِسْكِيناً} مفعول به ثان و{يَتِيماً وَأَسِيراً} معطوفان على ما قبلهما.

.[الإنسان: آية 9]:

{إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ الله لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزاءً وَلا شُكُوراً (9)}.
{إِنَّما نُطْعِمُكُمْ} كافة ومكفوفة ومضارع ومفعوله والفاعل مستتر والجملة مقول قول مقدر و{لِوَجْهِ الله} متعلقان بالفعل ولفظ الجلالة مضاف إليه و(لا) نافية و{نُرِيدُ} مضارع فاعله مستتر و{مِنْكُمْ} متعلقان بالفعل و{جَزاءً} مفعول به والجملة حال {وَلا} نافية و{شُكُوراً} معطوف على {جزاء}.

.[الإنسان: آية 10]:

{إِنَّا نَخافُ مِنْ رَبِّنا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً (10)}.
{إِنَّا نَخافُ} إن واسمها ومضارع فاعله مستتر و{مِنْ رَبِّنا} متعلقان بالفعل و{يَوْماً} مفعول به و{عَبُوساً} صفة {يوما} و{قَمْطَرِيراً} صفة ثانية والجملة الفعلية خبر {إنا} والجملة الاسمية تعليل.

.[الإنسان: آية 11]:

{فوقاهم الله شَرَّ ذلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً (11)}.
{فوقاهم الله} الفاء حرف استئناف وماض ومفعوله الأول ولفظ الجلالة فاعل و{شَرَّ ذلِكَ} مفعول به ثان مضاف إلى اسم الإشارة و{الْيَوْمِ} بدل من اسم الإشارة والجملة مستأنفة {وَلَقَّاهُمْ} معطوف على {فوقاهم} {نَضْرَةً} مفعول به ثان و{سُرُوراً} معطوف على {نضرة}.

.[الإنسان: آية 12]:

{وَجَزاهُمْ بِما صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيراً (12)}.
{وَجَزاهُمْ} ماض ومفعوله الأول والفاعل مستتر والجملة معطوفة على ما قبلها و{بِما صَبَرُوا} الباء حرف جر وما مصدرية وماض وفاعله والمصدر المؤول من ما والفعل في محل جر بالباء والجار متعلقان بالفعل و{جَنَّةً} مفعول به ثان و{حَرِيراً} معطوف على {جنة}.

.[الإنسان: آية 13]:

{تَّكِئِينَ فِيها عَلَى الْأَرائِكِ لا يَرَوْنَ فِيها شَمْساً وَلا زَمْهَرِيراً (13)}.
{متكئين} حال منصوبة و{فِيها} متعلقان بما قبلهما و{عَلَى الْأَرائِكِ} متعلقان بمحذوف حال من الضمير المستتر بـ: {متكئين}. و(لا) نافية و{يَرَوْنَ} مضارع مرفوع والواو فاعله و{فِيها} متعلقان بالفعل و{شَمْساً} مفعول به {وَ} الواو حرف عطف و{لا زَمْهَرِيراً} معطوف على {شمسا} والجملة حال.

.[الإنسان: آية 14]:

{وَدانية عَلَيْهِمْ ظِلالُها وَذللت قُطُوفُها تَذْلِيلاً (14)}.
{وَدانية} معطوفة على {متكئين} و{عَلَيْهِمْ} متعلقان بـ: {دانية} و{ظِلالُها} فاعل {دانية} و{وَذللت} ماض مبني للمجهول و{قُطُوفُها} نائب فاعل و{تَذْلِيلًا} مفعول مطلق والجملة معطوفة على {دانية}.

.[الإنسان: آية 15]:

{وَيُطافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوابٍ كانَتْ قَوارِيرَا (15)}.
{وَيُطافُ} مضارع مبني للمجهول و{عَلَيْهِمْ} متعلقان بالفعل و{بِآنِيَةٍ} متعلقان بالفعل و{مِنْ فِضَّةٍ} صفة {آنية} والجملة معطوفة على ما قبلها {وَأَكْوابٍ} معطوف على ما قبله {كانَتْ} ماض ناقص اسمه مستتر و{قَوارِيرَا} خبره والجملة الفعلية صفة {أكواب}.

.[الإنسان: آية 16]:

{قَوارِيرَا مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوها تَقْدِيراً (16)}.
{قَوارِيرَا} بدل مما قبله و{مِنْ فِضَّةٍ} صفة {قوارير} و{قَدَّرُوها} ماض وفاعله ومفعوله و{تَقْدِيراً} مفعول مطلق والجملة حال.

.[الإنسان: آية 17]:

{وَيُسْقَوْنَ فِيها كَأْساً كانَ مِزاجُها زَنْجَبِيلاً (17)}.
{وَيُسْقَوْنَ} حرف عطف ومضارع مبني للمجهول والواو نائب فاعل و{فِيها} متعلقان بالفعل و{كَأْساً} مفعول به ثان والجملة معطوفة على ما قبلها و{كانَ مِزاجُها زَنْجَبِيلًا} كان واسمها وخبرها والجملة صفة {كأسا}.

.[الإنسان: آية 18]:

{عيناً فِيها تُسَمَّى سَلْسَبِيلاً (18)}.
{عيناً} بدل من {زنجبيلا} و{فِيها} صفة {عينا} و{تُسَمَّى} مضارع مبني للمجهول ونائب الفاعل مستتر و{سَلْسَبِيلًا} مفعول به ثان والجملة صفة ثانية لـ: {عينا}.

.[الإنسان: آية 19]:

{وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ إِذا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤاً مَنْثُوراً (19)}.
{وَيَطُوفُ} مضارع مرفوع و{عَلَيْهِمْ} متعلقان بالفعل و{وِلْدانٌ} فاعل و{مُخَلَّدُونَ} صفة {ولدان} والجملة معطوفة على ما قبلها. و(إذا) ظرفية شرطية غير جازمة و{رَأَيْتَهُمْ} ماض وفاعله ومفعوله والجملة في محل جر بالإضافة و{حَسِبْتَهُمْ} ماض وفاعله ومفعوله الأول و{لُؤْلُؤاً} مفعول به ثان و{مَنْثُوراً} صفة لؤلؤا والجملة جواب الشرط لا محل لها.

.[الإنسان: آية 20]:

{وَإِذا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيماً وَمُلْكاً كَبِيراً (20)}.
{وَإِذا} الواو حرف عطف و(إذا) ظرفية شرطية غير جازمة و{رَأَيْتَ} ماض وفاعله والجملة في محل جر بالإضافة و{ثَمَّ} ظرف مكان و{رَأَيْتَ} ماض وفاعله و{نَعِيماً} مفعول به {وَمُلْكاً} معطوف على {نعيما} و{كَبِيراً} صفة والجملة جواب الشرط لا محل لها.

.[الإنسان: آية 21]:

{عالِيَهُمْ ثِيابُ سُندُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبرق وَحُلُّوا أَساوِرَ مِنْ فِضَّةٍ وَسَقاهُمْ رَبهمْ شَراباً طَهُوراً (21)}.
{عالِيَهُمْ} ظرف مكان متعلق بمحذوف خبر مقدم و{ثِيابُ} مبتدأ مؤخر مضاف إلى {سُندُسٍ} و{خُضْرٌ} صفة ثياب والجملة الاسمية مستأنفة و{إِسْتَبرق} معطوف على {ثياب}. {وَحُلُّوا} الواو حالية وماض مبني للمجهول ونائب فاعل و{أَساوِرَ} مفعول به ثان و{مِنْ فِضَّةٍ} صفة {أساور} والجملة حالية. {وَسَقاهُمْ} ماض ومفعوله الأول و{رَبهمْ} فاعل و{شَراباً} مفعول به ثان و{طَهُوراً} صفة {شرابا} والجملة معطوفة على ما قبلها.

.[الإنسان: آية 22]:

{إِنَّ هذا كانَ لَكُمْ جَزاءً وَكانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُوراً (22)}.
{إِنَّ هذا كانَ} إن واسمها وماض ناقص اسمه مستتر و{لَكُمْ} متعلقان بالخبر {جَزاءً} خبر وجملة {كان} خبر إن والجملة مقول قول محذوف {وَكانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُوراً} كان واسمها وخبرها والجملة معطوفة على ما قبلها.

.[الإنسان: آية 23]:

{إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنا عَلَيْكَ القرآن تَنْزِيلاً (23)}.
{إِنَّا} إن واسمها و{نَحْنُ} ضمير فصل و{نَزَّلْنا} ماض وفاعله والجملة خبر {إنا} والجملة الاسمية مستأنفة و{عَلَيْكَ} متعلقان بالفعل و{القرآن} مفعول به و{تَنْزِيلًا} مفعول مطلق.

.[الإنسان: آية 24]:

{فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كفوراً (24)}.
{فَاصْبِرْ} الفاء الفصيحة وأمر فاعله مستتر و{لِحُكْمِ} متعلقان بالفعل و{رَبِّكَ} مضاف إليه والجملة جواب شرط مقدر لا محل لها. و{وَلا تُطِعْ} مضارع مجزوم بلا فاعله مستتر و{مِنْهُمْ} متعلقان بالفعل و{آثِماً} مفعول به و{أَوْ} حرف عطف و{كفوراً} معطوف على {آثما} والجملة معطوفة على ما قبلها.

.[الإنسان: آية 25]:

{وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلاً (25)}.
{وَاذْكُرِ} أمر فاعله مستتر و{اسْمَ} مفعول به مضاف إلى {رَبِّكَ} مضاف إليه {بُكْرَةً} ظرف زمان {وَأَصِيلًا} معطوف على {بكرة} والجملة معطوفة على ما قبلها.

.[الإنسان: آية 26]:

{وَمِنَ اللَّيل فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلاً طَوِيلاً (26)}.
{وَمِنَ اللَّيل} متعلقان باسجد و{فَاسْجُدْ} الفاء زائدة وأمر فاعله مستتر و{لَهُ} متعلقان بالفعل و{وَسَبِّحْهُ} أمر ومفعوله والفاعل مستتر والجملة معطوفة على ما قبلها و{لَيْلًا} ظرف زمان و{طَوِيلًا} صفة.

.[الإنسان: آية 27]:

{إِنَّ هؤُلاءِ يُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَراءَهُمْ يَوْماً ثَقِيلاً (27)}.
{إِنَّ هؤُلاءِ يُحِبُّونَ} إن واسمها ومضارع مرفوع والواو فاعله و{الْعاجِلَةَ} مفعول به والجملة الفعلية خبر إن والجملة الاسمية تعليل، {وَيَذَرُونَ} مضارع وفاعله {وَراءَهُمْ} ظرف مكان و{يَوْماً} مفعول به و{ثَقِيلًا} صفة {يوما} والجملة معطوفة على ما قبلها.

.[الإنسان: آية 28]:

{نَحْنُ خَلَقْناهُمْ وَشَدَدْنا أَسْرَهُمْ وَإِذا شِئْنا بَدَّلْنا أَمْثالَهُمْ تَبْدِيلاً (28)}.
{نَحْنُ خَلَقْناهُمْ} مبتدأ وماض وفاعله ومفعوله والجملة الفعلية خبر المبتدأ والجملة الاسمية مستأنفة لا محل لها. {وَشَدَدْنا أَسْرَهُمْ} ماض وفاعله ومفعوله والجملة معطوفة على ما قبلها {وَإِذا} ظرفية شرطية غير جازمة و{شِئْنا} ماض وفاعله والجملة في محل جر بالإضافة و{بَدَّلْنا} ماض وفاعله و{أَمْثالَهُمْ} مفعول به و{تَبْدِيلًا} مفعول مطلق والجملة جواب الشرط لا محل لها.

.[الإنسان: آية 29]:

{إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبه سَبِيلاً (29)}.
سبق إعرابها في الآية- 19- من سورة المزمل.

.[الإنسان: آية 30]:

{وَما تَشاؤُنَ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ الله إِنَّ الله كانَ عَلِيماً حَكِيماً (30)}.
{وَما} نافية و{تَشاؤُنَ} مضارع مرفوع والواو فاعل والجملة مستأنفة و{إِلَّا} حرف حصر {أَنْ يَشاءَ الله} مضارع منصوب بأن ولفظ الجلالة فاعل والمصدر المؤول من أن والفعل في محل جر بالإضافة لظرف محذوف أي إلا وقت مشيئة الله و{إِنَّ الله كانَ} إن واسمها وماض ناقص اسمه مستتر و{عَلِيماً حَكِيماً} خبران والجملة الفعلية خبر إن والجملة الاسمية تعليلية.

.[الإنسان: آية 31]:

{يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً (31)}.
{يُدْخِلُ} مضارع فاعله مستتر و(من) مفعول به والجملة حال و{يَشاءُ} مضارع فاعله مستتر و{فِي رَحْمَتِهِ} متعلقان بالفعل والجملة صلة من {وَالظَّالِمِينَ} مفعول به لفعل محذوف تقديره يعذب والجملة معطوفة على ما قبلها و{أَعَدَّ} ماض فاعله مستتر و{لَهُمْ} متعلقان بالفعل و{عَذاباً} مفعول به و{أَلِيماً} صفة والجملة مفسرة لما قبلها. اهـ.

.فصل في تخريج الأحاديث الواردة في السورة الكريمة:

قال الزيلعي:
سورة الإنسان ذكره فِيهَا خَمْسَة أَحَادِيث:
1441- الحديث الأول:
عَن الْحسن قال: «كَانَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم يُؤْتَى بالأسير فيدفعه إِلَى بعض الْمُسلمين فَيَقول أحسن إِلَيْهِ فَيكون عِنْده الْيَوْمَيْنِ وَالثَّلَاثَة فَيُؤْثِرُهُ على نفسه».
1442- الحديث الثَّانِي:
وَسَمَّى رَسُول الله صلى الله عليه وسلم الْغَرِيم أَسِيرًا قال: «غريمك أسيرك فَأحْسن إِلَى أسيرك».
1443- الحديث الثَّالِث:
عَن ابْن عَبَّاس «أَن الْحسن وَالْحُسَيْن رَضِيَ الله عَنْهما مَرضا فَعَادَهُمَا رَسُول الله صلى الله عليه وسلم فِي نَاس مَعَه فَقالوا يَا أَبَا الْحسن لَو نذرت عَلَى ولدك فَنَذر عَلّي وَفَاطِمَة وَفِضة جَارِيَة لَهما إِن برئا مِمَّا بهما أَن يَصُومُوا ثَلَاثَة أَيَّام فشفيا وَمَا مَعَهُمَا شَيْء فَاسْتقْرض عَلّي رَضِيَ الله عَنْه من شَمْعُون الْخَيْبَرِيّ الْيَهُودِيّ ثَلَاثَة آصَع من شعير فَطحنت فَاطِمَة صَاعا واختبزت خَمْسَة أَقراص عَلَى عَددهمْ فَوَضَعُوهَا بَين أَيْديهم لِيُفْطِرُوا فَوقف عَلَيْهِم سَائل فَقال السَّلَام عَلَيْكُم أهل بَيت مُحَمَّد مِسْكين من مَسَاكِين الْمُسلمين أَطْعمُونِي أطْعمكُم الله من مَوَائِد الْجنَّة فَآثَرُوهُ وَبَاتُوا وَلم يَذُوقُوا إِلَّا المَاء وَأَصْبحُوا صياما فَلَمَّا أَمْسوا وضعُوا الطَّعَام بَين أَيْديهم لِيُفْطِرُوا فَوقف عَلَيْهِم سَائل فَقال يَتِيم من أَيْتَام الْمُسلمين أَطْعمُونِي أطْعمكُم الله من مَوَائِد الْجنَّة فَآثَرُوهُ وَبَاتُوا لم يَذُوقُوا شَيْئا إِلَّا المَاء فَأَصْبحُوا صياما فَلَمَّا أَمْسوا وضعُوا الطَّعَام لِيُفْطِرُوا فَوقف عَلَيْهِم سَائل وَقال أَسِير من أسَارِي الْمُسلمين أَطْعمُونِي أطْعمكُم الله من مَوَائِد الْجنَّة فَآثَرُوهُ وَبَاتُوا وَلم يَذُوقُوا إِلَّا المَاء فَلَمَّا أَصْبحُوا أَخذ عَلّي رَضِيَ الله عَنْه بيد الْحسن وَالْحُسَيْن وَأَقْبلُوا إِلَى رَسُول الله صلى الله عليه وسلم فَلَمَّا رَآهُمْ يَرْتَعِشُونَ كَأَنَّهُمْ الْفِرَاخ من شدَّة الْجُوع قال مَا أَشد مَا يسوءني مِمَّا أرَى بكم وَقَامَ فَانْطَلق مَعَهم فَرَأَى فَاطِمَة فِي مِحْرَابها قد الْتَصق ظهرهَا بِبَطْنِهَا وَغَارَتْ عَيناهَا فساءه ذَلِك فَنزل جِبْرِيل عليه السلام وَقال خُذ يَا مُحَمَّد هَنَّأَك الله فِي أهل بَيْتك فَأَقرأهُ السُّورَة».
قلت رَوَاهُ الثَّعْلَبِيّ فِي تَفْسِيره من حديث الْقَاسِم بن بهرَام عَن لَيْث عَن مُجَاهِد عَن ابْن عَبَّاس وَمن حديث مُحَمَّد بن السَّائِب الْكَلْبِيّ عَن أبي صَالح عَن ابْن عَبَّاس فِي قول تعالى {يُوفونَ بِالنذرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَره مُسْتَطِيرا} قال: «مرض الْحسن وَالْحُسَيْن فَعَادَهُمَا رَسُول الله صلى الله عليه وسلم...» فَذكره وَزَاد فِي أَثْنَائِهِ شعرًا لعَلي وَفَاطِمَة.
وَقال أَبُو عبد الله التِّرْمِذِيّ الْحَكِيم فِي كِتَابه نَوَادِر الْأُصُول فِي الأَصْل الرَّابِع وَالْأَرْبَعِينَ وَمن الْأَحَادِيث الَّتِي تنكرهَا الْقُلُوب حديث رَوَوْهُ عَن مُجَاهِد عَن ابْن عَبَّاس فِي قوله تعالى: {يُوفونَ بِالنذرِ} قال: «مرض الْحسن وَالْحُسَيْن فَعَادَهُمَا رَسُول الله صلى الله عليه وسلم» إِلَى آخر الحديث بِشعرِهِ ثمَّ قال هَذَا حديث مُزَوق مفتعل لَا يروج إِلَّا عَلَى أَحمَق جَاهِل وَكَيف يظنّ بعلي رَضِيَ الله عَنْه مثل هَذَا فَيجْهد نَفسه وَعِيَاله وَأَطْفَالًا صغَارًا عَلَى جوع ثَلَاثَة أَيَّام وَقد قال تعالى {يَسْأَلُونَك مَاذَا يُنْفقُونَ قل الْعَفو} وَقال عليه السلام «خير الصَّدَقَة مَا كَانَ عَن ظهر غنى» وَقال: «كفَى بِالْمَرْءِ إِثْمًا أَن يضيع من يقوت» انتهى كَلَامه.
وَرَوَاهُ ابْن الْجَوْزِيّ فِي الموضوعات من حديث أبي عبد الله السَّمرقَنْدِي عَن مُحَمَّد بن كثير الْكُوفِي عَن الْأَصْبَغ بن نَبَاته قال: «مرض الْحسن وَالْحُسَيْن...» إِلَى آخِره فَذكره بِشعرِهِ وَزِيَادَة أَلْفَاظ ثمَّ قال وَهَذَا حديث لَا يشك فِي وَضعه وَلَو لم يدل عَلَيْهِ إِلَّا هَذِه الْأَلْفَاظ الرَّكِيكَة والأشعار الرَّديئَة وَالْأَفْعَال الَّتِي تنزه عَنْهَا أُولَئِكَ السَّادة قال ابْن معِين أصبغ بن نَبَاته لَا يُسَاوِي شَيْئا وَقال احْمَد حرقنا حديث مُحَمَّد بن كثير وَأما أَبُو عبد الله السَّمرقَنْدِي فَلَا يوثق به.
1444- الحديث الرَّابِع:
قوله وَفِي الحديث «هَوَاء الْجنَّة سَجْسَج لَا حر وَلَا قر».
قلت رَوَاهُ ابْن أبي شيبَة فِي مُصَنفه فِي بَاب صفة الْجنَّة من قول ابْن مَسْعُود فَقال ثَنَا أَبُو أُسَامَة ثَنَا زَكَرِيَّا عَن أبي إِسْحَاق عَن عبد الرَّحْمَن بن عَوْسَجَة عَن عَلْقَمَة عَن عبد الله قال: «الْجنَّة سَجْسَج لَا حر بها وَلَا قر» انتهى.
وَرَوَاهُ عبد الله بن احْمَد بن حَنْبَل فِي كتاب الزّهْد لِأَبِيهِ عَن ابْن أبي شيبَة بِسَنَدِهِ الْمَذْكُور.
وَرَوَاهُ الإِمَام أَبُو مُحَمَّد قَاسم بن ثَابت السَّرقسْطِي فِي كِتَابه غَرِيب الحديث من حديث سُفْيَان الثَّوْريّ عَن أبي إِسْحَاق عَن عَلْقَمَة عَن عبد الله... فَذكره وَقال السجسج من الزَّمَان الَّذِي لَيْسَ فِيهِ برد وَلَا رد يُؤْذيَانِ انتهى.
قال الدَّارَقُطْنِيّ فِي علله هَذَا حديث رَوَاهُ زَكَرِيَّا عَن أبي إِسْحَاق عَن عبد الرَّحْمَن بن عَوْسَجَة عَن عَلْقَمَة عَن عبد الله بن مَسْعُود وَخَالفهُ الثَّوْريّ فَرَوَاهُ عَن أبي إِسْحَاق عَن عَلْقَمَة عَن عبد الله بن مَسْعُود قال وَقول زَكَرِيَّا أصح انتهى.
وَقال ابْن أبي حَاتِم فِي علله سَأَلت أبي عَن حديث رَوَاهُ إِسْرَائِيل عَن أبي إِسْحَاق عَن عَلْقَمَة عَن عبد الله... فَذكره هَل سمع أَبُو إِسْحَاق من عَلْقَمَة فَقال لَا وَلَكِن هَكَذَا رَوَاهُ وَقد رَوَاهُ زَكَرِيَّا بن أبي زَائِدَة فَقال عَن أبي إِسْحَاق عَن عبد الرَّحْمَن بن عَوْسَجَة عَن عَلْقَمَة عَن عبد الله انتهى.
وَقال فِي مَوضِع آخر من علله وَرَوَاهُ مَالك بن إِسْمَاعِيل وَعَمْرو بن خَالِد عَن زُهَيْر بن مُعَاوِيَة عَن أبي إِسْحَاق عَن عَلْقَمَة عَن عبد الله ثمَّ قال وَقد رَوَاهُ جرير عَن مَنْصُور عَن أبي إِسْحَاق عَن عَلْقَمَة من قوله لم يُجَاوز به وَكَذَلِكَ رَوَاهُ عَلّي بن الْجَعْد عَن زُهَيْر بن مُعَاوِيَة عَن أبي إِسْحَاق عَن عَلْقَمَة من قوله انتهى. قال فِي الصِّحَاح يَوْم سَجْسَج لَا حر فِيهِ وَلَا برد وَفِي الحديث «الْجنَّة سَجْسَج» انتهى.
1445- الحديث الْخَامِس:
قال عليه السلام «من قرأ سُورَة هَل أَتَى كَانَ جَزَاؤُهُ عَلَى الله جنَّة وَحَرِيرًا».
قلت رَوَاهُ الثَّعْلَبِيّ أخبرنَا بَاقِل بن أَرقم ثَنَا مُحَمَّد بن شَادَّة ثَنَا مُحَمَّد بن احْمَد بن الْحسن ثَنَا مُحَمَّد بن يَحْيَى ثَنَا سلم بن قُتَيْبَة عَن شُعْبَة عَن عَاصِم عَن زر عَن أبي قال قال رَسُول الله صلى الله عليه وسلم... فَذكره.
وَرَوَاهُ ابْن مرْدَوَيْه فِي تَفْسِيره بِسَنَدِهِ الثَّانِي فِي آل عمرَان.
وَرَوَاهُ الواحدي فِي تَفْسِيره الْوَسِيط بِسَنَدِهِ الْمُتَقدّم فِي يُونُس. اهـ.

.فصل في ذكر آيات الأحكام في السورة الكريمة:

قال إلكيا هراسي:
ومن سورة الإنسان:
قوله تعالى: {وَأَسِيراً}، الآية/ 8.
يدل على أن إطعام المشرك يتقرب به إلى الله تعالى، غير أنه صدقة التطوع، وأما المفروض فلا دليل عليه. اهـ.

.من مجازات القرآن في السورة الكريمة:

.قال ابن المثنى:

سورة هل أتى على الإنسان 76:
بِسْمِ الله الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
{هَلْ أَتى عَلَى الإنسان} (1) مجازها: قد أتى على الإنسان، ليس باستفهام ويحقّق ذلك قول أبى بكر: ليتها كانت تمّت فلم نبتل..
{أَمْشاجٍ} (2) خلطين قال رؤبة:
من دم أمشاج

[923] وقال أبو ذؤيب:
كأن الرّيش والفوقين منه ** خلاف النّصل سيط به مشيج

{شَرُّهُ مُسْتَطِيراً} (7) فاشيا..
{عَبُوساً} العبوس (10) والقمطرير (10) والقماطر والعصيب والعصيب أشد ما يكون من الأيام وطوله في البلاء.
{ذللت قُطُوفُها} (14) ثمارها..
{سَعْيُكُمْ مَشْكُوراً} (22) عملكم..
{لا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كفوراً} (24) ليس هاهنا تخيير أراد آثما وكفورا..
{وَراءَهُمْ يَوْماً ثَقِيلًا} (27) أي قدّامهم قال مساور بن حمئان من بنى ربيعة ابن كعب:
أترجو بنو مروان سمعى وطاعتى ** وقومى تميم والفلاة ورائيا

(387) أي قدامى.
{أَسْرَهُمْ} (28) شدة الخلق، يقال للفرس: شديد الأسر شديد الخلق وكل شيء شددته من قتب أو من غبيط فهو مأسور..
{يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً} (31) انتصب بالجوار ولا يدخل الظالمين في رحمته. اهـ.

.قال الشريف الرضي:

ومن السورة التي يذكر فيها هل أتى على الإنسان:

.[الإنسان: آية 7]:

{يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخافُونَ يَوْماً كانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً (7)}.
قوله سبحانه: {وَيَخافُونَ يَوْماً كانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً} [7] وهذه استعارة. وحقيقة الاستطارة من صفات ذوات الأجنحة. يقال: طار الطّائر، واستطرته أنا إذا بعثته على الطيران. ويقولون أيضا من ذلك على طريق المجاز: استطار لهيب النار. إذا انتشر وعلا، وظهر وفشا. فكأنه سبحانه قال: يخافون يوما كان شرّه فاشيا ظاهرا، وعاليا منتشرا.

.[الإنسان: آية 10]:

{إِنَّا نَخافُ مِنْ رَبِّنا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً (10)}.
وقوله سبحانه: {إِنَّا نَخافُ مِنْ رَبِّنا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً} [10] وهذه استعارة.
لأن العبوس من صفة الإنسان القاطب المعبّس. فشبه سبحانه ذلك اليوم- لقوّة دلائله على عظيم عقابه، وأليم عذابه- بالرجل العبوس الذي يستدلّ بعبوسه وقطوبه على إرصاده بالمكروه، وعزمه على إيقاع الأمر المخوف. وأصل العبوس تقبيض الوجه، وهو دليل السخط، وضده الاستبشار والتطلّق وهما دليلا الرضا والخير.
وكما سمّت العرب اليوم المحمود طلقا، فكذلك سمّت اليوم المذموم عبوسا. ويقال: يوم قمطرير وقماطر إذا كان شديدا ضرّه، طويلا شرّه.

.[الإنسان: آية 14]:

{وَدانية عَلَيْهِمْ ظِلالُها وَذللت قُطُوفُها تَذْلِيلاً (14)}.
وقوله سبحانه: {وَدانية عَلَيْهِمْ ظِلالُها وَذللت قُطُوفُها تَذْلِيلًا} [14] وهذه استعارة. والمراد بتذليل القطوف- وهى عناقيد الأعناب وواحدها قطف- أنها جعلت قريبة من أيديهم، غير ممتنعة على مجانيهم، لا يحتاجون إلى معاناة في اجتنائها، ولا مشقة في اهتصار أفنانها، فهى كالظّهر الذلول الذي يوافق صاحبه، ويواتى راكبه.
والتذليل هاهنا مأخوذ من الذّلّ بكسر الذال، وهو ضد الصعوبة. والذّل- بضم الذال- ضدّ العز والحميّة.

.[الإنسان: آية 27]:

{إِنَّ هؤُلاءِ يُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَراءَهُمْ يَوْماً ثَقِيلاً (27)}.
وقوله سبحانه: {إِنَّ هؤُلاءِ يُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَراءَهُمْ يَوْماً ثَقِيلًا} [27] وهذه استعارة. وقد مضى الكلام على نظيرها فيما تقدم. والمراد باليوم الثقيل هاهنا:
استثقاله من طريق الشدة والمشقة، لا من طريق الاعتماد بالأجزاء الثقيلة. وقد يوصف الكلام بالثقيل على هذا الوجه، وهو عرض من الأعراض، فيقول القائل: قد ثقل علىّ خطاب فلان. وما أثقل كلام فلان. اهـ.

.فصل في التفسير الموضوعي للسورة كاملة:

قال محمد الغزالي:
سورة الإنسان:
مر ركب مسرع ببعض المقابر، فقال أحدهم لزميله: أتدرى ما تقول هذه القبور عنا؟ فقال: ماذا تقول؟ أجاب: تقول: كما أنتم كذا كنا، كما نحن تكونون. وقد تساءلت أنا عن نفسى: ماذا كنت قبل مائة عام؟ وماذا كان أغلب الجيل الذي أعيش فيه؟ ولم أجد ردا أصدق من قوله تعالى: {هل أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئا مذكورا}. إننا لم نكن شيئا، ثم خلقنا الله نسمع ونبصر، ثم استعادنا إليه وخلت الأرض منا! لكن على أي نحو نعود؟ قال في سورة الإنسان {إنا أعتدنا للكافرين سلاسل وأغلالا وسعيرا}. وقال! {إن الأبرار يشربون من كأس كان مزاجها كافورا عينا يشرب بها عباد الله}. والملاحظ في هذه السورة أنها اختصرت وصف العذاب...
إن الذي يلقاه الكفار على حين أفاضت في وصف النعيم والعظمة التي تنتظر المؤمنين {وإذا رأيت ثم رأيت نعيما وملكا كبيرا}. ثم قيل لهم- تذكيرا بما مضى {إن هذا كان لكم جزاء وكان سعيكم مشكورا}. ونصف السورة الأخير يتحدث عن الرسالة الخاتمة ودورها في صنع الحياة العامة. ذلك أن أثر البيئة في الأخلاق خطير وتأثرنا بها لا يمكن إنكاره. فإذا استطاع الرسول أن يغير اتجاه مجتمع، وأن يملأ بالوحى قلوبا كانت فارغة، فقد صنع أمة تمحو وتثبت وتهدى الناس إلى صراط مستقيم. ومن هنا قيل له {إنا نحن نزلنا عليك القرآن تنزيلا فاصبر لحكم ربك ولا تطع منهم آثما أو كفورا}. والتذكير المستمر بالله يتناول أول النهار وآخره {واذكر اسم ربك بكرة وأصيلا}. كما يتناول سحابة الليل {ومن الليل فاسجد له وسبحه ليلا طويلا}.
ووصف القرآن الكريم طباع البشر على عهد الرسالة وقبله وبعده فقال: {إن هؤلاء يحبون العاجلة ويذرون وراءهم يوما ثقيلا}. والحق أن الناس يكادون يفقدون رشدهم مع سكرة الحياة ومطالبها ولذاتها. وفى عصرنا الحاضر، يكاد ذكر الآخرة يكون محظورا، كما أن ذكر الموت وعظ بارد!! ولست أحب النواح والتشاؤم والنعيق، ولكنى أكره الغفلة وهزائم الفكر الإنسانى أمام الهوى الجامح. أريد أن يعرف الناس من أين جاءوا وإلى أين يعودون {إن هذه تذكرة فمن شاء اتخذ إلى ربه سبيلا}. والله يزيد الذين اهتدوا هدى ويزيح من أمامهم العوائق. أما الناسون لله العمون عن آياته فهو يذرهم في طغيانهم {يدخل من يشاء في رحمته والظالمين أعد لهم عذابا أليما}. اهـ.

.في رياض آيات السورة الكريمة:

.فصل في أسرار ترتيب السورة:

قال السيوطي:
سورة الإنسان:
أقول: وجه اتصالها بسورة القيامة في غاية الوضوح فإنه تعالى ذكر في حر تلك مبدأ خلق الإنسان من نطفة، ثم ذكر مثل ذلك في مطلع هذه السورة، مفتتحاً بخلق آدم أبي البشر ولما ذكر هناك خلقه منهما، قال هنا {فجَعلَ منهُ الزوجينِ الذكرَ والأُنثى} ولما ذكر هناك خلقه منهما، قال هنا {فجعلناهُ سميعاً بصيراً}، فعلق به غير ما علق بالأول، ثم رتب عليه هداية السبيل، وتقسيمه إلى شاكر وكفور، ثم أخذ في جزاء كل.
ووجه آخر، هو أنه لما وصف حال يوم القيامة في تلك السورة، ولم يصف فيها حال النار والجنة، بل ذكرهما على سبيل الإجمال، فصلهما في هذه السورة، واطنب في وصف الجنة، وذلك كله شرح لقوله تعالى هناك: {وجوهٌ يَومَئذٍ ناضِرة} وقوله هنا: {إِنّا أَعتدنا للكافِرينَ سلاسل وأَغلالا وسَعيراً} شرح لقوله هناك {تظنُ أَن يُفعل بها فاقرة} وقد ذكر هناك {كلا بل يحبونَ العاجِلة ويَذَرونَ الآخِرة} وذكر هنا في هذه السورة {إِن هؤلاء يحبون العاجِلة ويَذرونَ وراءهم يوماً ثقيلا} وهذا من وجوه المناسبة. اهـ.

.تفسير الآيات (1- 3):

قوله تعالى: {هَلْ أَتَى عَلَى الإنسان حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا (1) إِنَّا خَلَقْنَا الإنسان مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نبتليه فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا (2) إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا (3)}

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
(بسم الله) الملك الذي خلق الخلائق لمعرفة أسمائه الحسنى (الرحمن) الذي عمهم بنعمة الظاهرة فرادى ومثنى (الرحيم) الذي خص منهم من اختاره لوداده بالنعمة الباطنة والمقام الأسنى.
ولما تقدم في آخر القيامة التهديد على مطلق التكذيب، وأن المرجع إلى الله وحده، والإنكار على من ظن أنه يترك سدى والاستدلال على البعث وتمام القدرة عليه، تلاه أول هذه بالاستفهام الإنكاري على ما يقطع معه بأن لا يترك سدى، فقال مفصلاً ما له سبحانه عليه من نعمة الإيجاد والإعداد والإمداد والإسعاد: {هل أتى} أي بوجه من الوجوه {على الإنسان} أي هذا النوع الذي شغله عما يراد به ويراد له لعظم مقداره في نفس الأمر الأنس بنفسه والإعجاب بظاهر حسه والنسيان لما بعد حلول رمسه {حين من الدهر} أي مقدار محدود وإن قل من الزمان الممتد الغير المحدود حال كونه {لم يكن} أي في ذلك الحين كوناً راسخاً {شيئاً مذكوراً} أي ذكراً له اعتبار ظاهر في الملأ الأعلى وغيره حتى أنه يكون متهاوناً به غير منظور إليه ليجوز أن يكون سدى بلا أمر ونهي، ثم يذهب عدماً ليس الأمر كذلك، بل ما أتى عليه شيء من ذلك بعد خلقه إلا وهو فيه شيء مذكور، وذلك أن الدهر هو الزمان، والزمان هو مقدار حركة الفلك- كما نقله الرازي في كتاب اللوامع في سورة {يس} عند قوله تعالى: {ولا الليل سابق النهار} فإنه قال: الزمان ابتداؤه من حركات السماء فإن الزمان مقدار حركات الفلك- انتهى وآدم عليه السلام تم الخلق بتمام خلقه في آخر يوم الجمعة أول جمعة كانت، وكانت طينته- قبل ذلك بمدة مخمرة هو فيها بين الروح والجسد، قال ابن مسعود- رضى الله عنه ـ: خلق الله آدم عليه السلام من تراب فأقام أربعين سنة ثم من طين أربعين سنة ثم من صلصال أربعين سنة ثم من حمإ مسنون أربعين سنة ثم خلقه بعد ستين ومائة سنة، وقال البغوي: قال ابن عباس- رضى الله عنهما ـ: ثم خلقه بعد عشرين ومائة سنة: فحينئذ ما أتى عليه زمان إلا وهو شيء مذكور إما بالتخمير وإما بتمام التصوير، فالاستفهام على بابه وهو إنكاري، وليست (هل) بمعنى (قد) إلا إن قدرت قبلها الهمزة، وكان الاستفهام إنكارياً لينتفي مضمون الكلام، والمراد أنه هو المراد من العالم، فحينئذ ما خلق الزمان إلا لأجله، فهو أشرف الخلائق، وهذا أدل دليل على بعثه للجزاء، فهل يجوز مع ذلك أن يترك سدى فيفنى المظروف الذي هو المقصود بالذات، ويبقى الظرف الذي ما خلق إلا صواناً له، والذي يدل على ذلك من أقوال السلف أنه روي أن رجلاً قرأها عند ابن مسعود- رضى الله عنه- فقال: يا ليت ذلك لم يكن.
وقال الإمام أبو جعفر بن الزبير: قوله تعالى: {هل أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئاً مذكوراً} [الإنسان: 1] تعريف الإنسان بحاله وابتداء أمره ليعلم أن لا طريق له للكبر واعتقاد السيادة لنفسه، وأن لا يغلطه ما اكتنفه من الألطاف الربانية والاعتناء الإلهي والتكرمة فيعتقد أنه يستوجب ذلك ويستحقه {وما بكم من نعمة فمن الله} [النحل: 53] ولما تقدم في القيامة إخباره تعالى عن حال منكري البعث عناداً واستكباراً وتعامياً عن النظر والاعتبار {أيحسب الإنسان أن لن نجمع عظامه} [القيامة: 3] وقوله بعد {فلا صدق ولا صلى ولكن كذب وتولى ثم ذهب إلى أهله يتمطى} [القيامة: 31- 33] أي يتبختر عتواً واستكباراً ومرحاً وتجبراً، وتعريفه بحاله التي لو فكر فيها لما كان منه ما وصف، وذلك قوله: {ألم يكن نطفة من مني يمنى ثم كان علقة فخلق فسوى} [القيامة: 37- 38] أتبع ذلك بما هو أعرق في التوبيخ وأوغل في التعريف وهو أنه قد كان لا شيء فلا نطفة ولا علقة، ثم أنعم الله عليه بنعمة الإيجاد ونقله تعالى من طور إلى طور فجعله نطفة من ماء مهين في قرار مكين ثم كان علقة ثم مضغة إلى إخراجه وتسويته خلقاً آخر فتبارك الله أحسن الخالقين، فمن اعتبر اتصافه بالعدم ثم تقلبه في هذه الأطوار المستنكف حالها والواضح فناؤها واضمحلالها، وأمده الله تعالى بتوفيقه عرف حرمان من وصف في قوله: {ثم ذهب إلى أهله يتمطى} فسبحان الله ما أعظم حلمه وكرمه ورفقه، ثم بين تعالى ما جعله للإنسان من السمع والبصر ابتلاء له، ومن أدركه أدركه الغلط وارتكب الشطط- انتهى.
ولما ذكر مطلق خلقه، وقرر أنه خلاصة الكون، شرع يذكر كيفية خلقه ويدل على ما لزم من ذلك من أنه ما خلق الخلق إلا لأجله وأنه لا يجوز أن يهمل فقال معلماً بالحال التي هي قيد الجملة ومحط الفائدة أنه ما خلق إلا للآخرة، مفصلاً أمر الإيجاد بالفاعل والصورة والمادة والغاية وأكده لإنكارهم له: {إنا} أي على ما لنا من العظمة {خلقنا} أي قدرنا وصورنا، وأظهر ولم يضمر لأن الثاني خاص والأول عام لآدم عليه الصلاة والسلام وجميع ولده فقال: {الإنسان} أي بعد خلق آدم عليه الصلاة والسلام {من نطفة} أي مادة هي ماء جدًّا من الرجل والمرأة، وكل ماء قليل في وعاء فهو نطفة وهي المادة التي هي السبب الحامل للقوة المولدة.
ولما كان خلقه على طبائع مختلفة وأمزجة متفاوتة أعظم لأجره إن جاهد ما يتنازعه من المختلفات بأمر ربه الذي لا يختلف، وكانت أفعاله تابعة لأخلاقه وأخلاقه تابعة لجبلته قال: {أمشاج} أي أخلاط- جمع مشج أو مشيج مثل خدن وخدين وأخدان، وخلط وخليط وأخلاط، من مشجت الشيء- إذا خلطته، لأنه من مني الرجل ومني المرأة، وكل منهما مختلف الأجزاء متباين الأوصاف في الرقة والثخن والقوام والخواص تجتمع مع الأخلاط وهي العناصر الأربعة، ماء الرجل غليظ أبيض، وماء المرأة رقيق أصفر فأيهما علا كان الشبه له، وما كان من عصب وعظم فمن نظفة الرجل، وما كان من دم ولحم وشعر فمن ماء المرأة، وقال يمان: كل لونين اختلطا فهو أمشاج، وقال قتادة: هي أطوار الخلق من النطفة وما بعدهما، وكما يشبه ما غلب عليه من باطن الأمشاج من الطيب والخبث، وكيفية تمشيجه أن الماء إذا وصل إلى قرار الرحم اختلط بماء المرأة ثم بدم الطمث وخثر حتى صار كالرائب ثم احمر وحينئذ يسمى علقة، فاذا اشتد ذلك الامتزاج وقوي وتمتن حتى استعد لأن يقسم فيه الأعضاء سمي مضغة، فإذا أفيضت عليه صورة الأعضاء وتقسم كساه حينئذ مفيضه عز وجل لحماً، فأفاض عليه القوة العاقلة، ويسمى حينئذ جنيناً، وذلك بعد تقسم أجزائه إلى عظام وعروق وأعصاب وأوتار ولحم، فدور الرأس وشق في جانبيه السمع وفي مقدمه المبصر والأنف والفم، وشق في البدن سائر المنافذ ثم مد اليدين والرجلين وقسم رؤوسها بالأصابع، وركب الأعضاء الباطنة من القلب والمعدة والكبد- والطحال والرئة والمثانة، فسبحان من خلق تلك الأشياء من نطفة سخيفة مهينة كوّن منها العظام مع قوتها وشدتها وجعلها عماد البدن وقوامه وقدرها بمقادير وأشكال مختلفة، فمنها صغير وكبير، وطويل وقصير، وعريض ومستدير، ومجوف ومصمت، ودقيق وثخين، ولم يجعلها عظماً واحداً لأن الإنسان محتاج إلى الحركة بجملة بدنه وببعض أعضائه ثم جعل بين تلك العظام مفاصل ثم وصلها بأوتار أنبتها من أحد طرفي العظم وألصقها بالطرف الآخر بالرباط له ثم خلق في أحد طرفي العظم زوائد خارجة، وفي الآخر حفراً موافقة لشكل الزوائد لتدخل فيها، وخلق الرأس مع كريته من خمسة وخمسين عظماً مختلفة الأشكال وألف بعضها مع بعض، فجعل في القحف ستة وفي اللحى الأعلى أربعة عشر، واثنان للأسفل، والباقي في الأسنان، وجعل الرقبة مركباً للرأس وركبها من سبع خرزات فيها تجويفات وزيادات ونقصانات لينطبق بعضها على بعض، وركب الظهر من أربع وعشرين خرزة وعظم العجز من ثلاثة أجزاء، وجعل من أسفله عظم العصعص أو اللفة من ثلاثة أجزاء مختلفة، ثم وصل عظام الظهر بعظام الصدر وعظام الكتف وغيرها حتى بلغ مجموع عظام بدن الإنسان مائتي عظم وثمانية وأربعين عظماً سوى العظام التي حشا بها خلل المفاصل، وخلق سبحانه آلات التحريك للعظام وهي العضلات وهي خمسمائة وسبع وعشرون عضلة كل منها على قدر مخصوص ووضع مخصوص لو تغير عن ذلك أدنى تغير لاختلت مصالح البدن، وكذا الأعصاب والأوردة والشرايين، ثم انظر كيف خلق الظهر أساساً للبدن، والبطن حاوياً لآلات الغذاء والرأس مجمعاً للحواس، ففتح العين ورتب طبقاتها وأحسن شكلها ولونها وأحكمها بحيث ينطبع في مقدار عدسة منها صورة السماوات على عظمها، وحماها بالأجفان لتسترها وتحفظها، ثم أودع الأذنين ماء مراً يدفع عنها الهوام وحاطهما بصدفين لجمع الصوت ورده إلى الصماخ وليحس بدبيب الهوام وجعل فيها تعريجاً لتطويل الطريق فلا تصل الهوام إلى جرم الصماخ سريعاً، ثم رفع الأنف في الوجه وأودع فيه حاسة الشم للاستدلال بالروائح على الأطعمة والأغذية ولاستنشاق الروائح الطيبة لتكون مروحة للقلب، وأودع الفم اللسان وجعله على كونه لحمة واحدة معرباً عما في النفس، وزين القم بالإنسان فحدد بعضها لتكون آلة للنقب وحدد بعضها لتصلح للقطع، وجعل بعضها عريضاً مفلطحاً صالحاً للطحن وبيض ألوانها ورتب صفوفها وسوى رؤوسها ونسق ترتيبها حتى صارت كالدر المنظوم، ثم أطبق على الفم الشفتين وحسن لونهما لتحفظا منفذه وهيأ الحنجرة لخروج الصوت، وخالف أشكال الحناجر في الضيق والسعة والخشونة والملاسة والصلابة والرخاوة والطول والقصر، فاختلفت الأصوات بسببها ليميز السامع المصوّتين بسبب تمييز أصواتهم فيعرفهم وإن لم يرهم، وسخر كل عضو من أعضاء الباطن لشيء مخصوص، فالمعدة لإنضاج الغذاء، والكبد لإحالته إلى الدم، والطحال لجذب السواد، والمرارة لجذب الصفراء، والكلية لجذب الفضلة المائية، والمثانة لخدمة الكلية بقبول الماء عنها ثم إخراجه من طريقه، والعروق لخدمة الكبد في إيصال الدم إلى سائر أطراف البدن، وكان مبدأ ذلك كله النطفة على صغرها في داخل الرحم في ظلمات ثلاثة ولو كشف الغطاء وامتد البصر إليه لرأى التخطيط والتصوير يظهر عليه شيئاَ فشيئاً ولا يرى المصور ولا الإله، فسبحانه ما أعظم شأنه وأبهر برهانه، فيالله العجب ممن يرى نقشاً حسناً على جدار فيتعجب من حسنه وحذق صانعه ثم لا يزال يستعظمه ثم ينظر إلى هذه العجائب في نفسه وفي غيره ثم يغفل عن صانعه ومصوره فلا تدهشه عظمته ويحيره جلاله وحكمته.
ولما كان الإنسان مركباً من روح خفيف طاهر وبدن هو مركب الحظوظ والشهوات واللوم والدنيات، فكان الروح بكماله والبدن بنقصانه يتعالجان، كل منهما يريد أن يغلب صاحبه، قوى سبحانه الروح بالشرع الداعي إلى معالي الأخلاق، الناهي عن مساويها، المبين لذلك غاية البيان على يد إنسان طبعه سبحانه على الكمال ليقدر على التلقي من الملائكة، فيكمل أبناء نوعه، فدل على ذلك بحال بناها من ضمير العظمة فقال مبيناً للغاية: {نبتليه} أي نعامله بما لنا من العظمة بالأمر والنهي والوعظ معاملة المختبر ونحن أعلم به منه، ولكنا فعلنا ذلك لنقيم عليه الحجة على ما يتعارفه الناس، فإن العاصي لا يعلم أنه أريد منه العصيان، وكذا الطائع، فصار التكليف بحسب وهمه لما خلق الله له من القوة والقدرة الصالحة في الجملة.
ولما ذكر الغاية، أتبعها الإعدادات المصححة لها فقال: {فجعلناه} أي بما لنا من العظمة بسبب ذلك {سميعاً} أي بالغ السمع {بصيراً} أي عظيم البصر والبصِيرة ليتمكن من مشاهدة الدلائل ببصره وسماع الآيات بسمعه، ومعرفة الحجج ببصيرته، فيصح تكليفه وابتلاؤه، فقدم العلة الغائية لأنها متقدمة في الاستحضار على التابع لها من المصحح لورودها، وقدم السمع لأنه أنفع في المخاطبات، ولأن الآيات المسموعة أبين من الآيات المرئية، قال الرازي في اللوامع وإلى هنا انتهى الخبر الفطري ثم يبتدئ منه الاختبار الكسبي- انتهى.
وذلك بنفخ الروح وهي حادثة بعد حدوث البدن بإحداث القادر المختار لها بعد تهيئة البدن لقبولها، ثم أفاض سبحانه على الجملة العقل، وجعل السمع والبصر اللتين له، ولعله خصهما لأنهما أنفع الحواس، ولأن البصر يفهم البصِيرة وهي تتضمن الجميع، وجعل سبحانه له ذلك لاستقراء صور المحسوسات وانتزاع العلوم الكلية منها، وبذلك يكمل علمه الذي منه الدفع عن نفسه التي جعلها الله تعالى محل التكليف ليكمل تكليفه، وذلك أنه سبحانه ركبه من العناصر الأربعة، وجعل صلاحه بصلاحها، وفساده بفسادها لتعاليها، فاضطر إلى قوى يدرك بها المنافي فيجتنبه والملائم فيطلبه، فرتب له سبحانه الحواس الخمس الظاهرة، فجعل السمع في الأذن، والبصر في العين، والذوق في اللسان، والشم في الأنف، وبث اللمس في سائر البدن، ليدفع به عن جميع الأعضاء ما يؤذيها، وهذه الحواس الظاهرة تنبعث عن قوة باطنة تسمى الحس المشترك بحمل ما أدركته فيرتسم هناك وهو في مقدم البطن الأول من الدماغ وينتقل ما ارتسم هنا إلى خزانة الخيال وهي في مؤخر هذا البطن من الدماغ فتحفظ فيها صورته وإن غابت عن الحواس، وثم قوة أخرى من شأنها إدراك المعاني الجزئية المتعلقة بالمحسوسات الشخصية كعداوة زيد وصداقته تسمى الوهم ومحلها الدماغ كله والأخص بها التجويف الأوسط وخصوصاً مؤخره، وقوة أخرى أيضاً شأنها خزن ما أدركته القوة الوهمية من المعاني الجزئية تسمى الحافظة باعتبار، والذاكرة باعتبار، ومحلها التجويف المؤخر في الدماغ، وقوة أخرى من شأنها تفتيش تلك الخزائن وتركيب بعض مودعاتها مع بعض وتفصيل بعضها مع بعض ومحلها وسلطانها في أول التجويف الأوسط، وتلك القوة تسمى مخيلة باعتبار تصريف الوهم لها ومفكرة باعتبار استعمال النفس لها، وقد اقتضت الحكمة الربانية تقديم ما يدرك الصور الجرمية وتأخير ما يدرك المعاني الروحانية، وتوسيط المتصرف فيهما بالحكم والاسترجاع للأمثال المنمحية من الجانبين، ثم لا تزال هذه القوى تخدم ما فوقها كما خدمتها الحواس الخمس إلى أن تصير عقلاً مستفاداً، وهو قوة للنفس بها يكون لها حضور المعقولات بالفعل، وهذا العقل هو غاية السلوك الطلبي للإنسان وهو الرئيس المطلق المخدوم للعقل بالفعل، وهو القوة التي تكون للنفس بها اقتدار على استحضار المعقولات- الثانية وهو المخدوم للعقل الهيولاني المشبه بالهيولى الخالية في نفسها عن جميع الصور، وهو قوة من شأنها الاستعداد المحض لدرك المعقولات باستعمال الحواس في تصفح الجزئيات واستقرائها المخدومات كلها للعقل العملي، وهو القوة النظرية المخدوم للوهم المخدوم لما بعده من الحافظة وما قبله من المتخيلة المخدومتين للخيال المخدوم للحس المشترك المخدوم للحواس الظاهرة.
ولما كان كأنه قيل: هبه خلق هكذا فكان ماذا؟ قال شفاء لعيّ هذا السؤال وبياناً لنعمة الإمداد: {إنا} أي بما لنا من العظمة {هديناه} أي بينا له لأجل الابتلاء {السبيل} أي الطريق الواضح الذي لا طريق في الحقيقة غيره، وهو طريق الخير الذي من حاد عنه ضل، وذلك بما أنزل من الكتب وأرسلنا من الرسل ونصبنا من الدلائل في الأنفس والآفاق، وجعلنا له من البصِيرة التي يميز بها بين الصادق والكاذب وكلام الخلق وكلام الخالق والحق والباطل وما أشبهه.
ولما كان الإنسان عند البيان قد كان منه قسمان، وكان السياق لبيان تعظيمه بأنه خلاصة الكون والمقصود من الخلق، قال بانياً حالاً من ضميره في {هديناه} مقسماً له مقدماً القسم الذي أتم عليه بالبيان نعمة الهداية بخلق الإيمان، لأن ذلك أنسب بذكر تشريفه للإنسان، بجعله خلاصة الوجود وبقوله: «إن رحمتي سبقت غضبي» في سياق ابتداء الخلق، معبراً باسم الفاعل الخالي من المبالغة، لأنه لا يقدر أحد أن يشكر جميع النعم، فلا يسمى شكوراً إلا بتفضل من ربه عليه: {إما شاكراً} أي لإنعامه ربه عليه.
ولما كان الإنسان، لما له من النقصان، لا ينفك غالباً عن كفر ما، أتى بصيغة المبالغة تنبيهاً له على ذلك معرفاً له أنه لا يأخذه إلاّ بالتوغل فيه ليعرف نعمة الحلم عنه فيحمله الخجل على الإقبال على من يرضى منه بقليل الشكر، ويحتمل أن يفهم ذلك أن من كفر نعمة واحدة فقد كفر الجميع فصار بليغ الكفر فقال: {وإما كفوراً} أي بليغ الكفر بالإعراض والتكذيب وعبادة الغير والمعاندة فإحسانه غير موف إساءته مفرطة، وبدأ بالشكر لأنه الأصل، روى الشيخان عن أبي هريرة- رضى الله عنه- أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه» الحديث، ورواه أحمد بن منيع عن ابن عباس- رضى الله عنهما ـ، ورواه الإمام أحمد عن جابر- رضى الله عنه- ولفظه: «كل مولود يولد على الفطرة حتى يعرب عنه لسانه إما شاكراً وإما كفوراً» رواه الإمام أحمد أيضاً وأبو يعلى عن الأسود بن سريع- رضى الله عنه ـ. اهـ.

.القراءات والوقوف:

قال النيسابوري:

.القراءات:

{سلاسلاً} بالتنوين والوقف بالألف: أبو جعفر ونافع وعلي وأبو بكر وحماد وهشام {سلاسل} في الحالين: ابن كثير وحمزة وخلف وسهل ويعقوب يصلون بغير ألف ويقفون بالألف {قوارير قوارير} غير مصروفين في الحالين: حمزة ويعقوب كلاهما بالتنوين والوقف بالألف والثاني بغير الألف في الحالين. الباقون كلاهما بغير تنوين والوقف على الأول بالألف. {لؤلؤاً} بالواو في الأول: شجاع ويزيد وأبو بكر وحماد. الآخرون: بهمزتين. {عاليهم} بسكون الياء وكسر الهاء: أبو جعفر ونافع وحمزة والمفضل الباقون: بفتح الياء وضم الهاء {خضر واستبرق} بالرفع فيهما {وإستبرق} بالخفص: ابن كثير والمفضل وأبو بكر وحماد. الآخرون: بالخفض فيهما {وما يشاؤن} على الغيبة: ابن كثير وابن عامر وأبو عمرو.

.الوقوف:

{مذكوراً} o {أمشاج} لا قد قيل يوقف عليه لئلا يوهم أن {نبتليه} صفة له لأنه حال من {خلقنا} أي خلقناه مريدين ابتلاءه والوهم المذكور زائل لأن ضمير المفعول في {نبتليه} واحد والأمشاخ جمع. {بصيراً} o {كفوراً} o {سعيراً} o {كافوراً} o ج لاحتمال أن يكون {عيناً} بدلاً {تفجيراً} o {مستطيراً} o {شكوراً} o {قمطريراً} o {سروراً} o ج {على الأرائك} ط لاحتمال ما بعده الحال والإستئناف {زمهريراً} o ج لما يعرف في التفسير {تذليلاً} o {كانت قوارير} o لا وقيل: بوقف عليه وليس به لأن الثانية بدل من الأولى {تقديراً} o {زنجبيلاً} o ج لما مر في {كافوراً} {سلسبيلاً} o ج {مخلدون} o بناء على أن {حسبتهم} صفة الولدان والظرف عارض. o {كبيراً} o {واستبرق} ك لاختلاف الجملتين مع أن وجه الحال في الواو واضح أي وقد حلوا {فضة} ج لأن الواو ويحتمل الحال والإستئناف وهذا أولى لإفراد هذه النعمة العظيمة عن سائر النعم {طهوراً} o ط {مشكوراً} o {تنزيلاً} o ج للآية مع الفاء {أو كفوراً} o {أصيلاً} o ج لما ذكرنا {طويلاً} o {ثقيلاً} o {أسرهم} ج {تبديلاً} o {تذكرة} ج {سبيلاً} o {أن يشاء الله} ط {حكيماً} o والوصل أوجه بناء على أن الجملة صفة {في رحمته} ط {أليماً} o. اهـ.

.من أقوال المفسرين:

.قال الفخر:

{هَلْ أَتَى عَلَى الإنسان حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا (1)}
اتفقوا على أن {هَلُ} هاهنا وفي قوله تعالى: {هَلْ أَتَاكَ حديث الغاشية} [الغاشية: 1] بمعنى قد، كما تقول: هل رأيت صنيع فلان، وقد علمت أنه قد رآه، وتقول: هل وعظتك هل أعطيتك، ومقصودك أن تقرره بأنك قد أعطيته ووعظته، وقد تجيء بمعنى الجحد، تقول: وهل يقدر أحد على مثل هذا، وأما أنها تجيء بمعنى الاستفهام فظاهر، والدليل على أنها هاهنا ليست بمعنى الاستفهام وجهان الأول: ما روي أن الصديق رضي الله عنه لما سمع هذه الآية قال: يا ليتها كانت تمت فلا نبتلي، ولو كان ذلك استفهاماً لما قال: ليتها تمت، لأن الاستفهام، إنما يجاب بلا أو بنعم، فإذا كان المراد هو الخبر، فحينئذ يحسن ذلك الجواب الثاني: أن الاستفهام على الله تعالى محال فلابد من حمله على الخبر.
المسألة الأولى:
اختلفوا في الإنسان المذكور هاهنا فقال: جماعة من المفسرين يريد آدم عليه السلام، ومن ذهب إلى هذا قال: إن الله تعالى ذكر خلق آدم في هذه الآية ثم عقب بذكر ولده في قوله: {إِنَّا خَلَقْنَا الإنسان مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نبتليه} [الإنسان: 2]، والقول الثاني: أن المراد بالإنسان بنو آدم بدليل قوله: {إِنَّا خَلَقْنَا الإنسان مِن نُّطْفَةٍ} فالإنسان في الموضعين واحد، وعلى هذا التقدير يكون نظم الآية أحسن.
المسألة الثانية:
{حِينٍ} فيه قولان: الأول: أنه طائفة من الزمن الطويل الممتد وغير مقدر في نفسه والثاني: أنه مقدر بالأربعين، فمن قال: المراد بالإنسان هو آدم قال المعنى: أنه مكث آدم عليه السلام أربعين سنة طيناً إلى أن نفخ فيه الروح، وروى عن ابن عباس أنه بقي طيناً أربعين سنة وأربعين من صلصال وأربعين من حمأ مسنون فتم خلقه بعد مائة وعشرين سنة، فهو في هذه المدة ما كان شيئاً مذكوراً، وقال الحسن: خلق الله تعالى كل الأشياء ما يرى وما لا يرى من دواب البر والبحر في الأيام الستة التي خلق فيها السموات والأرض وآخر ما خلق آدم عليه السلام وهو قوله: {لَمْ يَكُن شَيْئاً مَّذْكُوراً} فإن قبل: إن الطين والصلصال والحمأ المسنون قبل نفخ الروح فيه ما كان إنساناً، والآية تقتضي أنه قد مضى على الإنسان حال كونه إنساناً حين من الدهر مع أنه في ذلك الحين ما كان شيئاً مذكوراً، قلنا: إن الطين والصلصال إذا كان مصوراً بصورة الإنسان ويكون محكوماً عليه بأنه سينفخ فيه الروح وسيصير إنساناً صح تسميته بأنه إنسان، والذين يقولون الإنسان هو النفس الناطقة، وإنها موجودة قبل وجود الأبدان، فالإشكال عنهم زائل واعلم أن الغرض من هذا التنبيه على أن الإنسان محدث، ومتى كان كذلك فلابد من محدث قادر.
المسألة الثالثة:
لم يكن شيئاً مذكوراً محله النصب على الحال من الإنسان كأنه قيل: هل أتى عليه حين من الدهر غير مذكور أو الرفع على الوصف لحين، تقديره: هل أتى على الإنسان حين لم يكن فيه شيئاً.
قوله تعالى: {إِنَّا خَلَقْنَا الإنسان مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ} فيه مسائل:
المسألة الأولى:
المشج: في اللغة الخلط، يقال: مشج يمشج مشجاً إذا خلط، والأمشاج الأخلاط، قال ابن الأعرابي: واحدها مشج ومشيج، ويقال للشيء إذا خلط: مشيج كقولك: خليط وممشوج، كقولك مخلوط.
قال الهذلي:
كأن الريش والفوقين منه ** خلاف النصل شط به مشيج

يصف السهم بأنه قد بعد في الرمية فالتطخ ريشه وفرقاه بدم يسير، قال صاحب (الكشاف): الأمشاج لفظ مفرد، وليس يجمع بدليل أنه صفة للمفرد وهو قوله: {نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ} ويقال أيضاً: نطفة مشيج، ولا يصح أن يكون أمشاجاً جمعاً للمشج بل هما مثلان في الإفراد ونظيره برمة أعشار أي قطع مسكرة، وثوب أخلاق وأرض سباسب، واختلفوا في معنى كون النطفة مختلطة فالأكثرون على أنه اختلاط نطفة الرجل بنطفة المرأة كقوله: {يَخْرُجُ مِن بَيْنِ الصلب والترائب} [الطارق: 7] قال ابن عباس هو اختلاط ماء الرجل وهو أبيض غليظ وماء المرأة وهو أصفر رقيق فيختلطان ويخلق الولد منهما، فما كان من عصب وعظم وقوة فمن نطفة الرجل، وما كان من لحم ودم فمن ماء المرأة، قال مجاهد: هي ألوان النطفة فنطفة الرجل بيضاء ونطفة المرأة صفراء، وقال عبد الله أمشاجها عروقها، وقال الحسن: يعني من نطفة مشجت بدم وهو دم الحيضة وذلك أن المرأة إذا تلقت ماء الرجل وحبلت أمسك حيضها فاختلطت النطفة بالدم، وقال قتادة: الأمشاج هو أنه يختلط الماء والدم أولاً ثم يصير علقة ثم يصير مضغة، وبالجملة فهو عبارة عن انتقال ذلك الجسم من صفة إلى صفة، ومن حال إلى حال.
وقال قوم: إن الله تعالى جعل في النطفة أخلاطاً من الطبائع التي تكون في الإنسان من الحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة، والتقدير من نطفة ذات أمشاج فحذف المضاف وتم الكلام، قال بعض العلماء: الأولى هو أن المراد اختلاط نطفة الرجل والمرأة لأن الله تعالى وصف النطفة بأنها أمشاج، وهي إذا صارت علقة فلم يبق فيها وصف أنها نطفة، ولكن هذا الدليل لا يقدح في أن المراد كونها أمشاجاً من الأرض والماء والهواء والحار.
أما قوله تعالى: {نبتليه} ففيه مسائل:
المسألة الأولى:
نبتليه معناه لنبتليه، وهو كقول الرجل: جئتك أقضي حقك، أي لأقضي حقك، وأتيتك أستمنحك، أي لأستمنحك، كذا قوله: {نبتليه} أي لنبتليه ونظيره قوله: {وَلاَ تَمْنُن تَسْتَكْثِرُ} [المدثر: 6] أي لتستكثر.
المسألة الثانية:
{نبتليه} في موضع الحال، أي خلقناه مبتلين له، يعني مريدين ابتلاءه.
المسألة الثالثة:
في الآية قولان: أحدهما: أن فيه تقديماً وتأخيراً، والمعنى فجعلناه سميعاً بصيراً لنبتليه والقول الثاني: أنه لا حاجة إلى هذا التغيير، والمعنى إنا خلقناه من هذه الأمشاج لا للبعث، بل للابتلاء والامتحان.
ثم ذكر أنه أعطاه ما يصح معه الابتلاء وهو السمع والبصر، فقال: {فَجَعَلْنَا سَمِيعاً بَصِيراً} والسمع والبصر كنايتان عن الفهم والتمييز، كما قال تعالى حاكياً عن إبراهيم عليه السلام: {لِمَ تَعْبُدُ مَالا يَسْمَعُ وَلاَ يَبْصِرُ} [مريم: 42] وأيضاً قد يراد بالسميع المطيع، كقوله سمعاً وطاعة، وبالبصير العالم يقال: فلان بصير في هذا الأمر، ومنهم من قال: بل المراد بالسمع والبصر الحاستان المعروفتان.
والله تعالى خصهما بالذكر، لأنهما أعظم الحواس وأشرفها.
قوله تعالى: {إِنَّا هديناه السبيل} أخبر الله تعالى أنه بعد أن ركبه وأعطاه الحواس الظاهرة والباطنة بين له سبيل الهدى والضلال.
وفيه مسائل:
المسألة الأولى:
الآية دالة على أن إعطاء الحواس كالمقدم على إعطاء العقل والأمر كذلك لأن الإنسان خلق في مبدأ الفطرة خالياً عن معرفة الأشياء، إلا أنه أعطاه آلات تعينه على تحصيل تلك المعارف، وهي الحواس الظاهرة والباطنة، فإذا أحس بالمحسوسات تنبه لمشاركات بينها ومباينات، ينتزع منها عقائد صادقة أولية، كعلمنا بأن النفي والإثبات لا يجتمعان ولا يرتفعان وأن الكل أعظم من الجزء، وهذه العلوم الأولية هي آلة العقل لأن بتركيباتها يمكن التوصل إلى استعلام المجهولات النظرية، فثبت أن الحس مقدم في الوجود على العقل، ولذلك قيل: من فقد حساً فقد علماً، ومن قال: المراد من كونه سميعاً بصيراً هو العقل، قال: إنه لما بين في الآية الأولى أنه أعطاه العقل بين في هذه الآية، أنه إنما أعطاه العقل ليبين له السبيل ويظهر له أن الذي يجب فعله ما هو.
والذي لا يجوز ما هو.
المسألة الثانية:
السبيل هو الذي يسلك من الطريق، فيجوز أن يكون المراد بالسبيل هاهنا سبيل الخير والشر والنجاة والهلاك، ويكون معنى هديناه، أي عرفناه وبينا كيفية كل واحد منهما له، كقوله تعالى: {وهديناه النجدين} [البلد: 10] ويكون السبيل اسماً للجنس، فلهذا أفرد لفظه كقوله تعالى: {إِنَّ الإنسان لَفِى خُسْرٍ} [العصر: 2] ويجوز أن يكون المراد بالسبيل، هو سبيل الهدى لأنها هي الطريقة المعروفة المستحقة لهذا الاسم على الإطلاق، فأما سبيل الضلالة فإنما هي سبيل بالإضافة، ألا ترى إلى قوله تعالى: {إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءنَا فَأَضَلُّونَا السبيلا} [الأحزاب: 67] وإنما أضلوهم سبيل الهدى، ومن ذهب إلى هذا جعل معنى قوله: {هديناه} أي أرشدناه، وإذا أرشد لسبيل الحق، فقد نبه على تجنب ما سواها، فكان اللفظ دليلاً على الطريقين من هذا الوجه.
المسألة الثالثة:
المراد من هداية السبيل خلق الدلائل، وخلق العقل الهادي وبعثة الأنبياء وإنزال الكتب، كأنه تعالى قال: خلقتك للابتلاء ثم أعطيتك كل ما تحتاج إليه ليهلك من هلك عن بينة وليس معناه خلقنا الهداية، ألا ترى أنه ذكر السبيل، فقال: {هديناه السبيل} أي أريناه ذلك.
المسألة الرابعة:
قال الفراء: هديناه السبيل، وإلى السبيل وللسبيل، كل ذلك جائز في اللغة.
قوله تعالى: {إِمَّا شاكراً وَإِمَّا كفوراً} فيه مسائل:
المسألة الأولى:
في الآية أقوال:
الأول: أن {شاكرًا أو كفوراً} حالان من الهاء، في {هديناه السبيل}، أي هديناه السبيل كونه شاكراً وكفوراً، والمعنى أن كل ما يتعلق بهداية الله وإرشاده، فقد تم حالتي الكفر والإيمان.
والقول الثاني: أنه انتصب قوله {شاكراً أو كفوراً} بإضمار كان، والتقدير سواء كان شاكراً أو كان كفوراً.
والقول الثالث: معناه إنا هديناه السبيل، ليكون إما شاكراً وإما كفوراً أي ليتميز شكره من كفره وطاعته من معصيته كقوله: {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} [هود: 7] وقوله: {وَلَقَدْ فَتَنَّا الذين مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ الله الذين صَدَقُواْ} [العنكبوت: 3] وقوله: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حتى نَعْلَمَ المجاهدين مِنكُمْ والصابرين وَنَبْلُوَ أخباركم} [محمد: 31] قال القفال: ومجاز هذه الكلمة على هذا التأويل قول القائل، قد نصحت لك إن شئت فأقبل، وإن شئت فاترك، أي فإن شئت فتحذف الفاء فكذا المعنى: إنا هديناه السبيل فإما شاكراً وإما كفوراً، فتحذف الفاء وقد يحتمل أن يكون ذلك على جهة الوعيد أي إنا هديناه السبيل فإن شاء فليكفر وإن شاء فليشكر، فإنا قد أعتدنا للكافرين كذا وللشاكرين كذا، كقوله: {وَقُلِ الحق مِن رَّبّكُمْ فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ} [الكهف: 29].
القول الرابع: أن يكونا حالين من {السبيل} أي عرفناه السبيل، أي إما سبيلاً شاكراً، وإما سبيلاً كفوراً، ووصف السبيل بالشكر والكفر مجاز.
واعلم أن هذه الأقوال كلها لائقة بمذهب المعتزلة.
والقول الخامس: وهو المطابق لمذهب أهل السنة، واختيار الفراء أن تكون إما هذه الآية كإما في قوله: {إِمَّا يُعَذّبهمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ} [التوبة: 106] والتقدير: إنا هديناه السبيل ثم جعلناه تارة شاكراً أو تارة كفورًا ويتأكد هذا التأويل بما روي أنه قرأ أبو السمال بفتح الهمزة في {أَمَّا}، والمعنى أما شاكراً فبتوفيقنا وأما كفوراً فبخذلاننا.
قالت المعتزلة: هذا التأويل باطل، لأنه تعالى ذكر بعد هذه الآية تهديد الكفار فقال: {إِنَّا أَعْتَدْنَا للكافرين سلاسل وأغلالا وَسَعِيراً} [الإنسان: 4] ولو كان كفر الكافر من الله وبخلقه لما جاز منه أن يهدده عليه، ولما بطل هذا التأويل ثبت أن الحق هو التأويل الأول وهو أنه تعالى هدى جميع المكلفين سواء آمن أو كفر، وبطل بهذا قول المجبرة أنه تعالى لم يهد الكافر إلى الإيمان، أجاب أصحابنا بأنه تعالى لما علم من الكافر أنه لا يؤمن ثم كلفه بأن يؤمن فقد كلفه بأن يجمع بين العلم بعدم الإيمان ووجود الإيمان وهذا تكليف بالجمع بين المتنافيين، فإن لم يصر هذا عذراً في سقوط التهديد والوعيد جاز أيضاً أن يخلق الكفر فيه ولا يصير ذلك عذراً في سقوط الوعيد وإذا ثبت هذا ظهر أن هذا التأويل هو الحق، وأن التأويل اللائق بقول المعتزلة: ليس بحق، وبطل به قول المعتزلة.
المسألة الثانية:
أنه تعالى ذكر نعمه على الإنسان فابتدأ بذكر النعم الدنيوية، ثم ذكر بعده النعم الدينية، ثم ذكر هذه القسمة.
واعلم أنه لا يمكن تفسير الشاكر والكفور بمن يكون مشتغلاً بفعل الشكر وفعل الكفران وإلا لم يتحقق الحصر، بل المراد من الشاكر الذي يكون مقرا معترفاً بوجوب شكر خالقه عليه والمراد من الكفور الذي لا يقر بوجوب الشكر عليه، إما لأنه ينكر الخالق أو لأنه وإن كان يثبته لكنه ينكر وجوب الشكر عليه، وحينئذ يتحقق الحصر وهو أن المكلف، إما أن يكون شاكراً وإما أن يكون كفوراً، واعلم أن الخوارج احتجوا بهذه الآية على أنه لا واسطة بين المطيع والكافر، قالوا: لأن الشاكر هو المطيع، والكفور هو الكافر، والله تعالى نفى الواسطة وذلك يقتضي أن يكون كل ذنب كفراً، وأن يكون كل مذنب كافراً، واعلم أن البيان الذي لخصناه يدفع هذا الإشكال، فإنه ليس المراد من الشاكر الذي يكون مشتغلاً بفعل الشكر فإن ذلك باطل طرداً وعكساً، أما الطرد فلأن اليهودي قد يكون شاكراً لربه مع أنه لا يكون مطيعاً لربه، والفاسق قد يكون شاكراً لربه، مع أنه لا يكون مطيعاً لربه، وأما العكس فلأن المؤمن قد لا يكون مشتغلاً بالشكر ولا بالكفران، بل يكون ساكناً غافلاً عنهما، فثبت أنه لا يمكن تفسير الشاكر بذلك، بل لابد وأن يفسر الشاكر بمن يقر بوجوب الشكر والكفور بمن لا يقر بذلك، وحينئذ يثبت الحصر، ويسقط سؤالهم بالكلية، والله أعلم. اهـ.

.قال القرطبي:

قوله تعالى: {هَلْ أتى عَلَى الإنسان حِينٌ مِّنَ الدهر لَمْ يَكُن شَيْئاً مَّذْكُوراً}
(هل): بمعنى قد؛ قاله الكسائي والفراء وأبو عبيدة.
وقد حكي عن سيبويه (هل) بمعنى قد.
قال الفراء: هل تكون جَحْداً، وتكون خبراً، فهذا من الخبر؛ لأنك تقول: هل أعطيتك؟ تُقَرِّره بأنك أعطيته.
والجحد أن تقول: هل يقدر أحد على مثل هذا؟ وقيل: هي بمنزلة الاستفهام، والمعنى: أتى.
والإنسان هنا آدم عليه السلام؛ قاله قتادة والثَّوريّ وعِكرمة والسّديّ.
وروي عن ابن عباس.
{حِينٌ مِّنَ الدهر} قال ابن عباس في رواية أبي صالح: أربعون سنة مرّت به، قبل أن ينفخ فيه الروح، وهو ملقى بين مكة والطائف.
وعن ابن عباس أيضاً في رواية الضحاك أنه خلق من طين، فأقام أربعين سنة، ثم من حَمَإٍ مسنون أربعين سنة، ثم من صَلْصال أربعين سنة، فتم خلقه بعد مائة وعشرين سنة.
وزاد ابن مسعود فقال: أقام وهو من تراب أربعين سنة، فتم خلقه بعد مائة وستين سنة، ثم نفخ فيه الروح.
وقيل: الحين المذكور ها هنا: لا يُعْرف مقدارُه؛ عن ابن عباس أيضاً، حكاه الماورديّ.
{لَمْ يَكُن شَيْئاً مَّذْكُوراً} قال الضحاك عن ابن عباس: لا في السماء ولا في الأرض.
وقيل: أي كان جسداً مصوّراً تراباً وطيناً، لا يُذكَر ولا يُعرَف، ولا يُدرَى ما اسمه ولا ما يراد به، ثم نُفِخ فيه الرُّوح، فصار مذكوراً؛ قاله الفراء وقطرب وثعلب.
وقال يحيى بن سلاّم: لم يكن شيئاً مذكوراً في الخَلْق وإن كان عند الله شيئاً مذكوراً.
وقيل: ليس هذا الذِّكر بمعنى الإخبار، فإن إخبار الربّ عن الكائنات قديم، بل هذا الذِّكر بمعنى الخطر والشرف والقدر؛ تقول: فلان مذكور أي له شرف وقدر.
وقد قال تعالى: {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ} [الزخرف: 44] أي قد أتى على الإنسان حين لم يكن له قَدْر عند الخليقة.
ثم لما عَرَّف الله الملائكة أنه جعل آدم خليفة، وحمَّله الأمانة التي عجز عنها السموات والأرض والجبال، ظهر فضله على الكل، فصار مذكوراً.
قال القُشيريّ: وعلى الجملة ما كان مذكوراً للخلق، وإن كان مذكوراً لله.
وحكى محمد ابن الجهم عن الفراء: {لَمْ يَكُنْ شَيْئاً} قال: كان شيئاً ولم يكن مذكوراً.
وقال قوم: النفي يرجع إلى الشيء؛ أي قد مضى مُدَد من الدهر وآدم لم يكن شيئاً يذكر في الخليقة؛ لأنه آخر ما خلقه من أصناف الخليقة، والمعدوم ليس بشيء حتى يأتي عليه حين.
والمعنى: قد مضت عليه أزمنة وما كان آدم شيئاً ولا مخلوقاً ولا مذكوراً لأحد من الخليقة.
وهذا معنى قول قتادة ومقاتل: قال قتادة: إنما خلق الإنسان حديثاً ما نعلم من خليقة الله جل ثناؤه خليقة كانت بعد الإنسان.
وقال مقاتل: في الكلام تقديم وتأخير، وتقديره: هل أتى حين من الدهر لم يكن الإنسان شيئاً مذكوراً؛ لأنه خلقه بعد خلق الحيوان كله، ولم يخلق بعده حيواناً.
وقد قيل: (الإنسان) في قوله تعالى: {هَلْ أتى عَلَى الإنسان حِينٌ} عُنِيَ به الجنس من ذرّية آدم، وأن الحين تسعة أشهر، مدّة حمل الإنسان في بطن أمه {لَمْ يَكُن شَيْئاً مَّذْكُوراً}: إذ كان علقة ومضغة؛ لأنه في هذه الحالة جماد لا خطر له.
وقال أبو بكر رضي الله عنه لما قرأ هذه الآية: ليتها تَمَّت فلا نُبْتَلى.
أي ليت التي أتت على آدم لم تكن شيئاً مَذْكُوراً تَمَّت على ذلك، فلا يلد ولا يُبْتَلى أولادُه.
وسمع عمر بن الخطاب رضي الله عنه رجلاً يقرأ {هَلْ أتى عَلَى الإنسان حِينٌ مِّنَ الدهر لَمْ يَكُن شَيْئاً مَّذْكُوراً} فقال ليتها تَمَّت.
قوله تعالى: {إِنَّا خَلَقْنَا الإنسان} أي ابن آدم من غير خلاف {مِن نُّطْفَةٍ} أي من ماء يقطُر وهو المنيّ، وكل ماء قليل في وعاء فهو نطفة؛ كقول عبد الله بن رواحة يعاتب نفسه:
مالي أَرَاكِ تَكْرَهِينَ الْجَنَّهْ ** هل أنتِ إِلاَّ نُطْفةٌ في شَنَّهْ

وجمعها: نَطف ونِطَاف.
{أَمْشَاجٍ}: أخلاط.
واحدها: مِشْج ومَشِيج، مثل خِدْن وخَدِين؛ قال: رؤبة:
يَطْرحْن كُلَّ مُعْجَلٍ نَشَّاجِ ** لَمْ يُكْسَ جِلْداً في دَمٍ أَمْشَاجِ

ويقال: مَشَجتُ هذا بهذا أي خلطته، فهو مَمْشوج ومَشِيج؛ مثل مَخْلوط وخَلِيط.
وقال المبرّد: واحد الأمشاج: مشيج؛ يقال: مشج يمشِج: إذا خلط، وهو هنا اختلاط النطفة بالدم؛ قال الشَّمَّاخ:
طَوَتْ أَحْشَاء مُرْتِجَةٍ لِوَقْتٍ ** على مَشَج سُلاَلَتُهُ مَهِينُ

وقال الفراء: أمشاج: أخلاط ماء الرجل وماء المرأة، والدم والعَلَقة.
ويقال للشيء من هذا إذا خُلط: مَشِيج كقولك خَلِيط، ومَمْشوج كقولك مَخْلوط.
وروي عن ابن عباس رضي الله عنه قال: الأمشاج: الحمرة في البياض، والبياض في الحمرة.
وهذا قول يختاره كثير من أهل اللغة؛ قال الهُذليّ:
كَأَنَّ الرِّيشَ والْفُوقَيْنِ مِنْهُ ** خِلاَفَ النَّصْلِ سِيطَ به مَشِيجُ

وعن ابن عباس أيضاً قال: يختلط ماء الرجل وهو أبيض غليظ بماء المرأة وهو أصفر رقيق فيخلق منهما الولد، فما كان من عصب وعظم وقوّة فهو من ماء الرجل، وما كان من لحم ودم وشعر فهو من ماء المرأة.
وقد روي هذا مرفوعا؛ ذكره البزار.
وروي عن ابن مسعود: أمشاجها عروق المضغة.
وعنه: ماء الرجل وماء المرأة وهما لونان.
وقال مجاهد: نطفة الرجل بيضاء ونطفة المرأة خضراء وصفراء.
وقال ابن عباس: خلق من ألوان؛ خلق من تراب، ثم من ماء الفرج والرحم، وهي نطفة ثم علقة ثم مضغة ثم عظم ثم لحم.
ونحوه قال قتادة: هي أطوار الخلق: طور وطور علقة وطور مضغة عظام ثم يكسو العظام لحماً؛ كما قال في سورة (المؤمنون)
{وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان مِن سُلاَلَةٍ مِّن طِينٍ} [المؤمنون: 12] الآية.
وقال ابن السِّكِّيت: الأمشاج الأخلاط؛ لأنها ممتزجة من أنواع فخلق الإنسان منها ذا طبائع مختلفة.
وقال أهل المعاني: والأمشاج ما جمع وهو في معنى الواحد؛ لأنه نعت للنطفة؛ كما يقال: بُرْمَةٌ أَعشَار وثوبٌ أخلاقٌ.
وروي عن أبي أيوب الأنصاريّ: قال: جاء حبر من اليهود إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم فقال: أخبرني عن ماء الرجل وماء المرأة؟ فقال: «ماء الرجل أبيض غليظ وماء المرأة أصفر رقيق فإذا عَلاَ ماء المرأة آنثَتْ وإذا عَلاَ ماءُ الرجل أَذْكَرَتْ» فقال الحبر: أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله. وقد مضى هذا القول مستوفًى في سورة (البقرة).
{نبتليه} أي نختبره.
وقيل: نقدر فيه الابتلاء وهو الاختبار.
وفيما يختبر به وجهان: أحدهما نختبره بالخير والشر؛ قاله الكلبي: الثاني نختبر شكره في السَّراء وصبره في الضَّرَّاء؛ قاله الحسن.
وقيل: {نبتليه} نُكلِّفه.
وفيه أيضاً وجهان: أحدهما بالعمل بعد الخلق؛ قاله مقاتل.
الثاني بالدِّين ليكون مأموراً بالطاعة ومنهيًّا عن المعاصي.
وروي عن ابن عباس: {نبتليه}: نصرفه خلقاً بعد خلق؛ لنبتليه بالخير والشر.
وحكى محمد بن الجهم عن الفراء قال: المعنى والله أعلم {فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً} لنبتليه، وهي مُقدّمة معناها التأخير.
قلت: لأن الابتلاء لا يقع إلا بعد تمام الخِلْقة.
وقيل: {فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً}: يعني جعلنا له سمعاً يسمع به الهدى، وبصراً يبصر به الهدى.
قوله تعالى: {إِنَّا هَدَيْنَاهُ السبيل} أي بيّنا له وعَرَّفناه طريق الهدى والضلال، والخير والشرّ ببعث الرسل، فآمن أو كفر؛ كقوله تعالى: {وَهَدَيْنَاهُ النجدين} [البلد: 10].
وقال مجاهد: أي بيّنا له السبيل إلى الشَّقاء والسَّعادة.
وقال الضحاك وأبو صالح والسّديّ: السبيل هنا خروجه من الرحم.
وقيل: منافعه ومضارّه التي يهتدي إليها بطبعه وكمال عقله.
{إِمَّا شاكراً وَإِمَّا كفوراً} أي أيهما فعل فقد بيّنا له.
قال الكوفيون: (أن) هاهنا تكون جزاء و(ما) زائدة أي بيّنا له الطريق إن شَكَر أو كَفَر.
واختاره الفراء ولم يجزْه البصريون؛ إذ لا تدخل (أن) للجزاء على الأسماء إلا أن يضمر بعدها فعل.
وقيل: أي هديناه الرشد، أي بيّنا له سبيل التوحيد بنصب الأدلة عليه؛ ثم إن خلقنا له الهداية اهتدى وآمن، وإن خذلناه كَفَر.
وهو كما تقول: قد نصحت لك، إن شئت فاقبل، وإن شئت فاترك؛ أي فإن شئت، فتحذف الفاء.
وكذا {إِمَّا شاكراً} والله أعلم.
ويقال: هديته السبيل وللسبيل وإلى السبيل.
وقد تقدّم في (الفاتحة) وغيرها.
وجمع بين الشاكر والكفور، ولم يجمع بين الشكور والكفور مع اجتماعهما في معنى المبالغة؛ نفياً للمبالغة في الشكر وإثباتاً لها في الكفر؛ لأن شكر الله تعالى لا يُؤدَّى، فانتفت عنه المبالغة، ولم تنتف عن الكفر المبالغة، فقَلَّ شكره، لكثرة النِّعم عليه وكَثرة كفره وإن قَلّ مع الإحسان إليه.
حكاه الماورديّ. اهـ.

.قال الألوسي:

{هَلْ أتى عَلَى الإنسان حِينٌ مّنَ الدهر لَمْ يَكُن شَيْئاً مَّذْكُوراً}
أصله على ما قيل أهل على أن الاستفهام للتقرير أي الحمل على الإقرار بما دخلت عليه والمقرر به من ينكر البعث وقد علم أنهم يقولون نعم قد مضى على الإنسان حين لم يكن كذلك فيقال فالذي أوجده بعد أن لم يكن كيف يمتنع عليه إحياؤه بعد موته وهل بمعنى قد وهي للتقريب أي تقريب الماضي من الحال فلما سدت هل مسد الهمزة دلت على معناها ومعنى الهمزة معاً ثم صارت حقيقة في ذلك فهي للتقرير والتقريب واستدل على ذلك الأصل بقول زيد الخيل:
سائل فوارس يربوع بشدتنا ** أهل رأونا بسفح القاع ذي الأكم

وقيل هي للاستفهام ولا تقريب وجمعها مع الهمزة في البيت للتأكيد كما في قوله:
ولا للمابهم أبداد واه

بل التأكيد هنا أقرب لعدم الاتحاد لفظاً على أن السيرافي قال الرواية الصحيحة أم هل رأونا على أن أم منقطعة بمعنى بل وقال السيوطي في (شرح شواهد المغني) الذي رأيته في نسخة قديمة من ديوان زيد فهل رأونا بالفاء وعن ابن عباس وقتادة هي هنا بمعنى قد وفسرها بها جماعة من النحاة كالكسائي وسيبويه والمبرد والفراء وحملت على معنى التقريب ومن الناس من حملها على معنى التحقيق وقال أبو عبيدة مجازها قد أتى على الإنسان وليس باستفهام وكأنه أراد ليس باستفهام حقيقة وإنما هي للاستفهام التقريري ويرجع بالآخرة إلى قد أتى ولعل مراد من فسرها بذلك كابن عباس وغيره ما ذكر لا أنها بمعنى قد حقيقة وفي (المغنى) ما تفيدك مراجعته بصِيرة فراجعه.
والمراد بـ: {الإنسان} الجنس على ما أخرجه ابن المنذر عن ابن عباس والحين طائفة محدودة من الزمان شاملة للكثير والقليل والدهر الزمان الممتد الغير المحدود ويقع على مدة العالم جميعها وعلى كل زمان طويل غير معين والزمان عام للكل والدهر وعاء الزمان كلام فلسفي وتوقف الإمام أبو حنيفة في معنى الدهر منكراً أي في المراد به عرفاً في الايمان حتى يقال بماذا يحنث إذا قال والله لا أكلمه دهراً والمعرف عنده مدة حياة الحالف عند عدم النية وكذا عند صاحبيه والمنكر عندهما كالحين وهو معرفاً ومنكراً كالزمان ستة أشهر إن لم تكن نية أيضاً وبها ما نوى على الصحيح وما اشتهر من حكاية اختلاف فتاوي الخلفاء الأربعة في ذلك على عهده عليه الصلاة والسلام مستدلاً كل بدليل وقوله صلى الله عليه وسلم بعد الرفع إليه «أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم» إلا أنه اختار فتوى الأمير كرم الله تعالى وجهه بأن الحين يوم وليلة لما فيه من التيسير لا يصح كما لا يخفى على الناقد البصير ولو صح لم يعدل عن فتوى الأمير معدن البسالة والفتوة بعد أن اختارها مدينة العلم ومفخر الرسالة والنبوة والمعنى هنا قد أتى أو هل أتى على جنس الإنسان قبل زمان قريب طائفة محدودة مقدرة كائنة من الزمان الممتد لم يكن شيئاً مذكوراً بل كان شيئاً غير مذكور بالإنسانية أصلاً أي غير معروف بها على أن النفي راجع إلى القيد والمراد أنه معدوم لم يوجد بنفسه بل كان الموجود أصله مما لا يسمى إنساناً ولا يعرف بعنوان الإنسانية وهو مادته البعيدة أعني العناصر أو المتوسطة وهي الأغذية أو القريبة وهي النطفة المتولدة من الأغذية المخلوقة من العناصر وجملة {لم يكن} إلخ حال من {الإنسان} أي غير مذكور وجوز أن تكون صفة لـ: {حين} بحذف العائد عليه أي لم يكن فيه شيئاً مذكوراً كما في قوله تعالى: {واتقوا يَوْمًا لاَّ تَجْزِى نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئًا} [البقرة: 48] وإطلاق الإنسان على مادته مجاز بجعل ما هو بالقوة منزلاً منزلة ما هو بالفعل أو هو من مجاز الأول وقيل المراد بالإنسان آدم عليه السلام وأيد الأول بقوله تعالى: {إِنَّا خَلَقْنَا الإنسان مِن نُّطْفَةٍ} فإن الإنسان فيه معرفة معادة فلا يفترقان كيف وفي إقامة الظاهر مقام المضمر فضل التقرير والتمكين في النفس فإذا اختلفا عموماً وخصوصاً فاتت الملايمة ولا شك أن الحمل على آدم عليه السلام في هذا لا وجه له ولا نقض به على إرادة الجنس بناء على أنه لا عموم فيه ولا خصوص نعم دل قوله سبحانه {من نطفة} على أن المراد غيره أو هو تغليب وقيل يجعل ما للأكثر للكل مجازاً في الإسناد أو الطرف ورويت إرادته عن قتادة والثوري وعكرمة والشعبي وابن عباس أيضاً وقال في رواية أبي صالح عنه مرت به أربعون سنة قبل أن ينفخ فيه الروح وهو ملقى بين مكة والطائف وفي رواية الضحاك عنه أنه خلق من طين فأقام أربعين سنة ثم من حمأ مسنون فأقام أربعين سنة ثم من صلصال فأقام أربعين سنة فتم خلقه بعد مائة وعشرين سنة ثم نفخ فيه الروح وحكي الماوردي عنه أن الحين المذكور هاهنا هو الزمن الطويل الممتد الذي لا يعرف مقداره وروي نحوه عن عكرمة فقد أخرج عبد بن حميد وابن المنذر أنه قال: إن من الحين حين لا يدرك وتلا الآية فقال والله ما يدري كم أتى عليه حتى خلقه الله تعالى ورأيت لبعض المتصوفة أن {هل} للاستفهام الإنكاري فهو في معنى النفي أي ما أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئا مذكورا وظاهره القول بقدم الإنسان في الزمان على معنى أنه لم يكن زمان إلا وفيه إنسان وهو القدم النوعي كما قال به من قال من الفلاسفة وهو كفر بالإجماع ووجه بأنهم عنوا شيئية الثبوت لقدم الإنسان عندهم بذلك الاعتبار دون شيئية الوجود ضرورة أنه بالنسبة إليها حادث زمانا ويرشد إلى هذا قول الشيخ محيي الدين في الباب 358 من (الفتوحات المكية):
لو لم يكن في العالم من هو على صورة الحق ماحصل المقصود من العلم بالحق أعني العلم الحادث في قوله سبحانه «كنت كنزاً لم أعرف فأحببت أن أعرف فخلقت الخلق وتعرفت إليهم فعرفوني» فجعل نفسه كنزاً والكنز لا يكون إلا مكتنزاً في شيء فلم يكن كنز الحق نفسه إلا في صورة الإنسان الكامل في شيئية ثبوته هناك كان الحق مكنوزاً فلما ألبس الحق الإنسان ثوب شيئية الوجود ظهر الكنز بظهوره فعرفه الإنسان الكامل بوجوده وعلم أنه كان مكنوزاً فيه في شيئية ثبوته وهو لا يشعر به.
انتهى.
ولا يخفى أن الأشياء كلها في شيئية الثبوت قديمة لا الإنسان وحده ولعلهم يقولون الإنسان هو كل شيء لأنه الإمام المبين وقد قال سبحانه {وكل شيء أحصيناه في إمام مبين} [يس: 12] والكلام في هذا المقام طويل ولا يسعنا أن نطيل بيدانا نقول كون هل هنا للإنكار منكر وإن دعوى صحة ذلك لإحدى الكبر والذي فهمه أجلة من الصحابة رضي الله تعالى عنهم من الآية الاخبار الإيجابي أخرج عبد بن حميد وغيره عن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه أنه سمع رجلاً يقرأ هل أتى على الإنسان شيء من الدهر لم يكن شيئاً مذكوراً فقال ليتها تمت وعن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه أنه سمع رجلاً يتلو ذلك فقال يا ليتها تمت فعوتب في قوله هذا فأخذ عموداً من الأرض فقال يا ليتني كنت مثل هذا.
{أَمْشَاجٍ} جمع مشج بفتحتين كسبب وأسباب أو مشج بفتح فكسر ككتف وأكتاف أو مشيج كشهيد وأشهاد ونصير وأنصار أي أخلاط جمع خلط بمعنى مختلط ممتزج يقال مشجت الشيء إذا خلطته ومزجته فهو مشيج وممشوج وهو صفة لنطفة ووصف بالجمع وهي مفردة لأن المراد بها مجموع ماء الرجل والمرأة والجمع قد يقال على ما فوق الواحد أو باعتبار الإجزاء المختلفة فيهما رقة وغلظاً وصفرة وبياضاً وطبيعة وقوة وضعفاً حتى اختص بعضها ببعض الأعضاء على ما أراده الله تعالى بحكمته فخلقه بقدرته وفي بعض الآثار إن ما كان من عصب وعظم وقوة فمن ماء الرجل وما كان من لحم ودم فمن ماء المرأة والحاصل أنه نزل الموصوف منزلة الجمع ووصف بصفة أجزائه وقيل هو مفرد جاء على أفعال كإعشار وأكياش في قولهم برمة أعشار أي متكسرة وبرد أكياش أي مغزول غزله مرتين واختاره الزمخشري والمشهور عن نص سيبويه وجمهور النحاة أن أفعالاً لا يكون جمعاً وحكى عنه أنه ذهب إلى ذلك في إنعام ومعنى نطفة مختلطة عند الأكثرين نطفة اختلط وامتزج فيها الماءان وقيل اختلط فيها الدم والبلغم والصفراء والسوداء وقيل الأمشاج نفس الأخلاط التي هي عبارة عن هذه الأربعة فكأنه قيل من نطفة هي عبارة عن أخلاط أربعة وأخرج ابن المنذر عن مجاهد أنه قال أمشاج أي ألوان أي ذات ألوان فإن ماء الرجل أبيض وماء المرأة أصفر فإذا اختلطا ومكثا في قعر الرحم اخضرا كما يخضر الماء بالمكث وروى عن الكلبي وأخرج عن زيد بن أسلم أنه قال الأمشاج العروق التي في النطفة وروى ذلك عن ابن مسعود أي ذات عروق وروى عن عكرمة وكذا ابن عباس أنه قال {أمشاج} أطوار أي ذات أطوار فإن النطفة تصير علقة ثم مضغة وهكذا إلى تمام الخلقة ونفخ الروح وقوله تعالى: {نبتليه} حال من فاعل {خلقنا} والمراد مريدين ابتلاءه واختباره بالتكليف فيما بعد على أن الحال مقدرة أو ناقلين له من حال إلى حال ومن طور إلى طور على طريقة الاستعارة لأن المنقول يظهر في كل طور ظهوراً آخر كظهور نتيجة الابتلاء والامتحان بعده وروى نحوه عن ابن عباس وعلى الوجهين ينحل ما قيل أن الابتلاء بالتكليف وهو يكون بعد جعله سميعاً بصيراً لا قبل فكيف يترتب عليه قوله سبحانه: {فجعلناه سَمِيعاً بَصِيراً} وقيل الكلام على التقديم والتأخير والجملة استئناف تعليلي أي {فجعلناه سَمِيعاً بَصِيراً} {لنبتليه} وحكى عن الفراء وعسف لأن التقديم لا يقع في حاق موقعه لا لفظاً لأجل الفاء ولا معنى لأنه لا يتجه السؤال قبل الجعل والأوجه الأول وهذا الجعل كالمسبب عن الابتلاء لأن المقصود من جعله كذلك أن ينظر الآيات الآفاقية والأنفسية ويسمع الأدلة السمعية فلذلك عطف على الخلق المقيد به بالفاء ورتب عليه قوله تعالى: {إِنَّا هديناه السبيل} لأنه جملة مستأنفة تعليلية في معنى {إِنَّا هديناه} أي دللناه على ما يوصله من الدلائل السمعية كالآيات التنزيلية والعقلية كالآيات الأفاقية والأنفسية وهو إنما يكون بعد التكليف والابتلاء {إِمَّا شاكراً وَإِمَّا كفوراً} حالان من مفعول {هدينا} و{أما} للتفصيل باعتبار تعدد الأحوال مع اتحاد الذات أي هديناه ودللناه على ما يوصل إلى البغية في حالتيه جميعاً من الشكر والكفر أو للتقسيم للمهدي باختلاف الذوات والصفات أي هديناه السبيل مقصوماً إليه بعضهم شاكر بالاهتداء للحق وطريقه بالأخذ فيه وبعضهم كفور بالإعراض عنه وحاصله دللناه على الهداية والإسلام فمنهم مهتد مسلم ومنهم ضال كافر وقيل حالان من {السبيل} أي عرفناه السبيل إما سبيلاً شاكراً وإما سبيلاً كفوراً على وصف {السبيل} بوصف سالكه مجازاً والمراد به لا يخفى.
وعن السدي أن {السبيل} هنا سبيل الخروج من الرحم وليس بشيء أصلاً وقرأ أبو السمال وأبو العاج {أما} بفتح الهمزة في الموضعين وهي لغة حكاها أبو زيد عن العرب وهي التي عدها بعض الناس على ما قال أبو حيان في حروف العطف وأنشدوا:
تلقحها أما شمال عرية ** وأما صبا جنح العشي هبوب

وجعلها الزمخشري أما التفصيلية المتضمنة معنى الشرط على معنى {أما شاكراً} فبتوفيقنا {وأما كفوراً} فبسوء اختياره وهذا التقدير إبراز منه للمذهب قيل ولا عليه أن يجعله من باب {يضل به كثيراً ويهدي به كثيراً} [البقرة: 26] كأنه قيل {أما شاكراً} فبهدايتنا أي دعائنا أو اقدارنا على ما فسر به الهداية {وأما كفوراً} فبها أيضاً لاختلاف وجه الدعاء لأن الهداية هاهنا ليست في مقابلة الضلال وهذا جار على المذهبين وسالم عن حذف ما لا دليل عليه وجوز في الانتصاف أن يكون التقدير أما شاكراً فمثاب وأما كفوراً فمعاقب وإيراد الكفور بصيغة المبالغة لمراعاة الفواصل والإشعار بأن الإنسان قلما يخلو من كفران ما وإنما المؤاخذ عليه الكفر المفرط. اهـ.

.قال ابن عاشور:

{هَلْ أَتَى عَلَى الإنسان حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا (1)}
استفهام تقريري والاستفهام من أقسام الخطاب وهو هنا موجَّه إلى غير معين ومُسْتعمل في تحقيق الأمر المقرر به على طريق الكناية لأن الاستفهام طلب الفهم، والتقرير يقتضي حصول العلم بما قرر به وذلك إيماء إلى استحقاق الله أن يعترف الإنسان له بالوحدانية في الربوبية إبطالاً لإِشْراك المشركين.
وتقديم هذا الاستفهام لما فيه من تشويق إلى معرفة ما يأتي بعده من الكلام.
فجملة {هل أتى على الإنسان} تمهيد وتوطئة للجملة التي بعدها وهي {إنا خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج} [الإنسان: 2] إلخ.
و {هل} حرف يفيد الاستفهام ومعنى التحقيق، وقال جمعٌ أصل {هل} إنها في الاستفهام مثل (قَدْ) في الخبر، وبملازمة {هل} الاستفهامَ كثير في الكلام حذف حرف الاستفهام معها فكانت فيه بمعنى (قد)، وخصت بالاستفهام فلا تقع في الخبر، ويَتطرق إلى الاستفهام بها ما يَتطرق إلى الاستفهام من الاستعمالات.
وقد تقدم بيان ذلك عند قوله تعالى: {هل ينظرون إلاّ أن يَأتيهم الله في ظلل من الغمام} في سورة [البقرة: 210]. وقد علمت أن حمل الاستفهام على معنى التقرير يحصِّل هذا المعنى.
والمعنى: هل يقر كل إنسان موجودٍ أنه كان معدوماً زماناً طويلاً، فلم يكن شيئاً يذكر، أي لم يكن يسمى ولا يتحدث عنه بذاته وإن كان قد يذكر بوجه العُموم في نحو قول الناس: المعدوم مُتوقف وجوده على فاعل.
وقول الواقف: حبست على ذريتي، ونحوه فإن ذلك ليس ذِكراً لمعين ولكنه حكم على الأمر المقدَّر وجودُه.
وهم لا يسَعهم إلاّ الإقرار بذلك، فلذلك اكتفي بتوجيه هذا التقرير إلى كل سامع.
وتعريف {الإنسان} للاستغراق مثل قوله: {إِن الإنسان لفي خسر إلاّ الذين ءامنوا} الآية [العصر: 2، 3]، أي هل أتى على كل إنسان حينُ كان فيه معدوماً.
و {الدهر}: الزمان الطويل أو الزمان المقارن لوجود العالم الدنيوي.
والحين: مقدار مُجمل من الزمان يطلق على ساعة وعلى أكثر، وقد قيل إن أقصى ما يطلق عليه الحين أربعون سنة ولا أحسبه.
وجملة {لم يكن شيئاً مذكوراً} يجوز أن تكون نعتاً ل {حين} بتقدير ضمير رابط بمحذوف لدلالة لفظ {حين} على أن العائد مجرور بحرف الظرفية حذف مع جاره كقوله تعالى: {واتقوا يوماً لا تجزي نفس عن نفس شيئاً} [البقرة: 48] إذ التقدير: لا تجزي فيه نفس عن نفس شيئاً، فالتقدير هنا: لم يكن فيه الإنسان شيئاً مذكوراً، أي كان معدوماً في زمن سبق.
ويجوز أن تكون الجملة حالاً من {الإنسان}، وحذف العائد كحذفه في تقدير النعت.
والشيء: اسم للموجود.
والمذكورُ: المعيّن الذي هو بحيث يُذكر، أي يعبّرُ عنه بخصوصه ويخبر عنه بالأخبار والأحوال.
ويعلَّق لفظه الدال عليه بالأفعال.
فأمّا المعدوم فلا يذكر لأنه لا تعيّن له فلا يذكر إلاّ بعنوانه العام كما تقدّم آنفاً، وليس هذا هو المراد بالذّكر هنا.
ولهذا نجعل {مذكوراً} وصفاً ل {شيئاً}، أريد به تقييد {شيئاً}، أي شيئاً خاصاً وهو الموجود المعبر عنه باسمه المعيِّن له.
{إِنَّا خَلَقْنَا الإنسان مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نبتليه فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا (2)}
استئناف بياني مترتب على التقرير الذي دل عليه {هل أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئاً مذكوراً} [الإنسان: 1] لما فيه من التشويق.
والتقرير يقتضي الإقرار بذلك لا محالة لأنه معلوم بالضرورة، فالسامع يتشوف لما يرد بعد هذا التقرير فقيل له: إن الله خلقه بعد أن كان معدوماً فأوجَد نطفة كانت معدومة ثم استخرج منها إنساناً، فثبت تعلُّق الخلق بالإنسان بعد عدمه.
وتأكيد الكلام بحرف (إنَّ) لتنزيل المشركين منزلة من ينكر أنّ الله خلق الإنسان لعدم جريهم على موجَب العلم حيث عبدوا أصناماً لم يخلقوهم.
والمراد بـ {الإنسان} مثل ما أريد به في قوله: {هل أتى على الإنسان} [الإنسان: 1] أي كل نوع الإنسان.
وأُدمج في ذلك كيفية خلق الإنسان من نطفة التناسِل لما في تلك الكيفية من دقائق العلم الإلهي والقدرة والحكمة.
وقد تقدم معنى النطفة في سورة القيامة.
و {أمشاج}: مشتق من المشج وهو الخلط، أي نطفة مخلوطة قال تعالى: {سبحان الذي خلق الأزواج كلها مما تنبت الأرض ومن أنفسهم ومما لا يعلمون} [يس: 36] وذلك يفسر معنى الخلط الذي أشير إليه هنا.
وصيغة {أمشاج} ظاهرها صيغة جمع وعلى ذلك حملها الفراء وابن السكيت والمبرد، فهي إما جمع مِشْج بكسر فسكون بوزن عِدْل، أي ممشوج، أي مخلوط مثل ذِبح، وهذا ما اقتصر عليه في (اللسان) و(القاموس)، أو جمع مَشَج بفتحتين مثل سَبب وأسباب، أو جمع مَشِج بفتح فكسر مثل كَتِف وأكتاف.
والوجه ما ذهب إليه صاحب (الكشاف): أن {أمشاج} مفرد كقولهم: بُرمة أعشار وبُرد أكياش بهمزة وكاف وتحتية وألف وشين معجمة الذي أعيد غزله مرتين.
قال: ولا يصح أن يكون أمشاج جمع مَشَج بل هما (أي مَشج وأمشاج) مِثلان في الإِفراد. اهـ.
وقال بعض الكاتبين: إنه خالف كلام سيبويه.
وأشار البيضاوي إلى ذلك، وأحسب أنه لم يَر كلام سيبويه صريحاً في منع أن يكون {أمشاج} مفرداً لأن أثبت الإِفراد في كلمة أنعام والزمخشري معروف بشدة متابعة سيبويه.
فإذا كان {أمشاج} في هذه الآية مفرداً كان على صورة الجمع كما في (الكشاف).
فوصف {نطفة} به غير محتاج إلى تأويل، وإذا كان جمعاً كما جرى عليه كلام الفراء وابن السكيت والمبرد، كان وصف النطفة به باعتبار ما تشتمل عليه النطفة من أجزاء مختلفة الخواص، فلذلك يصير كل جزء من النطفة عضواً فوصفُ النطفة يجمع الاسم للمبالغة، أي شديدة الاختلاط.
وهذه الأمشاج منها ما هو أجزاء كيمائية نباتية أو ترابية ومنها ما هو عناصر قوى الحياة.
وجملة {نبتليه} في موضع الحال من الإنسان وهي حال مقدرة، أي مريدين ابتلاءه في المستقبل، أي بعد بلوغه طور العقل والتكليف، وهذه الحال كقولهم: مررتُ برجل معه صِقر صائداً به غداً.
وقد وقعت هذه الحال معترضة بين جملة {خلقنا} وبين {فجعلناه سَميعاً بصيراً} لأن الابتلاء، أي التكليف الذي يظهر به امتثاله أو عصيانه إنما يكون بعد هدايته إلى سبيل الخير، فكان مقتضى الظاهر أن يقع {نبتليه} بعد جملة {إنا هديناه السبيل} [الإنسان: 3]، ولكنه قدم للاهتمام بهذا الابتلاء الذي هو سبب السعادة والشقاوة.
وجيء بجملة {إنا هديناه السبيل بياناً لجملة نبتليه} تفنناً في نظم الكلام.
وحقيقة الابتلاء: الاختبار لتُعرف حال الشيء وهو هنا كناية عن التكليف بأمر عظيم لأن الأمر العظيم يظهر تفاوت المكلفين به في الوفاء بإقامته.
وفُرع على خلقه {من نطفة} أنه جعله {سميعاً بصيراً}، وذلك إشارة إلى ما خلقه الله له من الحواس التي كانت أصل تفكيره وتدبيره، ولذلك جاء وصفه بالسميع البصير بصيغة المبالغة ولم يقل فجعلناه: سامعاً مبصراً، لأن سمع الإنسان وبصره أكثر تحصيلاً وتمييزاً في المسموعات والمبصرات من سمع وبصر الحيوان، فبالسمع يتلقَّى الشرائع ودعوة الرسل وبالبصر ينظر في أدلة وُجود الله وبديع صنعه.
وهذا تخلص إلى ما ميز الله به الإنسان من جعله تجاه التكليف واتباع الشرائع وتلك خصيصية الإنسان التي بها ارتكزتْ مدنيته وانتظمت جامعاته، ولذلك أعقبت هذه الجملة بقوله: {إنا هديناه السبيل} الآيات.
{إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا (3)}
استئناف بياني لبيان ما نشأ عن جملة {نبتليه} [الإنسان: 2] ولتفصيل جملة {فجعلناه سميعاً بصيراً} [الإنسان: 2]، وتخلُّصّ إلى الوعيد على الكفر والوَعد على الشكر.
وهداية السبيل: تمثيل لحال المرشدِ.
و {السبيل}: الطريق الجادة إلى ما فيه النفع بواسطة الرُسل إلى العقائد الصحيحة والأعمال الصالحة التي هي سبب فوزه بالنعيم الأبدي، بحال من يدل السائر على الطريق المؤدية إلى مقصده من سَيْره.
وهذا التمثيل ينحل إلى تشبيهاتِ أجزاءِ الحالة المركَّبَة المشبهة بأجزاء الحالة المشبه بها، فالله تعالى كالهادي، والإنسان يشبه السائر المتحير في الطريق، وأعمال الدين تشبه الطريق، وفوز المتتبع لهدي الله يشبه البلوغ إلى المكان المطلوب.
وفي هذا نداء على أن الله أرشد الإنسان إلى الحق وأن بعض الناس أدخلوا على أنفسهم ضلالَ الاعتقاد ومفاسدَ الأعمال، فمن بَرَّأَ نفسه من ذلك فهو الشاكر وغيره الكفور، وذلك تقسيم بحسب حال الناس في أول البعثة، ثم ظهر من خلطوا عملاً صالحاً وآخر سيئاً.
وتأكيد الخبر بـ (إنَّ) للرد على المشركين الذين يزعمون أن ما يدعوهم إليه القرآن باطل.
و {إِما شاكراً وإما كفوراً} حالان من ضمير الغيبة في {هديناه}، وهو ضمير {الإنسان} [الإنسان: 2].
و {إما} حرف تفصيل، وهو حرفٌ بسيط عند الجمهور.
وقال سيبويه: هو مركب من حرف (إِنْ) الشرطية و(مَا) النافية.
وقد تجردت (إنْ) بالتركيب على الشرطية كما تجردت (مَا) عن النفي، فصار مجموع {إِما} حرف تفصيل، ولا عمل لها في الاسم بعدها ولا تمنع العامل الذي قبلها عن العمل في معموله الذي بعدها فهي في ذلك مثل (اَلْ) حرففِ التعريف.
وقدر بعض النحاة {إما} الثانية حرفَ عطف وهو تحكم إذ جعلوا الثانية عاطفة وهي أخت الأولى، وإنما العاطف الواو و{إِما} مقحمة بين الاسم ومعموله كما في قول تأبط شراً:
هُمَا خُطَّتَا إِمَّا إِسارٍ ومِنَّةٍ ** وإِمَّا دَممٍ والموتُ بالحُر أجْدَرُ

فإن الاسمين بعد (إما) في الموضعين من البيت مجرورَان بالإِضافة ولذلك حذفت النون من قوله: هما خطتَا، وذلك أفصح كما جاء في هذه الآية.
قال ابن جنيّ: أما من جرَّ (إِسار) فإنه حذف النون للإِضافة ولم يَعتد (إِمَّا) فاصلاً بين المضاف والمضاف إليه، وعلى هذا تقول: هما إِما غلاما زيدٍ وإما عمرو، وأجودُ من هذا أن تقول: هما خطتَا إِسارٍ ومنةٍ وإِما خطتا دم ثم قال: وأما الرفع فطريق المذهب، وظاهر أمره أنه على لغة من حذف النون لغير الإِضافة فقد حُكي ذلك. الخ.
ومقتضى كلامه أن البيت روي بالوجهين: الجرِ والرفع وقريب منه كلام المرزوقي وزاد فقال وحَذف النون إذا رفعتَ (إسارُ) استطالة للاسم كأنه استطال خطتا ببدَلِه وهو قوله: إِما إسار الخ.
والمعنى: إنا هديناه السبيل في حال أنه متردد أمره بين أحد هذين الوصفين وصففِ شاكر ووصففِ كفور، فأحدُ الوصفين على الترديد مقارنٌ لحال إرشاده إلى السبيل، وهي مقارنةٌ عرفية، أي عَقب التبليغ والتأمل، فإن أخذ بالهدى كان شاكراً وإن أعرض كان كفوراً كمن لم يأخذ بإرشاد من يهديه الطريق فيأخذ في طريق يلقى به السباع أو اللصوصَ، وبذلك تم التمثيل الذي في قوله: {إِنا هديناه السبيل}. اهـ.

.فوائد لغوية وإعرابية:

.قال مجد الدين الفيروزابادي:

بصِيرة في الدهر:
الدّهر: الزَّمان، قاله شمر وأَنشد:
إِن دهرا يلُفُّ شَمْلِى بجُمْل ** لزمان يَهُمّ بالإِحسان

وقيل: الدّهر الأَبَد لا ينقطع.
قال الأَزهرى: الدّهر يقعِ عند العرب على بعض الدّهر الأَطول، ويقع على مُدّة الدّنيا كلِّها، وقيل: الدّهر مدّة الدنيا كلَّها من ابتدائها إِلى انقضائها.
وقال آخرون: بل دَهْر كلِّ قوم زمانهم، قال الله تعالى: {وَقالواْ مَا هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَآ إِلاَّ الدَّهْرُ}.
وقول النبيَّ صلى الله عليه وسلم: «لا تسبوا الدّهر فإِن الدّهر هو الله» وروى «فإِنَّ الله هو الدّهر» قِيل: الدّهر اسم من أَسماءِ الله تعالى.
وقال الزَّمخشرى: الدّهر هو الزَّمان الطَّويل، وكانوا يعتقدون فيه أَنَّه الطَّارق بالنَّوائب، ولذلك اشتَقُّثوا من اسمه دَهَر فلاناً خَصْبٌ إِذا دهاه، وما زالوا يَشْكونه ويذُمُّونه، قال حُريثُ بن جَبَلة وقيل أَبو عُيينة المهلبى:
إِذا هو الرَّمْسُ تعفوه الأَعاصير ** والدّهر أَيَّتَمَا حالٍ دهادير

أَى دواهٍ وخطوب مختلِفة.
وهو بمنزلة عباديد في أَنَّه لم يستعمل واحدُه.
وقال رجل من كلب:
لَحَى الله دهرا شرُّه قبل خيره ** تقاضى فلم يُحسن إِلينا التقاضيا

وقال يحيى بن زياد:
عَذِيرىَ من دهر كأَنى وتَرْته ** رهين بحبل الوُدّ أن يتقطَّعا

فنهاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذمّ الدّهر، وبيّن لهم أَنَّ الطَّوارق التي تنزِل بهم مُنْزلها الله عَزَّ سلطانه دون غيره، وأَنَّهم متى اعتقدوا في الدّهر أَنَّه هو المُنْزِل ثمَّ ذمّوه كان مرجع المذمّة إِلى العزيز الحكيم، تعالى عن ذلك علوّاً كبيراً.
والَّذى يُحقِّق هذا الموضع ويَفصل بين الرّوايتين هو قوله «فإِنَّ الدّهر هو الله» حقِيقتُه: فإِن جالبَ الحوادث هو الله لا غيره، فوضع الدّهر موضع جالب الحوادث، كما تقول: إِن أَبا حنيفة أَبو يوسف، تريد أَنَّ النهاية في الفقه هو أَبو يوسف لا غيره، فيضع أَبا حنيفة موضع ذلك لشهرته بالتناهى في فقهه، كما شُهِر عندهم الدهر بجَلْب الحوادث.
ومعنى الرّواية الثانية: إِنَّ الله هو الدّهر، فإِنَّ الله هو الجالب للحوادث.
لا غيره الجالب، ردّا لاعتقادهم أَنَّ الله ليس مِن جَلْبها في شئ وأَنَّ جالبها هو الدّهر، كما لو قلت إِنَّ أَبا يوسف أَبو حنيفة كان المعنى أَنَّه النِّهاية في الفقه لا المتقاصر.
«هو» فصل أَو مبتدأُ خبره اسم الله أَو الدّهر في الرّوايتين.
وقال بعضهم: الدّهر الثانى في الحديث غير الأَوّل وإِنما هو مصدر بمعنى الفاعل ومعناه أَنَّ الله هو الداهر أَي المصرِّف المدبّر المُفِيض لما يَحْدُث.
وقال الأَزهرى في قول جَرِير:
أَنا الدّهر يَفْنى الموتُ والدّهر خالد ** فجئنى بمثل الدّهر شيئاً يطاوله

جعل الدّهر الدّنيا والآخرة لأَنَّ الموت يَفنى بعد انقضاءَ الدّنيا.
وقال تعالى: {هَلْ أَتَى عَلَى الإنسان حِينٌ مِّنَ الدَّهْرِ} وقد يستعار الدّهر للعادة الباقية مدّة الحياة، فقيل: ما دهرى بكذا.
والدّهر أَيضاً الغَلَبة. اهـ.

.فروق لغوية دقيقة:

الفرق بين الزمان والدهر والأجل والمدة والسنة والعام وما يجري مع ذلك.

.الفرق بين الدهر والمدة:

أن الدهر جمع أوقات متوالية مختلفة كانت أو غير مختلفة ولهذا يقال الشتاء مدة ولا يقال دهر لتساوي أوقاته في برد الهواء وغير ذلك من صفاته ويقال للسنين دهر لأن أوقاتها مختلفة في الحر والبرد وغير ذلك وأيضا من المدة ما يكون اطول من الدهر ألا تراهم يقولون هذه الدنيا دهور ولا يقال الدنيا مدد والمدة والأجل متقاربان فكما أن من الأجل ما يكون دهورا فكذلك المدة.

.الفرق بين المدة والزمان:

أن اسم الزمان يقع على كل جمع من الأوقات وكذلك المدة إلا أن أقصر المدة أطول من اقصر الزمان ولهذا كان معنى قول القائل لآخر إذا سأله أن يمهله أمهلني زمانا آخر غير معنى قوله مدة أخرى لأنه ل لاخف بين أهل اللغة أن معنى قوله مدة آخرى أجل أطول من زمن ومما يوضحافرق بينهما أن المدة أصلها المد وهو الطول ويقال مده إذا طوله إلا أن بينها وبين الطول فق وهو أن المدة لا تقع على أقصر الطول ولهذا يقال مد الله في عمرك ولا يقال لوقتين مدة كما لا يقال لجوهرين إذا ألفا إنهما خط ممدود ويقال لذلك طول فإذا صح هذا وجب أن يكون قولنا الزمان مدة يراد به أنه أطول الأزمنة كما قلنا للطويل إنه ممدود كان مرادنا أنه أطول من غيره فأما قول القائل آخر الزمان فمعناه أنه آخر الأزمنة لأن الزمان يقع على الواحد والجمع فالستثقلوا أن يقولوا آخر الأزمنة والأزنان فاكتفوا بزمان.

.الفرق بين الزمان والوقت:

أن الزمان أوقات متوالية مختلفة أو غير مختلفة فالوقت واحد وهو المقدر بالحركة الواحدة من حركات الفلك وهو يجري من الزمان مجرى الجزء من الجسم والشاهد أيضا أنه يقال زمان قصير وزمان طويل ولا يقال وقت قصير.

.الفرق بين الوقت والميقات:

أن الميقات ما قدر ليعمل فيه عمل من الأعمال والوقت وقت الشيئ قدره أو لم يقدره ولهذا قيل مواقيت الحج للمواضع التي قدرت للإحرام وليس الوقت في الحقيقة غير حركة الفلك وفي ذلك كلام كثير ليس هذا موضع ذكره.

.الفرق بين العام والسنة:

أن العام أيام والسنة جمع شهور ألا ترى أنه لما كان يقال أيام الزنج قيل عام الزنج ولما لم يقل شهور الزنج لم يقل سنة الزنج ويجوز أن يقال العالم يفيد كونه وقتا لشيء والسنة لاتفيد ذلك ولهذا يقال عام الفيل ولا يقال سنة الغيل ويقال في التاريخ سنة مائة وسنة خمسين ولا يقال عام مائة وعام خمسين إذا ليس وقتا لشيء مما ذكر من هذا العدد ومع هذا فإن العام هو السنة والسنة هي العام وإن اقتضى كل واحد منهما ما لا يقتضيه الآخر مما ذكرناه كما أن الكل هو الجمع هو والجمع هو الكل وإن كان الكل إحاطة بالأبعاض والجمع إحاطة بالأجزاء.

.الفرق بين السنة والحجة:

أن الحجة تفيد أنها يحج فيها والحجة المرة الواحدة من حج يحج والحجة فعله مثل الجلسة والقعدة ثم سميت بها السنة كما يسمى الشيء باسم ما يكون فيه.

.الفرق بين لحين والسنة:

أن قولنا حين اسم جمع أوقاتا متناهية سواء كان سنة أو شهورا أو أياما أو ساعات ولهذ جاء في القرآن لمعان مختلفة وبينه وبين فرق وو أن الدهر يقتضي أنه أوقات متوالية مختلفة على ما ذكرنا ولهذا قال الله عز وجل حاكيا عن الدهريين {وما يهلكنا إلا الدهر} أي يهلكنا الدهر باختلاف أحواله والدهر أيضا لا يكون إلا ساعات قليهة ويكون الحين كذلك.

.الفرق بين الدهر والعصر:

أن الدهر ما ذكرناه والعصر لكل مختلفين معناهما واحد مثل الشتاء والصيف والليلة واليوم والغدة والسحر يقال لذلك كله العصر وقال المبرد في تأويل قوله عز وجل: {والعصر أن الإنسان لفي خسر} قال العصر هاهنا الوقت قال ويقولون أهل هذا العصر كما يقولون أهل هذا الزمان والعصر اسم للسنين الكثيرة قال الشاعر من المنسرح:
أصبح مني الشباب قد نكرا ** إن بان مني فقد ثوى عصرا

وتقول عاصرت فلانا أي كنت في عصره أي زمن حياته.

.الفرق بين الوقت والساعة:

أن الساعة هي الوقت المنقطع من غيره والوقت اسم الجنس ولهذا تقول إن الساعة عندي ولا تقول الوقت عندي.

.الفرق بين البكرة والغداة والمساء والعشاء والعشي والأصيل:

أن الغداة اسم لوقت والبكرة فعله من بكر يبكر بكور ألا ترى أنه يقال صلاة الغداة وصلاة الظهر والعصر فتضاف إلى الوقت ولا يقال صلاة البكرة وإنما يقال جاء في بكرة كما تقول جاء في غدوة وكلاهما مثل النقلة ثم كثر استعمال البكرة حتى جرت على الوقت وإذا فاء الفيء سمي عشية ثم أصيلا بعد ذلك ويقال فاء الفيء إذا زاد على طول على طول الشجرة ويقال أتيته عشية أمس وسأتيه العشية ليومك الذي أنت فيه وسآتيه عشي غد بغير هاء وسآتيه بالعشي والغداة أي كل عشي وكل غداة والطفل وقت غروب الشمس والعشاء بعد ذلك وغذا كان بعيد العصر فهو المساء ويقال للرجل عند العسر إذا كان يبادر حاجة قد أمسيت وذلك على المبالغة.

.الفرق بين الزمان والحقبة والبرهة:

أن الحقبة اسم للسنة إلا أنها تفيد غير ما تفيده السنة وذلك أن لسنة تفيد أنها تجمع شهور ولاحقبة تفيد أنها ظرف لأعمال ولأمور تجري فيها مأخوذ من الحقيبة وهي ضرب من الظروف تتخذ من الأدم يجعل الراكب فيها متاعة وتشد خلف رحله أو سرجه وأما البرهة فبعض الدهر ألا ترى أنه يقال برهة من الدهر كما يقال قطعة من الدهر وقال بعضعهم هي فارسية معربة.

.الفرق بين المدة والأجل:

أن الأجل الوقت المضروب لانقضاء الشيء ولا يكون أجلا بجعل جاعل وما علم أنه يكون في وقت فلاأجل له إلا أن يحكم بأنه يكون فيه وأجل الإنسان هو الوقت لانقضاء عمره وأجل الدين محله وذلك لانقضاء مدة الدين وأجل الموت وقت حلوله وذلك الانقضاء مدة الحياة قبله فأجل الأخرة الوقت لانقضاء ما تقدم قبلها قبل ابتدائها ويجوز أن تكون المدة بين الشيئين بجعل جاعل وبغير جعل وكل أجل مدة وليس كل مدة أجلا.

.الفرق بين النهار واليوم:

أن اسم للضياء المنفسح الظاهر الحصول الشمس بحيث ترى عينها أو معظم ضوئها وهذا حد النهار وليس هو في الحقيقة اسم للوقت واليوم اسم لمقدار من الأوقات يكون فيه هذا السنا ولهذا قال النحويون إذا قلت سرت يوما فأنت مؤقت تريد مبلغ ذلك ومقدراه وإذا قلت سرت اليوم أو يوم الجمعة فأنت مؤرخ فإذا قلت سرت نهارا أو النهار فلست بمؤرخ ولا بمؤقت وإنما المعنى سرت في الضياء النفسح ولهذا يضاف النهار إلى اليوم فيقال سرت نهار يوم الجمعة ولهذا لا يقال للغلس والسحر نهار حتى يتضييء الجو.

.الفرق بين الدهر والأبد:

أن الدهر أوقات متوالية مختلغة غير متناهية والأبد عبارة عن مدة الزمان التي ليس لها حد محدود وهو في المستقبل خلاف قط في الماضي وقوله عز وجل: {خالدين فيها أبدا} حقيقة وقولك أفعل هذا أبدا مجاز والمراد المبالغة في إيصال هذا الفعل.

.الفرق بين الوقت وإذ:

وهما جميعا اسم لشء واحد أنه تمكن أحدهما ولم يتمكن الآخر أو مضمن اليه لكون البيان غير معناه بحسب ذلك المضاف اليه والوقت مطلق. اهـ.

.تفسير الآيات (4- 9):

قوله تعالى: {إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سلاسل وَأَغْلَالًا وَسَعِيرًا (4) إِنَّ الْأَبْرَارَ يشربونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا (5) عَيْنًا يشرب بها عِبَادُ الله يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا (6) يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا (7) وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبه مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا (8) إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ الله لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا (9)}

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
ولما قسمهم إلى القسمين، ذكر جزاء كل قسم فقال مستأنفاً جواب من يسأل عن ذلك مبشراً للشاكر الذي استعد بعروجه في مراقي العبادات إلى ملكوت العلويات لروح وريحان وجنة نعيم، ومنذراً للكافر الذي استعد بالهبوط في دركات المخالفات إلى التقيد بالسفليات لنزل من حميم وتصلية جحيم، مقدماً للعاصي لأن طريق النشر المشوش أفصح، وليعادل البداءة بالشاكر في أصل التقسيم ليتعادل الخوف والرجاء، وليكون الشاكر أولاً وآخراً، ولأن الانقياد بالوعيد أتم لأنه أدل على القدرة لاسيما في حق أهل الجاهلية الذين بعدت عنهم معرفة التكاليف الشرعية، وأكثر في القرآن العظيم من الدعاء بالترغيب والترهيب لأنه الذي يفهمه الجهال الذين هم أغلب الناس دون الحجج والبراهين، فإنها لا يفهمها إلا الخواص، وأكد لأجل تكذيب الكفار: {إنا} أي على ما لنا من العظمة {أعتدنا} أي هيأنا وأحضرنا بشدة وغلظة {للكافرين} أي العريقين في الكفر خاصة، وقدم الأسهل في العذاب فالأسهل ترقياً فقال: {سلاسلاً} يقادون ويرتقون بها، وقراءة من نوّن مشيرة إلى أنها عظيمة جدًّا، وكذا وقف أبي عمرو عليه بالألف مع المنع من الصرف {وأغلالاً} أي جوامع تجمع أيديهم إلى أعناقهم فيها فيهانون بها {وسعيراً} أي ناراً حامية جدًّا شديدة الاتقاد.
ولما أوجز في جزاء الكافر، أتبعه جزاء الشاكر وأطنب فيه تأكيداً للترغيب، فإن النفوس بعد كسر الوعيد لها تهتز لأدنى وعد وأقله فكيف بأتمه وأجله، فقال مستأنفاً مؤكداً لتكذيب الكافر مبيناً بذكر الخمر على هذه الصفة أنهم في أنهى ما يكون من رغد العيش لأنه يلزم من شربها جميع مقدماتها ومتمماتها: {إن الأبرار} بخصوصهم من عموم الشاكرين جمع بر كأرباب جمع رب، أو بار كأشهاد جمع شاهد، وهم الذين سمت هممهم عن المستحقرات فظهرت في قلوبهم ينابيع الحكمة فأنفقوا من مساكنة الدنيا {يشربون} أي ما يريدون شربه {من كأس} أي خمر- قاله الحسن وهو اسم لقدح تكون فيه {كان مزاجها} أي الذي تمزج به {كافوراً} أي لبرده وعذوبته وطيب عرفه، وذكر فعل الكون يدل على أن له شأناً في المزج عظيماً يكون فيه كأنه من نفس الجبلة لا كما يعهد.
ولما كان الكافور أعلى ما نعهده جامداً، بين أنه هناك ليس كذلك، فقال مبدلاً من (كافور): {عيناً يشرب بها} أي بمزاجها كما تقول: شربت الماء بالعسل {عباد الله} أي خواص الملك الأعظم وأولياؤه أي شراب أرادوه.
ولما كان المزاج يتكلف لنقله قال: {يفجرونها تفجيراً} أي حال كونهم يشققونها ويجرونها بغاية الكثرة إجراء حيث أرادوا من مساكنهم وإن علت وغيرها.
ولما ذكر جزاءهم على برهم المبين لشكرهم، أتبعه تفصيله فقال مستأنفاً بياناً لأن شكرهم بالتعظيم لأمر الله والشفقة على خلق الله وعمارة الظاهر والباطن لأنهم جمعوا بين كرم الطبع ولطافة المزاج الحامل على تجويز الممكن المقتضي للإيمان بالغيب: {يوفون} أي على سبيل الاستمرار {بالنذر} وهذا كناية عن وفائهم بجميع أنحاء العبادة لأن من وفى بما أوجبه على نفسه كان بما أوجبه الله من غير واسطة أوفى، ويجوز أن يكون النذر كل ما تقدم إليهم فيه سبحانه.
ولما دل وفاؤهم على سلامة طباعهم، قال عاطفاً دلالة على جمعهم للأمرين المتعاطفين فهم يفعلون الوفاء لا لأجل الخوف بل لكرم الطبع: {ويخافون} أي مع فعلهم للواجبات {يوماً كان} أي كوناً هو في جبلته {شره} أي ما فيه من الشدائد {مستطيراً} أي موجود الطيران وجوداً كأنه بغاية الرغبة فيه فهو في غاية الانتشار، والخوف أدل دليل على عمارة الباطن، قالوا: وما فارق الخوف قلباً إلا خرب، من خاف أدلج، ومن أدلج المنزل، فالخوف لاجتناب الشر والوفاء لاجتلاب الخير.
ولما كان من خاف شيئاً سعى في الأمن منه بكل ما عساه ينفع فيه، وكان قد ذكر تذرعهم بالواجب، أتبعه المندوب دلالة على أنهم لا ركون لهم إلى الدنيا ولا وثوق بها، فقد جمعوا إلى كرم الطبع بالوفاء ورقة القلب شرف النفس بالانسلاخ من الفاني فقال: {ويطعمون الطعام} أي على حسب ما يتيسر لهم من عال ودون على الدوام.
ولما كان الإنسان قد يسمح بما لا يلذ له قال: {على حبه} أي حبه إياه حباً هو في غاية المكنة منهم والاستعلاء على قلوبهم لقلته وشهوتهم له وحاجتهم إليه كما قال تعالى: {لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون} [آل عمران: 92] ليفهم أنهم للفضل أشد بذلاً، ولهذا قال- صلى الله عليه وسلم ـ: «لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهباً ما بلغ مد أحدهم أي الصحابة رضى الله عنهم ولا نصيفه» لقلة الموجود إذ ذاك وكثرته بعد {مسكيناً} أي محتاجاً احتياجاً يسيراً، فصاحب الاحتياج الكثير أولى {ويتيماً} أي صغيراً لا أب له ذكراً كان أو أنثى {وأسيراً} أي في أيدي الكفار أي أعم من ذلك، فيدخل فيه المملوك والمسجون والكافر الذي في أيدي المسلمين، وقد نقل في غزوة بدر أن بعض الصحابة رضى الله عنهم كان يؤثر أسيره على نفسه بالخبز، وكان الخبز إذ ذاك عزيزاً حتى كان ذلك الأسير يعجب من مكارمهم حتى كان ذلك مما دعاه إلى الإسلام، وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما دفعهم إليهم قال: «استوصوا بهم خيراً» ومن حكم الأسير الحقيقي كل مضرور يفعلون ذلك والحال أنهم يقولون بلسان الحال أو القال إن احتيج إليه إزاحة لتوهم المن أو توقع المكافأة مؤكدين إشارة إلى أن الإخلاص أمر عزيز لا يكاد أحد يصدق أنه يتأتى لأحد: {إنما نطعمكم} أيها المحتاجون {لوجه الله} أي لذات الملك الذي استجمع الجلال والإكرام لكونه أمرنا بذلك، وعبر به لأن الوجه يستحيى منه ويرجى ويخشى عند رؤيته.
ولما أثبتوا بهذا الإخلاص، حققوه بنفي ما يغير فيه، وفسروه لما لا يكون إلا به فقالوا: {لا نريد منكم} أي لأجل ذلك {جزاء} أي لنا من أعراض الدنيا {ولا شكوراً} بشيء من قول ولا فعل، وكأنه اختير هذا المصدر المزيد كالدخول والخروج والقعود إيماءً إلى أن المنفي ما يتكلف له، وأما مثل المحبة والدعاء فلا، ولو أرادوا شيئاً من ذلك لما كان لله، وروي في سبب نزول هذه الآية: «أن علياً وابنيه وأمهما فاطمة رضى الله عنهم أجمعين آثروا على أنفسهم ثلاثة أيام، وأصبحوا الرابع يرتعشون، فلما رآهم النبي صلى الله عليه وسلم ساءه ذلك، فأتاه جبريل عليه الصلاة والسلام بهذه السورة مهنئاً له بها» ولا يستبعد الصبر على الجوع هذه المدة لأنه ربما كانت للنفس هيئة قوية من استغراق في محبة الله تعالى أو غير ذلك، فهبطت إلى البدن فشغلت الطبيعة عن تحليل الأجزاء فلا يحصل الجوع كما أنا نشاهد الإنسان يبقى في المرض الحاد مدة من غير تناول شيء من غذاء ولا يتأثر بدنه لذلك، فلا بدع أن تقف الأفعال الطبيعية في حق بعض السالكين وهو أحد القولين في قول النبي صلى الله عليه وسلم: «إني أبيت عند ربي يطعمني ويسقيني». اهـ.

.الإسرائيليات والموضوعات في تفسير الآيات:

قال الدكتور محمد أبو شهبة:
4- سبب نزول مشهور على ما هو موضوع:
ومن ذلك ما يذكره غالب المفسرين في سبب نزول قوله تعالى: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبه مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا}؛ فقد روي عن ابن عباس: «أن الحسن والحسين مَرِضَا، فعادهما جدهما رسول الله، ومعه أبو بكر وعمر، وعادهما من عادهما من الصحابة، فقالوا لعلي كرم الله وجهه: لو نذرت على ولديك، فنذر علي، وفاطمة، وجارية لهما إن برءا أن يصوموا ثلاثة أيام شكرًا لله، فألبس الله الغلامين ثوب العافية، فاستقرض سيدنا علي ثلاثة آصع، فجاء بها، فقامت السيدة فاطمة إلى صاع، فطحنته، وخبزت منه خمسة أقراص على عددهم، فوقف بالباب سائل، فقال: السلام عليكم يا أهل بيت محمد، أنا مسكين، أطعموني أطعمكم الله من موائد الجنة، فآثروه، وباتوا لم يذوقوا شيئا، وفي اليوم الثاني: جاء يتيم فأعطوه الأقراص الخمسة كذلك، وفي اليوم الثالث: جاء أسير فعل مثل الأولين، وقد اشتمل الخبر على شعر ركيك، فهبط جبريل على النبي، فقال: خذها يا محمد، فأقرأه: {هَلْ أَتَى عَلَى الإنسان حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ} السورة». وقد أخرج هذا الخبر معظم المفسرين، ويكاد لم يسلم تفسير منه، حتى إن الحافظ السيوطي ذكره في: (الدر) مع أنه وافق على ضعفه في اللآلئ: وقد نبه على وضعه: الحكيم الترمذي، والحافظ ابن الجوزي، وابن حجر في: الإسرائيليات والموضوعات سبب نزول مشهور على الألسنة وهو موضوع (التخريج)، وقال: آثار الوضع لائحة عليه لفظا ومعنى، فبناء سيدنا علي بالسيدة فاطمة كان بالمدينة في السنة الثانية، مع أن السورة مكية، كما روي عن ابن عباس والجمهور، فليس من المعقول أن يكون هذا هو السبب، ومن العجيب: أن الإمام الألوسي قد حاول إثبات الخبر بالخلاف في مكيتها ومدنيتها، وبأن ابن الجوزي متساهل في الحكم بالوضع. ومعظم التفاسير ذكرت هذا السبب؛ لأن الحكم بوضعه يخفى إلا على الحافظ الناقد البصير. اهـ.

.من أقوال المفسرين:

.قال الفخر:

قوله تعالى: {إِنَّا أَعْتَدْنَا للكافرين سلاسل وأغلالا وَسَعِيراً}. اعلم أنه تعالى لما ذكر الفريقين أتبعهما بالوعيد والوعد.
وفيه مسائل:
المسألة الأولى:
الاعتداد هو إعداد الشيء حتى يكون عتيداً حاضراً متى احتيج إليه، كقوله تعالى: {هذا مَا لَدَىَّ عَتِيدٌ} [ق: 23] وأما السلاسل فتشد بها أرجلهم، وأما الأغلال فتشد بها أيديهم إلى رقابهم، وأما السعير فهو النار التي تسعر عليهم فتوقد فيكونون حطباً لها، وهذا من أغلظ أنواع الترهيب والتخويف.
المسألة الثانية:
احتج أصحابنا بهذه الآية على أن الجحيم بسلاسلها وأغلالها مخلوقة، لأن قوله تعالى: {أَعْتَدْنَا} إخبار عن الماضي، قال القاضي: إنه لما توعد بذلك على التحقيق صار كأنه موجود، قلنا: هذا الذي ذكرتم ترك للظاهر فلا يصار إليه إلا لضرورة.
المسألة الثالثة:
قرئ {سلاسلاً} بالتنوين، وكذلك {قَوَارِيرَاً قَوَارِيرَاً} [الإنسان: 15، 16] ومنهم من يصل بغير تنوين، ويقف بالألف فلمن نون وصرف وجهان أحدهما: أن الأخفش قال: قد سمعنا من العرب صرف جميع مالا ينصرف، قال: وهذا لغة الشعراء لأنهم اضطروا إليه في الشعر فصرفوه، فجرت ألسنتهم على ذلك الثاني: أن هذه الجموع أشبهت الآحاد، لأنهم قالوا صواحبات يوسف، فلما جمعوه جمع الآحاد المنصرفة جعلوها في حكمها فصرفوها، وأما من ترك الصرف فإنه جعله كقوله: {لَّهُدّمَتْ صوامع وَبِيَعٌ وصلوات ومساجد} [الحج: 40] وأما إلحاق الألف في الوقف فهو كإلحاقها في قوله: {الظنونا} [الأحزاب: 10] و{الرسولا} [الأحزاب: 66] و{السبيلا} [الأحزاب: 67] فيشبه ذلك بالإطلاق في القوافي.
ثم إنه تعالى ذكر ما أعد للشاكرين الموحدين فقال: {إِنَّ الأبرار يشربونَ مِن كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كافورا} الأبرار جمع بر، كالأرباب جمع رب، والقول في حقيقة البر قد تقدم في تفسير قوله تعالى: {ولكن البر مَنْ ءامَنَ بالله} [البقرة: 177] ثم ذكر من أنواع نعيمهم صفة مشروبهم، فقال: {يشربونَ مِن كَأْسٍ} يعني من إناء فيه الشراب، ولهذا قال ابن عباس ومقاتل: يريد الخمر.
وفي الآية سؤالان:
السؤال الأول:
أن مزج الكافور بالمشروب لا يكون لذيذاً، فما السبب في ذكره ههنا؟ الجواب: من وجوه أحدها: أن الكافور اسم عين في الجنة ماؤها في بياض الكافور ورائحته وبرده، ولكن لا يكون فيه طعمه ولا مضرته، فالمعنى أن ذلك الشراب يكون ممزوجاً بماء هذه العين وثانيها: أن رائحة الكافور عرض فلا يكون إلا في جسم، فإذا خلق الله تلك الرائحة في جرم ذلك الشراب سمي ذلك الجسم كافوراً، وإن كان طعمه طيباً وثالثها: أي بأس في أن يخلق الله تعالى الكافور في الجنة لكن من طعم طيب لذيذ، ويسلب عنه ما فيه من المضرة؟ ثم إنه تعالى يمزجه بذلك المشروب، كما أنه تعالى سلب عن جميع المأكولات والمشروبات ما معها في الدنيا من المضار.
السؤال الثاني:
ما فائدة كان في قوله: {كَانَ مِزَاجُهَا كافورا}؟ الجواب: منهم من قال: إنها زائدة، والتقدير من كأس مزاجها كافوراً، وقيل: بل المعنى كان مزاجها في علم الله، وحكمه كافورا.
{عَيْنًا يشرب بها عِبَادُ الله يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا (6)}
المسألة الأولى:
إن قلنا: الكافور اسم النهر كان {عيناً} بدلاً منه، وإن شئت نصبت على المدح، والتقدير أعني عيناً، أما إن قلنا: إن الكافور اسم لهذا الشيء المسمى بالكافور كان {عيناً} بدلاً من محل {من كأس} على تقدير حذف مضاف، كأنه قيل: يشربون خمراً خمر عين، ثم حذف المضاف، وأقيم المضاف إليه مقامه.
المسألة الثانية:
قال في الآية الأولى: {يشربونَ مِن كَأْسٍ} [الإنسان: 5] وقال ههنا: {يشرب بها}، فذكر هناك من وهاهنا الباء، والفرق أن الكأس مبدأ شربهم وأول غايته.
وأما العين فبها يمزجون شرابهم فكأن المعنى: يشرب عباد الله بها الخمر، كما تقول: شربت الماء بالعسل.
المسألة الثالثة:
قوله: {يشرب بها عِبَادُ الله} عام فيفيد أن كل عباد الله يشربون منها، والكفار بالاتفاق لا يشربون منها، فدل على أن لفظ عباد الله مختص بأهل الإيمان، إذا ثبت هذا فقوله: {وَلاَ يرضى لِعِبَادِهِ الكفر} [الزمر: 7] لا يتناول الكفار بل يكون مختصاً بالمؤمنين، فيصير تقدير الآية ولا يرضى لعباده المؤمنين الكفر، فلا تدل الآية على أنه تعالى لا يريد كفر الكافر.
قوله تعالى: {يُفَجّرُونَهَا تَفْجِيراً} معناه يفجرونها حيث شاؤا من منازلهم تفجيراً سهلا لا يمتنع عليهم واعلم أنه سبحانه لما وصف ثواب الأبرار في الآخرة شرح أعمالهم التي بها استوجبوا ذلك الثواب.
{يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا (7)}
فالأول قوله تعالى: {يُوفُونَ بالنذر} وفيه مسائل:
المسألة الأولى:
الإيفاء بالشيء هو الإتيان به وافياً، أما النذر فقال أبو مسلم: النذر كالوعد، إلا أنه إذا كان من العباد فهو نذر، وإن كان من الله تعالى فهو وعد، واختص هذا اللفظ في عرف الشرع بأن يقول لله عليَّ كذا وكذا من الصدقة، أو يعلق ذلك بأمر يلتمسه من الله تعالى مثل أن يقول: إن شفى الله مريضي، أو رد غائبي فعليَّ كذا كذا، واختلفوا فيما إذا علق ذلك بما ليس من وجوه البر، كما إذا قال: إن دخل فلان الدار فعليَّ كذا، فمن الناس من جعله كاليمين، ومنهم من جعله من باب النذر، إذا عرفت هذا، فنقول للمفسرين في تفسير الآية أقوال: أولها: أن المراد من النذر هو النذر فقط، ثم قال الأصم: هذا مبالغة في وصفهم بالتوفر على أداء الواجبات.
لأن من وفى بما أوجبه هو على نفسه كان بما أوجبه الله عليه أوفى، وهذا التفسير في غاية الحسن وثانيها: المراد بالنذر هاهنا كل ما وجب عليه سواء وجب بإيجاب الله تعالى ابتداء أو بأن أوجبه المكلف على نفسه فيدخل فيه الإيمان وجميع الطاعات، وذلك لأن النذر معناه الإيجاب وثالثها: قال الكلبي: المراد من النذر العهد والعقد، ونظيره قوله تعالى: {أَوْفُواْ بِعَهْدِى أُوفِ بِعَهْدِكُمْ} [البقرة: 40] فسمى فرائضه عهداً، وقال: {أَوْفُواْ بالعقود} [المائدة: 1] سماها عقوداً لأنهم عقدوها على أنفسهم باعتقادهم الإيمان.
المسألة الثانية:
هذه الآية دالة على وجوب الوفاء بالنذر، لأنه تعالى عقبه بيخافون يوماً وهذا يقتضي أنهم إنما وفوا بالنذر خوفاً من شر ذلك اليوم، والخوف من شر ذلك اليوم لا يتحقق إلا إذا كان الوفاء به واجباً، وتأكد هذا بقوله تعالى: {وَلاَ تَنقُضُواْ الإيمان} بعد توكيدها [النحل: 91] وبقوله: {ثُمَّ لْيَقْضُواْ تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُواْ نُذُورَهُمْ} [الحج: 29] فيحتمل ليوفوا أعمال نسكهم التي ألزموها أنفسهم.
المسألة الثالثة:
قال الفراء: وجماعة من أرباب المعاني.
كان في قوله: {كَانَ مِزَاجُهَا كافورا} [الإنسان: 5] زائدة وأما هاهنا فكان محذوفة، والتقدير كانوا يوفون بالنذر.
ولقائل أن يقول: إنا بينا أن كان في قوله: {كَانَ مِزَاجُهَا} [الإنسان: 5] ليست بزائدة، وأما في هذه الآية فلا حاجة إلى إضمارها، وذلك لأنه تعالى ذكر في الدنيا أن الأبرار يشربون أي سيشربون، فإن لفظ المضارع مشترك بين الحال والاستقبال، ثم قال: السبب في ذلك الثواب الذي سيجدونه أنهم الآن يوفون بالنذر.
النوع الثاني: من أعمال الأبرار التي حكاها الله تعالى عنهم قوله تعالى: {ويخافون يَوْماً كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً}.
واعلم أن تمام الطاعة لا يحصل إلا إذا كانت النية مقرونة بالعمل، فلما حكى عنهم العمل وهو قوله: {يُوفُونَ} حكى عنهم النية وهو قوله: {ويخافون يَوْماً} وتحقيقه قوله عليه السلام: «إنما الأعمال بالنيات» وبمجموع هذين الأمرين سماهم الله تعالى بالأبرار.
وفي الآية سؤالات:
السؤال الأول:
أحوال القيامة وأهوالها كلها فعل الله، وكل ما كان فعلاً لله فهو يكون حكمة وصواباً، وما كان كذلك لا يكون شراً، فكيف وصفها الله تعالى بأنها شر؟ الجواب: أنها إنما سميت شراً لكونها مضرة بمن تنزل عليه وصعبة عليه، كما تسمى الأمراض وسائر الأمور المكروهة شروراً.
السؤال الثاني:
ما معنى المستطير؟ الجواب: فيه وجهان أحدهما: الذي يكون فاشياً منتشراً بالغاً أقصى المبالغ، وهو من قولهم: استطار الحريق، واستطار الفجر وهو من طار بمنزلة استنفر من نفر، فإن قيل: كيف يمكن أن يقال: شر ذلك اليوم مستطير منتشر، مع أنه تعالى قال في صفة أوليائه: {لاَ يَحْزُنُهُمُ الفزع الأكبر} [الأنبياء: 103]، قلنا: الجواب من وجهين الأول: أن هول القيامة شديد، ألا ترى أن السموات تنشق وتنفطر وتصير كالمهل، وتتناثر الكواكب، وتتكور الشمس والقمر، وتفرغ الملائكة، وتبدل الأرض غير الأرض، وتنسف الجبال، وتسجر البحار وهذا الهول عام يصل إلى كل المكلفين على ما قال تعالى: {يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ} [الحج: 2] وقال: {يَوْماً يَجْعَلُ الولدان شِيباً} [المزمل: 17] إلا أنه تعالى بفضله يؤمن أولياءه من ذلك الفزع والجواب الثاني: أن يكون المراد أن شر ذلك اليوم يكون مستطيراً في العصاة والفجار.
وأما المؤمنون فهم آمنون، كما قال: {لاَ يَحْزُنُهُمُ الفزع الأكبر} [الأنبياء: 103] {لاَ خَوْفٌ عَلَيْكُمُ اليوم وَلاَ أَنتُمْ تَحْزَنُونَ} [الزخرف: 68] {الحمد للَّهِ الذي أَذْهَبَ عَنَّا الحزن} [فاطر: 44] إلا أن أهل العقاب في غاية الكثرة بالنسبة إلى أهل الثواب، فأجرى الغالب مجرى الكل على سبيل المجاز.
القول الثاني: في تفسير المستطير أنه الذي يكون سريع الوصول إلى أهله، وكأن هذا القائل ذهب إلى أن الطيران إسراع.
السؤال الثالث:
لم قال: {كان شره مستطيراً}، ولم يقل: وسيكون شره مستطيراً؟ الجواب: اللفظ وإن كان للماضي، إلا أنه بمعنى المستقبل، وهو كقوله: {وَكَانَ عَهْدُ الله مسؤلا} [الأحزاب: 15] ويحتمل أن يكون المراد إنه كان شره مستطيراً في علم الله وفي حكمته، كأنه تعالى يعتذر ويقول: إيصال هذا الضرر إنما كان لأن الحكمة تقتضيه، وذلك لأن نظام العالم لا يحصل إلا بالوعد والوعيد، وهما يوجبان الوفاء به، لاستحالة الكذب في كلامي، فكأنه تعالى يقول: كان ذلك في الحكمة لازماً، فلهذا السبب فعلته.
النوع الثالث: من أعمال الأبرار قوله تعالى: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبه مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا (8)}
اعلم أن مجامع الطاعات محصورة في أمرين التعظيم لأمر الله تعالى، وإليه الإشارة بقول: {يُوفُونَ بالنذر} [الإنسان: 7] والشفقة على خلق الله، وإليه الإشارة بقوله: {وَيُطْعِمُونَ الطعام}
وهاهنا مسائل:
المسألة الأولى:
لم يذكر أحد من أكابر المعتزلة، كأبي بكر الأصم وأبي علي الجبائي وأبي القاسم الكعبي، وأبي مسلم الأصفهاني، والقاضي عبد الجبار بن أحمد في تفسيرهم أن هذه الآيات نزلت في حق علي بن أبي طالب عليه السلام، والواحدي من أصحابنا ذكر في كتاب (البسيط) أنها نزلت في حق علي عليه السلام، وصاحب (الكشاف) من المعتزلة ذكر هذه القصة، فروى عن ابن عباس رضي الله عنهما: «أن الحسن والحسين عليهما السلام مرضا فعادهما رسول الله صلى الله عليه وسلم في أناس معه، فقالوا: يا أبا الحسن لو نذرت على ولدك، فنذر علي وفاطمة وفضة جارية لهما، إن شفاهما الله تعالى أن يصوموا ثلاثة أيام فشفيا وما معهم شيء فاستقرض علي من شمعون الخيبري اليهودي ثلاثة أصوع من شعير فطحنت فاطمة صاعاً واختبزت خمسة أقراص على عددهم ووضعوها بين أيديهم ليفطروا، فوقف عليهم سائل فقال: السلام عليكم أهل بيت محمد، مسكين من مساكين المسلمين أطعموني أطعمكم الله من موائد الجنة فآثروه وباتوا ولم يذوقوا إلا الماء وأصبحوا صائمين، فلما أمسوا ووضعوا الطعام بين أيديهم وقف عليهم يتيم فآثروه وجاءهم أسير في الثالثة، ففعلوا مثل ذلك فلما أصبحوا أخذ علي عليه السلام بيد الحسن والحسين ودخلوا على الرسول عليه الصلاة والسلام، فلما أبصرهم وهم يرتعشون كالفراخ من شدة الجوع قال: ما أشد ما يسوءني ما أرى بكم. وقام فانطلق معهم فرأى فاطمة في محرابها قد التصق بطنها بظهرها وغارت عيناها فساءه ذلك، فنزل جبريل عليه السلام وقال: خذها يا محمد هنّاك الله في أهل بيتك فأقرأها السورة». والأولون يقولون: إنه تعالى ذكر في أول السورة أنه إنما خلق الخلق للابتلاء والامتحان، ثم بين أنه هدى الكل وأزاح عللهم ثم بين أنهم انقسموا إلى شاكر وإلى كافر ثم ذكر وعيد الكافر ثم أتبعه بذكر وعد الشاكر فقال: {إِنَّ الأبرار يشربونَ} [الإنسان: 5] وهذه صيغة جمع فتتناول جميع الشاكرين والأبرار، ومثل هذا لا يمكن تخصيصه بالشخص الواحد، لأن نظم السورة من أولها إلى هذا الموضع يقتضي أن يكون هذا بياناً لحال كل من كان من الأبرار والمطيعين، فلو جعلناه مختصاً بشخص واحد لفسد نظم السورة والثاني: أن الموصوفين بهذه الصفات مذكورون بصيغة الجمع كقوله: {إِنَّ الأبرار يشربونَ... يُوفُونَ بالنذر ويخافون.... وَيُطْعِمُونَ} [الإنسان: 5، 7، 8] وهكذا إلى آخر الآيات فتخصيصه بجمع معنيين خلاف الظاهر، ولا ينكر دخول علي بن أبي طالب عليه السلام فيه، ولكنه أيضاً داخل في جميع الآيات الدالة على شرح أحوال المطيعين، فكما أنه داخل فيها فكذا غيره من أتقياء الصحابة والتابعين داخل فيها، فحينئذ لا يبقى للتخصيص معنى ألبتة، اللهم إلا أن يقال: السورة نزلت عند صدور طاعة مخصوصة عنه، ولكنه قد ثبت في أصول الفقه أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.
المسألة الثانية:
الذين يقولون: هذه الآية مختصة بعلي بن أبي طالب عليه السلام، قالوا: المراد من قوله: {وَيُطْعِمُونَ الطعام على حُبه مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً} هو ما رويناه أنه عليه السلام أطعم المسكين واليتيم والأسير، وأما الذين يقولون الآية عامة في حق جميع الأبرار (فإنهم) قالوا: إطعام الطعام كناية عن الإحسان إلى المحتاجين والمواساة معهم بأي وجه كان، وإن لم يكن ذلك بالطعام بعينه، ووجه ذلك أن أشرف أنواع الإحسان هو الإحسان بالطعام وذلك لأن قوام الأبدان بالطعام ولا حياة إلا به، وقد يتوهم إمكان الحياة مع فقد ما سواه، فلما كان الإحسان لا جرم عبر به عن جميع وجوه المنافع والذي يقوي ذلك أنه يعبر بالأكل عن جميع وجوه المنافع، فيقال: أكل فلان ماله إذا أتلفه في سائر وجوه الإتلاف، وقال تعالى: {إِنَّ الذين يَأْكُلُونَ أموال اليتامى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ في بُطُونِهِمْ نَاراً} [النساء: 10] وقال: {وَلاَ تَأْكُلُواْ أموالكم بَيْنَكُم بالباطل} [البقرة: 188] إذا ثبت هذا فنقول: إن الله تعالى وصف هؤلاء الأبرار بأنهم يواسون بأموالهم أهل الضعف والحاجة، وأما قوله تعالى: {على حُبه} ففيه وجهان أحدهما: أن يكون الضمير للطعام أي مع اشتهائه والحاجة إليه ونظيره {وَآتَى المال على حُبه} [البقرة: 177] {لَن تَنَالُواْ البر حتى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ} [آل عمران: 92] فقد وصفهم الله تعالى بأنهم يؤثرون غيرهم على أنفسهم على ما قال: {وَيُؤْثِرُونَ على أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بهمْ خَصَاصَةٌ} [الحشر: 9] والثاني: قال الفضيل بن عياض على حب الله أي لحبهم لله: واللام قد تقام مقام على، وكذلك تقام على مقام اللام، ثم إنه تعالى ذكر أصناف من تجب مواساتهم، وهم ثلاثة أحدهم: المسكين وهو العاجز عن الاكتساب بنفسه والثاني: اليتيم وهو الذي مات كاسبه فيبقى عاجزاً عن الكسب لصغره مع أنه مات كسبه والثالث: الأسير وهو المأخوذ من قومه المملوك رقبته الذي لا يملك لنفسه نصراً ولا حيلة، وهؤلاء الذين ذكرهم الله تعالى هاهنا هم الذين ذكرهم في قوله: {فَلاَ اقتحم العقبة وَمَا أَدْرَاكَ مَا العقبة فَكُّ رَقَبَةٍ أَوْ إِطْعَامٌ في يَوْمٍ ذِى مَسْغَبَةٍ يَتِيماً ذَا مَقْرَبَةٍ أَوْ مِسْكِيناً ذَا مَتْرَبَةٍ} [البلد: 11- 16] وقد ذكرنا اختلاف الناس في المسكين قبل هذا، أما الأسير فقد اختلفوا فيه على أقوال: أحدها: قال ابن عباس والحسن وقتادة: إنه الأسير من المشركين، روى أنه عليه الصلاة والسلام كان يبعث الأسارى من المشركين ليحفظوا وليقام بحقهم، وذلك لأنه يجب إطعامهم إلى أن يرى الإمام رأيه فيهم من قتل أو فداء أو استرقاق، ولا يمتنع أيضاً أن يكون المراد هو الأسير كافراً كان أو مسلماً، لأنه إذا كان مع الكفر يجب إطعامه فمع الإسلام أولى، فإن قيل: لما وجب قتله فكيف يجب إطعامه؟ قلنا: القتل في حال لا يمنع من الإطعام في حال أخرى، ولا يجب إذا عوقب بوجه أن يعاقب بوجه آخر، ولذلك لا يحسن فيمن يلزمه القصاص أن يفعل به ما هو دون القتل ثم هذا الإطعام على من يجب؟ فنقول: الإمام يطعمه فإن لم يفعله الإمام وجب على المسلمين وثانيها: قال السدي: الأسير هو المملوك وثالثها: الأسير هو الغريم قال عليه السلام: «غريمك أسيرك فأحسن إلى أسيرك» ورابعها: الأسير هو المسجون من أهل القبلة وهو قول مجاهد وعطاء وسعيد بن جبير، وروى ذلك مرفوعا من طريق الخدري أنه عليه السلام قال: «{مِسْكِيناً} فقيراً {وَيَتِيماً} لا أب له {وَأَسِيراً} قال المملوك والمسجون» وخامسها: الأسير هو الزوجة لأنهن أسراء عند الأزواج، قال عليه الصلاة والسلام: «اتقوا الله في النساء فإنهن عندكم أعوان» قال القفال: واللفظ يحتمل كل ذلك لأن الأصل الأسر هو الشد بالقد، وكان الأسير يفعل به ذلك حبساً له، ثم سمي بالأسير من شد ومن لم يشد فعاد المعنى إلى الحبس.
واعلم أنه تعالى لما ذكر أن الأبرار يحسنون إلى هؤلاء المحتاجين بين أن لهم فيه غرضين أحدهما: تحصيل رضا الله.
وهو المراد من قوله: {إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ الله} والثاني: الاحتراز من خوف يوم القيامة وهو المراد من قوله: {إِنَّا نَخَافُ مِن رَّبّنَا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً} وهاهنا مسائل:
المسألة الأولى:
قوله: {إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ الله} إلى قوله: {قَمْطَرِيراً} يحتمل ثلاثة أوجه أحدها: أن يكون هؤلاء الأبرار قد قالوا: هذه الأشياء باللسان، إما لأجل أن يكون ذلك القول منعاً لأولئك المحتاجين عن المجازاة بمثله أو بالشكر، لأن إحسانهم مفعول لأجل الله تعالى فلا معنى لمكافأة الخلق، وإما أن يكون لأجل أن يصير ذلك القول تفقيهاً وتنبيهاً على ما ينبغي أن يكون عليه من أخلص لله حتى يقتدي غيرهم بهم في تلك الطريقة وثانيها: أن يكونوا أرادوا أن يكون ذلك وثالثها: أن يكون ذلك بياناً وكشفاً عن اعتقادهم وصحة نيتهم وإن لم يقولوا شيئاً.
وعن مجاهد أنهم ما تكلموا به ولكن علمه الله تعالى منهم فأثنى عليهم.
المسألة الثانية:
اعلم أن الإحسان من الغير تارة يكون لأجل الله تعالى، وتارة يكون لغير الله تعالى إما طلباً لمكافأة أو طلباً لحمد وثناء وتارة يكون لهما وهذا هو الشرك والأول هو المقبول عند الله تعالى، وأما القسمان الباقيان فمردودان قال تعالى: {لاَ تُبْطِلُواْ صدقاتكم بالمن والأذى كالذى يُنفِقُ مَالَهُ رِئَاء الناس} [البقرة: 264] وقال: {وَمَا ءاتَيْتُمْ مّن رِباً لّيَرْبُوَاْ في أَمْوَالِ الناس فَلاَ يَرْبُواْ عِندَ الله وَمَا ءاتَيْتُمْ مّن زكواة تُرِيدُونَ وَجْهَ الله فأولئك هم المضعفون} [الروم: 39] ولا شك أن التماس الشكر من جنس المن والأذى.
إذا عرفت هذا فنقول: القوم لما قالوا: {إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ الله} بقي فيه احتمال أنه أطعمه لوجه الله ولسائر الأغراض على سبيل التشريك، فلا جرم نفى هذا الاحتمال بقوله: {لاَ نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاء وَلاَ شُكُوراً}.
المسألة الثالثة:
الشكور والكفور مصدران كالشكر والكفر، وهو على وزن الدخول والخروج، هذا قول جماعة أهل اللغة، وقال الأخفش: إن شئت جعلت الشكور جماعة الشكر وجعلت الكفور جماعة الكفر لقول: {فأبى الظالمون إَلاَّ كُفُورًا} [الإسراء: 99] مثل برد وبرود وإن شئت مصدراً واحداً في معنى جمع مثل قعد قعوداً وخرج خروجاً. اهـ.

.قال القرطبي:

قوله تعالى: {إِنَّآ أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سلاسل وَأَغْلاَلاً وَسَعِيراً}
بين حال الفريقين، وأنه تعَبَّد العقلاء وكَلَّفهم ومَكَّنهم مما أمرهم، فمن كَفَر فله العقاب، ومن وَحَّد وشكَر فله الثواب.
والسلاسل: القيود في جهنم طول كل سلسلة سبعون ذراعاً كما مضى في (الحاقة).
وقرأ نافع والكسائيّ وأبو بكر عن عاصم وهشام عن ابن عامر {سلاسلاً} منوّناً.
الباقون بغير تنوين.
ووقف قُنْبُل وابن كثير وحمزة بغير ألف.
الباقون بالألف.
فأما {قوارِير} الأوّل فنوّنه نافع وابن كثير والكسائيّ وأبو بكر عن عاصم، ولم ينوّن الباقون.
ووقف فيه يعقوب وحمزة بغير ألف.
والباقون بالألف.
وأما {قَوَارِير} الثانية فنوّنه أيضاً نافع والكسائيّ وأبو بكر، ولم ينوّن الباقون.
فمن نوّن قرأها بالألف، ومن لم ينوّن أسقط منها الألف، واختار أبو عُبيد التنوين في الثلاثة، والوقف بالألف اتباعا لخط المصحف؛ قال: رأيت في مصحف عثمان {سلاسلاً} بالألف و{قَوَارِيراً} الأوّل بالألف، وكان الثاني مكتوباً بالألف فَحُكَّت فرأيت أثرها هناك بَيِّناً.
فمن صرف فله أربع حجج: أحدها أن الجموع أشبهت الآحاد فجمعت جمع الآحاد، فجعلت في حكم الآحاد فصرفت.
الثانية أن الأخفش حكى عن العرب صرف جميع ما لا ينصرف إلا أَفْعَل منك، وكذا قال الكسائيّ والفراء: هو على لغة من يُجرِ الأسماء كلها إلا قولهم هو أظرف منك فإنهم لا يُجْرونه؛ وأنشد ابن الأنباري في ذلك قول عمرو بن كُلْثوم:
كَأَنَّ سُيوفَنَا فِينا وفِيهِمْ ** مَخَارِيقٌ بِأَيْدِي لاَعِبِينَا

وقال لَبِيد:
وجَزُورِ أَيْسَارٍ دَعوتُ لِحَتفِها ** بِمَغَالِقٍ مُتَشَابه أَجْسَامُهَا

وقال لَبِيد أيضاً:
فَضَلاً وذو كَرمٍ يُعِينُ على النَّدَى ** سَمْحٌ كَسُوبُ رَغَائِبٍ غَنَّامُهَا

فصرف مَخَاريق ومَغَالق ورَغَائب، وسبيلها ألا تُصرَف.
والحجة الثالثة أن يقول نوّنت قوارِير الأوّل لأنه رأس آية، ورؤوس الآي جاءت بالنون، كقوله جلّ وعزّ: {مَّذْكُوراً} {سَمِيعاً بَصِيراً} فنوّنا الأوّل ليوقف بين رؤوس الآي، ونوّنا الثاني على الجوار للأوّل.
والحجة الرابعة اتباع المصاحف، وذلك أنهما جميعاً في مصاحف مكة والمدينة والكوفة بالألف.
وقد احتج من لم يصرفهنّ بأن قال: إن كل جمع بعد الألف منه ثلاثة أحرف أو حرفان أو حرف مشدّد لم يُصَرف في معرفة ولا نكرة؛ فالذي بعد الألف منه ثلاثة أحرف قولك: قناديل ودنانير ومناديل، والذي بعد الألف منه حرفان قول الله عز وجل: {لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ} [الحج: 40] لأن بعد الألف منه حرفين، وكذلك قوله: {وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسم الله كَثِيراً} [الحج: 40] والذي بعد الألف منه حرف مُشَدّد شَوَابّ ودَوَابّ.
وقال خلف: سمعت يحيى بن آدم يحدّث عن ابن إدريس قال: في المصاحف الأوَل الحرف الأوّل بالألف والثاني بغير ألف؛ فهذا حجة لمذهب حمزة.
وقال خلف: رأيت في مصحف ينسب إلى قراءة ابن مسعود الأول بالألف والثاني بغير ألف.
وأما أَفْعَل مِنْك فلا يقول أحد من العرب في شعره ولا في غيره هو أفعل منك منوّناً؛ لأن مِن تقوم مقام الإضافة فلا يجمع بين تنوين وإضافة في حرف؛ لأنهما دليلان من دلائل الأسماء ولا يجمع بين دليلين؛ قاله الفراء وغيره.
قوله تعالى: {وَأَغْلاَلاً} جمع غُلّ تُغلّ بها أيديهم إلى أعناقهم.
وعن جُبَير ابن نُفَير عن أبي الدراء كان يقول: ارفعوا هذه الأيدي إلى الله جلّ ثناؤه قبل أن تُغلّ بالأغلال.
قال الحسن: إن الأغلال لم تجعل في أعناق أهل النار؛ لأنهم أعجزوا الربّ سبحانه ولكن إذلالاً.
{وَسَعِيراً} تقدّم القول فيه.
قوله تعالى: {إِنَّ الأبرار يشربونَ مِن كَأْسٍ}
الأبرار: أهل الصدق واحدهم بَرٌّ، وهو من امتثل أمر الله تعالى.
وقيل: البرّ الموحِّد والأبرار جمع بارّ مثل شاهد وأشهاد، وقيل: هو جمع بَرّ مثل نَهْر وأنهار؛ وفي الصحاح: وجمع البر الأبرار، وجمع البار البَرَرة، وفلان يَبَرُّ خالقَه وَيَتَبَّرره أي يُطِيعه، والأم بَرّةٌ بولدها.
وروى ابن عمر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إنما سمّاهم الله جل ثناؤه الأبرار لأنهم بَرُّوا الآباء والأبناء، كما أن لوالدك عليك حقًّا كذلك لولدك عليك حقًّا» وقال الحسن: البَرّ الذي لا يؤذي الذَّرّ.
وقال قتادة: الأبرار الذين يؤدّون حقّ الله ويوفون بالنَّذْر.
وفي الحديث: «الأبرار الذين لا يؤذون أحداً». {يشربونَ مِن كَأْسٍ} أي من إناء فيه الشراب.
قال ابن عباس: يريد الخمر، والكأس في اللغة الإناء فيه الشراب: وإذا لم يكن فيه شراب لم يسمّ كأساً.
قال عمرو بن كُلْثوم:
صَبنْتِ الكأسَ عَنَّا أُمَّ عَمرٍو ** وكان الْكَأْسُ مَجْرَاها الْيَمِينَا

وقال الأصمعيّ: يقال صَبَنْتَ عنّا الهديةَ أو ما كان من معروف تَصبِنُ صَبْنا: بمعنى كَفَفْتَ؛ قاله الجوهري.
{كَانَ مِزَاجُهَا} أي شَوْبها وخلطها؛ قال حسّان:
كَأَنَ سَبِيئةً مِن بيْتِ رَأَسٍ ** يكونُ مِزَاجَها عَسلٌ وماءُ

ومنه مِزاج البدن وهو ما يمازجه من الصفراء والسوداء والحرارة والبرودة.
{كَافُوراً} قال ابن عباس: هو اسم عين ماء في الجنة، يقال له عين الكافور.
أي يمازجه ماء هذه العين التي تسمّى كافوراً.
وقال سعيد عن قتادة: تُمزَج لهم بالكافور وتُختَم بالمسك.
وقاله مجاهد.
وقال عِكرمة: مِزَاجها طعمها.
وقيل: إنما الكافور في ريحها لا في طعمها.
وقيل: أراد كالكافور في بياضه وطيب رائحته وبَرْده؛ لأن الكافور لا يشرب؛ كقوله تعالى: {حتى إِذَا جَعَلَهُ نَاراً} [الكهف: 96] أي كنارٍ.
وقال ابن كَيْسان: طُيِّب بالمسك والكافور والزنجيل.
وقال مقاتل: ليس بكافور الدنيا.
ولكن سمَّى الله ما عنده بما عندكم حتى تهتدي لها القلوب.
وقوله: {كَانَ مِزَاجُهَا} {كَانَ} زائدة أي من كأس مِزاجُها كافورٌ.
{عيناً يشرب بها عِبَادُ الله} قال الفراء: إن الكافور اسم لعين ماء في الجنة؛ ف {عيناً} بدل من كافور على هذا.
وقيل: بدل من كأس على الموضع.
وقيل: هي حال من المضمر في {مِزاجها}.
وقيل: نصب على المدح؛ كما يُذكَر الرّجلُ فتقول: العاقلَ اللبيبَ؛ أي ذكرتم العاقلَ اللبيبَ فهو نصب بإضمار أعني.
وقيل يشربون عيناً.
وقال الزجاج: المعنى من عين.
ويقال: كافور وقافور.
والكافور أيضاً: وعاء طلع النخل وكذلك الكُفُرَّي؛ قاله الأصمعيّ.
وأما قول الراعي:
تَكْسُو الْمَفَارِقَ واللَّبَّاتِ ذَا أَرَجٍ ** مِن قُصْبِ مُعْتَلِفِ الكافورِ دَرَّاجِ

فإنّ الظبي الذي يكون منه المسك إنما يَرْعي سُنْبَل الطِّيب فجعله كافوراً.
{يشرب بها} قال الفراء: يشرب بها ويشربها سواء في المعنى، وكأنّ يشرب بها يَرْوَي بها ويَنْقع؛ وأنشد:
شَرِبْنَ بمِاءِ البحرِ ثم تَرَفَّعتْ ** مَتَى لُجَجٍ خُضْرٍ لَهُنَّ نَئيج

قال: ومثله فلان يتكلم بكلام حسن، ويتكلم كلاماً حسناً.
وقيل: المعنى يشربها والباء زائدة.
وقيل: الباء بدل (من) تقديره يشرب منها؛ قاله القتبيّ.
{يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيراً} فيقال: إن الرجل منهم ليمشي في بيوتاته ويصعد إلى قصوره، وبيده قضيب يشير به إلى الماء فيجري معه حيثما دار في منازله على مستوى الأرض في غير أخدود، ويتبعه حيثما صعد إلى أعلى قصوره؛ وذلك قوله تعالى: {عيناً يشرب بها عِبَادُ الله يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيراً} أي يُشقِّقونها شَقًّا كما يفجر الرجل النهر هاهنا وها هنا إلى حيث يريد.
وعن ابن أبي نَجيح عن مجاهد {يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيراً} يقودونها حيث شاؤوا، وتتبعهم حيثما مالوا مالت معهم.
وروى أبو مقاتل عن أبي صالح عن سعد عن أبي سهل عن الحسن قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أربع عيون في الجنة عينان تجريان من تحت العرش إحداهما التي ذكر الله {يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيراً} والأخرى الزنجبيل والأخريان نَضًّاختان من فوق العرش إحداهما التي ذكر الله {عيناً فِيَها تُسَمَّى سَلْسَبِيلاً} والأخرى التَّسْنيم» ذكره الترمذيّ الحكيم في (نوادر الأصول).
وقال: فالتسنيم للمقربين خاصة شربا لهم، والكافور للأبرار شربا لهم؛ يمزج للأبرار من التسنيم شرابهم، وأما الزنجبيل والسلسبيل فللأبرار منها مِزاج هكذا ذكره في التنزيل وسكت عن ذكر ذلك لمن هي شرب، فما كان للأبرار مِزاج فهو للمقربين صِرف، وما كان للأبرار صِرف فهو لسائر أهل الجنة مِزاج.
والأبرار هم الصادقون، والمقرَّبون: هم الصديقون.
قوله تعالى: {يُوفُونَ بالنذر} أي لا يُخلِفون إذا نَذَرواً.
وقال مَعْمَر عن قتادة: بما فرض الله عليهم من الصلاة والزكاة والصوم والحج والعُمْرة وغيره من الواجبات.
وقال مجاهد وعكرمة: يوفون إذا نذروا في حقّ الله جل ثناؤه.
وقال الفرّاء والجرجاني: وفي الكلام إضمار؛ أي كانوا يوفون بالنذر في الدنيا.
والعرب قد تزيد مرة (كان) وتحذف أخرى.
والنذر: حقيقته ما أوجبه المكلّف على نفسه من شيء يفعله.
وإن شئت قلت في حَدِّه: النذر: هو إيجاب المكلَّف على نفسه من الطاعات ما لو لم يوجبه لم يلزمه.
وقال الكَلْبيّ: {يُوفُونَ بالنذر} أي يتممون العهود والمعنى واحد؛ وقد قال الله تعالى: {ثُمَّ لْيَقْضُواْ تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُواْ نُذُورَهُمْ} [الحج: 29] أي أعمال نسكهم التي ألزموها أَنفسهم بإحرامهم بالحج.
وهذا يقوّي قول قتادة.
وأن النذر يندرج فيه ما التزمه المرء بإيمانه من امتثال أمر الله؛ قاله القُشيري.
وروى أشهب عن مالك أنه قال: {يُوفُونَ بالنذر} هو نذر العتق والصيام والصلاة.
وروى عنه أبو بكر بن عبد العزيز قال مالك: {يُوفُونَ بالنذر} قال: النذر: هو اليمين.
قوله تعالى: {وَيَخَافُونَ} أي يحذرون {يَوْماً} أي يوم القيامة.
{كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً} أي عالياً داهياً فاشياً وهو في اللغة ممتدّاً؛ والعرب تقول: استطار الصدع في القارورة والزجاجة واستطال: إذا امتد؛ قال الأعشى:
وبَانَتْ وقد أَسْأَرَتْ في الفُؤَا ** دِ صَدْعاً على نَأْيِهَا مُسْتَطِيرَا

ويقال: استطار الحريق: إذا انتشر.
واستطار الفجر إذا انتشر الضوء.
وقال حسان:
وهَانَ على سَرَاة بنِي لُؤَيٍّ ** حرِيقٌ بالبُوَيْرَةِ مُسْتَطِيرُ

وكان قتادة يقول: استطار والله شرُّ ذلك اليوم حتى ملأ السموات والأرض.
وقال مقاتل: كان شره فاشياً في السموات فانشقت، وتناثرت الكواكب، وفزعت الملائكة، وفي الأرض نُسِفت الجبالُ وغارت المياهُ.
قوله تعالى: {وَيُطْعِمُونَ الطعام على حُبه} قال ابن عباس ومجاهد: على قِلّته وحبهم إياه وشهوتهم له.
وقال الداراني: على حبّ الله.
وقال الفُضَيل بن عِياض: على حبّ إطعام الطعام.
وكان الربيع بن خيثم إذا جاءه السائل قال: أطعموه سُكَّراً فإن الربيع يحب السكر.
{مِسْكِيناً} أي ذا مسكنة.
وروى أبو صالح عن ابن عباس قال: هو الطوّاف يسألك مَالَكَ {وَيَتِيماً} أي من يتامى المسلمين.
وروى منصور عن الحسن: أن يتيماً كان يحضر طعام ابن عمر، فدعا ذات يوم بطعامه، وطلب اليتيم فلم يجده، وجاءه بعد ما فرغ ابن عمر من طعامه فلم يجد الطعام، فدعا له بسَوِيق وعسل؛ فقال: دونك هذا، فوالله ما غُبِنتَ؛ قال الحسن وابن عمر: والله ما غُبِن.
{وَأَسِيراً} أي الذي يؤسر فيحبس.
فروى أبو صالح عن ابن عباس قال: الأسير من أهل الشرك يكون في أيديهم.
وقاله قتادة.
وروى ابن أبي نجيح عن مجاهد قال: الأسير هو المحبوس.
وكذا قال سعيد بن جُبير وعطاء: هو المسلم يُحبس بحقّ.
وعن سعيد بن جبير مثل قول قتادة وابن عباس.
قال قتادة: لقد أمر الله بالأسرى أن يحسن إليهم، وأن أسراهم يومئذ لأَهلُ الشِّرك، وأخوك المسلم أحقُّ أن تطعمه.
وقال عِكرمة: الأسير العبد.
وقال أبو حمزة الثُّمَالي: الأسير المرأة، يدلّ عليه قوله عليه السلام: «استوصوا بالنساء خيراً فإنهن عَوَانٍ عندكم». أي أسيرات.
وقال أبو سعيد الخُدري: قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم: {وَيُطْعِمُونَ الطعام على حُبه مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً} فقال: «المسكين الفقير، واليتيم الذي لا أب له، والأسير المملوك والمسجون». ذكره الثعلبي.
وقيل: نسخ إطعام المسكين آية الصدقات؛ وإطعام الأسير (آية) السيف؛ قاله سعيد بن جُبير.
وقال غيره: بل هو ثابت الحكم، وإطعام اليتيم والمسكين على التطوع، وإطعام الأسير لحفظ نفسه إلاّ أن يتخير فيه الإمام.
الماورديّ: ويحتمل أن يريد بالأسير الناقص العقل؛ لأنه في أسر خَبْله وجنونه، وأسر المشرك انتقام يقف على رأي الإمام، وهذا بِرٌّ وإحسان.
وعن عطاء قال: الأسير من أهل القبلة وغيرهم.
قلت: وكأنّ هذا القول عام يجمع جميع الأقوال، ويكون إطعام الأسير المشرك قربة إلى الله تعالى، غير أنه من صدقة التطوع، فأما المفروضة فلا.
والله أعلم.
ومضى القول في المسكين واليتيم والأسير واشتقاق ذلك من اللغة في (البقرة) مستوفًى والحمد لله.
قوله تعالى: {إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ الله} أي يقولون بألسنتهم للمسكين واليتيم والأسير {إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ} في الله جلّ ثناؤه فزعاً من عذابه وطمعاً في ثوابه.
{لاَ نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاءً} أي مكافأة.
{وَلاَ شُكُوراً} أي ولا أن تثنوا علينا بذلك؛ قال ابن عباس: كذلك كانت نياتهم في الدنيا حين أطعموا.
وعن سالم عن مجاهد قال: أما إنهم ما تكلّموا به ولكن علمه الله جلّ ثناؤه منهم فأثنى به عليهم؛ ليرغب في ذلك راغب.
وقاله سعيد بن جُبير حكاه عنه القُشيريّ.
وقيل: إن هذه الآية نزلت في مُطْعِم بن ورقاء الأنصاريّ نذر نذراً فوفَّى به.
وقيل: نزلت فيمن تكفّل بأسرى بدروهم سبعة من المهاجرين: أبو بكر وعمر وعليّ والزبير وعبد الرحمن بن عوف وسعد وأبو عبيدة رضي الله عنهم؛ ذكره الماورديّ.
وقال مقاتل: نزلت في رجل من الأنصار أطعم في يوم واحد مسكيناً ويتيماً وأسيراً.
وقال أبو حمزة الثُّمَالي: بلغني أن رجلاً قال يا رسول الله أطعمني فإني والله مجهود؛ فقال: «والذي نفسي بيده ما عندي ما أطعمك ولكن اطلب» فأتى رجلاً من الأنصار وهو يتعشى مع امرأته فسأله، وأخبره بقول النبيّ صلى الله عليه وسلم؛ فقالت المرأة: أطعمه واسقه. ثم أتى النبيّ صلى الله عليه وسلم يتيم فقال: يا رسول الله! أَطعمني فإني مجهود. فقال: «ما عندي ما أطعمك ولكن اطلب» فاستطعم ذلك الأنصاريّ فقالت المرأة: أطعمه واسقه، فأطعمه. ثم أتى النبيّ صلى الله عليه وسلم أسير فقال: يا رسول الله! أطعمني فإني مجهود. فقال: «والله ما معي ما أطعمك ولكن اطلب» فجاء الأنصاريّ فطلب، فقالت المرأة: أطعمه واسقه.
فنزلت: {وَيُطْعِمُونَ الطعام على حُبه مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً} ذكره الثعلبيّ.
وقال أهل التفسير: نزلت في عليّ وفاطمة رضي الله عنهما وجارية لهما اسمها فضة.
قلت: والصحيح أنها نزلت في جميع الأبرار، ومَن فعل فعلاً حسناً؛ فهي عامة.
وقد ذكر النقاش والثّعلبيّ والقشيريّ وغير واحد من المفسّرين في قصة عليّ وفاطمة وجاريتهما حديثاً لا يصح ولا يثبت، رواه ليث عن مجاهد عن ابن عباس: في قوله عز وجل: {يُوفُونَ بالنذر وَيَخَافُونَ يَوْماً كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً وَيُطْعِمُونَ الطعام على حُبه مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً} قال: مرض الحسن والحسين فعادهما رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعادهما عامة العرب؛ فقالوا: يا أبا الحسن ورواه جابر الجُعْفيّ عن قَنْبَر مولى عليّ قال: مرض الحسن والحسين حتى عادهما أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال أبو بكر رضي الله عنه: يا أبا الحسن رجع الحديث إلى حديث ليث بن أبي سليم «لو نذرتَ عن ولديك شيئاً، وكل نذر ليس له وفاء فليس بشيء».
فقال رضي الله عنه: إن بَرأَ ولداي صمت لله ثلاثة أيام شكراً. وقالت جارية لهم نوبية: إن بَرأَ سيِّداي صمت لله ثلاثة أيام شكراً. وقالت فاطمة مثل ذلك.
وفي حديث الجُعْفيّ فقال الحسن والحسين: علينا مثل ذلك فأُلْبِس الغلامان العافية، وليس عند آل محمد قليل ولا كثير، فانطلق عليّ إلى شمعون بن حاريا الخيبريّ، وكان يهودياً، فاستقرض منه ثلاثة أصوُع من شعير، فجاء به، فوضعه ناحية البيت، فقامت فاطمة إلى صاع فطحنته واختبزته، وصلّى عليٌّ مع النبيّ صلى الله عليه وسلم، ثم أتى المنزل فوضع الطعام بين يديه.
وفي حديث الجُعْفيّ: فقامت الجارية إلى صاع من شعير فخبزت منه خمسة أقراص، لكل واحد منهم قرص، فلما مضى صيامهم الأوّل وضع بين أيديهم الخبز والملح الجريش؛ إذ أتاهم مسكين، فوقف بالباب وقال: السلام عليكم أهلَ بيت محمد في حديث الجُعْفي أنا مسكين من مساكين أمة محمد صلى الله عليه وسلم، وأنا والله جائع؛ أطعموني أطعمكم الله من موائد الجنة.
فسمعه عليّ رضي الله عنه، فأنشأ يقول:
فاطمَ ذاتَ الفضلِ واليقينْ ** يا بنتَ خير الناسِ أجمعينْ

أما تَرَينَ البائسَ المسكينْ ** قد قام بالباب له حنينْ

يشكو إلى الله ويستكينْ ** يشكو إلينا جائعٌ حزينْ

كل امرىء بكسبه رهينْ ** وفاعل الخيرات يستبِينْ

موعِدُنا جَنّة عِلِّيينْ ** حرّمها الله على الضَّنِينْ

ولِلبِخيل موقِفٌ مهِين ** تَهوِي به النار إلى سِجِّينْ

شرابه الحميم والغِسْلينْ ** من يفعلِ الخيرَ يقم سمينْ

ويَدْخُل الجنةَ أيّ حِينْ

فأنشأت فاطمة رضي الله عنها تقول:
أمرُكَ عندي يا بن عَمٍّ طاعهْ ** ما بِيَ من لُؤْم ولا وَضَاعهْ

غَدَيْتُ في الخبز له صناعهْ ** أُطعِمه ولا أُبالي السَّاعهْ

أرجو إذا أَشبعتُ ذا المَجَاعهْ ** أَنْ أَلحقَ الأخيارَ والجَمَاعهْ

وأدخلَ الجنةَ لي شَفاعهْ

فأطعموه الطعام، ومكثوا يومهم وليلتهم لم يذوقوا شيئاً إلا الماء القراح، فلما أن كان في اليوم الثاني قامت إلى صاع فطحنته واختبزته، وصلّى عليٌّ مع النبيّ صلى الله عليه وسلم، ثم أتى المنزل فوضع الطعام بين أيديهم؛ فوقف بالباب يتيم فقال: السلام عليكم أهل بيت محمد، يتيم من أولاد المهاجرين استشهد والدي يوم العَقَبة.
أطعموني أطعمكم الله من موائد الجنة.
فسمعه عليّ فأنشأ يقول:
فاطِمَ بنتَ السِّيدِ الكريمْ ** بنتَ نبِيٍّ ليس بالزَّنِيمْ

لقد أتى الله بِذِي اليتيمْ ** من يرحم اليوم يكن رحِيمْ

ويدخل الجنة أي سلِيمْ ** قد حرم الخلدُ على اللئيمْ

ألاَّ يَجوزَ الصراطَ المستقيمْ ** يزلّ في النار إلى الجحيمْ

شرابه الصديدُ والحميمْ

فأنشأت فاطمة رضي الله عنها تقول:
أطعِمه اليوم ولا أبالِي ** وأوثر الله على عيالي

أَمَسوْا جياعاً وَهُمُ أَشْبَالي ** أصغرُهم يُقتَلُ في القِتالِ

بِكَرْ بَلاَ يُقتَلُ باغتيال ** يا ويلُ لِلقاتِل مَعْ وَبَالِ

تَهوى به النار إلى سِفالِ ** وفي يديهِ الغُلَّ والأغلال

كبولة زادت على الأكبالِ ** فأطعموه الطعام ومكثوا يومين وليلتين لم يذوقوا شيئاً إلا الماء القرأح؛ فلما كانت في اليوم الثالث قامت إلى الصاع الباقي فطحنته واختبزته، وصلّى عليٌّ مع النبيّ صلى الله عليه وسلم، ثم أتى المنزل فوضع الطعام بين أيديهم؛ إذ أتاهم أسير فوقف بالباب فقال: السلام عليكم أهل بيت محمد، تأسروننا وتَشُدُّوننا ولا تطعموننا أطعموني فإنّي أسير محمد.

فسمعه عليّ فأنشأ يقول:
فاطم يا بنتَ النبيِّ أحمدْ ** بنت نبِيٍّ سيِّدٍ مُسَوَّدْ

وسماه الله فهو محمد ** قد زانه الله بِحسنٍ أغيدْ

هذا أسِيرٌ للنبيّ المهتدْ ** مُثقَّلٌ في غُلِّه مُقيَّدْ

يَشكو إلينا الجوعَ قد تمددْ ** من يُطعِمِ اليومَ يجِده في غدْ

عند العليّ الواحِدِ الموحَّدْ ** ما يزرع الزارِعُ سوف يَحصُدْ

أعطيه لا لا تجعلِيهِ أقعد

فأنشأت فاطمة رضي الله تعالى عنها تقول:
لم يَبْقَ مِمّا جاء غيرُ صاعْ ** قد ذهبت كَفِّي مع الذِّراعْ

ابناي والله هُمَا جِيَاعْ ** يا ربّ لا تتركهما ضياعْ

أبوهما للخير ذو اصطناع ** يَصطنِع المعروفَ بابتداعْ

عَبْلُ الذِّراعين شديد الباعْ ** وما على رأسِيَ مِن قِناعْ

إلاَّ قناعاً نَسْجهُ أَنْسَاعْ

فأعطوه الطعام ومكثوا ثلاثة أيام ولياليها لم يذوقوا شيئاً إلا الماء القرأح، فلما أن كان في اليوم الرابع، وقد قضى الله النذر أخذ بيده اليمنى الحسن، وبيده اليسرى الحسين، وأقبل نحو رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم يرتعشون كالفراخ من شدّة الجوع؛ فلما أبصرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «يا أبا الحسن ما أشدّ ما يسوءني ما أرى بكم انطلق بنا إلى ابنتي فاطمة».
فانطلقوا إليها وهي في محرابها، وقد لصق بطنها بظهرها، وغارت عيناها من شدة الجوع، فلما رآها رسول الله صلى الله عليه وسلم وعرف المجاعة في وجهها بكى وقال: «واغوثاه يا الله، أهُل بيت محمد يموتون جوعاً» فهبط جبريل عليه السلام وقال: السلام عليك، ربك يقرئك السلام يا محمد، خذه هنيئاً في أهل بيتك. قال: «وما آخذ يا جبريل» فأقرأه {هَلْ أتى عَلَى الإنسان حِينٌ مِّنَ الدهر} إلى قوله: {وَيُطْعِمُونَ الطعام على حُبه مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ الله لاَ نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاءً وَلاَ شُكُوراً} قال الترمذي الحكيم أبو عبد الله في نوادر الأصول: فهذا حديث مُزوَّق مُزيَّف، قد تَطرَّف فيه صاحبه حتى تَشبه على المستمعين، فالجاهل بهذا الحديث يَعَضُّ شفتيه تلهفاً ألاّ يكون بهذه الصفة، ولا يعلم أن صاحب هذا الفعل مذموم؛ وقد قال الله تعالى في تنزيله: {وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ العفو} [البقرة: 219] وهو الفضل الذي يفضل عن نفسك وعيالك، وجرت الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم متواترة بأن «خير الصدقة ما كان عن ظهر غِنًى».
«وابدأ بنفسك ثم بمن تعول». وافترض الله على الأزواج نفقة أهاليهم وأولادهم، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كفى بالمرء إثماً أن يضيع من يَقُوت». أفيحسب عاقل أن عليًّا جهل هذا الأمر حتى أجهد صبياناً صغاراً من أبناء خمس أو ست على جوع ثلاثة أيام ولياليهن؟ حتى تَضوَّروا من الجوع، وغارت العيون منهم؛ لخلاء أجوافهم، حتى أبكى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما بهم من الجهد.
هَبْ أنه آثَرَ على نفسه هذا السائل، فهل كان يجوز له أن يحمل أهله على ذلك؟! وهَبْ أنّ أهله سمحت بذلك لعليّ فهل جاز له أن يحمل أطفاله على جوع ثلاثة أيام بلياليهن؟! ما يُروج مثل هذا إلا على حَمْقى جهّال؛ أبى الله لقلوب متنبهة أن تظن بعليّ مثل هذا.
وليت شعري من حفظ هذه الأبيات كل ليلة عن عليّ وفاطمة، وإجابة كل واحد منهما صاحبه، حتى أدّاه إلى هؤلاء الرواة؟! فهذا وأشباهه من أحاديث أهل السجون فيما أرى.
بلغني أن قوماً يُخلَّدون في السجون فيبقون بلا حيلة، فيكتبون أحاديث في السَّمَر وأشباهه، ومثل هذه الأحاديث مفتعلة، فإذا صارت إلى الجهابذة رمَوا بها وزَيفَّوها، وما من شيء إلا له آفة ومكيدة، وآفة الدِّين وكيُده أكثر. اهـ.

.قال الألوسي:

{إِنَّا أَعْتَدْنَا} هيأنا {للكافرين} من إفراد الإنسان الذي هديناه السبيل {سلاسل} بها يقادون {وأغلالا} بها يقيدون {وَسَعِيراً} بها يحرقون وتقديم وعيدهم مع تأخرهم للجمع بينهما في الذكر كما في قوله تعالى: {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الذين اسودت وُجُوهُهُمْ} [آل عمران: 106] الآية ولأن الانذار أنسب بالمقام وحقيق بالاهتمام ولأن تصدير الكلام وختمه بذكر المؤمنين أحسن على أن وصفهم تفصيلاً ربما يخل تقديمه بتجارب أطراف النظم الكريم وقرأ نافع والكسائي وأبو بكر والأعمش {سلاسلاً} بالتنوين وصلاً وبالألف المبدلة منه وقفاً وقال الزمخشري وفيه وجهان.
أحدهما: أن تكون هذه النون بدلاً عن حرف الإطلاق ويجري الوصل مجرى الوقف والثاني أن يكون صاحب القراءة ممن ضرى برواية الشعر ومرن لسانه على صرف غير المنصرف وفي الأول أن الإبدال من حروف الإطلاق في غير الشعر قليل كيف وضم إليه إجراء الوصل مجرى الوقف وفي الثاني تجويز القراءة بالتشهي دون سداد وجهها في العربية والوجه أنه لقصد الازدواج والمشاكلة فقد جوزوا لذلك صرف ما لا ينصرف لاسيما الجمع فإنه سبب ضعيف لشبهه بالمفرد في جمعه كصواحبات يوسف ونواكسي الأبطار ولهذا جوز بعضهم صرفه مطلقاً كما قيل:
والصرف في الجمع أتى كثيرا ** حتى ادعى قوم به التخييرا

وحكى الأخفش عن قوم من العرب أن لغتهم صرف كل ما لا ينصرف إلا أفعل من وصرف {سلاسلاً} ثابت في مصاحف المدينة ومكة والكوفة والبصرة وفي مصحف أبي وعبد الله بن مسعود وروى هشام عن ابن عامر {سلاسل} في الوصل و{سلاسلاً} بألف دون تنوين في الوقف.
{إِنَّ الأبرار} شروع في بيان حسن حال الشاكرين إثر بيان حال سوء الكافرين وإيرادهم بعنوان البر للإشعار بما استحقوا به ما نالوه من الكرامة السنية مع تجديد صفة مدح لهم والابرار جمع بر كرب وأرباب أو بار كشاهد وأشهاد بناء على أن فاعلاً يجمع على أفعال والبر المطيع المتوسع في فعل الخير وقيل من يؤدي حق الله تعالى ويوفي بالنذر وعن الحسن وهو الذي لا يؤذي الذر ولا يرضي الشر {يشربونَ} في الآخرة {مِن كَأْسٍ} هي كما قال الزجاج الإناء إذا كان فيه الشراب فإذا لم يكن لم يسم كأساً وقال الراغب الكأس الإناء بما فيه من الشراب ويسمى كل واحد منهما بانفراده كأساً والمشهور أنها تطلق حقيقة على الزجاجة إذا كانت فيها خمر ومجازاً على الخمر بعلاقة المجاورة والمراد بها هاهنا قيل الخمر فمن تبعيضية أو بيانية وقيل الزجاجة التي فيها الخمر فمن ابتدائية وقوله تعالى: {كَانَ مِزَاجُهَا كافورا} أظهر ملاءمة للأول والظاهر أن هذا على منوال {كان الله عليماً حكيماً} [النساء: 17] والمجيء بالفعل للتحقيق والدوام وقيل كان تامة من قوله تعالى: {كن فيكون} [يس: 82] والمزاج ما يمزج به كالحزام لما يحزم به فهو اسم آلة وكافور على ما قال الكلبي علم عين في الجنة ماؤها في بياض الكافور وعرفه وبرده وصرف لتوافق الآي والكلام على حذف مضاف أي ماء كافور والجملة صفة {كأس} وهذا القول خلاف الظاهر ولعله إن لم يصح فيه خبر لا يقبل وقرأ عبد الله {قافوراً} بالقاف بدل الكاف وهما كثيراً ما يتعاقبان في الكلمة كقولهم عربي قح وكح وقوله تعالى: {عيناً} بدل من كافور وقال قتادة يمزج لهم بالكافور ويختم لهم بالمسك وذلك لبرودة الكافور وبياضه وطيب رائحته فالكافور بمعناه المعروف وقيل أن خمر الجنة قد أودعها الله تعالى إذ خلقها أوصاف الكافور الممدوحة فكونه مزاجاً مجاز في الاتصاف بذلك فعينا على هذين القولين بدل من محل {كأس} على تقدير مضاف أي يشربون خمراً خمر عين أو نصب على الاختصاص بإضمار أعني أو أخص كما قال المبرد وقيل على الحال من ضمير {مزاجها} وقيل من {كأس} وساغ لوصفه وأريد بذلك وصفها بالكثرة والصفاء وقيل منصوب بفعل يفسره ما بعد أعني قوله تعالى: {يشرب بها عِبَادُ الله} على تقدير مضاف أيضاً أي يشربون ماء عين يشرب بها إلخ وتعقب بأن الجملة صفة {عيناً} فلا يعمل فعلها بها وما لا يعمل لا يفسر عاملاً وأجيب بمنع كونها صفة على هذا الوجه والتركيب عليه نحو رجلاً ضربته نعم هي صفة {عينا} على غير هذا الوجه والباء للإلصاق وليست للتعدية وهي متعلقة معنى بمحذوف أي يشرب الخمر ممزوجة بها أي بالعين عباد الله وهو كما تقول شربت الماء بالعسل هذا إذا جعل {كافور} علم عين في الجنة وأما على القولين الآخرين فقيل وجه الباء أن يجعل الكلام من باب:
شع يجرح في عراقيبها نصلي

لإفادة المبالغة وقيل الباء للتعدية وضمن يشرب معنى يروي فعدى بها وقيل هي بمعنى من وقيل هي زائدة والمعنى يشربها كما في قول الهذلي:
شربن بماء البحر ثم ترفعت ** متى لحج خضر لهن نئيج

ويعضد هذا قراءة ابن أبي عبلة {يشربها} وقيل ضمير بها للكاس والمعنى يشربون العين بتلك الكأس وعليه يجوز أن يكون {عيناً} مفعولاً لـ: {يشرب} مقدماً عليه وعباد الله المؤمنين أهل الجنة {يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيراً} صفة أخرى لـ: {عينا} أي يجرونها حيث شاؤا من منازلهم إجراء سهلاً لا يمتنع عليهم على أن التنكير للتنويع أخرج عبد الله بن أحمد في (زوائد الزهد) عن ابن شوزب أنه قال معهم قضبان ذهب يفجرون بها فيتبع الماء قضبانهم وفي بعض الآثار أن هذه العين في دار رسول الله صلى الله عليه وسلم تفجر إلى دور الأنبياء عليهم السلام والمؤمنين.
{يُوفُونَ بالنذر} استئناف مسوق لبيان ما لأجله يرزقون هذا النعيم مشتمل على نوع تفصيل لما ينبىء عنه اسم الأبرار إجمالاً كأنه قيل ماذا يفعلون حتى ينالوا تلك المرتبة العالية فقيل {يوفون} إلخ وأفيد أنه استئناف للبيان ومع ذلك عدل عن أوفوا إلى المضارع للاستحضار والدلالة على الاستمرار والوفاء بالنذر كناية عن أداء الواجبات كلها العلم ما عداه بالطريق الأولى وإشارة النص فإن من أوفى بما أوجبه على نفسه كان إيفاء ما أوجبه الله تعالى عليه أهم له وأحرى وجعل ذلك كناية هو الذي يقتضيه ما روى عن قتادة وعن عكرمة ومجاهد إبقاؤه على الظاهر قالا أي إذا نذروا طاعة فعلوها {ويخافون يَوْماً كَانَ شَرُّهُ} عذابه {مُسْتَطِيراً} فاشياً منتشراً في الأقطار غاية الانتشار من استطار الحريق والفجر وهو أبلغ من طار لأن زيادة المبنى تدل على زيادة المعنى وللطلب أيضاً دلالة على ذلك لأن ما يطلب من شأنه أن يبالغ فيه وفي وصفهم بذلك إشعار بحسن عقيدتهم واجتنابهم عن المعاصي.
{وَيُطْعِمُونَ الطعام على حُبه} أي كائنين على حب الطعام أي مع اشتهائه والحاجة إليه فهو من باب التتميم ويجاوبه من القرآن قوله تعالى: {لَن تَنَالُواْ البر حتى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ} [آل عمران: 92] وروى عن ابن عباس ومجاهد أو على حب الإطعام بأن يكون ذلك بطيب نفس وعدم تكلف وإليه ذهب الحسن بن الفضل وهو حسن أو كائنين على حب الله تعالى أو إطعاماً كائناً على حبه تعالى ولوجهه سبحانه وابتغاء مرضاته عز وجل وإليه ذهب الفضيل بن عياض وأبو سليمان الداراني فعلى حبه من باب التكميل وزيفه بعضهم وقال الأول هو الوجه ويجاوبه القرآن على أن في قوله تعالى: {لِوَجْهِ الله} [الإنسان: 9] بَعْدَ غنية عن قوله سبحانه: {نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ الله} وفيه نظر بل لعله الأنسب لذاك وذكر الطعام مع أن الإطعام يغني عنه لتعيين مرجع الضمير على الأول ولأن الطعام كالعلم فيما فيه قوام البدن واستقامة البنية وبقاء النفس ففي التصريح به تأكيد لفخامة فعلهم على الأخيرين ويجوز أن يعتبر على الأول أيضاً ثم الظاهر أن المراد بإطعام الطعام حقيقته وقيل هو كناية عن الإحسان إلى المحتاجين والمواساة معهم بأي وجه كان وإن لم يك ذلك بالطعام بعينه فكأنه ينفعون بوجوه المنافع {مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً} قيل أي أسير كان فعن الحسن أنه صلى الله عليه وسلم كان يؤتى بالأسير فيدفعه إلى بعض المسلمين فيقول «أحسن إليه» فيكون عنده اليومين والثلاثة فيؤثره على نفسه وقال قتادة كان أسيرهم يومئذ المشرك وأخوك المسلم أحق أن تطعمه وأخرج ابن عساكر عن مجاهد أنه قال لما صدر النبي صلى الله عليه وسلم بالأسارى من بدر انفق سبعة من المهاجرين أبو بكر وعمر وعلي والزبير وعبد الرحمن وسعد وأبو عبيدة بن الجراح على أسارى مشركي بدر فقالت الأنصار قتلناهم في الله وفي رسوله صلى الله عليه وسلم وتعينونهم بالنفقة فأنزل الله تعالى فيهم عشرة آية {أن الأبرار يشربون} إلى قوله تعالى: {عيناً فيها تسمى سلسبيلاً} [الإنسان: 5-18] ففيه دليل على أن إطعام الأسارى وإن كانوا من أهل الشرك حسن ويرجى ثوابه والخبر الأول قال ابن حجر لم يذكره من يعتمد عليه من أهل الحديث وقال ابن العراقي لم أقف عليه والخبر الثاني لم أره لفرد غير ابن عساكر ولا وثوق لي بصحته وهو يقتضي مدنية هذه الآيات وقد علمت الخلاف في ذلك نعم عند عامة العلماء يجوز الإحسان إلى الكفار في دار الإسلام ولا تصرف إليهم الواجبات وقال ابن جبير وعطاء هو الأسير من أهل القبلة قال الطيبي هذا إنما يستقيم إذا اتفق الإطعام في دار الحرب من المسلم لأسير في أيديهم وقيل هو الأسير المسلم ترك في بلاد الكفار رهينة وخرج لطلب الفداء وروى محيي السنة عن مجاهد وابن جبير وعطاء أنهم قالوا هو المسجون من أهل القبلة وفيه دليل على أن إطعام أهل الحبوس المسلمين حسن وقد يقال لا يحسن إطعام المحبوس لوفاء دين يقدر على وفائه إنما امتنع عنه تعنتاً ولغرض من الأغراض النفسانية وعن أبي سعيد الخدري هو المملوك والمسجون وتسمية المسجون أسيراً مجاز لمنعه عن الخروج وأما تسمية المملوك فمجاز أيضاً لكن قيل باعتبار ما كان وقيل باعتبار شبهه به في تقييده بأسار الأمر وعدم تمكنه من فعل ما يهوى وعد الغريم أسيراً لقوله صلى الله عليه وسلم: «غريمك أسيرك فأحسن إلى أسيرك» وهو على التشبيه البليغ إلا أنه قيل في هذا الخبر ما قيل في الخبر الأول وقال أبو حمزة اليماني هي الزوجة وضعفه هاهنا ظاهر.
{إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ الله} على إرادة قول هو في موضع الحال من فاعل {يطعمون} أي قائلين ذلك بلسان الحال لما يظهر عليهم من أمارات الإخلاص وعن مجاهد أما أنهم ما تكلموا به ولكن علمه الله تعالى منهم فأثنى سبحانه به عليهم ليرغب فيه راغب أو بلسان المقال إزاحة لتوهم المن المبطل للصدقة وتوقع المكافأة المنقصة للأجر وعن الصديقة رضي الله تعالى عنها كانت تبعث بالصدقة إلى أهل بيت ثم تسأل الرسول ما قالوا فإذا ذكر دعاء دعت لهم بمثله ليبقى لها ثواب الصدقة خالصاً عند الله عز وجل وجوز أن يكون قولهم هذا لهم لطفاً وتفقيهاً وتنبيهاً على ما ينبغى أن يكون عليه من أخلص لله تعالى وليس بذاك وقوله سبحانه: {لاَ نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاء} بالأفعال {وَلاَ شُكُوراً} ولا شكراً وثناء بالأقوال تقرير وتأكيد لما قبله. اهـ.

.قال ابن عاشور:

{إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سلاسل وَأَغْلَالًا وَسَعِيرًا (4)}
أريد التخلص إلى جزاء الفريقين الشاكر والكفور.
والجملة مُستأنفة استئنافاً بيانياً لأن قوله: {إمّا شاكراً وإمّا كفوراً} [الإنسان: 3] يثير تطلع السامعين إلى معرفة آثار هذين الحالين المترددِ حالُه بينَهما، فابتدىء بجزاء الكافر لأن ذكره أقرب.
وأكد الخبر عن الوعيد بحرف التأكيد لإِدخال الروْع عليهم لأن المتوعِّد إذا أكَّد كلامه بمؤكِّد فقد آذن بأنه لا هوادة له في وعيده.
وأصل {أعتَدْنا} أعدَدنا، بدالين، أي هيأنا للكافرين، يقال: اعتدّ كما يقال: أعَدَّ، قال تعالى: {وَأعَتدتْ لهن متّكَأً} [يوسف: 31].
وقد تردد أئمة اللغة في أن أصل الفعل بدالين أو بتاء ودال فلم يجزموا بأيهما الأصل لكثرة ورود فعل: أعدّ، وفعل اعْتَدَّ في الكلام والأظهر أنهما فعلان نشآ من لغتين غير أن الاستعمال خصّ الفعل ذا التاء بعُدة الحرب فقالوا: عَتَاد الحرب ولم يقولوا عدَاد.
وأما العُدة بضم العين فتقع على كل ما يعد ويهيأ، يقال: أعد لكل حال عُدة.
ويطلق العَتاد على ما يُعدّ من الأمور.
والأكثر أنه إذا أريد الإِدغام جيء بالفعل الذي عينه دال وإذا وجد مقتضى فك الإِدغام لموجب مثل ضمير المتكلم جيء بالفعل الذي عينه تاء.
والسلاسل: القيود المصنوعة من حَلق الحديد يقيد بها الجناة والأسرى.
والأغلال: جمع غُلّ بضم الغين، وهو حلقة كبيرة من حديد توضع في رقبة المقيَّد، وتناط بها السلسلة قال تعالى: {إذ الأغلال في أعناقهم والسلاسل} [غافر: 71] فالأغلال والسلاسل توضع لهم عند سَوْقهم إلى جهنم.
والسعير: النار المسعرة، أي التي سعَّرها الموقِدون بزيادة الوَقود ليشتد التهابها فهو في الأصل وصف بمعنى اسم المفعول جعل علماً على جهنم.
وقد تقدم عند قوله: {كلَّما خبَتْ زدناهم سعيراً} في سورة الإسراء (97).
وكتب {سلاسلا} في المصحف الإِماممِ في جميع النسخ التي أرسلت إلى الأمصار بألف بعد اللام الثانية ولكن القراء اختلفوا في قراءته، فنافع والكسائي وهشام عن ابن عامر وأبو بكر عن عاصم وأبو جعفر قرأوا {سلاسلاً} منوناً في الوصل ووقفوا عليه كما يوقف على المنون المنصوب، وإذ كان حقه أن يمنع من الصرف لأنه على صيغة منتهى الجمع تعين أن قراءته بالتنوين لمراعاة مزاوجته مع الاسمين اللذيْن بعده وهما {أغلالاً} و{سعيراً}، والمزاوجة طريقة في فصيح الكلام، ومنها قول النبي صلى الله عليه وسلم لنساءٍ «ارجِعْنَ مَأزورات غير مأجورات» فجعل «مأزورات» مهموزاً وحقه أن يكون بالواو لكنه هُمز لمزاوجة مأجورات، وكذلك قوله في حديث سؤال الملكين الكافر «فيقال له: لاَ درَيْت ولا تلَيْت»، وكان الأصل أن يقال: ولا تَلوت.
ومنه قول ابن مُقْبِل أو القَلاَّحُ:
هتَّاكُ أخْبيَةٍ وَلاَّجُ أبْوِبَةٍ ** يُخَالطُ البِرُّ منه الجِدَّ واللينا

فقوله (أبوبة) جمع باب وحقه أن يَقول أبواب.
وهذه القراءة متينة يعضدها رسم المصحف وهي جارية على طريقة عربية فصيحة.
وقرأه الباقون بدون تنوين في الوصل.
واختلفوا في قراءته إذا وقفوا عليه فأكثرهم قرأه في الوقف بدون ألف فيقول {سلاسل} في الوقف.
وقرأه أبو عمرو ورويس عن يعقوب بالألف على اعتباره منوناً في الوصل.
قرأه البَزي عن ابن كثير وابنُ ذكوان عن ابن عامر وحفصٌ عن عاصم في الوقف بجواز الوجهين بالألف وبتركها.
فأما الذين لم ينونوا {سلاسلا} في الوصل ووقفوا عليه بألف بعد لامه الثانية.
وهما أبو عمرو ورويس عن يعقوب فمخالفة روايتهم لرسم المصحف محمولة على أن الرسم جرى على اعتبار حالة الوقف وذلك كثير فكتابة الألف بعد اللام لقصد التنبيه على إشباع الفتحة عند الوقف لمزاوجة الفواصل في الوقف لأن الفواصل كثيراً ما تعطى أحكام القوافي والأسجاع.
وبعدُ فالقراءات روايات مسموعة ورسم المصحف سُنة مَخصوصة به وذكر الطيبي: أن بعض العلماء اعتذر عن اختلاف القراء في قوله: {سلاسلا} بأنه من الاختلاف في كيفية الأداء كالمَدّ والإِمالة وتخفيف الهمزة وأن الاختلاف في ذلك لا ينافي التواتر.
{إِنَّ الْأَبْرَارَ يشربونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا (5)}
هذا استئناف بياني ناشىء عن الاستئناف الذي قبله من قوله: {إنا أعتدنا للكافرين سلاسلا} [الإنسان: 4] الخ.
فإن من عرف ما أعد للكَفُور من الجزاء يتطلع إلى معرفة ما أعد للشاكر من الثواب.
وأخر تفصيله عن تفصيل جزاء الكفور مع أن {شاكراً} [الإنسان: 3] مذكور قبل {كفوراً} [الإنسان: 3]، على طريقة اللف والنشر المعكوس ليتسع المجال لإِطناب الكلام على صفة جزاء الشاكرين وما فيه من الخير والكرامة، تقريباً للموصوف من المشاهدة المحسوسة.
وتأكيد الخبر عن جزاء الشاكرين لدفع إنكار المشركين أن يكون المؤمنون خيراً منهم في عالم الخلود، ولإِفادة الاهتمام بهذه البشارة بالنسبة إلى المؤمنين.
و {الأبرار}: هم الشاكرون، عُبر عنهم بالأبرار زيادة في الثناء عليهم.
و {الأَبرار}: جمع بَر بفتح الباء، وجمعُ بَار أيضاً مثل شاهد وأشهاد، والبار أو البَرّ المكثر من البِرّ بكسر الباء وهو فعل الخير، ولذلك كان البَرّ من أوصاف الله تعالى قال تعالى: {إنا كنا من قبل ندعوه أنه هو البَر الرحيم} [الطور: 28].
ووصف بَرَ أقوى من بارّ في الاتصاف بالبرِ، ولذلك يقال: الله بَر، ولم يُقل: الله بَار.
ويجمع برّ على بَرَرة.
ووقع في (مفردات الراغب): أن بررة أبلغ من أبرار.
وابتدىء في وصف نعيمهم بنعيم لذة الشرب من خمر الجنة لما للذة الخمر من الاشتهار بين الناس، وكانوا يتنافسون في تحصيلها.
والكأس: بالهمزة الإِناء المجعول للخمر فلا يسمى كأساً إلاّ إذا كان فيه خمر، وقد تسمى الخمر كأساً على وجه المجاز المرسل بهذا الاعتبار كما سيجيء قريباً قوله تعالى: {ويسقون فيها كأساً كان مزاجُها زنجبيلاً} [الإنسان: 17] فيجوز أن يراد هنا آنية الخمر فتكون {مِن} للابتداء وإفراد {كأس} للنوعية، ويجوز أن تراد الخمر فتكون {مِن} للتبعيض.
وعلى التقديرين فكأس مراد به الجنس وتنوينه لتعظيمه في نوعه.
والمزاج: بكسر الميم ما يمزج به غيرُه، أي يخلط وكانوا يمزجون الخمر بالماء إذا كانت الخمر معتقة شديدة ليخففوا من حدتها وقد ورد ذكر مزج الخمر في أشعار العرب كثيراً.
وضمير {مزاجها} عائد إلى {كأس}.
فإذا أريد بالكأس إناء الخمر فالإِضافة لأدنى ملابسة، أي مزاج ما فيها، وإذا أريدت الخمر فالإضافة من إضافة المصدر إلى مفعوله.
والكافور: زيت يستخرج من شجرة تشبه الدِفْلَى تنبت في بلاد الصين وجَاوة يتكون فيها إذا طالت مدتُها نحواً من مائتي سنة فيُغلَّى حَطَبها ويستخرج منه زيت يسمى الكَافور.
وهو ثخِن قد يتصلب فيصير كالزُبْد وإذا يقع حطب شجرة الكافور في الماء صار نبيذاً يتخمر فيصير مسكراً.
والكافور أبيض اللون ذكي الرائحة منعش.
فقيل إن المزاج هنا مراد به الماء والإِخبار عنه بأنه كافور من قبيل التشبيه البليغ، أي في اللون أو ذكاء الرائحة، ولعل الذي دعا بعض المفسرين إلى هذا أن المتعارف بين الناس في طيب الخمر أن يوضع المسك في جوانب الباطية قال النابغة:
وتسقى إذا ما شئت غير مُصرَّد ** بزوراء في حافاتها المسك كارع

ويختم على آنية الخمر بخاتم من مسك كما في قوله تعالى في صفة أهل الجنة: {يُسْقَوْن من رحيق مختوم ختامه مسك} [المطففين: 25، 26].
وكانوا يجعلون الفلفل في الخمر لحسن رائحته ولذعة حرارته لذعة لذيذة في اللسان، كما قال امرؤ القيس:
صُبِّحْنَ سلافاً من رحيق مُفلفل

ويحتمل أن يكونوا يمزجون الخمر بماء فيه الكافور أو بزيته فيكون المزاج في الآية على حقيقته مما تمزج به الخمر ولعل ذلك كان من شأن أهل الترف لأن الكافور ثمين وهو معدود في العطور.
ومن المفسرين من قال: إن كافور اسم عين في الجنة لأجل قوله عقبه: {عيناً يشرب بها عباد الله} وستعلم حق المراد منه.
وإقحام فعل {كان} في جملة الصفة بقوله: {كان مزاجها كافوراً} لإِفادة أن ذلك مزاجها لا يفارقها إذ كان معتاد الناس في الدنيا ندرة ذلك المزاج لغلاء ثمنه وقلة وجدانه.
وانتصب {عيناً} على البدل من {كافوراً} أي ذلك الكافور تجري به عين في الجنة من ماء محلول فيه أو من زيته مثل قوله: {وأنهار من لبن لم يتغير طعمه وأنهار من خمر لذة للشاربين وأنهار من عسل مصفى} [محمد: 15].
وعدي فعل {يشرب} بالباء وهي باء الإِلصاق لأن الكافور يمزج به شرابهم.
فالتقدير: عيناً يشرب عباد الله خمرهم بها، أي مصحوباً بمائها، وذهب الأصمعي إلى أن الباء في قوله تعالى: {يشرب بها عباد الله} بمعنى (من) التبعيضية ووافقه الفارسي وابن قتيبة وابن مالك، وعَدّ في كتبه ذلك من معاني الباء ونُسب إلى الكوفيين.
و {عبادُ الله} مراد بهم: الأبرار.
وهو إظهار في مقام الإِضمار للتنويه بهم بإضافة عبوديتهم إلى الله تعالى إضافةَ تشريف.
والتفجير: فتح الأرض عن الماء أي استنباط الماء الغزير وأطلق هنا على الاستقاء منها بلا حدّ ولا نضوب فكان كل واحد يفجر لنفسه ينبوعاً وهذا من الاستعارة.
وأكد فعل {يفجرونها تفجيراً} ترشيحاً للاستعارة.
{يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا (7)}
اعتراض بين جملة {يشربون من كأس} [الإنسان: 5] إلخ وبين جملة {ويطاف عليهم بآنية من فضة} [الإنسان: 15] الخ.
وهذا الاعتراض استئناف بياني هو جواب عن سؤال من شأن الكلام السابق أن يثيره في نفسه السامع المغتبِط بأن ينال مثل ما نالوا من النعيم والكرامة في الآخرة.
فيهتم بأن يفعل مثل ما فعلوا، فذكر بعض أعمالهم الصالحة التي هي من آثار الإِيمان مع التعريض لهم بالاستزادة منها في الدنيا.
والكلام إخبار عنهم صادر في وقت نزول هذه الآيات، بعضُه وصف لحالهم في الآخرة وبعضه وصف لبعض حالهم في الدنيا الموجب لنوال ما نالوه في الآخرة، فلا حاجة إلى قول الفراء: إن في الكلام إضماراً وتقديره: كانوا يُوفُون بالنذر.
وليست الجملة حالاً من {الأبرار} [الإنسان: 5] وضميرهم لأن الحال قيد لعاملها فلو جعلت حالاً لكانت قيداً ل {يشربون} [الإنسان: 5]، وليس وفاؤهم بالنذر بحاصل في وقت شربهم من خمر الجنة بل هو بما أسلفوه في الحياة الدنيا.
والوفاء: أداء ما وجب على المؤدي وافياً دون نقص ولا تقصير فيه.
والنذر: ما يعتزمه المرء ويعقد عليه نِيته، قال عنترة:
والنَّاذِرَيْنِ إذا لم ألْقهما دَمي

والمراد به هنا ما عقدوا عليه عزمهم من الإِيمان والامتثال وهو ما استحقوا به صفة {الأبرار} [الإنسان: 5].
ويجوز أن يراد {بالنذر} ما ينذرونه من فعل الخير المتقرَّب به إلى الله، أي ينشئون النذور بها ليوجبوها على أنفسهم.
وجيء بصيغة المضارع للدلالة على تجدد وفائهم بما عقدوا عليه ضمائرهم من الإِيمان والعمل الصالح، وذلك مشعر بأنهم يكثرون نذر الطاعات وفعل القربات ولولا ذلك لما كان الوفاء بالنذر موجباً الثناء عليهم.
والتعريف في (النذر) تعريف الجنس فهو يعم كل نذر.
وعطف على {يوفون بالنذر} قوله: {ويخافون يوماً كان شرّه مستطيراً} لأنهم لما وصفوا بالعمل بما ينذرونه أتبع ذلك بذكر حسن نيتهم وتحقق إخلاصهم في أعمالهم لأن الأعمال بالنيات فجمع لهم بهذا صحة الاعتقاد وحسن الأعمال.
وخوفهم اليوم مجاز عقلي جرى في تعلق اليوم بالخوف لأنهم إنما يخافون ما يجري في ذلك اليوم من الحساب والجزاء على الأعمال السيئة بالعقاب فعلق فعل الخوْف بزمان الأشياء المخوفة.
وانتصب {يوماً} على المفعول به ل {يخافون} ولا يصح نصبه على الظرفية لأن المراد بالخوف خوفهم في الدنيا من ذنوب تجر إليهم العقاب في ذلك اليوم، وليس المراد أنهم يخافون في ذلك اليوم فإنهم في ذلك اليوم آمنون.
ووُصِف اليومُ بأن له شرّاً مستطيراً وصفاً مشعراً بعلة خوفهم إياه.
فالمعنى: أنهم يخافون شر ذلك اليوم فيتجنبون ما يُفضي بهم إلى شره من الأعمال المتوعد عليها بالعقاب.
والشر: العذاب والجزاء بالسوء.
والمستطير: هو اسم فاعل من استطار القاصر، والسين والتاء في استطار للمبالغة وأصله طار مثل استكبر.
والطيران مجازي مستعار لانتشار الشيء وامتداده تشبيهاً له بانتشار الطير في الجو، ومنه قولهم: الفجر المستطير، وهو الفجر الصادق الذي ينتشر ضوؤه في الأفق ويقال: استطار الحريق إذا انتشر وتلاحق.
وذكر فعل {كان} للدلالة على تمكن الخبر من المخبر عنه وإلاّ فإن شر ذلك اليوم ليس واقعاً في الماضي وإنما يقع بعد مستقبل بعيد، ويجوز أن يجعل ذلك من التعبير عن المستقبل بلفظ الماضي تنبيهاً على تحقق وقوعه.
وصيغة {يخافون} دالة على تجدد خوفهم شّر ذلك اليوم على نحو قوله: {يوفون بالنذر}.
{وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبه مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا (8)}
خصص الإِطَعام بالذكر لما في إطعام المحتاج من إيثاره على النفس كما أفاد قوله: {على حبه}.
والتصريح بلفظ الطعام مع أنه معلوم من فعل {يطعمون} توطئةٌ ليبنى عليه الحال وهو {على حبه} فإنه لو قيل: ويطعمون مسكيناً ويتيماً وأسيراً لفات ما في قوله: {على حبه} من معنى إيثار المحاويج على النفس، على أن ذكر الطعام بعد {يطعمون} يفيد تأكيداً مع استحضار هيئة الإِطعام حتى كأنَّ السامع يشاهد الهيئة.
و {على حبه} في موضع الحال من ضمير {يطعمون}.
و {على} بمعنى (مع)، وضمير {حبه} راجع للطعام، أي يطعمون الطعام مصحوباً بحبه، أي مصاحباً لحبهم إياه وحب الطعام هو اشتهاؤه.
فالمعنى: أنهم يطعمون طعاماً هم محتاجون إليه.
ومجيء {على} بمعنى (مع) ناشىء عن تمَجز في الاستعلاء، وصورته أن مجرور حرف {على} في مثله أفضل من معمول متعلقها فنزل منزلة المعتلي عليه.
والمسكين: المحتاج.
واليتيم: فاقد الأب وهو مظنة الحاجة لأن أحوال العرب كانت قائمة على اكتساب الأب للعائلة بكدحه فإذا فُقد الأب تعرضت العائلة للخصاصة.
وأما الأسير فإذ قد كانت السورة كلها مكية قبل عِزّة المسلمين، فالمراد بالأسير العبد من المسلمين إذ كان المشركون قد أجاعوا عبيدهم الذين أسلموا مثل بلال وعمار وأمه وربما سيَّبوا بعضهم إذا أضجرهُم تعذيبهم وتركوهم بلا نفقة.
والعبودية تنشأ من الأسر فالعبد أسير ولذلك يقال له العاني أيضاً قال النبي صلى الله عليه وسلم: «فُكّوا العاني» وقال عن النساء «إنهن عَوانٍ عندكم» على طريقة التشبيه وقال سحيم عبد بني الحسحاس:
رأتْ قَتَباً رَثّاً وسَحْق عِمامةٍ ** وأسْودَ هِمّاً يُنكِرُ الناسُ عَانِيا

يريد عبداً.
وذكر القرطبي عن الثعلبي: قال أبو سعيد الخدري «قرأ رسول الله: {ويطعمون الطعام على حُبه مسكيناً ويتيماً وأسيراً} فقال: المسكينُ الفقير، واليتيم: الذي لا أب له، والأسير: المملوك والمسجون».
ولم أقف على سند هذا الحديث.
وبهذا تعلم أن لا شاهد في هذه الآية لجعل السورة نزلت بالمدينة وفي الأسارى الذين كانوا في أسر المسلمين في غزوة بدر.
وجملة {إنما نطعمكم لوجه الله} إلى آخرها مقول قول محذوف تقديره: يقولون لهم، أي للذين يُطعمونهم فهو في موضع الحال من ضمير {يُطعمون}، وجملة: {لا نريد منكم جزاء ولا شكوراً} مبيِّنة لمضمون جملة {إنما نطعمكم لوجه الله}.
وجملة {إنا نخاف من ربنا} إلى آخرها واقعة موقع التعليل لمضمون جملة {لا نريد منكم جزاء ولا شكوراً}.
والمعنى: إنهم يقولون ذلك لهم تأنيساً لهم ودفعاً لانكسار النفس الحاصل عند الإِطعام، أي ما نطعمكم إلاّ استجابة لما أمر الله، فالمطعم لهم هو الله.
فالقول قول باللسان، وهم ما يقولونه إلاّ وهو مضمر في نفوسهم.
وعن مجاهد أنه قال: ما تكلموا به ولكن عَلِمه الله فأثَنى به عليهم.
فالقصر المستفاد من {إنما} قصر قلب مبني على تنزيل المطعَمين منزلة من يظن أن من أطعمهم يمنّ عليهم ويريد منهم الجزاء والشكر بناء على المتعارف عندهم في الجاهلية.
والمراد بالجزاء: ما هو عوض عن العطية من خدمة وإعانة، وبالشكور: ذكرهم بالمزية.
والشُكور: مصدر بوزن الفُعول كالقُعود والجلوس، وإنما اعتبر بوزن الفُعول الذي هو مصدر فعَل اللازم لأن فعل الشكر لا يتعدى للمشكور بنفسه غالباً بل باللام يقال: شكرت لك قال تعالى: {واشكروا لي} [البقرة: 152]. اهـ.

.فوائد لغوية وإعرابية:

قال مجد الدين الفيروزابادي:
بصِيرة في الباء:
وقد ورد في القرآن، وفى كلام العرب، على وجوه:
الأول: حرف مِن حروف المتهجى بها.
ومخرجه من انطباق الشفتين قرب مخرج الفاء.
ويمدّ ويُقصر.
والنسبة باوىّ وبائِى.
وبيّب باء حسنة، وحسنا.
وجمع المقصور أَبواء (كذَا وأَذْواءٍ) وجمع الممدودِ باءَات كحالات.
الثانى: اسم لعدد اثنين في حساب الجُمَّل.
الثالث: الباءُ الأَصلى؛ كباء برك، وكبر، وركب.
الرّابع: باءُ الإِلصاق.
ويكون حقيقة؛ كأَمَسكْتُ بزيد، ومجازاً؛ كمررت به.
الخامس: يكون للتعدية؛ نحو {ذَهَبَ الله بِنُورِهِمْ} {وَلَوْ شَاءَ الله لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ}.
السّادس: باءُ السّببية: {فَكُلاًّ أَخَذْنَا بِذَنبه}، وقال الشاعر:
قد سُقِيت آبالهم بالنَّار

وفى الحديث: «لن يدخُل أَحدكم الجنَّة بعمله».
السّابع: باءُ الاستعانة؛ كباءِ بِسْمِ الله الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ، وقولك: نَجَرتُ بالقدوم، وكتبت بالقلم.
الثامن: باءُ العِوَض؛ كقول الشاعر:
ولا يواتيك فيما ناب من حدَث ** إِلاَّ أَخُو ثِقَة فانظر بمن تثق

أَراد مَن تثق به فزادها عوضاً عنه.
التَّاسع: باءُ المصاحبة: {اهْبِطْ بِسَلاَمٍ}، {وَقَدْ دَّخَلُواْ بِالْكُفْرِ}، {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ}، سبحانك الله وبحمدك.
العاشر: باءُ المقابلة: {ادْخُلُواْ الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ}، وقولك: كافأْت إِحسانه بضعف.
اشتريته بأَلف.
الحادى عشر: باءُ المجاوزة: {فَسْئَلْ به خَبِيراً}، {وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ} {السَّمَاءُ مُنفَطِرٌ به}.
الثانى عشر: باءُ الغاية، وهى التي بمعنى إِلى: {وَقَدْ أَحْسَنَ بَي}.
الثالث عشر: باءُ البدل:
فليت لى بهمُ قوما إِذا ركبوا ** شَنُّوا الإِغارة فرساناً وركباناً

الرابع عشر: باءُ الاستعلاءِ بمعنى عَلى: {مَنْ إِن تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ} {وَإِذَا مَرُّواْ بهمْ يَتَغَامَزُونَ} بدليل {وَإِنَّكُمْ لَّتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ} وقال:
أَربّ يبول الثُعْلبان برأسه ** لقد ذَلّ من بالت عليه الثعالب

{يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَعَصَوُاْ الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بهمُ الأَرْضُ}، زَيْد بالسطح.
الخامس عشر: باءُ التبعيض: {عيناً يشرب بها عِبَادُ الله} أَي منها.
شربن بماءِ النحر ثم ترفعتْ

وقول الآخر:
فلثِمْتُ فاها آخِذاً بقرونها ** شُرب النزيف ببرْد ماءِ الحَشْرج

السّادس عشر: باءُ القسم: أَقسم بالله.
السّابع عشر: باءُ التعليل: {إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ}.
الثامن عشر: باء الظرفيّة: {وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ الله بِبَدْرٍ} {نَّجَّيْنَاهُم بِسَحَرٍ} وقال الشَّاعر:
ويُستخرجُ اليربوع من نافقائه ** ومن جُحْرِه بالشَّيْخَة اليُتقصّع

التَّاسع عشر: الباءُ التي تدخل على الاسم لإِرادة التشبيه، كقولهم: لقيت بزيد الأَسد، ورأَيت بفلان القمر.
والصحيح أَنها للسبب العشرون: باءُ التقليل، كقول الشاعر:
فلئن صرت لا تُحير جوابا ** لما قد تُرى وأَنت خطيب

الحادى والعشرون: الباءُ الزَّائدة، وهى المؤكِّدة.
وتزاد في الفاعل.
{كَفى بِالله شَهِيداً} أَحْسِنْ بزيد، أَصله حَسُن زيد، وقال الشاعر:
كفى ثعلا فخراً بأَنَّك منهم ** ودهرٌ لأَن أَمسَيْت من أَهله أَهل

وفى الحديث: «كفى بالمرءِ كذباً أَن يحدِّث بكلّ ما سمع» ويزاد ضرورة كقوله:
أَلم يأْتيك والأَنباءُ تَنْمى ** بما لاقت لبونُ بنى زياد

وقوله:
مهمالى الليلة مهماليه ** أَودى بنعلىّ وسِرْباليه

وتزادُ في المفعول {وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} {وَهُزِّى إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ}.
نضرب بالسّيف ونرجو بالفرج ** سود المحاجر لا يقرآن بالسور

وقلَّت في مفعول ما يتعدّى لاثنين؛ كقوله:
تَبَلَتْ فؤادَك في المنام خَرِيدَةٌ ** تسقى الضَّجيعَ بباردٍ بسّامِ

ويزاد في المبتدأ: {بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ}، بحسبك درهم، خرجت فإِذا بزيدٍ.
ويزاد في الخبر {وَمَا الله بِغَافِلٍ}، {جَزَاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا}.
ومنعكها بشئ يستطاع

ويزاد في الحال المنفىّ عاملها:
فما رجعت بخائبة ركاب ** حكيم بن المسيّب منتهاها

وليس بذى سيف وليس بنبَّال

ويزاد في التوكيد بالنَّفس والعين {يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ}.
ومن أقسام الباءِ الباءُ المبدلة؛ كمكَّة وبكَّة، ولازم ولازب، والباءُ المكرّرة، كباءِ الرّب، وكبّر، وتكبّر.
ومنها باءُ الاستقامة {آمَنَّا بِرَبِّنَا} أَي استقمنا {فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أوحي إليّكَ}.
ومنها باءُ التعبير.
وتكون متضمّنة لزيادة العلم: {قُلْ أَتُعَلِّمُونَ الله بِدِينِكُمْ} ومنها الباءُ اللُّغوى، وهو الرّجل الشَّبق.
الباءُ أَيضاً: النكاح.
وكذلك الباءَة والباه. اهـ.

.تفسير الآيات (10- 14):

قوله تعالى: {إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا (10) فوقاهم الله شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا (11) وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا (12) متكئين فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ لَا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا وَلَا زَمْهَرِيرًا (13) وَدانية عَلَيْهِمْ ظِلَالُهَا وَذللت قُطُوفُهَا تَذْلِيلًا (14)}

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
ولما كانت الأنفس مجبولة على حب الجزاء والثناء، فكان لا يكاد يصدق أحد أن أحداً يفعل ما لا يقصد به شيئاً من ذلك، وكان الله سبحانه وتعالى قد منَّ علينا بأن جعل العبادة لأجل خوفه ورجائه لا يقدح في الإخلاص، عللوا قولهم هذا على وجه التأكيد بقولهم: {إنا نخاف} ولما كان الخوف من المحسن بالنظر إلى إحسانه موجباً للخوف منه بالنظر إلى عزه وجبروته وسلطانه من باب الأولى قالوا: {من ربنا} أي الخالق لنا المحسن إلينا {يوماً} أي أهوال يوم هو- في غاية العظمة، وبينوا عظمته بقولهم: {عبوساً} أي ضيقاً- قاله ابن عباس- رضى الله عنهما ـ، نسبوا العبوس إليه لأنه في شدته كالأسد الغضوب، فهو موجب لعبوس الوجوه فيه أو هو لعبوس أهله ك (ليله قائم ونهاره صائم وعيشة راضية) {قمطريراً} أي طويلاً- قاله ابن عباس- رضى الله عنهما ـ، أو شديد العبوس مجتمع الشر كالذي يجمع ما بين عينيه- مأخوذ من القطر لأن يومه يكون عابساً، وزيد فيه الميم وبولغ فيه بالصيغة، وهو يوم القيامة، يقال: اقمطر اليوم فهو مقمطر- إذا كان صعباً شديداً.
ولما كان فعلهم هذا خالصاً لله، سبب عنه جزاءهم فقال مخبراً أنه دفع عنهم المضار وجلب لهم المسار: {فوقاهم الله} أي الملك الأعظم بسبب خوفهم {شر ذلك اليوم} أي العظيم، وأشار إلى نعيم الظاهر بقوله: {ولقّاهم} أي تلقية عظيمة فيه وفي غيره {نضرة} أي حسناً ونعمة تظهر على وجوههم وعيشاً هنيئاً، وإلى نعيم الباطن بقوله: {وسروراً} أي دائماً في قلوبهم في مقابلة خوفهم في الدنيا وعبوس الكفار في الآخرة وخزيهم- وهذا يدل على أن وصف اليوم بالعبوس للدلالة على المبالغة في عبوس أهله، وأشار إلى المسكن بقوله: {وجزاهم بما صبروا} أي بسبب ما أوجدوه من الصبر على العبادة من لزوم الطاعة واجتناب المعصية ومنع أنفسهم الطيبات وبذل المحبوبات {جنة} أي بستاناً جامعاً يأكلون منه ما يشتهون جزاء على ما كانوا يطعمون.
ولما ذكر ما يكسو الباطن، ذكر ما يكسو الظاهر فقال: {وحريراً} أي هو في غاية العظمة.
ولما ذكر أنه كفاهم المخوف وحباهم الجنة، أتبعه حالهم فيها وحالها فقال دالاًّ على راحتهم الدائمة: {متكئين فيها} أي لأن كل ما أرادوه حضر إليهم من غير حاجة إلى حركة أصلاً، ودل على الملك بقوله: {على الأرآئك} أي الأسرة العالية التي في الحجال، لا تكون أريكة إلا مع وجود الحجلة، وقال بعضهم: هي السرير المنجد في قبة عليه شواره ونجده أي متاعه، وهي مشيرة إلى الزوجات لأن العادة جارية بأن الأرائك لا تخلو عنهن بل هي لهن لاستمتاع الأزواج بهن فيها.
ولما كانت بيوت الدنيا وبساتينها تحتاج إلى الانتقال منها من موضع إلى موضع لأجل الحر أو البرد، بين أن جميع أرض الجنة وغرفها سواء في لذة العيش وسبوغ الظل واعتدال الأمر، فقال نافياً ضر الحر ثم البرد: {لا يرون فيها} أي بأبصارهم ولا بصائرهم أصلاً {شمساً} أي ولا قمراً {ولا} أي ولا يرون فيها أيضاً ببصائرهم أي لا يحسون بما يسمى {زمهريراً} أي برداً شديداً مزعجاً ولا حراً، فالآية من الاحتباك: دل بنفي الشمس أولاً على نفي القمر، لأن ظهوره بها لأن نوره اكتساب من نور الشمس، ودل بنفي الزمهرير الذي هو سبب البرد ثانياً على نفي الحر الذي سببه الشمس، فأفاد هذا أن الجنة غنية عن النيرين، لأنها نيرة بذاتها وأهلها غير محتاجين إلى معرفة زمان لأنه لا تكليف فيها بوجه، وأنها ظليلة ومعتدلة دائماً لأن سبب الحر الآن قرب الشمس من مسامته الرؤوس، وسبب البرد بعدها عن ذلك.
ولما كانت ترجمة هذا كما مضى: جنة ظليلة ومعتدلة، عطف عليه بالواو دلالة على تمكن هذا الوصف وعلى اجتماعه مع ما قبله قوله: {ودانية} أي قريبة من الارتفاع {عليهم ظلالها} من غير أن يحصل منها ما يزيل الاعتدال {وذللت قطوفها} جمع قطف بالكسر وهو العنقود واسم للثمار المقطوفة أي المجنية {تذليلاً} أي سهل تناولها تسيهلاً عظيماً لا يرد اليد عنها بعد ولا شوك لكل من يريد أخذها على أي حالة كان من اتكاء وغيره، فإن كانوا قعوداً تدلت إليهم، وإن كانوا قياماً وكانت على الأرض ارتقت إليهم، وهذا جزاء لهم على ما كانوا يذللون أنفسهم لأمر الله. اهـ.

.من أقوال المفسرين:

.قال الفخر:

المسألة الرابعة:
قوله: {إِنَّا نَخَافُ مِن رَّبّنَا} يحتمل وجهين أحدهما: أن إحساننا إليكم للخوف من شدة ذلك اليوم لا لإرادة مكافأتكم والثاني: أنا لا نريد منكم المكافأة لخوف عقاب الله على طلب المكافأة بالصدقة، فإن قيل: إنه تعالى حكى عنهم الإيفاء بالنذر وعلل ذلك بخوف القيامة فقط، ولما حكى عنهم الإطعام علل ذلك بأمرين بطلب رضاء الله وبالخوف عن القيامة فما السبب فيه؟ قلنا: الإيفاء بالنذر دخل في حقيقة طلب رضاء الله تعالى، وذلك لأن النذر هو الذي أوجبه الإنسان على نفسه لأجل الله فلما كان كذلك لا جرم ضم إليه خوف القيامة فقط، أما الإطعام، فإنه لا يدخل في حقيقة طلب رضا الله، فلا جرم ضم إليه طلب رضا الله وطلب الحذر من خوف القيامة.
المسألة الخامسة:
وصف اليوم بالعبوس مجازاً على طريقتين أحدهما: أن يوصف بصفة أهله من الأشقياء كقولهم: نهارك صائم، روي أن الكافر يحبس حتى يسيل من بين عينيه عرق مثل القطران والثاني: أن يشبه في شدته وضراوته بالأسد العبوس أو بالشجاع الباسل.
المسألة السادسة:
قال الزجاج: جاء في التفسير أن قمطريراً معناه تعبيس الوجه، فيجتمع ما بين العينين، قال: وهذا سائغ في اللغة يقال: اقمطرت الناقة إذا رفعت ذنبها وجمعت قطريها ورمت بأنفها يعني أن معنى قمطر في اللغة جمع، وقال الكلبي: قمطريراً يعني شديداً وهو قول الفراء وأبي عبيدة والمبرد وابن قتيبة، قالوا: يوم قمطرير، وقماطر إذا كان صعباً شديداً أشد ما يكون من الأيام وأطوله في البلاء، قال الواحدي: هذا معنى والتفسير هو الأول.
{فوقاهم الله شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا (11)}
اعلم أنه تعالى لما حكى عنهم أنهم أتوا بالطاعات لغرضين طلب رضا الله والخوف من القيامة بين في هذه الآية أنه أعطاهم هذين الغرضين، أما الحفظ من هول القيامة، فهو المراد بقوله: {فوقاهم الله شَرَّ ذَلِكَ اليوم} وسمى شدائدها شراً توسعاً على ما علمت، واعلم أن هذه الآية أحد ما يدل على أن شدائد الآخرة لا تصل إلا إلى أهل العذاب، وأما طلب رضاء الله تعالى فأعطاهم بسببه نضرة في الوجه وسروراً في القلب، وقد مر تفسير {ولقاهم} في قوله: {وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً} [الفرقان: 75] وتفسير النضرة في قوله: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ} [القيامة: 23] والتنكير في {سروراً} للتعظيم والتفخيم.
وقوله تعالى: {وجزاهم بما صبروا جنة وحريراً}
والمعنى وجزاهم بصبرهم على الإيثار وما يؤدي إليه من الجوع والعري، بستاناً فيه مأكل هنيء وحريراً فيه ملبس بهي، ونظيره قوله تعالى: {وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ} [الحج: 23] أقول: وهذا يدل على أن المراد من قوله: {إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ} [الإنسان: 9] ليس هو الإطعام فقط بل جميع أنواع المواساة من الطعام والكسوة، ولما ذكر تعالى طعامهم ولباسهم، وصف مساكنهم، ثم إن المعتبر في المساكن أمور:
أحدها: الموضع الذي يجلس فيه فوصفه بقوله: {متكئين فِيهَا على الأرائك} وهي السرر في الحجال، ولا تكون أريكة إلا إذا اجتمعت، وفي نصب متكئين وجهان الأول: قال الأخفش: إنه نصب على الحال، والمعنى وجزاهم جنة في حال اتكائهم كما تقول: جزاهم ذلك قياماً، والثاني: قال الأخفش: وقد يكون على المدح.
والثاني: هو المسكن فوصفه بقوله: {لاَ يَرَوْنَ فِيهَا شَمْساً وَلاَ زَمْهَرِيراً} وفيه وجهان أحدهما: أن هواءها معتدل في الحر والبرد والثاني: أن الزمهرير هو القمر في لغة طيء هكذا رواه ثعلب وأنشد:
وليلة ظلامها قد اعتكر ** قطعتها والزمهرير ما زهر

والمعنى أن الجنة ضياء فلا يحتاج فيها إلى شمس وقمر.
{وَدانية عَلَيْهِمْ ظِلَالُهَا وَذللت قُطُوفُهَا تَذْلِيلًا (14)}
والثالث: كونه بستاناً نزهاً، فوصفه الله تعالى بقوله: {وَدانية عَلَيْهِمْ ظلالها} وفي الآية سؤالان:
الأول:
ما السبب في نصب {وَدانية}؟ الجواب: ذكر الأخفش والكسائي والفراء والزجاج فيه وجهين أحدهما: الحال بالعطف على قوله: {متكئين} كما تقول في الدار: عبد الله متكئاً ومرسلة عليه الحجال، لأنه حيث قال: عليهم رجع إلى ذكرهم والثاني: الحال بالعطف على محل: {لاَ يَرَوْنَ فِيهَا شَمْساً وَلاَ زَمْهَرِيراً} [الإنسان: 13] والتقدير غير رائين فيها شمساً ولا زمهريراً ودانية عليهم ظلالها ودخلت الواو للدلالة على أن الأمرين يجتمعان لهم، كأنه قيل: وجزاهم جنة جامعين فيها بين البعد عن الحر والبرد، ودنو الظلال عليهم والثالث: أن يكون دانية نعتاً للجنة، والمعنى: وجزاهم جنة دانية، وعلى هذا الجواب تكون دانية صفة لموصوف محذوف، كأنه قيل: وجزاهم بما صبروا جنة وحريراً، وجنة أخرى دانية عليهم ظلالها، وذلك لأنهم وعدوا جنتين، وذلك لأنهم خافوا بدليل قوله: {إِنَّا نَخَافُ مِن رَّبّنَا} [الإنسان: 10] وكل من خاف فله جنتان، بدليل قوله: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبه جَنَّتَانِ} [الرحمن: 46] وقرئ: {وَدانية} بالرفع على أن {ظلالها} مبتدأ {وَدانية} خبر، والجملة في موضع الحال، والمعنى: لا يرون فيها شمساً ولا زمهريراً والحال أن ظلالها دانية عليهم.
السؤال الثاني:
الظل إنما يوجد حيث توجد الشمس، فإن كان لا شمس في الجنة فكيف يحصل الظل هناك؟ والجواب: أن المراد أن أشجار الجنة تكون بحيث لو كان هناك شمس لكانت تلك الأشجار مظلله منها.
قوله تعالى: {وَذللت قُطُوفُهَا تَذْلِيلاً} ذكروا في ذللت وجهين الأول: قال ابن قتيبة: ذللت أدنيت منهم من قولهم: حائط ذليل إذا كان قصير السمك والثاني: ظللت أي جعلت منقادة ولا تمتنع على قطافها كيف شاءوا.
قال البراء بن عازب: ذللت لهم فهم يتناولون منها كيف شاءوا، فمن أكل قائماً لم يؤذه ومن أكل جالساً لم يؤذه ومن أكل مضطجعاً لم يؤذه. اهـ.

.قال القرطبي:

قوله تعالى: {إِنَّا نَخَافُ مِن رَّبِّنَا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً}
{عَبُوساً} من صفة اليوم، أي يوماً تعبِس فيه الوجوه من هوله وشدته، فالمعنى نخاف يوماً ذا عبوس.
وقال ابن عباس يعبس الكافر يومئذ حتى يسيلَ منه عرَق كالقطران.
وعن ابن عباس: العَبُوس: الضَّيِّق، والقَمْطَرِير: الطويل؛ قال الشاعر:
شدِيداً عبوساً قَمْطَرِيراً

وقيل: القَمْطرير الشديد؛ تقول العرب: يوم قَمْطرير وقُمَاطِر وعَصِيب بمعنًى؛ وأنشد الفرّاء:
بنِي عَمِّنَا هل تَذْكُرونُ بَلاَءَنا ** عليكْم إذا ما كان يومٌ قُمَاطِرُ

بضم القاف.
واقمطر إذا اشتد.
وقال الأخفش: القمطرير: أشدّ ما يكون من الأيام وأطوله في البلاء؛ قال الشاعر:
ففرُّوا إذا ما الحرب ثار غُبارُها ** ولَجَّ بها اليومُ العَبُوسُ القُمَاطِرُ

وقال الكسائي: يقال اقمطر اليومُ وازمهر اقمطرارا وازمهرارا، وهو القمطرير والزمهرير، ويوم مُقْمَطِرّ إذا كان صعباً شديداً؛ قال الهذليّ:
بَنُو الحرْبِ أُرْضِعْنا لهم مُقْمَطِرَّةٌ ** ومَنْ يُلْقَ مِنّا ذلكَ اليومَ يَهْرُبِ

وقال مجاهد: إنّ العُبوس بالشفتين، والقمطرير بالجبهة والحاجبين؛ فجعلها من صفات الوجه المتغيّر من شدائد ذلك اليوم؛ وأنشد ابن الأعرابيّ:
يَغْدُو على الصَّيْدِ يَعُودُ مُنْكَسِرْ ** ويَقْمَطِرُّ ساعةً ويَكْفَهِرُّ

وقال أبو عبيدة: يقال رجل قَمْطرير أي متقبض ما بين العينين.
وقال الزجاج: يقال اقمطرت الناقةُ: إذا رَفَعت ذَنَبها وجَمَعت قُطْرَيها، وزَمَّت بأنفها؛ فاشتقه مِن القُطْر، وجعل الميم مزيدة.
قال أسد بن ناعِصة:
واصطليت الحروبَ في كلّ يومٍ ** باسِلِ الشَّرِّ قَمْطَرِيرِ الصَّباحِ

قوله تعالى: {فوقاهم الله} أي دفع عنهم {شَرَّ ذَلِكَ اليوم} أي بأسه وشدته وعذابه {وَلَقَّاهُمْ} أي أتاهم وأعطاهم حين لقُوه أي رأوه {نَضْرَةً} أي حسناً {وَسُرُوراً} أي حبوراً.
قال الحسن ومجاهد: {نَضْرَةً} في وجوههم {وَسُرُوراً} في قلوبهم.
وفي النضرة ثلاثة أوجه: أحدها أنها البياض والنقاء؛ قاله الضحاك.
الثاني الحسن والبهاء؛ قاله ابن جبير.
الثالث أنها أثر النعمة؛ قاله ابن زيد.
قوله تعالى: {وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُواْ}
على الفقر، وقال القرظيّ: على الصوم، وقال عطاء: على الجوع ثلاثة أيام وهي أيام النذْر.
وقيل: بصبرهم على طاعة الله، وصبرهم على معصية الله ومحارمه.
و (ما): مصدرية، وهذا على أن الآية نزلت في جميع الأبرار ومن فعل فعلاً حسناً.
وروى ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن الصبر فقال: الصبر أربعة: أوّلها الصبر عند الصدمة الأولى، والصبر على أداء الفرائض، والصبر على اجتناب محارم الله، والصبر على المصائب.
{جَنَّةً وَحَرِيراً} أي أدخلهم الجنة وألبسهم الحرير.
أي يسمى بحرير الدنيا وكذلك الذي في الآخرة (وفيه) ما شاء الله عز وجل من الفضل.
وقد تقدم: أن من لبس الحرير في الدنيا لم يلبسه في الآخرة، وإنما أُلبسه من أُلبسه في الجنة عوضاً عن حبسهم أنفسهم في الدنيا عن الملابس التي حرم الله فيها.
قوله تعالى: {متكئين فِيهَا} أي في الجنة؛ ونصب {متكئين} على الحال من الهاء والميم في {جَزَاهُمْ} والعامل فيها جزي ولا يعمل فيها {صَبَرُوا}؛ لأن الصبر إنما كان في الدنيا والاتكاء في الآخرة.
وقال الفرّاء: وإن شئت جعلت {متكئين} تابعاً، كأنه قال جزاهم جنة {متكئين فِيهَا}.
{على الأرائك} السُّرُر في الحِجَال وقد تقدم.
وجاءت عن العرب أسماء تحتوي على صفات: أحدها الأريكة لا تكون إلا في حَجَلة على سرير، ومنها السَّجْل، وهو الدّلو الممتليء ماءً، فإذا صَفِرت لم تُسمَّ سَجْلاً، وكذلك الذَّنُوب لا تُسمَّى ذَنُوباً حتى تُملأ، والكأس لا تسمى كأساً حتى تُتْرَع من الخمر.
وكذلك الطَّبَق الذي تُهدَى عليه الهدية مِهْدَى، فإذا كان فارغاً قيل طَبَق أو خِوان؛ قال ذو الرُّمَّة:
خُدُودٌ جَفَتْ في السَّيْرِ حتَّى كأنَّمَا ** يُبَاشِرْنَ بِالْمَعْزاءِ مَسَّ الأرائِكِ

أي الفرش على السرر.
{لاَ يَرَوْنَ فِيهَا شَمْساً} أي لا يرون في الجنة شدة حرٍّ كحرِّ الشمس {وَلاَ زَمْهَرِيراً} أي ولا برداً مفرطاً؛ قال الأعشى:
مُنَعَّمَةٌ طَفْلَةٌ كَالْمَهَا ** ةِ لَمْ تَرَ شَمْساً وَلاَ زَمْهَرِيرَاً

وعن أبي صالح عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اشتكت النارُ إلى ربها عز وجل قالت: يا ربّ أَكَلَ بعضي بعضاً، فجعل لها نَفَسين نَفَساً في الشتاء ونَفَساً في الصّيف، فشدّة ما تجدون من البرد من زمهريرها، وشدّة ما تجدون من الحرّ في الصيف من سَمُومها». وعن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إن هواء الجنة سَجْسَج: لا حرٌّ ولا بردٌ» والسَّجْسَج: الظِّل الممتد كما بين طلوع الفجر وطلوع الشمس.
وقال مُرَّة الهَمْداني: الزمهرير البرد القاطع.
وقال مقاتل بن حيان: هو شيء مثل رؤوس الإبر ينزل من السماء في غاية البرد.
وقال ابن مسعود: هو لون من العذاب، وهو البرد الشديد، حتى إن أهل النار إذا أُلْقوا فيه سألوا الله أن يعذِّبهم بالنار ألف سنة أهونَ عليهم من عذاب الزمهرير يوماً واحداً.
قال أبو النَّجْم:
أو كُنتُ ريحاً كُنتُ زَمْهَريراً

وقال ثعلب: الزَّمْهرير: القمر بلغة طيِّيء؛ قال شاعرهم:
وليلةٍ ظَلاَمُهَا قدِ اعتكر ** قَطَعْتُهَا والزِّمْهَريرُ ما زَهَرْ

ويروى: ما ظهر؛ أي لم يطلع القمر.
فالمعنى لا يرون فيها شمساً كشمس الدنيا ولا قمراً كقمر الدنيا، أي إنهم في ضياء مستديم، لا ليل فيه ولا نهار؛ لأن ضوء النهار بالشمس، وضوء الليل بالقمر.
وقد مضى هذا المعنى مجوداً في سورة (مريم) عند قوله تعالى: {وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيّاً} [مريم: 62].
وقال ابن عباس: بينما أهل الجنة في الجنة إذ رأوا نوراً ظنوه شمساً قد أشرقت بذلك النور الجنة، فيقولون: قال ربنا: {لاَ يَرَوْنَ فِيهَا شَمْساً وَلاَ زَمْهَرِيراً} فما هذا النور؟ فيقول لهم رضوان: ليست هذه شمس ولا قمر، ولكن هذه فاطمة وعليّ ضحكا، فأشرقت الجنان من نور ضحكهما، وفيهما أنزل الله تعالى: {هَلْ أتى عَلَى الإنسان} وأنشد:
أنا مَوْلىً لِفَتَى ** أُنْزِلَ فيه هَلْ أَتَى

ذاكَ عليٌّ المُرْتَضَى ** وابن عَمِّ المصطفَى

قوله تعالى: {وَدانية عَلَيْهِمْ ظِلاَلُهَا} أي ظل الأشجار في الجنة قريبة من الأبرار، فهي مُظِلّة عليهم زيادة في نعيمهم وإن كان لا شمس ولا قمر ثَمَّ؛ كما أن أمشاطهم الذهب والفضة، وإن كان لا وسخ ولا شَعَث ثَمَّ.
ويقال: إن ارتفاع الأشجار في الجنة مقدار مائة عام، فإذا اشتهى وليّ الله ثمرتها دانت حتى يتناولها.
وانتصبت {دانية} على الحال عطفاً على {متكئين} كما تقول: في الدار عبد الله متكئاً ومرسلة عليه الحجال.
وقيل: انتصبت نعتاً للجنة؛ أي وجزاهم جنةً دانية، فهي صفة لموصوف محذوف.
وقيل: على موضع {لاَ يَرَوْنَ فِيهَا شَمْساً وَلاَ زَمْهَرِيراً} ويرون دانية.
وقيل: على المدح أي دنت دانية.
قاله الفراء.
{ظِلاَلُهَا} الظلال مرفوعة بدانية، ولو قرئ برفع دانية على أن تكون الظلال مبتدأ ودانية الخبر لجاز، وتكون الجملة في موضع الحال من الهاء والميم في {وجَزَاهُمْ} وقد قرئ بذلك.
وفي قراءة عبد الله {وَدَانِيًا عَلَيْهِمْ} لتقدم الفعل.
وفي حرف أُبيّ {وَدَانٍ} رفع على الاستئناف {وَذللت} أي سُخِّرت لهم {قُطُوفُهَا} أي ثمارها {تَذْلِيلاً} أي تسِخيراً، فيتناولها القائم والقاعد والمضطجع، لا يرد أيديهم عنها بُعدٌ ولا شوك؛ قاله قتادة.
وقال مجاهد: إن قام أحد ارتفعت له، وإن جلس تدلّت عليه، وإن اضطجع دنت منه فأكل منها.
وعنه أيضاً: أرض الجنة من وَرِق، وترابها الزعفران، وطيبها مسك أذفر، وأصول شجرها ذهب وورِق، وأفنانها اللؤلؤ والزبرجد والياقوت، والثمر تحت ذلك كله؛ فمن أكل منها قائماً لم تؤذِه، ومن أكل منها قاعداً لم تؤذِه، ومن أكل منها مضطجعاً لم تؤذِه.
وقال ابن عباس: إذا همَّ أن يتناول من ثمارها تدلّت إليه حتى يتناول منها ما يريد، وتذليل القطوف تسهيل التناول.
والقطوف: الثمار، الواحد قِطف بكسر القاف، سمّي به لأنه يُقطَف، كما سمّي الجَنَى لأنه يُجنى.
{تَذْلِيلاً} تأكيد لما وصف به من الذِّل؛ كقوله: {وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلاً} [الإسراء: 106] {وَكَلَّمَ الله موسى تَكْلِيماً} [النساء: 164].
الماورديّ: ويحتمل أن يكون تذليل قطوفها أن تبرز لهم من أكمامها، وتخلص لهم من نواها.
قلت: وفي هذا بعدٌ؛ فقد روى ابن المبارك، قال: أخبرنا سفيان عن حماد عن سعيد بن جُبير عن ابن عباس قال: نخل الجنة: جذوعها زُمُرُّد أخضر، وكَرَبها ذهب أحمر، وسَعَفها كُسْوة لأهل الجنة، منها مُقطَّعاتهم وحُلَلهم، وثمرها أمثال القِلال والدِّلا، أشدّ بياضاً من اللَّبَن، وأحلى من العسل، وألين من الزُّبْد ليس فيه عَجَم.
قال أبو جعفر النحاس: ويقال المذلّل الذي قد ذلّله الماءُ أي أرواه.
ويقال المذلّل الذي يُفَيِّئُه أدنى ريح لنَعْمته، ويقال المذلّل المُسَوَّى؛ لأن أهل الحجاز يقولون: ذلّل نَخْلكَ أي سَوِّه، ويقال المُذلّل القريب المتناوَل؛ من قولهم: حائط ذَليلٌ أي قصير.
قال أبو جعفر: وهذه الأقوال التي حكيناها ذكرها أهل العلم باللغة وقالوها في قول امرىء القيس:
وساقٍ كَأَنْبوبِ السَّقِيّ المُذلّل

اهـ.

.قال الألوسي:

{إِنَّا نَخَافُ مِن رَّبّنَا يَوْماً} أي عذاب يوم فهو على تقدير مضاف أو إن خوفه كناية عن خوف ما فيه {عَبُوساً} تعبس فيه الوجوه على أنه من الإسناد المجازي كما في نهاره صائم فقد روى عن ابن عباس أن الكافر يعبس يومئذ حتى يسيل من بين عينيه عرق مثل القطران أو يشبه الأسد العبوس على أنه من الاستعارة المكنية التخييلية لكن لا يخفى أن العبوس ليس من لوازم الأسد وإنما اشتهر وصفه به ففي التخييلية ضعف ما وقيل أنه من التشبيه البليغ {قَمْطَرِيراً} شديد العبوس ويقال شديداً صعباً كأنه التف شره بعضه ببعض وقيل طويلاً وهو رواية عن ابن عباس وجاء قماطر وأنشدوا لأسد بن ناغصة: واصطليت الحروب في كل يوم ** باسل الشر قمطرير الصباح
وقول آخر:
بني عمنا هل تذكرون بلائنا ** عليكم إذا ما كان يوم قماطر

وإلى الأول ذهب الزجاج فقال القمطرير الذي يعبس حتى يجتمع ما بين عينيه ويقال اقمطرت الناقة إذا رفعت ذنبها وزمت بأنفها وجمعت قطريها أي جانبيها كأنها تفعل ذلك إذا لحقت كبراً وقيل لتضع حملها فاشتقاقه عنده على ما قيل من قطر بالاشتقاق الكبير والميم زائدة وهذا لا يلزم الزجاج فيجوز أن يكون مشتقاً كذلك من القمط ويقال قمطه إذا شده وجمع أطرافه وفي (البحر) يقال اقمطر فهو مقمطر و{قمطرير} وقماطر إذا صعب واشتد واختلف في هذا الوزن وأكثر النحاة لا يثبتون أفمعل في أوزان الأفعال وهذه الجملة جوز أن تكون علة لإحسانهم وفعلهم المذكور كأنه قيل نفعل بكم ما نفعل لأنا نخاف يوماً صفته كيت وكيت فنحن نرجو بذلك أن يقينا ربنا جل وعلا شره وأن تكون علة لعدم إرادة الجزاء والشكور أي إنا لا نريد منكم المكافأة لخوف عقاب الله تعالى على طلب المكافأة بالصدقة وإلى الوجهين أشار في (الكشاف) وقال في الكشف الثاني أوجه ليبقى قوله: {لوجه الله} [الإنسان: 9] خالصاً غير مشوب بحظ النفس من جلب نفع أو دفع ضر ولو جعل علة للإطعام المعلل على معنى إنما خصصنا الإحسان لوجهه تعالى لأنا نخاف يوم جزائه ومن خافه لازم الإخلاص لكان وجهاً.
{فوقاهم الله شَرَّ ذَلِكَ اليوم} بسبب خوفهم وتحفظهم عنه وقرأ أبو جعفر {فوقاهم} بشد القاف وهو أوفق بقوله تعالى: {ولقاهم نَضْرَةً وَسُرُوراً} أي أعطاهم بدل عبوس الفجار وحزنهم نضرة في الوجوه وسروراً في القلوب.
{وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُواْ} بصبرهم على مشاق الطاعات ومهاجرة هوى النفس في اجتناب المحرمات وإيثار الأموال ما كلا وملبسا {جَنَّةُ} بستاناً عظيماً يأكلون منه ما شاؤا {وَحَرِيراً} يلبسونه ويتزينون به ومن رواية عطاء عن ابن عباس أن الحسن والحسين مرضا فعادهما جدهما محمد صلى الله عليه وسلم ومعه أبو بكر وعمر رضي الله تعالى عنهما وعادهما من عادهما من الصحابة فقالوا لعلي كرم الله تعالى وجهه يا أبا الحسن لو نذرت على ولديك فنذر علي وفاطمة وفضة جارية لهما أن برآ مما بهما أن يصوموا ثلاثة أيام شكراً فالبس الله تعالى الغلامين ثوب العافية وليس عند آل محمد قليل ولا كثير فانطلق علي كرم الله تعالى وجهه إلى شمعون اليهودي الخيبري فاستقرض منه ثلاثة أصوع من شعير فجاء بها فقامت فاطمة رضي الله تعالى عنها إلى صاع فطحنته وخبزت منه خمسة أقراص على عددهم وصلى علي كرم الله تعالى وجهه مع النبي صلى الله عليه وسلم المغرب ثم أتى المنزل فوضع الطعام بين يديه فوقف بالباب سائل فقال السلام عليكم يا أهل بيت محمد صلى الله عليه وسلم أنا مسكين من مساكين المسلمين أطعموني أطعمكم الله تعالى من موائد الجنة فآثروه وباتوا لم يذوقوا شيئاً إلا الماء وأصبحوا صياماً ثم قامت فاطمة رضي الله تعالى عنها إلى صاع آخر فطحنته وخبزته وصلى علي كرم الله تعالى وجهه مع النبي صلى الله عليه وسلم المغرب ثم أتى المنزل فوضع الطعام بين يديه فوقف يتيم بالباب وقال السلام عليكم يا أهل بيت محمد صلى الله عليه وسلم يتيم من أولاد المهاجرين أطعموني أطعمكم الله تعالى من موائد الجنة فآثروه ومكثوا يومين وليلتين لم يذوقوا شيئاً إلا الماء القرأح وأصبحوا صياماً فلما كان يوم الثالث قامت فاطمة رضي الله تعالى عنها إلى الصاع الثالث وطحنته وخبزته وصلى علي كرم الله تعالى وجهه مع النبي صلى الله عليه وسلم المغرب فأتى المنزل فوضع الطعام بين يديه فوقف أسير بالباب فقال السلام عليكم يا أهل بيت محمد صلى الله عليه وسلم أنا أسير محمد عليه الصلاة والسلام أطعموني أطعمكم الله فآثروه وباتوا لم يذوقوا إلا الماء القرأح فلما أصبحوا أخذ علي كرم الله تعالى وجهه الحسن والحسين وأقبلوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ورآهم يرتعشون كالفراخ من شدة الجوع قال: «يا أبا الحسن ما أشد ما يسوءني ما أرى بكم» وقام فانطلق معهم إلى فاطمة رضي الله تعالى عنها فرآها في محرابها قد التصق بطنها بظهرها وغارت عيناها من شدة الجوع فرق لذلك صلى الله عليه وسلم وساءه ذلك فهبط جبريل عليه السلام فقال خذها يا محمد هناك الله تعالى في أهل بيتك قال: «وما آخذ يا جبريل» فاقرأه {هل أتى على الإنسان} [الإنسان: 1] السورة وفي رواية ابن مهران فوثب النبي صلى الله عليه وسلم حتى دخل على فاطمة فأكب عليها يبكي فهبط جبريل عليه السلام بهذه الآية {إن الأبرار يشربون} [الإنسان: 5] إلى آخره.
وفي رواية عن عطاء أن الشعير كان عن أجرة سقي نخل وأنه جعل في كل يوم ثلث منه عصيدة فآثروا بها.
وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس أنه قال في قوله سبحانه: {وَيُطْعِمُونَ} إلخ نزلت في علي كرم الله تعالى وجهه وفاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يذكر القصة والخبر مشهور بين الناس وذكره الواحدي في كتاب البسيط وعليه قول بعض الشيعة:
إلام آلام وحتى متى ** أعاتب في حب هذا الفتى

وهل زوجت غيره فاطم ** وفي غيره هل أتى هل أتى

وتعقب بأنه خبر موضوع مفتعل كما ذكره الترمذي وابن الجوزي وآثار الوضع ظاهرة عليه لفظاً ومعنى ثم إنه يقتضي أن تكون السورة مدنية لأن بناء علي كرم الله تعالى وجهه على فاطمة رضي الله تعالى عنها كان بالمدينة وهي عند ابن عباس المروى هو عنه على ما أخرج النحاس مكية وكذا عند الجمهور في قول وأقول أمر مكيتها ومدنيتها مختلف فيه جدًّا كما سمعت فلا جزم فيه بشيء وابن الجوزي نقل الخبر في تبصرته ولم يتعقبه على أنه ممن يتساهل في أمر الوضع حتى قالوا أنه لا يعول عليه في هذا الباب فاحتمال أصل النزول في الأمير كرم الله تعالى وجهه وفاطمة رضي الله تعالى عنها قائم ولا جزم بنفي ولا إثبات لتعارض الأخبار ولا يكاد يسلم المرجح عن قيل وقال نعم لعله يترجح عدم وقوع لكيفية التي تضمنتها الرواية الأولى ثم إنه على القول بنزولها فيهما لا يتخصص حكمها بهما بل يشمل كل من فعل مثل ذلك كما ذكره الطبرسي من الشيعة في (مجمع البيان): راوياً له عن عبد الله بن ميمون عن أبي عبد الله رضي الله تعالى عنه وعلى القول بعدم النزول فيهما لا يتطامن مقامهما ولا ينقص قدرهما إذ دخولهما في الأبرار أمر جلي بل هو دخول أولى فهماهما وماذا عسى يقول أمرؤ فيهما سوى أن علياً مولى المؤمنين ووصى النبي وفاطمة البضعة الأحمدية والجزء المحمدي وأما الحسنان فالروح والريحان وسيدا شباب الجنان وليس هذا من الرفض بشيء بل ما سواه عندي هو الغي.
أنا عبد الحق لا عبد الهوى ** لعن الله الهوى فيمن لعن

ومن اللطائف على القول بنزولها فيهم أنه سبحانه لم يذكر فيها الحور العين وإنما صرح عز وجل بولدان مخلدين رعاية لحرمة البتول وقرة عين الرسول لئلا تثور غيرتها الطبيعة إذا أحست بضرة وهي في أفواه تخيلات الطباع البشرية ولو في الجنة مرة ولا يخفى عليك أن هذا زهرة ربيع ولا تتحمل الفرك ثم التذكير على ذلك أيضاً من باب التغليب وقرأ علي كرم الله تعالى وجهه {جازاهم} على وزن فاعل.
{متكئين فِيهَا على الأرائك} حال من هم في {جزاهم} والعامل جزى وخص الجزاء بهذه الحالة لأنها أتم حالات المتنعم ولا يضر في ذلك قوله تعالى: {بِمَا صَبَرُواْ} [الإنسان: 12] لأن الصبر في الدنيا وما تسبب عليه في الآخرة وقيل صفة الجنة ولم يبرز الضمير مع أن الصفة جارية على غير من هي عليه فلم يقل متكئين هم فيها لعدم الإلباس كما في قوله:
قومي ذرى المجد بانوها وقد علمت ** بكنه ذلك عدنان وقحطان

وأنت تعلم أن هذا رأي الكوفية ومذهب البصرية وجوب إبراز الضمير في ذلك مطلقاً وفي البيت كلام وقيل يجوز كونه حالاً مقدرة من ضمير صبروا وليس بذاك والأرائك جمع أريكة وهي السرير في الحجلة من دونه ستر ولا يسمى مفرداً أريكة وقيل هو كل ما اتكىء عليه من سرير أو فراش أو منصة وكان تسميته بذلك لكونه مكاناً للإقامة أخذاً من قولهم أرك بالمكان أروكاً أقام وأصل الأروك الإقامة على رعي الأراك الشجر المعروف ثم استعمل في غيره من الإقامات وقوله تعالى: {لاَ يَرَوْنَ فِيهَا شَمْساً وَلاَ زَمْهَرِيراً} إما حال ثانية من الضمير أو حال من المستكن في {متكئين} وجوز فيه كونه صفة لـ: {جنة} أيضاً والمراد من ذلك أن هواءها معتدل لا حر شمس يحمي ولا شدة برد يؤذي وفي الحديث «هواء الجنة سجسج لا حر ولا قر» فقصد بنفي الشمس نفيها ونفي لازمها معاً لقوله سبحانه {ولا زمهريراً} فكأنه قيل لا يرون فيها حراً ولا قرأ وقيل الزمهرير القمر وعن ثعلب أنه في لغة طيء وأنشد:
وليلة ظلامها قد اعتكر ** قطعتها والزمهرير ما زهرر

وليس هذا لأن طبيعته باردة كما قيل لأنه في حيز المنع بل قيل أنه برهن على أن الأنوار كلها حارة فيحتمل أن ذلك للمعانه أخذاً له من ازمهر الكوكب لمع والمعنى على هذا القول أن هواءها مضيء بذاته لا يحتاج إلى شمس ولا قمر وفي الحديث: «أن الجنة لا خطر بها هي ورب الكعبة نور يتلألأ وريحانة تهتز وقصر مشيد» الحديث ثم أنها مع هذا قد يظهر فيها نور أقوى من نورها كما تشهد به الأخبار الصحيحة وفي بعض الآثار عن ابن عباس بينا أهل الجنة في الجنة إذ رأوا ضوءا كضوء الشمس وقد أشرقت الجنان به فيقول أهل الجنة يا رضوان ما هذا وقد قال ربنا {لا يرون فيها شمساً ولا زمهريراً} فيقول لهم رضوان ليس هذا بشمس ولا قمر ولكن علي وفاطمة رضي الله تعالى عنهما ضحكا فأشرقت الجنان من نور ثغريهما.
{وَدانية عَلَيْهِمْ ظلالها} عطف على الجملة وحالها حالها أو صفة لمحذوف معطوف على {جنة} فيما سبق أي وجنة أخرى دانية عليهم ظلالها على أنهم وعدوا جنتين كما في قوله تعالى: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبه جَنَّتَانِ} [الرحمن: 46] وقرأ أبو حيوة {دانية} بالرفع وخرج على أن {دانية} خبر مقدم لظلالها والجملة في حيز الحال على أن الواو عاطفة أو حالية أو في حيز الصفة على أن الواو عاطفة أيضاً أو للإلصاق على ما يراه الزمخشري وقال الأخفش {ظلالها} مرفوع بـ: {دانية} على الفاعلية واستدل بذلك على جواز عمل اسم الفاعل من غير اعتماد نحو قائم الزيدون وقد علمت أنه لا يصلح للاستدلال لقيام ذلك الاحتمال على أنه يجوز أن يكون خبر المبتدأ مقدر فيعتمد أي وهي دانية عليهم ظلالها وقرأ أبي {ودان} كقاض ولا يتم الاستدلال به للأخفش أيضاً وإن كان بينه وبين ما تقدم فرق ما وقرأ الأعمش {ودانياً} عليهم نحو {خاشعاً أبصارهم} والمراد أن ظلال أشجار الجنة قريبة من الأبرار مظلة عليهم زيادة في نعيمهم {وَذللت قُطُوفُهَا تَذْلِيلاً} أي سخرت ثمارها لمتناولها وسهل أخذها من الذل وهو ضد الصعوبة قال قتادة ومجاهد وسفيان إن كان الإنسان قائماً تناول الثمر دون كلفة وإن كان قاعداً أو مضطجعاً فكذلك فهذا تذليلها لا يرد اليد عنها بعد ولا شوك والجملة حال من ضمير {دانية} أي تدنو ظلالها عليهم مذللة لهم قطوفها أو معطوفة على ما قبلها وهي فعلية معطوفة على اسمية في قراءة {دانية} بالرفع ونكتة التخالف أن استدامة الظل مطلوبة هنالك والتجدد في تذليل القطوف على حسب الحاجة. اهـ.

.قال ابن عاشور:

وأما قوله: {إنّا نخاف من ربنا يوماً عبوساً قمطريراً}
فهو مقول لقول يقولونه في نفوسهم أو ينطق به بعضهم مع بعض وهو حال من ضمير {يخافون} [الإنسان: 7] أي يخافون ذلك اليوم في نفوسهم قائلين: {إنا نخاف من ربنا يوماً عبوساً قمطريرا}، فحكي وقولهم: {إنما نطعمكم لوجه الله} وقولهم: {إنا نخاف} الخ.
على طريقة اللف والنشر المعكوس والداعي إلى عكس النشر مراعاة حسن تنسيق النظم ليكون الانتقال من ذكر الإِطعام إلى ما يقولونه للمطعمين، والانتقال من ذكر خوف يوم الحساب إلى بشارتهم بوقاية الله إياهم من شر ذلك اليوم وما يلقونه فيه من النضرة والسرور والنعيم.
فيجوز أن يكون {من ربنا} ظرفاً مستقرا وحرف {مِن} ابتدائية وهو حال من {يوماً} قُدم عليه، أي نخاف يوماً عبوساً قمطريراً حال كونه من أيّام ربنا، أي من أيام تصاريفه.
ويجوز أن تكون {مِن} تجريدية كقولك: لي من فلان صديق حميم.
ويكون {يوماً} منصوباً على الظرفية وتنوينه للتعظيم، أي نخافه في يوم شديد.
و {عَبوساً}: منصوباً على المفعول لفعل {نخاف}، أي نخاف غضبان شديدَ الغضب هُو ربنا، فيكون في التجريد تقوية للخوف إذ هو كخوف من شيْئينِ (وتلك نكتة التجريد)، أو يكون {عبوساً} حالاً {من ربنا}.
ويجوز أن تجعل {مِن} لتعدية فعل {نخاف} كما عدي في قوله تعالى: {فمن خاف مِن موصصٍ جَنفَاً} [البقرة: 182].
وينتصب {يوماً} على المفعول به لفعل {نخاف} فصار لفعل {نخاف} معمولانِ.
و {عبوساً} صفة ل {يوماً}، والمعنى: نخاف عذاب يوم هذه صفته، ففيه تأكيد الخوف بتكرير متعلِّقه ومرجع التكرير إلى كونه خوف الله لأن اليوم يوم عدل الله وحكمه.
والعبوس: صفة مشبهة لمن هو شديد العبس، أي كُلُوحُ الوجه وعدم انطلاقه، ووصف اليوم بالعبوس على معنى الاستعارة.
شُبه اليوم الذي تحدث فيه حوادث تَسُوءهم برجل يخالطهم يكون شرس الأخلاق عبوساً في معاملته.
والقمطرير: الشديد الصعب من كل شيء.
وعن ابن عباس: القمطرير المقبض بين عينيه مشتق من قمطر القاصر إذا اجتمع، أو قمطر المتعدي إذا شد القربة بوكاء ونحوه، ومنه سمي السفط الذي توضع فيه الكتب قمطرا وهو كالمحفظة.
وميم قمطرير أصلية فوزنه فعلليل مثل خَنْدَرِيس وزَنْجبيل، يقال: قمطر للشر، إذا تهيأ له وجمع نفسه.
والجمهور جعلوا {قمطريراً} وصف {يوماً} ومنهم من جعلوه وصف {عبوساً} أي شديد العبوس.
وهذه الآية تعمّ جميع الأبرار وعلى ذلك التحم نسجها، وقد تلقفها القصاصون والدعاة فوضعوا لها قصصاً مختلفة وجاؤوا بأخبار موضوعة وأبيات مصنوعة فمنهم من زعم أن هذه الآية نزلت في علي بن أبي طالب وفاطمة رضي الله عنهما في قصة طويلة ذكرها الثعلبي والنقاش وساقها القرطبي بطولها ثم زيفها.
وذكر عن الحكيم الترمذي أنه قال في (نوادر الأصول): هذا حديث مروّق مزيف وأنه يشبه أن يكون من أحاديث أهل السجون.
وقيل نزلت في مُطعم بن ورقاء الأنصاري، وقيل في رجل غيره من الأنصار، وقد استوفى ذلك كله القرطبي في تفسيره فلا طائل تحت اجتلابه، وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وآله أهل لأن ينزل القرآن فيهم إلاّ أن هذه الأخبار ضعيفة أو موضوعة.
{فوقاهم الله شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا (11)}
تفريع على قوله: {يُوفُون بالنذر إلى قمطريراً} [الإنسان: 7 10].
وفي هذا التفريع تلوين للحديث عن جزاء الأبرار وأهل الشُكور، وهذا برزخ للتخلص إلى عَود الكلام على حسن جزائهم أن الله وقاهم شرّ ذلك اليوم وهو الشر المستطير المذكور آنفاً، وقاهم إياه جزاءً على خوفهم إياه وأنه لقاهم نضرة وسروراً جزاء على ما فعلوا من خير.
وأُدمج في ذلك قوله: {بما صبروا} الجامع لأحوال التقوى والعمل الصالح كله لأن جميعه لا يخلو عن تحمل النفس لترك محبوب أو فعل ما فيه كلفة، ومن ذلك إطعام الطعام على حبه.
و {لقَّاهم} معناه: جعلهم يَلْقَون نضرة وسروراً، أي جعل لهم نضرة وهي حسن البشَرة، وذلك يحصل من فرح النفس ورفاهية العيش قال تعالى: {وجوه يومئذٍ ناضرة} [القيامة: 22] فمُثل إلقاء النضرة على وجوههم بزجّ أحد إلى لقاء أحد على طريقة التمثيل.
وضمير الغائبةِ و{نضرة} مفعولا (لَقى) من باب كَسَا.
وبين (وَقَاهم) و{لَقَّاهم} الجناس المحرَّف.
وجملة {وجزاهم بما صبروا جنةً وحريراً}، عطف على جملة {فوقاهم} وجملة {ولقاهم} لتماثل الجمل الثلاث في الفعلية والمُضيّ وهما محسنان من محسنات الوصل.
والحرير: اسم لخيوط من مفرزات دودة مخصوصة، وتقدم الكلام عليه في سورة فاطر.
وكان الجزاء برفاهية العيش إذ جعلهم في أحسن المساكن وهو الجنة، وكساهم أحسن الملابس وهو الحرير الذي لا يلبسه إلاّ أهل فرط اليسار، فجمع لهم حسن الظرف الخارج وحسن الظرف المباشر وهو اللباس.
والمراد بالحرير هنا: ما ينسج منه.
و {متكئين}: حال من ضمير الجمع في {جزاهم}، أي هم في الجنة متكئون على الأرائك.
والاتكاء: جَلسة بين الجلوس والاضطجاع يستند فيها الجالس على مرفقه وجنبه ويمد رجليه وهي جلسة ارتياح، وكانت من شعار الملوك وأهل البذخ، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: «أمَّا أنا فلا آكل متكئاً» وتقدم ذلك في سورة يوسف (31) عند قوله تعالى: {وأعْتَدَتْ لَهُن مُتَّكَئاً}
و {الأرائك}: جمع أريكة بوزن سفينة.
والأريكة: سرير عليه وسادة معها ستر وهو حَجَلتُه، والحجلة بفتحتين وبتقديم الحاء المهملة على الجيم: كِلَّة تنصب فوق السرير لتقي الحر والشمس، ولا يسمى السرير أريكة إلاّ إذا كان معه حَجَلة.
وقيل: كل ما يتوسد ويفترش مما له حشو يسمى أريكة وإن لم تكن له حَجَلة، وفي (الإِتقان) عن ابن الجوزي: أن الأريكة السرير بالحبشية فزاده السيوطي على أبيات ابن السبكي وابن حجر في (جمع المعرب في القرآن).
وجملة: {لا يرون فيها شمساً ولا زمهريراً} حال ثانية من ضمير الغائب في {جزاهم} أو صفة {جنة}.
والمراد بالشمس: حرّ أشعتها، فنفي رؤية الشمس في قوله: {لا يرون فيها شمساً} فيكون نفي رؤية الشمس كناية عن نفي وجود الشمس الذي يلزمه انتفاء حرّ شعاعها فهو من الكناية التلويحية كقوله:
ولا تَرى الضب بها ينجَحِرْ

أي لا ضب بها فتراه ولا يكون انجحاره.
والزمهرير: اسم للبرْد القوي في لغة الحجاز، والزمهرير: اسم البرد.
والمعنى: أن هواء الجنة معتدل لا ألم فيه بحال.
وفي كلام الرابعة من نساء حديث أم زرع «زوجي كلَيْللِ تِهامهْ، لا حرَّ ولا قُرّ ولا مخافةَ ولا سآمهْ».
وقال ثعلب: الزمهرير اسم القمر في لغة طيء، وأنشد:
وليلة ظلامها قد اعتكر ** قطعتها والزمهريرُ ما زَهَر

والمعنى على هذا: أنهم لا يرون في الجنة ضوء الشمس ولا ضوء القمر، أي ضوء النهار وضوء الليل لأن ضياء الجنة من نور واحد خاص بها.
وهذا معنى آخر غير نفي الحر والبرد.
ومن الناس من يقول: المراد بالشمس حقيقتها وبالزمهرير البرد وإن في الكلام احتباكاً، والتقديرُ: لا يرون فيها شمساً ولا قَمراً ولا حَرّاً ولا زمهريراً وجعلوه مثالاً للاحتباك في المحسنات البديعية، ولعل مراده: أن المعنى أن نورها معتدل وهواءَها معتدل.
{ودانية عليهم ظلالها} انتصب {دانية} عطفاً على {متكئين} لأن هذا حال سببي من أحوال المتكئين، أي ظلال شجر الجنة قريبَة منهم.
و {ظلالها} فاعل {دانية} وضمير {ظلالها} عائد إلى {جنة}.
ودنو الظلال: قربها منهم وإذ لم يعهد وصف الظل بالقرب يظهر أن دنوّ الظلال كناية عن تدلّي الأدواح التي من شأنها أن تظلل الجنات في معتاد الدنيا ولكن الجنة لا شمس فيها فيستظلَّ من حرّها، فتعين أن تركيب {دانية عليهم ظلالُها} مثَل يطلق على تدلِّي أفنان الجنة لأن الظل المظلل للشخص لا يتفاوت بدنوّ ولا بعد، وقد يكون {ظلالها} مجازاً مرسلاً عن الأفنان بعلاقة اللزوم.
والمعنى: أن أدواح الجنة قريبة من مجالسهم وذلك مما يزيدها بهجة وحسناً وهو في معنى قوله تعالى: {قُطُوفها دانية} [الحاقة: 23].
ولذلك عطف عليه جملة {وذللت قطوفها تذليلاً}.
أي سخرت لهم قطوف تلك الأدواح وسهلت لهم بحيث لا التواء فيها ولا صلابة تتعب قاطفها ولا يتمطَّون إليها بل يجتنونها بأسهللِ تناول.
فاستعير التذليل للتيسير كما يقال: فرس ذَلول: أي مِطواع لراكبه، وبقرة ذَلول، أي ممرنة على العمل، وتقدم في سورة البقرة.
والقُطوف: جمع قِطف بكسر القاف وسكون الطاء، وهو العنقود من التمر أو العنب، سمّي قِطفاً بصيغة من صيغ المفعول مثل ذِبح، لأنه يقصد قَطفه فإطلاق القطف عليه مجاز باعتبار المآل شاع في الكلام.
وضمير {قطوفها} عائد إلى {جنة} أو إلى {ظلالها} باعتبار الظلال كناية عن الأشجار.
و {تذليلاً} مصدر مؤكّد لذلك، أي تذليلاً شديداً منتهياً. اهـ.

.قال الشوكاني في الآيات السابقة:

{هَلْ أَتَى عَلَى الإنسان حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا (1)}
حكى الواحدي عن المفسرين، وأهل المعاني أن {هَلُ} هنا بمعنى قد، وليس باستفهام، وقد قال بهذا سيبويه، والكسائي، والفراء، وأبو عبيدة.
قال الفراء: هل تكون جحداً، وتكون خبراً، فهذا من الخبر؛ لأنك تقول: هل أعطيتك تقرّره بأنك أعطيته، والجحد أن تقول: هل يقدر أحد على مثل هذا وقيل: هي وإن كانت بمعنى قد، ففيها معنى الاستفهام، والأصل: أهل أتى، فالمعنى: أقد أتى، والاستفهام للتقرير والتقريب، والمراد بالإنسان هنا آدم، قاله قتادة، والثوري، وعكرمة، والسديّ وغيرهم {حِينٌ مّنَ الدهر} قيل: أربعون سنة قبل أن ينفخ فيه الروح.
وقيل: إنه خلق من طين أربعين سنة، ثم من حمأ مسنون أربعين سنة، ثم من صلصال أربعين سنة، فتم خلقه بعد مائة وعشرين سنة.
وقيل: الحين المذكور هنا لا يعرف مقداره.
وقيل المراد بالإنسان بنو آدم، والحين مدّة الحمل، وجملة: {لَمْ يَكُن شَيْئاً مَّذْكُوراً} في محل نصب على الحال من الإنسان، أو في محل رفع صفة لحين.
قال الفراء، وقطرب، وثعلب: المعنى أنه كان جسداً مصوّراً تراباً وطيناً لا يذكر، ولا يعرف ولا يدرى ما اسمه، ولا ما يراد به، ثم نفخ فيه الروح فصار مذكوراً.
وقال يحيى بن سلام: لم يكن شيئًا مذكوراً في الخلق، وإن كان عند الله شيئًا مذكوراً.
وقيل: ليس المراد بالذكر هنا الإخبار، فإن إخبار الربّ عن الكائنات قديم، بل هو الذكر بمعنى الخطر والشرف، كما في قوله: {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ} [الزخرف: 44].
قال القشيري: ما كان مذكوراً للخلق وإن كان مذكوراً لله سبحانه.
قال الفراء: كان شيئًا ولم يكن مذكوراً.
فجعل النفي متوجهاً إلى القيد.
وقيل المعنى: قد مضت أزمنة وما كان آدم شيئًا، ولا مخلوقاً ولا مذكوراً لأحد من الخليقة.
وقال مقاتل: في الكلام تقديم وتأخير، وتقديره: هل أتى حين من الدهر لم يكن شيئًا مذكوراً؛ لأنه خلقه بعد خلق الحيوان كله، ولم يخلق بعده حيوان.
{إِنَّا خَلَقْنَا الإنسان مِن نُّطْفَةٍ} المراد بالإنسان هنا: ابن آدم.
قال القرطبي: من غير خلاف، والنطفة: الماء الذي يقطر، وهو المنيّ، وكل ماء قليل في وعاء فهو نطفة، وجمعها نطف، و{أَمْشَاجٍ} صفة لنطفة، وهي جمع مشج أو مشيج، وهي الأخلاط، والمراد: نطفة الرجل ونطفة المرأة واختلاطهما.
يقال: مشج هذا بهذا، فهو ممشوج، أي: خلط هذا بهذا فهو مخلوط.
قال المبرد: مشج يمشج إذا اختلط، وهو هنا اختلاط النطفة بالدم.
قال رؤبة بن العجاج:
يطرحن كل معجل مشاج ** لم يكس جلداً من دم أمشاج

قال الفراء: أمشاج: اختلاط ماء الرجل وماء المرأة، والدم والعلقة، ويقال مشج هذا: إذا خلط.
وقيل الأمشاج: الحمرة في البياض والبياض في الحمرة.
قال القرطبي: وهذا قول يختاره كثير من أهل اللغة.
قال الهذلي:
كأن الريش والفوقين منه ** حلاف النصل نيط به مشيج

وذلك لأن ماء الرجل أبيض غليظ، وماء المرأة أصفر رقيق، فيخلق منهما الولد.
قال ابن السكيت: الأمشاج: الأخلاط لأنها ممتزجة من أنواع يخلق الإنسان منها وطباع مختلفة.
وقيل: الأمشاج لفظ مفرد كبرمة أعشار، ويؤيد هذا وقوعه نعتاً لـ: {نطفة}، وجملة: {نبتليه} في محل نصب على الحال من فاعل {خلقنا}، أي: مريدين ابتلاءه، ويجوز أن يكون حالاً من {الإنسان}، والمعنى: نبتليه بالخير والشرّ وبالتكاليف.
قال الفراء: معناه والله أعلم {جعلناه سَمِيعاً بَصِيراً} نبتليه، وهي: مقدّمة معناها التأخير؛ لأن الابتلاء لا يقع إلاّ بعد تمام الخلقة، وعلى هذا تكون هذه الحال مقدّرة.
وقيل: مقارنة.
وقيل: معنى الابتلاء: نقله من حال إلى حال على طريقة الاستعارة، والأوّل أولى.
ثم ذكر سبحانه أنه أعطاه ما يصحّ معه الابتلاء، فقال: {إِنَّا هديناه السبيل إِمَّا شاكراً وَإِمَّا كفوراً} أي: بينا له، وعرّفناه طريق الهدى والضلال، والخير والشرّ، كما في قوله: {وهديناه النجدين} [البلد: 10] قال مجاهد: أي بينا السبيل إلى الشقاء والسعادة.
وقال الضحاك، والسديّ، وأبو صالح: السبيل هنا خروجه من الرحم.
وقيل: منافعه ومضارّه التي يهتدي إليها بطبعه وكمال عقله، وانتصاب {شاكراً} و{كفوراً} على الحال من مفعول، {هديناه} أي: مكناه من سلوك الطريق في حالتيه جميعاً.
وقيل: على الحال من سبيل على المجاز، أي: عرّفناه السبيل إما سبيلاً شاكراً وإما سبيلاً كفوراً.
وحكى مكيّ عن الكوفيين أن قوله: {إمّا} هي إن شرطية زيدت بعدها ما، أي: بينا له الطريق إن شكر وإن كفر.
واختار هذا الفرّاء، ولا يجيزه البصريون؛ لأن إن الشرطية لا تدخل على الأسماء إلا أن يضمر بعدها فعل، ولا يصح هنا إضمار الفعل؛ لأنه كان يلزم رفع {شاكراً} و{كفوراً}.
ويمكن أن يضمر فعل ينصب {شاكراً} و{كفوراً}، وتقديره: إن خلقناه شاكراً فشكور، وإن خلقناه كافراً فكفور، وهذا على قراءة الجمهور: {إما شاكراً وإما كفوراً} بكسر همزة إما.
وقرأ أبو السماك، وأبو العجاج بفتحها، وهي على الفتح إما العاطفة في لغة بعض العرب، أو هي التفصيلية، وجوابها مقدّر.
وقيل: انتصب {شاكراً} و{كفوراً} بإضمار كان، والتقدير: سواء كان شاكراً أو كان كفوراً.
ثم بيّن سبحانه ما أعدّ للكافرين فقال: {إِنَّا أَعْتَدْنَا للكافرين سلاسل وأغلالا وَسَعِيراً} قرأ نافع، والكسائي، وأبو بكر عن عاصم، وهشام عن ابن عامر: {سلاسلاً} بالتنوين، ووقف قنبل عن ابن كثير، وحمزة بغير ألف، والباقون وقفوا بالألف.
ووجه من قرأ بالتنوين في {سلاسل} مع كون فيه صيغة منتهى الجموع أنه قصد بذلك التناسب؛ لأن ما قبله وهو: {إِمَّا شاكراً وَإِمَّا كفوراً}، وما بعده وهو: {أغلالا وَسَعِيراً} منوّن، أو على لغة من يصرف جميع ما لا ينصرف، كما حكاه الكسائي، وغيره من الكوفيين عن بعض العرب.
قال الأخفش: سمعنا من العرب من يصرف كل ما لا ينصرف؛ لأن الأصل في الأسماء الصرف، وترك الصرف لعارض فيها.
قال الفراء: هو على لغة من يجرّ الأسماء كلها إلاّ قولهم: هو أظرف منك، فإنهم لا يجرّونه، وأنشد ابن الأنباري في ذلك قول عمرو بن كلثوم:
كأن سيوفنا فينا وفيهم ** مخاريق بأيدي لاعبينا

ومن ذلك قول الشاعر:
وإذا الرجال رأوا يزيد رأيتهم ** خضع الرقاب نواكس الأبصار

بكسر السين من نواكس، وقول لبيد:
وحسور أستار دعوني لحتفها ** بمعالق متشابه أعلاقها

وقوله أيضاً:
فضلاً وذو كرم يعين على الندى ** سمح لشوب رغائب غنامها

وقيل: إن التنوين لموافقة رسم المصاحف المكية والمدنية والكوفية فإنها فيها بالألف.
وقيل: إن هذا التنوين بدل من حرف الإطلاق، ويجري الوصل مجرى الوقف، والسلاسل قد تقدّم تفسيرها، والخلاف فيها هل هي القيود، أو ما يجعل في الأعناق، كما في قول القائل:.........................................ولكن ** أحاطت بالرقاب السلاسل والأغلال

جمع غلّ تغلّ به الأيدي إلى الأعناق.
والسعير: الوقود الشديد، وقد تقدّم تفسير السعير، ثم ذكر سبحانه ما أعدّه للشاكرين، فقال: {إِنَّ الأبرار يشربونَ مِن كَأْسٍ} الأبرار: أهل الطاعة والإخلاص، والصدق، جمع برّ أو بارّ.
قال في الصحاح: جمع البرّ الأبرار، وجمع البارّ البررة، وفلان يبرّ خالقه ويبرره، أي: يطيعه.
وقال الحسن: البرّ الذي لا يؤذي الذر.
وقال قتادة: الأبرار الذين يؤدون حق الله ويوفون بالنذر.
والكأس في اللغة هو الإناء الذي فيه الشراب، وإذا لم يكن فيه الشراب لم يسمّ كأساً، ولا وجه لتخصيصه بالزجاجة، بل يكون من الزجاج ومن الذهب والفضة والصيني وغير ذلك، وقد كانت كاسات العرب من أجناس مختلفة، وقد يطلق الكأس على نفس الخمر، كما في قول الشاعر:
وكأس شربت على لذة ** وأخرى تداويت منها بها

{كَانَ مِزَاجُهَا كافورا} أي: يخالطها، وتمزج به، يقال: مزجه يمزجه مزجاً، أي: خلطه يخلطه خلطاً، ومنه قول الشاعر:
كأن سبية من بيت رأس ** كان مزاجها عسل وماء

ومنه قول عمرو بن كلثوم:
صددت الكأس عنا أمّ عمرو ** وكان الكأس مجراها اليمينا

معتقة كأن الخصّ فيها ** إذا ما الماء خالطها سخينا

ومنه مزاج البدن، وهو ما يمازجه من الأخلاط، والكافور قيل: هو اسم عين في الجنة يقال لها: الكافوري تمزج خمر الجنة بماء هذه العين.
وقال قتادة، ومجاهد: تمزج لهم بالكافور وتختم لهم بالمسك.
وقال عكرمة: مزاجها طعمها.
وقيل: إنما الكافور في ريحها لا في طعمها.
وقيل: إنما أراد الكافور في بياضه وطيب رائحته وبرده، لأن الكافور لا يشرب، كما في قوله: {حتى إِذَا جَعَلَهُ نَاراً} [الكهف: 96] أي: كنار.
وقال ابن كيسان: طيبها المسك والكافور والزنجبيل.
وقال مقاتل: ليس هو كافور الدنيا، وإنما سمى الله ما عنده بما عندكم حتى تهتدي له القلوب، والجملة في محل جرّ صفة لكأس.
وقيل: إن كان هنا زائدة أي: من كأس مزاجها كافوراً.
{عيناً يشرب بها عِبَادُ الله} انتصاب {عيناً} على أنها بدل من {كافوراً}؛ لأن ماءها في بياض الكافور.
وقال مكي: إنها بدل من محل {مِن كَأْسٍ} على حذف مضاف كأنه قيل: يشربون خمراً خمر عين.
وقيل: إنها منتصبة على أنها مفعول {يشربون} أي: عيناً من كأس، وقيل: هي منتصبة على الاختصاص، قاله الأخفش.
وقيل: منتصبة بإضمار فعل يفسره ما بعده، أي: يشربون عيناً يشرب بها عباد الله، والأوّل أولى، وتكون جملة {يشرب بها عِبَادُ الله} صفة ل {عيناً}.
وقيل: إن الباء في {يشرب بها} زائدة.
وقيل: بمعنى من قاله الزجاج، ويعضده قراءة ابن أبي عبلة {يشربها عباد الله}.
وقيل: إن يشرب مضمن معنى يلتذّ.
وقيل: هي متعلقة ب {يشرب}، والضمير يعود إلى الكأس.
وقال الفراء: {يشربها} و{يشرب بها} سواء في المعنى، وكأنّ يشرب بها يروى بها، وينتفع بها وأنشد قول الهذلي:
شربن بماء البحر ثم ترفعت

قال: ومثله تكلم بكلام حسن، وتكلم كلاماً حسناً {يُفَجّرُونَهَا تَفْجِيراً} أي: يجرونها إلى حيث يريدون، وينتفعون بها كما يشاءون، ويتبعهم ماؤها إلى كل مكان يريدون وصوله إليه، فهم يشقونها شقاً، كما يشقّ النهر ويفجر إلى هنا وهنا.
قال مجاهد: يقودونها حيث شاءوا، وتتبعهم حيث مالوا مالت معهم، والجملة صفة أخرى ل {عيناً}، وجملة {يُوفُونَ بالنذر} مستأنفة مسوقة لبيان ما لأجله رزقوا ما ذكر، وكذا ما عطف عليها، ومعنى النذر في اللغة: الإيجاب، والمعنى: يوفون بما أوجبه الله عليهم من الطاعات.
قال قتادة، ومجاهد: يوفون بطاعة الله من الصلاة والحج ونحوهما.
وقال عكرمة: يوفون إذا نذروا في حق الله سبحانه، والنذر في الشرع ما أوجبه المكلف على نفسه، فالمعنى: يوفون بما أوجبوه على أنفسهم.
قال الفراء: في الكلام إضمار، أي: كانوا يوفون بالنذر في الدنيا.
وقال الكلبي: يوفون بالعهد، أي: يتممون العهد.
والأولى حمل النذر هنا على ما أوجبه العبد على نفسه من غير تخصيص {ويخافون يَوْماً كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً} المراد يوم القيامة، ومعنى استطارة شرّه: فشوّه وانتشاره، يقال: استطار يستطير استطارة، فهو مستطير، وهو استفعل من الطيران، ومنه قول الأعشى:
فباتت وقد أثارت في الفؤا ** د صدعاً على نأيها مستطيرا

والعرب تقول: استطار الصدع في القارورة والزجاجة: إذا امتدّ، ويقال استطار الحريق: إذا انتشر.
قال الفراء: المستطير المستطيل.
قال قتادة: استطار شرّ ذلك اليوم حتى ملأ السماوات، والأرض.
قال مقاتل: كان شرّه فاشياً في السموات، فانشقت وتناثرت الكواكب وفزعت الملائكة، وفي الأرض نسفت الجبال وغارت المياه.
{وَيُطْعِمُونَ الطعام على حُبه مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً} أي: يطعمون هؤلاء الثلاثة الأصناف الطعام على حبه لديهم وقلته عندهم.
قال مجاهد: على قلته، وحبهم إياه وشهوتهم له؛ فقوله: {على حبه} في محل نصب على الحال، أي: كائنين على حبه، ومثله قوله: {لَن تَنَالُواْ البر حتى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ} [آل عمران: 92] وقيل: على حبّ الإطعام لرغبتهم في الخير.
قال الفضيل بن عياض: على حب إطعام الطعام.
وقيل: الضمير في حبه يرجع إلى الله أي: يطعمون الطعام على حبّ الله، أي: يطعمون إطعاماً كائناً على حبّ الله، ويؤيد هذا قوله: {إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ الله} والمسكين ذو المسكنة، وهو الفقير، أو من هو أفقر من الفقير، والمراد باليتيم يتامى المسلمين، والأسير الذي يؤسر فيحبس.
قال قتادة، ومجاهد: الأسير المحبوس.
وقال عكرمة: الأسير العبد.
وقال أبو حمزة الثمالي: الأسير المرأة.
قال سعيد بن جبير: نسخ هذا الإطعام آية الصدقات، وآية السيف في حق الأسير الكافر.
وقال غيره: بل هي محكمة، وإطعام المسكين واليتيم على التطوّع، وإطعام الأسير لحفظ نفسه إلى أن يتخير فيه الإمام.
وجملة: {إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ الله} في محل نصب على الحال بتقدير القول، أي: يقولون إنما نطعمكم، أو قائلين إنما نطعمكم يعني: أنهم لا يتوقعون المكافأة ولا يريدون ثناء الناس عليهم بذلك.
قال الواحدي: قال المفسرون: لم يستكملوا بهذا، ولكن علمه الله من قلوبهم فأثنى عليهم، وعلم من ثنائه أنهم فعلوا ذلك خوفاً من الله ورجاء ثوابه {لاَ نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاء وَلاَ شُكُوراً} أي: لا نطلب منكم المجازاة على هذا الإطعام، ولا نريد منكم الشكر لنا، بل هو خالص لوجه الله، وهذه الجملة مقرّرة لما قبلها؛ لأن من أطعم لوجه الله لا يريد المكافأة، ولا يطلب الشكر له ممن أطعمه.
{إِنَّا نَخَافُ مِن رَّبّنَا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً} أي: نخاف عذاب يوم متصف بهاتين الصفتين، ومعنى {عَبُوساً}: أنه يوم تعبس فيه الوجوه من هوله وشدته، فالمعنى: أنه ذو عبوس.
قال الفراء، وأبو عبيدة، والمبرد: يوم قمطرير وقماطر: إذا كان صعباً شديداً، وأنشد الفراء:
بني عمنا هل تذكرون بلاءنا ** عليكم إذا ما كان يوم قماطر

قال الأخفش: القمطرير أشد ما يكون من الأيام وأطوله في البلاء، ومنه قول الشاعر:
ففرّوا إذا ما الحرب ثار غبارها ** ولج بها اليوم العبوس القماطر

قال الكسائي: اقمطرّ اليوم وازمهرّ: إذا كان صعباً شديداً، ومنه قول الشاعر:
بنو الحرب أوصينا لهم بقمطرة ** ومن يلق منا ذلك اليوم يهرب

وقال مجاهد: إن العبوس بالشفتين، والقمطير بالجبهة والحاجبين، فجعلهما من صفات المتغير في ذلك اليوم لما يراه من الشدائد، وأنشد ابن الأعرابي:
يقدر على الصيد بعود منكسر ** ويقمطر ساعة ويكفهر

قال أبو عبيدة: يقال: قمطرير، أي: منقبض ما بين العينين والحاجبين.
قال الزجاج: يقال اقمطرت الناقة: إذا رفعت ذنبها وجمعت قطريها ورمت بأنفها ما يسبقها من القطر، وجعل الميم مزيدة.
{فوقاهم الله شَرَّ ذَلِكَ اليوم} أي: دفع عنهم شرّه بسبب خوفهم منه وإطعامهم لوجهه {ولقاهم نَضْرَةً وَسُرُوراً} أي: أعطاهم بدل العبوس في الكفار نضرة في الوجود وسروراً في القلوب.
قال الضحاك: والنضرة البياض والنقاء في وجوههم.
وقال سعيد بن جبير: والحسن والبهاء.
وقيل: النضرة أثر النعمة.
{وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُواْ} أي: بسبب صبرهم على التكاليف.
وقيل: على الفقر.
وقيل: على الجوع.
وقيل: على الصوم.
والأولى حمل الآية على الصبر على كل شيء يكون الصبر عليه طاعة لله سبحانه، و(ما) مصدرية، والتقدير: بصبرهم {جَنَّةً وَحَرِيراً} أي: أدخلهم الجنة وألبسهم الحرير، وهو لباس أهل الجنة عوضاً عن تركه في الدنيا امتثالاً لما ورد في الشرع من تحريمه، وظاهر هذه الآيات العموم في كلّ من خاف من يوم القيامة وأطعم لوجه الله وخاف من عذابه، والسبب وإن كان خاصاً، كما سيأتي، فالاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، ويدخل سبب التنزيل تحت عمومها دخولاً أوّلياً.
وقد أخرج ابن المنذر عن ابن عباس في قوله: {هَلْ أتى عَلَى الإنسان} قال: كل إنسان.
وأخرج عبد بن حميد، وابن المنذر عن ابن مسعود في قوله: {أَمْشَاجٍ} قال: أمشاجها عروقها.
وأخرج سعيد بن منصور، وابن أبي حاتم {أَمْشَاجٍ} قال: العروق.
وأخرج عبد بن حميد، وابن أبي حاتم عن ابن عباس {مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ} قال: ماء الرجل وماء المرأة حين يختلطان.
وأخرج ابن المنذر، وابن أبي حاتم عنه قال: {أَمْشَاجٍ} ألوان: نطفة الرجل بيضاء وحمراء، ونطفة المرأة خضراء وحمراء.
وأخرج ابن أبي حاتم عنه أيضاً قال: الأمشاج الذي يخرج على أثر البول كقطع الأوتار، ومنه يكون الولد.
وأخرج ابن المنذر، وابن أبي حاتم عنه أيضاً {كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً} قال: فاشياً.
وأخرج عبد الرزاق، وابن المنذر عنه أيضاً في قوله: {وَأَسِيراً} قال: هو المشرك.
وأخرج ابن مردويه، وأبو نعيم عن أبي سعيد الخدري، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله: {مِسْكِيناً} قال: «فقيراً» {وَيَتِيماً} قال: «لا أب له» {وَأَسِيراً} قال: «المملوك والمسجون».
وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس في قوله: {وَيُطْعِمُونَ الطعام} الآية قال: نزلت هذه الآية في عليّ بن أبي طالب وفاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وأخرج ابن المنذر، وابن أبي حاتم عنه في قوله: {يَوْماً عَبُوساً} قال: ضيقاً {قَمْطَرِيراً} قال: طويلاً.
وأخرج ابن مردويه عن أنس بن مالك، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم في قوله: {يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً} قال: «يقبض ما بين الأبصار» وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر من طرق عن ابن عباس قال: القمطرير الرجل المنقبض ما بين عينيه ووجهه.
وأخرج ابن المنذر عنه {ولقاهم نَضْرَةً وَسُرُوراً} قال: نضرة في وجوههم، وسروراً في صدورهم. اهـ.

.تفسير الآيات (15- 18):

قوله تعالى: {وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوَابٍ كَانَتْ قَوَارِيرَا (15) قَوَارِيرَ مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوهَا تَقْدِيرًا (16) وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْسًا كَانَ مِزَاجُهَا زَنْجَبِيلًا (17) عَيْنًا فِيهَا تُسَمَّى سَلْسَبِيلًا (18)}

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
ولما كان الدوران بالآنية متجدداً، عبر فيه بالمضارع، وبناه للمفعول أيضاً لأنه المقصود مطلقاً من غير تعيين طائف فقال: {ويطاف} أي من أيّ طائف كان لكثرة الخدم {عليهم بآنية} جمع إناء جزاء على طوافهم على المحتاجين بما يصلحهم.
ولما كان مقصود هذه السورة ترهيب الإنسان الموبخ في سورة القيامة من الكفر، وكان الإنسان أدنى أسنان المخاطبين في مراتب الخطاب، اقتصر في الترغيب في شرف الآنية على الفضة دون الذهب المذكور في فاطر والحج المعبر فيهما بالناس، فلعل هذا لصنف وذاك لصنف- أعلى منه مع إمكان الجمع والمعاقبة، وأما من هو أعلى من هذين الصنفين من الذين آمنوا ومن فوقهم فلهم فوق هذين الجوهرين من الجواهر ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر فقال: {من فضة} أي اسمه ذلك، وأما الحقيقة فأين الثريا من يد المتناول.
ولما جمع الآنية خص فقال: {وأكواب} جمع كوب وهو كوز لا عروة له، فيسهل الشهرب منه من كل موضع فلا يحتاج عند التناول إلى إدارة {كانت} أي تلك الأكواب كوناً هو من جبلتها {قواريراً} أي كانت بصفة القوارير من الصفاء والرقة والشفوف والإشراق والزهارة، جمع قارورة وهي ما قر فيه الشراب ونحوه من كل إناء رقيق صاف، وقيل: هو خاص بالزجاج.
ولما كان هذا رأس آية، وكان التعبير بالقارورة ربما أفهم أو أوهم أنها من الزجاج، وكان في الزجاج من النقص سرعة الانكسار لإفراط الصلابة، قال معيداً للفظ أول الآية الثانية، تأكيداً للاتصاف بالصالح من أوصاف الزجاج وبياناً لنوعها: {قواريراً من فضة} أي فجمعت صفتي الجوهرين المتباينين: صفاء الزجاج وشفوفه وبريقه وبياض الفضة وشرفها ولينها، وقراءة من نوّن الاثنين صارفاً ما من حقه المنع مشيرة إلى عظمتها وامتداد كثرتها وعلوها في الفضل والشرف، وقراءة ابن كثير في الاقتصار على تنوين الأول للتنبيه على أنه رأس آية والثاني أول التي بعدها مع إفهام العظمة لأن الثاني إعادة للأول لما تقدم من الإفادة، فكأنه منون، ووقف أبو عمرو على الأول بالألف مع المنع من الصرف لأن ذلك كاف في الدلالة على أنه رأس آية.
ولما كان الإنسان لا يجب أن يكون الإناء ولا ما فيه من مأكول أو مشروب زائداً عن حاجته ولا ناقصاً عنها قال: {قدروها} أي في الذات والصفات {تقديراً} أي على مقادير الاحتياج من غير زيادة ولا نقص لأن ما أراد كل منها كان، لا كلفة ولا كدر ولا نقص.
ولما ذكر الأكواب، أتبعها غايتها فقال تخصيصاً بالعطف على ما تقديره: يسقون فيها ما تشتهي أنفسهم وتلذ أعينهم: {ويسقون} ممن أرادوه من خدمهم الذين لا يحصون كثرة {فيها} أي الجنة أو تلك الأكواب {كأساً} أي خمراً في إناء {كان مزاجها} على غاية الإحكام {زنجبيلاً} هو في غاية اللذة، وكانت العرب تستلذ الشراب الممزوج به لهضمه وتطييبه الطعم والنكهة.
ولما كان الزنجبيل عندنا شجراً يحتاج في تناوله إلى علاج، أبان أنه هناك عين لا يحتاج في صيرورته زنجبيلاً إلى أن تحيله الأرض بتخميره فيها حتى يصير شجراً ليتحول عن طعم الماء إلى طعم الزنجبيل خرقاً للعوائد فقال: {عيناً فيها} أي الجنة يمزج فيها شرابهم كما يمزج بالماء.
ولما كان الزنجبيل يلذع الحق فتصعب إساغته قال: {تسمى} أي لسهولة إساغتها ولذة طعمها وسمو وصفها {سلسبيلاً} والسلسبيل والسلسل والسلسال ما كان من الشراب غاية في السلاسة، زيدت فيه الباء دلالة على المبالغة في هذا المعنى، قالوا: وشراب الجنة في برد الكافور وطعم الزنجبيل وريح المسك من غير لذع. اهـ.

.من أقوال المفسرين:

.قال الفخر:

واعلم أنه تعالى لما وصف طعامهم ولباسهم ومسكنهم وصف بعد ذلك شرابهم وقدم عليه وصف تلك الأواني التي فيها يشربون فقال: {وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوَابٍ كَانَتْ قَوَارِيرَا (15)} في الآية سؤالات:
السؤال الأول:
قال تعالى: {وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ بصحاف مّن ذَهَبٍ وأكواب} [الزخرف: 71] والصحاف هي القصاع، والغالب فيها الأكل فإذا كان ما يأكلون فيه ذهباً فما يشربون فيه أولى أن يكون ذهباً لأن العادة أن يتنوق في إناء الشرب مالا يتنوق في إناء الأكل وإذا دلت هذه الآية على أن إناء شربهم يكون من الذهب فكيف ذكر هاهنا أنه من الفضة والجواب: أنه لا منافاة بين الأمرين فتارة يسقون بهذا وتارة بذاك.
السؤال الثاني:
ما الفرق بين الآنية والأكواب؟ الجواب: قال أهل اللغة: الأكواب الكيزان التي لا عرى لها، فيحتمل أن يكون على معنى أن الإناء يقع فيه الشرب كالقدح، والكوب ما صب منه في الإناء كالإبريق.
السؤال الثالث:
ما معنى {كانت}؟ الجواب: هو من يكون في قوله: {كُنْ فَيَكُونُ} [البقرة: 117] أي تكونت قوارير بتكوين الله تفخيماً لتلك الخلقة العجيبة الشأن الجامعة بين صفتي الجوهرين المتباينين.
السؤال الرابع:
كيف تكون هذه الأكواب من فضة ومن قوارير؟ الجواب: عنه من وجوه أحدها: أن أصل القوارير في الدنيا الرمل وأصل قوارير الجنة هو فضة الجنة فكما أن الله تعالى قادر على أن يقلب الرمل الكثيف زجاجة صافية، فكذلك هو قادر على أن يقلب فضة الجنة قارورة لطيفة، فالغرض من ذكر هذه الآية، التنبيه على أن نسبة قارورة الجنة إلى قارورة الدنيا كنسبة فضة الجنة إلى رمل الدنيا، فكما أنه لا نسبة بين هذين الأصلين، فكذا بين القارورتين في الصفاء واللطافة وثانيها: قال ابن عباس: ليس في الدنيا شيء مما في الجنة إلا الأسماء وإذا كان كذلك فكمال الفضة في بقائها ونقائها وشرفها إلا أنه كثيف الجوهر، وكمال القارورة في شفافيتها وصفائها إلا أنه سريع الانكسار، فآنية الجنة آنية يحصل فيها من الفضة بقاؤها ونقاؤها، وشرف جوهرها، ومن القارورة، صفاؤها وشفافيتها وثالثها: أنها تكون فضة ولكن لها صفاء القارورة، ولا يستبعد من قدرة الله تعالى الجمع بين هذين الوصفين ورابعها: أن المراد بالقوارير في الآية ليس هو الزجاج، فإن العرب تسمي ما استدار من الأواني التي تجعل فيها الأشربة ورق وصفاً قارورة، فمعنى الآية وأكواب من فضة مستديرة صافية رقيقة.
السؤال الخامس:
كيف القراءة في {قَوَارِيرَاْ قَوارِيرَ}؟ الجواب: قرئا غير منونين وبتنوين الأول وبتنوينهما، وهذا التنوين بدل عن ألف الإطلاق لأنه فاصلة، وفي الثاني لاتباعه الأول لأن الثاني بدل من الأول فيتبع البدل المبدل، وقرئ: {قَوارِيرَ مِن فِضَّةٍ} بالرفع على هي قوارير، و{قدروها} صفة لـ: {قوارير من فضة}.
أما قوله تعالى: {قَدَّرُوهَا تَقْدِيراً} ففيه مسألتان:
المسألة الأولى:
قال المفسرون معناه: {قَدَّرُوهَا تَقْدِيراً} على قدر ريهم لا يزيد ولا ينقص من الري ليكون ألذ لشربهم، وقال الربيع بن أنس: إن تلك الأواني تكون بمقدار ملء الكف لم تعظم فيثقل حملها.
المسألة الثانية:
أن منتهى مراد الرجل في الآنية التي يشرب منها الصفاء والنقاء والشكل.
أما الصفاء فقد ذكره الله تعالى بقوله: {كَانَتْ قَوَارِير} وأما النقاء فقد ذكره بقوله: {من فضة}، وأما الشكل فقد ذكره بقوله: {قَدَّرُوهَا تَقْدِيراً}.
المسألة الثالثة:
المقدر لهذا التقدير من هو؟ فيه قولان: الأول: أنهم هم الطائفون الذين دل عليهم قوله تعالى: {وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ} وذلك أنهم قدروا شرابها على قدر ري الشارب والثاني: أنهم هم الشاربون وذلك لأنهم إذا اشتهوا مقداراً من المشروب جاءهم على ذلك القدر.
واعلم أنه تعالى لما وصف أواني مشروبهم ذكر بعد ذلك وصف مشروبهم، فقال: {وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْسًا كَانَ مِزَاجُهَا زَنْجَبِيلًا (17)}
العرب كانوا يحبون جعل الزنجبيل في المشروب، لأنه يحدث فيه ضرباً من اللذع، فلما كان كذلك وصف الله شراب أهل الجنة بذلك، ولابد وأن تكون في الطيب على أقصى الوجوه.
قال ابن عباس: وكل ما ذكره الله تعالى في القرآن مما في الجنة، فليس منه في الدنيا إلا الاسم، وتمام القول هاهنا مثل ما ذكرناه في قوله: {كَانَ مِزَاجُهَا كافورا} [الإنسان: 5].
{عَيْنًا فِيهَا تُسَمَّى سَلْسَبِيلًا (18)} فيه مسائل:
المسألة الأولى:
قال ابن الأعرابي: لم أسمع السلسبيل إلا في القرآن، فعلى هذا لا يعرف له اشتقاق، وقال الأكثرون: يقال شراب سلسل وسلسال وسلسبيل أي عذب سهل المساغ، وقد زيدت الباء في التركيب حتى صارت الكلمة خماسية، ودلت على غاية السلاسة، قال الزجاج: السلسبيل في اللغة صفة لما كان في غاية السلاسة، والفائدة في ذكر السلسبيل هو أن ذلك الشراب يكون في طعم الزنجبيل، وليس فيه لذعة لأن نقيض اللذع هو السلاسة، وقد عزوا إلى علي بن أبي طالب عليه السلام أن معناه: سل سبيلاً إليها، وهو بعيد إلا أن يراد أن جملة قول القائل: {سلسبيلا} جعلت علماً للعين، كما قيل: تأبط شراً، وسميت بذلك، لأنه لا يشرب منها إلا من سأل إليها سبيلاً بالعمل الصالح.
المسألة الثانية:
في نصب {عيناً} وجهان أحدهما: أنه بدل من {زنجبيلاً} وثانيهما: أنه نصب على الاختصاص.
المسألة الثالثة:
{سلسبيلاً} صرف لأنه رأس آية، فصار كقوله: {الظنونا} [الأحزاب: 10] و{السبيلا} [الأحزاب: 67]، وقد تقدم في هذه السورة بيان ذلك. اهـ.

.قال القرطبي:

قوله تعالى: {وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِّن فِضَّةٍ وَأَكْوابٍ} أي يدور على هؤلاء الأبرار الخدم إذا أرادوا الشراب {بِآنِيَةٍ مِّن فِضَّةٍ} قال ابن عباس: ليس في الدنيا شيء مما في الجنة إلا الأسماء؛ أي ما في الجنة أشرف وأعلى وأنقى.
ثم لم تنف الأواني الذهبية بل المعنى يسقون في أواني الفضة، وقد يسقون في أواني الذهب.
وقد قال تعالى: {يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ مِّن ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ} [الزخرف: 71].
وقيل: نَبه بذكر الفضّة على الذهب؛ كقوله: {سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الحر} [النحل: 81] أي والبرد؛ فنبه بذكر أحدهما على الثاني.
والأكواب: الكِيزان العظام التي لا آذان لها ولا عُرًى، الواحد منها كوب؛ وقال عَدِيّ:
مُتَّكِئاً تُقْرَعُ أبوابه ** يَسْعَى عليهِ العبدُ بِالكُوبِ

وقد مضى في (الزخرف).
{كَانَتْ قَوَارِيرَاْ قَوَارِيرَاْ مِن فِضَّةٍ} أي في صفاء القوارير وبياض الفضة؛ فصفاؤها صفاء الزجاج وهي من فضّة.
وقيل: أرض الجنة من فضّة، والأواني تتخذ من تربة الأرض التي هي منها.
ذكره ابن عباس وقال: ليس في الجنة شيء إلا قد أعطيتم في الدنيا شبهه، إلا القوارير من فضة.
وقال: لو أخذت فضَّة من فضّة الدنيا فضربتها حتى تجعلها مثل جناح الذُّبَاب لم تر من ورائها الماء، ولكن قوارير الجنة مثل الفضّة في صفاء القوارير.
{قَدَّرُوهَا تَقْدِيراً} قراءة العامة بفتح القاف والدال؛ أي قَدّرها لهم السقاة الذين يطوفون بها عليهم.
قال ابن عباس ومجاهد وغيرهما: أتوا بها على قدر رِيِّهم، بغير زيادة ولا نقصان.
الكلبي: وذلك ألذ وأشهى؛ والمعنى: قدّرتها الملائكة التي تطوف عليهم.
وعن ابن عباس أيضاً: قدّروها على مِلء الكف لا تزيد ولا تنقص، حتى لا تؤذيهم بثقل أو بإفراط صغر.
وقيل: إن الشاربين قَدّروا لها مقادير في أنفسهم، على ما اشتهوا وقَدّروا.
وقرأ عبيد ابن عمير والشَّعْبي وابن سيرين {قُدِّروها} بضم القاف وكسر الدال؛ أي جعللت لهم على قدر إرادتهم.
وذكر هذه القراءة المهدويّ عن عليّ وابن عباس رضي الله عنهما؛ وقال: ومن قرأ: {قُدِّرُوهَا} فهو راجع إلى معنى القراءة الأخرى، وكأنّ الأصل قُدِّروا عليها فحذف الجر؛ والمعنى قُدِّرت عليهم؛ وأنشد سيبويه:
آلَيْتَ حَبَّ العِراقِ الدّهْرَ آكُلُهُ ** والْحَبُّ يأكلُه في القَرْيةِ السُّوسُ

وذهب إلى أن المعنى على حَبِّ العراق.
وقيل: هذا التقدير هو أن الأقداح تطير فتغترف بمقدار شهوة الشارب؛ وذلك قوله تعالى: {قَدَّرُوهَا تَقْدِيراً} أي لا يفضل عن الرِّيِّ ولا ينقص منه، فقد أُلْهِمت الأقداحُ معرفةَ مقدار رِيّ المشتهى حتى تغترف بذلك المقدار.
ذكر هذا القول الترمذيّ الحكيم في (نوادر الأصول).
قوله تعالى: {وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْساً} وهي الخمر في الإناء.
{كَانَ مِزَاجُهَا زَنجَبِيلاً} {كَانَ} صلة؛ أي مزاجها زنجبيل، أو كان في حكم الله زنجبيلاً.
وكانت العرب تستلذ من الشراب ما يُمزج بالزنجبيل لِطيب رائحتِه؛ لأنه يَحْذُو اللسان، ويهضم المأكول، فرغبوا في نعيم الآخرة بما اعتقدوه نهاية النَّعمة والطيب.
وقال المسيَّب بن عَلَس يصف ثَغْر المرأة:
وكَأنَّ طَعْمَ الزنجبِيلِ به ** إِذْ ذُقْتَهُ وَسَلاَفَةَ الخَمْرِ

ويروي: الكَرْم.
وقال آخر:
كَأَنَّ جَنِيًّا مِن الزَّنْجَبِي ** لِ بَاتَ بِفِيَها وأرْياً مشُوراً

ونحوه قول الأعشى:
كَأَنَّ القَرَنْفُلَ والزَّنْجَبِي ** لَ بَاتَا بِفيَها وأرياً مَشُوراً

وقال مجاهد: الزنجبيل اسم للعين التي منها مزاج شراب الأبرار.
وكذا قال قتادة: والزّنجبيل اسم العين التي يشرب بها المقربون صِرفاً وتمزج لسائر أهل الجنة.
وقيل: هي عين في الجنة يوجد فيها طعم الزنجبيل.
وقيل: إنّ فيه معنى الشراب الممزوج بالزنجبيل.
والمعنى كأنّ فيها زنجبيلاً.
{عيناً} بدل من {كأس}.
ويجوز أن ينتصب بإضمار فعل أي يسقون عيناً.
ويجوز نصبه بإسقاط الخفاض أي من عين على ما تقدم في قوله تعالى: {عيناً يشرب بها عِبَادُ الله}.
{فِيهَا} أي في الجنة {تسمى سَلْسَبِيلاً} السَّلْسبيل الشراب اللذيذ، وهو فَعْلَلِيل من السَّلاَلة؛ تقول العرب: هذا شراب سَلِسٌ وسَلْسَال وسَلْسَلٌ وسَلْسَبِيل بمعنىً؛ أي طيّب الطعم لذيذه.
وفي الصحاح: وتسلسل الماء في الحلق جرى، وسَلْسَلْتُه أنا صببته فيه، وماء سَلْسَل وسَلْسَال: سهل الدخول في الحلق لعذوبته وصفائه، والسلاسل بالضم مثله.
وقال الزجاج: السَّلْسَبيل في اللغة: اسم لما كان في غاية السَّلاَسة؛ فكأنّ العين سمّيت بصفتها.
وعن مجاهد قال: سَلْسَبيلا: حديدة الجَرْية تسيل في حلوقهم انسلالا.
ونحوه عن ابن عباس: إنها الحديدة الجَرْي.
ذكره الماورديّ؛ ومنه قول حسان بن ثابت رضي الله عنه:
يَسْقُونَ مَنْ وَرَدَ الْبَرِيصَ عليهمُ ** بَردَى يُصَفَّقُ بالرَّحيقِ السَّلْسَلِ

وقال أبو العالية ومقاتل: إنما سميّت {سَلْسَبيلاً}؛ لأنها تسيل عليهم في الطرق وفي منازلهم، تنبع من أصل العرش من جنة عدن إلى أهل الجنة.
وقال قتادة: سلسة منقاد ماؤها حيث شاؤوا.
ونحوه عن عِكرمة.
وقال القَفَّال: أي تلك عين شريفة فَسَلْ سَبِيلاً إليها.
وروي هذا عن عليّ رضي الله عنه.
وقوله: {تسمَّى} أي إنها مذكورة عند الملائكة وعند الأبرار وأهل الجنة بهذا الاسم.
وصرف سلسبيل؛ لأنه رأس آية؛ كقوله تعالى: {الظنونا} و{السَّبِيلاً}. اهـ.

.قال الألوسي:

{وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ بِئَانِيَةٍ}
جمع إناء ككساء واكسية وهو ما يوضع فيه الشيء والأواني جمع الجمع {مّن فِضَّةٍ وَأَكْوابٍ} جمع كوب وهو قدح لا عروة له كما قال الراغب وفي (القاموس) كوز لا عروة له أو لا خرطوم له وقيل الكوز العظيم الذي لا أدن له ولا عروة {كَانَتْ} أي تلك الأكواب {قَوَارِيرَاْ} جمع قارورة وهي إناء رقيق من الزجاج يوضع فيه الأشربة ونصبه على الحال فإن كان تامة وهو كما تقول خلقت قوارير وقوله تعالى: {قَوارِيرَ مِن فِضَّةٍ} بدل والكلام على التشبيه البليغ فالمراد تكونت جامعة بين صفاء الزجاجة وشفيفها ولين الفضة وبياضها وأخرج عبد الرازق وسعيد بن منصور والبيهقي عن ابن عباس قال لو أخذت فضة من فضة الدنيا فضربتها حتى جعلتها مثل جناح الذباب لم ير الماء من ورائها ولكن قوارير الجنة ببياض الفضة مع صفاء القوارير وأخرج ابن أبي حاتم عنه أنه قال ليس في الجنة شيء إلا قد أعطيتم في الدنيا شبهه إلا قوارير من فضة وقرأ نافع والكسائي وأبو بكر بتنوين قوارير في الموضعين وصلاً وإبداله ألفاً وقفا وابن كثير يمنع صرف الثاني ويصرف الأول لوقوعه في الفاصلة وآخر الآية وقف عليه بألف مشاكلة لغيره من كلمات الفواصل والتنوين عند الزمخشري في الأول: بدل من ألف الإطلاق كما في قوله:
يا صاح ما هاج العيون الذرفن

وفي الثاني: للاتباع فتذكر والقراءة بمنع صرفهما لحفص وابن عامر وحمزة وأبي عمرو وقرأ الأعمش الثاني {قوارير} بالرفع أي هي قوارير {قَدَّرُوهَا تَقْدِيراً} أي قدروا تلك القوارير في أنفسهم فجاءت حسب ما قدروا لا مزيد على ذلك ولا يمكن أن يقع زيادة عليه وفي معناه قول الطائي:
ولو صورت نفسك لم تزدها ** على ما فيك من كرم الطباع

فإنه ينبىء عن كون نفسه خلقت على أتم ما ينبغي من مكارم الصفات بحيث لا مزيد على ذلك فضمير قدروها للأبرار المطاف عليهم أو قدروا شرابها على قدر الري وهو ألذ للشارب قال ابن عباس أتوا بها على الحاجة لا يفضلون شيئاً ولا يشتهون بعدها شيئاً وعن مجاهد تقديرها أنها ليست بالملأى التي تفيض ولا بالناقصة التي تغيض فالضمير على ما هو الظاهر للسقاة الطائفين بها المدلول عليه بقوله تعالى: {يُطَافُ عَلَيْهِمْ} [الإنسان: 15] وقد روى عبد بن حميد وابن المنذر عن ابن عباس أنه قال قدرتها السقاة وقيل المعنى قدروها بأعمالهم الصالحة فجاءت على حسبها والضمير على هذا قيل للملائكة وقيل للسقاة وقرأ علي كرم الله تعالى وجهه وابن عباس والسلمي والشعبي وقتادة وزيد بن علي والجحدري والأصمعي عن أبي عمرو وابن عبد الخالق عن يعقوب وغيرهم {قدروها} على البناء للمفعول واختلف في تخريجها فقال أبو علي كان اللفظ قدروا عليها وفي المعنى قلب لأن حقيقته أن يقال قدرت عليهم فهو نحو قوله تعالى: {ما إن مفاتحه لتنوء بالعصبة أولى القوة} [القصص: 76] وقول العرب إذا طلعت الجوزاء ارتقى العود على الحرباء وقال الزمخشري: وجه ذلك أن يكون من قدرت الشيء بالتخفيف أي بينت مقداره فنقل إلى التفعيل فتعدى لاثنين أحدهما: الضمير النائب عن الفاعل والثاني: ها والمعنى جعلوا قادرين لها كما شاؤا وأطلق لهم أن يقدروا على حسب ما اشتهوا وقال أبو حاتم قدرت الأواني على قدر ريهم ففسر بعضهم هذا بأن في الكلام حذفاً وهو أنه كان قدر على قدر ريهم إياها فحذف على فصار قدر نائب الفاعل ثم حذف فصار ريهم نائب الفاعل ثم حذف وصاروا والجمع نائب الفاعل واتصل المفعول الثاني بقدر فصار قدروها وقال أبو حيان الأقرب أن يكون الأصل قدر ريهم منها تقديراً فحذف المضاف وهو الري وأقيم الضمير مقامه فصار قدروا منها ثم اتسع في الفعل فحذفت من ووصل الفعل إلى الضمير بنفسه فصار قدروها فلم يكن فيه إلا حذف مضاف واتساع في المجرور ولا يخفى أن القلب زيف وما قرره البعض تكلف جدًّا وفي كون ما اختاره أبو حيان أقرب مما اختاره جار الله نظر ولعله أكثر تكلفاً منه وقوله تعالى: {وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْساً كَانَ مِزَاجُهَا زَنجَبِيلاً عيناً فِيهَا تسمى سَلْسَبِيلاً} يجري فيه معظم ما جرى في قوله تعالى: {يشربونَ مِن كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كافورا} [الإنسان: 5] إلخ من الأوجه والزنجبيل قال الدينوري نبت في أرض عمان وهو عروق تسري في الأرض وليس بشجرة ومنه ما يحمل من بلاد الزنج والصين وهو الأجود وكانت العرب تحبه لأنه يوجب لذعاً في اللسان إذا مزج بالشراب فيلتذون ولذا يذكرونه في وصف رضاب النساء قال الأعشى:
كان القرنفل والزنجبيل ** باتا بفيها واريا مسورا

وقال عمر والمسيب بن علس:
وكان طعم الزنجبيل به ** إذ ذقته وسلافة الخمر

وعده بعضهم في المعربات وكون الزنجبيل اسما لعين في الجنة مروى عن قتادة وقال يشرب منها القربون صرفاً وتمزج لسائر أهل الجنة والظاهر أنهم تارة يشربون من كاس مزاجها كافور وتارة يسقون من كاس مزاجها زنجبيل ولعل ذكر {يسقون} هنا دون يشربون لأنه الأنسب بما تقدمه من قوله تعالى: {وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ} [الإنسان: 15] إلخ ويمكن أن يكون فيه رمز إلى أن هذه الكأس أعلى شأناً من الكأس الأولى وعن الكلبي يسقي بجامين الأول: مزاجه الكافور والثاني: مزاجه الزنجبيل والسلسبيل كالسلسل والسلسال قال الزجاج: ما كان من الشراب غاية في السلاسة وسهولة الانحدار في الحلق وقال ابن الأعرابي لم أسمع السلسبيل إلا في القرآن وكان العين إنما سميت بذلك لسلاستها وسهولة مساغها قال عكرمة: عين سلسل ماؤها وقال مجاهد: حديدة الجري سلسلة سهلة المساغ وقال مقاتل عين يتسلسل عليهم ماؤها في مجالسهم كيف شاؤا وهي على ما روي عن قتادة عين تنبع من تحت العرش من جنة عدن تتسلسل إلى الجنان وفي (البحر) الظاهر أن هذه العين تسمى سلسبيلاً بمعنى توصف بأنها سلسلة في الانسياغ سهلة في المذاق ولا يحمل سلسبيل على أنه اسم حقيقة لأنه إذ ذاك كان ممنوع الصرف للتأنيث والعلمية وقد روي عن طلحة أنه قرأه بغير ألف جعله علماً لها فإن كان علماً فوجه قراءة الجمهور بالتنوين المناسبة للفواصل كما قيل في {سلاسلاً} و{قواريراًْ} وزعم الزمخشري أن الباء زيدت فيه حتى صارت الكلمة خماسية فإن عنى أنها زيدت حقيقة فليس بجيد لأن الباء ليست من حروف الزيادة المعهودة وإن عنى أنها حرف جاء في سنح الكلمة وليس في سلسل ولا في سلسال صح ويكون مما اتفق معناه وكان مختلفاً في المادة انتهى.
وفي (الكشف) لا يريد الزيادة المصطلحة ألا ترى إلى قوله حتى صارت خماسية وهو أيضاً من الاشتقاق الأكبر فلا تغفل.
وقال بعض المعربين {سلسبيلاً} أمر للنبي صلى الله عليه وسلم ولامته بسؤال السبيل إليها وعزوه إلى علي كرم الله تعالى وجهه وهو غير مستقيم بظاهره إلا أن يراد أن جملة قول القائل {سلسبيلاً} جعلت اسماً للعين كما قيل تأبط شراً وذرى حباً وسميت بذلك لأنه لا يشرب منها إلا من سأل إليها سبيلاً بالعمل الصالح وهو مع استقامته في العربية تكلف وابتداع وعزوه إلى مثل الأمير كرم الله تعالى وجهه أبدع ونص بعضهم على أنه افتراء عليه كرم الله تعالى وجهه وفي شعر ابن مطران الشاشي:
سلسبيلاً فيها إلى راحة النفس ** براح كأنها سلسبيل

وفيه الجناس الملفق واستعمله غير واحد من المحدثين. اهـ.

.قال ابن عاشور:

{وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوَابٍ كَانَتْ قَوَارِيرَا (15)}
عطف على جملة {يشربون من كأس} [الإنسان: 5] إلخ كما اقتضاه التناسب بين جملة {يشربون} وجملة {يطاف عليهم} في الفعلية والمضارعية، وذلك من أحسن أحوال الوصل، عاد الكلام إلى صفة مجالس شرابهم.
وهذه الجملة بيان لما أجمل في جملة {إن الأبرار يشربون من كأس} [الإنسان: 5]، وإنما عطفت عليها لما فيها من مغايرة مع الجملة المعطوف عليها من صفة آنية الشراب، فلهذه المناسبة أعقب ذكر مجالس أهل الجنة ومُتكآتِهم، بذكر ما يستتبعه مما تعارفه أهل الدنيا من أحوال أهل البذخ والترف واللذات بشرب الخمر إذ يُدير عليهم آنية الخمر سقاةٌ.
وإذ قد كان ذلك معروفاً لم تكن حاجة إلى ذكر فاعل الطواف فبُني للنائب.
وهذا وعد لهم بإعطاء متمناهم في الدنيا مع مَزيد عليه من نعيم الجنة «ما لا عيْن رأت ولا خَطَر على قلب بَشَر».
والطواف: مشي مكرر حولَ شيءٍ أو بين أشياء، فلما كان أهل المتكأ جماعة كان دوران السقاء بهم طوافاً.
وقد سمَّوا سقي الخمر: إدَارةَ الخمرِ، أو إدارة الكأس.
والسَّاقي: مدير الكأس، أو مدير الجام أو نحو ذلك.
والآنية: جمع إِناء ممدوداً بوزن أفْعِلة مثل كساء وأكسية ووِعاء وأوعية اجتمع في أول الجمع همزتان مزيدة وأصلية فخففت ثانيتهمَا ألفاً.
والإِناء: اسم لكل وعاء يرتفق له، وقال الراغب: ما يوضع فيه الشيء ا.هـ.
فيظهر أنه يطلق على كل وعاء يقصد للاستعمال والمداولة للأطعمة والأشربة ونحوهما سواء كان من خشب أو معدن أو فَخار أو أديم أو زجاج، يوضع فيه ما يشرب أو ما يؤكل، أو يُطبخ فيه، والظاهر أنه لا يطلق على ما يجعل للخزن فليست القِربة بإناء ولا الباطيةُ بإناء، والكأسُ إناء والكوزُ إناء والإِبريق إناء والصحفة إناء.
والمراد هنا: آنية مجالس شرابهم كما يدل عليه ذكر الأكواب وذلك في عموم الآنية وما يوضع معه من نُقْل أو شِواء أو نحو ذلك كما قال تعالى في آية الزخرف (71) {يطاف عليهم بصِحاف من ذهب وأكواب}
وتشمل الآنية الكؤوسَ.
وذكر الآنِية بعد {كأس} [الإنسان: 5] من قوله: {إن الأبرار يشربون من كأس} [الإنسان: 5] من ذكر العام بعد الخاص إلاّ إذا أريد بالكأس الخمر.
والأكواب: جمع كوب بضم الكاف بعده واو ساكنة.
والكوب: كوز لا عروة له ولا خرطوم له، وتقدم في سورة الزخرف.
وعطف {أكواب} على (آنية) من عطف الخاص على العام لأن الأكواب تحمل فيها الخمر لإِعادة ملءِ الكؤوس.
ووصفت هنا بأنها من فضة، أي تأتيهم آنيتهم من فضة في بعض الأوقات ومن ذهب في أوقات أخرى كما دلّ عليه قوله في سورة الزخرف (71) {يطاف عليهم بصحاف من ذَهب وأكواب} لأن للذهب حسناً وللفضة حسناً فجعلت آنيتهم من المعدنين النفيسين لئلا يفوتهم ما في كل من الحسن والجمال، أو يطاف عليهم بآنية من فضة وآنية من ذهب متنوعة متزاوجة لأن ذلك أبهج منظراً مثل ما قال مرة {وحلّوا أساور من فضة} [الإنسان: 21]، ومرة {يُحَلّون فيها من أساور من ذهب} [الكهف: 31]، وذلك لإِدخال المسرَّة على أنفسهم بحسن المناظر فإنهم كانوا يتمنونها في الدنيا لِعزة وجودها أو وجود الكثير منها، وأوثر ذكر آنية الفضة هنا لمناسبة تشبيهها بالقوارير في البياض.
والقوارير: جمع قارورة، وأصل القارورة إناء شبه كوز، قيل: لا تسمى قارورة إلاّ إذا كانت من زجاج، وقيل مطلقاً وهو الذي ابتدأ به صاحب (القاموس).
وسميت قارورة اشتقاقاً من القرار وهو المكث في المكان وهذا وزن غريب.
والغالب أن اسم القارورة للإِناء من الزجاج، وقد يطلق على ما كان من زجاج وإن لم يكن إناء كما في قوله تعالى: {قال إنه صرح ممرّد من قوارير} [النمل: 44] وقد فسر قوله: {قواريراً} في هذه الآية بأنها شبيهة بالقوارير في صفاء اللون والرقة حتى كأنها تشفّ عما فيها.
والتنافس في رقة آنية الخمر معروف عند شاربيها قال الأعشى:
تريك القذى من دونها وهي دونه ** إذا ذاقها من ذاقها يتمطق

وفعل {كانت} هنا تشبيه بليغ، والمعنى: إنها مثل القوارير في شفيفها، وقرينة ذلك قوله: {من فضة}، أي هي من جنس الفضة في لون القوارير لأن قوله: {من فضة} حقيقة فإنه قال قبله {بآنية من فضة}.
ولفظ {قواريرا} الثاني، يجوز أن يكون تأكيداً لفظياً لنظيره لزيادة تحقيق أن لها رقة الزجاح فيكون الوقف على {قواريرا} الأول.
ويجوز أن يكون تكريراً لإِفادة التصنيف فإن حسن التنسيق في آنية الشراب من مكملات رونق مجلسه، فيكون التكرير مثل ما في قوله تعالى: {والمَلكُ صَفّاً صفّاً} [الفجر: 22] وقول الناس: قرأت الكتاب باباً باباً فيكون الوقف على {قواريراً} الثاني.
وكتب في المصحف {قواريرا قواريرا} بألف في آخر كلتا الكلمتين التي هي علامة تنوين.
وقرأ نافع والكسائي وأبو بكر عن عاصم وأبو جعفر {قواريرا} الأول والثاني منونين وتنوين الأول لمراعاة الكلمات الواقعة في الفواصل السابقة واللاحقةِ من قوله: {كافوراً} [الإنسان: 5] إلى قوله: {تقديرا} وتنوين الثاني للمزاوجة مع نظيره وهؤلاء وقفوا عليهما بالألف مثل أخواتهما وقد تقدم نظيره في قوله تعالى: {سلاسلا وأغلالاً} [الإنسان: 4].
وقرأ ابن كثير وخلف ورويس عن يعقوب {قوايراً} الأول بالتنوين ووقفوا عليه بالألف وهو جار على التوجيه الذي وجهنا به قراءة نافع والكسائي.
وقرأ {قواريرا} الثاني بغير تنوين على الأصل ولم تراع المزاوجة ووقفا عليه بالسكون.
وقرأ ابن عامر وأبو عمرو وحمزة وحفص عن عاصم بترك التنوين فيهما لمنع الصرف وعدم مراعاة الفواصل ولا المزاوجة.
والقراءات روايةٌ متواترة لا يناكدها رسم المصحف فلعلّ الذين كتبوا المصاحف لم تبلغهم إلاّ قراءة أهل المدينة.
وحدّث خلف عن يحيى بن آدم عن ابن إدريس قال: في المصاحف الأول ثبتَ {قواريرا} الأول بالألف والثاني بغير ألف، يعني المصاحف التي في الكوفة فإن عبد الله ابن إدريس كوفي.
وقال أبو عبيد: لرأيتُ في مصحف عثمان {قواريرا} الأول بالألف وكان الثاني مكتوباً بالألف فحُكَّت فرأيتُ أثرها هناك بيناً اهـ.
وهذا كلام لا يفيد إذ لو صحّ لما كان يُعرف من الذي كتَبه بالألف، ولا مَن الذي مَحا الألف ولا متى كان ذلك فيما بين زمن كتابة المصاحف وزمن أبي عبيد، ولا يُدرى ماذا عنى بمصحف عثمان أهو مصحفه الذي اختص به أم هو مصحف من المصاحف التي نسخت في خلافته ووزعها على الأمصار؟.
وقرأ يعقوب بغير تنوين فيهما في الوصل.
وأما في الوقف فحمزة وقف عليهما بدون ألف.
وهشام عن ابن عامر وقفا عليهما بالألف على أنه صلة للفتحة، أي إشباع للفتحة ووقف أبو عمرو وحفص وابن ذكوان عن ابن عامر ورويس عن يعقوب على الأول بالألف وعلى الثاني بدون ألف ووجهه ما وجهت به قراءة ابن كثير وخلف.
وقوله: {قدّروها تقديراً} يجوز أن يكون ضمير الجمع عائداً إلى {الأبرار} [الإنسان: 5] أو {عباد الله} [الإنسان: 6] الذي عادت إليه الضمائر المتقدمة من قوله: {يفجرونها} [الإنسان: 6] و{يوفون} [الإنسان: 7] إلى آخر الضمائر فيكون معنى التقدير رغبتَهم أن تجيء على وفق ما يشتهون.
ويجوز أن يكون الضمير عائداً إلى نائب الفاعل المحذوف المفهوم من بناء {يطاف} للنائب، أي الطائفون عليهم بها قدَّروا الآنية والأكوابَ، أي قدروا ما فيها من الشراب على حسب ما يطلبه كل شارب منهم ومآله إلى معنى الاحتمال الأول.
وكان مما يعد في العادة من حِذق الساقي أن يعطِيَ كلَّ أحد من الشَّرْب ما يناسب رغبته.
و {تقديراً} مفعول مطلق مؤكد لعامله للدلالة على وفاء التقدير وعدم تجاوزه المطلوب ولا تقصيره عنه.
{وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْسًا كَانَ مِزَاجُهَا زَنْجَبِيلًا (17)}
أتبع وصف الآنية ومحاسنها بوصف الشراب الذي يحويه وطِيبه، فالكأس كأس الخمر وهي من جملة عموم الآنية المذكورة فيما تقدم ولا تسمى آنية الخمر كأساً إلاّ إذا كان فيها خمر فكون الخمر فيها هو مصحح تسميتها كأساً، ولذلك حسن تعدية فعل السقْي إلى الكأس لأن مفهوم الكأس يتقوم بما في الإِناء من الخمر، ومثل هذا قول الأعشى:
وكأسسٍ شربتُ على لذة ** وأُخرى تداويتُ منها بها

يريد: وخمر شربتُ.
والقول في إطلاق الكأس على الإِناء أو على ما فيه كالقول في نظيره المتقدم في قوله: {إن الأبرار يشربون من كأس كان مزاجها كافوراً} [الإنسان: 5].
ومعنى الآية أن هذه سقْية أخرى، أي مرة يشربون من كأس مزاجها الكافور ومرة يسقون كأساً مزاجها الزنجبيل.
وضمير {فيها} للجنة من قوله: {جنة وحريراً} [الإنسان: 12].
وزنجبيل: كلمة معربة وأصلها بالكاف الأعجمية عوض الجيم.
قال الجواليقي والثعالبي: هي فارسية، وهو اسم لجذور مثل جذور السُّعْد بضم السين وسكون العين تكون في الأرض كالجَزَر الدقيق واللفت الدقيق لونها إلى البياض لها نبات له زهر، وهي ذات رائحة عِطرية طيبة وطعمها شبيه بطعم الفُلفل، وهو ينبت ببلاد الصين والسند وعُمان والشحر، وهو أصناف أحسنها ما ينبت ببلاد الصين، ويدخل في الأدوية والطبخ كالأفاويه ورائحته بهارية وطعمه حريف.
وهو منبه ويستعمل منقوعاً في الماء ومربى بالسّكر.
وقد عرفه العرب وذكره شعراء العرب في طيب الرائحة.
أي يمزجون الخمر بالماء المنقوع فيه الزنجبيل لطيب رائحته وحسن طعمه.
وانتصب {عيناً} على البدل من {زنجبيلاً} كما تقدم في قوله: {كان مزاجها كافوراً عيناً يشرب بها عباد الله} [الإنسان: 5، 6].
ومعنى كون الزنجبيل عيناً: أن منقوعه أو الشراب المستخرج منه كثير كالعين على نحو قوله تعالى: {وأنهار من لبن لم يتغير طعمه} [محمد: 15]، أي هو كثير جدًّا وكان يعرف في الدنيا بالعزة.
و {سلسبيل}: وصف قيل مشتق من السلاسة وهي السهولة واللين فيقال: ماء سلسل، أي عذب بارد.
قيل: زيدت فيه الباء والياء (أي زيدتا في أصل الوضع على غير قياس).
قال التبريزي في (شرح الحماسة) في قول البعيث بن حُرَيْث:
خَيالٌ لأمِّ السَّلْسبيل ودُونَها ** مسيرة شهر للبريد المذبذب

قال أبو العلاء: السلسبيل الماء السهل المَساغ.
وعندي أن هذا الوصف ركب من مادتي السلاسة والسَّبَالة، يقال: سبلت السماء، إذا أمطرت، فسبيل فعيل بمعنى مفعول، رُكب من كلمتي السلاسة والسبيل لإِرادة سهولة شربه ووفرة جريه.
وهذا من الاشتقاق الأكبر وليس باشتقاق تصريفي.
فهذا وصف من لغة العرب عند محققي أهل اللغة.
وقال ابن الأعرابي: لم أسمع هذه اللفظة إلاّ في القرآن، فهو عنده من مبتكرات القرآن الجارية على أساليب الكلام العربي، وفي (حاشية الهمذاني على الكشاف) نسبة بيت البعث المذكور آنفاً مع بيتين بعده إلى أمية بن أبي الصلت وهو عزو غريب لم يقله غيره.
ومعنى {تسمى} على هذا الوجه، أنها توصف بهذا الوصف حتى صار كالعلم لها كما قال تعالى: {لَيُسَمُّونَ الملائكة تسميةَ الأنثى} [النجم: 27] أي يصفونهم بأنهم إناث، ومنه قوله تعالى: {هل تعلم له سَمِيّاً} [مريم: 65] أي لا مثيل له. فليس المراد أنه علَم.
ومن المفسرين من جعل التسمية على ظاهرها وجعل {سلسبيلاً} علماً على هذه العين، وهو أنسب بقوله تعالى: {تسمَّى}. وعلى قول ابن الأعرابي والجمهور: لا إشكال في تنوين {سلسبيلاً}.
وأما الجواليقي: إنه أعجمي سمّي به، يكون تنوينه للمزاوجة مثل تنوين {سلاسلا} [الإنسان: 4].
وهذا الوصف ينحلّ في السمع إلى كلمتين: سَل، سَبيلا، أي اطلُب طريقاً.
وقد فسره بذلك بعض المفسرين وذكر أنه جُعل عَلَماً لهذه العين من قبيل العلَم المنقول عن جملة مثل: تَأبط شراً، وذَرَّى حَبّاً.
وفي (الكشاف) أن هذا تكلف وابتداع. اهـ.

.قال ابن عطية في الآيات السابقة:

{هَلْ أَتَى عَلَى الإنسان حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا (1)}
{هل} في كلام العرب قد يجيء بمعنى (قد) حكاه سيبويه، لكنها لا تخلو من تقرير وبابها المشهور الاستفهام المحض والتقرير أحياناً. فقال ابن عباس وقتادة هي هنا بمعنى (قد)، و{الإنسان} يراد به آدم عليه السلام، و(الحين): هي المدة التي بقي طيناً قبل أن ينفخ فيه الروح؛ أي أنه شيء ولم يكن مذكوراً منوهاً به في العالم وفي حالة العدم المحض قبل {لم يكن شيئاً} ولا {مذكوراً}، وقال أكثر المتأولين: {هل} تقرير، و{الإنسان} اسم الجنس، أي إذا تأمل كل إنسان نفسه علم بأنه قد مر {حين من الدهر} عظيم {لم يكن} هو فيه {شيئاً مذكوراً}، أي لم يكن موجوداً، وقد يسمى الموجود {شيئاً} فهو مذكور بهذا الوجه، و(الحين) هنا: المدة من الزمن غير محدودة تقع للقليل والكثير، وإنما تحتاج إلى تحديد الحين في الإيمان، فمن حلف أن لا يكلم أخاه حيناً، فذهب بعض الفقهاء إلى أن الحين سنة، وقال بعضهم: ستة أشهر، والقوي في هذا أن {الإنسان} اسم جنس وأن الآية جعلت عبرة لكل أحد من الناس ليعلم أن الصانع له قادر على إعادته.
وقوله تعالى: {إنا خلقنا الإنسان} هو هنا اسم الجنس بلا خلاف، لأن آدم لم يخلق {من نطفة}، و{أمشاج} معناه أخلاط وأحدها مَشَج بفتح الميم والشين قاله ابن السكيت وغيره، وقيل: مشج مثل عدل وأعدال، وقيل: مشيج مثل شريف وأشراف، واختلف في المقصود من الخلط، فقيل هو {أمشاج} ماء الرجل بماء المرأة، وأسند الطبري حديثاً وهو أيضاً في بعض المصنفات «إن عظام ابن آدم وعصبة من ماء الرجل، ولحمه وشحمه من ماء المرأة» وقيل هو اختلاط أمر الجنين بالنقلة من النطفة إلى العلقة إلى المضغة إلى غير ذلك. فهو أمر مختلط، وقيل هو اختلاط الدم والبلغم والصفراء والسوداء فيه، و{نبتليه} معناه نختبره بالإيجاد والكون في الدنيا هو حال من الضمير في {خلقنا} كأنه قال: مختبرين له بذلك، وقوله تعالى: {فجعلناه} عطف جملة تعم على جملة تعم، وقال بعض النحويين إنما المعنى فنبتليه جعلناه {سميعاً بصيراً}، ثم ترتب اللفظ موجزاً متداخلاً كأنه قال {نبتليه} فلذلك جعلناه، والابتلاء على هذا أنما هو بالإسماع والإبصار لا بالإيجاب وليس {نبتليه} حالاً، وقوله تعالى: {إنا هديناه السبيل} يحتمل أن يريد {السبيل} العامة للمؤمن والكافر فذلك يختلق الحواس وموهبة الفطرة ونصب الصنعة الدالة على الصانع، ف {هديناه} على هذا بمعنى أرشدناه كما يرشد الإنسان إلى الطريق ويوقف عليه، ويحتمل أن يريد {السبيل} اسم الجنس، أي هدى المؤمن إيمانه والكافر لكفره ف {هديناه} على هذا معناه أريناه وليس الهدى في هذه الآية بمعنى خلق الهدى والإيمان، وقوله تعالى: {إما شاكراً وإما كفوراً} حالان وقسمتهما {إما} قاله أبو عمرو الداني، وقرأ أبو العاج {إما شاكراً وإما كفوراً} وأبو العاج كثير بن عبد الله السلمي شامي ولى البصرة لهشام بن عبد الملك، و{أعتدنا} معناه أعددناه، وقرأ نافع والكسائي وأبو بكر عن عاصم {سلاسلاً} بالصرف وهذا على ما حكاه الأخفش من لغة من يصرف كل ما يصرف إلا أفعل وهي لغة الشعراء.
ثم كثر حتى جرى في كلامهم، وقد علل بعبة وهي أنه لما كان هذا الضرب من الجموع يجمع لشبه الآحاد فصرف، وذلك من شبه الآحاد موجود في قولهم صواحب وصاحبات وفي قول الشاعر الفرزدق: الكامل:
نواكسي الأبصار

بالياء جمع نواكس، وهذا الأجراء في {سلاسلاً} و{قواريراً} أثبت في مصحف ابن مسعود ومصحف أبيّ بن كعب ومصحف المدينة ومكة والكوفة والبصرة، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وحمزة {سلاسل}، على ترك الصرف في الوقف والوصل، وهي قراءة طلحة وعمرو بن عبيد، وقرأ أبو عمرو وحمزة فيما روي عنهما: {سلاسل} في الوصل و{سلاسلاً} دون تنوين في الوقف، ورواه هشام عن ابن عامر لأن العرب من يقول رأيت عمراً يقف بألف، وأيضاً فالوقوف، بالأف {سلاسلا} اتباع لخط المصحف، و{الأبرار} جمع بار كشاهد وأشهاد، وقال الحسن هم الذين لا يؤذون الذر، ولا يرضون الشر، و(الكأس): ما فيه نبيذ ونحوه مما يشرب به، قال ابن كيسان: ولا يقال الكأس إلا لما فيه نبيذ ونحوه، ولا يقال ظعينة إلا إذا كان عليها امرأة ولا مائدة إلا وعليها طعام وإلا فهي خوان. والمزاج: ما يمزج به الخمر ونحوها، وهي أيضاً مزاج له لأنهما تمازجاً مزاجاً، قال بعض الناس: (المزاج) نفس الكافور، وقال قتادة نعم قوم يمزج لهم بالكافور ويختم لهم بالمسك، وقال الفراء: يقال إنه في الجنة عين تسمى {كافوراً} وقال بعض المتأولين إنما أراد {كافوراً} في النكهة والعرف كما تقول إذا مزجت طعاماً هذا الطعام مسك. وقوله تعالى: {عيناً} هو بدل من قوله: {كافوراً}، وقيل هو مفعول بقوله: {يشربون}، أي {يشربون} ماء هذه العين من كأس عطرة كالكافور، وقيل نصب {عيناً} على المدح أو بإضمار أعني، وقوله: {يشرب بها} بمنزلة يشربها فالباء زائدة، وقال الهذلي: شربن بماء البحر. أي شربن ماء البحر، وقرأ ابن أبي عبلة: {يشربها عباد الله}، و{عباد الله} هنا خصوص في المؤمنين الناعمين لأن جميع الخلق عباده، و{يفجرونها} معناه يبثقونها بعود قصب ونحوه حيث شاؤوا، فهي تجري عند كل أحد منهم، هكذا ورد الأثر، وقال الثعلبي، وقيل هي عين في دار النبي صلى الله عليه وسلم تفجر إلى دور الأنبياء والمؤمنين، وهذا قول الحسن.
{يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا (7)}
وصف الله تعالى حال الأبرار أنهم كانوا {يوفون بالنذر}، أي بكل ما نذروه وأعطوا به عهداً، يقال وفى الرجل وأوفى، و(اليوم) المشار إليه يوم القيامة، و{مستطيراً} معناه متصلاً شائعاً كاستطارة الفجر والصدع في الزجاجة، وبه شبه في القلب، ومن ذلك قول الأعشى: المتقارب:
فبانت وقد أسأرت في الفؤاد ** صدعاً على نأيها مستطيرا

وقول ذي الرمة: الوافر:
أراد الظاعنون لحيزنوني ** فهاجوا صدع قلبي فاستطاروا

وقوله تعالى: {على حبه} يحتمل أن يعود الضمير على الطعام، أي وهو محبوب للفاقة والحاجة، وهذا قول ابن عباس ومجاهد ويحتمل أن يعود على الله تعالى أي لوجهه وابتغاء مرضاته، قاله أبو سليمان الدراني. والأول أمدح لهم لأن فيه الإيثار على النفس. وعلى الاحتمال الثاني فقد يفعله الأغنياء أكثر، وقال الحسين بن الفضل: الضمير عائد على الإطعام، أي محبين في فعلهم ذلك لا رياء فيه ولا تكلف، و(المسكين) الطواف المتكشف في السؤال، و(اليتيم) الصبي الذي لا أب له من الناس. والذي لا أم له من البهائم وهي صفة قبل البلوغ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا يتم بعد حلم» و(الأسير) معروف، فقال قتادة: أراد أسرى الكفار وإن كانوا على غير الإسلام، وقال الحسن: ما كان أسراهم إلا مشركين، لأن كل كبد رطبة ففيها أجر. وقال بعض العلماء: هذا إما نسخ بآية السيف وإما أنه محكم لتحفظ حياة الأسير إلى أن يرى الإمام فيه ما يرى، وقال مجاهد وابن جبير وعطاء: أراد المسجونين من الناس، ولهذا يحض على صدقة السجن، فهذا تشبيه، ومن قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه: لا يؤسر أحد في الإسلام بغير العدول. وروى الخدري أن النبي صلى الله عليه وسلم فسر الأسير هنا بالمملوك والمسجون، وقال: أراد أسرى المسلمين الذين تركوا في بلاد الحرب رهائن وخرجوا في طلب الفداء، وقال أبو حمزة الثمالي: الأسير هنا المرأة، ودليله قوله صلى الله عليه وسلم: «استوصوا بالنساء خيراً فإنهن عوانٍ عندكم»، وقوله تعالى: {إنما نطعمكم لوجه الله} المعنى يقولون لهم عند الإطعام، وهذا إما أن يكون المطعم يقول ذلك نصاً فحكي ذلك. وإما أن يكون لك مما يقال في الأنفس وبالنية فمدح بذلك، هذا هو تأويل ابن مجاهد وابن جبير، وقرأ أبو عمرو في رواية عباس بجزم الميم من {نطعمْكم}، قال أبو علي أسكن تخفيفاً، و(الشكور): مصدر الشكر، ووصف اليوم بعبوس هو على التجوز، كما تقول ليل نائم أي فيه نوم، و(القمطرير) والقماطر: هو في معنى العبوس والارتداد، تقول اقمطر الرجل إذا جمع ما بين عينيه غضباً، ومنه قول الشاعر القرطبي: الطويل:
بني عمنا هل تذكرون بلاءنا ** عليكم إذا ما كان يوم قماطر

وقال آخرون:
ففروا إذا ما الحرب ثار غبارها ** ولج بها اليوم العبوس القماطر

وقال ابن عباس: يعبس الكافر يومئذ حتى يسيل من بين عينيه مثل القطران. وعبر ابن عباس عن (القمطرير) بالطويل. وعبر عنه ابن الكلبي بالشديد، وذلك كله قريب في المعنى. وقرأ الجمهور: {فوقاهم} بتخفيف القاف. وقرأ أبو جعفر بن القعقاع {فوقاهم} بشد القاف. و(النضرة) جمال البشرة، وذلك لا يكون إلا مع فرح النفس وقرة العين، وقرأ علي بن أبي طالب {وجازاهم} بألف، وقوله: {بما صبروا} عام عن الشهوات وعلى الطاعات والشدائد، ففي هذا يدخل كل ما خص الناس من صوم وفقر ونحوه و{متكئين} حال من الضمير المنصور في {جزاهم} وهو الهاء والميم، وقرأ أبو جعفر وشيبة {متكيين} بغير همز، و{الأرائك} السرر المستورة بالحجال، هذا شرط لبعض اللغويين، وقال بعض اللغويين: كل ما يتوسد ويفترش مما له حشو فهو أريكة وإن لم يكن في حجلة، وقوله تعالى: {لا يرون فيها} الآية عبارة عن اعتدال مس هوائها وذهاب ضرري الحر والقر عنها، وكون هوائها سجسجاً كما في الحديث المأثور ومس الشمس وهو أشد الحر، و(الزمهرير): هو أشد البرد، وقال ثعلب: (الزمهرير) بلغة طّيىء القمر.
{وَدانية عَلَيْهِمْ ظِلَالُهَا وَذللت قُطُوفُهَا تَذْلِيلًا (14)}
اختلف النحويون في إعراب قوله تعالى: {ودانية}، فقال الزجاج وغيره: هو حال عطفاً على {متكئين} [الإنسان: 13] وقال أيضاً: ويجوز أن يكون صفة للجنة، فالمعنى وجزاهم جنة دانية، وقرأ جمهور الناس {دانية} وقرأ الأعمش {ودانياً عليهم} وقرأ أبو جعفر {ودانية} بالرفع وقرأ أبيّ بن كعب {ودانٍ} مفرد مرفوع في الإعراب، ودنوا الظلال بتوسط أنعم لها، لأن الشيء المظل إذا بعد فترة ظله لاسيما من الأشجار والتذليل أن تطيب الثمرة فتتدلى وتنعكس نحو الأرض، و(التذليل) في الجنة هو بحسب إرادة ساكنيها، قال قتادة ومجاهد وسفيان: إن كان الإنسان قائماً تناول الثمر دون كلفة وإن كان قاعداً فكذلك، وإن كان مضطجعاً فكذلك. فهذا تذليلها لا يرد عنها بعد ولا شوك. ومن اللفظة قول امرىء القيس: الطويل:
كأنبوب السقي المذلل

ومنه قول الأنصاري: والنخل قد ذللت فهي مطوقة بثمرها. و{القطوف}: جمع قطف وهو العنقود من النخل والعنب ونحوه. والعنب ونحوه. و{آنية} جمع إناء. و{الكوب} ما لا عروة له ولا أذن من الأواني، وهي معروفة الشكل في تلك البلاد. وهو الذي تقول له العامة القب، لكنها تسمي بذلك ما له عروة. وذلك خطأ أيضاً. وقال قتادة: الكوب القدح. والقوارير: الزجاج. واختلف القراء فقرأ نافع والكسائي وأبو بكر عن عاصم {قواريراً قواريراً} بالإجراء فيهما على ما قد تقدم في قوله {سلاسلاً}، وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائي {قرأريرَ قرأريرَ} بترك الإجراء فيهما، وقرأ ابن كثير {قواريراً} بالإجراء في الأول {قواريرَ} بترك الإجراء في الثاني، وقرأ أبو عمرو {قواريرا}، ووقف بألف دون تنوين {قواريرَ} بترك الإجراء في الثاني، وقوله تعالى: {من فضة} يقتضي أنها من زجاج ومن فضة وذلك متمكن لكونه من زجاج في شفوفه و{من فضة} في جوهره، وكذلك فضة الجنة شفافة، وقال أبو علي جعلها {من فضة} لصافئها وملازمتها لتلك الصفة وليست من فضة في حقيقة أمرها. وإنما هذا كما قال الشاعر البعيث: الطويل:
ألا أصبحت أسماء جاذمة الوصل ** وضنت عليها والضنين من البخل

وقوله تعالى: {قدروها} يحتمل أن يكون الضمير للملائكة، ويحتمل أن يكون للطائفين، ويحتمل أن يكون للمنعمين، والتقدير إما أن يكون على قدر الأكف قاله الربيع، أو على قدر الري قاله مجاهد، وهذا كله على قراءة من قرأ: {قَدروها} بتخفيف القاف، وقرأ ابن أبزى وعلي الجحدري وابن عباس والشعبي وقتادة {قُدِروها} بضم القاف وكسر الدال، قال أبو علي: كأن اللفظ قدروا عليها، وفي المعنى قلب لأن حقيقة المعنى أن يقال: قدرت عليهم فهي مثل قوله: {ما إن مفاتحه لتنوء بالعصبة} [القصص: 76]، ومثل قول العرب: إذا طلعت الجوزاء، ألفى العود على الحرباء، حكاه أبو علي، وكون الزنجبيل مزاجها هو على ما ذكرناه في العرف ولذع اللسان، وذلك من لذات المشروب، و(الزنجبيل): طيب حار، وقال الشاعر الأعشى: الرجز:
كأن جنياً من الزنجبيل ** بات بفيها وأرياً مشورا

وقال المسيب بن علس: الكامل:
وكأن طعم الزنجبيل به ** إذ ذقته وسلافة الخمر

وقال قتادة: (الزنجبيل)، اسم لعين في الجنة يشرب منها المقربون صرفاً، وتمزج لسائر أهل الجنة، و{عيناً} بدل من كأس أو من عين على القول الثاني، و{سلسبيلاً} قيل هو اسم بمعنى السلس المنقاد الجرية، وقال مجاهد: حديدة الجرية، وقيل: هي عبارة عن حسن إيساغها، قال ابن الأعرابي: لم أسمع هذه اللفظة إلا في القرآن، وقال آخرون: {سلسبيلاً} صفة لقوله: {عيناً} وتسمى بمعنى توصف وتشهر وكونه مصروفاً مما يؤكد كونه صفة للعين لا اسماً، وقال بعض المقرئين والتصحيح من الألوسي: {سلسبيلاً} أمر للنبي صلى الله عليه وسلم ولأمته بسؤال السبيل إليها، وهذا قول ضعيف لأن براعة القرآن وفصاحته لا تجيء هكذا، واللفظة معروفة في اللسان وأن السلسل والسلسبيل، بمعنى واحد ومتقارب. اهـ.

.قال أبو السعود في الآيات السابقة:

{هَلْ أتى} استفهامُ تقريرٍ وتقريبٍ فإنَّ هَلْ بمَعْنى قَدْ والأصلُ أَهَلْ أَتَى {عَلَى الإنسان} قبلَ زمانٍ قريبٍ {حِينٌ مّنَ الدهر} أي طائفةٌ محدودةٌ كائنةٌ من الزمنِ الممتدِّ {لَمْ يَكُن شَيْئاً مَّذْكُوراً} بلْ كانَ شيئاً منسياً غيرَ مذكورٍ بالإنسانية أصلاً كالعنصرِ والنطفةِ وغيرَ ذلكَ. والجملة المنفيةُ حالٌ من الإنسان أي غيرَ مذكورٍ أو صفةٌ أُخرى لحينٌ على حذف العائدِ إلى الموصوف أي لمْ يكُن فيه شيئاً مذكُوراً. والمرادُ بالإنسان الجنسُ فالإظهارُ في قوله تعالى: {إِنَّا خَلَقْنَا الإنسان مِن نُّطْفَةٍ} لزيادة التقريرِ، أو آدمُ عليه السلام، وهو المرويُّ عن ابن عباسٍ وقتادة والثوريِّ وعكرمةَ والشعبيِّ. قال ابنُ عباسٍ في روايةِ أبي صالحٍ عنْهُ: مرتْ به أربعونَ سنةً قبلَ أنْ يُنفخَ فيه الروح وهو مُلقى بين مكةَ والطائفِ وفي روايةِ الضحاكِ عنه أنَّه خُلقَ من طينٍ فأقامَ أربعينَ سنةً ثمَّ من حمإٍ فأقامَ أربعينَ سنةً ثمَّ من صلصالٍ فأقامَ أربعينَ سنةً فتمَّ خلقُه بعدَ مائةٍ وعشرينَ سنةً ثمَّ نُفخَ فيهِ الرُّوحُ، وحكَى الماوَرْدِيُّ عن ابن عباسٍ رضيَ الله عنهُمَا أنَّ الحينَ المذكورَ هاهنا هو الزمنُ الطويلُ الممتدُّ الذي لا يُعرفُ مقدارُه فيكونُ الأولُ إشارةً إلى خلقه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ وهذا بياناً لخلقِ بنيهِ {أَمْشَاجٍ} أخلاطٌ، جمعُ مشجٍ أو مشيجٍ، منْ مشجتَ الشيءَ إذا خلطتَهُ. وصف النطفةَ به لما أنَّ المرادَ بها مجموعُ الماءينِ، ولكلَ منهُمَا أوصافٌ مختلفةٌ من اللون والرقةِ والغِلَظِ، وخواصُّ متباينةٌ فإنَّ ماءَ الرجلِ أبيضُ غليظٌ فيه قوَّةُ العقدِ وماءَ المرأةِ أصفرُ رقيقٌ فيهِ قوةُ الانعقادِ يُخلقُ منهُمَا الولدُ فمَا كانَ من عصبٍ وعظمٍ وقوةٍ فَمِنْ ماءِ الرُّجُلِ وما كانَ منْ لحمٍ ودمٍ وشعرٍ فَمِنْ ماءِ المرأةِ. قال القرطبيُّ: وقد رُويَ هذا مرفوعا.
وقيلَ: مفردٌ كأعشارٍ وأكياشٍ، وقيلَ: أمشاجٌ ألوانٌ وأطوارٌ فإنَّ النطفةَ تصيرُ علقةً ثمَّ مضغةً إلى تمام الخِلقةِ. وقوله تعالى: {نبتليه} حالٌ منْ فاعل خلقنَا أيْ مريدينَ ابتلأَهُ بالتكليف فيما سيأتي ناقلينَ له من حالٍ إلى حال على طريقة الاستعارةِ كما رُويَ عن ابنِ عباسٍ رضيَ الله عنهُمَا نصرّفه في بطنِ أمه نطفةً ثمَّ علقةً إلى آخرِهِ {فجعلناه سَمِيعاً بَصِيراً} ليتمكنَ من استماعِ الآياتِ التنزيليةِ ومشاهدةِ الآياتِ التكوينيةِ فهو كالمسببِ عن الابتلاءِ فلذلكَ عطف على الخلقِ المقيدِ به بالفاءِ ورُتِّبَ عليهِ قوله تعالى: {إِنَّا هديناه السبيل} بإنزالِ الآياتِ ونصبِ الدلائل {إِمَّا شاكراً وَإِمَّا كفوراً} حالانِ من مفعولِ هدينَا أي مكّناهُ وأقدرناهُ على سلوكِ الطريقِ الموصلِ إلى البُغيةِ في حالتيهِ جميعاً، وإمَّا للتفصيلِ أو التقسيمِ، أيْ هديناهُ إلى ما يوصلُ إليها في حاليهِ جميعاً أو مقسوماً إليهما بعضُهم شاكرٌ بالاهتداءِ والأخذِ فيهِ وبعضُهم كفورٌ بالإعراضِ عنْهُ وقيلَ: من السبيلِ أي عرفناهُ السبيلَ إما سبيلاً شاكراً أو كفوراً على وصفِ السبيلِ بوصفِ سالكِه مجازاً. وقرئ {أَمَّا} بالفتحِ على حذفِ الجوابِ، أي أمَّا شاكراً فبتوفيقِنا، وأَمَّا كفوراً فبسوءِ اختيارِه لا بمجردِ إجبارِنا من غيرِ اختيارٍ منْ قِبَلِه، وإيرادُ الكفورِ لمراعاة الفواصلِ والإشعارِ بأنَّ الإنسان قلَّما يخلُو من كفرانٍ مَا وإنَّما المؤاخذُ عليه الكفرُ المفرطُ.
{إِنَّا أَعْتَدْنَا للكافرين} من أفراد الإنسان الذي هديناهُ السبيلَ {سلاسلا} بها يُقادُون {وأغلالا} بها يُقيَّدونَ {وَسَعِيراً} بها يُحرقُون، وتقديمُ وعيدِهم معَ تأخرهم للجمع بينهُمَا في الذكر كما في قوله تعالى: {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الذين اسودت وُجُوهُهُمْ} الآيةَ، ولأنَّ الإنذارَ أهمُّ وأنفعُ وتصديرُ الكلامِ وختمُه بذكرِ المؤمنينَ أحسنُ على أنَّ في وصفِهم تفصيلاً ربَّما يُخلُّ تقديمُه بتجاوب أطراف النظمِ الكريمِ. وقرئ سلاسلاً للتناسب.
{إِنَّ الأبرار} شروعٌ في بيان حسنِ حالِ الشاكرينَ إثرَ بيانِ سوءِ حالِ الكافرينَ وإيرادُهم بعنوانِ البِرِّ للإشعارِ بمَا استحقُّوا به ما نالُوه من الكرامةِ السنيةِ. والأبرارُ جمعُ بَرَ أو بارَ كربَ وأربابٍ وشاهدٍ وأشهادٍ. قيلَ: هُو من يبرُّ خالقَهُ أي يطيعُهُ وقيلَ: من يمتثلُ بأمرِه تعالى وقيلَ: من يؤدِّي حقَّ الله تعالى ويوفِّي بالنذرِ، وعنِ الحسنِ البرُّ منْ لا يُؤذِي الذرَّ {يشربونَ مِن كَأْسٍ} هي الزجاجةُ إذا كانتْ فيها خمرٌ وتُطلقُ على نفسِ الخمرِ أيضاً فمِنْ على الأولِ ابتدائيةٌ وعلى الثانِي تبعيضيةٌ أو بيانيةٌ {كَانَ مِزَاجُهَا} أي ما تمزجُ به {كافورا} أي ماءَ كافورٍ وهو اسمُ عينٍ في الجنَّةِ ماؤُها في بياضِ الكافورِ ورائحتِه وبردِه. والجملة صفةُ كأسٍ. وقوله تعالى: {عيناً} بدلٌ من كافُوراً وعنْ قتادةَ: تمزجُ لهم بالكافورِ وتختمُ لهم بالمسكِ، وقيلَ: تخلقُ فيها رائحةُ الكافورِ وبياضُه وبردُه فكأنَّها مُزجتْ بالكافورِ، فعيناً على هذينِ القولينِ بدلٌ منْ محلِّ (منْ كأسٍ) على تقديرِ مضافٍ أي يشربونَ خمراً خمرَ عينٍ أو نَصبٌ على الاختصاصِ. وقوله تعالى: {يشرب بها عِبَادُ الله} صفةُ عيناً أي يشربونَ بها الخمرَ لكونِها ممزوجةً بها وقيل: ضُمِّن يشرب مَعْنى يلتذُّ وقيل: الباءُ بمَعْنى مِنْ وقيلَ: زائدةٌ ويعضدُه قراءة ابنِ أبِي عبلةَ يشربها عبادُ الله وقال: الضميرُ للكأسِ والمَعْنى يشربونَ العينَ بتلكَ الكأسِ {يُفَجّرُونَهَا تَفْجِيراً} أي يُجرونها حيثما شاؤوا من منازلِهم إجراءً سهلاً لا يمتنعُ عليهم بَلْ يَجْري جرياً بقوة واندفاغٍ والجملة صفةٌ أُخرى لـ: {عيناً}.
وقوله تعالى: {يُوفُونَ بالنذر}
استئنافٌ مسوقٌ لبيان ما لأجلِه رُزقُوا ما ذُكِرَ من النعيمِ مشتملٌ على نوع تفصيلٍ لما ينبىءُ عنه اسمُ الأبرارِ إجمالاً كأنَّه قيلَ: ماذَا يفعلونَ حتَّى ينالُوا تلكَ الرتبةَ العاليةَ؟ فقيلَ: يُوفون بما أَوجبُوه على أنفسِهم فكيفَ بما أوجبه الله تعالى عليهم {ويخافون يَوْماً كَانَ شَرُّهُ} عذابه {مُسْتَطِيراً} فاشياً مُنتشراً في الأقطارِ غايةَ الانتشارِ، من استطارَ الحريقُ والفجرُ وهُو أبلغُ من طارَ بمنزلة استنفرَ منْ نفرَ {وَيُطْعِمُونَ الطعام على حُبه} أي كائنينَ على حُبِّ الطَّعامِ والحاجةِ إليهِ كما في قوله تعالى: {لَن تَنَالُواْ البر حتى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ} أي على حُبِّ الإطعامِ بأنْ يكونَ ذلكَ بطيبِ النفسِ أو كائنينَ على حُبِّ الله تعالى أو إطعاماً كائناً على حُبه تعالى وهُو الأنسبُ لما سيأتِي من قوله تعالى لوجهِ الله {مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً} أيَّ أسيرٍ فإنَّه كانَ عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ يُؤتَى بالأسيرِ فيدفعُه إلى بعضِ المسلمينَ فيقول: «أَحْسِنْ إليهِ» أو أسيراً مؤمناً فيدخلُ فيه المملوكُ والمسجونُ وقد سَمَّى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم الغريمَ أسيراً فقال: «غَريمُكَ أسيرُكَ فأحسِنْ إلى أسيرِكَ» {إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ الله} على إرادة قول هو في موقع الحالِ من فاعلِ {يطعمونَ} أي قائلينَ ذلكَ بلسانِ الحالِ أو بلسانِ المقال إزاحةً لتوهمِ المنِّ المبطلِ للصدقةِ وتوقعِ المكافأةِ المنقصةِ للأجرِ. وعن الصديقةِ رضيَ الله تعالى عنها أنَّها كانتْ تبعثُ بالصدقةِ إلى أهلِ بيتٍ ثم تسألُ الرسولَ ما قالوا؟ فإذَا ذكرَ دعاءَهُم دعتْ لَهُم بمثلِه ليبقَى ثوابُ الصدقةِ لها خالصاً عندَ الله تعالى: {لاَ نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاء وَلاَ شُكُوراً} وهو تقريرٌ وتأكيدٌ لما قبلَهُ.
{إِنَّا نَخَافُ مِن رَّبّنَا يَوْماً} أي عذابَ يومٍ {عَبُوساً} يعبسُ فيه الوجُوه أو يُشبه الأسدَ العَبُوسَ في الشِّدةِ والضَّراوةِ {قَمْطَرِيراً} شديدَ العُبوسِ فلذلكَ نفعلُ بكُم ما نفعلُ رجاءَ أنْ يقينَا ربُّنا بذلكَ شرَّه، وقيلَ: هو تعليلٌ لعدم إرادةِ الجزاءِ والشكورِ أي إنَّا نخافُ عقابَ الله تعالى إنْ أردناهُمَا {فوقاهم الله شَرَّ ذَلِكَ اليوم} بسبب خوفِهم وتحفظِهم عنه {ولقاهم نَضْرَةً وَسُرُوراً} أي أعطاهُم بدلَ عبوسِ الفُجَّارِ وحُزنِهم نضرةً في الوجوه وسُروراً في القلوبِ.
{وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُواْ} بصبرِهم على مشاقِّ الطاعاتِ ومهاجرةِ هَوَى النفسِ في اجتنابِ المُحرَّماتِ وإيثارِ الأموالِ {جَنَّةُ} بستاناً يأكلُون منه ما شاءُوا {وَحَرِيراً} يلبسونَهُ ويتزينونَ به. وعنِ ابن عباسٍ رضيَ الله عنهما: «أنَّ الحسنَ والحسينَ رضيَ الله تعالى عنهُمَا مَرِضا فعادهُما النبيُّ صلى الله عليه وسلم في ناسٍ معَهُ فقالوا لعليَ رضيَ الله عنهُ: لو نذرتَ على شفاءِ ولدكَ فنذرَ عليٌّ وفاطمةُ رضيَ الله تعالى عنهُمَا وفضةُ جاريةٌ لهما إنْ برئَا مما بهمَا أنْ يصومُوا ثلاثةَ أيامٍ فشُفيا وما معهُم شيءٌ فاستقرضَ عليٌّ رضيَ الله عنْهُ من شمعونَ الخيبريِّ ثلاثة أصوعٍ من شعيرٍ فطحنتْ فاطمةُ رضيَ الله تعالى عنها صاعاً واختبزتْ خمسةَ أقراص على عددِهم فوضعُوها بين أيديهِم ليُفطِرُوا فوقفَ عليهم سائلٌ فقال: السَّلامُ عليكم أهلَ بيتِ محمدٍ مسكينٌ من مساكين المسلمينَ أطعمُوني أطعمكُم الله تعالى من موائدِ الجنةِ فآثرُوه وباتُوا لم يذوقُوا إلا الماءَ وأصبحُوا صياماً فلمَّا أمسَوا ووضعُوا الطعامَ بينَ أيديهِم وقفَ عليهم يتيمٌ فآثرُوه ثم وقفَ عليهم في الثالثةِ أسيرٌ ففعلُوا مثلَ ذلكَ فلما أصبحُوا أخذ عليٌّ بيدِ الحسنِ والحسينِ رضيَ الله عنهُم فأقبلُوا إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم فلما أبصرهُم وهُم يرتعشونَ كالفراخِ من شدةِ الجُوع قال عليه الصَّلاةُ والسلام: ما أشدَ ما يسوؤُني ما أَرَى بكُم. وقامَ فانطلقَ معهُم فَرَأى فاطمةَ في محرابها قد التصقَ ظهرُها ببطنِها وغارتْ عيناهَا فساءَهُ ذلكَ فنزلَ جبريلُ عليه السلام وقال: خُذْها يا محمدُ هنَّأك الله تعالى في أهلِ بيتكَ. فأَقرأهُ السورةَ» {متكئين فِيهَا على الأرائك} حالٌ مِنْ هُمْ فِي جَزَاهُمْ والعاملُ فيها جَزَى وقيلَ: صفةٌ لـ: {جنةً} من غيرِ إبرازِ الضميرِ. و{الأرائكُ} هي السُّررُ في الحجالِ.
وقوله تعالى: {لاَ يَرَوْنَ فِيهَا شَمْساً وَلاَ زَمْهَرِيراً} إمَّا حالٌ ثانيةٌ من الضمير أو المستكنِّ في {متكئين} والمَعْنى أنَّه يمرُّ عليهم هواءٌ معتدلٌ لا حارٌّ محمٌّ ولا باردٌ مؤذٍ وقيلَ: الزمهريرُ القمرُ في لُغةِ طَيِّيءٍ والمَعْنى أنَّ هواءَهَا مضيءٌ بذاتِه لا يحتاجُ إلى شمسٍ ولا قمرٍ {وَدانية عَلَيْهِمْ ظلالها} عطف على ما قبلَها حالٌ مثلُها أو صفةٌ لمحذوفٍ معطوف على {جنةً} أي وجنةً أخرى دانية عليهم ظلالُها على أنَّهم وُعدوا جنتينِ كما في قوله تعالى: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبه جَنَّتَانِ} وقرئ {دانية} بالرفعِ على أنه خبرٌ لـ: {ظلالِها} والجملة في حيزِ الحالِ والمعنى لا يَرَون فيها شمساً ولا زمهريراً والحالُ أنَّ ظلالَها دانية. قالوا: معناهُ أنَّ ظلالَ أشجارِ الجنةِ قريبةٌ من الأبرارِ مظلةٌ عليهم زيادةً في نعيمِهم على مَعْنى أنه لو كانَ هناكَ شمسٌ مؤذيةٌ لكانتْ أشجارُهَا مظلةً عليهم مع أنَّه لا شمسَ ثمةَ ولا قمرَ {وَذللت قُطُوفُهَا تَذْلِيلاً} أي سُخرتْ ثمارُها لمتناوليها وسُهلَ أخذُها من الذُّلِّ وهو ضدُّ الصعوبةِ. والجملة حالٌ من {دانية} أي تدنُو ظلالُها عليهم مُذلّلة لهم قطوفُها. أو معطوفةٌ على {دانية} أي دانية عليهم ظلالُها ومذللةً قطوفُها، وعلى تقديرِ رفعِ {دانية} فهيَ جملة فعليةٌ معطوفةٌ على جملة اسميةٍ.
{وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ بِئَانِيَةٍ مّن فِضَّةٍ وَأَكْوابٍ}
الكوبُ الكوزُ العظيمُ الذي لا أُذنَ له ولاَ عُروةَ {كَانَتْ قَوَارِيرَاْ قَوَارِيرَاْ مِن فِضَّةٍ} أي تكونتْ جامعةً بين صفاءِ الزجاجةِ وشفيفِها ولينِ الفِضَّةِ وبياضِها، والجملة صفةٌ لـ: {أكواب}. وقرئ بتنوينِ {قواريرَ} الثانِي أيضاً، وقرئا بغيرِ تنوينٍ، وقرئ الثَّانِي بالرَّفعِ على هيَ قواريرُ {قَدَّرُوهَا تَقْدِيراً} صفةٌ لـ: {قواريرَ} ومعنى تقديرِهم لها أنَّهم قدَّروها في أنفسِهم وأرادُوا أنْ تكونَ على مقاديرَ وأشكالٍ معينةٍ موافقةً لشهواتهم فجاءتْ حسبمَا قدَّرُوها، أو قدَّرُوها بأعمالِهم الصالحةِ فجاءتْ على حسبها، وقيلَ: الضميرُ للطائفينَ بها المدلولِ عليهم بقوله تعالى: {وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ} فالمعنى قدَّروا شرابها على قدرِ اشتهائِهم، وقرئ {قُدِّرُوها} على البناءِ للمفعولِ أي جُعلوا قادرينَ لها كما شاءوا من قَدَر منقولاً من قَدَّرتُ الشيءَ.
{وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْساً كَانَ مِزَاجُهَا زَنجَبِيلاً} أي ما يشبه الزنجبيلَ في الطعمِ وكان الشرابُ الممزوجُ به أطيبَ ما تستطيبه العربُ وألذَّ ما تستلذُّ به {عيناً} بدلٌ من زنجبيلاً، وقيلَ: تمزجُ كأسُهم بالزنجبيلِ بعينِه، أو يخلقُ الله تعالى طعمَهُ فيها، فعيناً حينئذٍ بدلٌ من كأساً كأنَّه قيلَ: ويُسقَون فيها كأساً كأسَ عينٍ، أو نصبٌ على الاختصاص {فِيهَا تسمى سَلْسَبِيلاً} لسلاسة انحدارِها في الحَلْقِ وسهولةِ مساغِها، يقال: شرابٌ سلسلٌ وسلسالٌ وسلسبيلٌ، ولذلكَ حُكمَ بزيادةِ الباءِ، والمرادُ بيانُ أنَّها في طعم الزنجبيلِ، وليسَ فيها لذعةٌ بل نقيضُ اللذعِ هو السلاسةُ. اهـ.

.تفسير الآيات (19- 22):

قوله تعالى: {وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤًا مَنْثُورًا (19) وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيمًا وَمُلْكًا كَبِيرًا (20) عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُنْدُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبرق وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِنْ فِضَّةٍ وَسَقَاهُمْ رَبهمْ شَرَابًا طَهُورًا (21) إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاءً وَكَانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُورًا (22)}

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
ولما ذكر المطوف به لأنه الغاية المقصودة، وصف الطائف لما في طوافه من العظمة المشهودة تصويراً لما هم فيه من الملك بعد ما نجوا منه من الهلك: {ويطوف عليهم} أي بالشراب وغيره من الملاذ والمحاب {ولدان} أي غلمان هم في سن من هو دون البلوغ «أقل أهل الجنة من يخدمه ألف غلام» {مخلدون} أي قد حكم من لا يرد حكمه بأن يكونوا كذلك دائماً من غير غلة ولا ارتفاع عن ذلك الحد مع أنهم مزينون بالخلد وهو الحلق والأساور والقرطة والملابس الحسنة {إذ رأيتهم} أي يا أعلى الخلق صلى الله عليه وسلم وأنت أثبت الناس نظراً أو أيها الرائي من كان في أي حالة رأيتهم فيها {حسبتهم} من بياضهم وصفاء ألوانهم ولمع أنوارهم وانعكاس شعاع بعضهم إلى بعض وانبثاثهم في المجالس ذهاباً وإياباً {لؤلؤاً منثوراً} وذلك كناية عن كثرتهم وانتشارهم في الخدمة وشرفهم وحسنهم؛ وعن بعضهم أن لؤلؤ الجنة في غاية الكبر والعظمة واختلاف الأشكال، وكأنه عبر بالحسبان إشارة إلى أن ذلك مطلق تجويز لا مع ترجيح، قال بعض المفسرين: هم غلمان ينشئهم الله لخدمة المؤمنين.
وقال بعضهم: هم أطفال المشركين لأنهم ماتوا على الفطرة، وقال ابن برجان: وأرى والله أعلم أنهم من علم الله سبحانه وتعالى إيمانه من أولاد الكفار يكونون خدماً لأهل الجنة كما كانوا لهم في الدنيا سبياً وخداماً، وأما أولاد المؤمنين فيلحقون بآبائهم سناً وملكاً سروراً لهم، ويؤيد هذا قوله صلى الله عليه وسلم في ابنه إبراهيم عليه الصلاة والسلام «إن له لظئراً يتم رضاعه في الجنة» فإنه يدل على استقبال شأنه فيما هنالك وتنقله في الأحوال كالدنيا، ولا دليل على خصوصيته بذلك.
ولما ذكر المخدوم والخدم شرع في ذكر المكان فقال: {وإذا رأيت} أي أجلت بصرك، وحذف مفعوله ليشيع ويعم {ثم} أي هناك في أي مكان كان وأي شيء كان {رأيت نعيماً} أي ليس فيه كدر بوجه من الوجوه، ولما كان النعيم قد يكون في حالة وسطى قال: {وملكاً كبيراً} أي لم يخطر على بال مما هو فيه من السعة وكثرة الموجود والعظمة أدناهم وما فيهم دني الذي ينظر في ملكه مسيرة ألف عام يرى أقصاه كما يرى أدناه ومهما أراده كان.
ولما ذكر الدار وساكنيها من مخدوم وخدم، ذكر لباسهم بانياً حالاً من الفاعل والمفعول: {عليهم} أي حال كون الخادم والمخدوم يعلو أجسامهم على سبيل الدوام، وسكن نافع وحمزة الياء على أنه مبتدأ وخبر شارح للملك على سبيل الاستئناف {ثياب سندس} وهو ما رق من الحرير {خضر} رفعه الجماعة صفة لثياب، وجره ابن كثير وحمزة والكسائي وأبو بكر عن عاصم صفة لسندس حملاً على المعنى فإنه اسم جنس {وإستبرق} وهو ما غلظ من الديباج يعمل بالذهب، أو هو ثياب حرير صفاق نحو الديباج- قاله في القاموس، رفعه ابن كثير ونافع وعاصم نسقاً على ثياب، وجره الباقون على سندس.
ولما كان المقصود لأرباب اللباس الفاخر الحلية، أخبر عن تحليتهم، وبني الفعل للمفعول دلالة على تيسر ذلك لهم وسهولته عليهم فقال: {وحلّوا} أي وجدت تحلية المخدومين والخدم {أساور من فضة} وإن كانت تتفاوت بتفاوت الرتب، وتقدم سر تخصيص هذه السورة بالفضة والأساورة بجمع ما فيها من لذة الزينة لذة اتساع الملك فإنها كناية عنه فإنه- كما قال الملوي- كان في الزمن القديم إذا ملك ملك أقاليم عظيمة كثيرة لبس سواراً وسمي الملك المسور لاتساع مملكته وعظمتها وكثرة أقاليمها، وإن لم تجمع أقاليم لم يسور فما ظنك بمن أعطى من ذلك جمع الكثرة، وهي بالغة من الأعضاء ما يبلغ التحجيل في الوضوء كما قال- صلى الله عليه وسلم ـ: «تبلغ الحلية من المؤمن حيث يبلغ الوضوء» فلذا كان أبو هريرة- رضى الله عنه- يرفع الماء إلى المنكبين وإلى الساقين.
ولما كان ربما ظن بما تقدم من ذلك الممزوج شيء من نقص لأجله يمزج كما هو في الدنيا، وكان قد قال أولاً {يشربون} بالبناء للفاعل، وثانياً (يسقون) بالبناء للمفعول، قال بانياً للفاعل بياناً لفضل ما يسقونه في نفسه وفي كونه من عند الإله الأعظم المتصف بغاية الإحسان على صفة من العظمة تليق بإحسانه سبحانه بما أفاده إسناد الفعل إليه: {وسقاهم} وعبر بصفة الإحسان تأكيداً لذلك فقال: {ربهم} أي الموجد لهم المحسن إليهم المدبر لمصالحهم {شراباً طهوراً} أي ليس هو كشراب الدنيا سواء كان من الخمر أو من الماء أو من غيرهما، بل هو بالغ الطهارة والوصف بالشرابية من العذوبة واللذة واللطافة، وهو مع ذلك آلة للتطهير البالغ للغير فلا يبقى في بواطنهم غش ولا وسواس، ولا يريدون إلا ما يرضي مليكهم مما أسس على غاية الحكمة وفاق كامل وسجايا مطهرة وأخلاق مصطفاة لا عوج فيها، ولا يستحيل شيء من شرابهم إلى نجاسة من بول ولا غيره، بل يصير رشحاً كرشح المسك ويعطي الرجل شهوة مائة رجل في الأكل وغيره، فإذا أكل شرب فطهر باطنه ورشح منه المسك فعادت الشهوة، بل الحديث يدل على أن شهوتهم لا تنقضي أصلاً فإنه قال: «يجد لآخر لقمة من اللذة ما يجد لأولها» يفعل بهم هذا سبحانه قائلاً لهم مؤكداً تسكيناً لقلوبهم لئلا يظنون أن ما هم فيه على وجه الضيافة ونحوها فيظنوا انقطاعه {إن هذا} أي الذي تقدم من الثواب كله {كان} أي كوناً ثابتاً {لكم} بتكويني إياه من قبل موتكم {جزاء} أي على أعمالكم التي كنتم تجاهدون فيها أنفسكم عن هواها إلى ما يرضي ربكم فكنتم كلما عملتم عملاً كونت من هذا ما هو جزاء له {وكان} أي على وجه الثبات {سعيكم} ولما كان المقصود القبول لأن القابل الشاكر هو المعمول له، بني للمفعول قوله: {مشكوراً} أي لا يضيع شيئاً منه ويجازى بأكثر منه أضعافاً مضاعفة. اهـ.

.من أقوال المفسرين:

.قال الفخر:

واعلم أنه تعالى ذكر بعد ذلك من يكون خادماً في تلك المجالس.
فقال: {وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ ولدان مُّخَلَّدُونَ}
وقد تقدم تفسير هذين الوصفين في سورة الواقعة والأقرب أن المراد به دوام كونهم على تلك الصورة التي لا يراد في الخدم أبلغ منها، وذلك يتضمن دوام حياتهم وحسنهم ومواظبتهم على الخدمة الحسنة الموافقة، قال الفراء: يقال مخلدون مسورون ويقال: مقرطون.
وروى نفطويه عن ابن الأعرابي مخلدون محلون.
والصفة الثالثة: قوله تعالى: {إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤاً مَّنثُوراً} وفي كيفية التشبيه وجوه أحدها: شبهوا في حسنهم وصفاء ألوانهم وانتشارهم في مجالسهم ومنازلهم عند اشتغالهم بأنواع الخدمة باللؤلؤ المنثور، ولو كان صفاً لشبهوا باللؤلؤ المنظوم، ألا ترى أنه تعالى قال: {وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ} فإذا كانوا يطوفون كانوا متناثرين وثانيها: أنهم شبهوا باللؤلؤ الرطب إذا انتثر من صدفه لأنه أحسن وأكثر ماء وثالثها: قال القاضي: هذا من التشبيه العجيب لأن اللؤلؤ إذا كان متفرقاً يكون أحسن في المنظر لوقوع شعاع بعضه على البعض فيكون مخالفاً للمجتمع منه.
واعلم أنه تعالى لما ذكر تفصيل أحوال أهل الجنة، أتبعه بما يدل على أن هناك أموراً أعلى وأعظم من هذا القدر المذكور فقال: {إِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيمًا وَمُلْكًا كَبِيرًا (20)} وفيه مسائل:
المسألة الأولى:
{رأيت} هل له مفعول؟ فيه قولان: الأول: قال الفراء: المعنى وإذا رأيت ما ثم وصلح إضمار ما كما قال: {لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ} [الأنعام: 94] يريد ما بينكم، قال الزجاج: لا يجوز إضمار ما لأن ثم صلة وما موصولها، ولا يجوز إسقاط الموصول وترك الصلة الثاني: أنه ليس له مفعول ظاهر ولا مقدر والغرض منه أن يشبع ويعم، كأنه قيل: وإذا وجدت الرؤية ثم، ومعناه أن بصر الرائي أينما وقع لم يتعلق إدراكه إلا بنعيم كثير وملك كبير، و{ثم} في موضع النصب على الظرف يعني في الجنة.
المسألة الثانية:
اعلم أن اللذات الدنيوية محصورة في أمور ثلاثة.
قضاء الشهوة، وإمضاء الغضب، واللذة الخيالية التي يعبر عنها بحب المال والجاه، وكل ذلك مستحقر فإن الحيوانات الخسيسة قد تشارك الإنسان في واحد منها، فالملك الكبير الذي ذكره الله هاهنا لابد وأن يكون مغايراً لتلك اللذات الحقيرة، وما هو إلا أن تصير نفسه منقشة بقدس الملكوت متحلية بجلال حضرة اللاهوت، وأما ما هو على أصول المتكلمين، فالوجه فيه أيضاً أنه الثواب والمنفعة المقرونة بالتعظيم فبين تعالى في الآيات المتقدمة تفصيل تلك المنافع وبين في هذه الآية حصول التعظيم وهو أن كل واحد منهم يكون كالملك العظيم، وأما المفسرون فمنهم من حمل هذا الملك الكبير على أن هناك منافع أزيد مما تقدم ذكره، قال ابن عباس: لا يقدر واصف يصف حسنه ولا طيبه.
ويقال: إن أدنى أهل الجنة منزلة ينظر في ملكه مسيرة ألف عام ويرى أقصاه كما يرى أدناه، وقيل: لا زوال له وقيل: إذا أرادوا شيئاً حصل، ومنهم من حمله على التعظيم.
فقال الكلبي: هو أن يأتي الرسول من عند الله بكرامة من الكسوة والطعام والشراب والتحف إلى ولي الله وهو في منزله فيستأذن عليه، ولا يدخل عليه رسول رب العزة من الملائكة المقربين المطهرين إلا بعد الاستئذان.
المسألة الثالثة:
قال بعضهم قوله: {وَإِذَا رَأَيْتَ} خطاب لمحمد خاصة، والدليل عليه أن رجلاً قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أرأيت إن دخلت الجنة أترى عيناي ما ترى عيناك؟ فقال نعم، فبكى حتى مات، وقال آخرون: بل هو خطاب لكل أحد.
قوله تعالى: {عاليهم ثِيَابُ سُندُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبرق} فيه مسائل:
المسألة الأولى:
قرأ نافع وحمزة عاليهم بإسكان الياء والباقون بفتح الياء أما القراءة الأولى: فالوجه فيها أن يكون عاليهم مبتدأ، وثياب سندس خبره، والمعنى ما يعلوهم من لباسهم ثياب سندس، فإن قيل: عاليهم مفرد، وثياب سندس جماعة، والمبتدأ إذا كان مفرداً لا يكون خبره جمعاً، قلنا: المبتدأ، وهو قوله: {عاليهم} وإن كان مفرداً في اللفظ، فهو جمع في المعنى، نظيره قوله تعالى: {مُسْتَكْبِرِينَ به سامرا تَهْجُرُونَ فَقُطِعَ دَابِرُ القوم} [المؤمنون: 67] كأنه أفرد من حيث جعل بمنزلة المصدر أما القراءة الثانية: وهي فتح الياء، فذكروا في هذا النصب ثلاثة أوجه الأول: أنه نصب على الظرف، لأنه لما كان عالي بمعنى فوق أجرى مجراه في هذا الإعراب، كما كان قوله: {والركب أَسْفَلَ مِنكُمْ} [الأنفال: 42] كذلك وهو قول أبي علي الفارسي والثاني: أنه نصب على الحال، ثم هذا أيضاً يحتمل وجوهاً أحدها: قال أبو علي الفارسي: التقدير: {ولقاهم نضرة وسروراً} حال ما يكون {عاليهم ثياب سندس} وثانيها: التقدير: {وجزاهم بما صبروا جنة وحريراً} حال ما يكون {عاليهم ثياب سندس} وثالثها: أن يكون التقدير ويطوف على الأبرار ولدان، حال ما يكون الأبرار عاليهم ثياب سندس ورابعها: {حسبتهم لؤلؤاً منثوراً}، حال ما يكون {عاليهم ثياب سندس}، فعلى الاحتمالات الثلاثة الأول: تكون الثياب الأبرار، وعلى الاحتمال الرابع تكون الثياب ثياب الولدان الوجه الثالث: في سبب هذا النصب، أن يكون التقدير: رأيت أهل نعيم وملك عاليهم ثياب سندس.
المسألة الثانية:
قرأ نافع وعاصم: {خضر واستبرق}، كلاهما بالرفع، وقرأ الكسائي وحمزة: كلاهما بالخفض، وقرأ ابن كثير: خضر بالخفض، {واستبرق} بالرفع، وقرأ أبو عمرو وعبد الله بن عامر: {خضر} بالرفع، {واستبرق} بالخفض، وحاصل الكلام فيه أن خضراً يجوز فيه الخفض والرفع، أما الرفع فإذا جعلتها صفة لثياب، وذلك ظاهر لأنها صفة مجموعة لموصوف مجموعة، وأما الخفض فإذا جعلتها صفة سندس، لأن سندس أريد به الجنس، فكان في معنى الجمع، وأجاز الأخفش وصف اللفظ الذي يراد به الجنس بالجمع، كما يقال: أهلك الناس الدينار الصفر والدرهم البيض إلا أنه قال: إنه قبيح، والدليل على قبحه أن العرب تجيء بالجمع الذي هو في لفظ الواحد فيجرونه مجرى الواحد وذلك قولهم: حصى أبيض وفي التنزيل {مّنَ الشجر الأخضر} [يس: 80] و{أَعْجَازُ نَخْلٍ مُّنقَعِرٍ} [القمر: 20] إذ كانوا قد أفردوا صفات هذا الضرب من الجمع، فالواحد الذي في معنى الجمع أولى أن تفرد صفته، وأما {استبرق} فيجوز فيه الرفع والخفض أيضاً معاً، أما الرفع فإذا أريد به العطف على الثياب، كأنه قيل: {ثياب سندس واستبرق} وأما الخفض فإذا أريد إضافة الثياب إليه كأنه قيل: {ثياب سندس واستبرق}، والمعنى ثيابهما فأضاف الثياب إلى الجنسين كما يقال: ثياب خز وكتان، ويدل على ذلك قوله تعالى: {وَيَلْبَسُونَ ثِيَابًا خُضْرًا مّن سُنْدُسٍ وَإِسْتَبرق} [الكهف: 31] واعلم أن حقائق هذه الآية قد تقدمت في سورة الكهف.
المسألة الثالثة:
السندس ما رق من الديباج، والاستبرق ما غلظ منه، وكل ذلك داخل في اسم الحرير قال تعالى: {وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ} [الحج: 23] ثم قيل: إن الذين هذا لباسهم هم الولدان المخلدون، وقيل: بل هذا لباس الأبرار، وكأنهم يلبسون عدة من الثياب فيكون الذي يعلوها أفضلها، ولهذا قال: {عاليهم} وقيل هذا من تمام قوله: {متكئين فِيهَا على الأرائك} ومعنى {عاليهم} أي فوق حجالهم المضروبة عليهم ثياب سندس، والمعنى أن حجالهم من الحرير والديباج.
قوله تعالى: {وَحُلُّواْ أَسَاوِرَ مِن فِضَّةٍ} وفيه سؤالات:
السؤال الأول:
قال تعالى في سورة الكهف: {أُوْلَئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهِمُ الأنهار يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ} [الكهف: 31] فكيف جعل تلك الأساور هاهنا من فضة؟ والجواب: من ثلاثة أوجه أحدها: أنه لا منافاة بين الأمرين فلعلهم يسورون بالجنسين إما على المعاقبة أو على الجمع كما تفعل النساء في الدنيا وثانيها: أن الطباع مختلفة فرب إنسان يكون استحسانه لبياض الفضة فوق استحسانه لصفرة الذهب، فالله تعالى يعطي كل أحد ما تكون رغبته فيه أتم، وميله إليه أشد وثالثها: أن هذه الأسورة من الفضة إنما تكون للوالدان الذين هم الخدم وأسورة الذهب للناس.
السؤال الثاني:
السوار إنما يليق بالنساء وهو عيب للرجال، فكيف ذكر الله تعالى ذلك في معرض الترغيب؟ الجواب: أهل الجنة جرد مرد شباب فلا يبعد أن يحلوا ذهباً وفضة وإن كانوا رجالاً، وقيل: هذه الأسورة من الفضة والذهب إنما تكون لنساء أهل الجنة وللصبيان فقط، ثم غلب في اللفظ جانب التذكير، وفي الآية وجه آخر، وهو أن آلة أكثر الأعمال هي اليد وتلك الأعمال والمجاهدات هي التي يتوسل بها إلى تحصيل المعارف الإلهية والأنوار الصمدية، فتكون تلك الأعمال جارية مجرى الذهب والفضة التي يتوسل بهما إلى تحصيل المطالب، فلما كانت تلك الأعمال صادرة من اليد كانت تلك الأعمال جارية مجرى سوار الذهب والفضة، فسميت الأعمال والمجاهدات بسوار الذهب والفضة، وعبر عن تلك الأنوار الفائضة عن الحضرة الصمدية بقوله: {وسقاهم رَبهمْ شَرَاباً طَهُوراً} وبالجملة فقوله: {وَحُلُّواْ أَسَاوِرَ مِن فِضَّةٍ} إشارة إلى قوله: {والذين جاهدوا فِينَا} وقوله: {وسقاهم رَبهمْ شَرَاباً طَهُوراً} إشارة إلى قوله: {لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} [العنكبوت: 69] فهذا احتمال خطر بالبال، والله أعلم بمراده.
قوله تعالى: {وسقاهم رَبهمْ شَرَاباً طَهُوراً} الطهور فيه قولان: الأول: المبالغة في كونه طاهراً، ثم فيه على هذا التفسير احتمالات أحدها: أنه لا يكون نجساً كخمر الدنيا وثانيها: المبالغة في البعد عن الأمور المستقذرة يعني ما مسته الأيدي الوضرة، وما داسته الأقدام الدنسة وثالثها: أنها لا تؤول إلى النجاسة لأنها ترشح عرقاً من أبدانهم له ريح كريح المسك القول الثاني: في الطهور أنه المطهر، وعلى هذا التفسير أيضاً في الآية احتمالان أحدهما: قال مقاتل: هو عين ماء على باب الجنة تنبع من ساق شجرة من شرب منها نزع الله ما كان في قلبه من غل وغش وحسد، وما كان في جوفه من قذر وأذى وثانيهما: قال أبو قلابة: يؤتون الطعام والشراب فإذا كان في آخر ذلك أتوا بالشراب الطهور، فيشربون فتطهر بذلك بطونهم، ويفيض عرق من جلودهم مثل ريح المسك، وعلى هذين الوجهين يكون الطهور، مطهراً لأنه يطهر باطنهم عن الأخلاق الذميمة، والأشياء المؤذية، فإن قيل: قوله تعالى: {وسقاهم رَبهمْ} هو عين ما ذكر تعالى قبل ذلك من أنهم يشربون من عين الكافور، والزنجبيل، والسلسبيل أو هذا نوع آخر؟ قلنا: بل هذا نوع آخر، ويدل عليه وجوه أحدها: دفع التكرار وثانيها: أنه تعالى أضاف هذا الشراب إلى نفسه، فقال: {وسقاهم رَبهمْ} وذلك يدل على فضل في هذا دون غيره وثالثها: ما روينا أنه تقدم إليهم الأطعمة والأشربة، فإذا فرغوا منها أتوا بالشراب الطهور فيشربون، فيطهر ذلك بطونهم، ويفيض عرقاً من جلودهم مثل ريح المسك، وهذا يدل على أن هذا الشراب مغاير لتلك الأشربة، ولأن هذا الشراب يهضم سائر الأشربة، ثم له مع هذا الهضم تأثير عجيب، وهو أنه يجعل سائر الأطعمة والأشربة عرقاً يفوح منه ريح كريح المسك، وكل ذلك يدل على المغايرة ورابعها: وهو أن الروح من عالم الملائكة، والأنوار الفائضة من جواهر أكابر الملائكة، وعظمائهم على هذه الأرواح مشبهة بالماء العذب الذي يزيل العطش ويقوي البدن، وكما أن العيون متفاوتة في الصفاء والكثرة والقوة، فكذا ينابيع الأنوار العلوية مختلفة، فبعضها تكون كافورية على طبع البرد واليبس، ويكون صاحبها في الدنيا في مقام الخوف والبكاء والانقباض، وبعضها تكون زنجبيلية على طبع الحر واليبس، فيكون صاحب هذه الحالة قليل الالتفات إلى ما سوى الله تعالى قليل المبالاة بالأجسام والجسمانيات، ثم لا تزال الروح البشرية منتقلة من ينبوع إلى ينبوع، ومن نور إلى نور، ولا شك أن الأسباب والمسببات متناهية في ارتقائها إلى واجب الوجود الذي هو النور المطلق جل جلاله وعز كماله، فإذا وصل إلى ذلك المقام وشرب من ذلك الشراب انهضمت تلك الأشربة المتقدمة، بل فنيت، لأن نور ما سوى الله تعالى يضمحل في مقابلة نور الله وكبريائه وعظمته، وذلك هو آخر سير الصديقين، ومنتهى درجاتهم في الإرتقاء والكمال، فلهذا السبب ختم الله تعالى ذكر ثواب الأبرار على قوله: {وسقاهم رَبهمْ شَرَاباً طَهُوراً}.
واعلم أنه تعالى لما تمم شرح أحوال السعداء، قال تعالى: {إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاءً وَكَانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُورًا (22)}
اعلم أن في الآية وجهين الأول: قال ابن عباس المعنى أنه يقال لأهل الجنة بعد دخولهم فيها، ومشاهدتهم لنعيمها: إن هذا كان لكم جزاء قد أعده الله تعالى لكم إلى هذا الوقت، فهو كله لكم بأعمالكم على قلة أعمالكم، كما قال حاكياً عن الملائكة: إنهم يقولون لأهل الجنة: {سلام عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عقبى الدار} [الرعد: 24] وقال: {كُلُواْ واشربوا هَنِيئَاً بِمَا أَسْلَفْتُمْ في الأيام الخالية} [الحاقة: 24] والغرض من ذكر هذا الكلام أن يزداد سرورهم، فإنه يقال للمعاقب: هذا بعملك الرديء فيزداد غمه وألم قلبه، ويقال للمثاب: هذا بطاعتك، فيكون ذلك تهنئة له وزيادة في سروره، والقائل بهذا التفسير جعل القول مضمراً، أي ويقال لهم: هذا الكلام الوجه الثاني: أن يكون ذلك إخباراً من الله تعالى لعباده في الدنيا، فكأنه تعالى شرح جواب أهل الجنة، أن هذا كان في علمي وحكمي جزاء لكم يا معاشر عبادي، لكم خلقتها، ولأجلكم أعددتها.
وبقي في الآية سؤالان:
السؤال الأول:
إذا كان فعل العبد خلقاً لله، فكيف يعقل أن يكون فعل الله جزاء على فعل الله؟ الجواب: الجزء هو الكافي، وذلك لا ينافي كونه فعلاً لله تعالى.
السؤال الثاني:
كون سعي العبد مشكوراً لله يقتضي كون الله شاكراً له والجواب: كون الله تعالى شاكراً للعبد محال إلا على وجه المجاز، وهو من ثلاثة أوجه الأول: قال القاضي: إن الثواب مقابل لعلمهم، كما أن الشكر مقابل للنعم الثاني: قال القفال: إنه مشهور في كلام الناس، أن يقولوا: للراضي بالقليل والمثني به إنه شكور، فيحتمل أن يكون شكر الله لعباده هو رضاه عنهم بالقليل من الطاعات، وإعطاؤه إياهم عليه ثواباً كثيراً الوجه الثالث: أن منتهى درجة العبد أن يكون راضياً من ربه مرضياً لربه على ما قال: {ياأيتها النفس المطمئنة ارجعى إلى رَبّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً} [الفجر: 27، 28] وكونها راضية من ربه، أقل درجة من كونها مرضية لربه، فقوله: {إِنَّ هذا كَانَ لَكُمْ جَزَاء} إشارة إلى الأمر الذي به تصير النفس راضية من ربه وقوله: {وَكَانَ سَعْيُكُم مَّشْكُوراً} إشارة إلى كونها مرضية لربه، ولما كانت هذه الحال أعلى المقامات وآخر الدرجات لا جرم وقع الختم عليها في ذكر مراتب أحوال الأبرار والصديقين. اهـ.

.قال القرطبي:

قوله تعالى: {وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُّخَلَّدُونَ}
بيّن مَن الذي يطوف عليهم بالآنية؛ أي ويخدمهم ولدان مُخلَّدون، فإنهم أخفُّ في الخدمة.
ثم قال: {مُّخَلَّدُونَ} أي باقون على ما هم عليه من الشَّباب والغَضَاضة والحُسْن، لا يَهْرَمون ولا يتغيّرون، ويكونون على سنّ واحدة على مَر الأزمنة.
وقيل: مُخلَّدون لا يموتون.
وقيل: مُسوَّرون مُقَّرطون؛ أي مُحلَّون والتخليد التحلية.
وقد تقدم هذا.
{إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤاً مَّنثُوراً} أي ظننتهم من حسنهم وكثرتهم وصفاء ألوانهم: لؤلؤاً مفرقاً في عَرْصة المجلس، واللؤلؤ إذا نُثِر على بساط كان أحسن منه منظوماً.
وعن المأمون أنه ليلة زُفَّت إليه بُوران بنت الحسن بن سهل، وهو على بساط منسوج من ذهب، وقد نَثَرت عليه نساءُ دار الخليفة اللؤلؤَ، فنظر إليه منثوراً على ذلك البساط فاستحسن المنظر وقال: للَّهِ دَرُّ أبي نُواس كأنه أبصر هذا حيث يقول:
كأنَّ صُغْرى وكُبْرىَ من فَقَاقِعها ** حَصْبَاءُ دَرٍّ على أرضٍ مِنَ الذَّهَبِ

وقيل: إنما شبههم بالمنثور؛ لأنهم سراع في الخدمة، بخلاف الحور العين إذ شبههنّ باللؤلؤ المكنون المخزون؛ لأنهنّ لا يُمتهنَّ بالخدمة.
قوله تعالى: {وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيماً وَمُلْكاً كَبِيراً} {ثَمَّ}: ظرف مكان أي هناك في الجنة، والعامل في {ثَمَّ} معنى (رَأَيْتَ) أي وإذا رأيت ببصرك (ثَمَّ).
وقال الفرّاء: في الكلام (ما) مضمرة؛ أي وإذا رأيت ما ثَمّ؛ كقوله تعالى: {لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ} [الأنعام: 94] أي ما بينكم.
وقال الزجاج: (ما) موصولة ب {ثم} على ما ذكره الفرّاء، ولا يجوز إسقاط الموصول وترك الصّلة، ولكن (رَأَيْتَ) يتعدّى في المعنى إلى {ثَمَّ} والمعنى: إذا رأيت ببصرك {ثَمَّ} ويعني ب {ثَمَّ} الجنة، وقد ذكر الفرّاء هذا أيضاً.
والنعيم: سائر ما يُتنعمّ به.
والمُلْك الكبير: استئذان الملائكة عليهم؛ قاله السُّديّ وغيره.
قال الكلبيّ: هو أن يأتي الرسول من عند الله بكرامة من الكُسْوة والطعام والشراب والتحف إلى وليّ الله وهو في منزله، فيستأذن عليه؛ فذلك المُلْك العظيم.
وقاله مقاتل بن سليمان.
وقيل: المُلْك الكبير: هو أن يكون لأحدهم سبعون حاجباً، حاجباً دون حاجب، فبينما وليّ الله فيما هو فيه من اللذة والسرور إذ يستأذن عليه مَلَك من عند الله، قد أرسله الله بكتاب وهدية وتحفةٍ من ربّ العالمين لم يرها ذلك الوليّ في الجنة قطّ، فيقول للحاجب الخارج: استأذن علي وليّ الله فإن معي كتاباً وهدية من ربّ العالمين.
فيقول هذا الحاجب للحاجب الذي يليه: هذا رسول من ربِّ العالمين، معه كتاب وهديّة يستأذن على وليّ الله؛ فيستأذن كذلك حتى يبلغ إلى الحاجب الذي يلي وليّ الله فيقول له: يا وليّ الله! هذا رسول من ربّ العالمين يستأذن عليك، معه كتاب وتُحْفة من ربّ العالمين أفيؤذن له؟ فيقول: نعم! فأذنوا له.
فيقول ذلك الحاجب الذي يليه: نَعَم فأذنوا له.
فيقول الذي يليه للآخر كذلك حتى يبلغ الحاجب الآخر، فيقول له: نَعَم أيها المَلَك؛ قد أذن لك، فيدخل فيسلّم عليه ويقول: السَّلامُ يُقرئك السَّلام، وهذه تحفة، وهذا كتاب من رب العالمين إليك.
فإذا هو مكتوب عليه: من الحيّ الذي لا يموت، إلى الحيّ الذي يموت.
فيفتحه فإذا فيه: سلام على عبدي ووليي ورحمتي وبركاتي.
يا وليي أما آن لك أن تشتاق إلى رؤية ربّك؟ فيستخفه الشوق فيركب البُرَاق فيطير به البُرَاق شوقاً إلى زيارة علام الغيوب، فيعطيه ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر.
وقال سفيان الثوريّ: بلغنا أن المُلْك الكبير تسليم الملائكة عليهم؛ دليله قوله تعالى: {وَالمَلاَئِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِّن كُلِّ بَابٍ سَلاَمٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عقبى الدار} [الرعد: 24] وقيل: المُلْك الكبير كون التّيجان على رؤوسهم كما تكون على رأس ملك من الملوك.
وقال الترمذيّ الحكيم: يعني مُلْك التكوين، فإذا أرادوا شيئاً قالوا له كن.
وقال أبو بكر الورّاق: مُلْك لا يتعقبه هُلْك.
وفي الخبر عن النبيّ صلى الله عليه وسلم: «إنّ الملك الكبير هو أنّ أدناهم منزلة ينظر في مُلْكه مسيرة ألفي عام، يَرَى أقصاه كما يرى أدناه» قال: «وإن أفضلهم منزلة مَن ينظر في وجه ربه تعالى كل يوم مرتين» سبحان المنعم.
قوله تعالى: {عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُندُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبرق} قرأ نافع وحمزة وابن محيصن {عالِيهِم} ساكنة الياء، واختاره أبو عبيد اعتبارا بقراءة ابن مسعود وابن وثاب وغيرهما {عَالِيَتُهُمْ} وبتفسير ابن عباس: أما رأيت الرجل عليه ثيابٌ يعلوها أفضل منها.
الفراء: وهو مرفوع بالابتداء وخبره {ثِيَابُ سُنْدُسٍ} واسم الفاعل يراد به الجمع.
ويجوز في قول الأخفش أن يكون إفراده على أنه اسم فاعل متقدّم و{ثيابُ} مرتفعة به وسَدّت مسدّ الخبر، والإضافة فيه في تقدير الانفصال لأنه لم يَخُصّ، وابتدىء به لأنه اختص بالإضافة.
وقرأ الباقون {عَالِيَهُمْ} بالنصب.
وقال الفراء: هو كقولك فَوْقَهم، والعرب تقول: قومُك داخلَ الدارِ فينصبون داخل على الظرف، لأنه مَحلّ.
وأنكر الزجاج هذا وقال: هو مما لا نعرفه في الظروف، ولو كان ظرفاً لم يجز إسكان الياء، ولكنه بالنصب على الحال من شيئين: أحدهما الهاء والميم في قوله: {وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ} أي على الأبرار {وِلْدَانٌ} {وِلْدَانٌ} عالياً الأبرارَ ثيابُ سندسٍ؛ أي يطوف عليهم في هذه الحال، والثاني أن يكون حالاً من الولدان؛ أي {إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤاً مَّنثُوراً} في حال علوّ الثياب أبدانهم.
وقال أبو عليّ: العامل في الحال إمّا {لَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً} وإمّا {جَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُواْ} قال: ويجوز أن يكون ظرفاً فصُرِف.
المهدوي: ويجوز أن يكون اسم فاعل ظرفاً؛ كقولك هو ناحيةً من الدار، وعلى أن عالياً لما كان بمعنى فوق أُجْرِي مُجْراه فجعل ظرفاً.
وقرأ ابن محيصن وابن كثير وأبو بكر عن عاصم {خُضْرٍ} بالجر على نعت السُّنْدُس {وَإِسْتَبرق} بالرفع نَسْقاً على الثياب، ومعناه عاليهم ثيابُ سندسٍ وإستبرق.
وقرأ ابن عامر وأبو عمرو ويعقوب {خُضْرٌ} رفعاً نعتاً للثياب {وَإِسْتَبرق} بالخفض نعتاً للسُّنْدس، واختاره أبو عُبيد وأبو حاتم لجودة معناه؛ لأن الخضر أحسن ما كانت نعتاً للثياب فهي مرفوعة، وأحسن ما عطف الإستبرق على السُّنْدس عطف جنس على جنس، والمعنى: عاليَهم ثيابٌ خُضْرٌ مِن سندسٍ وإستبرق، أي من هذين النوعين.
وقرى نافع وحفص كلاهما بالرفع ويكون {خُضْرٌ} نعتاً للثياب؛ لأنهما جميعاً بلفظ الجمع {وإِسْتَبرق} عطفاً على الثياب.
وقرأ الأعمش وابن وَثّاب وحمزة والكسائيّ كلاهما بالخفض ويكون قوله: {خُضْرٍ} نعتاً للسُّندس، والسُّندس اسم جنس، وأجاز الأخفش وصف اسم الجنس بالجمع على استقباح له؛ وتقول: أهلك الناسَ الدينارُ الصُّفْرُ والدرهمُ البِيضُ؛ ولكنه مستبعد في الكلام.
والمعنى على هذه القراءة: عالِيهم ثِيابُ سُندسٍ خضرٍ وثيابُ إِستبرق.
وكلهم صرف الإستبرق إلا ابن محيصن، فإنه فتحه ولم يصرفه فقرأ: {وإستبرق} نصباً في موضع الجر، على منع الصرف، لأنه أعجمي، وهو غلط؛ لأنه نكرة يدخله حرف التعريف؛ تقول الإستبرق إلا أن يزعم ابن محيصن أنه قد يجعل علماً لهذا الضرب من الثياب.
وقرئ: {واستبرق} بوصل الهمزة والفتح على أنه سُمِّي باستفعل من البريق، وليس بصحيح أيضاً؛ لأنه مُعَرَّب مشهور تعريبه، وأن أصله استبرك والسُّندس: ما رَقّ من الديباج.
والإستبرق: ما غَلُظ منه.
وقد تقدّم.
قوله تعالى: {وحلوا} عطف على {وَيَطُوفُ}.
{أَسَاوِرَ مِن فِضَّةٍ} وفي سورة فاطر {يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ} وفي سورة الحج {يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً}، فقيل: حُليّ الرجل الفضة وحُليّ المرأة الذهب.
وقيل: تارة يلبسون الذهب وتارة يلبسون الفضّة.
وقيل: يجمع في يد أحدهم سواران من ذهب وسواران من فضّة وسواران من لؤلؤ، ليجتمع لهم محاسن الجنة؛ قاله سعيد بن المسيّب.
وقيل: أي لكل قوم ما تميل إليه نفوسهم.
{وَسَقَاهُمْ رَبهمْ شَرَاباً طَهُوراً} قال عليّ رضي الله عنه في قوله تعالى: {وَسَقَاهُمْ رَبهمْ شَرَاباً طَهُوراً} قال: إذا توجه أهل الجنة إلى الجنة مرّوا بشجرة يخرج من تحت ساقها عينان، فيشربون من إحداهما، فتجري عليهم بنضرة النَّعيم، فلا تتغير أبشارهم، ولا تتشعث أشعارهم أبداً، ثم يشربون من الأخرى، فيخرج ما في بطونهم من الأذى، ثم تستقبلهم خَزنة الجنة فيقولون لهم: {سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فادخلوها خَالِدِينَ} [الزمر: 73].
وقال النَّخَعيّ وأبو قِلابة: هو إذا شربوه بعد أكلهم طَهَّرهم، وصار ما أكلوه وما شربوه رَشْحَ مِسْكٍ، وضَمَرت بطونهم.
وقال مقاتل: هو من عينٍ ماء على باب الجنة، تنبع من ساق شجرة، من شرب منها نزع الله ما كان في قلبه من غِلّ وغشٍّ وحسدٍ، وما كان في جوفه من أذًى وقذر.
وهذا معنى ما روي عن عليّ، إلا أنه في قول مقاتل عين واحدة وعليه فيكون فعلاً للمبالغة، ولا يكون فيه حجة للحنفي أنه بمعنى الطاهر.
وقد مضى بيانه في سورة (الفرقان) والحمد لله.
وقال طَيِّب الجمَّال: صَلَّيْتُ خَلْف سهل بن عبد الله العَتَمة، فقرأ: {وَسَقَاهُمْ رَبهمْ شَرَاباً طَهُوراً} وجعل يُحرِّك شفتيه وفمه، كأنه يَمصُّ شيئاً، فلما فرغ قيل له: أتشرب أم تقرأ؟ فقال: والله لو لم أجد لذته عند قراءته كلذته عند شربه ما قرأته.
قوله تعالى: {إِنَّ هذا كَانَ لَكُمْ جَزَاءً} أي يقال لهم: إنما هذا جزاء لكم أي ثواب.
{وَكَانَ سَعْيُكُم} أي عملكم {مَّشْكُوراً} أي من قبل الله، وشكره للعبد قبول طاعته، وثناؤه عليه، وإثابته إياه.
وروى سعيد عن قتادة قال: غفر لهم الذَّنْب وشَكَر لهم الحُسْنى.
وقال مجاهد: {مَشْكُوراً} أي مقبولاً والمعنى متقارب؛ فإنه سبحانه إذا قبل العمل شكره، فإذا شكره أثاب عليه بالجزيل، إذ هو سبحانه ذو الفضل العظيم.
روي عن ابن عمر: أن رجلاً حَبَشِيًّا قال: يا رسول الله! فُضِّلتم علينا بالصُّوَر والألوان والنبوّة، أفرأيت إن آمنتُ بما آمنت به، وعملت بما عملت، أكائن أنا معك في الجنة؟ قال: «نعم والذي نفسي بيده إنه ليُرَى بياض الأسود في الجنة وضياؤه من مسيرة ألف عام» ثم قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: «من قال لا إله إلا الله كان له بها عند الله عَهْد، ومن قال سبحان الله والحمد لله كان له بها عند الله مائة ألف حسنة وأربعة وعشرون ألف حسنة» فقال الرجل: كيف نهلك بعدها يا رسول الله؟ فقال: «إن الرجل ليأتي يوم القيامة بالعمل لو وضعه على جبل لأثقله. فتجيء النعمة من نِعم الله فتكاد أن تستنفذ ذلك كله إلا أن يلطف الله برحمته».
قال: ثم نزلت {هَلْ أتى عَلَى الإنسان حِينٌ مِّنَ الدهر} إلى قوله: {وَمُلْكاً كَبِيراً} قال الحبشيّ: يا رسول الله! وإن عينيّ لترى ما ترى عيناك في الجنة؟ فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: «نعم» فبكى الحبشيّ حتى فاضت نَفْسه.
وقال ابن عمر: فلقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يُدْليه في حفرته ويقول: {إِنَّ هذا كَانَ لَكُمْ جَزَاءً وَكَانَ سَعْيُكُم مَّشْكُوراً} قلنا: يا رسول الله وما هو؟ قال: «والذي نفسي بيده لقد أوقفه الله ثم قال أي عبدي لأبيضنّ وجهك ولأُبَوّئَنَّك من الجنة حيث شئت، فنعم أجر العاملين». اهـ.

.قال الألوسي:

{وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ} أي للخدمة {ولدان مُّخَلَّدُونَ} أي دائمون على ما هم فيه من الطراوة والبهاء وقيل مقرطون بخلدة وهي ضرب من القرطة وجاء في حديث أخرجه ابن مردويه عن أنس مرفوعا أنهم ألف خادم وفي بعض الآثار أضعاف ذلك.
والجود أعظم والمواهب أوسع... ويختلف ذلك قلة وكثرة باختلاف أعمال المخدومين {إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤاً مَّنثُوراً} لحسنهم وصفاء ألوانهم وإشراق وجوههم وانبثاثهم في مجالسهم ومنازلهم وانعكاس أشعة بعضهم إلى بعض وقيل شبهوا باللؤلؤ الرطب إذا نثر من صدفه لأنه أحسن وأكثر ماء وعليه هو من تشبيه المفرد لأن الانبثاث غير ملحوظ والخطاب في {رأيتهم} للنبي صلى الله عليه وسلم أو لكل واقف عليه وكذا في قوله تعالى: {وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ} أي هناك يعني في الجنة وهو في موضع النصب على الظرف و{رأيت} منزل منزلة اللازم فيفيد العموم في المقام الخطابي فالمعنى أن بصرك أينما وقع في الجنة {رَأَيْتَ نَعِيماً وَمُلْكاً كَبِيراً} عظيم القدر لا تحيط به عبارة وهو يشمل المحسوس والمعقول وقال عبد الله بن عمرو الكلبي عريضاً واسعاً يبصر أدناهم منزلة في الجنة في ملك مسيرة ألف عام يرى أقصاه كما يرى أدناه وذلك لما يعطى من حدة النظر أو هو من خصائص الجنة وقال مجاهد: هو استئذان الملائكة عليهم السلام فلا يدخلون عليهم إلا بإذن وقال الترمذي: وأظنه كما ظن أبو حيان الحكيم لا أبا عيسى المحدث صاحب الجامع هو ملك التكوين والمشيئة إذا أرادوا شيئاً كان وقيل هو النظر إلى الله عز وجل وقيل غير ذلك وقيل الملك الدائم الذي لا زوال له وزعم الفراء أن المعنى {وَإِذَا رَأَيْتَ مَا ثَمَّ رَأَيْتَ} إلخ وخرج على أنه أراد أن ثم ظرف لمحذوف وقع صلة لموصول محذوف هو مفعول رأيت والتقدير {وَإِذَا رَأَيْتَ مَا ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيماً} إلخ فحذف ما كما حذف في قوله تعالى: {لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ} [الأنعام: 94] أي ما بينكم وتعقبه الزجاج ثم الزمخشري بأنه خطأ لأنه لا يجوز إسقاط الموصول وترك الصلة وأنت تعلم أن الكوفيين يجيزون ذلك ومنه قوله:
فمن يهجو رسول الله منكم ** ويمدحه وينصره سواء

أراد ومن يمدحه فحذف الموصول وأبقى صلته وقد يقال أن ذلك إنما يرد لو أراد أن الموصول مقدر أما لو أراد المعنى وأن الظرف يغني غناء المفعول به فهو كلام صحيح لأن الظرف والمرئي كليهما الجنة وقرأ حميد الأعرج {ثم} بضم الثاء حرف عطف وجواب إذا على هذا محذوف يقدر بنحو تحير فكرك أو بنحو رأيت عاملاً في نعيماً.
{عاليهم ثِيَابُ سُندُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبرق} قيل {عاليهم} ظرف بمعنى فوقهم على أنه خبر مقدم و{ثياب} مبتدأ مؤخر والجملة حال من الضمير المجرور في {عاليهم} فهي شرح لحال الأبرار المطوف عليهم وقال أبو حيان: إن عالى نفسه حال من ذلك الضمير وهو اسم فاعل و{ثياب} مرفوع على الفاعلية به ويحتاج في إثبات كونه ظرفاً إلى أن يكون منقولا من كلام العرب عاليك ثوب مثلاً ومثله فيما ذكر عالية وقيل حال من ضمير {لقاهم} أو من ضمير {جزاهم} وقيل من الضمير المستتر في {متكئين} والكل بعيد وجوز كون الحال من مضاف مقدر قبل {نعيماً} أو قبل {ملكاً} أي رأيت أهل نعيم أو أهل ملك عاليهم إلخ وهو تكلف غير محتاج إليه وقيل صاحب الحال الضمير المنصوب في {حسبتهم} فهي شرح لحال الطائفين ولا يخفى بعده لما فيه من لزوم التفكيك ضرورة أن ضمير سقاهم فيما بعد كالمتعين عوده على الأبرار وكونه من التفكيك مع القرينة المعينة وهو مما لا بأس به ممنوع واعترض أيضاً بأن مضمون الجملة يصير داخلاً تحت الحسبان وكيف يكون ذلك وهم لابسون الثياب حقيقة بخلاف كونهم لؤلؤاً فإنه على طريق التشبيه المقتضى لقرب شبههم باللؤلؤ أن يحسبوا لؤلؤاً وأجيب بأن الحسبان في حال من الأحوال لا يقتضي دخول الحال تحت الحسبان ورفع {خضر} على أنه صفة {ثياب} {واستبرق} على أنه عطف على {ثياب} والمراد وثياب استبرق والسندس قال ثعلب ما رق من الديباج وقيل ما رق من ثياب الحرير والفرق أن الديباج ضرب من الحرير المنسوج يتلون ألواناً وقال الليث هو ضرب من البزيون يتخذ من المرعز وهو معرب بلا خلاف بين أهل اللغة على ما في (القاموس) وغيره وزعم بعض أنه مع كونه معرباً أصله سندي بياء النسبة لأنه يجلب من السند فأبدلت الياء سيناً كما قال في سادي سادس وهو كما ترى والاستبرق قيل ما غلظ من ثياب الحرير وقال أبو إسحاق الديباج الصفيق الغليظ الحسن وقال ابن دريد ثياب حرير نحو الديباج وعن ابن عبادة هو بردة حمراء وقيل هو المنسوج من الذهب وهو اسم أعجمي معرب عند جمع أصله بالفارسية استبره وفي (القاموس) معرب استروه وحكي ذلك عن ابن دريد وأنه قال: إنه سرياني وقيل معرب استفره وما في صورة الفاء ليست فاء خالصة وإنما هي بين الفاء والباء وقيل عربي وافقت لغة العرب فيه لغة غيرهم واستصوبه الأزهري وكما اختلفوا فيه هل هو معرب أو عربي اختلفوا هل هو نكرة أو علم جنس مبني أو معرب أو ممنوع من الصرف وهمزته همزة قطع أو وصل والصحيح على ما قال الخفاجي أنه نكرة معرب مصروف مقطوع الهمزة كما يشهد به القراءة المتواترة وسيعلم إن شاء الله تعالى حال ما يخالفها وفي (جامع التعريب) أن جمعه أبارق وتصغيره أبيرق حذفت السين والتاء في التكسير لأنهما زيدتا معاً فأجري مجرى الزيادة الواحدة وفي المسألة خلاف أيضاً مذكور في محله ولم يذكر لون هذا الاستبرق وأشار ناصر الدين إلى أنه الخضرة فخضر وإن توسط بين المعطوف والمعطوف عليه فهو لهما وعلى كل حال هذه الثياب لباس لهم وربما تشعر الآية بأن تحتها ثياباً أخرى وقيل على وجه الحالية من ضمير {متكئين} أن المراد فوق حجالهم المضروبة عليهم ثياب سندس إلخ وحاصله أن حجالهم مكللة بالسندس والاستبرق وقرأ ابن عباس بخلاف عنه والأعرج وأبو جعفر وشيبة وابن محيصن ونافع وحمزة {عاليهم} بسكون الياء وكسر الهاء وهي رواية أبان عن عاصم فهو مرفوع بضمة مقدرة على الياء على أنه مبتدأ و{ثياب} خبره وعند الأخفش فاعل سد مسد الخبر وقيل على أنه خبر مقدم وثياب مبتدأ مؤخر وأخبر به عن النكرة لأنه نكرة وإضافته لفظية وهو في معنى الجماعة كما في {سامراً تهجرون} [المؤمنون: 67] على ما صرح به مكي ولا حاجة إلى التزامه على رأي الأخفش وقيل هو باق على النصب والفتحة مقدرة على الياء وأنت تعلم أن مثله شاذ أو ضرورة فلا ينبغي أن يخرج عليه القراءة المتواترة وقرأ ابن مسعود والأعمش وطلحة وزيد بن علي {عاليتهم} بالياء والتاء مضمومة وعن الأعمش أيضاً وأبان عن عاصم فتح التاء الفوقية وتخريجهما كتخريج {عاليهم} بالسكون والنصب وقرأ ابن سيرين ومجاهد في رواية وقتادة وأبو حيوة وابن أبي عبلة والزعفراني وأبان أيضاً {عليهم} جاراً ومجروراً فهو خبر مقدم و{ثياب} مبتدأ مؤخر وقرأت عائشة {علتهم} بتاء التأنيث فعلاً ماضياً فثياب فاعل وقرأ ابن أبي عبلة وأبو حيوة {ثياب سندس} بتنوين {ثياب} ورفع {سندس} على أنه وصف لها وهذا كما يقول ثوب حرير تريد من هذا الجنس وقرأ العربيان ونافع في رواية {واستبرق} بالجر عطفاً على {سندس} وقرأ ابن كثير وأبو بكر بجر خضر صفة لـ: {سندس} وهو في معنى الجمع وقد صرحوا بأن وصف اسم الجنس الذي يفرق بينه وبين واحده بتاء التأنيث بالجمع جائز فصيح وعليه {ينشىء السحاب الثقال} [الرعد: 12] {والنخل باسقات} [ق: 10] وقد جاء سندسة في الواحدة كما قاله غير واحد وجوز كونه صفة لثياب وجره للجوار وفيه توافق القراءتين معنى إلا أنه قليل وقرأ الأعمش وطلحة والحسن وأبو عمرو بخلاف عنهما وحمزة والكسائي {خضر} {واستبرق} بجرهما وقرأ ابن محيصن {واستبرق} بوصل الألف وفتح القاف كما في عامة كتب القراءات ويفهم من (الكشاف) أنه قرأ بالقطع والفتح وأن غيره قرأ بما تقدم وهو خلاف المعروف وخرج الفتح على المنع من الصرف للعلمية والعجمة وغلط بأنه نكرة يدخله حرف التعريف فيقال الاستبرق وقيل إن ذاك كذا والوصل مبني على أنه عربي مسمى باستفعل من البريق يقال برق واستبرق كعجب واستعجب فهو في الأصل فعل ماض ثم جعل علماً لهذا النوع من الثياب فمنع من الصرف للعلمية ووزن الفعل دون العجمة وتعقب بأن كونه معرباً مما لا ينبغي أن ينكر وقيل هو مبني منقول من جملة فعل وضمير مستتر وحاله لا يخفى واختار أبو حيان أن {استبرق} على قراءة ابن محيصن فعل ماض من البريق كما سمعت وأنه باق على ذلك لم ينقل ولم يجعل علماً للنوع المعروف من الثياب وفيه ضمير عائد على السندس أو على الأخضر الدال عليه خضر كأنه لما وصف بالخضرة وهي مما يكون فيها لشدتها دهمة وغيش أخبر أن في ذلك اللون بريقاً وحسناً يزيل غبشه فقيل {واستبرق} أي برق ولمع لمعاناً شديداً ثم قال معرضاً بمن غلطه كأبي حاتم والزمخشري وهذا التخريج أولى من تلحين قارىء جليل مشهور بمعرفة العربية وتوهيم ضابط ثقة قد أخذ عن أكابر العلماء انتهى.
وقيل الجملة عليه معترضة أو حال بتقدير قد أو بدونه {وَحُلُّواْ أَسَاوِرَ} جمع سوار وهو معروف وذكر الراغب أنه معرب دستواره {مِن فِضَّةٍ} هي فضة لائقة بتلك الدار والظاهر أن هذا عطف على {يطوف عليهم} [الإنسان: 19] واختلافهما بالمضي والمضارعة لأن الحالية مقدمة على الطواف المتجدد ولا ينافي ما هنا قوله تعالى: {أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ} [فاطر: 33] لإمكان الجمع بتعدد الأساور لكل والمعاقبة بلبس الذهب تارة والفضة أخرى والتبعيض بأن يكون أساور بعض ذهباً وبعض فضة لاختلاف الأعمال وقيل هو حال من ضمير {عاليهم} بإضمار قد أو بدونه فإن كان الضمير للطائفين على أن يكون {عاليهم} حالاً من ضمير {حسبتهم} جاز أن يقال الفضة للخدم والذهب للمخدومين وجوز أن يكون المراد بالأساور الأنوار الفائضة على أهل الجنة المتفاوتة لتفاوت الأعمال تفاوت الذهب والفضة والتعبير عنها بأساور الأيدي لأنه جزاء ما عملته أيديهم ولا يخفى أن هذا مما لا يليق بالتفسير وحري أن يكون من باب الإشارة ثم أن التحلية إن كانت للولدان فلا كلام ويكونون على القول الثاني في {مخلدون} مسورين مقرطين وهو من الحسن بمكان وإن كانت لأهل الجنة المخدومين فقد استشكل بأنها لا تليق بالرجال وإنما تليق بالنساء والولدان وأجيب بأن ذلك مما يختلف باختلاف العادات والطبائع ونشأة الآخرة غير هذه النشأة ومن المشاهد في الدنيا أن بعض ملوكها يتحلون بأعضادهم وعلى تيجانهم وعلى صدورهم ببعض أنواع الحلى مما هو عند بعض الطباع أولى بالنساء والصبيان ولا يرون ذلك بدعاً ولا نقصاً كل ذلك لمكان الإلف والعادة فلا يبعد أن يكون من طباع أهل الجنة في الجنة الميل إلى الحلى مطلقاً لاسيما وهم جرد مرد أبناء ثلاثين وقيل أن الأساور إنما تكون لنساء أهل الجنة والصبيان فقط لكن غلب في اللفظ جانب التذكير وهو خلاف الظاهر كما لا يخفى {وسقاهم رَبهمْ شَرَاباً طَهُوراً} هو نوع آخر يفوق النوعين السابقين وهما ما مزج بالكافور وما مزج بالزنجبيل كما يرشد إليه إسناد سقيه إلى رب العالمين ووصفه بالطهورية قال أبو قلابة يؤتون بالطعام والشراب فإذا كان آخر ذلك أتوا بالشراب الطهور فيطهر بذلك قلوبهم وبطونهم ويفيض عرقاً من جلودهم مثل ريح المسك وعن مقاتل هو ماء عين على باب الجنة من ساق شجرة من شرب منه نزع الله تعالى ما كان في قلبه من غش وغل وحسد وما كان في جوفه من قذر وأذى أي إن كان فالطهور عليهما بمعنى المطهر وقد تقدم في ذلك كلام فتذكر وقال غير واحد أريد أنه في غاية الطهارة لأنه ليس برجس كخمر الدنيا التي هي في الشرع رجس لأن الدار ليست دار تكليف أو لأنه لم يعصر فتمسه الأيدي الوضرة وتدوسه الأقدام الدنسة ولم يجعل في الدنان والأباريق التي لم يعن بتنظيفها أو لأنه لا يؤل إلى النجاسة لأنه يرشح عرقاً من أبدانهم له ريح كريح المسك وقيل أريد بذاك الشراب الروحاني لا المحسوس وهو عبارة عن التجلي الرباني الذي يسكرهم عما سواه.
صفاء ولا ماء ولطف ولا هوا ** ونور ولا نار وروح ولا جسم

ولعل كل ما ذكره ابن الفارض في خمريته التي لم يفرغ مثلها في كأس إشارة إلى هذا الشراب وإياه عنى بقوله:
سقوني وقالوا لا تغن ولو سقوا ** جبال حنين ما سقوني لغنت

ويحكى أنه سئل أبو يزيد عن هذه الآية فقال سقاهم شراباً طهرهم به عن محبة غيره ثم قال إن لله تعالى شراباً ادخره لأفاضل عباده يتولى سقيهم إياه فإذا شربوا طاشوا وإذا طاشوا طاروا وإذا طاروا وصلوا وإذا وصلوا اتصلوا فهم في مقعد صدق عند مليك مقتدر وحمل بعضهم جميع الأشربة على غير المتبادر منها فقال إن الأنوار الفائضة من جواهر أكابر الملائكة وعظمائهم عليهم السلام على هذه الأرواح مشبهة بالماء العذب الذي يزيل العطش ويقوي البدن وكما أن العيون متفاوتة في الصفاء والكثرة والقوة فكذا ينابيع الأنوار العلوية مختلفة فبعضها كافورية على طبع البرد واليبس ويكون صاحب ذلك في الدنيا في مقام الحزن والبكاء والانقباض وبعضها يكون زنجبيلياً على طبع الحر واليبس ويكون صاحبه قليل الالتفات إلى السوي قليل المبالات بالأجسام والجسمانيات ثم لا يزال الروح البشري منتقلاً من ينبوع إلى ينبوع ومن نور إلى نور ولا شك أن الأسباب والمسببات متناهية في ارتقائها إلى واجب الوجود الذي هو النور المطلق جل جلاله فإذا وصل إلى ذلك المقام وشرب ذلك الشراب انهضمت تلك الأشربة المتقدمة بل فنيت لأن نور ما سوى الله يضمحل في مقابلة نور جلال الله سبحانه وكبريائه وذلك آخر سير الصديقين ومنتهى درجاتهم في الارتقاء والكمال ولهذا ختم الله تعالى ذكر ثواب الأبرار بقوله جل وعلا وسقاهم ربهم شراباً طهوراً.
{إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاءً وَكَانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُورًا (22)}
{إِنَّ هَذَا} الذي ذكر من فنون الكرامات الجليلة الشأن {كَانَ لَكُمْ جَزَاء} بمقابلة أعمالكم الصالحة التي اقتضاها حسن استعدادكم واختياركم والظاهر أن المجيء بالفعل للتحقيق والدوام وجوز أن يكون المراد كان في علمي وحكمي وكذا في قوله تعالى: {وَكَانَ سَعْيُكُم مَّشْكُوراً} أي مرضياً مقبولاً أو مجازى عليه غير مضيع والكلام على ما روي عن ابن عباس على إضمار القول أي ويقال لهم بعد دخولهم الجنة ومشاهدتهم ما أعد لهم أن هذا إلخ والغرض أن يزداد سرورهم فإنه يقال للمعاقب هذا بعملك الردىء فيزداد غمه وللمثاب هذا بطاعتك وعملك الحسن فيزداد سروره ويكون ذلك تهنئة له وجوز أن يكون خطاباً من الله تعالى في الدنيا كأنه سبحانه بعد أن شرح ثواب أهل الجنة قال: إن هذا كان في علمي وحكمي جزاءً لكم يا معشر عبادي وكان سعيكم مشكوراً قيل وهو لا يغني عن الإضمار ليرتبط بما قبله وقد ذكر سبحانه من الجزاء ما تهش له الألباب وأعقبه جل وعلا بما يدل على الرضا الذي هو أعلى وأغلى لدى الأحباب.
إذا كنت عني يا منى القلب راضيا ** أرى كل من في الكون لي يتبسم

وروي من طرق أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ هذه السورة وقد أنزلت عليه وعنده رجل من الحبشة أسود فلما بلغ صفة الجنان زفر زفرة خرجت نفسه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «أخرج نفس صاحبكم الشوق إلى الجنة». اهـ.

.قال ابن عاشور:

{وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ}
هذا طواف آخر غير طواف السُقاة المذكورِ آنفاً بقوله: {ويطاف عليهم بآنية من فضة} [الإنسان: 15] إلخ فهذا طواف لأداء الخِدمة فيشمل طواف السقاة وغيرهم.
و {وِلْدَان}: جمع وليد وأصل وليد فعيل بمعنى مفعول ويطلق الوليد على الصبي مجازاً مشهوراً بعلاقة ما كان، لقصد تقريب عهده بالولادة، وأحسن من يتخذ للخدمة الوِلدان لأنهم أخف حركةً وأسرع مشياً ولأن المخدوم لا يتحرج إذا أمرهم أو نهاهم.
ووصفوا بأنهم {مخلَّدون} للاحتراس مما قد يوهمه اشتقاق {وِلدان} من أنهم يشبون ويكتهلون، أي لا تتغير صفاتهم فهم وِلدان دَوْماً وإلاّ فإن خلود الذوات في الجنة معلوم فما كان ذكره إلاّ لأنه تخليد خاص.
وقال أبو عبيدة {مخلَّدون}: محلَّون بالخِلدَة بوزن قِرَدَة.
واحدها خُلْد كقُفل وهو اسم للقُرط في لغة حِمير.
وشُبهوا باللؤلؤ المنثور تشبيهاً مقيّداً فيه المشبه بحال خاص لأنهم شبهوا به في حسن المنظر مع التفرق.
وتركيب {إذا رأيتهم حسبتهم} مفيد للتشبيه المرادِ به التشابه والخطاب في {رأيتَ} [الإنسان: 20] خطاب لغَير معين، أي إذا رآه الرائِي.
والقول في معنى الطواف تقدم عند قوله تعالى: {ويُطاف عليهم بآنية من فضة} الآية [الإنسان: 15].
{وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيمًا وَمُلْكًا كَبِيرًا (20)}
الخطاب لغير معين.
و {ثَمّ} إشارة إلى المكان ولا يكون إلاّ ظرفاً والمشار إليه هنا ما جرى ذكره أعني الجنة المذكورة في قوله: {وجزاهم بما صبروا جَنة} [الإنسان: 12].
وفعل {رأيتَ} الأول منزل منزلة اللازم يدل على حصول الرؤية فقط لا تعلُّقِها بمرئي، أي إذا وجهت نظرك، و{رأيتَ} الثاني جواب {إذا}، أي إذا فتحت عينك ترى نعيماً.
والتقييد بـ {إذا} أفاد معنى الشرطية فدل على أن رؤية النعيم لا تتخلف عن بصر المبصر هنالك فأفاد معنى: لا ترى إلاّ نعيماً، أي بخلاف ما يرى في جهات الدنيا.
وفي قوله: {ومُلْكاً كبيراً} تشبيه بليغ، أي مثل أحوال المُلك الكبير المتنعِّم ربه.
وفائدة هذا التشبيه تقريب المشبه لِمدارك العقول.
والكبير مستعار للعظيم وهو زائد على النعيم بما فيه من رفعة وتذليل للمصاعب.
{عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُنْدُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبرق وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِنْ فِضَّةٍ وَسَقَاهُمْ رَبهمْ شَرَابًا طَهُورًا (21)}
هذه الأشياء من شعار الملوك في عرف الناس زَمانَئِذ، فهذا مرتبط بقوله: {ومُلكاً كبيراً} [الإنسان: 20].
وقرأ نافع وحمزة وأبو جعفر {عَاليهم} بسكون الياء على أن الكلام جملة مستأنفة استئنافاً بيانياً لجملة {رأيْتَ نعيماً ومُلْكاً كبيراً} [الإنسان: 20]، ف {عاليهم} مبتدأ و{ثياب سندس} فاعلُه سادٌّ مسدّ الخبر وقد عمل في فاعله وإن لم يكن معتمداً على نفي أو استفهام أو وصف، وهي لغة خَبير بنو لهب وتكون الجملة في موضع البيان لجملة: {رأيت نعيماً} [الإنسان: 20].
وقرأ بقية العشرة {عَاليَهم} بفتح التحتية على أنه حال مفرد ل {الأبرار} [الإنسان: 5]، أي تلك حالة أهل الملك الكبير.
وإضافة {ثياب} إلى {سندس} بيانية مثل: خَاتَم ذَهَببِ، وثَوْببِ خَزَ، أي منه.
والسندس: الديباج الرقيق.
والإستبرق: الديباج الغليظ وتقدما عند قوله تعالى: {ويلبسون ثياباً خضراً من سندس وإستبرق} في سورة الكهف (31) وهما معرَّبان.
فأما السندس فمعرب عن اللغة الهندية وأصله (سندون) بنون في آخره، قيل: إن سبب هذه التسمية أنه جلب إلى الإِسكندر، وقيل له: إن اسمه (سندون) فصيره للغة اليونان سندوس لأنهم يكثرون تنهية الأسماء بحرف السين وصيّره العرب سُندساً.
وفي اللسان: أن السندس يتخذ من المِرْعِزَّى (كذا ضبطه مصححه) والمعروف المِرْعِز كما في (التذكرة) و(شفاء الغليل).
وفي (التذكرة) المِرْعز: ما نَعُم وطال من الصوف اهـ.
فلعله صوف حيوان خاص فيه طول أو هو من نوع الشعَر، والظاهر أنه لا يكون إلاّ أخضر اللون لقول يزيد بن حذاق العبدي يصف مرعى فَرسه:
وداوَيْتُها حتى شَتَتْ حَبَشِيَّةً ** كأنَّ عليها سُندساً وسُدُوساً

أي في أرض شديدة الخضرة كلون الحَبشي.
وفي (اللسان): السدوس الطيلسان الأخضر.
ولقول أبي تمَّام يرثي محمد بن حميد النبهاني الطوسي:
تَرَدَّى ثيَابَ الموتِ حُمْراً فما أتَى ** لها الليلُ إلاَّ وهْيَ من سُندس خُضْرُ

وأما الإِستبرق فنسج من نسج الفرس واسمه فارسي، وأصله في الفارسية: استقره.
والمعنى: أن فوقهم ثياباً من الصنفين يلبسون هذا وذاك جمعاً بين محاسن كليهما، وهي أفخر لباس الملوك وأهل الثروَة.
ولون الأخضر أمتع للعين وكان من شعار الملوك، قال النابغة يمدح ملوك غسان:
يَصونُون أجْساداً قديما نعيمها ** بخَالصةِ الأردَان خُضْر المَنَاكِب

والظاهر أن السندس كان لا يصبغ إلاّ أخضر اللون.
وقرأ نافع وحفص {خضرٌ} بالرفع على الصفة ل {ثياب}.
و {إستبرق بالرفع أيضاً على أنه معطوف على ثياب} بقيد كونها من سندس فمعنى عاليهم إستبرق: أن الإِستبرق لباسُهم.
وقرأ ابن كثير وأبو بكر عن عاصم {خُضْرٍ} بالجر نعتاً ل {سندس} و{إستبرق} بالرفع عطفاً على {ثياب}.
وقرأ ابن عامر وأبو عمرو وأبو جعفر ويعقوب {خُضْرٌ} بالرفع و{إستبرق} بالجر عطفاً على {سندس} بتقدير: وثياب إستبرق.
وقرأ حمزة والكسائي {خُضرٍ} بالجر نعتاً ل {سندسٍ} باعتبار أنه بيان للثياب فهو في معنى الجمع.
وقرأ و{إستبرق} بالجر عطفاً على {سندس}.
والأساور: جمع سِوار وهو حَلي شكله اسطواني فارغ الوسط يلبسه النساء في معاصمهن ولا يلبسه الرجال إلاّ الملوك، وقد ورد في الحديث ذكر سواري كسْرى.
والمعنى: أن حال رجال أهل الجنة حال الملوك ومعلوم أن النساء يتحلّيْنَ بأصناف الحلي. ووصفت الأساور هنا بأنها من فضة.
وفي سورة الكهف (31) بأنها {من ذهب} في قوله: يُحلَّون فيها من أساور من ذهب، أي مرة يحلَّون هذه ومرة الأخرى، أو يحلونهما جميعاً بأن تجعل متزاوجة لأن ذلك أبهج منظراً كما ذكرناه في تفسير قوله: {كانت قواريرا قواريرا من فضة} [الإنسان: 15، 16].
هذا احتراس مما يوهمه شُربهم من الكأس الممزوجة بالكافور والزنجبيل من أن يكون فيها ما في أمثالها المعروفة في الدنيا ومن الغَوْل وسوءِ القول والهذيان، فعبر عن ذلك بكون شرابهم طَهوراً بصيغة المبالغة في الطهارة وهي النزاهة من الخبائث، أي منزهاً عما في غيره من الخباثة والفساد.
وأسند سقيه إلى ربهم إظهاراً لكرامتهم، أي أمر هو بسقيهم كما يقال: أطعَمهم ربُّ الدار وسقاهم.
{إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاءً وَكَانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُورًا (22)}
هذا الكلام مقول قول محذوف قرينته الخطاب إذ ليس يصلح لهذا الخطاب مما تقدم من الكلام إلاّ أن يكون المخاطَبون هم الأبرارَ الموصوفَ نعيمهم.
والقول المحذوف يقدر فعلاً في موضع الحال من ضمير الغائب في {سقاهم} [الإنسان: 21]، نحو: يُقال لهم، أو يَقول لهم ربهم، أو يقدر اسماً هو حال من ذلك الضمير نحو: مَقولاً لهم هذا اللفظ، أو قائلاً لهم هذا اللفظ.
والإِشارة إلى ما يكون حاضراً لديهم من ألوان النعيم الموصوف فيما مضى من الآيات.
والمقصود من ذلك الثناء عليهم بما أسلفوا من تقوى الله وتكرمتهم بذلك وتنشيط أنفسهم بأن ما أنعم به عليهم هو حق لهم جزاء على عملهم.
وإقحام فعل {كان} للدلالة على تحقيق كونه جزاء لا منًّا عليهم بما لم يستحقوا، فإن من تمام الإِكرام عند الكرام أن يُتبعوا كرامتهم بقول ينشط له المكرَم ويزيل عنه ما يعرض من خجل ونحوه، أي هو جزاء حقاً لا مبالغة في ذلك.
وعطف على ذلك قوله: {وكان سعيكم مشكوراً} علاوة على إيناسهم بأن ما أغدق عليهم كان جزاء لهم على ما فعلوا بأن سعيهم الذي كان النعيمُ جزاء عليه، هو سعي مشكور، أي مشكور ساعِيه، فأسند المشكور إلى السعي على طريقة المجاز العقلي مثل قولهم: سَيْل مُفْعَم.
ولك أن تجعل {مشكوراً} مفعولاً حقيقة عقلية لكن على طريقة الحذف والإِيصال، أي مشكوراً عليه.
وإقحام فعل {كان} كإقحام نظيره آنفاً. اهـ.

.قال الشوكاني في الآيات السابقة:

قوله: {متكئين فِيهَا على الأرائك}
منصوب على الحال من مفعول جزاهم، والعامل فيها جزى، ولا يعمل فيها صبروا؛ لأن الصبر إنما كان في الدنيا، وجوّز أبو البقاء أن يكون صفة لجنة.
قال الفرّاء: وإن شئت جعلت متكئين تابعاً، كأنه قال: جزاهم جنة {متكئين} فيها.
وقال الأخفش: يجوز أن يكون منصوباً على المدح، والضمير من {فيها} يعود إلى الجنة، والأرائك: السرر في الحجال، وقد تقدّم تفسيرها في سورة الكهف {لاَ يَرَوْنَ فِيهَا شَمْساً وَلاَ زَمْهَرِيراً} الجملة في محل نصب على الحال من مفعول جزاهم، فتكون من الحال المترادفة، أو من الضمير في متكئين، فتكون من الحال المتداخلة، أو صفة أخرى لجنة، والزمهرير: أشدّ البرد، والمعنى: أنهم لا يرون في الجنة حرّ الشمس ولا برد الزمهرير، ومنه قول الأعشى:
منعمة طفلة كالمها ** لم تر شمساً ولا زمهريراً

وقال ثعلب: الزمهرير القمر بلغة طيّ، وأنشد لشاعرهم:
وليلة ظلامها قد اعتكر ** قطعتها والزمهرير ما زهر

ويروى: ما ظهر، أي: لم يطلع القمر، وقد تقدّم تفسير هذا في سورة مريم.
{وَدانية عَلَيْهِمْ ظلالها} قرأ الجمهور: {دانية} بالنصب عطفاً على محل {لا يرون}، أو على {متكئين}، أو صفة لمحذوف، أي: وجنة دانية، كأنه قال: وجزاهم جنة دانية.
وقال الزجاج: هو صفة لـ: {جنة} المتقدم ذكرها.
وقال الفرّاء: هو منصوب على المدح.
وقرأ أبو حيوة: {ودانية} بالرفع على أنه خبر مقدّم، و{ظلالها} مبتدأ مؤخر، والجملة في موضع النصب على الحال، والمعنى: أن ظلال الأشجار قريبة منهم مظلة عليهم زيادة في نعيمهم، وإن كان لا شمس هنالك.
قال مقاتل: يعني: شجرها قريب منهم.
وقرأ ابن مسعود: {ودانياً عليهم}.
{وَذللت قُطُوفُهَا تَذْلِيلاً} معطوف على {دانية} كأنه قال: ومذللة.
ويجوز أن تكون الجملة في محل نصب على الحال من الضمير في {عليهم}، ويجوز أن تكون مستأنفة، والقطوف الثمار، والمعنى: أنها سخرت ثمارها لمتناوليها تسخيراً كثيراً بحيث يتناولها القائم والقاعد والمضطجع لا يردّ أيديهم عنها بعد ولا شوك.
قال النحاس: المذلل القريب المتناول، ومنه قولهم حائط ذليل، أي: قصير.
قال ابن قتيبة: {ذللت} أدنيت، من قولهم حائط ذليل أي: كان قصير السمك.
وقيل: ذللت، أي: جعلت منقادة لا تمتنع على قطافها كيف شاءوا.
{وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ بِئَانِيَةٍ مّن فِضَّةٍ وَأَكْوابٍ} أي: تدور عليهم الخدم إذا أرادوا الشراب بآنية الفضة، والأكواب جمع ركوب، وهو: الكوز العظيم الذي لا أذن له ولا عروة، ومنه قول عديّ:
متكىء تقرع أبوابه ** يسعى عليه العبد بالكوب

وقد مضى تفسيره في سورة الزخرف {كَانَتْ قَوَارِيرَاْ قَوَارِيرَاْ مِن فِضَّةٍ} أي: في وصف القوارير في الصفاء وفي بياض الفضة، فصفاؤها صفاء الزجاج، ولونها لون الفضة.
قرأ نافع، والكسائي، وأبو بكر: {قوارير قوارير} بالتنوين فيهما مع الوصل، وبالوقف عليهما بالألف، وقد تقدّم وجه هذه القراءة في تفسير قوله: {سلاسل} [الإنسان: 4] من هذه السورة، وبيّنا هنالك وجه صرف ما فيه صيغة منتهى الجموع فارجع إليه.
وقرأ حمزة بعدم التنوين فيهما، وعدم الوقف بالألف، ووجه هذه القراءة ظاهر لأنهما ممتنعان لصيغة منتهى الجموع.
وقرأ هشام بعدم التنوين فيهما مع الوقف عليهما بالألف، وقرأ ابن كثير بتنوين الأوّل دون الثاني، والوقف على الأوّل بالألف دون الثاني.
وقرأ أبو عمرو، وحفص، وابن ذكوان بعدم التنوين فيهما، والوقف على الأوّل بالألف دون الثاني، والجملة في محل جرّ صفة لأكواب.
قال أبو البقاء: وحسن التكرير لما اتصل به من بيان أصلها.
قال الواحدي: قال المفسرون: جعل الله قوارير أهل الجنة من فضة، فاجتمع لها بياض الفضة وصفاء القوارير.
قال الزجاج: القوارير التي في الدنيا من الرمل، فأعلم الله فضل تلك القوارير أن أصلها من فضة يرى من خارجها ما في داخلها، وجملة {قَدَّرُوهَا تَقْدِيراً} صفة لقوارير.
قرأ الجمهور: {قدّروها} بفتح القاف على البناء للفاعل، أي: قدّرها السقاة من الخدم الذين يطوفون عليهم على قدر ما يحتاج إليه الشاربون من أهل الجنة من دون زياد ولا نقصان.
قال مجاهد وغيره: أتوا بها على قدر ريهم بغير زيادة ولا نقصان.
قال الكلبي: وذلك ألذّ وأشهى.
وقيل: قدّرها الملائكة.
وقيل: قدّرها أهل الجنة الشاربون على مقدار شهواتهم وحاجتهم، فجاءت كما يريدون في الشكل لا تزيد ولا تنقص.
وقرأ عليّ، وابن عباس، والسلمي، والشعبي، وزيد بن عليّ، وعبيد بن عمير، وأبو عمرو في رواية عنه: {قدّروها} بضم القاف، وكسر الدال مبنياً للمفعول، أي: جعلت لهم على قدر إرادتهم.
قال أبو علي الفارسي: هو من باب القلب، قال: لأن حقيقة المعنى أن يقال: قدّرت عليهم لا قدّروها؛ لأنه في معنى قدروا عليها.
وقال أبو حاتم: التقدير قدّرت الأواني على قدر ريهم، فمفعول ما لم يسمّ فاعله محذوف.
قال أبو حيان: والأقرب في تخريج هذه القراءة الشاذة أن يقال: قدّر ريهم منها تقديراً، فحذف المضاف، فصار قدّروها.
وقال المهدوي: إن القراءة الأخيرة يرجع معناها إلى معنى القراءة الأولى، وكأن الأصل قدّروا عليها فحذف حرف الجرّ، كما أنشد سيبويه:
آليت حبّ العراق الدهر آكله ** والحب يأكله في القرية السوس

أي: آليت على حبّ العراق.
{وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْساً كَانَ مِزَاجُهَا زَنجَبِيلاً} قد تقدّم أن الكأس هو الإناء فيه الخمر، وإذا كان خالياً عن الخمر، فلا يقال له كأس، والمعنى: أن أهل الجنة يسقون في الجنة كأساً من الخمر، ممزوجة بالزنجبيل وقد كانت العرب تستلذّ مزج الشراب بالزنجبيل لطيب رائحته.
وقال مجاهد، وقتادة: الزنجبيل اسم للعين التي يشرب بها المقرّبون.
وقال مقاتل: هو زنجبيل لا يشبه زنجبيل الدنيا.
{عيناً فِيهَا تسمى سَلْسَبِيلاً} انتصاب {عيناً} على أنها بدل من {كأساً}.
ويجوز أن تكون منصوبة بفعل مقدّر، أي: يسقون عيناً، ويجوز أن تكون منصوبة بنزع الخافض، أي: من عين، والسلسبيل: الشراب اللذيذ، مأخوذ من السلاسة، تقول العرب: هذا شراب سلس، وسلسال، وسلسبيل، أي: طيب لذيذ.
قال الزجاج: السلسبيل في اللغة اسم لماء في غاية السلاسة حديد الجرية يسوغ في حلوقهم، ومنه قول حسان بن ثابت:
يسقون من ورد البريص عليهم ** كأساً يصفق بالرحيق السلسل

{وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ ولدان مُّخَلَّدُونَ} لما فرغ سبحانه من وصف شرابهم ووصف آنيتهم، ووصف السقاة الذين يسقونهم ذلك الشراب، ومعنى {مُّخَلَّدُونَ}: باقون على ما هم عليه من الشباب، والطراوة، والنضارة، لا يهرمون، ولا يتغيرون.
وقيل معنى {مُّخَلَّدُونَ}: لا يموتون.
وقيل: التخليد التحلية، أي: محلون {إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤاً مَّنثُوراً}: إذا نظرت إليهم ظننتهم لمزيد حسنهم، وصفاء ألوانهم، ونضارة وجوههم لؤلؤاً مفرّقاً.
قال عطاء: يريد في بياض اللون وحسنه، واللؤلؤ إذا نثر من الخيط على البساط كان أحسن منه منظوماً.
قال أهل المعاني: إنما شبهوا بالمنثور لانتثارهم في الخدمة، ولو كانوا صفاً لشبهوا بالمنظوم.
وقيل: إنما شبههم بالمنثور؛ لأنهم سراع في الخدمة، بخلاف الحور العين.
فإنه شبههنّ باللؤلؤ المكنون؛ لأنهنّ لا يمتهنّ بالخدمة.
{وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيماً وَمُلْكاً كَبِيراً} أي: وإذا رميت ببصرك هناك، يعني: في الجنة رأيت نعيماً لا يوصف، وملكاً كبيراً لا يقادر قدره، وثم ظرف مكان، والعامل فيها رأيت.
قال الفرّاء: في الكلام ما مضمرة، أي: وإذا رأيت ما ثم، كقوله: {لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ} [الأنعام: 94] أي: ما بينكم.
قال الزجاج معترضاً على الفراء: إنه لا يجوز إسقاط الموصول وترك الصلة، ولكن رأيت يتعدّى في المعنى إلى ثم.
والمعنى: إذا رأيت ببصرك ثم، ويعني بثمّ: الجنة.
قال السديّ: النعيم ما يتنعم به، والملك الكبير: استئذان الملائكة عليهم، وكذا قال مقاتل، والكلبي.
وقيل: إن رأيت ليس له مفعول ملفوظ، ولا مقدّر ولا منويّ، بل معناه: أن بصرك أينما وقع في الجنة رأيت نعيماً وملكاً كبيراً.
{عاليهم ثِيَابُ سُندُسٍ} قرأ نافع، وحمزة، وابن محيصن: {عاليهم} بسكون الياء وكسر الهاء على أنه خبر مقدّم، و{ثياب} مبتدأ مؤخر، أو على أن {عاليهم} مبتدأ، و{ثياب} مرتفع بالفاعلية، وإن لم يعتمد الوصف، كما هو مذهب الأخفش.
وقال الفراء: هو مرفوع بالابتداء، وخبره: {ثياب سندس}، واسم الفاعل مراد به الجمع.
وقرأ الباقون بفتح الياء وضم الهاء على أنه ظرف في محلّ رفع على أنه خبر مقدّم، و{ثياب} مبتدأ مؤخر، كأنه قيل فوقهم ثياب.
قال الفرّاء: إن {عاليهم} بمعنى فوقهم، وكذا قال ابن عطية.
قال أبو حيان: عال وعالية اسم فاعل، فيحتاج في كونهما ظرفين إلى أن يكون منقولاً من كلام العرب، وقد تقدّمه إلى هذا الزجاج وقال: هذا مما لا نعرفه في الظروف ولو كان ظرفاً لم يجز إسكان الياء، ولكنه نصب على الحال من شيئين: أحدهما الهاء والميم في قوله: {يَطُوفُ عَلَيْهِمْ} أي: على الأبرار {ولدان} عالياً الأبرار {ثِيَابُ سُندُسٍ} أي: يطوف عليهم في هذه الحال.
والثاني أن يكون حالاً من الولدان، أي: إذا رأيتهم حسبتهم لؤلؤاً منثوراً في حال علوّ الثياب أبدانهم.
وقال أبو عليّ الفارسي: العامل في الحال إما {لقاهم نضرة وسروراً}، وإما {جزاهم بما صبروا}.
قال: ويجوز أن يكون ظرفاً.
وقرأ ابن سيرين، ومجاهد، وأبو حيوة، وابن أبي عبلة: {عليهم}، وهي قراءة واضحة المعنى ظاهرة الدلالة.
واختار أبو عبيد القراءة الأولى لقراءة ابن مسعود: {عاليتهم}.
وقرأ الجمهور بإضافة {ثياب} إلى {سندس}.
وقرأ أبو حيوة، وابن أبي عبلة بتنوين {ثياب}، وقطعها عن الإضافة، ورفع {سندس}، و{خُضْرٌ وَإِسْتَبرق} على أن السندس نعت للثياب؛ لأن السندس نوع من الثياب، وعلى أن {خضر} نعت لسندس؛ لأنه يكون أخضر وغير أخضر، وعلى أن {إستبرق} معطوف على {سندس}، أي: وثياب إستبرق، والجمهور من القراء اختلفوا في {خضر} و{إستبرق} مع اتفاقهم على جرّ {سندس} بإضافة {ثياب} إليه؛ فقرأ ابن كثير، وأبو بكر عن عاصم، وابن محيصن بجرّ خضر نعتاً لـ: {سندس}، ورفع {إستبرق} عطفاً على {ثياب} أي: عليهم ثياب سندس وعليهم إستبرق.
وقرأ أبو عمرو، وابن عامر برفع {خضر} نعتاً لـ: {ثياب}، وجرّ {إستبرق} نعت لـ: {سندس}.
واختار هذه القراءة أبو حاتم، وأبو عبيد؛ لأن الخضر أحسن ما كانت نعتاً للثياب فهي مرفوعة، والإستبرق من جنس السندس.
وقرأ نافع، وحفص برفع {خضر وإستبرق} لأن {خضر} نعت للثياب، و{إستبرق} عطف على الثياب.
وقرأ الأعمش، وحمزة، والكسائي بجرّ {خضر وإستبرق} على أن {خضر} نعت للسندس، و{إستبرق} معطوف على {سندس}.
وقرءوا كلهم بصرف {إستبرق} إلاّ ابن محيصن، فإنه لم يصرفه، قال: لأنه أعجمي، ولا وجه لهذا؛ لأنه نكرة إلاّ أن يقول إنه علم لهذا الجنس من الثياب.
والسندس: ما رقّ من الديباج.
والإستبرق: ما غلظ منه، وقد تقدّم تفسيرهما في سورة الكهف.
{وَحُلُّواْ أَسَاوِرَ مِن فِضَّةٍ} عطف على {يطوف عليهم}.
ذكر سبحانه هنا أنهم يحلون بأساور الفضّة، وفي سورة فاطر: {يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ} [فاطر: 33] وفي سورة الحج: {يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً} [الحج: 23] ولا تعارض بين هذه الآيات لإمكان الجمع بأن يجعل لهم سوارات من ذهب وفضة ولؤلؤ، أو بأن المراد أنهم يلبسون سوارات الذهب تارة، وسوارات الفضة تارة، وسوارات اللؤلؤ تارة، أو أنه يلبس كل أحد منه ما تميل إليه نفسه من ذلك، ويجوز أن تكون هذه الجملة في محلّ نصب على الحال من ضمير {عاليهم} بتقدير قد {وسقاهم رَبهمْ شَرَاباً طَهُوراً} هذا نوع آخر من الشراب الذي يمنّ الله عليهم به.
قال الفرّاء: يقول هو طهور ليس بنجس، كما كان في الدنيا موصوفاً بالنجاسة.
والمعنى: أن ذلك الشراب طاهر ليس كخمر الدنيا.
قال مقاتل: هو عين ماء على باب الجنة من شرب منها نزع الله ما كان في قلبه من غشّ، وغلّ، وحسد.
قال أبو قلابة، وإبراهيم النخعي: يؤتون بالطعام، فإذا كان آخره أتوا بالشراب الطهور، فيشربون فتضمر بطونهم من ذلك، ويفيض عرق من أبدانهم مثل ريح المسك {إِنَّ هذا كَانَ لَكُمْ جَزَاء} أي: يقال لهم: إن هذا الذي ذكر من أنواع النعم كان لكم جزاء بأعمالكم أي: ثواباً لها {وَكَانَ سَعْيُكُم مَّشْكُوراً} أي: كان عملكم في الدنيا بطاعة الله مرضياً مقبولاً، وشكر الله سبحانه لعمل عبده هو قبوله لطاعته.
وقد أخرج عبد بن حميد، وابن أبي حاتم عن ابن مسعود قال: الزمهرير هو البرد الشديد.
وأخرج البخاري، ومسلم، وغيرهما عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اشتكت النار إلى ربها فقالت: ربّ أكل بعضي بعضاً، فجعل لها نفسين: نفساً في الصيف، ونفساً في الشتاء، فشدّة ما تجدون من البرد من زمهريرها، وشدّة ما تجدون في الصيف من الحرّ من سمومها» وأخرج الفريابي، وسعيد بن منصور، وابن أبي شيبة، وهناد بن السريّ، وعبد بن حميد، وعبد الله بن أحمد في زوائد الزهد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والحاكم وصححه، وابن مردويه، والبيهقي في البعث عن البراء بن عازب في قوله: {وَدانية عَلَيْهِمْ ظلالها} قال: قريبة {وَذللت قُطُوفُهَا تَذْلِيلاً} قال: إن أهل الجنة يأكلون من ثمار الجنة قياماً وقعوداً، ومضطجعين وعلى أيّ حال شاءوا. وفي لفظ قال: ذللت فيتناولون منها كيف شاءوا.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، والبيهقي في البعث عن ابن عباس قال: {ءانِيَةٍ مِن فِضَّةٍ} وصفاؤها كصفاء القوارير {قَدَّرُوهَا تَقْدِيراً} قال: قدّرت للكف.
وأخرج عبد الرزاق، وسعيد بن منصور، والبيهقي عنه قال: لو أخذت فضة من فضة الدنيا، فضربتها حتى جعلتها مثل جناح الذباب لم ير الماء من ورائها، ولكن قوارير الجنة بياض الفضة في صفاء القوارير.
وأخرج ابن أبي حاتم عنه أيضاً قال: ليس في الجنة شيء إلاّ وقد أعطيتم في الدنيا شبهه إلاّ قوارير من فضة.
وأخرج الفريابي عنه أيضاً في قوله: {قَدَّرُوهَا تَقْدِيراً} قال: أتوا بها على قدر الفم لا يفضلون شيئًا، ولا يشتهون بعدها شيئًا.
وأخرج عبد بن حميد، وابن المنذر عنه أيضاً: {قَدَّرُوهَا تَقْدِيراً} قال: قدّرتها السقاة.
وأخرج ابن المبارك، وهناد، وعبد بن حميد، والبيهقي في البعث عن ابن عمرو قال: إن أدنى أهل الجنة منزلاً من يسعى عليه ألف خادم كل خادم على عمل ليس عليه صاحبه، وتلا هذه الآية: {إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤاً مَّنثُوراً}. اهـ.

.قال عبد الكريم الخطيب في الآيات السابقة:

قوله تعالى: {وَيُطافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ..}..
أي ومن نعيم الأبرار في الجنة، أنه يطاف عليهم فيها بأوان من فضة، قد ملئت بألوان النعيم، من مأكول ومشروب، كما يطاف عليهم بأكواب لم ترها عين في الحياة الدنيا، فهى أكواب من فضة، ولكنها في شفافية الزجاج، حتى ليحسبها الرائي قوارير، أي زجاجا.. والواقع أنها من الفضة، والفضة مهما رقّت لا تشفّ أبدا، فلو استطاع صانع أن يصنع من درهم فضة إبريقا، أو دلوا، لما شف هذا الإناء عما في داخله كما يشفّ الإناء من الزجاج..
وقوله تعالى: {قَدَّرُوها تَقْدِيراً}.. الضمير في {قدروها} يعود إلى السقاة الذين يطوفون بتلك الآنية، وهذه الأكواب.. وأنهم جعلوها بمقادير وأحجام مقدرة بحسب طلب كل طالب.. كما يصح أن يعود هذا الضمير على الشاربين، وأنهم إذا رغبوا في الشراب انتصبت في الحال بين أيديهم تلك الأكواب، فكانت على قدر ما رغبوا.
ومما يساق إلى الأبرار من نعيم، أنهم يسقون في هذه الأكواب- التي أصبحت بالشراب كأسا- يسقون كأسا قد امتزج فيها طعم الزنجبيل بمذاق الخمر..
والزنجبيل: عروق نبات تمتد في الأرض، نقيعه حرّيف الطعم، يكون أشبه بالتفكهة لشارب الخمر..
فالضمير في {فيها} من قوله تعالى: {يُسْقَوْنَ فِيها كَأْساً} يعود إلى تلك الأكواب التي هي قوارير من فضة..
فالأكواب، وصف لكئوس الشراب وهى فارغة، والكأس مسمّاها وهى ملأى بالشراب..
وقوله تعالى: {عيناً فِيها تُسَمَّى سَلْسَبِيلًا} أي ويسقون عينا في هذه الكأس تسمّى سلسبيلا..
فقوله تعالى: {عيناً فِيها} عطف بيان لقوله تعالى: {كَأْساً}.. فالعين هي الكأس، والكأس هي الأكواب.. يرون هذا المشهد يمرّ بهم في لحظة خاطفة.. فأداة الشرب، وهى الكوب، تبدو أولا، ثم- وفى لحظة لازمنية- ترى كأسا ملأى بالشراب.. ثم- وفى لحظة لازمنية أيضا- ترى هذه الكأس عينا تفجر تفجيرا، لا ينفد شرابها، مادامت الكأس على فم الشارب، فإذا أخذ حاجته منها غاضت هذه العين، وغاب وجه الساقي القائم على خدمتها، ليفسح المكان لألوان أخرى من النعيم.. لا تنتهى أبدا..
والسلسبيل: الدائم الجريان، السائغ الطعم، فيجرى في الحلق جريان الماء في منحدر الوادي. وبه سميت العين، من تسمية الموصوف بصفته..
وقد جمعت الأكواب، حتى إذا امتلأت بالشراب، أفردت، فكان لكل شارب كأسه الذي يشرب منه، والعين التي تفيض من هذه الكأس..
وهذا من إعجاز القرآن الكريم في جلال التصوير، وروعة الأداء، وصدق العرض..
ولا تظنن أنا ذهبنا مذهب الشطط، أو الشطح في تأويل هذه الآيات..
فما ذلك إلا شعاعة من سناها العلوي، الذي يملأ الوجود كله.. وإن هذا الترف الذي يبدو من الصورة التي عرضناها لمجلس الشراب، هو صورة باهتة هزيلة للحقيقة الواقعة التي يعيش فيها أهل هذا المجلس، في الجنة..
قوله تعالى: {وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ إِذا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤاً مَنْثُوراً} أي أن الذين يطوفون بهذا الشراب، ويقومون على خدمة الشاربين، هم ولدان، أي غلمان في أول بواكير الشباب، إذا رآهم راء حسبهم لؤلؤا منثورا.. صفاء، ورونقا، ونضارة، وإشراقا..
وفى مجيء نظم الآية في صورة خطاب- بعث لأشواق المخاطب، ودعوة له إلى مشاهدة هذه الأحوال، ثم العمل على أخذ مكانه مع هؤلاء الذين ينظر إليهم.
والمخلدون: الذين لا يتحولون عن حالهم تلك أبدا، ولا يتأثرون بمرور الدهور والأزمان.. وهو من الخلد: أي الثبات، وعدم التحول، والانتقال من مكان إلى مكان.. يقال، أخلد فلان في مكانه، أي لزمه، وأخلد إلى الراحة أي أقام في ظلها.. ومنه جنّة الخلد، أي الخلود والدوام فيها.
واللؤلؤ المنثور، هو اللؤلؤ المتناثر الحبات، الذي لم ينتظمه عقد.. واللؤلؤ المنثور أبهى منظرا، وأبهر موقعا في العين، منه لو كان منضّما بعضه إلى بعض..
كالمنثور من الزهر في الروض، تتنقل العين في محاسنه من زهرة إلى زهرة، على حلاف ما لو ضمّ بعضه إلى بعض لأخذته العين كله بنظرة واحدة!! قوله تعالى: {وَإِذا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيماً وَمُلْكاً كَبِيراً} ثم: أي هناك، في الجنة، وما يلقاه أهلها فيها من نعيم.. إنك لو كنت هناك- جعلنا الله وإياك من أهلها- لرأيت نعيما لا حدود له، وملكا كبيرا قائما بين يدى أصحاب النعيم.
والمراد بالملك الكبير هنا، السلطان العظيم الذي هو مظهر من مظاهر الملك، وسمة من سماته..
وأي سلطان أعظم من سلطان أهل الجنة، حيث تمضى إرادتهم في كل شىء، وتنفذ مشيئنهم في كل شى ء؟ إن خطرات النفوس، وهمسات الخواطر- أيّا كانت هذه الخطرات، وأيّا كانت هذه الهمسات- تتمثل لهم واقعا حاضرا بين أيديهم، قبل أن يكتمل ميلاد الخطرة، أو تتشكل صورة الهمسة!! فمن في هذه الدنيا بلغ من نفوذ سلطانه معشار هذا السلطان؟
وتاء الخطاب في قوله تعالى: {إِذا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ} وفى قوله سبحانه: {وَإِذا رَأَيْتَ ثَمَّ}- هو لكل مستمع لهذه الآيات، أو تال لها، وفى هذا ما يبعث أشواقه إلى الجنة، ويشدّ عزمه على العمل لها، ليكون من أهلها، المنعمين بنعيمها، لا أن يكون من المشاهدين لهذا النعيم من بعيد، كما يشهد أصحاب النار أصحاب الجنة!! وهذا عندنا- والله أعلم- أولى من القول بأن هذا الخطاب للنبى صلوات الله وسلامه عليه..
فالنبيَّ- صلوات الله وسلامه عليه- مخاطب بالقرآن كله، ثم إنه- صلوات الله وسلامه عليه- قد رأى الجنة ونعيمها، كما رأى أكثر من الجنة ونعيمها، في مسراه- صلوات الله وسلامه عليه- وفى عروجه إلى الملأ الأعلى:
{لَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ رَبه الْكُبْرى} (18: النجم) قوله تعالى: {عالِيَهُمْ ثِيابُ سُندُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبرق وَحُلُّوا أَساوِرَ مِنْ فِضَّةٍ وَسَقاهُمْ رَبهمْ شَراباً طَهُوراً} أي أن هؤلاء الأبرار، يطعمون أطيب المطاعم، ويشربون ألذ وأمرأ المشارب، وهم في حال اتكاء واسترواح، وبين أيديهم اللؤلؤ المنثور من الغلمان يقومون على خدمتهم، وإذ يفيض عليهم من هذا النعيم، ما تشرق به وجوههم من رضا ورضوان- تراهم وقد ألبسوا أفخر الثياب، وحلّوا بأثمن الحلي، وأكرمها.. فهذا مما يتم به النعيم، وتكمل به المسرات.. والسندس، ضرب من نسيج الحرير الرقيق، والإستبرق نسيج أغلظ من نسيج السندس.. أي أن السندس يكون شعارا، والإستبرق يكون دثارا..
و {عاليهم} ظرف، بمعنى فوقهم، أي تعلوهم ثياب سندس خضر.. وفى التعبير بلفظ: {عاليهم} بدلا من عليهم- هو- والله أعلم- إشارة إلى أن هذه الملابس لا تلتصق بأجسامهم كما تلتصق ثيابنا على أجسادنا في هذه الدنيا، وإنما هي ألوان من النور، أشبه بألوان الطيف، تنعكس على هذه الأجسام النورانية.. وهذا يعنى أن الحياة في الجنة حياة روحية، لا يخالطها شيء من عالم المادة إلا كان في شفافية الروح وصفائها..
وقوله تعالى: {وَسَقاهُمْ رَبهمْ شَراباً طَهُوراً}- هو إشارة إلى عظم ما يساق إلى هؤلاء الأبرار من نعيم، حيث يتناولون هذا الشراب الطهور من ربهم، بعد أن يكونوا قد تذوقوا ألوان النعيم الأخرى.. فكان هذا الشراب من يد البر الرّحيم، هو النشوة الكبرى، التي لا يحيط بها وصف، ولا يعرف كنهها إلا من أكرمه الله بها..
فما أضل الذين ولّوا وجوههم إلى غير ربهم، وما أخسر صفقة الذين اشتروا الدنيا كلها، بقطرة من قطرات هذا الرضوان!! قوله تعالى: {إِنَّ هذا كانَ لَكُمْ جَزاءً وَكانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُوراً} هو من تحية الله سبحانه وتعالى لعباده الأبرار المكرمين، وهو يسقيهم من هذا الشراب الطّهور.. فهم إذ يتناولون هذا الشراب من ربهم، يتناولونه محمّلا بهذه التحية المباركة من المنعم المتفضل عليهم إذ يقال لهم هذا جزاء ما عملتم، وهو ثمرة ما سعيتم، إن سعيكم كان مشكورا لكم من ربكم، وهذه التحية من ربكم هي تحية شكر وحمد لسعيكم.
الجنة ونعيمها.. بين الروحي والجسدى ونريد هنا أن نقف وقفة قصيرة مع تلك الأوصاف التي ذكرها القرآن الكريم لنعيم الجنة، والتي تبدو كأنها صورة من النعيم الدنيوي، بما فيه من ألوان المآكل، والمشارب، والدور، والقصور، والملابس، والحلّى، والأوانى والأمتعة، والجواري والغلمان، والعيون والأنهار، والأشجار والثمار، إلى غير ذلك مما اعتاد الناس في الدنيا أن يروه، أو يعيشوا فيه..
وهذا مما دعا بعض الأدعياء أو الأغبياء إلى أن القول بأن هذه الجنة مما يحلم به المحرومون، ومما يغذّى به الدين هذه الأحلام الجائعة! ولنسلم- جدلا- من أول الأمر بأن نعيم الجنة هو من هذا النعيم الذي يعرفه الناس في الدنيا، ويجدّون في طلبه، ويشقون في تحصيله، ثم يفوتهم كله، أو الكثير منه- فأى قصور يلحق هذا النعيم، وأي مطلب يعوز الذين ينزلون منازل هذه الجنة فيجدون كل ما كانت تشتهى أنفسهم في الدنيا حاضرا بين أيديهم، لا يتكلفون له جهدا، ولا يريقون من أجله دما أو عرقا؟ أهذا نعيم تزهد فيه النفوس؟ وأ هذا مقام يبغى إنسان التحول عنه؟ ولم إذن استبدت الرغبة في هذا النعيم بنفوس الناس في الدنيا؟ ولم أفنوا أعمارهم في طلبه؟ ولم أراقوا دماءهم في سبيله؟
فلتكن الجنة عالما ماديّا، ولتكن كلها سوقا حشدت فيه كل ما في هذه الدنيا من متع ولذاذات ومسرات ومباهج؟ أليس هذا العالم هو حلم الإنسانية الذي لم ولن يتحقق لها على هذه الأرض؟ فماذا لو وجدت عالما آخر يتحقق لها فيه هذا الحلم البعيد المنال؟ وأي إنسان يزهد في هذا النعيم إذا أتيح له، ووجد السبيل إليه؟ ولا تمدن عينيك هنا إلى أولئك الذين يقال إنهم زهدوا في نعيم الحياة المادية من الفلاسفة والحكماء، والمتصوفة، وغيرهم ممن عفّوا، أو عافوا متعة الجسد، وراحوا يعيشون على قوت أرواحهم، وعرائس أفكارهم.. فهؤلاء جميعا- إن صدقت أحوالهم- إنما أقاموا لأنفسهم عالما من الوهم، والخيال، تتراقص فيه طيوف رؤاهم وأحلامهم، بكل ما قصرت عنه أيديهم من متع مادية استبدّ بها غيرهم.. ومن زهد منهم في تلك المتع، وقد أتيحت له- فإنما لأنه استقصر حياته معها، أو توقع فرارها من يده! ولو كان هذا النعيم دائما، وكان لمن يعيش فيه ضمان بالخلود معه، لكان الحكماء، والفلاسفة، والمتصوفة أكثر الناس طلبا، وازدحاما على مورده..
ومع هذا، فإن ما جاء في القرآن الكريم من أوصاف الجنة ونعيمها، ليس هو كل ما فيها من نعيم، وإنما ذلك هو معرض من معارضها، وإشارة دالة على ما وراء هذا النعيم مما لم تره عين، ولم تسمع به أذن ولا خطر على قلب بشر.. إنه هو الجزء القليل الذي يمكن أن يقع في مفهوم الناس، وهم في هذا العالم الدنيوي، حتى يكون للجنة التي يوعدون بها تصور، وحتى يكون لدعوتهم إليها استجابة.. ولو جاءتهم الجنة غير مألوفة لهم، لما وقعت من أنفسهم موقعا، ولما وجدت لها في مشاعرهم ووجداناتهم مكانا..
ولا يقال- كما قيل فعلا- إن هذا النعيم الأخروى، هو نعيم جسدى، يشبع أحلام الجوعى والمحرومين، ويرضى مطالب البيئات الفقيرة المجدبة.. وهذا بدوره يعنى أن الدّين الذي يعد أهله بمثل تلك الجنة في الآخرة، إنما هو دين على مستوى هذه الحياة البدائية في الصحراء، التي لا تبعد الحياة فيها كثيرا عن حياة الغابة، وأن الدين ليس إلا أكذوبة خادعة تستهوى الجوعى والمحرومين بهذه الموائد الممدودة لهم في عالم الرؤى والأحلام.
فهذا القول، إن كان من جاهل، فهو جهل يفصح أهله ويخزيهم، وإن كان من عالم فهو زور وبهتان، يتخرص به المتخرصون في غير خجل أو حياء، ممن يكيدون للإسلام، من مستشرقى أوربا وأمريكا: {يريدونَ لِيُطْفِؤُا نُورَ الله بِأَفْواهِهِمْ وَالله مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ} (8: الصف).
إن نعيم الجنة المادي، وما جاء في القرآن مما أعد الله سبحانه وتعالى منه لأهلها، من حور عين، وولدان مخلدين، ولحم طير مما يشتهون، وفاكهة مما يتخيرون، ومن أنهار من ماء ولبن، وخمر، وعسل- إن هذا- كما قلنا- هو من مطلوب الحياة الإنسانية، وبه قوام حياة الإنسان، وسعادته، مادام الإنسان إنسانا بشرا، لم يتحول إلى عالم الملائكة، ولم يصبح روحا هائما لا ذاتية له.. وإن الإنسان، هو الإنسان، في الدنيا، أو الآخرة.. هذا ما يجب القطع به.. إذ لابد أن يجد الإنسان ذاته ووجوده الإنسانى كله في الآخرة، وإلا لكان مخلوقا غريبا، ليس بينه وبين الإنسان الذي عاش في هذه الدنيا من صلة، ثم لكان حسابه وجزاؤه في الآخرة ليس حسابا، ولا جزاء لهذا الإنسان الذي كان في الدنيا..
وإنه لكى يظل الإنسان إنسانا، وليلقى حسابه وجزاءه، الحسن أو السيّء، ويحد طعمه الحلو أو المر- ينبغى أن يكون على طبيعته، في جميع أحواله،
وكل حيواته.. الدنيوية، والأخروية.. إنه ينبغى أن تظل هذه الذاتية مع الإنسان، وأن تصحبه تلك الشخصية المشخصة له في عالم الدنيا والآخرة جميعا..
أما أن تتفكك هذه الشخصية، أو تنحلّ، أو تخرج عن طبيعتها جملة، فإنها لن تكون ذلك الإنسان، الذي عرف في وقت ما، أوفى حال ما، أنه فلان؟ ابن فلان!..
نعم، قد تعلو ذاتية الإنسان وتصفو مشاعره وعواطفه، وقد تنزل، وتسفّ، وتكدر.. ولكن ذلك لا يخرج بالإنسان- في أي حال من الأحوال- عن دائرة الإنسانية- ولا يلحقه بعالم الملائكة أو الشياطين.. إن الإنسان ليتنقل في أطوار شتى من الولادة إلى الطفولة، والصبا والشباب، والشيخوخة..
وهو في كل طور من أطوار حياته، هو تلك (الذات) أو (الشخصية) التي لا يجد فيها صاحبها أن طفولته أو صباه أو شبابه أو شيخوخته- أوصال مقطعة من (ذاته).. بل إنه هو هو، في كل طور من هذه الأطوار، وإن تغيرت بعض ملامحه، وزادت معارفه، واتسعت آفاقه.. وشتان ما بين الطفولة والشباب، وشتان بين «سقراط» الطفل وسقراط الفيلسوف.. ولكنه هو هو سقراط، طفلا، وصبيا، وشابا، وشيخا!!.
ثم مالنا ندفع مطاعن الأوربيين عن شريعة الإسلام، وما جاء في تلك الشريعة من أوصاف حسية لنعيم الجنة- ما لنا ندفع هذا، والحال أنهم هم مطالبون أن يدفعوا هذه المطاعن ذاتها عن المسيحية، إن كانوا يؤمنون بها، أو يدفعوا بها إليها إن كانوا غير مؤمنين بها.. فإن المسيحية- على الرغم من أنها تلبس لباس الروحانية- حين تحدثت عن النعيم الذي يلقاه أهل الجنة- نجدها تعرض صورا حسية من هذا النعيم، مثل تلك الصور التي جاء بها القرآن، سواء بسواء!.
فقد ذكر المسيح- عليه السلام- لتلاميذه، أنهم سيشربون معه من ابنة العنب في ملكوت السموات: يقول لهم: (إنى لست شاربا من ابنة هذه الكرمة حتى أشربها معكم في ملكوت السموات).
فأخبر بأن في الملكوت شرابا، وشرابا من خمر، وحيث يكون شراب، لا يستنكر المأكل.. فيقول السيد المسيح: (ستأكلون وتشربون على مائدة أبى).
ثم هناك إلى جانب الأكل والشرب، غرف لأهل الجنة.. يقول السيد المسيح: (ما أكثر الغرف والمساكن عند أبى).
فالقرآن إذن لم يكن بدعا بين الكتب السماوية، فيما جاء فيه عن النعيم الحسىّ في الجنة.. فلم تتهم شريعة الإسلام وحدها بأنها شريعة الجسد، وبأنها الشريعة التي تغرى أتباعها بهذه الألوان التي يسيل لها لعابهم، وتستيقظ لها حيوانيتهم؟.
إنها تهمة ظالمة باطلة..! أما أنها ظالمة، فلأنها تتجه إلى الإسلام وحده، دون الشرائع والديانات التي تقول بما يقول به الإسلام في وصف هذا النعيم..
وأما أنها باطلة، فلأنها تقوم على فهم خاطئ للإنسان، وللوحدة الذاتية، التي ينبغى أن يحتفظ له بها في الحياة الآخرة.. تلك الوحدة التي تجمع الروح والجسد معا.. فلا يكون الإنسان إنسانا إلا يجسد وروح، ولا يعرف الإنسان السعادة أو الشقاء إلا إذا كان لكلّ من الجسد والروح نصيب مما يسعد به الناس أو يشقون!.
إن أهل الجنة يحملون معهم نفوسا بشريّة، لها رغباتها، ومنازعها، ومن شأن نعيم الجنة، الذي يحقق النعيم الكامل- من شأنه أن يشبع- في غير ملل- هذه الرغبات وتلك النوازع، وإلا كان نعيما غير كامل..
والله سبحانه وتعالى يقول: {وَلَكُمْ فِيها ما تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيها ما تَدَّعُونَ} [31: فصلت].
وعلى هذا فإن لنا أن نقول إن نعيم أهل الجنة- هذا النعيم الحسى، الذي جاء في القرآن، من مطاعم، ومشارب، وملابس، ومساكن- هو نعيم مطلوب للإنسان، لا يتم نعيمه إلا إذا أخذ حظه منه، وهو نعيم خالص من الشوائب، التي تعلق بكل نعيم دنيوى..
ثم إن وراء هذا النعيم الحسى، نعيما روحيّا.. فهناك مسرات الروح التي لا حدود لها.. وإنها لمسرات لا يمكن أن توصف بألفاظ وعبارات، ولا يمكن أن تضبط لها صورة، وغاية ما يمكن أن يقال عنها إنها بهجة النفس ولذة الروح..
أما مادة تلك اللذة، وهذه البهجة، فلا يمكن أن توصف بألفاظنا، أو تدرك بعقولنا المحدودة القاصرة..
ولقد أشار القرآن الكريم إلى بعض دلالات هذا النعيم الروحي، ولكنه لم يكشف عن مادة هذا النعيم وعناصره.. فهناك نضرة النعيم التي تسفر بها وجوه أهل الجنة: {تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ} [24: المطففين].
وهناك الأمن والاطمئنان من كل ما يزعج النفس أو يقلقها من حاضر أو مستقبل: {ادْخُلُوا الْجَنَّةَ.. لا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ} (49: الأعراف) ثم أليس الخلاص من جهنم، وأ ليست السلامة منها، مصدر نعيم نفسى لا ينفد أبدا؟ إنها لسعادة غامرة، وهناءة كاملة، أن يرى أهل الجنة عذاب السعير، وهم في مأمن من هذا العذاب.. {فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فازَ} (185: آل عمران) ومن أجل هذا كان من حمد أهل الجنة للّه سبحانه وتعالى أن أنقذهم من عذاب النار، هو ما ذكره الله سبحانه من قولهم: {وَقالوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنا لَغَفُورٌ شَكُورٌ الَّذِي أَحَلَّنا دارَ الْمُقامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لا يَمَسُّنا فِيها نَصَبٌ وَلا يَمَسُّنا فِيها لُغُوبٌ} (35: فاطر) أليس هذا نعيما للنفس، وروحا للروح.. يتجدد في كل نظرة ينظر بها أصحاب الجنة إلى أصحاب الجحيم؟
ثم ماذا يطلب الإنسان من النعيم، غير أن يجد فيه السعادة المطلقة..
السعادة التي لا يدخل عليها ما يقطعها، أو ينقص منها، أو يفسد طعمها؟ إن سعادة الجنة، هي سعادة دائمة خالدة، لا تنفصل عن أهلها، ولا ينفصلون عنها، وذلك هو نعيم أهل الجنة، سواء أكان ماديّا أو معنويّا، جسديّا أو روحيّا..
{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا خالِدِينَ فِيها لا يَبْغُونَ عَنْها حِوَلًا} (107- 108: الكهف).
وحسب هذا النعيم أنه غير زائل عن أهله، وحسب المنعمين به أن يقيموا عليه، ولا يبغون عنه حولا.
وأعجب ما في هذه القضية، أن يجيء الإنكار على الإسلام لهذا النعيم الجسدى الذي يعد به أتباعه في الآخرة- من عجب أن يجيء هذا الإنكار من أوربا وأمريكا، التي فنيت شعوبها فناء مطلقا في عالم المادة، حتى لقد كادت تتغير الطبيعة الإنسانية في هذه المجتمعات، وتختفى المشاعر والعواطف.. حتى بين الآباء والأبناء.. وإنه لو كان لتلك الشعوب أن تحلم بجنة في الآخرة، لما كانت جنة أحلامهم تلك إلا أنهارا تجرى من خمر، وإلا حانات تعج بالراقصين والراقصات، وإلا موائد ممدودة للطعام والشراب، والقمار.. فإن هذا الذي بلغته شعوب أوربا وأمريكا من تقدم في العلوم والفنون، وإنما كان وسيلة إلى تحقيق هذا النعيم المادىّ الذي إن فات أحدهم حظه منه، ولم يستطع الوصول إليه، ضاقت الدنيا في عينيه، واستولى عليه الكرب والهم.. ثم لم يكن له بدّ من أن يركب أحد طريقين: فإما أن يلبس ثوب الوجودية، ويتحول إلى حيوان يعيش في غابة، فلا يغير من ثيابه، ولا يصلح من هندامه، ولا يقص شعرا ولا ظفرا، ولا يغطى جسدا ولا يستر عورة.. وهو بهذا يخرج عن عالم الناس، ومن ثمّ فلا يعنيه أن يملك مثل ما يملكون، أو يتمتع مثل ما يتمتعون..
إن له متعته الخاصة التي هي على غير ما يتمتع به الناس.. وهل يلذ للذئاب مثلا أن تجلس إلى مائدة، وأن تتناول مما يطعم منه الناس.؟
أما من لم يجد له مكانا في هذا العالم فثمة طريق آخر.. طريق المنتحرين..
وليس ثمة طريق ثالث. اهـ.

.من لطائف وفوائد المفسرين:

قال الشنقيطي:
سورة الإنسان:
قوله تعالى: {وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِنْ فِضَّةٍ}.
لا يعارضه قوله تعالى: {يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ} الآية ووجه الجمع ظاهر وهو أنهما جنتان أوانيهما وجميع ما فيهما من فضة، وأخريان أوانيهما وجميع ما فيهما من ذهب والعلم عند الله تعالى. اهـ.

.تفسير الآيات (23- 28):

قوله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ القرآن تَنْزِيلًا (23) فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا (24) وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (25) وَمِنَ اللَّيل فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلًا طَوِيلًا (26) إِنَّ هَؤُلَاءِ يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَرَاءَهُمْ يَوْمًا ثَقِيلًا (27) نَحْنُ خَلَقْنَاهُمْ وَشَدَدْنَا أَسْرَهُمْ وَإِذَا شِئْنَا بَدَّلْنَا أَمْثَالَهُمْ تَبْدِيلًا (28)}

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
ولما ذكر أنه بين للناس السبيل فانقسموا إلى مبصر شاكر وأعمى كافر، وأتبعه جزاء الكافرين والشاكرين، وختمه بالشراب الطهور الذي من شأنه أن يحيي ميت الأراضي كما أن العلم الذي منبعه القرآن يحيي ميت القلوب، وسكن القلوب بتأييد الجزاء، وختم الكلام بالشكر كما بدأه به، وكان نصب ما يهدي جميع الناس أمراً لا يكاد يصدق قال ذاكراً لما شرف به النبي صلى الله عليه وسلم في الدنيا قبل الآخرة، وجعل الشراب الطهور جزاء له لما بينهما من المناسبة على سبيل التأكيد، وأكده ثانياً بما أفاد التخصيص لما لهم من الإنكار ولتطمئن أنفس أتباعه بما حث عليه من الصبر إلى وقت الإذن في القتال: {إنا نحن} أي على ما لنا من العظمة التي لا نهاية لها، لا غيرها {نزلنا عليك} وأنت أعظم الخلق إنزالاً استعلى حتى صار المنزل خلقاً لك {القرآن} أي الجامع لكل هدى، الحافظ من الزيغ، كما يحفظ الطب للصحيح صحة المزاج، الشافي لما عساه يحصل من الأدواء بما يهدي إليه من العلم والعمل، وزاد في التأكيد لعظيم إنكارهم فقال: {تنزيلاً} أي على التدريج بالحكمة جواباً للسائل ورفقاً بالعباد فدرجهم في وظائف الدين تدريجاً موافقاً للحكمة، ولم يدع لهم شبهة إلا أجاب عنها، وعلمهم جميع الأحكام التي فيها رضانا، وأتاهم من المواعظ والآداب والمعارف بما ملأ الخافقين وخصصناك به شكراً على سيرتك الحسنى التي كانت قبل النبوة، وتجنبك كل ما يدنس، فلما كان بتنزيلنا كان جامعاً للهدى لما لنا من إحاطة العلم والقدرة، فلا عجب في كونه جامعاً لهدى الخلق كلهم، لم يدع لهم في شيء من الأشياء لبساً، وهي ناظرة إلى قوله في القيامة {لا تحرك به لسانك} [القيامة: 16] الملتفتة إلى ما في المدثر من أن هذه تذكرة، الناظرة إلى {أنا سنلقي عليك قولاً ثقيلاً} المشيرة إلى ما في سورة الجن من أمر القرآن، فالحاصل أن أكثر القرآن في تقرير عظمة القرآن، فإنه المقصود بالذات من أمر الآية الكبرى التي إذا ثبتت تبعها جميع المراد من الشريعة وتفريق تقرير شأنه أتقن ما يكون في إحكام أمره، وذلك أن الحكيم إذا اهتم بشيء افتتح الكلام به، فإذا رأى من ينكره انتقل إلى غيره على قانون الحكمة، ثم يصير يرمي به في خلال ذلك، رمياً كأنه غير قاصد له، ولا يزال يفعل ذلك حتى يتقرر أمره غاية التقرير ويثبت في النفس من حيث لا يشعر.
ولما تقرر أن من الناس من ترك الهدى الذي هو البيان، فعمي عنه لإعراضه عنه، سبب عن هذا الإنزال وذاك الضلال قوله منبهاً على أمراض القلوب، ومرشداً إلى دوائها: {فاصبر لحكم ربك} أي المحسن إليك بتخصيصه لك بهذه النعمة على ضلال من حكم بضلاله، وعلى كل ما ينوبك وأطعه في التعبد له بجميع ما أمرك به من الرفق إلى أن يأمرك بالسيف، واستعن على مر الصبر باستحضار أن المربي الشفيق يربي بما يشاء من المر والحلو على حسب علمه وحكمته، والصبر: حبس النفس وضبطها على مقاومة الهوى لئلا تنقاد إلى شيء من قبائح اللذات.
ولما أمره سبحانه بالصبر، وكان الأمر به مفهماً وجوده للمخالف، وكان المخالفون له صلى الله عليه وسلم هم القسم المضاد للشاكر وهم الكفرة، وكان ما يدعونه إليه تارة مطلق إثم، وأخرى كفراً وتارة غير ذلك، ذكر النتيجة ناهياً عن القسمين الأولين ليعلم أن المسكوت عنه لا نهي فيه فقال: {ولا تطع منهم} أي الكفرة الذين هم ضد الشاكرين {آثماً} أي داعياً إلى إثم سواء كان مجرداً عن مطلق الكفر أو مصاحباً له {أو كفوراً} أي مبالغاً في الكفر وداعياً إليه وإن كان كبيراً وعظيماً في الدنيا فإن الحق أكبر من كل كبير، وذلك أنهم كانوا مع شدة الأذى له صلى الله عليه وسلم يبذلون له الرغائب من الأموال، والتمليك والتزويج لأعظم نسائهم على أن يتبعهم على دينهم ويكف عما هو عليه والنهي عن الأحد المبهم نهي عن كل منهما، فإن كلاًّ منهما في أنه يجب اجتنابه في رتبة واحدة {وذروا ظاهر الإثم وباطنه} [الأنعام: 120] وكذا الانتهاء عنه لا يتحقق إلا بالانتهاء عن كل منهما، ولو عطف بالواو لم يفد ذلك لأن نفي الاثنين لا يستلزم نفي كل منهما، وأفهم ترتيب النهي على الوصفين أنه إذا دعاه الكفار إلى ما لا يتعلق به إثم ولا كفر جاز له قبوله.
ولما نهى عن طاعتهما القاطعة عن الله، أمر بملازمة الموصل إلى الله وهو الذكر من غير عائق الذي هو دواء لما عساه يلحق من الأدواء لمجرد رؤية الآثم أو الكفور لأرباب القلوب الصافية، والذكر مقدم على كل عبادة وإن وضع العباد لما كان طلباً للتوصل إلى نيل معرفة الله سبحانه، وكان التصور بحسب الاسم أول مراتب التصور طبعاً بدأ به وضعاً، وذلك لأن النفس تحب السفول لما لها من النقائص، فاحتاجت إلى سبب مشوق لها إلى الأعلى فوضعت لها العبادات، وأجلها العبادة المشفوعة بالفكر، لأنه السبب الموصل إلى المقصود ولا تفيد العبادة بدونه فقال: {واذكر} أي بلسانك {اسم ربك} أي المحسن إليك بكل جميل {بكرة} عند قيامك من منامك الذي هو الموتة الصغرى وتذكرك أنه يحيي الموتى ويحشرهم جيمعاً {وأصيلاً} عند انقرأض نهارك وتذكرك انقرأض دنياك وطي هذا العالم لأجل إيجاد يوم الفصل، وفي ذكر الوقتين أيضاً إشارة إلى دوام الذكر، وذكر اسمه لازم لذكره، ويجوز أن يكون أمراً بالصلاة لأنها أفضل الأعمال البدنية لأنها أعظم الذكر لأنها ذكر اللسان والجنان والأركان فوظفت فيها أذكار لسانية وحركات وسكنات على هيئة مخصوصة من عادتها ألا تفعل إلا بين أيدي الملوك، فكان تنبيهها على وجود الصانع والاعتراف بإلهيته وتفرده أكثر فكانت أفضل، فيكون هذا على هذا أمراً بصلاتي الصبح والعصر، فإنه لم يكن أمر في أول الإسلام بغيرهما وبهما أمر من كان قبلنا، وهما أفضل الصلوات وكانتا ركعتين ركعتين، ويجوز أن يكون أمراً بصلاتي الصبح والظهر والعصر فإن الأصيل يتناول وقتيهما لأنه مطلق العشي، وأما المغرب والعشاء ونافلة الليل فدخلت في قوله: {ومن الّيل} أي بعضه والباقي للراحة بالنوم {فاسجد له} أي فصل له صلاتي المغرب والعشاء، وذكرهما بالسجود تنبيهاً على أنه أفضل الصلاة، فهو إشارة إلى أن الليل موضع الخضوع، وتقديم الظرف لما في صلاة الليل من مزيد الكلفة والخلوص ومزيد الفضيلة لأن الالتفات فيه إلى جانب الحق أتم لزوال الشاغل للحواس من حركات الناس وأصواتهم وسائر الأحوال الدنيوية، فكان أبعد عن الرياء فكان الخشوع فيه واللذة التامة بحلاوة العبادة أوفى {وسبحه} أي بالتهجد {ليلاً طويلاً} نصفه أو أكثر منه أو أقل، ولعله سماه تسبيحاً لأن مكابدة القيام فيه وغلبة النوم تذكر بما لله من العظمة بالتنزه عن كل نقيصة، ولأنه لا يترك محبوبه من الراحة بالنوم إلا من كان الله عنده في غاية النزاهة، وكان له في غاية المحبة.
ولما أنهى أمره بلازم النهي، علل النهي بقوله محقرأ بإشارة القريب مؤكداً لما لهم من التعنت بالطعن في كل ما يذكره- صلى الله عليه وسلم ـ: {إن هؤلاء} أي الذين يغفلون عن الله من الكفرة وغيرهم فاستحقوا المقت من الله {يحبون} أي محبة تتجدد عندهم زيادتهم في كل وقت {العاجلة} أي ويأخذون منها ويستخفون لما حفت به من الشهوات زمناً قليلاً لقصور نظرهم وجمودهم على المحسوسات التي الإقبال عليها منشأ البلادة والقصور، ومعدن الأمراض للقلوب التي في الصدور، ومن تعاطى أسباب المرض مرض وسمي كفوراً، ومن تعاطى ضد ذلك شفي وسمي شاكراً، ويكرهون الآخرة الآجلة {ويذرون} أي يتركون منها على حالة هي من أقبح ما يسوءهم إذا رأوه {وراءهم} أي أمامهم أي قدامهم على وجه الإحاطة بهم وهم عنه معرضون كما يعرض الإنسان عما وراءه، أو خلفهم لأنه يكون بعدهم لابد أن يدركهم {يوماً} أي منها.
ولما كان ما أعيا الإنسان وشق عليه ثقيلاً قال: {ثقيلاً} أي شديداً جدًّا لا يطيقون حمل ما فيه من المصائب بسبب أنهم لا يعدون له عدته، فالآية من الاحتباك: ذكر الحب والعاجلة أولاً دلالة على ضدهما ثانياً، والترك والثقل ثانياً دلالة على ضدهما أولاً، وسر ذلك أن ما ذكره أدل على سخافة العقل بعدم التأمل للعواقب.
ولما كان تركهم لليوم الثقيل على وجه التكذيب الذي هو أقبح الترك، وكان تكذيبهم لاعتقادهم عدم القدرة عليه قال دالاً على الإعادة بالابتداء من باب الأولى: {نحن خلقناهم}، بما لنا من العظمة لا غيرنا {وشددنا أسرهم} أي قوينا وأتقنا ربط مفاصلهم الظاهرة والباطنة بالأعصاب على وجه الإحكام بعد كونهم نطفة أمشاجاً في غاية الضعف، وأصل الأسر، القد يشد به الأقتاب أو الربط والتوثيق، ولا شك أن من قدر على إنشاء شخص من نطفة قادر على أن يعيده كما كان لأن جسده الذي أنشأه إن كان محفوظاً فالأمر فيه واضح، وإن كان قد صار تراباً فإبداعه منه مثل إبداعه من النطفة، وأكثر ما فيه أن يكون كأبيه آدم عليه السلام بل هو أولى فإنه ترابه له أصل في الحياة بما كان حياً، وتراب آدم عليه السلام لم يكن له أصل قط في الحياة والإعادة أهون في مجاري عادات الخلق من الابتداء، ولذلك قال معبراً بأداة التحقق: {وإذا شئنا} أي بما لنا من العظمة أن نبدل ما نشاء من صفاتهم أو ذواتهم {بدلنا أمثالهم} أي بعد الموت في الخلقة وشدة الأسر {تبديلاً} أو المعنى: جئنا بأمثالهم بدلاً منهم وخلائف لهم، أو يكون المراد- وهو أقعد- بالمثل الشخص أي بدلنا أشخاصهم لتصير بعد القوة إلى ضعف وبعد الطول إلى قصر وبعد البياض إلى سواد وغير ذلك من الصفات كما شوهد في بعض الأوقات في المسخ وغيره، وكل ذلك دال على تمام قدرتنا وشمول علمنا. اهـ.

.من أقوال المفسرين:

.قال الفخر:

{إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ القرآن تَنْزِيلًا (23)}
اعلم أنه سبحانه بين في أول السورة أن الإنسان وجد بعد العدم بقوله: {هَلْ أتى عَلَى الإنسان حِينٌ مّنَ الدهر لَمْ يَكُن شَيْئاً مَّذْكُوراً} [الإنسان: 1] ثم بين أنه سبحانه خلقه من أمشاج، والمراد منه إما كونه مخلوقاً من العناصر الأربعة أو من الأخلاط الأربعة أو من ماء الرجل والمرأة أو من الأعضاء والأرواح أو من البدن والنفس أو من أحوال متعاقبة على ذلك الجسم مثل كونه نطفة ثم علقة ثم مضغة ثم عظاماً، وعلى أي هذه الوجوه تحمل هذه الآية، فلذلك يدل على أنه لابد من الصانع المختار جل جلاله وعظم كبرياؤه.
ثم بين بعد ذلك أني ما خلقته ضائعاً عاطلاً باطلاً، بل خلقته لأجل الابتلاء والامتحان، وإليه الإشارة بقوله: {نبتليه} [الإنسان: 2] وهاهنا موضع الخصومة العظيمة القائمة بين أهل الجبر والقدر، ثم ذكر تعالى أني أعطيته جميع ما يحتاج إليه عند الابتلاء والامتحان، وهو السمع والبصر والعقل، وإليه الإشارة بقوله: {فجعلناه سَمِيعاً بَصِيراً} [الإنسان: 2] ولما كان العقل أشرف الأمور المحتاج إليها في هذا الباب أفرده عن السمع والبصر، فقال: {إِنَّا هديناه السبيل} [الإنسان: 3] ثم بين أن الخلق بعد هذه الأحوال صاروا قسمين: منهم شاكر، ومنهم كفور، وهذا الإنقسام باختيارهم كما هو تأويل القدرية، أو من الله على ما هو تأويل الجبرية، ثم إنه تعالى ذكر عذاب الكفار على الاختصار، ثم ذكر بعد ذلك ثواب المطيعين على الاستقصاء، وهو إلى قوله: {وَكَانَ سَعْيُكُم مَّشْكُوراً} [الإنسان: 22] واعلم أن الاختصار في ذكر العقاب مع الإطناب في شرح الثواب يدل على أن جانب الرحمة أغلب وأقوى، فظهر مما بينا أن السورة من أولها إلى هذا الموضع في بيان أحوال الآخرة، ثم إنه تعالى شرع بعد ذلك في أحوال الدنيا، وقدم شرح أحوال المطيعين على شرح أحوال المتمردين.
أما المطيعون فهم الرسول وأمته، والرسول هو الرأس والرئيس، فلهذا خص الرسول بالخطاب.
واعلم أن الخطاب إما النهي وإما الأمر، ثم إنه تعالى قبل الخوض فيما يتعلق بالرسول من النهي والأمر، قدم مقدمة في تقوية قلب الرسول صلى الله عليه وسلم، وإزالة الغم والوحشة عن خاطره، وإنما فعل ذلك، لأن الاشتغال بالطاعة والقيام بعهدة التكليف لا يتم إلا مع فراغ القلب ثم بعد هذه المقدمة ذكر نهيه عن بعض الأشياء، ثم بعد الفراغ عن النهي، ذكر أمره ببعض الأشياء، وإنما قدم النهي على الأمر، لأن دفع الضرر أهم من جلب النفع، وإزالة مالا ينبغي مقدم على تحصيل ما ينبغي، ثم إنه تعالى ذكر بعد ذلك أحوال المتمردين والكفار على ما سيأتي تفصيل بيانه، ومن تأمل فيما ذكرناه علم أن هذه السورة، وقعت على أحسن وجوه الترتيب والنظام، فالحمد لله الذي نور عقل هذا المسكين الضعيف بهذه الأنوار، وله الشكر عليه أبد الآباد.
ولنرجع إلى التفسير، فنقول: أما تلك المقدمة فهي، قوله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ القرءان تَنزِيلاً} واعلم أن المقصود من هذه الآية تثبيت الرسول وشرح صدره فيما نسبوه إليه من كهانة وسحر، فذكر الله تعالى أن ذلك وحي من الله، فلا جرم بالغ وكرر الضمير بعد إيقاعه اسماً، لأن تأكيداً على تأكيد أبلغ، كأنه تعالى يقول: إن كان هؤلاء الكفار يقولون: إن ذلك كهانة، فأنا الله الملك الحق أقول على سبيل التأكيد والمبالغة إن ذلك وحي حق وتنزيل صدق من عندي، وهذا فيه فائدتان:
إحداهما: إزالة الوحشة المتقدمة الحاصلة بسبب طعن أولئك الكفار، فإن بعض الجهال وإن طعنوا فيه إلا أن جبار السموات عظمه وصدقه.
والثانية: تقويته على تحمل التكليف المستقبل، وذلك لأن الكفار كانوا يبالغون في إيذائه، وهو كان يريد مقاتلتهم فلما أمره الله تعالى بالصبر على ذلك الإيذاء وترك المقاتلة، وكان ذلك شاقاً عليه، فقال له: {إِنَا نَزَّلْنَا عَلَيْكَ القرءان تَنزِيلاً} فكأنه قال له: إني ما نزلت عليك هذا القرآن مفرقاً منجماً إلا لحكمة بالغة تقتضي تخصيص كل شيء بوقت معين، ولقد اقتضت تلك الحكمة تأخير الإذن في القتال، فاصبر لحكم ربك الصادر عن الحكمة المحضة المبرأ عن العيب والعبث والباطل.
ثم إنه تعالى لما قدم هذه المقدمة ذكر النهي فقال تعالى: {فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا (24)}
فإما أن يكون المعنى: فاصبر لحكم ربك في تأخير الإذن في القتال ونظيره {فاصبروا حتى يَحْكُمَ الله بَيْنَنَا وَهُوَ خَيْرُ الحاكمين} [الأعراف: 87] أو يكون المعنى عاماً في جميع التكاليف، أي فاصبر في كل ما حكم به ربك سواء كان ذلك تكليفاً خاصاً بك من العبادات والطاعات أو متعلقاً بالغير وهو التبليغ وأداء الرسالة، وتحمل المشاق الناشئة من ذلك.
ثم في الآية سؤالات:
السؤال الأول:
قوله: {فاصبر لِحُكْمِ رَبّكَ} دخل فيه أن {لاَ تُطِع آثماً أَوْ كفوراً} فكأن ذكره بعد هذا تكريراً.
الجواب: الأول أمر بالمأمورات، والثاني نهى عن المنهيات ودلالة أحدهما على الآخر بالالتزام لا بالتصريح فيكون التصريح به مفيداً.
السؤال الثاني:
أنه عليه السلام ما كان يطيع أحداً منهم، فما الفائدة في هذا النهي؟ الجواب: المقصود بيان أن الناس محتاجون إلى مواصلة التنبيه والإرشاد، لأجل ما تركب فيهم من الشهوات الداعية إلى الفساد، وأن أحداً لو استغنى عن توفيق الله وإمداده وإرشاده، لكان أحق الناس به هو الرسول المعصوم، ومتى ظهر ذلك عرف كل مسلم، لأنه لابد له من الرغبة إلى الله والتضرع إليه في أن يصونه عن الشبهات والشهوات.
السؤال الثالث:
ما الفرق بين الآثم والكفور؟ الجواب: الآثم هو المقدم على المعاصي أي معصية كانت، والكفور هو الجاحد للنعمة، فكل كفور آثم، أما ليس كل آثم كفوراً، وإنما قلنا: إن الآثم عام في المعاصي كلها لأنه تعالى قال: {وَمَن يُشْرِكْ بالله فَقَدِ افترى إِثْماً عَظِيماً} [النساء: 48] فسمى الشرك إثماً، وقال: {وَلاَ تَكْتُمُواْ الشهادة وَمَن يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ ءاثِمٌ قَلْبه} [البقرة: 283] وقال {وَذَرُواْ ظاهر الإثم وَبَاطِنَهُ} [الأنعام: 120] وقال: {يَسْئَلُونَكَ عَنِ الخمر والميسر قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ} [البقرة: 219] فدلت هذه الآيات على أن هذا الإثم شامل لكل المعاصي، واعلم أن كل من عبد غير الله فقد اجتمع في حقه هذان الوصفان، لأنه لما عبد غيره، فقد عصاه وجحد إنعامه، إذا عرفت هذا فنقول في الآية قولان: الأول: أن المراد شخص معين، ثم منهم من قال: الآثم، والكفور هو شخص واحد وهو أبو جهل، ومنهم من قال: الآثم هو الوليد والكفور هو عتبة، قال القفال: ويدل عليه أنه تعالى سمى الوليد أثيماً في قوله: {وَلاَ تُطِعْ كُلَّ حَلاَّفٍ مَّهِينٍ} إلى قوله: {مَّنَّاعٍ لّلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ} [القلم: 10- 12] وروى صاحب الكشاف أن الآثم هو عتبة.
والكفور هو الوليد لأن عتبة كان ركاباً للمآثم متعاطياً لأنواع الفسوق والوليد كان غالياً في الكفر، والقول الأول أولى لأنه متأيد بالقرآن، يروى أن عتبة بن ربيعة قال للنبي صلى الله عليه وسلم: ارجع عن هذا الأمر حتى أزوجك ولدي فإني من أجمل قريش ولداً وقال الوليد: أنا أعطيك من المال حتى ترضى، فإني من أكثرهم مالاً، فقرأ عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر آيات من أول حم السجدة إلى قوله: {فَإن أَعْرَضُواْ فَقُلْ أَنذَرْتُكُمْ صاعقة مّثْلَ صاعقة عَادٍ وَثَمُودَ} [فصلت: 1- 13] فانصرفا عنه وقال أحدهما ظننت أن الكعبة ستقع علي.
القول الثاني: أن الآثم والكفور مطلقان غير مختصين بشخص معين، وهذا هو الأقرب إلى الظاهر، ثم قال الحسن الآثم هو المنافق والكفور مشركوا العرب، وهذا ضعيف بل الحق ما ذكرناه من أن الآثم عام والكفور خاص.
السؤال الرابع:
كانوا كلهم كفرة، فما معنى القسمة في قوله: {آثماً أَوْ كفوراً}؟ الجواب: {الكفور} أخبث أنواع الآثم، فخصه بالذكر تنبيهاً على غاية خبثه ونهاية بعده عن الله.
السؤال الخامس:
كلمة أو تقتضي النهي عن طاعة أحدهما فلم لم يذكر الواو حتى يكون نهياً عن طاعتهما جميعاً؟ الجواب: ذكروا فيه وجهين: الأول: وهو الذي ذكره الزجاج واختاره أكثر المحققين أنه لو قيل: ولا تطعهما لجاز أن يطيع أحدهما لأن النهي عن طاعة مجموع شخصين لا يقتضي النهي عن طاعة كل واحد منهما وحده، أما النهي عن طاعة أحدهما فيكون نهياً عن طاعة مجموعهما لأن الواحد داخل في المجموع، ولقائل أن يقول: هذا ضعيف، لأن قوله: لا تطع هذا وهذا معناه كن مخالفاً لأحدهما، ولا يلزم من إيجاب مخالفة أحدهما إيجاب مخالفتهما معاً، فإنه لا يبعد أن يقول السيد لعبده: إذا أمرك أحد هذين الرجلين فخالفه، أما إذا توافقا فلا تخالفهما.
والثاني: قال الفراء: تقدير الآية لا تطع منهم أحداً سواء كان آثماً أو كفوراً كقول الرجل لمن يسأله شيئاً: لا أعطيك سواء سألت أو سكت.
واعلم أنه تعالى لما ذكر هذا النهي عقبه بالأمر، فقال: {وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (25)}
وفي هذه الآية قولان:
الأول: أن المراد هو الصلاة قالوا: لأن التقييد بالبكرة والأصيل يدل على أن المراد من قوله: {واذكر اسم رَبّكَ} الصلوات.
ثم قالوا: البكرة هي صلاة الصبح والأصيل صلاة الظهر والعصر {وَمِنَ الليل فاسجد لَهُ} المغرب والعشاء، فتكون هذه الكلمات جامعة الصلوات الخمس وقوله: {وَسَبّحْهُ لَيْلاً طَوِيلاً} المراد منه التهجد، ثم اختلفوا فيه فقال بعضهم: كان ذلك من الواجبات على الرسول عليه السلام، ثم نسخ كما ذكرنا في سورة المزمل واحتجوا عليه بأن قوله: {فاسجد لَهُ وَسَبّحْهُ} أمر وهو للوجوب لاسيما إذا تكرر على سبيل المبالغة، وقال آخرون: بل المراد التطوع وحكمه ثابت.
القول الثاني: أن المراد من قوله: {واذكر اسم رَبّكَ} إلى آخر الآية ليس هو الصلاة بل المراد التسبيح الذي هو القول والاعتقاد، والمقصود أن يكون ذاكراً لله في جميع الأوقات ليلاً ونهاراً بقلبه ولسانه، وهو المراد من قوله: {يا أيها الذين ءامَنُواْ اذكروا الله ذِكْراً كَثِيراً وَسَبّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً} [الأحزاب: 41].
واعلم أن في الآية لطيفة أخرى وهي أنه تعالى قال: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ القرءان تَنزِيلاً} [الإنسان: 23] أي هديناك إلى هذه الأسرار، وشرحنا صدرك بهذه الأنوار، وإذ قد فعلنا بك ذلك فكن منقاداً مطيعاً لأمرنا، وإياك وأن تكون منقاداً مطيعاً لغيرنا، ثم لما أمره بطاعته، ونهاه عن طاعة غيره قال: {واذكر اسم رَبّكَ} وهذا إشارة إلى أن العقول البشرية ليس عندها إلا معرفة الأسماء والصفات، أما معرفة الحقيقة فلا، فتارة يقال له: {واذكر اسم رَبّكَ} وهو إشارة إلى معرفة الأسماء، وتارة يقال له: {واذكر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ} [الأعراف: 205] وهو إشارة إلى مقام الصفات، وأما معرفة الحقيقة المخصوصة التي هي المستلزمة لسائر اللوازم السلبية والإضافية، فلا سبيل لشيء من الممكنات والمحدثات، إلى الوصول إليها والاطلاع عليها، فسبحان من اختفى عن العقول لشدة ظهوره واحتجب عنها بكمال نوره.
واعلم أنه تعالى لما خاطب رسوله بالتعظيم والنهي والأمر عدل إلى شرح أحوال الكفار والمتمردين، فقال تعالى: {إِنَّ هَؤُلَاءِ يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَرَاءَهُمْ يَوْمًا ثَقِيلًا (27)}
والمراد أن الذي حمل هؤلاء الكفار على الكفر، وترك الالتفات والإعراض عما ينفعهم في الآخرة ليس هو الشبهة حتى ينتفعوا بالدلائل المذكورة في أول هذه السورة، بل الشهوة والمحبة لهذه اللذات العاجلة والراحات الدينية.
وفي الآية سؤالان:
السؤال الأول:
لم قال: {وراءهم} وم يقل: قدامهم؟ الجواب: من وجوه أحدها: لما لم يلتفتوا إليه، وأعرضوا عنه فكأنهم جعلوه وراء ظهورهم وثانيها: المراد ويذرون وراءهم مصالح يوم ثقيل فأسقط المضاف وثالثها: أن تستعمل بمعنى قدام كقوله: {مِّن وَرَائِهِ جَهَنَّمُ} [إبراهيم: 16] {وَكَانَ وَرَاءهُم مَّلِكٌ} [الكهف: 79].
السؤال الثاني:
ما السبب في وصف يوم القيامة بأنه يوم ثقيل؟ الجواب: استعير الثقل لشدته وهوله، من الشيء الثقيل الذي يتعب حامله ونحوه {ثَقُلَتْ في السموات والأرض} [الأعراف: 187].
ثم إنه تعالى لما ذكر أن الداعي لهم إلى هذا الكفر حب العاجل، قال: {نَحْنُ خَلَقْنَاهُمْ وَشَدَدْنَا أَسْرَهُمْ وَإِذَا شِئْنَا بَدَّلْنَا أَمْثَالَهُمْ تَبْدِيلًا (28)}.
والمراد أن حبهم للعاجلة يوجب عليهم طاعة الله من حيث الرغبة ومن حيث الرهبة، أما من حيث الرغبة فلأنه هو الذي خلقهم وأعطاهم الأعضاء السليمة التي بها يمكن الانتفاع باللذات العاجلة، وخلق جميع ما يمكن الانتفاع به، فإذا أحبوا اللذات العاجلة، وتلك اللذات لا تحصل إلا عند حصول المنتفع وحصول المنتفع به، وهذان لا يحصلان إلا بتكوين الله وإيجاده، فهذا مما يوجب عليهم الانقياد لله ولتكاليفه وترك التمرد والإعراض، وأما من حيث الرهبة فلأنه قدر على أن يميتهم، وعلى أن يسلب النعمة عنهم، وعلى أن يلقيهم في كل محنة وبلية، فلأجل من فوت هذه اللذات العاجلة يجب عليهم أن ينقادوا لله، وأن يتركوا هذا التمرد، وحاصل الكلام كأنه قيل لهم: هب أن حبكم لهذه اللذات العاجلة طريقة مستحسنة، إلا أن ذلك يوجب عليكم الإيمان بالله والإنقياد له، فلو أنكم توسلتم به إلى الكفر بالله، والإعراض عن حكمه، لكنتم قد تمردتم، وهذا ترتيب حسن في السؤال والجواب، وطريقة لطيفة.
وفي الآية مسائل:
المسألة الأولى:
قال أهل اللغة: الأسر الربط والتوثيق، ومنه أسر الرجل إذا وثق بالقد وفرس مأسور الخلق وفرس مأسور بالعقب، والمعنى شددنا توصيل أعضائهم بعضاً ببعض وتوثيق مفاصلهم بالأعصاب.
المسألة الثانية:
{وَإِذَا شِئْنَا بَدَّلْنَا أمثالهم} أي إذا شئنا أهلكناهم وآتينا بأشباههم فجعلناهم بدلاً منهم، وهو كقوله: {على أَن نُّبَدّلَ أمثالكم} [الواقعة: 61] والغرض منه بيان الاستغناء التام عنهم كأنه قيل: لا حاجة بنا إلى أحد من المخلوقين ألبتة، وبتقدير أن تثبت الحاجة فلا حاجة إلى هؤلاء الأقوام، فإنا قادرون على إفنائهم، وعلى إيجاد أمثالهم، ونظيره قوله تعالى: {إِن يَشأ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا الناس وَيَأْتِ بِآخَرِينَ وَكَانَ الله على ذلك قَدِيراً} [النساء: 133] وقال: {إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ وَمَا ذلك عَلَى الله بِعَزِيزٍ} [إبراهيم: 19، 20] ثم قيل: {بدلنا أمثالهم} أي في الخلقة، وإن كانوا أضدادهم في العمل، وقيل: أمثالهم في الكفر.
المسألة الثالثة:
قال صاحب الكشاف في قوله: {وَإِذَا شِئْنَا} إن حقه أن يجيء بأن لا بإذا كقوله: {وَإِن تَتَوَلَّوْاْ يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ} [محمد: 38] {إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ} [النساء: 133] واعلم أن هذا الكلام كأنه طعن في لفظ القرآن، وهو ضعيف لأن كل واحد من إن وإذا حرف الشرط، إلا أن حرف إن لا يستعمل فيما يكون معلوم الوقوع، فلا يقال: إن طلعت الشمس أكرمتك، أما حرف إذا فإنه يستعمل فيما كان معلوم الوقوع، تقول: آتيك إذا طلعت الشمس، فههنا لما كان الله تعالى عالماً بأنه سيجيء وقت يبدل الله فيه أولئك الكفرة بأمثالهم في الخلقة وأضدادهم في الطاعة، لا جرم حسن استعمال حرف إذا. اهـ.

.قال القرطبي:

قوله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ القرآن تَنزِيلاً}
ما افتريته ولا جئتَ به من عندك، ولا من تلقاء نفسك، كما يدّعيه المشركون.
ووجه اتصال هذه الآية بما قبلُ أنه سبحانه لما ذكر أصناف الوعد والوعيد، بيّن أن هذا الكتاب يتضمن ما بالناس حاجة إليه، فليس بسحر ولا كهَانة، ولا شِعر، وأنه حقّ.
وقال ابن عباس: أنزل القرآن متفرّقاً: آية بعد آية، ولم ينزل جملة واحدة؛ فلذلك قال {نَزَّلْنَا} وقد مضى القول في هذا مبيناً والحمد لله.
قوله تعالى: {فاصبر لِحُكْمِ رَبِّكَ} أي لقضاء ربك.
وروى الضحاك عن ابن عباس قال: اصبر على أذى المشركين؛ هكذا قضيت.
ثم نسخ بآية القتال.
وقيل: أي اصبر لما حكم به عليك من الطاعات، أو انتظر حكم الله إذا وعَدَك أنه ينصرك عليهم، ولا تستعجل فإنه كائن لا محالة.
{وَلاَ تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً} أي ذا إثم {أَوْ كفوراً} أي لا تطع الكفار.
فروى مَعْمَر عن قتادة قال: قال أبو جهل: إن رأيتُ محمداً يُصلّي لأطأنّ على عنقه.
فأنزل الله عز وجل: {وَلاَ تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كفوراً}.
ويقال: نزلت في عتبة بن ربيعة والوليد بن المغيرة، وكانا أتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم يَعرضان عليه الأموال والتزويج، على أن يترك ذكر النبوّة، ففيهما نزلت: {وَلاَ تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كفوراً}.
قال مقاتل: الذي عرض التزويج عُتبة بن ربيعة؛ قال: إن بناتي من أجمل نساء قريش، فأنا أزوّجك ابنتي من غير مهر وارجع عن هذا الأمر.
وقال الوليد: إن كنت صنعت ما صنعت لأجل المال، فأنا أعطيك من المال حتى ترضى وارجع عن هذا الأمر؛ فنزلت.
ثم قيل: (أو) في قوله تعالى: {آثِماً أَوْ كفوراً} أَوْكَد من الواو؛ لأن الواو إذا قلت: لا تطع زيداً وعمراً فأطاع أحدهما كان غير عاص؛ لأنه أمره ألا يطيع الاثنين، فإذا قال: {وَلاَ تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كفوراً} ف (أو) قد دلّت على أن كل واحد منهما أهل أن يُعصَى؛ كما أنك إذا قلت: لا تخالف الحسن أو ابن سيرين، أو اتبع الحسن أو ابن سيرين فقد قلت: هذان أهل أن يُتَّبعا وكل واحد منهما أهل لأن يُتَّبع؛ قاله الزجاج.
وقال الفرّاء: (أو) هنا بمنزلة (لا) كأنه قال: ولا كفوراً؛ قال الشاعر:
لاَ وَجْدُ ثَكْلَى كما وَجَدْتُ وَلاَ ** وَجْدُ عَجُولٍ أَضَلَّهَا رُبَعُ

أَوْ وَجْدُ شيخٍ أَضَلَّ ناقَتهُ ** يَوْمَ تَوافَى الحجيجُ فاندفعوا

أراد ولا وجد شيخ.
وقيل: الآثم المنافق، والكفور الكافر الذي يظهر الكفر؛ أي لا تطع منهم آثماً ولا كفوراً.
وهو قريب من قول الفراء.
قوله تعالى: {واذكر اسم رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلاً} أي صلّ لربّك أول النهار وآخره، ففي أوّله صلاة الصبح وفي آخره صلاة الظهر والعصر.
{وَمِنَ الليل فاسجد لَهُ} يعني صلاة المغرب والعشاء الآخرة.
{وَسَبِّحْهُ لَيْلاً طَوِيلاً} يعني التطوّع في الليل؛ قاله ابن جبيب.
وقال ابن عباس وسفيان؛ كلّ تسبيح في القرآن فهو صلاة.
وقيل: هو الذكر المطلق سواء كان في الصلاة أو في غيرها.
وقال ابن زيد وغيره: إن قوله: {وَسَبِّحْهُ لَيْلاً طَوِيلاً} منسوخ بالصلوات الخمس.
وقيل: هو ندب.
وقيل: هو مخصوص بالنبيّ صلى الله عليه وسلم.
وقد تقدّم القول في مثله في سورة (المزمل) وقول ابن حبيب حسن.
وجمع الأصيل: الأصائل والأُصُل؛ كقولك سَفَائن وسُفُن؛ قال:
ولا بأحسنَ منها إذ دنا الأُصُلُ ** وقال في الأصائل، وهو جمع الجمع:

لَعَمْرِي لأَنْتَ البيتُ أُكْرِمَ أَهْلَهُ ** وأَقعدُ في أَفْيَائِهِ بِالأَصَائِلِ

وقد مضى هذا في آخر (الأعراف) مستوفًى.
ودخلت (من) على الظرف للتبعيض، كما دخلت على المفعول في قوله تعالى: {يَغْفِرْ لَكُمْ مِّن ذُنُوبِكُمْ} [نوح: 4].
قوله تعالى: {إِنَّ هؤلاء يُحِبُّونَ العاجلة}:
توبيخ وتقريع، والمراد أهل مكة.
والعجلة الدنيا {وَيَذَرُونَ} أي ويدعون {وَرَاءَهُمْ} أي بين أيديهم {يَوْماً ثَقِيلاً} أي عسيراً شديداً كما قال: {ثَقُلَتْ فِي السماوات والأرض} [الأعراف: 187] أي يتركون الإيمان بيوم القيامة.
وقيل: {وَرَاءَهُمْ} أي خلفهم، أي ويذرون الآخرة خلف ظهورهم، فلا يعملون لها.
وقيل: نزلت في اليهود فيما كتموه من صفة الرسول صلى الله عليه وسلم وصحة نبوّته.
وحبهم العاجلة: أخذهم الرّشا على ما كتموه.
وقيل: أراد المنافقين؛ لاستبطانهم الكفر وطلب الدنيا.
والآية تعمّ.
واليوم الثقيل يوم القيامة.
وإنما سمّيَ ثقيلاً لشدائده وأهواله.
وقيل: للقضاء فيه بين عباده.
قوله تعالى: {نَّحْنُ خَلَقْنَاهُمْ} أي من طين.
{وَشَدَدْنَآ أَسْرَهُمْ} أي خَلْقَهم؛ قاله ابن عباس ومجاهد وقتادة ومقاتل وغيرهم.
والأَسْر الخَلْق؛ قال أبو عُبيد: يقال فرس شديد الأَسْر أي الخَلْق.
ويقال أسره الله جلّ ثناؤه إذا شَدَّد خَلْقه؛ قال لبيد:
ساهِمُ الوجهِ شدِيدٌ أَسْرُهُ ** سَلِسِ القِيادِ تَخالُهُ مُخْتَالاَ

وقال أبو هريرة والحسن والربيع: شددنا مفاصلهم وأوصالهم بعضها إلى بعض بالعروق والعصب.
وقال مجاهد في تفسير الأَسْر: هو الشَّرْج، أي إذا خرج الغائط والبول تَقبَّضَ الموضعُ.
وقال ابن زيد القوّة.
وقال ابن أحمر يصف فرساً:
يَمشِي بِأَوْظِفَةٍ شِدَادٍ أَسْرُهَا ** صُمِّ السِّنَابِكِ لا تَقِي بِالْجَدْجَدِ

واشتقاقه من الإسار وهو القِدّ الذي يشد به الأقتاب؛ يقال: أَسَرْتُ القَتَبَ أَسْراً أي شددته وربطته؛ ويقال: ما أحسن أَسْرَ قَتَبه أي شدّه وربطه؛ ومنه قولهم: خذه بِأَسْرِهِ إذا أرادوا أن يقولوا هو لك كله؛ كأنهم أرادوا تَعْكِيمه وشدّه فم يُفتَح ولم يُنقَص منه شيء.
ومنه الأسير، لأنه كان يُكتَف بالإسار.
والكلام خرج مخرج الامتنان عليهم بالنِّعَم حين قابلوها بالمعصية.
أي سَوَّيتُ خَلْقك وأحكمته بالقوى ثم أنت تكفر بي.
{وَإِذَا شِئْنَا بَدَّلْنَآ أَمْثَالَهُمْ تَبْدِيلاً} قال ابن عباس: يقول لو نشاء لأهلكناهم وجئنا بأطوع لله منهم.
وعنه أيضاً: لغيّرنا محاسنهم إلى أسمج الصُّوَر وأقبحها.
كذلك روى الضحاك عنه.
والأوّل رواه عنه أبو صالح. اهـ.

.قال الألوسي:

ولما ذكر سبحانه أولاً حال الإنسان وقسمه إلى الطائع والعاصي وأمعن جل شأنه فيما أعده للطائع مشيراً إلى عظم سعة الرحمة ذكر ما شرف به نبيه صلى الله عليه وسلم إزالة لوحشته وتقوية لقلبه فقال عز قائلاً: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ القرآن تَنْزِيلًا (23)} أي أنزلناه مفرقاً منجماً في نحو ثلاث وعشرين سنة لحكم بالغة مقتضية له لا غيرنا كما يعرب عنه تكرير الضمير مع إن سواء كان المنفصل تأكيداً أو فصلاً أو مبتدأ.
{فاصبر لِحُكْمِ رَبّكَ} بتأخير نصرك على الكفار فإن له عاقبة حميدة {وَلاَ تُطِعِ} قلة صبر منك على اذاهم وضجراً من تأخر نصرك {مِنْهُمْ ءاثِماً أَوْ كفوراً} قيل إن أو لأحد الشيئين في جميع مواقعها ويعرض لها معان أخر كالشك والإباحة وغيرهما فيكون أصل المعنى هنا ولا تطع منهم أحد النوعين ولما كان أحد الأغلب عليه في غير الإثبات العموم واحتمال غيره احتمال مرجوح صار المعنى على النهي عن إطاعة هذا وهذا ولم يؤت بالواو لاحتمال الكلام عليه النهي عن المجموع ويحصل امتثاله بالانتهاء عن واحد دون الآخر فلا يرد أن لا تطلع أحد النوعين يحصل الامتثال به بترك إطاعة واحد مع إطاعة الآخر إذ يقال لمن فعل ذلك إنه لم يطع أحدهما ومن هنا قيل إن أو في الإثبات تفيد أحد الأمرين وفي النفي تفيد نفي كلا الأمرين جميعاً ولعل ما ذكر في معنى كلام ابن الحاجب حيث قال إن وضع أو لإثبات الحكم لأحد الأمرين إلا أنه إن حصلت قرينة يفهم معها أن أحد الأمرين غير حاجر عن الآخر مثل قولك جالس الحسن أو ابن سيرين سمي إباحة وان حجر فهو لأحد الأمرين واستشكل بعضهم وقوعها في النهي كلا تطع منهم آثما أو كفوراً إذ لو انتهى عن أحدهما لم يمتثل ومن ثم حملها بعضهم يعني أبا عبيدة على أنها بمعنى الواو والأولى أن تبقى على بابها وإنما جاء التعميم فيها من وراء ذلك وهو النهي الذي فيه معني النفي لأن المعنى قبل وجود النهي تطيع آثماً أو كفوراً أي واحداً منهما فإذا جاء النهي ورد على ما كان ثابتاً في المعنى فيصير المعنى ولا تطع واحداً منهما فيجيء التعميم فيهما من جهة النهي وهي على بابها فيما ذكر لأنه لا يحصل الانتهاء عن أحدهما حتى ينتهي عنهما بخلاف الإثبات فإنه قد يفعل أحدهما دون الآخر انتهى.
وعليه ما قيل إن إفادة العموم في النفي والنهي الذي في معناه لما أن تقيض الإيجاب الجزئي السلب الكلي وقريب من ذلك قول الزجاج أن أو هاهنا أوكد من الواو لأنك إذا قلت لا تطع زيداً وعمراً فأطاع أحدهما كان غير عاص فإذا أبدلتها بأو فقد دللت على أن كل واحد منهما أهل لأن يعصى ويعلم منه النهي عن إطاعتهما معاً كما لا يخفى وأفاد جار الله إن أو باقية على حقيقتها وإن النهي عن إطاعتهما جميعاً إنما جاء من دلالة النص وهي المسمى مفهوم الموافقة بقسميه الأولى والمساوي فتأمل والمراد بالآثم والكفور جنسهما وتعليق النهي بذلك مشعر بعلية الوصفين له فلابد أن يكون النهي عن الإطاعة في الاثم والكفر لا فيما ليس باثم ولا كفر والمراد ولا تطع مرتكب الاثم الداعي لك إليه أو مرتكب الكفر الداعي إليه أي لا تتبع أحداً من الآثم إذا دعاك إلى الاثم ومن الكفور إذا دعاك إلى الكفر فإنه إذا قيل لا تطع الظالم فهم منه لا تتبعه في الظلم إذا دعاك إليه ومنع هذا الفهم مكابرة فلا يتم الاستدلال بالآية على عدم جواز الاقتداء بالفاسق إذا صلى إماماً ثم إن التقسيم باعتبار ما يدعوان إليه من الكفر والإثم المقابل له لا باعتبار الذوات حتى يكون بعضهم آثماً وبعضهم كفوراً فيقال كيف ذلك وكلهم كفرة والمبالغة في كفور قيل لموافقة الواقع وهذا كقوله تعالى {ولا تأكلوا الربا أضعافاً مضاعفة} [آل عمران: 130] واعتبار رجوعها إلى النهي كاعتبار رجوعها إلى النفي على ما قيل في قوله تعالى: {وما ربك بظلام للعبيد} [فصلت: 46] كما ترى وقيل الآثم المنافق والكفور المشرك المجاهر وقيل الآثم عتبة بن ربيعة والكفور الوليد بن المغيرة لأن عتبة كان ركاباً للمآثم متعاطياً لأنواع الفسوق وكان الوليد غالياً في الكفر شديد الشكيمة في العتو وعن مقاتل أنهما قالا له صلى الله عليه وسلم ارجع عن هذا الأمر ونحن نرضيك بالمال والتزويج فنزلت وقيل الكفور أبو جهل الآية نزلت فيه والأولى ما تقدم وفي النهي مع العصمة إرشاد لغير المعصوم إلى التضرع إلى الله تعالى والرغبة إليه سبحانه في الحفظ عن الوقوع فيما لا ينبغي.
{واذكر اسم رَبّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلاً} وداوم على ذكره سبحانه في جميع الأوقات أو دم على صلاة الفجر والظهر والعصر فإن الأصيل قد يطلق على ما بعد الزوال إلى المغرب فينتظمهما.
{وَمِنَ الليل} أي بعضه {فاسجد} فصل {لَهُ} عز وجل على أن السجود مجاز عن الصلاة بذكر الجزء وإرادة الكل وحمل ذلك على صلاة المغرب والعشاء وتقديم الظرف للاعتناء والاهتمام لما في صلاة الليل من مزيد كلفة وخلوص {وَسَبّحْهُ لَيْلاً طَوِيلاً} وتهجد له تعالى قطعاً من الليل طويلاً فهو أمر بالتهجد على ما اختاره بعضهم وتنوين ليلاً للتبعيض وأصل التسبيح التنزيه ويطلق على مطلق العبادة القولية والفعلية وعن ابن زيد وغيره أن ذلك كان فرضاً ونسخ فلا فرض اليوم إلا الخمس وقال قوم هو محكم في شأنه عليه الصلاة والسلام وقال آخرون هو كذلك مطلقاً على وجه الندب وفي تأخير الظرف قيل دلالة على أنه ليس بفرض كالذي قبله وكذا في التعبير عنه بالتسبيح وفيه نظر وقال الطيبي الأقرب من حيث النظم أنه تعالى لما نهى حبيبه صلى الله عليه وسلم عن إطاعة الآثم والكفور وحثه على الصبر على أذاهم وإفراطهم في العداوة وأراد سبحانه أن يرشده إلى متاركتهم عقب ذلك بالأمر باستغراق أوقاته بالعبادة ليلاً ونهاراً بالصلوات كلها من غير اختصاص وبالتسبيح بما يطيق على منوال قوله تعالى {ولقد نعلم أنك يضيق صدرك بما يقولون فسبح بحمد ربك وكن من الساجدين} انتهى وهو حسن.
{إِنَّ هَؤُلاء} الكفرة {يُحِبُّونَ العاجلة} وينهمكون في لذاتها الفانية {وَيَذَرُونَ وَرَاءهُمْ} أي أمامهم {يَوْماً ثَقِيلاً} هو يوم القيامة وكونه أمامهم ظاهر أو يذرون وراء ظهورهم يوماً ثقيلاً لا يعبؤن به فالظرف قيل على الأول حال من يوماً وعلى هذا ظرف يذرون ولو جعل على وتيرة واحدة في التعلق صح أيضاً ووصف اليوم بالثقيل لتشبيه شدته وهو له بثقل شيء قادح باهظ لحامله بطريق الاستعارة والجملة كالتعليل لما أمر به ونهى عنه كأنه قيل لا تطعهم واشتغل بالأهم من العبادة لأن هؤلاء تركوا الآخرة للدنيا فاترك أنت الدنيا وأهلها للآخرة وقيل إن هذا يفيد ترهيب محل بالعاجل وترغيب محل الآجل والأول علة للنهي عن إطاعة الآثم والكفور والثاني علة للأمر بالعبادة.
{نَّحْنُ خلقناهم} لا غيرنا {وَشَدَدْنَا أَسْرَهُمْ} أي أحكمنا ربط مفاصلهم بالاعصاب والعروق والأسر في الأصل الشد والربط وأطلق على ما يشد به ويربط كما هنا وإرادة الأعصاب والعروق لشبهها بالحبال المربوط بها ووجه الشبه ظاهر ومن هنا قد يقول العارف من كان أسره من ذاته وسجنه دنياه في حياته فليشك مدة عمره وليتأسف على وجوده بأسره والمراد شدة الخلق وكونه موثقاً حسناً ومنه فرس ماسور الخلق إذا كان موثقه حسناً وعن مجاهد الأسر الشرج وفسر بمجرى الفضلة وشد ذلك جعله بحيث إذا خرج الأذى انقبض ولا يخفى أن هذا داخل في شدة الخلق وكونه موثقاً حسناً {وَإِذَا شِئْنَا بَدَّلْنَا أمثالهم} أي أهلكناهم وبدلنا أمثالهم في شدة الخلق {تَبْدِيلاً} بديعاً لا ريب فيه يعني البعث والنشأة الأخرى فالتبديل في الصفات لأن المعاد هو المبتدأ ولكون الأمر محققاً كائناً جيء بإذا وذكر المشيئة لإبهام وقته ومثله شائع كما يقول العظيم لمن يسأله الأنعام إذا شئت أحسن إليه ويجوز أن يكون المعنى وإذا شئنا أهلكناهم وبدلنا غيرهم ممن يطيع فالتبديل في الذوات وإذا لتحقق قدرته تعالى عليه وتحقق ما يقتضيه من كفرهم المقتضي لاستئصالهم فجعل ذلك المقدور المهدد به كالمحقق وعبر عنه بما يعبر به عنه ولعله الذي أراده الزمخشري بما نقل عنه من قوله إنما جاز ذلك لأنه وعيد جيء به على سبيل المبالغة كان له وقتاً معيناً ولا يعترض عليه بقوله تعالى: {وَإِن تَتَوَلَّوْاْ يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ} [محمد: 38] لأن النكات لا يلزم إطرادها فافهم والوجه الأول أوفق بسياق النظم الجليل. اهـ.

.قال ابن عاشور:

{إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ القرآن تَنْزِيلًا (23)}
من هنا يبتدئ ما لا خلاف في أنه مكي من هذه السورة.
وعلى كلا القولين فهذا استئناف ابتدائي، ويجيء على قول الجمهور أن السورة كلها مكية وهو الأرجح، أنه استئناف للانتقال من الاستدلال على ثبوت البعث بالحجّة والترهيب والوعيد للكافرين به والترغيب والوعد للمؤمنين به بمرهبّات ومرغّبات هي من الأحوال التي تكون بعد البعث، فلمّا استوفى ذلك ثُنِي عِنانُ الكلام إلى تثبيت الرسول صلى الله عليه وسلم والربطِ على قلبه لِدفاع أن تلحقه آثارُ الغمّ على تصلب قومه في كفرهم وتكذيبهم بما أُنزل عليه مما شأنه أن يوهن العزيمة البشرية، فذكَّره الله بأنه نزل عليه الكتاب لئلا يعبأ بتكذيبهم.
وفي إيراد هذا بعد طُول الكلام في أحوال الآخرة، قضاء لحق الاعتناء بأحوال الناس في الدنيا فابتدىء بحال أشرف الناس وهو الرسول صلى الله عليه وسلم ثم بحال الذين دعاهم الرسول صلى الله عليه وسلم بين من {يحبون العاجلة} [الإنسان: 27] ومن {اتخذ إلى ربه سبيلاً} [الإنسان: 29] فأدخلهم في رحمته.
وتأكيد الخبر بـ (إنَّ) للاهتمام به.
وتأكيد الضمير المتصل بضمير منفصل في قوله: {إنا نحن} لتقرير مدلول الضمير تأكيداً لفظياً للتنبيه على عظمة ذلك الضمير ليفضي به إلى زيادة الاهتمام بالخبر إذ يتقرر أنه فِعْلُ من ذلك الضميرَانِ له لأنه لا يفعل إلا فعلاً منوطاً بحكمة وأقصى الصواب.
وهذا من الكناية الرمزية، وبعدُ فالخبر بمجموعه مستعمل في لازم معناه وهو التثبيت والتأييد فمجموعُه كناية ومزية.
وإيثار فعل {نزّلنا} الدال على تنزيله منجماً آياتٍ وسُوراً تنزيلاً مفرقاً إدماجٌ للإِيماء إلى أن ذلك كان من حكمة الله تعالى التي أومأ إليها تأكيد الخبر بـ (إن) وتأكيدُ الضمير المتصل بالضمير المنفصل، فاجتمع فيه تأكيد على تأكيد وذلك يفيد مُفاد القصر إذ ليس الحصر والتخصيصُ إلاّ تأكيداً على تأكيد كما قال السكاكي، فالمعنى: ما نزَّل عليك القرآن إلاّ أنا.
وفيه تعريض بالمشركين الذين قالوا: {لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة} [الفرقان: 32] فجعلوا تنزيله مفرقاً شبهة في أنه ليس من عند الله.
والمعنى: ما أنزله منجّماً إلاّ أنا واقتضت حكمتي أن أنزله عليك منجّماً.
وفرع على هذا التمهيد أمره بالصبر على أعباء الرسالة وما يلقاه فيها من أذى المشركين، وشدُّ عزيمته أن لا تخور.
وسمى ذلك حكماً لأن الرسالة عن الله لا خيرة للمرسَل في قبولها والاضطلاعِ بأمورها، ولأن ما يحفّ بها من مصاعب إصلاح الأمة وحملِها على ما فيه خيرها في العاجل والآجل، وتلقي أصناف الأذى في خلال ذلك حتى يتمّ ما أمر الله به، كالحكم على الرسول بقبولِ ما يبلغ منتهى الطاقة إلى أجلٍ معين عند الله.
وعدي فعل (اصبر) باللام لتضمن الصبر معنى الخضوع والطاعة للأمر الشاق، وقد يعدّى بحرف (على) كما قال تعالى: {واصبر على ما يقولون} [المزمل: 10].
ومناسبة مقام الكلام ترجح إحدى التعديتين كما تقدم بيان ذلك عند قوله تعالى: {ولربك فاصبر} في سورة المدثر (7).
ولما كان من ضروب إِعراضهم عن قبول دعوته ضربٌ فيه رغبات منهم مثل أن يَترك قرعهم بقوارع التنزيل من تأفين رأيهم وتحقير دينهم وأصنامهم، وربما عرضوا عليه الصِهْر معهم، أو بذْلَ المال منهم، أُعقب أمره بالصبر على ما هو من ضروب الإِعراض في صلابة وشدة، بأن نهاه عن أن يطيعهم في الضرب الآخر من ضروب الإِعراض الواقع في قالب اللين والرغبة.
وفي هذا النهي تأكيد للأمر بالصبر لأن النهي عنه يشمل كل ما يرفع موجبات الصبر المراد هنا.
والمقصود من هذا النهي تأييسهم من استجابته لهم حين يقرأ عليهم هذه الآية لأنهم يحسبون أن ما عرضوه عليه سيكون صارفاً له عما هو قائم به من الدعوة إِذْ هم بُعَداء عن إدراك ماهية الرسالة ونزاهة الرسول.
والطاعة: امتثال الطلب بفعل المطلوب وبالكف عن المنهي عنه فقد كان المشركون يعمدون إلى الطلب من النبي أن يفعل ما يرغبون، مثل طرد ضعفاء المؤمنين من المجلس، والإِتيان بقرآن غير هذا أو تبديله بما يشايع أحوالهم، وأن يكف عما لا يريدون وقوعه من تحقير آلهتهم، والجهرِ بصلاته، فحذره الله من الاستماع لقولهم وإياسهم من حصول مرغوبهم.
ومقتضى الظاهر أن يقول: ولا تطعهم، أو ولا تطع منهم أحداً، فعدل عنه إلى {آثماً أو كفوراً} للإِشارة بالوصفين إلى أن طاعتهم تفضي إلى ارتكاب إثم أو كفر، لأنهم في ذلك يأمرونه وينهونه غالباً فهم لا يأمرون إلاّ بما يلائم صفاتهم.
فالمراد بالآثم والكفور: الصنفان من الموصوفين وتعليق الطاعة المنهي عنها بهذين النوعين مُشعر بأن الوصفين علة في النهى.
والآثِم والكفُور مُتَلازِمَانِ فكان ذكر أحد الوصفين مغنياً عن الآخر ولكن جُمع بينهما لتشويه حال المتصف بهما قال تعالى: {والله لا يحب كل كفّار أثيم} [البقرة: 276].
وفي ذكر هذين الوصفين إشارة أيضًا إلى زعيمين من زعماء الكفر والعناد وهما عُتبة ابن ربيعة، والوليد بن المغيرة، لأن عتبة اشتهر بارتكاب المآثم والفسوق، والوليد اشتهر بشدة الشكيمة في الكفر والعتوّ.
وقد كانا كافرَيْن فأشير إلى كل واحد منهما بما هو علَم فيه بين بقية المشركين من كثرة المآثم لأولهما.
والمبالغةُ في الكفر لثانيهما، فلذلك صيغت له صيغة المبالغة (كَفور).
قيل عرض عتبة على النبي صلى الله عليه وسلم أن يرجع عن دعوة الناس إلى الإسلام ويزوجه ابنته وكانت من أجمل نساء قريش.
وعرض الوليد عليه أن يعطيه من المال ما يرضيه ويرجع عن الدعوة، وكان الوليد من أكثر قريش مالاً وهو الذي قال الله في شأنه:
{وجعَلْتُ له مالاً ممدوداً} [المدثر: 12].
فيكون في إيثار هذين الوصفين بالذكر إدماج لذمهما وتلميح لقصتهما.
وأيَّامَّا كان فحرف {أو} لم يعْدُ أصل معناه من عطف تشريك أحد شيئين أو أشياء في خبر أو طَلب، وهذا التشريك يفيد تخييراً، أو إباحةً، أو تقسيماً، أو شكاً، أو تشكيكاً بحسب المواقع وبحسب عوامل الإِعراب، لتدخل {أو} التي تُضمر بعدها (أنْ) فتنصبُ المضارع.
وكون المشرَّك بها واحداً من متعدد مُلازم لمواقعها كلها.
فمعنى الآية نهي عن طاعة أحد هذين الموصوفين ويعلم أن طاعة كليهما منهي عنها بدلالة الفحوى لأنه إذا أطاعهما معاً فقد تحقق منه طاعة أحدهما وزيادة.
وموقع {منهم} موقعُ الحال من {آثماً} فإنه صفة {آثماً} فلما قدمت الصفة على الموصوف صارت حالاً.
و (مِنْ) للتبعيض.
والضمير المجرور بها عائد للمشركين، ولم يتقدم لهم ذكر لأنهم معلومون من سياق الدعوة أو لأنهم المفهوم من قوله: {إنا نحن نزلنا عليك القرآن تنزيلاً} أي لا كما يزعم المشركون أنك جئت به من تلقاء نفسك، ومن قوله: {فاصبر لحكم ربك} أي على أذى المشركين.
ويؤول المعنى: ولا تطع أحداً من المشركين.
{وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (25)} أي أقْبِلْ على شأنك من الدعوة إلى الله وذِكر الله بأنواع الذكر.
وهذا إرشاد إلى ما فيه عون له على الصبر على ما يقولون.
والمراد بالبُكرة والأصيل استغراق أوقات النهار، أي لا يصدك إعراضهم عن معاودة الدعوة وتكريرها طرفي النهار.
ويدخل في ذكر الله الصلوات مثل قوله: {وأقم الصلاة طرفي النهار وزُلَفاً من الليل إن الحسنات يذهبن السيئات ذلك ذكرى للذاكرين واصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين} [هود: 114، 115].
وكذلك النوافل التي هي من خصائص النبي صلى الله عليه وسلم بين مفروض منها وغير مفروض.
فالأمر في قوله: {واذكر} مستعمل في مطلق الطلب من وجوب ونفل.
وذِكر اسم الرب يشمل تبليغ الدعوة ويشمل عبادة الله في الصلوات المفروضة والنوافل ويشمل الموعظة بتخويف عقابه ورجاء ثوابه.
وقوله: {بكرة وأصيلا} يشمل أوقاتَ النهار كلها المحدودَ منها كأوقات الصلوات وغيرَ المحدود كأوقات النوافل، والدعاء والاستغفارِ.
و {بكرة} هي أول النهار، و{أصيلاً} عشياً.
وقوله: {ومن الليل فاسجد له} إشارة إلى أن الليل وقت تفرغ من بث الدعوة كما تقدم في قوله: {قم الليل إلاّ قليلاً} إلي قوله: {علم أن لن تحصوه فتاب عليكم} الآية [المزمل: 2 20] وهذا خاص بصلاة الليل فرضاً ونفلاً.
وقوله: {وسبّحْه} جملة معطوفة على جملة {من الليل فاسجد له} فتعين أن التسبيح التنفل.
والتسبيح: التنزيه بالقول وبالاعتقاد، ويشمل الصلوات والأقوال الطيبة والتدبر في دلائل صفات الله وكمالاته، وغلب إطلاق مادة التسبيح على الصلاة النافلة، وقال تعالى: {وسبح بحمد ربك حين تقوم} [الطور: 48]، أي من الليل.
وعن عبد الملك بن حبيب: و{سبحه} هنا صلاة التطوع في الليل، وقوله: {طويلاً} صفة {ليلاً} وحيث وصف الليل بالطول بعد الأمر بالتسبيح فيه، عُلم أن {ليلاً} أريد به أزمان الليل لأنه مجموعُ الوقت المقابل للنهار، لأنه لو أريد ذلك المقدارُ كلُّه لم يكن في وصفه بالطول جدوى، فتعين أن وصف الطول تقييد للأمر بالتسبيح، أي سبحه أكثرَ الليل، فهو في معنى قوله تعالى: {قم الليل إلاّ قليلاً إلى أو زد عليه} [الإنسان: 2، 4] أو يتنازعه كل من (اسجد) و{سبحه}.
وانتصب {ليلاً} على الظرفية ل {سبحه}.
وعن ابن عباس وابن زيد: أن هاتين الآيتين إشارة إلى الصلوات الخمس وأوقاتها بناء على أن الأصيل يطلق على وقت الظهر فيكون قوله: {وسبّحْه} إشارة إلى قيام الليل.
وهذه الآية جاءت على وفق قوله تعالى: {ولقد نعلم أنك يضيق صدرك بما يقولون فسبّح بحمد ربك وكن من الساجدين} [الحجر: 97، 98] وقوله تعالى: {واذكر اسم ربك وتبتَّل إليه تبتيلاً رب المشرق والمغرب لا إله إلاّ هو فاتخذه وكيلاً واصبر على ما يقولون} [المزمّل: 8 10].
{إِنَّ هَؤُلَاءِ يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَرَاءَهُمْ يَوْمًا ثَقِيلًا (27)}
تعليل للنهي عن إطاعتهم في قوله: {ولا تطع منهم آثماً أو كفوراً} [الإنسان: 24]، أي لأن خلقهم الانصباب على الدنيا مع الإِعراض عن الآخرة إذ هم لا يؤمنون بالبعث فلو أعطاهم لتخلق بخلقهم قال تعالى: {ودّوا لو تكفرون كما كفروا فتكونون سواء فلا تتخذوا منهم أولياء} الآية [النساء: 89].
فموقع {إنّ} موقع التعليل وهي بمنزلة فاء السببية كما نبه عليه الشيخ عبد القاهر.
و {هؤلاء} إشارة إلى حاضرين في ذهن المخاطب لكثرة الحديث عنهم، وقد استقريْتُ من القرآن أنه إذا أطلق {هؤلاء} دون سبْققِ ما يكون مشاراً إليه فالمقصود به المشركون، وقد ذكرتُ ذلك في تفسير قوله تعالى: {فإن يكفر بها هؤلاء فقد وكَّلنا بها قوماً ليسوا بها بكافرين} في سورة الأنعام (89) وقوله تعالى: {فلا تكُ في مرية مما يعبد هؤلاء} في سورة هود (109).
وقد تنزه رسول الله عن محبة الدنيا فقال: ما لي وللدنيا فليس له محبة لأمورها عدا النساء والطيب كما قال: «حُبِّب إليّ مِن دنياكم النساء والطيب».
فأما النساء فالميل إليهن مركوز في طبع الذكور، وما بالطبع لا يتخلف، وفي الأنس بهن انتعاش للروح فتناوله محمود إذا وقع على الوجه المبَرَّأ من الإِيقاع في فساد ومَا هو الأمثل تناول الطعام وشرب الماء قال تعالى: {ولقد أرسلنا رُسُلاً مِن قبلك وجعلْنا لهم أزواجاً وذُرِّية} [الرعد: 38].
وأما الطيب فلأنه مناسب للتزكية النفسية.
وصيغة المضارع في {يحبّون} تدل على تكرر ذلك، أي أن ذلك دأبهم وديدنهم لا يشاركون مع حب العاجلة حب الآخرة.
و {العاجلة}: صفة لموصوف محذوف معلوم من المقام تقديره: الحياة العاجلة، أو الدار العاجلة.
والمراد بها مدة الحياة الدنيا.
وكثر في القرآن إطلاق العاجلة على الدنيا كقوله: {كلا بل تُحِبُّون العاجلة وتَذرُون الآخرة} [القيامة: 20، 21] فشاع بين المسلمين تسمية الدنيا بالعاجلة.
ومتعلق {يحبّون} مضافٌ محذوف، تقديره: نعيمَ أو منافعَ لأن الحب لا يتعلق بذات الدنيا.
وفي إيثار ذكر الدنيا بوصف العاجلة توطئة للمقصود من الذم لأن وصف العاجلة يؤذن بأنهم آثروها لأنها عاجلة.
وفي ذلك تعريض بتحميقهم إذ رضُوا بالدون لأنه عاجل وليس ذلك من شيم أهل التبصر، فقوله: {ويذرون وراءهم يوماً ثقيلاً} واقع موقع التكميل لمناط ذمهم وتحميقهم لأنهم لوْ أحبُّوا الدنيا مع الاستعداد للآخرة لما كانوا مذمومين قال تعالى حكاية لقول الناصحين لقارون: {وابتغ فيما ءاتاك الله الدار الآخرة ولا تنسَ نصيبك من الدنيا} [القصص: 77].
وهذا نظير قوله تعالى: {يعلمون ظاهراً من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون} [الروم: 7] إذ كان مناط الذم فيه هو أن قصروا أنفسهم على علم أمور الدنيا مع الإِعراض عن العلم بالآخرة.
ومُثلوا بحال من يترك شيئاً وراءه فهو لا يسعى إليه وإنما يسعى إلى ما بين يديه.
وإنما أعرضوا عنه لأنهم لا يؤمنون بحلوله فكيف يسعون إليه.
وصيغة المضارع في {يذرون} تقتضي أنهم مستمرون على ذلك وأن ذلك متجدد فيهم ومتكرر لا يتخلفون عن ذلك الترك لأنهم لا يؤمنون بحلول ذلك اليوم، فالمسلمون لا يذرون وراءهم هذا اليوم لأنهم لا يَخلُون من عمل له على تفاوت بينهم في التقوى.
واليومُ الثقيل: هو يوم القيامة، وُصف بالثقيل على وجه الاستعارة لشدة ما يحصل فيه من المتاعب والكروب فهو كالشيء الثقيل الذي لا يستطاع حمله.
والثقل: يستعار للشدة والعسر قال تعالى: {ثقُلت في السماوات والأرض} [الأعراف: 187] وقال: {إنا سنلقي عليك قولاً ثقيلاً} [المزمل: 5].
{نَحْنُ خَلَقْنَاهُمْ وَشَدَدْنَا أَسْرَهُمْ وَإِذَا شِئْنَا بَدَّلْنَا أَمْثَالَهُمْ تَبْدِيلًا (28)}
لما كان الإِخبار عنهم بأنهم {يذرون وراءهم يوماً ثقيلاً} [الإنسان: 27] يتضمن أنهم ينكرون وقوع ذلك اليوم كما قدمناه وكان الباعث لهم على إنكاره شبهةُ استحالة إعادة الأجسادِ بعد بِلاها وفنائها، وكان الكلام السابق مسوقاً مساق الذم لهم والإِنكار عليهم جيء هنا بما هو دليل للإِنكار عليهم وإبطال لشبهتهم ببيان إمكان إعادة خلقهم يُعيده الذي خلقهم أول مرّة كما قال تعالى: {فسيقولون من يُعيدنا قُللِ الذي فطركم أول مرة} [الإسراء: 51] وغيرِ ذلك من الآيات الحائمة حول هذا المعنى.
وافتتاح الجملة بالمبتدإ المخبر عنه بالخبر الفِعلي دون أن تفتتح بـ {خلقناهم} أو نحن خالقون، لإِفادة تقوّي الخبر وتحقيقه بالنظر إلى المعنِيِّينَ بهذا الكلام وإن لم يكن خطاباً لهم ولكنهم هم المقصود منه.
وتقويةُ الحكم بناءٌ على تنزيل أولئك المخلوقين منزلة من يشك في أن الله خلقهم حيث لم يجْرُؤوا على موجِب العلم فأنكروا أن الله يعيد الخلق بعد البِلَى، فكأنهم يسندون الخلق الأول لغيره.
وتقوِّي الحكم يترتب عليه أنه إذا شاء بدَّل أمثالهم بإعادة أجسادهم فلذلك لم يُحتج إلى تأكيد جملة: {وإذا شئنا بدّلنا أمثالهم}، استغناء بتولد معناها عن معنى التي قبلها وإن كان هو أولى بالتقوية على مقتضى الظاهر.
وهذا التقوّي هنا مشعر بأن كلاماً يعقبه هو مصب التقوِّي، ونظيره في التقوِّي والتفريع قوله تعالى: {نحن خلقناكم فلولا تصدقون أفرأيتم ما تُمْنُون} إلى قوله: {وما نحن بمسبوقين على أن نبدِّل أمثالكم} فإن المفرع هو {أفرأيتم ما تمنون} وما اتصل به.
وجملة {فلولا تُصَدِّقون} معترضة وقد مضى في سورة الواقعة (57- 61).
ف {أمثالهم}: هي الأجساد الثانية إذ هي أمثال لأجسادهم الموجودةِ حين التنزيل.
والشدّ: الإِحكام وإتقان ارتباط أجزاء الجسد بعضها ببعض بواسطة العظام والأعصاب والعروق إذ بذلك يستقلّ الجسم.
والأسر: الربط، وأطلق هنا على الإِحكام والإِتقان على وجه الاستعارة.
والمعنى: أحْكمنا ربط أجزاء أجسامهم فكانت مشدوداً بعضها إلى بعض.
وقوله: {وإذا شئنا بَدَّلْنا أمثالهم} إخبار بأن الله قادر على أن يُبدلهم بناس آخرين.
فحذف مفعول {شئنا} لدلالة وجواب {إذَا} عليه كما هو الشأن في فعل المشيئة غالباً.
واجتلاب {إذا} في هذا التعليق لأن شأن {إذا} أن تفيد اليقين بوقوع ما قُيد بها بخلاف حرف (إنْ) فهو إيماء إلى أن حصول هذه المشيئة مستقرب الوقوع.
فيجوز أن يَكون هذا بمنزلة النتيجة لقوله: {نحن خلقناهم} الخ، ويُحمل الشرط على التحقق قال تعالى: {وإن الدين لَوَاقع} [الذاريات: 6].
ويجوز أن يكون قوله: {وإذا شئنا بدلنا أمثالهم} تهديداً لهم على إعراضهم وجحودهم للبعث، أي لو شئنا لأهلكناهم وخلقنا خلقاً آخر مثلهم كقوله تعالى: {إنْ يشأ يُذْهِبْكُم ويَأتِ بخَلْق جديد} [إبراهيم: 19].
ويكون {إذا} مراداً به تحقق التلازم بين شرط {إذا} وجوابها، أي الجملة المضاففِ إليها، والجملة المتعلَّق بها.
وفعل التبديل يقتضي مبدَّلاً ومبدَّلاً به وأيُّهما اعتبرتَه في موضع الآخر صح لأن كل مُبَدَّل بشيء هو أيضاً مُبدَّلٌ به ذلك الشيءُ، ولاسيما إذا لم يكن في المقام غرض ببيان المرغوب في اقتِنَائه والمسموح ببذله من الشيئين المستبدَلين، فحُذف من الكلام هنا متعلِّق {بدَّلنا} وهو المجرور بالباء لأنه أولى بالحذف، وأُبقي المفعول.
وقد تقدم نظيره في سورة الواقعة (61) في قوله: {على أنْ نُبَدل أمثالكم}، ومنه قوله تعالى: {إِنا لقادرون على أن نبدّلَ خيراً منهم} في سورة المعارج (40، 41) فالتقدير: بَدَّلْنا منهم.
والأمثال: جمع مِثْل وهو المماثل في ذاتٍ أو صفة، فيجوز أن يراد أمثالهم في أشكال أجسادهم وهو التبديل الذي سيكون في المعاد.
ويجوز أن يراد أمثالهم في أنهم أُمم، وعلى الوجه الأول فهو يدل على أن البعث يحصل بخلق أجسام على مِثال الأجساد التي كانت في الحياة الدنيا للأرواح التي كانت فيها.
وانتصب {تبديلاً} على المفعول المطلق المؤكِّد لعامله للدلالة على أنه تبديل حقيقي، وللتوصل بالتنوين إلى تعظيمه وعجوبته. اهـ.

.فوائد لغوية وإعرابية:

قال مجد الدين الفيروزابادي:
بصِيرة في البدل:
وهو الشىّ يكون مكان آخر.
وهو أَعمّ من العوَضِ، فإِنَّ العوض هو أَن يصير لك الثانى بإِعطاءِ الأَوّل.
والتَّبديل، والإِبدال، والاستبدال: جعل الشَّئِ مكان آخر.
وقد ورد في القرآن على وجوه:
الأَوّل: بمعنى الهلاك {وَإِذَا شِئْنَا بَدَّلْنَآ أَمْثَالَهُمْ تَبْدِيلاً}، {وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ عَلَى أَن نُّبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ} أَي نهلك.
الثانى: بمعنى نسْخ الشريعة والآية: {وَإِذَا بَدَّلْنَآ آيَةً مَّكَانَ آيَةٍ} أَي نسخنا، {أُبَدِّلَهُ مِن تِلْقَاءِ نَفْسِي}.
الثالث: بمعنى التغيير: {فَمَن بَدَّلَهُ بَعْدَ مَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ} أَي يغيّرونه، {وَمَا بَدَّلُواْ تَبْدِيلاً} ومنه قوله- تعالى: {فَأُوْلَائِكَ يُبَدِّلُ الله سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ} وقيل: هو أَن يعملوا أَعمالاً صالحة تُبطل ما قدّموه من الإِساءَة.
وقيل: هو أَن يعفو تعالى عن سيئاتهم، ويحتسب بحسناتهم {يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ} أَي تغيّر عن حالها.
وقوله: {مَا يُبَدَّلُ الْقول لَدَيَّ} أَي لا يغيّر ما سبق في اللَّوح المحفوظ؛ تنبيهاً على أَن ما علمه أَن سيكون يكون على ما قد علمه، لا يتغيّر عن حاله.
وقيل: لا يقع في قوله خُلْف.
وعلى الوجهين قوله: {لاَ تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ الله} {لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ الله} وقيل: معناه: النهى عن الخِصاءِ.
الرّابع: بمعنى تجديد الحالة: {بَدَّلْنَاهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا} أَي جَدّدنا.
الخامس: بمعنى اختيار الكفر، والنكرة على الإِيمان {وَمَن يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالإِيمَانِ}.
السّادس: بمعنى إِبليس في طريق الظلم والضلالة: {بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً}.
والأَبدال: قوم صالحون، يجعلهم الله تعالى مكان آخرين مثلهم ماضين.
وحقيقته: قوم بدّلوا أَحوالهم الذميمة (بأَحوالهم الحميدة).
قيل: وهم المشار إِليهم بقوله تعالى: {فَأُولَئكَ يُبَدِّلُ الله سَيِّئَاتهِمْ حَسَنَاتٍ}. اهـ.

.تفسير الآيات (29- 31):

قوله تعالى: {إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبه سَبِيلًا (29) وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ الله إِنَّ الله كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (30) يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (31)}

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
ولما كان هذا دليلاً عظيماً على القدرة على البعث مخزياً لهم، قال مؤكداً لإنكارهم عناداً: {إن هذه} أي الفعلة البدائية، أو المواعظ التي ذكرناها في هذه السورة وفي جميع القرآن {تذكرة} أي موضع ذكر عظيم للقدرة على البعث وتذكر عظيم لما فعلت في الإنشاء أولاً، وموعظة عظيمة فإن في تصفحها تنبيهات عظيمة للغافلين، وفي تدبرها وتذكرها فوائد جمة للطالبين السالكين ممن ألقى سمعه وأحضر نفسه، وكانت نفسه مقبلة على ما ألقى إليه سمعه، فمن أقبل هذا الإقبال علم أنا آتيناه من الآلات والدلائل ما إن سلك معه مجتهداً وصل دون ضلال ولذلك سبب عن كونها تذكرة قوله من خطاب البسط: {فمن شاء} أي أن يجتهد في وصوله إلى الله سبحانه وتعالى: {اتخذ} أي أخذ بجهده من مجاهدة نفسه ومغالبة هواه {إلى ربه} أي المحسن إليه الذي ينبغي له أن يحبه بجميع قلبه ويجتهد في القرب منه {سبيلاً} أي طريقاً واسعاً واضحاً سهلاً بأفعال الطاعة التي أمر بها لأنا بينا الأمور غاية البيان وكشفنا اللبس وأزلنا جميع موانع أنفسهم عمن شئنا وركزنا ذلك في الطباع، ولم يبق مانع من استطراق أصلاً غير مشيئتنا، والفطرة الأولى أعدل شاهد بهذا.
ولما أثبت لهم المشيئة التي هي مناط التكليف، وهي الكسب، وكان ربما ظن ظان أو ادعى مدع في خلق الأفعال كما قال أهل الاعتزال، قال نافياً عنهم الاستقلال، لافتاً القول إلى خطابهم، وهو مع كونه خطاب قبض استعطافاً بهم إلى التذكر في قراءة الجماعة وبالغيب على الأسلوب الماضي في قراءة ابن كثير وابن عامر: {وما تشاءون} أي في وقت من الأوقات مشيئة من المشيئات لهذا وغيره على سبيل الاختراع والاستقلال {إلا} وقت {أن يشاء الله} أي الملك الأعلى الذي له الأمر كله، ولا أمر لأحد معه، فيوجد المعاني في أنفسكم على حسب ما يريد ويقدر على ما يشاء من آثارها، وقد صح بهذا ما قال الأشعرية وسائر أهل السنة من أن للعبد مشيئة تسمى كسباً لا تؤثر إلا بمشيئة الله تعالى وتحريكها لقدرة العبد، وانتفى مذهب القدرية الذين يقولون: إنا نحن نخلق أفعالنا، ومذهب الجبرية القائلين: لا فعل لنا أصلا، ومثَّل الملوي ذلك بمن يريد قطع بطيخة فحدد سكيناً وهيأها وأوجد فيها أسباب القطع وأزال عنها موانعه ثم وضعها على البطيخة فهي لا تقطع دون أن يتحامل عليها التحامل المعروف لذلك، ولو وضع عليها ما لم يصلح للقطع كحطبة مثلاً لم تقطع ولو تحامل، فالعبد كالسكين خلقه الله وهيأه بما أعطاه من القدرة للفعل، فمن قال: أنا أخلق فعلي مستقلاً به، فهو كمن قال: السكين تقطع بمجرد وضعها من غير تحامل، ومن قال: الفاعل هو الله، من غير نظر إلى العبد أصلاً كان كمن قال: هو يقطع البطيخة بتحامل يده أو قصبة ملساء من غير سكين، والذي يقول: إنه باشر بقدرته المهيأة للفعل بخلق الله لها وتحريكها في ذلك الفعل كان كمن قال: إن السكين قطعت بالتحامل عليها، بهذا أجرى سبحانه عادته في الناس، ولو شاء غير ذلك فعل، ولا يخفى أن هذا هو الحق الذي لا مرية فيه، ثم علل ذلك بإحاطته بمشيئتهم قائلاً: {إن الله} أي المحيط علماً وقدرة {كان} أي أزلاً وأبداً {عليماً حكيماً} أي بالغ العلم والحكمة، فهو يمنع منعاً محكماً من أن يشاء غيره ما لم يأذن فيه، فمن علم في جبلته خيراً أعانه عليه، ومن علم منه الشر ساقه إليه وحمله عليه، وهو معنى {يدخل من يشاء} أي من علمه أهلاً للسعادة، ليس بظالم {في رحمته} بحكمته فييسر له اتخاذ السبيل الموصل إليه بأن يوفقه للعدل، ويعد له ثواباً جسيماً.
ولما بشر أهل العدل بالفعل المضارع المؤذن بالاستمرار، ولم يجعله ماضياً لئلا يتعنت متعنت ممن هو متلبس بالضلال فيقول: أنا لا أصلح لأنه ما أدخلني، عطف عليه ما لأضدادهم في جملة فعلية بناها على الماضي إعلاماً بأن عذابهم موجود قد فرغ منه فقال: {والظالمين} أي وأهان العريقين في وصف المشي على غير سنن مرضى كالماشي في الظلام فهو يدخلهم في نقمته وقد {أعد لهم} أي إعداداً أمضاه بعظمته، فلا يزاد فيه ولا ينقص أبداً {عذاباً أليماً} فالآية من الاحتباك: ذكر الإدخال والرحمة أولاً دلالة على الضد ثانياً، والعذاب ثانياً دلالة على الثواب أولاً، وسر ذلك أن ما ذكره أولى بترغيب أهل العدل فيه وإن ساءت حالهم في الدنيا، وبترهيب أهل الظلم منه وإن حسنت حالهم في الدنيا، فقد رجع هذا الآخر المفصل إلى السعادة والشقاوة على أولها المؤذن بأن الإنسان معتنى به غاية الاعتناء، وأنه ما خلق إلا للابتلاء، فهو إما كافر مغضوب عليه، وإما شاكر منظور بعين الرضى إليه- فسبحان من خلقنا ويميتنا ويحيينا بقدرته والله الهادي. اهـ.

.من أقوال المفسرين:

.قال الفخر:

{إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ}
واعلم أنه تعالى لما شرح أحوال السعداء وأحوال الأشقياء قال بعده: {إِنَّ هذه تَذْكِرَةٌ فَمَن شَاء اتخذ إلى رَبه سَبِيلاً وَمَا تَشَاءونَ إِلاَّ أَن يَشَاء الله} والمعنى أن هذه السورة بما فيها من الترتيب العجيب والنسق البعيد والوعد والوعيد والترغيب والترهيب، تذكرة للمتأملين وتبصرة للمستبصرين، فمن شاء الخيرة لنفسه في الدنيا والآخرة اتخذ إلى ربه سبيلاً.
واتخاذ السبيل إلى الله عبارة عن التقرب إليه، واعلم أن هذه الآية من جملة الآيات التي تلاطمت فيها أمواج الجبر والقدر، فالقدري يتمسك بقوله تعالى: {فَمَن شَاء اتخذ إلى رَبه سَبِيلاً} ويقول: إنه صريح مذهبي ونظيره: {فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ} [الكهف: 29] والجبري يقول: متى ضمت هذه الآية إلى الآية التي بعدها خرج منه صريح مذهب الجبر، وذلك لأن قوله: {فَمَن شَاء اتخذ إلى رَبه سَبِيلاً} يقتضي أن تكون مشيئة العبد متى كانت خالصة فإنها تكون مستلزمة للفعل، وقوله بعد ذلك: {وَمَا تَشَاءونَ إِلاَّ أَن يَشَاء الله} يقتضي أن مشيئة الله تعالى مستلزمة لمشيئة العبد ومستلزم المستلزم مستلزم، فإذا مشيئة الله مستلزمة لفعل العبد، وذلك هو الجبر، وهكذا الاستدلال على الجبر بقوله: {فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ} لأن هذه الآية أيضاً تقتضي كون المشيئة مستلزمة للفعل ثم التقرير ما تقدم.
واعلم أن الاستدلال على هذا الوجه الذي لخصناه لا يتوجه عليه كلام القاضي إلا أنا نذكره وننبه على ما فيه من الضعف، قال القاضي: المذكور في هذه الآية اتخاذ السبيل إلى الله، ونحن نسلم أن الله قد شاءه لأنه تعالى قد أمر به، فلابد وأن يكون قد شاءه.
وهذا لا يقتضي أن يقال العبد: لا يشاء إلا ما قد شاءه الله على الإطلاق، إذ المراد بذلك الأمر المخصوص الذي قد ثبت أنه تعالى قد أراده وشاءه.
واعلم أن هذا الكلام الذي ذكره القاضي لا تعلق له بالاستدلال على الوجه الذي ذكرناه، وأيضاً فحاصل ما ذكره القاضي تخصيص هذا العام بالصورة التي مر ذكرها فيما قبل هذه الآية، وذلك ضعيف، لأن خصوص ما قبل الآية لا يقتضي تخصيص هذا العام به.
لاحتمال أن يكون الحكم في هذه الآية وارداً بحيث يعم تلك الصورة وسائر الصور، بقي في الآية سؤال يتعلق بالإعراب، وهو أن يقال: ما محل {أن يشاء الله}؟ وجوابه النصب على الظرف، وأصله إلا وقت مشيئة الله، وكذلك قراءة ابن مسعود: {إلا ما شاء الله} لأن ما مع الفعل كأن معه، وقرئ أيضاً {يشاءون} بالياء.
ثم قال تعالى: {إِنَّ الله كَانَ عَلِيماً حَكِيماً} أي عليماً بأحوالهم وما يكون منهم حيث خلقهم مع علمه بهم.
ثم ختم السورة فقال: {يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (31)}
اعلم أن خاتمة هذه السورة عجيبة، وذلك لأن قوله: {وَمَا تَشَاءونَ إِلاَّ أَن يَشَاء الله} [الإنسان: 30] يدل على أن جميع ما يصدر عن العبد فبمشيئة الله، وقوله: {يُدْخِلُ مَن يَشَاء في رَحْمَتِهِ والظالمين أَعَدَّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً} يدل على أن دخول الجنة والنار ليس إلا بمشيئة الله، فخرج من آخر هذه السورة إلا الله وما هو من الله، وذلك هو التوحيد المطلق الذي هو آخر سير الصديقين ومنتهى معارجهم في أفلاك المعارف الإلهية.
وفي الآية مسائل:
المسألة الأولى:
قوله: {يُدْخِلُ مَن يَشَاء في رَحْمَتِهِ} إن فسرنا الرحمة الإيمان، فالآية صريحة في أن الإيمان من الله، وإن فسرناها بالجنة كان دخول الجنة بسبب مشيئة الله وفضله وإحسانه لا بسبب الاستحقاق، وذلك لأنه لو ثبت الاستحقاق لكان تركه يفضي إلى الجهل والحاجة المحالين على الله، والمفضي إلى المحال محال فتركه محال فوجوده واجب عقلاً وعدمه ممتنع عقلاً، وما كان كذلك لا يكون معلقاً على المشيئة ألبتة، وأيضاً فلأن من كان مديوناً من إنسان فأدى ذلك الدين إلى مستحقه لا يقال: بأنه إنما دفع ذلك القدر إليه على سبيل الرحمة والتفضل.
المسألة الثانية:
قوله: {والظالمين أَعَدَّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً} يدل على أنه جف القلم بما هو كائن، لأن معنى أعد أنه علم ذلك وقضى به، وأخبر عنه وكتبه في اللوح المحفوظ، ومعلوم أن التغيير على هذه الأشياء محال، فكان الأمر على ما بيناه وقلناه.
المسألة الثالثة:
قال الزجاج: نصب {الظالمين} لأن قبله منصوباً، والمعنى يدخل من يشاء في رحمته ويعذب الظالمين وقوله: {أَعَدَّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً} كالتفسير لذلك المضمر، وقرأ عبد الله بن الزبير: {والظالمون}، وهذا ليس باختيار لأنه معطوف على {يدخل من يشاء} وعطف الجملة الإسمية على الجملة الفعلية غير حسن، وأما قوله في حم عسق: {يُدْخِلُ مَن يَشَاء في رَحْمَتِهِ والظالمون} فإنما ارتفع لأنه لم يذكر بعده فعل يقع عليه فينصبه في المعنى، فلم يجز أن يعطف على المنصوب قبله، فارتفع بالابتداء، وهاهنا قوله: {أَعَدَّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً} يدل على ذلك الناصب المضمر، فظهر الفرق والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب.
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم. اهـ.

.قال القرطبي:

قوله تعالى: {إِنَّ هذه} أي السورة {تَذْكِرَةٌ} أي موعظة {فَمَن شَاءَ اتخذ إلى رَبه سَبِيلاً} أي طَريقاً موصلاً إلى طاعته وطلب مرضاته.
وقيل: {سَبِيلاً} أي وسيلة.
وقيل وجهة وطريقاً إلى الجنة.
والمعنى واحد.
{وَمَا تَشَاءُونَ} أي الطاعة والاستقامة واتخاذ السبيل إلى الله {إِلاَّ أَن يَشَاءَ الله} فأخبر أن الأمر إليه سبحانه ليس إليهم، وأنه لا تنفذ مشيئة أحدٍ ولا تتقدّم، إلا أن تتقدّم مشيئته.
وقرأ ابن كثير وأبو عمرو {وَمَا يَشَاءُونَ} بالياء على معنى الخبر عنهم.
والباقون بالتاء على معنى المخاطبة لله سبحانه.
وقيل: إن الآية الأولى منسوخة بالثانية.
والأشبه أنه ليس بنسخ، بل هو تبيين أن ذلك لا يكون إلا بمشيئته.
قال الفرّاء: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلاَّ أَن يَشَاءَ الله} جواب لقوله: {فَمَن شَاءَ اتخذ إلى رَبه سَبِيلاً} ثم أخبرهم أن الأمر ليس إليهم فقال: {وَمَا تَشَاءُونَ} ذلك السبيلَ {إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ الله} لكم.
{إِنَّ الله كَانَ عَلِيماً} بأعمالكم {حَكِيماً} في أمره ونهيه لكم.
وقد مضى في غير موضع.
{يُدْخِلُ مَن يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ} أي يدخله الجنة راحماً له {والظالمين} أي ويعذّب الظالمين فنصبه بإضمار يعذّب.
قال الزجاج: نصب {الظالمين} لأن قبله منصوب؛ أي يدخل من يشاء في رحمته ويعذّب الظالمين أي المشركين ويكون {أَعَدَّ لَهُمْ} تفسيراً لهذا المضمر؛ كما قال الشاعر:
أَصْبَحْتُ لاَ أَحْمِلُ السِّلاَحَ وَلاَ ** أَمْلِكُ رَأْسَ الْبَعِيرِ إنْ نَفَرَا

وَالذِّئْبَ أَخْشَاهُ إنْ مَرَرْتُ به ** وَحْدِي وَأَخْشَى الرِّيَاحَ وَالْمَطَرَا

أي أخشى الذئب أخشاه.
قال الزجاج: والاختيار النصب وإن جاز الرفع؛ تقول: أعطيت زيداً وعمراً أعددت له بِراً، فيختار النصب؛ أي وبَرَرْت عمراً أو أبرّ عمراً.
وقوله في {حم عسق}: {يُدْخِلُ مَن يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ والظالمون} [الشورى: 8] ارتفع لأنه لم يذكر بعده فعل يقع عليه فينصب في المعنى؛ فلم يجز العطف على المنصوب قبله فارتفع بالابتداء.
وها هنا قوله: {أَعَدَّ لَهُمْ عَذَاباً} يدل على ويعذّب، فجاز النصب.
وقرأ أبان بن عثمان {وَالظَّالِمُونَ} رفعاً بالابتداء والخبر {أَعَدَّ لَهُمْ}.
{عَذَاباً أَلِيماً} أي مؤلماً موجِعاً.
وقد تقدم هذا في سورة (البقرة) وغيرها والحمد لله.
ختمت السورة. اهـ.

.قال الألوسي:

{إِنَّ هذه تَذْكِرَةٌ}
إشارة إلى السورة أو الآيات القرآنية {فَمَن شَاء اتخذ إلى رَبه سَبِيلاً} أي فمن شاء أن يتخذ إليه تعالى سبيلاً أي وسيلة توصله إلى ثوابه اتخذه أي تقرب إليه بالطاعة فهو توصل أيضاً السبيل للمقاصد.
{وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ الله إِنَّ الله كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (30)}
{وَمَا} أي شيئاً أو اتخاذ السبيل {تَشَاءونَ إِلاَّ أَن يَشَاء الله} أي إلا وقت مشيئة الله تعالى لمشيئتكم وقال الزمخشري أي وما تشاؤن الطاعة إلا أن يشاء الله تعالى قسركم عليها وهو تحريف للآية بلا دليل ويلزمه على ما في الانتصاف أن مشيئة العبد لا يوجد إلا إذا انتفت وهو عن مذهب الاعتزال بمعزل وأبعد منزل والظاهر ما قررنا لأن المفعول المحذوف هو المذكور أولاً كما تقول لو شئت لقتلت زيداً أي لو شئت القتل لا لو شئت زيداً ولا يمكن للمعتزلة أن ينازعوا أهل الحق في ذلك لأن المشيئة ليست من الأفعال الاختيارية وإلا لتسلسلت بل الفعل المقرون بها منها فدعوى استقلال العبد مكابرة وكذلك دعوى الجبر المطلق مهاترة والأمر بين الأمرين لإثبات المشيئتين وحاصله على ما حققه الكوراني أن العبد مختار في أفعاله وغير مختار في اختياره والثواب والعقاب لحسن الاستعداد النفس الأمري وسوئه فكل يعمل على شاكلته وسبحان من أعطى كل شيء خلقه ثم هدى وفي (التفسير الكبير) هذه الآية من الآيات التي تلاطمت فيها أمواج القدر والجبر فالقدري يتمسك بالجملة الأولى ويقول إن مفادها كون مشيئة العبد مستلزمة للفعل وهو مذهبي والجبري يتمسك بضم الجملة الثانية ويقول إن مفادها أن مشيئة الله تعالى مستلزمة لمشيئة العبد فيتحصل من الجملتين أن مشيئة الله تعالى مستلزمة لمشيئة العبد وإن مشيئة العبد مستلزمة لفعل العبد كما تؤذن به الشرطية فإذن مشيئة الله تعالى مستلزمة لفعل العبد لأن مستلزم المستلزم مستلزم وذلك هو الجبر وهو صريح مذهبي وتعقب بأن هذا ليس بالجبر المحض المسلوب معه الاختيار بالكلية بل يرجع أيضاً إلى أمر بين أمرين وقدر بعض الأجلة مفعول يشاء الاتخاذ والتحصيل رداً للكلام على الصدر فقال إن قوله سبحانه {وما تشاؤن} إلخ تحقيق للحق ببيان أن مجرد مشيئتهم غير كافية في اتخاذ السبيل كما هو المفهوم من ظاهر الشرطية أي وما تشاؤن اتخاذ السبيل ولا تقدرون على تحصيله في وقت من الأوقات إلا وقت مشيئته تعالى اتخاذه وتحصيله لكم إذ لا دخل لمشيئة العبد إلا في الكسب وإنما التأثير والخلق لمشيئة الله عز وجل وفيه نوع مخالفة للظاهر كما لا يخفى نعم قيل أن ظاهر الشرطية أن مشيئة العبد مطلقاً مستلزمة للفعل فيلزم أنه متى شاء فعلاً فعله مع أن الواقع خلافه فلابد مما قاله هذا البعض وجعل الجملة الثانية تحقيقاً للحق وأجيب بأنها للتحقيق على وجه آخر وذلك أن الأولى أفهمت الاستلزام والثانية بينت أن هذه المشيئة المستلزمة لا تتحقق إلا وقت مشيئة الله تعالى إياها فكأنه قيل وما تشاؤن مشيئة تستلزم الفعل إلا وقت أن يشاء الله تعالى مشيئتكم تلك فتأمل وأنت تعلم أن هذه المسألة من محار الأفهام ومزال أقدام أقوام بعد أقوام وأقوى شبه الجبرية أنه قد تقرر أن الشيء ما لم يجب لم يوجد فإن وجب صدور الفعل فلا اختيار وإلا فلا صدور وبعبارة أخرى أن جميع ما يتوقف عليه الفعل إذا تحقق فأما أن يلزم الفعل فيلزم الاضطرار أولاً فيلزم جواز تخلف المعلول عن علته التامة بل مع الصدور الترجح بلا مرجح فقد قيل إنها نحو شبهة ابن كمونة في التوحيد يصعب التفصي عنها وللفقير العاجز جبر الله تعالى فقره ويسر أمره عزم على تأليف رسالة إن شاء الله تعالى في ذلك سالكاً فيها بتوفيقه سبحانه أحسن المسالك وإن كان الكوراني قدس سره لم يدع فيها مقالاً وأوشك أن يدع كل من جاء بعد فيها بشيء عليه عيالاً والله تعالى الموفق.
وقرأ العربيان وابن كثير {وما يشاؤن} بياء الغيبة وقرأ ابن مسعود {إلا ما يشاء الله} وما فيه مصدرية كأن في قراءة الجماعة وقد أشرنا إلى إن المصدر في محل نصب على الظرفية بتقدير المضاف الساد هو مسده وهو ما اختاره غير واحد وتعقبه أبو حيان بأنهم نصوا على أنه لا يقوم مقام الظرف إلا المصدر المصرح فلا يجوز أجيئك أن يصيح الديك أو ما يصيح الديك وإنما يجوز أجيئك صياح الديك وكأنه لهذا قيل إن أن يشاء بتقدير حرف الجر والاستثناء من أعم الأسباب أي وما تشاؤن بسبب من الأسباب إلا بأن يشاء الله تعالى.
{إِنَّ الله كَانَ عَلِيماً} مبالغاً في العلم فيعلم مشيئات العباد المتعلقة بالأفعال التي سألوها بألسنة استعداداتهم {حَكِيماً} مبالغاً في الحكمة فيفيض على كل ما هو الأوفق باستعداده وما هو عليه في نفس الأمر من المشيئة أو أنه تعالى مبالغ في العلم والحكمة فيعلم ما يستأهله كل أحد من الطاعة وخلافها فلا يشاء لهم إلا ما يستدعيه علمه سبحانه وتقتضيه حكمته عز وجل وقيل عليماً أي يعلم ما يتعلق به مشيئة العباد من الأعمال حكيماً لا يشاء إلا على وفق حكمته وهو أن يشاء العبد فيشاء الرب سبحانه وتعالى لا العكس ليتأتى التكليف من غير انفراد لأحد المشيئتين عن الأخرى وفيه بحث وقوله تعالى: {يُدْخِلُ مَن يَشَاء في رَحْمَتِهِ} إلخ بيان لما تضمنته الجملة قيل أي يدخل سبحانه في رحمته من يشاء أن يدخله فيها وهو الذي علم فيه الخير حيث يوفقه لما يؤدي إلى دخول الجنة من الايمان والطاعة {والظالمين} أي لأنفسهم وهم الذي علم فيهم الشر {أَعَدَّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً} متناهياً في الإيلام ونصب {الظالمين} بإضمار فعل يفسره أعد إلخ وقدر يعذب وقد يقدر أو عد أو كافأ أو شبه ذلك ولم يقدر أعد لأنه لا يتعدى باللام.
وقرأ ابن الزبير وأبان بن عثمان وابن أبي عبلة {والظالمون} على الابتداء وقراءة الجمهور أحسن وإن أوجبت تقديراً للطباق فيها وذهابه في هذه إذ الجملة عليها اسمية والأولى فعلية ولا يقال زيادة التأكيد في طرف الوعيد مطلوبة لأنا نقول الأمر بالعكس لو حقق لسبق الرحمة الغضب.
وقرأ عبد الله {وللظالمين} بلام الجر فقيل متعلق بما بعد على سبيل التوكيد وقيل هو بتقدير أعد للظالمين أعد لهم والجمهور على الأول ثم إن هذه السورة وأن تضمنت من سعة رحمة الله عز وجل ما تضمنت إلا أنها أشارت من عظيم جلاله سبحانه وتعالى إلى ما أشارت.
أخرج أحمد والترمذي وحسنه وابن ماجه والضياء في المختارة والحاكم وصححه وغيرهم عن أبي ذر قال قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم {هل أتى الإنسان} [الإنسان: 1] حتى ختمها ثم قال: «إني أرى ما لا ترون واسمع ما لا تسمعون أطت السماء وحق لها أن تئط ما فيها موضع أربع أصابع إلا وملك واضع جبهته ساجداً لله تعالى والله لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً وما تلذذتم بالنساء على الفرش ولخرجتم إلى الصعدات تجأرون إلى الله عز وجل».
وهذا كالظاهر فيما قلنا.
نسأل الله تعالى أن يجعلنا من الأبرار والمقربين الأخيار فيرزقنا جنة وحريراً ويجعل سعينا لديه مشكوراً بحرمة النبي صلى الله عليه وسلم وأهل بيته المطهرين من الرجس تطهيراً. اهـ.

.قال ابن عاشور:

{إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ}
استئناف ابتدائي للانتقال من بسط التذكير والاستدلال إلى فذلكة الغرض وحوصلته، إشعاراً بانتهاء المقصود وتنبيهاً إلى فائدته، ووجه الانتفاع به، والحث على التدبر فيه، واستثمار ثمرته، وباعتبار ما تفرع عن هذه الجملة من قوله: {فمن شاء اتخذ} إلخ يقوَى موقع الفذلكة للجملة وتأكيد الكلام بحرف {إن} لأن حال المخاطبين عدم اهتمامهم بها فهم ينكرون أنها تذكرة.
والإِشارة إلى الآيات المتقدمة أو إلى السورة ولذلك أُتي باسم الإِشارة المؤنث.
والتذكرة: مصدر ذَكَّره (مثل التزكية)، أي أكلمه كلاماً يذكره به ما عسى أن يكون نسيه أطلقت هنا على الموعظة بالإِقلاع عن عمل سيِّىء والإِقبال على عمل صالح وعلى وضوح الخير والشر لمن تذكر، أي تبصر بتشبيه حالة المعرض عن الخير المشغول عنه بحالة الناسي له لأن شأنه ألا يُفرِّط فيه إلاّ من كان ناسياً لما فيه من نفع له.
وفرع عليه الحث على سلوك سبيل مرضاة الله بقوله: {فمن شاء اتخذ إلى ربه سبيلاً}، أي ليس بعد هذه التذكرة إلاّ العمل بها إذا شاء المتذكر أن يعمل بها.
ففي قوله: {مَن شاء} حثّ على المبادرة بذلك لأن مشيئة المرء في مكنته فلا يمنعه منها إلاّ سوء تدبيره.
وهذا حثّ وتحريض فيه تعريض بالمشركين بأنهم أبَوا أن يتذكروا عناداً وحسداً.
واتخاذ السبيل: سلوكه، عُبّر عن السلوك بالاتخاذ على وجه الاستعارة بتشبيه ففي قوله: {اتَّخَذ إلى ربه سبيلاً} استعارتان لأن السبيل مستعار لسبب الفوز بالنعيم والزُّلفى.
ويتعلق قوله: {إلى ربه} بـ {سبيلاً}، أي سبيلاً مُبلغة إلى الله، ولا يختلف العقلاء في شرف ما يوصل إلى الرب، أي إلى إكرامه لأن ذلك قرارة الخيرات ولذلك عبر برب مضافاً إلى ضمير {من شاء} إذ سعادة العبد في الحظوة عند ربه.
وهذه السبيل هي التوبة فالتائب مِثل الذي كان ضالاً، أو آبقاً فاهتدى إلى الطريق التي يرجع منها إلى مقصده، أو سلك الطريق إلى مولاه.
وقد تقدم نظير هذه الآية في سورة المزمل.
{وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ الله إِنَّ الله كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (30)}
لما ناط اختيارهم سبيلَ مرضاة الله بمشيئتهم أعقبه بالتنبيه إلى الإِقبال على طلب مرضاة الله للتوسل برضاه إلى تيسير سلوك سبل الخير لهم لأنهم إذا كانوا منه بمحل الرضى والعناية لطف بهم ويسَّر لهم ما يعسُر على النفوس من المصابرة على ترك الشهوات المُهلكة، قال تعالى: {فسَنُيَسِّره لليسرى} [الليل: 7] فإذا لم يسعوا إلى مرضاة ربهم وَكَلَهم إلى أحوالهم التي تعوّدوها فاقتحمت بهم مهامه العماية إذ هم محفوفون بأسباب الضلال بما استقرت عليه جِبلاّتهم من إيثار الشهوات والاندفاع مع عصائب الضلالات، وهو الذي أفاده قوله تعالى: {فسنيسّره للعُسْرى} [الليل: 10]، أي نتركه وشأنَه فتتيسر عليه العسرى، أي تلحق به بلا تكلف ومجاهدة.
فجملة {وما تشاءون إلاّ أن يشاء الله} يجوز أن تكون عطفاً على جملة {فمن شاء اتخذ إلى ربه سبيلاً} [الإنسان: 29] أو حالاً من {مَن يشاء} [الإنسان: 31] وهي على كلا الوجهين تتميم واحتراس.
وحذف مفعول {تشاءون} لإِفادة العموم، والتقدير: وما تشاءون شيئاً أو مشيئاً وعموم الأشخاص يستلزم عموم الأحوال والأزمنة، أي ما تشاءون شيئاً في وقت من الأوقات أو في حال من الأحوال.
وقد علل ارتباط حصول مشيئتهم بمشيئة الله، بأن الله عليم حكيم، أي عليم بوسائل إيجاد مشيئتهم الخير، حكيم بدقائق ذلك مما لا تبلغ إلى معرفة دقائقه بالكُنْهِ عقول الناس، لأن هنالك تصرفات عُلوية لا يبلغ الناس مبلغ الاطلاع على تفصيلها ولكن حَسبهم الاهتداء بآثارها وتزكية أنفسهم للصد عن الإِعراض عن التدبر فيها.
و {مَا} نافية، والاستثناء من عموم الأشياء المشيئة وأحوالها وأزمانها، ولما كان ما بعد أدَاة الاستثناء حرف مصدر تعين أن المستثنى يقدر مصدراً، أي إلاَّ شَيْءَ الله (بمعنى مشيئته)، وهو صالح لاعتبار المعنى المصدري ولاعتبار الحالة، ولاعتبار الزمان، لأن المصدر صالح لإِرادة الثلاثة باختلاف التأويل فإن قدر مضاف كان المعنى: إلاّ حالَ مشيئة الله، أو إلاّ زمن مشيئته، وإن لم يقدر مضاف كان المعنى: لا مشيئة لكم في الحقيقة إلاّ تبعاً لمشيئة الله.
وإيثار اجتلاب {أن} المصدرية من إعجاز القرآن.
ويجوز أن يكون فعلا {تشاءون} و{يشاء الله} منزلين منزلة اللازم فلا يقدر لهما مفعولان على طريقة قول البحْتري:
أنْ يَرَى مُبْصِر وَيَسْمَع وَاعٍ

ويكون الاستثناء من أحوال، أي وما تحصل مشيئتكم في حال من الأحوال إلاّ في حال حصول مشيئة الله.
وفي هذا كله إشارة إلى دقة كنه مشيئة العبد تجاه مشيئة الله وهو المعنى الذي جمعَ الأشعريُّ التعبيرَ عنه بالكسب، فقيل فيه (أدق من كسب الأشعري).
ففي الآية تنبيه الناس إلى هذا المعنى الخفي ليرقبوه في أنفسهم فيجدوا آثاره الدالة عليه قائمة متوافرة، ولهذا أطنب وصف هذه المشيئة بالتذييل بقوله: {إن الله كان عليماً حكيماً} فهو تذييل أو تعليل لجملة {يدخل من يشاء في رحمته} [الإنسان: 31]، أي لأنه واجب له العلم والحكمة فهو أعلم فمن شاء أن يدخله في رحمته ومن شاء أبعده عنها.
وهذا إطناب لم يقع مثله في قوله تعالى في سورة عبس (11، 12): {كلاّ إن هذه تذكرة فمن شاء ذكره} لأن حصول التذكر من التذكرة أقرب وأمكن، من العمل بها المعبِر عنه بالسبيل الموصلة إلى الله تعالى فلذلك صُرفت العناية والاهتمامُ إلى ما يُلَوِّح بوسيلة اتخاذ تلك السبيل.
وفعل {كان} يدل على أن وصفه تعالى بالعلم والحكمة وصف ذاتي لأنهما واجبان له.
وقد حصل من صدر هذه الآية ونهايتها ثبوت مشيئتين: إحداهما مشيئة العباد، والأخرى مشيئة الله، وقد جمعتهما هذه الآية فكانت أصلاً للجمع بين متعارض الآيات القرآنية المقتضي بعضُها بانفرادِه نَوْطَ التكاليف بمشيئة العباد وثوابهم وعقابهم على الأفعال التي شاءوها لأنفسهم، والمقتضي بعضُها الآخر مشيئةً لله في أفعال عباده.
فأما مشيئة العباد فهي إذا حصلت تحصل مباشرةً بانفعال النفوس لفاعليَّة الترغيب والترهيب، وأما مشيئة الله انفعالَ النفوس فالمراد بها آثار المشيئة الإلهية التي إن حصلتْ فحصلت مشيئة العبد عَلِمْنا أن الله شاء لعبده ذلك وتلك الآثار هي مجموع أمور تتظاهر وتتجمع فتحصل منها مشيئة العبد.
وتلك الآثار هي ما في نظام العالم والبشرِ من آثار قدرة الله تعالى وخلقه من تأثير الزمان والمكان وتكوين الخلقة وتركيب الجسم والعقل، ومدى قابلية التفهم والفهم وتسلط المجتمع والبيئة والدعاية والتلقين على جميع ذلك، مِما في ذلك كله من إصابة أو خطأ، فإذا استتبت أسباب قبول الهدى من مجموع تلك الآثار وتَلاءَم بعضُها مع بعض أو رجَح خَيْرها على شرها عَرَفْنا مشيئة الله لأن تلك آثار مشيئته من مجموع نظام العالم ولأنه تعالى عالم بأنها تستتب لفلان، فعلمُه بتوفرها مع كونها آثار نظامه في الخلق وهو معنى مشيئته، وإذا تعاكست وتنافر بعضُها مع بعض ولم يرجح خيرها على شرها بل رجح شرها على خيرها بالنسبة للفرد من الناس تعطل وصول الخير إلى نفسه فلم يشأه، عرفنا أن الله لم يشأ له قبول الخير وعرفنا أن الله عالم بما حفّ بذلك الفرد، فذلك معنى أن الله لم يشأ له الخير، أو بعبارة أخرى أنه شاء له أن يَشاء الشر، ولا مخلص للعبد من هذه الرِبقة إلاّ إذا توجهت إليه عنايةُ من الله ولطف فكَوَّن كائنات إذا دخلت تلك الكائناتُ فيما هو حاف بالعبد من الأسباب والأحوال غَيَّرَتْ أحوالَها وقلَبت آثارهما رأساً على عَقب، فصار العبد إلى صلاح بعد أن كان مغموراً بالفساد فتتهيأ للعبد حالة جديدة مخالفة لما كان حافاً به، مثل ما حصل لعمر بن الخطاب من قبول عظيم الهُدى وتوغله فيه في حين كان متلبساً بسابغ الضلالة والعناد.
فمثل هذا يكون تكرمة من الله للعبد وعناية به، وإنما تحصل هذه العناية بإرادة من الله خاصة: إما لأن حكمته اقتضت ذلك للخروج بالناس من شر إلى خير كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اللهمّ أعز الإِسلام بأحدِ العُمرين» وإما بإجابة دعوة داع استجيب له فقد أسلم عُمر بن الخطاب عقب دعوة النبي صلى الله عليه وسلم المذكورة ودخل في الإِسلام عقب قول النبي صلى الله عليه وسلم له: «أما آن لك يا ابن الخطاب أن تُسلم» ألا ترى أن الهداية العظمى التي أوتيها محمّد صلى الله عليه وسلم كانت أثراً من دعوة إبراهيم عليه السلام بقوله: {ربنا وابْعَثْ فيهم رسولاً منهم} [البقرة: 129] الآية قال النبي صلى الله عليه وسلم: «أنا دَعْوَةُ إِبراهيم».
فهذا ما أمكن من بيان هاتين المشيئتين بحسب المستطاع ولعل في ذلك ما يفسر قول الشيخ أبي الحسن الأشعري في معنى الكسب والاستطاعة (إنها سلامة الأسباب والآلات).
وبهذا بطل مذهب الجبرية لأن الآية أثبتت مشيئة للناس وجعلت مشيئة الله شرطاً فيها لأن الاستثناء في قوة الشرط، فللإنسان مشيئته لا محالة.
وأما مذهب المعتزلة فغير بعيد من قول الأشعري إلاّ في العبارة بالخَلْق أو بالكسب، وعبارة الأشعري أرشَق وأعلق بالأدب مع الله الخالِق، وإلاّ في تحقيق معنى مشيئة الله، والفرق بينها وبين الأمر أو عدم الفرق وتفصيله في علم الكلام.
وقرأ نافع وعاصم وحمزة والكسائي ويعقوب {وما تشاءون} بتاء الخطاب على الالتفات من الغيبة إلى الخطاب، وقرأه ابن كثير وابن عامر وأبو عمرو وخلف بياء الغائب عائداً إلى {فمَن شاء} [الإنسان: 29].
{يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (31)}
يجوز أن تكون الجملة مستأنفة استئنافاً بيانياً ناشئاً عن جملة {وما تشاءون إلاّ أن يشاء الله} [الإنسان: 30] إذْ يتساءل السامع على أثر مشيئة الله في حال من اتخذ إلى ربه سبيلاً ومن لم يتخذ إليه سبيلاً، فيجاب بأنه يُدخل في رحمته من شاء أن يتخذ إليه سبيلاً وأنه أعد لمن لم يتخذ إليه سبيلاً عذاباً أليماً وأولئك هم الظالمون.
ويجوز أن تكون الجملة خبر {إنَّ} في قوله: {إن الله} [الإنسان: 30] وتكون جملة {كان عليماً حكيماً} [الإنسان: 30] معترضة بين اسم {إن} وخبرها أو حالاً، وهي على التقديرين منبئة بأن إجراء وصفي العليم الحكيم على اسم الجلالة مراد به التنبيه على أن فعله كله من جزاء برحمةٍ أو بعذاب جارٍ على حسب علمه وحكمته.
وانتصب {الظالمين} على أنه مفعول لفعل محذوف يدل عليه المذكور على طريقة الاشتغال والتقدير: أوْعد الظالمين، أو كَافأ، أو نحوَ ذلك مما يقدره السامع مناسباً للفعل المذكور بعده. اهـ.

.قال ابن عطية في الآيات السابقة:

{وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ ولدان مُّخَلَّدُونَ}
و {مخلدون} قال جمهور الناس: معناه باقون من الخلود، وجعلهم ولداناً لأنهم في هيئة الولدان في السن لا يتغيرون عن تلك الحال، وقال أبو عبيدة وغيره {مخلدون} معناه مقرطون، والخلدات حلي يعلق في الآذان، ومنه قول الشاعر: الكامل:
ومخلدات باللجين كأنما ** أعجازهن أقاوب الكثبان

وشهرة هذه اللغة في حمير، وشبههم بـ {اللؤلؤ المنثور} في بياضهم وانتشارهم في المساكين يجيئون ويذهبون وفي جمالهم، ومنه سميت المرأة درة وجوهرة، ثم كرر ذكر الرؤية مبالغة، و{ثم} ظرف والعامل فيه {رأيت} أو معناه؟ وقال الفراء التقدير: {رأيت} ما {ثم} وحذفت ما، وقرأ حميد الأعرج (ثم) بضم الثاء، و(النعيم): ما هم فيه من حسن عيش، و(الملك الكبير) قال سفيان: هو استئذان الملائكة وتسليمهم عليهم وتعظيمهم لهم، فهم في ذلك كالملوك، وقال أكثر المفسرين: (الملك الكبير) اتساع مواضعهم، فروي عن عبد الله بن عمر أنه قال: ما من أهل الجنة من أحد إلا يسعى عليه ألف غلام كلهم مختلف شغله من شغل أصحابه، وأدنى أهل الجنة منزلة من ينظر من ملكه في مسيرة ألف عام يرى أقصاه كما يرى أدناه.
{عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُنْدُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبرق}
قرأ نافع وحمزة وأبان عن عاصم: {عاليهم} على الرفع بالابتداء وهي قراءة الأعرج وأبي جعفر وشيبة وابن محيصن وابن عباس بخلاف عنه، وقرأ الباقون وعاصم {عاليَهم} بالنصب على الحال، والعامل فيه {لقاهم} [الإنسان: 11] أو {جزاهم} [الإنسان: 12]، وهي قراءة عمر بن الخطاب وابن عباس والحسن ومجاهد والجحدري وأهل مكة، وقرأ الأعمش وطلحة: {عاليتهم}، وكذلك هي في مصحف عبد الله، وقرأ أيضاً الأعمش {عاليَتهم} بالنصب على الحال، وقد يجوز في النصب في القراءتين أن يكون على الظرف لأنه بمعنى فوقهم، وقرأت عائشة رضي الله عنها {علتهم} بتاء فعل ماض، وقرأ مجاهد وقتادة وابن سيرين وأبو حيوة {عليهم} و(السندس): رقيق الديباج والمرتفع منه، وقيل (السندس): الحرير الأخضر، و(الاستبرق) والدمقس هو الأبيض، والأرجوان هو الأحمر، وقرأ حمزة والكسائي {خضر واستبرق} بالكسر فيهما وهي قراءة الأعمش وطلحة، ورويت عن الحسن وابن عمر بخلاف عنه على أن {خضر} نعت للسندس، وجائز جمع صفة الجنس إذا كان اسماً مفرداً كما قالوا: أهلك الناس الدينار الصفر والدرهم الأبيض، وفي هذا قبح، والعرب تفرد اسم الجنس وهو جمع أحياناً فيقولون: حصى أبيض، وفي القرآن {الشجر الأخضر} [يس: 80] و{نخل منقعر} [القمر: 20] فكيف بأن لا يفرد هذا الذي هو صفة لواحد في معنى جمع {واستبرق} في هذه القراءة عطف على {سندس}، وقرأ نافع وحفص عن عاصم والحسن وعيسى {خضرٌ واستبرق} بالرفع فيهما، {خضرٌ} نعت ل {ثياب} و{استبرق} عطف على الثياب. وقرأ أبو عمرو وابن عامر {خضرٌ} بالفع صفة ل {ثياب}، {واستبرق} خفضاً، عطف على {سندس}، وقرأ ابن كثير وعاصم في رواية أبي بكر {خضرٍ} خفضاً {وإستبرق} رفعاً فخفش {خضرٍ} على ما تقدم أولاً، {واستبرق} على الثياب. والاستبراق غليظ الديباج، وقرأ ابن محيصن: {واستبرق} موصولة الألف مفتوحة القاف كأنه مثال الماضي من برق واستبرق وتجب واستعجب. قال أبو حاتم: لا يجوز، والصواب أنه اسم جنس لا ينبغي أن يحمل ضميراً، ويؤيد ذلك دخول اللام المعرفة عليه والصواب فيه الألف وإجراؤه على قراءة الجماعة، وقرأ أبو حيوة {عليهم ثيابٌ} بالرفع {سندسٌ خضرٌ واستبرق} رفعاً في الثلاثة، وقوله تعالى: {وحلوا} أي جعل لهم حلي، و{أساور} جمع أسورة وأسورة جمع سوار وهي من حلي الذراع، وقوله تعالى: {شراباً طهوراً} قال أبو قلابة والنخعي معناه لا يصير بولاً بل يكون رشحاً من الأبدان أطيب من المسك، وهنا محذوف يقتضيه القول تقديره يقول الله لهم والملائكة عنه: {إن هذا كان لكم جزاء} الآية، وقوله تعالى: {إنا نحن نزلنا} الآية تثبيت لمحمد عليه السلام وتقوية لنفسه على أفعال قريش وأقوالهم وحكم ربه وهو أن يبلغ ويكافح ويتحمل المشقة ويصبر على الأذى ليعذر الله إليهم، وقوله تعالى: {آثماً أو كفوراً} هو تخيير في أن يعرف الذي ينبغي أن لا يطيعه بأي وصف كان من هذين لأن كل واحد منهم فهو آثم وهو كفور، ولم تكن الأمة حينئذ من الكثرة بحيث يقع الإثم على العاصي.
قال القاضي أبو محمد: واللفظ أيضاً يقتضي نهي الإمام عن طاعة آثم من العصاة أو كفور من المشركين، وقال أبو عبيدة: {أو} بمعنى الواو وليس في هذا تخيير، ثم أمره تعالى بذكر ربه دأباً {بكرة وأصيلاً} ومن الليل بالسجود والتسبيح الذي هو الصلاة، ويحتمل أن يريد قول سبحان الله، وذهب قوم من أهل العلم إلى أن هذه الآية إشارة إلى الصلوات الخمس منهم ابن حبيب وغيره، فالبكرة: صلاة الصبح، والأصيل: الظهر والعصر {ومن الليل}: المغرب والعشاء، وقال ابن زيد وغيره كان هذا فرضاً ونسخ فلا فرض إلى الخمس، وقال قوم هو محكوم على وجه الندب.
{إِنَّ هَؤُلَاءِ يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَرَاءَهُمْ يَوْمًا ثَقِيلًا (27)}
الإشارة ب {هؤلاء} إلى كفار قريش، و{العاجلة} الدنيا وحبهم لها، لأنهم لا يعتقدون غيرها، {ويذرون وراءهم} معناه فيما يأتي من الزمن بعد موتهم، وقال لبيد: الطويل:
أليس ورائي إن تراخت منيتي ** أدب مع الولدان إن خف كالنسر

ووصف اليوم بالثقل على جهة النسب، أي: ذا ثقل من حيث الثقل فيه على الكفار، فهو كليل نائم، ثم عدد النعم على عباده في خلقهم وإيجادهم وإتقان بنيتهم وشدِّ خلقتهم، والأسر: الخلقة واتساع الأعضاء والمفاصل، وقد قال أبو هريرة والحسن والربيع الأسر: المفاصل والأوصال، وقال بعضهم الأسر: القوة: ومنه قل الشاعر: الوافر:
فأنجاه غداة الموت مني ** شديد الأسر عض على اللجام

وقول آخر الأخطل: الكامل:
من كل محتدب شديد أسره ** سلس القياد تخاله مختالا

قال الطبري ومنه قول العامة: خذه بأسره يريدون خذه كله.
قال القاضي أبو محمد: وأصل هذا في ما له شد ورباط كالعظم ونحوه، وليس هذا مما يختص بالعامة بل هو من فصيح كلام العرب. اللهم إلا أن يريد بالعامة جمهور العرب ومن اللفظة الإسار وهو القيد الذي يشد به الأسير، ثم توعد تعالى بالتبديل واجتمع من القولين تعديد النعمة والوعيد بالتبدل احتجاجاً على منكري البعث، أي من هذا الإيجاد والتبديل إذا شاء في قدرته، فكيف تتعذر عليه الإعادة، وقوله تعالى: {إن هذه تذكرة} يحتمل أن يشير إلى هذه الآية أو إلى السورة بأسرها أو إلى الشريعة بجملتها وقوله تعالى: {فمن شاء اتخذ} ليس على جهة التخيير بل فيه قرينة التحذير، والحض على اتخاذ السبيل، و{السبيل} هنا: ليس النجاة، وقوله تعالى: {وما تشاؤون إلا أن يشاء الله} نفي لقدرتهم على الاختراع وإيجاد المعاني في نفوسهم، ولا يرد هذا وجود ما لهم من الاكتساب والميل إلى الكفر.
وقرأ عبد الله {وما تشاؤون إلا ما شاء الله} وقرأ يحيى بن وثاب {تِشاؤون} بكسر التاء. وقوله تعالى: {عليماً حكيماً} معناه يعلم ما ينبغي أن ييسر عبده إليه، وفي ذلك حكمة لا يعلمها إلا هو {والظالمين} نصب بإضمار فعل تقديره ويعذب الظالمين أعد لهم، وفي قراءة ابن مسعود {وللظالمين أعد لهم} بتكرير اللام، وقرأ جمهور السبعة {وما تشاؤون} بالتاء على المخاطبة. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو {يشاؤون} بالياء، وقأ ابن الزبير وأبان بن عثمان وبان أبي عبلة {والظالمون} بالرفع، قال أبو الفتح: وذلك على ارتجال جملة مستأنفة. انتهى.
نجز تفسير سورة (الإنسان) بحمد الله وعونه. اهـ.

.قال أبو السعود في الآيات السابقة:

{وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ ولدان مُّخَلَّدُونَ} أي دائمونَ على ما هُم عليه من الطراوةِ والبهاءِ {إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤاً مَّنثُوراً} لحُسنِهم وصفاءِ ألوانِهم وإشراقِ وجوهِهم وانبثاثِهم في مجالسهم ومنازلِهم وانعكاسِ أشعةِ بعضِهم إلى بعضٍ {وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ} ليسَ له مفعولٌ ملفوظٌ ولا مقدرٌ ولا منويٌّ، بل معناهُ أنَّ بصرَكَ أينمَا وقعَ في الجنةِ {رَأَيْتَ نَعِيماً وَمُلْكاً كَبِيراً} أي هنيئاً واسعاً. وفي الحديث: «أدنَى أهلِ الجنةِ منزلةً ينظُر في مُلكِه مسيرةَ ألفِ عامٍ يَرى أقصاهُ كمِا يَرى أدناهُ» وقيلَ: لا زوالَ لَه، وقيلَ: إذَا أرادُوا شيئاً كانَ، وقيلَ: يُسلمُ عليهم الملائكةُ ويستأذنونَ عليهم {عاليهم ثِيَابُ سُندُسٍ خُضْرٌ} قيلَ: {عاليَهُم} ظرفٌ على أنَّه خبرٌ مقدمٌ و{ثيابُ} مبتدأٌ مؤخرٌ، والجملة صفةٌ أُخرى لـ: {ولدانٌ} كأنَّه قيلَ: يطوفُ عليهم ولدانٌ فوقَهُم ثيابُ الخ.
وقيلَ: حالٌ من ضميرِ {عليهم} أو {حسِبتَهم}، أي يطوفُ عليهم ولدانٌ عالياً للمطوف عليهم ثيابٌ الخ، أو حسبتَهُم لؤلؤاً منثوراً عالياً لهم ثيابُ الخ. وقرئ {عاليهم} بالرفعِ على أنَّه مبتدأٌ خبرُهُ ثيابُ أي ما يعلُوه من لباسِهم ثيابُ سندسٍ. وقرئ {خضرٍ} بالجرِّ حملاً على {سندسٍ} بالمَعْنى لكونِه اسمَ جنسٍ {وَإِسْتَبرق} بالرفعِ عطفاً على {ثيابُ}.
وقرئ برفعِ الأولِ وجرِّ الثانِي، وقرئ بالعكسِ، وقرئ بجرِّهِما، وقرئ {واستبرق} بوصلِ الهمزةِ والفتحِ على أنه استفعلَ من البريقِ جُعل عَلَماً لهذا النوعِ من الثيابِ.
{وَحُلُّواْ أَسَاوِرَ مِن فِضَّةٍ} عطف على {يطوفُ عليهم} ولا ينافيهِ قوله تعالى: {أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ} لإمكانِ الجمعِ والمعاقبةِ والتبعيضِ، فإنَّ حُلِيَّ أهلِ الجنةِ يختلفُ حسبَ اختلافِ أعمالِهم فلعلَّه تعالى يفيضُ عليهم جزاءً لما عملُوه بأيديهم حلياً وأنواراً تتفاوتُ تفاوتَ الذهبِ والفضةِ أو حالٌ من ضميرِ {عاليَهم} بإضمارِ قَدْ، وعلى هذا يجوزُ أن يكونَ هذا للخدمِ وذاكَ للمخدومينَ.
{وسقاهم رَبهمْ شَرَاباً طَهُوراً} هو نوعٌ آخرُ يفوقُ النوعينِ السالفينِ كما يرشدُ إليهِ إسنادُ سقيهِ إلى ربِّ العالمينَ ووصفُه بالطَّهوريةِ فإنَّه يطهرُ شاربه عن دَنَسِ الميلِ إلى الملاذِّ الحسيةِ والركونِ إلى ما سِوى الحقِّ فيتجردُ لمطالعةِ جمالِه ملتذاً بلقائِه باقياً ببقائِه، وهي الغايةُ القاصيةُ من منازلِ الصدِّيقينَ ولذلكَ خُتمَ بها مقالةُ ثوابِ الأبرارِ.
{إِنَّ هَذَا} على إضمارِ القول أي يقال لهم إنَّ هَذا الذي ذُكرَ من فنون الكراماتِ {كَانَ لَكُمْ جَزَاء} بمقابلة أعمالِكم الحسنةِ {وَكَانَ سَعْيُكُم مَّشْكُوراً} مرضياً مقبُولاً مُقابَلاً بالثوابِ. {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ القرءان تَنزِيلاً} أيْ مُفرقاً مُنجَّماً لحِكَمٍ بالغةٍ مقتضةٍ له لا غيرُنَا كما يعربُ عنه تكريرُ الضميرِ معَ إنَّ {فاصبر لِحُكْمِ رَبّكَ} بتأخير نصرك على الكفَّارِ فإنَّ له عاقبةً حميدةً. {وَلاَ تُطِعْ مِنْهُمْ ءاثِماً أَوْ كفوراً} أي كلَّ واحدٍ من مرتكبِ الإثمِ الدَّاعِي لكَ إليهِ ومن الغالِي في الكُفر الدَّاعِي إليهِ، وأو للدلالة على أنَّهما سيَّانِ في استحقاق العصيانِ والاستقلالِ به، والتقسيمُ باعتبار ما يدعُونَهُ إليه فإنَّ ترتبَ النَّهي على الوصفين مشعرٌ بعلَّيتِهما له فلابد أنْ يكونَ النهيُ عن الإطاعةِ في الإثمِ والكفرِ فيما ليسَ بإثمٍ ولا كُفرٍ، وقيلَ الآثمُ عُتبةُ فإنَّه كانَ ركَّاباً للمآثمِ متعاطياً لأنواعِ الفسوقِ والكفورِ، والوليدُ فإنَّه كان غالباً في الكُفر شديدَ الشكيمةِ في العُتوِّ {واذكر اسم رَبّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلاً} وداومْ على ذكره في جميعِ الأوقاتِ أو دُمْ على صلاة الفجرِ والظهرِ والعصرِ فإنَّ الأصيلَ ينتظمُهما.
{وَمِنَ الليل فاسجد لَهُ} وبعضَ الليلَ فصلِّ له ولعلَّه صلاةُ المغربِ والعشاءِ، وتقديمُ الظرفِ لما في صلاةِ الليلِ من مزيد كلفةٍ وخلوصٍ {وَسَبّحْهُ لَيْلاً طَوِيلاً} وتهجدْ له قِطَعاً من الليلِ طويلاً.
{إِنَّ هَؤُلاء} الكفرةَ {يُحِبُّونَ العاجلة} وينهمكونَ في لذاتِها الفانيةِ {وَيَذَرُونَ وَرَاءهُمْ} أي أمامَهم لا يستعدونَ أو ينبذون وراءَ ظُهورهم {يَوْماً ثَقِيلاً} لا يعبأونَ به ووصفُه بالثقل لتشبيه شدتِه وهولِه بثقل شيءٍ فادحٍ باهظٍ لحامله بطريقِ الاستعارةِ وهو كالتعليل لما أُمرَ به ونهيٌ عنه. {نَّحْنُ خلقناهم} لا غيرُنا {وَشَدَدْنَا أَسْرَهُمْ} أي أحكمنَا ربطَ مفاصلِهم بالأعصابِ. {وَإِذَا شِئْنَا بَدَّلْنَا أمثالهم} بعدَ إهلاكِهم {تَبْدِيلاً} بديعاً لا يبَ فيهِ هو البعثُ كما ينبىءُ غنه كلمةُ إذَا أو بدَّلنا غيرَهُم ممن يطيعُ. كقوله تعالى: {يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ} وإذَا للدلالةِ على تحققِ القُدرةِ وقوةِ الداعيةِ. {إِنَّ هذه تَذْكِرَةٌ} إشارةٌ إلى السورةِ أو الآياتِ القريبةِ {فَمَن شَاء اتخذ إلى رَبه سَبِيلاً} أي فَمنْ شاءَ أنْ يتخذَ إليهِ تعالى سبيلاً أي وسيلةً توصلُه إلى ثوابه اتخذَهُ أي تقربَ إليهِ بالعمل بمَا في تضاعيفِها. وقوله تعالى: {وَمَا تَشَاءونَ إِلاَّ أَن يَشَاء الله} تحقيقٌ للحقِّ ببيان أنَّ مجردَ مشيئتِهم غيرُ كافيةٍ في اتخاذ السبيلِ كما هُو المفهومُ من ظاهر الشرطيةِ أي وما تشاءونَ اتخاذَ السبيلِ ولا تقدرونَ على تحصيله في وقتٍ من الأوقات إلا وقتَ مشيئتِه تعالى تحصيلَه لكُم، إذ لا دخلَ لمشيئة العبدِ إلا في الكسبِ وإنَّما التأثيرُ والخلقُ لمشيئة الله عز وجل. وقرئ {يشاءونَ} بالياءِ وقرئ {إلاَّ ما يشاءُ الله}. وقوله تعالى: {إِنَّ الله كَانَ عَلِيماً حَكِيماً} بيانٌ لكون مشيئتِه تعالى مبنيةً على أساس العلمِ والحكمةِ والمَعْنى أنَّه تعالى مبالغٌ في العلم والحكمةِ فيعلمُ ما يستأهلُه كلُّ أحدٍ فلا يشاءُ لهم إلا ما يستدعيهِ علمُه وتقتضيِه حكمتُه. وقوله تعالى: {يُدْخِلُ مَن يَشَاء في رَحْمَتِهِ} بيانٌ لأحكام مشيئتِه المترتبةِ على علمه وحكمتِه أي يدخلُ في رحمتِه مَن يشاءُ أنْ يدخلَهُ فيها وهُو الذي يصرِفُ مشيئتَهُ نحوَ اتخاذِ السبيلِ إليهِ تعالى حيثُ يوفقُه لَما يَؤدِّي إلى دخول الجنةِ من الإيمانِ والطاعةِ {والظالمين} وهم الذينَ صَرفوا مشيئَتُهم إلى خلافِ ما ذُكِرَ {أَعَدَّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً} أي متناهياً في الإيلامِ. قال الزجاجُ نصبَ الظالمينَ لأنَّ ما قبلَهُ منصوبٌ أي يُدخلُ من يشاءُ في رحمته ويعذبُ الظالمينَ، ويكونُ أعدَّ لَهُم تفسيراً لهَذا المضمرِ، وقرئ بالرفعِ على الابتداءِ. اهـ.

.قال السمرقندي في الآيات السابقة:

قوله تعالى: {هَلْ أتى عَلَى الإنسان} يعني: قد أتى على أدم {حِينٌ مّنَ الدهر} يعني: أربعين سنة {لَمْ يَكُن شَيْئاً مَّذْكُوراً} يعني: لم يدر ما اسمه، ولا ما يراد به إلا الله تعالى.
وذلك أن الله تعالى، لما أراد أن يخلق آدم، أمر جبريل عليه السلام، أن يجمع التراب فلم يقدر.
ثم أمر إسرافيل فلم يقدر، ثم أمر عزرائيل عليهم السلام، فجمع التراب من وجه الأرض، فصار التراب طيناً، ثم صار صلصالاً، وكان على حاله أربعين سنة، قبل أن ينفخ فيه الروح.
وروى معمر، عن قتادة قال: كان آدم آخر ما خلق من الخلق، خلق كل شيء قبل آدم.
ثم قال: {إِنَّا خَلَقْنَا الإنسان مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نبتليه} يعني: مختلطاً ماء الرجل وماء المرأة، لا يكون الولد إلا منهما جميعاً.
ماء الرجل أبيض ثخين، وماء المرأة أصفر رقيق {نبتليه} يعني: لكي نبتليه بالخير والشر {فجعلناه سَمِيعاً بَصِيراً} يعني: جعلنا له سمعاً يسمع به الهدى، وبصراً يبصر به الهدى.
وقال مقاتل: في الآية تقديم، يعني: جعلناه سميعاً بصيراً، يعني: جعلنا له سمعاً لنبتليه، يعني: لنختبره.
قوله عز وجل: {إِنَّا هديناه السبيل} يعني: بينا له، وعرفناه طريق الخير وطريق الكفر.
ويقال: سبيل السعادة والشقاوة {إِمَّا شاكراً وَإِمَّا كفوراً} يعني: إما أن يكون موحداً، وإما أن يكون جاحداً لوحدانية الله تعالى.
ويقال: إما شاكراً لنعمه، وإما كفوراً لنعمه.
ثم بين ما أعد للكافرين فقال: {إِنَّا أَعْتَدْنَا للكافرين} يعني: في الآخرة {سلاسل وأغلالا} يعني: هيئنا لهم أغلالاً، تغل بها أيمانهم إلى أعناقهم {وَسَعِيراً} يعني: وقوداً.
ثم بيّن ما أعد للشاكرين فقال: {إِنَّ الابرار} يعني: الصادقين في إيمانهم {يشربونَ مِن كَأْسٍ} يعني: من خمر {كَانَ مِزَاجُهَا كافورا} يعني: على برد الكافور وريح المسك وطعم الزنجبيل ليس ككافور الدنيا ولا كمسكها ولكنه وصف بها حتى يهتدى به القلوب أو يقال: الكافور اسم عين في الجنة يمزج بها الخمر {عيناً يشرب بها عِبَادُ الله} يعني: عين الكافور يشرب بها أولياء الله تعالى في الجنة {يُفَجّرُونَهَا تَفْجِيراً} يعني: يمزجونها تمزيجاً.
وقال ابن عباس: {يُفَجّرُونَهَا تَفْجِيراً} في قصورهم وديارهم، وذلك، أن عين الكافور، يشرب بها المقروبون صرفاً غير ممزوج، ولغيرهم ممزوجاً.
ويقال: {يُفَجّرُونَهَا تَفْجِيراً} يعني: يفجرون تلك العين في الجنة كيف أحبوا، كما يفجر الرجل النهر الذي يكون له في الدنيا هاهنا، وهاهنا حيث شاء.
ثم بين أفعالهم في الدنيا فقال: {يُوفُونَ بالنذر} يعني: يتمون الفرائض.
ويقال: أوفوا بالنذر {ويخافون يَوْماً} وهو يوم القيامة {كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً} يعني: عذابه فاشياً ظاهراً، وهو أن السموات قد انشقت، وتناثرت الكواكب، وفزعت الملائكة، وفارت المياه ثم قال عز وجل: {وَيُطْعِمُونَ الطعام على حُبه} يعني: على قلته وشهوته وحاجته {مِسْكِيناً} وهو الطائف بالأبواب {وَيَتِيماً وَأَسِيراً} يعني: من أسر من دار الشرك.
ويقال: أهل اليمن.
وذكر أن الآية نزلت في شأن علي بن أبي طالب، وفاطمة رضي الله عنهما وكانا صائمين فجاءهما سائل وكان عندهما قوت يومهما فأعطيا السائل بعض ذلك الطعام ثم جاءهما يتيم فأعطياه من ذلك الطعام ثم جاءهما أسير فأعطياه الباقي فمدحهما الله تعالى لذلك، ويقال: نزلت في شأن رجل من الأنصار ثم قال عز وجل: {إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ الله} يعني: ينوون بأدائهم، ويضمرون في قلوبهم وجه الله تعالى.
ويقولون: {لاَ نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاء وَلاَ شُكُوراً} يعني: لا نريد منكم مكافأة في الدنيا، ولا ثواب في الآخرة {إِنَّا نَخَافُ مِن رَّبّنَا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً} يعني: العبوس الذي تعبس فيه الوجوه، من هول ذلك اليوم، والقمطرير الشديد العبوس.
ويقال: عبوساً، أي: يوم يعبس فيه الوجوه، فجعل عبوساً من صفة اليوم.
كما قال: {مَّثَلُ الذين كَفَرُواْ بِرَبهمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشتدت به الريح فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لاَّ يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُواْ على شيء ذلك هُوَ الضلال البعيد} [إبراهيم: 18] أراد عاصف الريح والقمطرير الشديد.
يعني: ينقبض الجبين وما بين الأعين، من شدة الأهوال.
ويقال: قمطريراً نعت ليوم.
ويقال: يوم قمطرير، إذا كان شديداً.
يعني: يوماً شديداً صعباً.
ثم قال عز وجل: {فوقاهم الله شَرَّ ذَلِكَ اليوم} يعني: دفع الله عنهم عذاب ذلك اليوم {ولقاهم} يعني: أعطاهم {نَضْرَةَ} حسن الوجوه {وَسُرُوراً} يعني: فرحاً في قلوبهم قوله تعالى: {وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُواْ} يعني: أعطاهم الثواب بما صبروا في الدنيا {جَنَّةً وَحَرِيراً} يعني: لباسهم فيها حرير.
ويقال: بما صبروا على الطاعات.
ويقال: على المصائب.
وقوله عز وجل: {متكئين فِيهَا} يعني: ناعمين في الجنة {على الارائك} يعني: على السرر، وفي الجمال واحدها أريكة {لاَ يَرَوْنَ فِيهَا شَمْساً} يعني: لا يصيبهم فيها حر الشمس {وَلاَ زَمْهَرِيراً} يعني: ولا برد الشتاء.
ثم قال عز وجل: {وَدانية عَلَيْهِمْ ظلالها} يعني: قريبة عليهم ظلال الشجر.
{وَذللت قُطُوفُهَا تَذْلِيلاً} يعني: قربت ثمارها ويقال سخرت قطوفها يعني: مجنى ثمرها تذليلاً يعني: قريباً ينالها القاعد والقائم.
وروى بن أبي نجيح، عن مجاهد قال: أرض الجنة من فضة، وترابها مسك، وأصول شجرها ذهب وفضة، وأغصانها لؤلؤ وزبرجد، والورق والثمر تحت ذلك، فمن أكل قائماً لم يؤذه، ومن أكل جالساً لم يؤذه، ومن أكل مضطجعاً لم يؤذه.
ثم قرأ {وَذللت قُطُوفُهَا تَذْلِيلاً} وقال أهل اللغة.
ذللت أي: أدنيت منهم، من قولك: حائط ذليل إذا كان قصير السمك.
والقطوف والثمرة واحدها قطف، وهو نحو قوله تعالى: {قُطُوفُهَا دانية} [الحاقة: 23].
ثم قال عز وجل: {وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ بِئَانِيَةٍ مّن فِضَّةٍ وَأَكْوابٍ} وهي كيزان مدققة الرأس، لا عرى لها {كَانَتْ قَوَارِيرَاْمِن فِضَّةٍ} يعني: في صفاء القارورة، وبياض الفضة.
وروي عن عكرمة، عن ابن عباس قال: لو أخذت فضة من فضة الدنيا، فضربتها حتى جعلتها مثل جناح الذباب لم تر الماء من ورائه، ولكن قوارير الجنة من فضة في صفاء القوارير، كبياض الفضة.
قرأ نافع، وعاصم، والكسائي {سلاسلاً} و{قواريراً}، كلهن بإثبات الألف والتنوين.
وقرأ حمزة بإسقاط الألف كلها، وكان أبو عمرو يثبت الألف في الأولى من {قوارير}، ولا يثبتها في الثانية.
قال أبو عبيد: رأيت في مصحف عثمان، رضي الله عنه الذي قال له مصحف الإمام {قوارير} بالألف، والثانية كان بالألف، فحكت ورأيت أثرها بيناً هناك، وأما السلاسل فرأيتها قد رست.
وقال بعض أهل اللغة: الأجود في العربية، أن لا ينصر فيه سلاسل وقوارير، لأن كل جمع يأتي بعد ألفه حرفان أو ثلاثة، أوسطها ساكن، فإنه لا ينصرف، فأما من صرفه ونون، فإنه رده إلى الأصل في الازدواج إذا وقعت الألف بغير تنوين ثم قال: {قَدَّرُوهَا تَقْدِيراً} يعني: على قدر كف الخدم، ويقال: على قدر كف المخدوم ولا يحجز، ويقال: على قدر ما يحتاجون إليه ويريدونه.
ويقال: على مقدار الذي لا يزيد ولا ينقص ليكون الري لشربهم {وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْساً} يعني: خمراً وشراباً {كَانَ مِزَاجُهَا} يعني: خلطها {زَنجَبِيلاً عيناً فِيهَا تسمى سَلْسَبِيلاً} وقال القتبي: والزنجبيل اسم العين، وكذلك السلسبيل ويقال: إن السلسبيل اللبن والزنجبيل طعمه، والعرب تضرب به المثل.
وقال مقاتل: إنما سمي السلسبيل، لأنها تسيل عليهم في الطريق وفي منازلهم، وقال أبو صالح: بلغني أن السلسبيل شديد الجرية.
وقال بعضهم: معناه {كَانَ مِزَاجُهَا زَنجَبِيلاً} عيناً فيها تسمى سلسبيلاً يعني: عيناً تسمى الزنجبيل وتم الكلام ثم قال: سلسبيلاً يعني: سل الله تعالى السبيل إليها.
قوله تعالى: {وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ ولدان مُّخَلَّدُونَ} يعني: لا يكبرون، ويكونون على سن واحدة {إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤاً مَّنثُوراً} قال قتادة: كثرتهم وحسنهم، كاللؤلؤ المنثور {وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيماً} يعني: إذا رأيت هناك ما في الجنة، رأيت نعيماً {وَمُلْكاً كَبِيراً} يعني: على رؤوسهم التيجان، كما يكون على رأس ملك من الملوك.
ويقال: {وَمُلْكاً كَبِيراً} يعني: لا يدخل رسول رب العزة، إلا بإذنهم.
ثم قال عز وجل: {عاليهم ثِيَابُ سُندُسٍ خُضْرٌ} يعني: على ظهورهم ثياب سندس.
قرأ نافع، وحمزة بجزم الياء وكسر الهاء.
والباقون بنصب الياء وضم الهاء.
فمن قرأ بالجزم، فمعناه الذي يعلوهم، وهو اسم فاعل، من علا يعلو.
ومن قرأ بالنصب نصبه على الظرف، كما قال: فوقهم ثياب.
وروي عن ابن مسعود، أنه قرأ {عاليتهم ثياب}، يعني: الوجه الأعلى.
ثم قال: {ثياب سندس خضر} بالكسر، {وَإِسْتَبرق} قرأ نافع، وعاصم في رواية حفص، خضر {واستبرق} كلاهما بالضم.
والباقون كلاهما بالكسر، فمن قرأ بالضم، لأنه نعت الثياب.
يعني: ثياباً خضراً.
ومن قرأ بالكسر، فهو نعت للسندس، ومن قرأ {واستبرق} بالضم، فهو نسق على الثياب.
ومعناه: عليهم سندس واستبرق، ومن قرأ بالكسر، يكون عليهم ثياب من هذين النوعين.
ثم قال عز وجل: {وَحُلُّواْ أَسَاوِرَ مِن فِضَّةٍ} وهو جمع السوار {وسقاهم رَبهمْ شَرَاباً طَهُوراً} يعني: الذي سقاهم خدمهم.
ويقال: الذين يشربون من قبل أن يدخلوا الجنة.
ثم قال: {إِنَّ هذا كَانَ لَكُمْ جَزَاء} يعني: الذي وصف لكم في الجنة، ثواباً لأعمالكم {وَكَانَ سَعْيُكُم مَّشْكُوراً} يعني: عملكم مقبولاً.
يعني: يبشرون بهذا إذا أرادوا أن يدخلوا الجنة.
ثم قال: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ القرءان تَنزِيلاً} يعني: أنزلنا عليك القرآن تنزيلاً، يعني: إنزالاً فالمصدر للتأكيد.
ثم قال عز وجل: {فاصبر لِحُكْمِ رَبّكَ} يعني: استقم على أمر الله تعالى ونهيه.
ويقال: اصبر على أذى الكفار.
وقال: على تبليغ الرسالة {وَلاَ تُطِعْ مِنْهُمْ ءاثِماً أَوْ كفوراً} {آثماً} يعني: فاجراً وهو الوليد بن المغيرة، {أو كفوراً} يعني: ولا كفوراً، وهو عتبة بن ربيعة.
قال للنبي صلى الله عليه وسلم: إن فعلت هذا لأجل المال، فارجع حتى أدفع إليك من المال، ما تصير به أكثر مالاً من أهل مكة.
فنزلت هذه الآية {وَلاَ تُطِعْ مِنْهُمْ ءاثِماً وَلا كَفُورًا}.
ثم قال عز وجل: {واذكر اسم رَبّكَ} يعني: صلِ باسم ربك {بُكْرَةً وَأَصِيلاً} يعني: بكرة وعشياً يعني: صلاة الفجر، وصلاة الظهر والعصر {وَمِنَ الليل فاسجد لَهُ} يعني: فصلِّ لله المغرب والعشاء {وَسَبّحْهُ لَيْلاً طَوِيلاً} يعني: بعد المكتوبة، فهذا للنبي صلى الله عليه وسلم خاصة.
ويقال له ولأصحابه: وهذا أمر استحباب، لا أمر وجوب.
ثم قال عز وجل: {إِنَّ هؤلاء يُحِبُّونَ العاجلة} يعني: يختارون الدنيا {وَيَذَرُونَ وَرَاءهُمْ} يعني: يتركون العمل لما هو أمامهم {يَوْماً ثَقِيلاً} يعني: ليوم ثقيل وقال مجاهد: وراءهم يعني: خلفهم.
قوله تعالى: {نَّحْنُ خلقناهم وَشَدَدْنَا أَسْرَهُمْ} يعني: قوينا خلقهم ليطيعوني، فلم يطيعوني.
ويقال: شددنا مفاصلهم بالعصب، والعروق والجلد، لكي لا ينقطع المفاصل وقت تحريكها.
ويقال: {شددنا أسرهم}، أي: قبلهم ودبرهم، لكي لا يسيل البول والغائط، إلا عند الحاجة {وَإِذَا شِئْنَا} يعني: إذا أردنا {بَدَّلْنَا أمثالهم تَبْدِيلاً} يعني: أي نخلق خلقاً أمثل منهم، وأطوع لله {إِنَّ هذه تَذْكِرَةٌ} يعني: هذه السورة عظة لكم.
ويقال: هذه الآيات {فَمَن شَاء اتخذ إلى رَبه سَبِيلاً} يعني: فمن شاء أن يتعظ فليتعظ، فقد بينا له الطريق.
ثم قال عز وجل: {وَمَا تَشَاءونَ إِلاَّ أَن يَشَاء الله} يعني: إلا أن يشاء لكم فيوفقكم.
يعني: إن جاهدتم فيوفقكم كقوله: {والذين جاهدوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ الله لَمَعَ المحسنين} [العنكبوت: 69] الآية.
قرأ ابن كثير، وأبو عمرو {وَمَا يَشَاءونَ} بالياء على معنى الخبر عنهم، والباقون بالتاء على معنى المخاطبة.
ثم قال عز وجل: {إِنَّ الله كَانَ عَلِيماً حَكِيماً} يعني: كان عليماً قبل خلقكم، من يتخذ السبيل، ولم يشرك ويوحد {حَكِيماً} حكم بالبداية لمن كان أهلاً لذلك.
قوله تعالى: {يُدْخِلُ مَن يَشَاء في رَحْمَتِهِ} يعني: يكرم بالإسلام من كان أهلاً لذلك.
ويقال: {يدخل من يشاء في رحمته} يعني: في نعمته وهي الجنة، في رحمته وفضله {والظالمين أَعَدَّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً} يعني: يدخل الظالمين في عذاب أليم.
ويقال: يعذب الظالمين.
وقرئ في الشاذ {والظالمون}، وقراءة العامة {والظالمين} بالنصب.
ومعناه: ويعذب الظالمين، ويكون لهم عذاباً أليماً، تفسيراً لهذا المضمر.
والله أعلم. اهـ.

.قال الثعلبي:

سورة الإنسان:
{هَلْ أتى} قد أتى {عَلَى الإنسان} آدم عليه السلام، وهو أول من سمّي به {حِينٌ مِّنَ الدهر} أربعون سنة ملقى بين مكة والطائف قبل أن ينفخ الروح فيه {لَمْ يَكُن شَيْئاً مَّذْكُوراً} لا يذكر ولا يعرف ولا يدري ما اسمه ولا ما يراد به، وروى أن عمر سمع رجلا يقول {هَلْ أتى عَلَى الإنسان حِينٌ مِّنَ الدهر لَمْ يَكُن شَيْئاً مَّذْكُوراً} فقال عمر: ليتها تمت، وقال عون بن عبد الله: قرأ رجل عند ابن مسعود الآية فقال: إلاّ ليت ذلك.
{إِنَّا خَلَقْنَا الإنسان} يعني ولد آدم {مِن نُّطْفَةٍ} يعني من منيّ الرجل ومنيّ المرأة، وكل ماء قليل في وعاء فهو نطفة، كقول عبد الله بن رواحة: هل أنت إلاّ نطفة، وجمعها نطاف ونُطف، وأصلها من نطف إذا قطر. {أَمْشَاجٍ} أخلاط، واحدها مشج مشيج مثل حذن وحذين قال رؤبة:
يطرحن كلّ معجّل نسّاج ** لم يكس جلداً في دم أمشاج

ويقال مشجت هذا بهذا أي خلطته فهو ممشوج ومشج، مثل مخلوط وخليط، قال أبو دوم:
كأن الريش والفوقين منه ** خلاف النصل سبطيه مشيج

قال ابن عباس والحسن وعكرمة ومجاهد والربيع: يعني ماء الرجل وماء المرأة يختلطان في الرحم فيكون منهما جميعاً الولد، وماء الرجل أبيض غليط وماء المرأة أصفر رقيق، فأيهما علا صاحبه كان الشبه له، وقال قتادة: هي أطوار الخلق: نطفة، ثم علقة، ثم مضغة، ثم لحماً ثم عظاماً ثم يكسوه لحماً ثم ينشئه خلقاً آخر.
وقال الضحاك: أراد اختلاف ألوان النطفة نطفة، الرجل بيضاء وحمراء ونطفة المرأة خضراء وحمراء فهي مختلفة الألوان، وهي رواية الوالي عن ابن عباس وابن أبي نجح عن مجاهد، وكذلك قال عطاء الخراساني والكلبي: الأمشاج الحمرة في البياض والبياض في الحمرة أو الصفرة.
وقال عبد الله بن مسعود وأسامة بن زيد: هي العروق التي تكون في النطفة، وروى ابن جريح عن عطاء قال: الأمشاج الهن الذي كإنه عقب، وقال الحسن: نعم والله خلقت من نطفة مشجت بدم وهو دم الحيضة فإذا حبلت أرفع الحيض، وقال يمان: كل لونين اختلطا فهما أمشاج، وقال ابن السكيت: الأمشاج: الأخلاط، لأنها ممتزجة من أنواع فخلق الإنسان ذا طبائع مختلفة، وقال أهل المعاني: بناء الأمشاج بناء جمع وهو في معنى الواحد لأنه نعت النطفة وهذا كما يقال: برمة أعشار وثوب أخلاق ونحوهما.
وسمعت أبا عبد الرحمن السلمي يقول: سمعت أبا عثمان المغربي يقول: سُئلت وأنا بمكّة عن قول الله سبحانه: {أَمْشَاجٍ نبتليه} فقلت ابتلى الله الخلق تسعة أمشاج: ثلاث مفتنات وثلاث كافرات وثلاث مؤمنات، فأما الثلاث المفتنات فسمعه وبصره ولسانه، وأما الثلاث الكافرات فنفسه وهواه وشيطانه، وأما الثلاث المؤمنات فعقله وروحه وملكه، فإذا أيّد الله العبد بالمعونة فقرّ العقل على القلب فملكه واستأسرت النفس والهوى فلم يجد إلى الحركة سبيلا، فجانست النفس الروح وجانس الهوى العقل وصارت كلمة الله هي العليا:
{وَقَاتِلُوهُمْ حتى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ} [البقرة: 193].
{نبتليه} نختبره بالأمر والنهي وقال بعض أهل العربية: هي مقدمة معناها التأخير مجازها: {فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً} لنبتليه؛ لأن الابتلاء لا يقع إلاّ بعد تمام الخلقة. {إِنَّا هَدَيْنَاهُ السبيل} أي بيّنا له سبيل الحق والباطل والهدى والضلالة وعرّفناه طريق الخير والشرّ وهو كقوله: {وَهَدَيْنَاهُ النجدين} [البلد: 10]. {إِمَّا شاكراً وَإِمَّا كفوراً} أما مؤمناً سعيداً وأما كافراً شقيّاً يعني خلقناه أما كذا وأما كذا، وقيل معنى الكلام: الجزاء، يعني بيّنا له الطريق إن شكر وكفر، وهو اختيار الفرّاء، ثم بين الفريقين فقال عز من قال {إِنَّآ أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سلاسلاَ} كل سلسلة سبعون ذراعاً.
{وَأَغْلاَلاً وَسَعِيراً} قرأ أبو جعفر وشيبة ونافع وعاصم عن حفص والأعمش والكسائي وأيوب كلهن: {سلاسلاً} بإثبات الألف في الوقف والتنوين في الأصل، وهو اختيار أبي عبيد، ورواية هشام عن أهل الشام، ضده حمزة وخلف وقنبل ويعقوب برواية [...] وزيد، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو: {قواريراً} الأولى بالألف والثاني بغير ألف.
قال أبو عبيد: ورأيت في مصحف الإمام عثمان {قَوَارِيرَاْ} الأولى بالألف مبنية والثانية كانت بالألف فحكّت، ورأيت أثرها بيّنا هناك.
{إِنَّ الأبرار} يعني المؤمنين الصادقين في إيمانهم المطيعين لربهم، وقال الحسن: هم الذين لا يؤذون الذر ولا ينصبون الشرّ، وأحدهم بار، مثل شاهد وأشهاد وناصر وأنصار وصاحب وأصحاب ويراد بها مثل نهر وأنهار وضرب وأضراب.
{يشربونَ} في الآخرة {مِن كَأْسٍ} خمر {كَانَ مِزَاجُهَا كَافُوراً} قال قتادة: يمزج لهم بالكافور ويختم لهم بالمسك، وقال عكرمة: مزاجها طعمها، وقال أهل المعاني: أراد كالكافور في بياضه وطيب ريحه وبرده، لأن الكافور لا يشرب، وهو كقوله: {حتى إِذَا جَعَلَهُ نَاراً} [الكهف: 96] أي كنار، وقال ابن كيسان: طيّبت بالكافور والمسك والزنجبيل، وقال الفرّاء: ويقال: إنّ الكافور اسم لعين ماء في الجنة، وفي مصحف عبد الله {من كأس صفراء كان مزاجها قافورا} والقاف والكاف يتعاقبان؛ لانّهما لهويتان، وقال الواسطي: لمّا اختلفت أحوالهم في الدنيا اختلفت أشربتهم في الآخرة فكأس الكافور برّدت الدنيا في صدورهم.
{عيناً} نصب لأنها تابعة للكافور كالمفر له وقال الكسائي: على الحال والقطع، وقيل: يشربون عيناً، وقيل من عين، وقيل: أعني عينا، وقيل: على المدح وهي لهذه الوجوه كلّها محتملة.
{يشرب بها} أي شربها والباء صلة وقيل منها. {عِبَادُ الله يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيراً} أي يقودونها حيث شاءوا من منازلهم وقصورهم كما يفجر الرجل منكم النهر يكون له في الدنيا هاهنا وهاهنا إلى حيث يريد.
{يُوفُونَ بالنذر} قال قتادة: بما فرض الله سبحانه عليهم من الصلاة والزكاة والحج والعمرة وغيرها من الواجبات، وقال مجاهد وعكرمة: يعني إذا بدروا في طاعة الله وفوا به. {وَيَخَافُونَ يَوْماً كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً} ممتداً قاسيا يقال استطار الصدع في الزجاجة واستطال إذا امتد، ومنه قول الأعشى:
وبانت وقد أُسأرت في الفؤاد ** صدعاً على نأيها مستطيراً

{وَيُطْعِمُونَ الطعام على حُبه} قال ابن عباس: على قلّته وحسبهم أياه وشهوتهم له، وقال الداري: على حبّ الله، وقال الحسين بن الفضل: على حبّ إطعام الطعام. {مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً} وهو الحربي يؤخذ قهراً أو المسلم يحبس بحق. قال قتادة: بعد أمر الله بالأسراء أن يحسن إليهم، وأنّ أسراءهم يومئذ لأهل الشرك فأخوك المسلم أحقّ أن تطعمه، وقال مجاهد وسعيد بن جبير وعطا: هو المسجون من أهل القبلة. أخبرني الحسن قال: حدّثنا موسى بن محمد بن علي بن عبد الله قال: حدّثنا عبد الله بن محمد بن ناجية قال: حدّثنا عباد بن أحمد العرزمي قال: حدّثنا عمي عن أبيه عن عمرو بن قيس عن عطية عن أبي سعيد الخدري عن النبي عليه السلام {وَيُطْعِمُونَ الطعام على حُبه مِسْكِيناً} قال: «فقيراً» {وَيَتِيماً} قال: «لا أب له» {وَأَسِيراً} قال: «المملوك والمسجون»، وقال أبو حمزة الثمالي: الأسير المرأة، ودليل هذا التأويل قول النبي عليه السلام: «استوصوا بالنساء خيراً فإنّهن عندكم عوان».
{إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ الله لاَ نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاءً وَلاَ شُكُوراً} فيه وجهان: أحدهما أن يكون جمع الشكر كالفلوس بجمع الفلس، والكفور بجمع الكفر، والآخران يكون بمعنى المصدر كالفعول والدخول والخروج.
قال مجاهد وسعيد بن جبير: أمّا أنهم ما تكلموا به، ولكن علمه الله من قلوبهم فأثنى عليهم ليرغب في ذلك راغب.
{إِنَّا نَخَافُ مِن رَّبِّنَا يَوْماً} في يوم {عَبُوساً} تعبس فيه الوجوه من شدّته وكثرة مكارهة فنسب العبوس إلى اليوم كما يقال: يوم صائم وليل نائم، وقال ابن عباس: يعبس الكافر يومئذ حتى يسيل من بين عينيه عرق مثل القطران، وقيل: وصف اليوم بالعبوس لما فيه من الشدّة والهول كالرجل الكالح البائس.
{قَمْطَرِيراً} روى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال: العبوس: الضيق، والقمطرير: الطويل. الكلبي: العبوس: الذي لا انبساط فيه والقمطرير: الشديد. وقال قتادة ومجاهد ومقاتل: القمطرير: الذي يقلّص الوجوه ويقبض الحياة وما بين الأعين من شدته. قال الأخفش: القمطرير أشدّ ما يكون من الأيام وأطوله في البلاء يقال: يوم قمطرير وقماطر إذا كان شديداً لكربها. قال الشاعر:
ففرّوا إذا ما الحرب ثار غبارها ** ولج بها اليوم العبوس القماطر

وأنشد الفرّاء:
بني عمّنا هل تذكرون بلانا ** عليكم إذا ما كان يوم قماطر

وقال الكسائي: أقمطرّ القوم وأزمهرّ أقمطراراً وازمهراراً وهو الزمهرير والقمطرير، ويوم مقمطر إذا كان صعباً شديداً. قال الهذلي:
بنو الحرب أرضعنا لهم مقمطرّة ** فمن تلق منا ذلك اليوم يهرب

{فوقاهم الله شَرَّ ذَلِكَ اليوم} الذي يخافون {وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً} في وجوههم {وَسُرُوراً} في قلوبهم {وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُواْ} على طاعة الله وعن معصيته، وقال الضحاك: على الفقر. القرطبي: على الصوم. عطاء: على الجوع.
وروي سعيد بن المسيب عن عمر قال: سئل رسول الله عليه السلام عن الصبر فقال: «الصبر أربعة أولها الصبر عند الصدمة الأولى والصبر على أداء الفرائض، والصبر على اجتناب محارم الله، والصبر على المصائب» {جَنَّةً وَحَرِيراً} قال الحسن: أدخلهم الجنة وألبسهم الحرير. {متكئين} نصب على الحال {فِيهَا} في الجنة {على الأرائك} السرر في الحجال لا تكون أريكة إذا اجتمعا. قال الحسن: وهي لغة أهل اليمن كان الرجل العظيم منهم يتخذ أريكة فيقال: أريكه فلان.
وقال مقاتل: الأرائك: السرر في الحجال من الدر والياقوت موضونة بقضبان الذهب والفضة وألوان الجواهر. {لاَ يَرَوْنَ فِيهَا شَمْساً وَلاَ زَمْهَرِيراً} أي شتاء ولا قيضاً.
قال قتادة: علم الله سبحانه أن شدّة الحر تؤذي وشدة القرّ تؤذي فوقاهم الله أذاهما جميعاً، وقال مرة الهمداني: الزمهرير البرد القاطع. مقاتل بن حيّان: هو شي مثل روس الابر ينزل من السماء في غاية البرد. ابن سمعود: هو لون من العذاب وهو البرد الشديد.
وسمعت أبا القاسم الحبيبي يقول: سمعت أبا بكر أحمد بن عمران السوادي يقول: سمعت أبا العباس أحمد بن يحيى ثعلب وسئل عن قوله: {لاَ يَرَوْنَ فِيهَا شَمْساً وَلاَ زَمْهَرِيراً} قال الزمهرير القمر بلغة طي. قال شاعرهم:
وليلة ظلامها قد اعتكر ** قطعتها والزمهرير ما زهر

أي لم يطلع القمر.
واختلف العلماء في سبب نزول هذه الآيات فقال مقاتل: نزلت في رجل من الأنصار أطعم في يوم واحد مسكيناً ويتيماً وأسيراً وكانت قصته.
أخبرنا ابن فتجويه قال: حدّثنا محمد بن خلف بن حيّان قال: حدّثنا إسحاق بن محمد بن مروان قال: حدّثنا إبراهيم بن عيسى قال: حدّثنا على بن علي بن أبي حمزة الثمالي قال: بلغنا أن مسكيناً أتى رسول الله عليه السلام فقال: يا رسول الله أطعمني فقال: «والذي نفسي بيده ما عندي ما أطعمك ولكن أطلب» فأتى رجلاً من الأنصار وهو يتعشى وامرأته فقال له: أني أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت له: أطعمني فقال: ما عندي ما أطعمك ولكن أطلب، فقال: الأنصاري لأمرأته: ما ترين؟ فقالت: أطعمه وأسقه ثم أتى رسول الله عليه السلام يتيم فقال يا رسول الله أطعمني فقال: «ما عندي ما أطعمك ولكن أطلب» فأتى اليتيم الأنصاري الذي أتاه المسكين فقال له: أطعمني فقال لامرأته: ما ترين؟ قالت: أطعمه فاطعمه، ثم أتى رسول الله عليه السلام أسير فقال: يا رسول الله أطعمني، فقال: «والله ما معي ما أطعمك ولكن أطلب» فأتى الأسير الأنصاري فقال له: أطعمني، فقال: لامرأته ما ترين فقالت: أطعمه، وكان هذا كلّه في ساعة واحدة، فأنزل الله سبحانه فيما صنع الأنصاري من إطعامه المسكين واليتيم والأسير {وَيُطْعِمُونَ الطعام على حُبه مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً}.
وقال غيرهما: نزلت في علي بن أبي طالب وفاطمة وجارية لهما يقال لها فضة وكانت القصة فيه.
وأخبرنا الشيخ أبو محمد الحسن بن أحمد بن محمد بن علي الشيباني العدل قراءة عليه في صفر سنة سبع وثمانين وثلثمائة قال: أخبرنا ابن الشرقي قال: حدّثنا محبوب بن حميد النصري قال: حدّثنا أبو محمد عبد الله بن محمد بن عبدالوهاب الخوار ابن عم الأحنف بن قيس سنة ثمان وخمسين ومائتين وسأله عن هذا الحديث روح بن عبادة قال: حدّثنا القيم بن مهرام عن ليث عن مجاهد عن ابن عباس وأخبرنا عبد الله بن حامد قال: أخبرنا أبو محمد أحمد بن عبد الله المزني قال: حدّثنا أبو الحسن محمد بن أحمد بن سهيل بن علي بن مهران الباهلي بالبصرة قال: حدّثنا أبو مسعود عبدالرحمن بن فهد بن هلال قال: حدّثنا الغنيم بن يحيى عن أبي علي القيري عن محمد بن السائر عن أبي صالح عن ابن عباس قال: أبو الحسن بن مهران وحدّثني محمد بن زكريا البصري قال: حدّثني سعيد بن واقد المزني قال: حدّثنا القاسم بن بهرام عن ليث عن مجاهد عن ابن عباس «في قول الله سبحانه وتعالى: {يُوفُونَ بالنذر وَيَخَافُونَ يَوْماً كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً} قال: مرض الحسن والحسين فعادهما جدّهما محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه أبو بكر وعمر رضي الله عنهما وعادهما عامّة العرب فقالوا: يا أبا الحسن لو نذرت على ولديك نذراً وكل نذر لا يكون له وفاء فليس بشيء.
فقال علي رضي الله عنه: إن برأ ولداي مما بهما صمتُ ثلاثة أيام شكراً، وقالت فاطمة رضي الله عنها: إن برأ ولداي مما بهما صمت لله ثلاثة أيام شكراً ما لبس الغلامان العافية، وليس عند آل محمد قليل ولا كثير، فانطلق علي رضي الله عنه إلى شمعون بن جابا الخيبري، وكان يهودياً فاستقرض منه ثلاثة أصوع من شعير»
، وفي حديث المزني عن ابن مهران الباهلي «فانطلق إلى جار له من اليهود يعالج الصوف يقال له: شمعون بن جابا، فقال: هل لك أن تعطيني جزّة من الصوف تغزلها لك بنت محمد صلى الله عليه وسلم بثلاثة أصوع من الشعير قال: نعم، فأعطاه فجاء بالسوق والشعير فأخبر فاطمة بذلك فقبلت وأطاعت قالوا: فقامت فاطمة رضي الله عنها إلى صاع فطحنته وأختبزت منه خمسة أقراص لكل واحد منهم قرصاً وصلى علي مع النبي عليه السلام المغرب، ثم أتى المنزل فوضع الطعام بين يديه اذ أتاهم مسكين فوقف بالباب فقال: السلام عليكم أهل بيت محمد، مسكين من مساكين المسلمين، أطعموني أطعمكم من موائد الجنة، فسمعه علي رضي الله عنه فأنشأ يقول:
فاطم ذات المجد واليقين ** يا ابنة خير الناس أجمعين

أما ترين البائس المسكين ** قد قام بالباب له حنين

يشكوا إلى الله ويستكين ** يشكوا إلينا جائع حزين

كل امرء بكسبه رهين ** وفاعل الخيرات يستبين

موعدنا جنة عليين ** حرمها الله على الضنين

وللبخيل موقف مهين ** تهوى به النار إلى سجين

شرابه الحميم والغسلين ** من يفعل الخير يقم سمين

ويدخل الجنة أي حين

فأنشأت فاطمة:
أمرك عندي يا ابن عمّ طاعه ** ما بي من لؤم ولا وضاعه

غذيت من خبز له صناعة ** أطعمه ولا أبالي الساعه

أرجو إذ أشبعت ذا المجاعه ** أن ألحق الأخيار والجماعه

وأدخل الخلد ولي شفاعه

قال: فأعطوه الطعام ومكثوا يومهم وليلتهم لم يذوقوا شيئاً إلاّ الماء القرأح، فلمّا كان اليوم الثاني قامت فاطمة إلى صاع فطحنته فاختبزته وصلّى علي مع النبي عليه السلام، ثم أتى المنزل فوضع الطعام بين يديه فأتاهم يتيم فوقف بالباب فقال: السلام عليكم أهل بيت محمد، يتيم من أولاد المهاجرين، استشهد والدي يوم العقبة، أطعموني أطعمكم الله على موائد الجنة فسمعه علي رضي الله عنه فأخذ يقول:
فاطم بنت السيد الكريم ** بنت نبي ليس بالزنيم

لقد أتى الله بذي اليتيم ** من يرحم اليوم يكن رحيم

موعده في جنّة النعيم ** قد حرّم الخلد على اللئيم

ألا يجوز الصراط المستقيم ** يزل في النار إلى الجحيم

فأنشأت فاطمة:
أطعمه اليوم ولا أبالي ** وأوثر الله على عيالي

أمسوا جياعاً وهم أشبالي ** أصغرهم يقتل في القتال

بكربلا يقتل باغتيال ** للقاتل الويل مع الوبال

تهوى به النار إلى سفال ** وفي يديه الغل والأغلال

كبوله زادت على الأكبال

قال: فأعطوه الطعام ومكثوا يومين وليلتين لم يذوقوا شيئاً إلاّ الماء القرأح، فلمّا كان في اليوم الثالث قامت فاطمة رضي الله عنها إلى الصاع الباقي فطحنته واختبزته وصلى علي مع النبي عليه السلام ثم أتى المنزل فوضع الطعام بين يديه إذ أتاهم أسير فوقف بالباب فقال: السلام عليكم أهل بيت محمد، تأسرونا وتشدوننا ولا تطعمونا، أطعموني فإني أسير محمد أطعمكم الله على موائد الجنة، فسمعه علي فأنشأ يقول:
فاطم يابنة النبي أحمد ** بنت نبي سيد مسوّد

هذا أسير للنبي المهتد ** مكبّلٌ في غلّه مقيّد

يشكو إلينا الجوع قد تمدد ** من يطعم اليوم يجده من غد

عند العلي الواحد الموحّد ** ما يزرع الزارع سوف يحصد

فأنشأت فاطمة تقول:
لم يبق مما جاء غير صاع ** قد ذهبت كفي مع الذراع

ابناي والله من الجياع ** يارب لا تتركهما ضياع

أبوهما للخير ذو اصطناع ** يصطنع المعروف بابتداع

عبل الذراعين طويل الباع ** وما على رأسي من قناع

إلاّ قناعاً نسجه انساع

قال: فاعطوه الطعام ومكثوا ثلاثة أيام ولياليها لم يذوقوا شيئاً إلاّ الماء القراح فلما أن كان في اليوم الرابع وقد قضوا نذرهم؛ أخذ علي رضي الله عنه بيده اليمنى الحسن وبيده اليسرى الحسين وأقبل نحو رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم يرتعشون كالفراخ من شدّة الجوع فلمّا نضر به النبي عليه السلام قال: يا أبا الحسن ما أشدّ ما يسؤني ما أرى بكم، أنطلق إلى ابنتي فاطمة فانطلقوا إليها وهي في محرابها وقد لصق بطنها بظهرها من شدة الجوع وغارت عيناها، فلما رأها النبي عليه السلام قال: واغوثاه بالله، أهل بيت محمد يموتون جوعاً. فهبط جبرائيل عليه السلام فقال: يا محمد خذها، هنّأك الله في أهل بيتك قال: وما أخذنا يا جبرائيل ؟ فاقرأه {هَلْ أتى عَلَى الإنسان} إلى قوله: {وَلاَ شُكُوراً} إلى آخر السورة»
.
قتادة بن مهران الباهلي في هذا الحديث: «فوثب النبي عليه السلام حتى دخل على فاطمة فلما رأى ما بهم انكب عليهم يبكي، ثم قال: أنتم من منذ ثلاث فيما أرى وأنا غافل عنكم، فهبط جبرائيل عليه السلام بهذه الآيات {إِنَّ الأبرار يشربونَ مِن كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُوراً * عيناً يشرب بها عِبَادُ الله يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيراً} قال: هي عين في دار النبي عليه السلام تفجر إلى دور الأنبياء (عليهم السلام) والمؤمنين».
{يُوفُونَ بالنذر} يعني علياً وفاطمة والحسن والحسين وجاريتهم فضة {وَيَخَافُونَ يَوْماً كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً وَيُطْعِمُونَ الطعام على حُبه} يقول على شهوتهم للطعام، وإيثارهم مسكيناً من مساكين المسلمين ويتيماً من يتامى المسلمين، وأسيراً من أسارى المشركين، ويقولون إذا أطعموهم {إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ الله لاَ نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاءً وَلاَ شُكُوراً إِنَّا نَخَافُ مِن رَّبِّنَا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً} قال: والله ما قالوا لهم هذا بألسنتهم، ولكنهم أضمروه في نفوسهم، فأخبر الله سبحانه بإضمارهم يقولون: لا نريد منكم جزاء ولا شكوراً، فيتمنون علينا به ولكنا أعطيناكم لوجه الله وطلب ثوابه قال الله سبحانه: {فوقاهم الله شَرَّ ذَلِكَ اليوم وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً} في الوجوه {وَسُرُوراً} في القلوب {وَجَزَاهُمْ} بما صبروا {جَنَّةً} يسكنونها {وَحَرِيراً} يلبسونه ويفترشونه {متكئين فِيهَا على الأرائك لاَ يَرَوْنَ فِيهَا شَمْساً وَلاَ زَمْهَرِيراً}.
قال ابن عباس: وبينا أهل الجنة في الجنة إذا رأوا ضوءاً كضوء الشمس وقد أشرقت الجنان لها فيقول أهل الجنة: يا رضوان قال: ربّنا عز وجل {لاَ يَرَوْنَ فِيهَا شَمْساً وَلاَ زَمْهَرِيراً} فيقول: لهم رضوان: ليست هذه بشمس ولا قمر ولكن هذه فاطمة وعلي ضحكا ضحكاً أشرقت الجنان من نور ضحكهما، وفيهما أنزل الله سبحانه: {هَلْ أتى عَلَى الإنسان حِينٌ مِّنَ الدهر} إلى قوله: {وَكَانَ سَعْيُكُم مَّشْكُوراً}.
وأنشدت فيه:
أنا مولى لفتى ** أنزل فيه هل أتى

وعلى هذا القول تكون السورة مدنية، وقد اختلف العلماء في نزول هذه السورة فقال مجاهد وقتادة: هي كلّها مدنية، وقال الحسن وعكرمة: منها آية مكيّة وهي قوله سبحانه: {وَلاَ تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كفوراً} والباقي مدني، قال الآخرون: هي كلّه مكيّة والله أعلم.
{وَدانية عَلَيْهِمْ ظِلاَلُهَا} أي قريبة منهم ظلال أشجارها، وفي نصب الدانية أوجه: أحدها العطف بها على قوله متكئين، والثاني على موضع قوله: {لاَ يَرَوْنَ فِيهَا شَمْساً} ويرون دانية، والثالثة على المدح، وأتت {دانية} لأن الظلال جمع وفي قراءة عبد الله {ودانياً} عليهم ليقدم الفعل، وفي حرف أبيّ ودان رفع على الإستئناف.
{وَذللت} سخّرت وقرّبت {قُطُوفُهَا} ثمارها {تَذْلِيلاً} يأكلون من ثمارها قياماً وقعوداً ومضطجعين ينالونها ويتناولونها كيف شاءوا على أي حال كانوا.
أخبرنا عبد الله بن حامد قال: أخبرنا حامد بن محمد قال: حدّثنا موسى بن إسحاق قال: حدّثنا أبي قال: حدّثنا سفيان عن ابن أبي نجيح عن مجاهد قال: أرض الجنة من ورق وترابها مسك وأصول شجرها ذهب وفضّة وأفنانها لؤلؤ وزبرجد وياقوت، والورق والثمر تحت ذلك فمن أكل قائماً لم يؤذه ومن أكل جالساً لم يؤذه ومن أكل مضطجعاً لم يؤذه فذلك قوله سبحانه: {وَذللت قُطُوفُهَا تَذْلِيلاً}.
{وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِّن فِضَّةٍ وَأَكْوابٍ كَانَتْ قَوَارِيرَاْ قَوَارِيرَاْ مِن فِضَّةٍ} قال المفسرون: أراد بياض الفضة في صفاء القوارير فصفاؤها صفاء الزجاج وهي من فضة.
أخبرنا محمد بن عبد الله بن حمدون قال: أخبرنا مكّي قال: حدّثنا عبد الرحمن بن بشر قال: حدّثنا سفيان وأخبرنا عبد الله بن حامد قال: حدّثنا محمد بن حمدويه قال: حدّثنا محمود ابن آدم قال: حدّثنا سفيان عن عمرو عن عكرمة عن ابن عباس في قوله سبحانه: {قَوَارِيرَاْ مِن فِضَّةٍ} قال: لو أخذت فضة من فضة الدنيا فضربتها حتى جعلتها مثل جناح الذباب لم تر الماء من ورائها، ولكن قوارير الجنة في بياض الفضة في صفاء القارورة.
وقال الكلبي والثمالي: إن الله سبحانه جعل قوارير كلّ قوم من تراب أرضهم وإن تراب الجنة من فضة فجعل من تلك الفضة قوارير يشربون فيها. {قَدَّرُوهَا تَقْدِيراً} على قدر رتبهم لا يزيد ولا ينقص، وقال الربيع والقرطبي: على قدر الكفّ، وقراءة العامّة بفتح القاف والدال قدرها لهم السقاة الذين يطوفون بها عليهم.
وأخبرني بن فنجويه قال: حدّثنا ابن شنبه قال: حدّثنا أبو حامد المستملي قال: أخبرنا محمد بن حاتم الرقي قال: أخبرنا هشام قال: أخبرنا إسماعيل بن سالم عن الشعبي قال: سمعته قرأها {قدروها} بضم القاف وكسر الدال أي قدرت عليهم فلا زيادة فيها ولا نقصان. قال: وسمعت غيره قدّروها في أنفسهم فأتتهم على ما قدروا لا يزيد ولا ينقص.
{وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْساً كَانَ مِزَاجُهَا زَنجَبِيلاً} سوق ومطرب من غير لدع، والعرب تستحب الزنجبيل قال شاعرهم:
كأن جنيا من الزنجبيل خالط ** فاها وأريا مشورا

وقيل: هو عين في الجنّة توجد منها طعم الزنجبيل.
قال قتادة: شربها المقرّبون صرفاً ويمزج لسائر أهل الجنة.
{عيناً فِيهَا تسمى سَلْسَبِيلاً} قال قتادة: سلسة منقادة لهم يصرفونها حيث شاءوا، وقال مجاهد: حديدة الجرية. يمان: طيبة الطعم والمذاق، تقول العرب: هذا شراب سلس وسلسل وسلسبيل، أبو العالية ومقاتل بن حيان: سميت سلسبيلا؛ لأنها يتسيل عليهم في الطرق وفي منازلهم تنبع من أصل العرش من جنة عدن إلى أهل الجنان على برد الكافور وطعم الزنجبيل وريح المسك، ومعنى {تسمى} توصف؛ لأن أكثر العلماء على أن سلسبيل صفة الإسم.
{وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُّخَلَّدُونَ إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤاً مَّنثُوراً وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيماً وَمُلْكاً كَبِيراً} وهو أن أدناهم يعني أهل الجنة منزلة ينظر من ملكه في مسيرة ألف عام يرى أقصاه كما يرى أدناه، وقيل: هو استئذان الملائكة عليهم، وقيل: {وَمُلْكاً} لا زوال له. قال أبو بكر الورّاق: ملكاً لا يتعقبه هلك، وقال محمد بن علي الترمذي: يعني ملك التكوين إذا أراد شيئاً كان.
{عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُندُسٍ} قرأ قتادة ومجاهد وابن سيرين وعون العقيلي وابن محيص وأبو جعفر ونافع والأعمش وحمزة وأيوب {عَالِيَهُمْ} بتسكين الياء على أنه اسم موصوف بالفعل يقول علاهم فهو عاليهم، واختاره أبو عبيد إعتباراً بقراءة ابن مسعود وابن وثاب وغيرهما {عاليتهم}، وتفسير ابن عباس: أما رأيت الرجل عليه ثياب يعلوها أفضل منها، وقرأ الباقون بنصب الياء على الصفة أي فوقهم وهو نصب على الظرف، وقيل: هو كقوله: {لاَهِيَةً قُلُوبهمْ} [الأنبياء: 3] وقد مضى، ذكرنا تقديم الصفة على الموصوف، وقيل: معناه عالياً لهم ثيابها كقوله: {هَدْياً بَالِغَ الكعبة} [المائدة: 95] ونحوها.
{خُضْرٌ وَإِسْتَبرق} اختلف القراء فيهما فقرأ ابن كثير وابو بكر والمفضل خضر بالخفض على نعت السندس والاستبرق بالرفع على نعت الثياب، وقرأ أبو جعفر وابن عامر وأبو عمرو ويعقوب بضده واختاره أبو عبيد وأبو حاتم، وقرأ نافع وأيوب وحفص كليهما بالرفع، وقرأ يحيى والأعمش وحمزة والكسائي وخلف كليهما بالجر.
{وحلوا أَسَاوِرَ مِن فِضَّةٍ وَسَقَاهُمْ رَبهمْ شَرَاباً طَهُوراً} طاهر من الأقذار لم تدنسه الأيدي ولم تدنسه الأرجل كخمر الدنيا قال أبو قلابة وإبراهيم: يعني أنه لا يصير نجساً ولكنه يصير رشحاً في أيديهم كريح المسك، وأن الرجل من أهل الجنة يقسم له شهوة مائة رجل من أهل الدنيا وأكلهم ونهمتهم، فإذا أكل ما شاء سُقي شراباً طهوراً فيطهر بطنه ويصير ما أكل رشحاً يخرج من جلده أطيب ريحاً من المسك الأذفر ويضمر بطنه وتعود شهوته، وقيل: يطهرهم من الذنوب والأدناس والأنجاس ويرشحهم للجنّة.
وقال جعفر: يطهّرهم به عن كلّ شيء سواه، إذ لا طاهر من تدنّس شيء من الأكوان.
وقال أبو سليمان الداراني سقاهم ربهم على حاشية بساط الود، فأرواهم من صحبة الخلق وأراهم رؤية الحقّ، ثمّ أقعدهم على منابر القدس وحيّاهم بتحيّة المزمّل وأمطر التأييد، فسالت عليهم أودية الشوق فكفاهم هموم الفرقة وحيّاهم بسرور القربة.
وسمعت أبا القاسم الحبيبي يقول: سمعت أبا عبد الله محمّد بن علي الشاشي يقول: سمعت الحسن بن علوية الدامغاني يقول سئل أبو يزيد البسطامي عن قوله سبحانه {وَسَقَاهُمْ رَبهمْ شَرَاباً طَهُوراً} قال: طهّرهم به عن محبّة غيره ثم قال: إنّ لله شراباً ادّخره لأفاضل عباده يتولى سقيهم فإذا شربوا طاشوا وإذا طاشوا طاروا وإذا طاروا وصلوا وإذا وصلوا اتّصلوا فهم في مقعد صدق عند مليك مقتدر.
وسمعت أبا عبد الرحمن السلمي يقول: سمعت أبا بكر الرازي يقول: سمعت طيّب الحمّال يقول: صلّيت خلف سهل بن عبد الله العتمة فقرأ قوله: {وَسَقَاهُمْ رَبهمْ شَرَاباً طَهُوراً} فجعل يحرّك فمه كأنّه يمصّ شيئاً، فلمّا فرغ من صلاته قيل له: إتشرب أم تقرأ؟ قال: والله لو لم أجد لذّته عند قراءته كلذّتي عند شربه ما قرأته.
وأخبرني الحسين قال: حدّثنا هارون قال: حدّثا حازم بن يحيى الحلواني قال حدّثنا محمّد ابن عبد الله بن عمار الموصلي قال: حدّثنا عفيف بن سالم عن أيّوب بن عتبة عن عطاء عن ابن عمر قال: جاء رجل من الحبشة إلى النبي عليه السلام عليه السلام يسأله فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «سل واستفهم».
فقال: يا رسول الله فضلتم علينا بالصوَر والألوان والنبوّة أفرأيت إن آمنت بمثل ما آمنت به وعملت بمثل ما عملت به أأني لكائن معك في الجنّة؟ قال: «نعم» ثمّ قال النبي عليه السلام: «والذي نفسي بيده ليرى بياض الأسود في الجنّة مسيرة ألف عام»، ثمّ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قال لا إله إلاّ الله كان له بها عهد عند الله ومن قال سبحان الله وبحمده كتب له مائة ألف حسنة وأربعة وعشرون ألف حسنة».
قال رجل: كيف نهلك بعدها يا رسول الله؟
قال: «إنّ الرجل ليأتي يوم القيامة لو وضع على جبل لأثقله، قال: فتقوم النعمة من نعم الله سبحانه فيكاد أن تستنفد ذلك كلّه إلاّ أن يتطوّل الله تعالى برحمته» قال: ثمّ نزلت {هَلْ أتى عَلَى الإنسان حِينٌ مِّنَ الدهر} إلى قوله: {وَمُلْكاً كَبِيراً} الآيات.
قال الحبشي: وإن عيني لتريان ما ترى عيناك في الجنّة.
قال النبي عليه السلام: «نعم» فاشتكى الحبشي حتى فاضت نفسه. فقال ابن عمر: لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يدليّه في حفرته بيده.
{إِنَّ هذا كَانَ لَكُمْ جَزَاءً وَكَانَ سَعْيُكُم مَّشْكُوراً إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ القرآن تَنزِيلاً} قال ابن عبّاس: متفرّقاً آية بعد آية ولم ينزله جملة فلذلك قال (نزلنا).
{فاصبر لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلاَ تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كفوراً} يعني وكفوراً. الألف صلة، وقال الفرّاء: أو معنى (....) كقول الشاعر:
لا وجد ثكلى كما وجدت ولا ** وجد عجول أضلها ربعُ

أو وجد شيخ أضّل ناقته ** يوم توافى الحجيج فاندفعوا

أراد: ولا وجد شيخ.
قال قتادة: الآثم: الكفور، نهى الله سبحانه وتعالى نبيّه عن طاعة أبو جهل لما فُرضت على نبيّ الله صلى الله عليه وسلم الصلاة، وهو يومئذ بمكّة نهاه أبو جهل عنها وقال: لئن رأيتُ محمداً يصلي لوطأت على عنقه. فأنزل الله سبحانه هذه الآية.
وقال مقاتل: {وَلاَ تُطِعْ مِنْهُمْ} يعني من مشركي مكّة أنها تعني عتبة بن ربيعة قال للنبي صلى الله عليه وسلم إن كنت صنعت ما صنعت من أجل النساء فقد علمت قريش أن بناتي من أجملها بنات فأنا أزوّجك بنتي وأسوقها إليك بغير مهر وأرجع عن هذا الأمر.
{أَوْ كفوراً} يعني الوليد بن المغيرة قال للنبي صلى الله عليه وسلم يا محمد إن كنت صنعت من أجل المال فقد علمت قريش أني من أكثرهم مالا فأنا أعطيك من المال حتى ترضى فارجع عن هذا الأمر، فأنزل الله سبحانه {وَلاَ تُطِعْ مِنْهُمْ} أنها تعني عتبة {أَوْ كفوراً} تعني ولا كفوراً وهو الوليد بن المغيرة.
{واذكر اسم رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلاً وَمِنَ الليل فاسجد لَهُ} تعني صلاتي العشاء {وَسَبِّحْهُ لَيْلاً طَوِيلاً} يعني التطوّع {إِنَّ هؤلاء يُحِبُّونَ العاجلة وَيَذَرُونَ وَرَاءَهُمْ} أمامهم وقدّامهم كقوله: {وَكَانَ وَرَاءَهُم مَّلِكٌ} [الكهف: 79] وقوله سبحانه: {وَمِن وَرَآئِهِمْ بَرْزَخٌ} [المؤمنون: 100].
{يَوْماً ثَقِيلاً} وهو يوم القيامة، {نَّحْنُ خَلَقْنَاهُمْ وَشَدَدْنَآ}. قوّينا وحكمنا. {أَسْرَهُمْ} قال مجاهد وقتادة ومقاتل: خلقهم، وهي رواية عطية عن ابن عباس يقال: رجل حسن الاسّر أي الخلق، وفرس شديد الأسّر، وقال أبو هريرة والربيع: مفاصلهم، وقال الحسن: أوّصالهم بعضها إلى بعض بالعروق والعصب وروى عبدالوهاب بن مجاهد عن أبيه {وَشَدَدْنَآ أَسْرَهُمْ} قال: الشرج وأصل الأسر الشكّ يقال: ما أحسن ما أسَر قتبه أي شدّه، ومنه قولهم: خُذه بأسره إذا أرادوا أن يقولوا: هو لك كلّه كأنهم أرادوا بعكة وشدة لم تفتح ولم تنقص منه. قال لبيد:
ساهم الوجه شديد اسّره ** مغبط الحارك محبوك الكفل

وقال الأخطل:
من كلّ مجتنب شديد أسره ** سلس القياد تخاله مختالا

{وَإِذَا شِئْنَا بَدَّلْنَآ أَمْثَالَهُمْ تَبْدِيلاً إِنَّ هذه} السورة {تَذْكِرَةٌ فَمَن شَاءَ اتخذ إلى رَبه سَبِيلاً} أي وسيلة بالطاعة. {وَمَا تَشَاءُونَ}. بالياء ابن كثير وأبو عمرو ومثله روى هشام عن أهل الشام، غيرهم بالتاء. {إِلاَّ أَن يَشَاءَ الله} لأن الأمر إليه لا إليكم وفي أمره عند الله إلاّ ما شاء الله، {إِنَّ الله كَانَ عَلِيماً حَكِيماً يُدْخِلُ مَن يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ والظالمين}، وقرأ أبان بن عثمان {والظالمون}. {أَعَدَّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً}. اهـ.

.قال الزمخشري:

سورة الإنسان:
مدنية.
وآياتها 31.
نزلت بعد الرحمن.
بِسْمِ الله الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

.[الإنسان: آية 1]

{هَلْ أَتى عَلَى الإنسان حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً (1)}.
{هل} بمعنى (قد) في الاستفهام خاصة، والأصل: أهل، بدليل قوله:
أهل رأونا بسفع القاع ذى الأكم

فالمعنى: أقد أتى؟ على التقرير والتقريب جميعا، أى: أتى على الإنسان قبل زمان قريب {حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ فيه شَيْئاً مَذْكُوراً} أى كان شيئا منسيا غير مذكور نطفة في الأصلاب والمراد بالإنسان: جنس بنى آدم، بدليل قوله {إِنَّا خَلَقْنَا الإنسان مِنْ نُطْفَةٍ}. {حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ} طائفة من الزمن الطويل الممتد. فإن قلت: ما محل {لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً} ؟ قلت: محله النصب على الحال من الإنسان، كأنه قيل: هل أتى عليه حين من الدهر غير مذكور. أو الرفع على الوصف لحين، كقوله {يَوْماً لا يَجْزِي والِدٌ عَنْ وَلَدِهِ} وعن بعضهم: أنها تليت عنده فقال: ليتها تمت، أراد: ليت تلك الحالة تمت، وهي كونه شيئا غير مذكور ولم يخلق ولم يكلف.

.[الإنسان: آية 2]

{إِنَّا خَلَقْنَا الإنسان مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشاجٍ نبتليه فَجَعَلْناهُ سَمِيعاً بَصِيراً (2)}.
{نُطْفَةٍ أَمْشاجٍ} كبرمة أعشار، وبرد أكياش: وهي ألفاظ مفردة غير جموع، ولذلك وقعت صفات للأفراد. ويقال أيضا: نطفة مشج، قال الشماخ:
طوت أحشاء مرتجة لوقت ** على مشج سلالته مهين

ولا يصحّ {أمشاج} أن يكون تكسيرا له، بل هما مثلان في الإفراد، لوصف المفرد بهما.
ومشجه ومزجه: بمعنى. والمعنى من نطفة قد امتزج فيها الماءان. وعن ابن مسعود: هي عروق النطفة. وعن قتادة: {أمشاج} ألوان وأطوار، يريد: أنها تكون نطفة، ثم علقة، ثم مضغة {نبتليه} في موضع الحال، أى: خلقناه مبتلين له، بمعنى: مريدين ابتلاءه، كقولك: مررت برجل معه صقر صائدا به غدا، تريد: قاصدا به الصيد غدا. ويجوز أن يراد: ناقلين له من حال إلى حال، فسمى ذلك ابتلاء على طريق الاستعارة. وعن ابن عباس: نصرفه في بطن أمّه نطفة ثم علقة. وقيل: هو في تقدير التأخير، يعنى: فجعلناه سميعا بصيرا لنبتليه، وهو من التعسف.

.[الإنسان: آية 3]

{إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ إِمَّا شاكراً وَإِمَّا كفوراً (3)}.
{شاكرا} و{كفورا}: حالان من الهاء في {هديناه}، أى: مكناه وأقدرناه في حالتيه جميعا.
أو دعوناه إلى الإسلام بأدلة العقل والسمع: كان معلوما منه أنه يؤمن أو يكفر، لإلزام الحجة. ويجوز أن يكونا حالين من {السبيل}، أى: عرفناه السبيل إما سبيلا شاكرا وإما سبيلا كفورا كقوله {وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ} ووصف السبيل بالشكر والكفر مجاز. وقرأ أبو السمال بفتح الهمزة في {إِمَّا} وهي قراءة حسنة. والمعنى: أما شاكرا فبتوفيقنا، وأما كفورا فبسوء اختياره.

.[الإنسان: آية 4]

{إِنَّا أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ سلاسل وَأَغْلالاً وَسَعِيراً (4)}.
ولما ذكر الفريقين أتبعهما الوعيد والوعد. وقرئ: {سلاسل}، غير منون. و{سلاسلا}، بالتنوين. وفيه وجهان: أحدهما أن تكون هذه النون بدلا من حرف الإطلاق، ويجرى الوصل مجرى الوقف. والثاني: أن يكون صاحب القراءة به ممن ضرى برواية الشعر ومرن لسانه على صرف غير المنصرف.

.[الإنسان: الآيات 5- 10]

{إِنَّ الْأَبْرارَ يشربونَ مِنْ كَأْسٍ كانَ مِزاجُها كافُوراً (5) عيناً يشرب بها عِبادُ الله يُفَجِّرُونَها تَفْجِيراً (6) يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخافُونَ يَوْماً كانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً (7) وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبه مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً (8) إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ الله لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزاءً وَلا شُكُوراً (9) إِنَّا نَخافُ مِنْ رَبِّنا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً (10)}
{الْأَبْرارَ} جمع برّ أو بارّ، كرب وأرباب، وشاهد وأشهاد. وعن الحسن: هم الذين لا يؤذون الذرّ. والكأس: الزجاجة إذا كانت فيها خمر، وتسمى الخمر نفسها: كأسا مِزاجُها ما تمزج به {كافُوراً} ماء كافور، وهو اسم عين في الجنة ماؤها في بياض الكافور ورائحته وبرده. و{عيناً} بدل منه. وعن قتادة: تمزج لهم بالكافور وتختم لهم بالمسك. وقيل: تخلق فيها رائحة الكافور وبياضه وبرده. فكأنها مزجت بالكافور. و{عيناً} على هذين القولين: بدل من محل {مِنْ كَأْسٍ} على تقدير حذف مضاف، كأنه قيل: يشربون فيها خمرا خمر عين. أو نصب على الاختصاص. فإن قلت: لم وصل فعل الشرب بحرف الابتداء أوّلا، وبحرف الإلصاق آخرا؟ قلت: لأنّ الكأس مبدأ شربهم وأوّل غايته، وأما العين فبها يمزجون شرابهم، فكان المعنى: يشرب عباد الله بها الخمر، كما تقول: شربت الماء بالعسل {يُفَجِّرُونَها} يجرونها حيث شاءوا من منازلهم {تَفْجِيراً} سهلا لا يمتنع عليهم {يُوفُونَ} جواب من عسى، يقول: ما لهم يرزقون ذلك، والوفاء بالنذر مبالغة في وصفهم بالتوفر على أداء الواجبات، لأنّ من وفي بما أوجبه هو على نفسه لوجه الله كان بما أوجبه الله عليه أو في {مُسْتَطِيراً} فاشيا منتشرا بالغا أقصى المبالغ، من استطار الحريق، واستطار الفجر. وهو من طار، بمنزلة استنفر من نفر {عَلى حُبه} الضمير للطعام، أى: مع اشتهائه والحاجة إليه. ونحوه {وَآتَى الْمالَ عَلى حُبه}، {لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} وعن الفضيل بن عياض: على حب الله {وَأَسِيراً} عن الحسن: كان رسول الله صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم يؤتى بالأسير فيدفعه إلى بعض المسلمين فيقول: أحسن إليه، فيكون عنده اليومين والثلاثة، فيؤثره على نفسه. وعند عامة العلماء: يجوز الإحسان إلى الكفار في دار الإسلام ولا تصرف إليهم الواجبات. وعن قتادة: كان أسيرهم يومئذ المشرك، وأخوك المسلم أحق أن تطعمه. وعن سعيد بن جبير وعطاء: هو الأسير من أهل القبلة. وعن أبى سعيد الخدري: هو المملوك والمسجون. وسمى رسول الله صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم الغريم: أسيرا، فقال: «غريمك أسيرك فأحسن إلى أسيرك».
{إِنَّما نُطْعِمُكُمْ} على إرادة القول. ويجوز أن يكون قولا باللسان منعا لهم عن المجازاة بمثله أو بالشكر، لأن إحسانهم مفعول لوجه الله، فلا معنى لمكافأة الخلق، وأن يكون قولهم لهم لطفا وتفقيها وتنبيها، على ما ينبغي أن يكون عليه من أخلص للّه. وعن عائشة رضى الله عنها أنها كانت تبعث بالصدقة إلى أهل بيت، ثم تسأل الرسول ما قالوا؟ فإذا ذكر دعاء دعت لهم بمثله ليبقى ثواب الصدقة لها خالصا عند الله.
ويجوز أن يكون ذلك بيانا وكشفا عن اعتقادهم وصحة نيتهم وإن لم يقولوا شيئا.
وعن مجاهد: أما إنهم ما تكلموا به، ولكن علمه الله منهم فأثنى عليهم. والشكور والكفور: مصدران كالشكر والكفر {إِنَّا نَخافُ} يحتمل إن إحساننا إليكم للخوف من شدة ذلك اليوم، لا لإرادة مكافأتكم، وإنا لا نريد منكم المكافأة لخوف عقاب الله تعالى على طلب المكافأة بالصدقة.
ووصف اليوم بالعبوس. مجاز على طريقين: أن يوصف بصفة أهله من الأشقياء، كقولهم: نهارك صائم: روى أن الكافر يعبس يومئذ حتى يسيل من بين عينيه عرق مثل القطران، وأن يشبه في شدته وضرره بالأسد العبوس أو بالشجاع الباسل: والقمطرير: الشديد العبوس الذي يجمع ما بين عينيه. قال الزجاج: يقال: اقمطرت الناقة: إذا رفعت ذنبها وجمعت قطريها وزمت بأنفها، فاشتقه من القطر وجعل الميم مزيدة. قال أسد بن ناعصة:
واصطليت الحروب في كلّ يوم ** باسل الشّرّ قمطرير الصّباح

.[الإنسان: الآيات 11- 22]

{فوقاهم الله شَرَّ ذلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً (11) وَجَزاهُمْ بِما صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيراً (12) متكئين فِيها عَلَى الْأَرائِكِ لا يَرَوْنَ فِيها شَمْساً وَلا زَمْهَرِيراً (13) وَدانية عَلَيْهِمْ ظِلالُها وَذللت قُطُوفُها تَذْلِيلاً (14) وَيُطافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوابٍ كانَتْ قَوارِيرَا (15) قَوارِيرَا مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوها تَقْدِيراً (16) وَيُسْقَوْنَ فِيها كَأْساً كانَ مِزاجُها زَنْجَبِيلاً (17) عيناً فِيها تُسَمَّى سَلْسَبِيلاً (18) وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ إِذا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤاً مَنْثُوراً (19) وَإِذا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيماً وَمُلْكاً كَبِيراً (20) عالِيَهُمْ ثِيابُ سُندُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبرق وَحُلُّوا أَساوِرَ مِنْ فِضَّةٍ وَسَقاهُمْ رَبهمْ شَراباً طَهُوراً (21) إِنَّ هذا كانَ لَكُمْ جَزاءً وَكانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُوراً (22)}.
{وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً} أى: أعطاهم بدل عبوس الفجار وحزنهم نضرة في الوجوه وسرورا في القلوب، وهذا يدل على أنّ اليوم موصوف بعبوس أهله {بِما صَبَرُوا} بصبرهم على الإيثار. وعن ابن عباس رضى الله عنه: «أنّ الحسن والحسين مرضا، فعادهما رسول الله صلى الله عليه وسلم في ناس معه، فقالوا: يا أبا الحسن، لو نذرت على ولدك، فنذر علىّ وفاطمة وفضة جارية لهما إن برآ مما بهما: أن يصوموا ثلاثة أيام، فشفيا وما معهم شيء، فاستقرض علىّ من شمعون الخيبري اليهودي ثلاث أصوع من شعير، فطحنت فاطمة صاعا واختبزت خمسة أقراص على عددهم، فوضعوها بين أيديهم ليفطروا فوقف عليهم سائل فقال: السلام عليكم أهل بيت محمد، مسكين من مساكين المسلمين، أطعمونى أطعمكم الله من موائد الجنة، فآثروه وباتوا لم يذوقوا إلا الماء، وأصبحوا صياما، فلما أمسوا ووضعوا الطعام بين أيديهم وقف عليهم يتيم، فآثروه، ووقف عليهم أسير في الثالثة، ففعلوا مثل ذلك، فلما أصبحوا أخذ على رضى الله عنه بيد الحسن والحسين وأقبلوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما أبصرهم وهم يرتعشون كالفراخ من شدّة الجوع قال: ما أشد ما يسوؤني ما أرى بكم، وقام فانطلق معهم فرأى فاطمة في محرابها قد التصق ظهرها ببطنها وغارت عيناها. فساءه ذلك، فنزل جبريل وقال: خذها يا محمد هنأك الله في أهل بيتك فأقرأه السورة. فإن قلت: ما معنى ذكر الحرير مع الجنة؟ قلت: المعنى وجزاهم بصبرهم على الإيثار وما يؤدّى إليه من الجوع والعرى بستانا فيه مأكل هنىّ، وحريرا فيه ملبس بهىّ. يعنى: أن هواءها معتدل، لا حرّ شمس يحمى ولا شدّة برد تؤذى». وفي الحديث: «هواء الجنة سجسج، لا حرّ ولا قرّ». وقيل: الزمهرير القمر.
وعن ثعلب: أنه في لغة طيئ. وأنشد:
وليلة ظلامها قد اعتكر ** قطعتها والزّمهرير ما زهر

والمعنى: أن الجنة ضياء فلا يحتاج فيها شمس وقمر. فإن قلت: {وَدانية عَلَيْهِمْ ظِلالُها} علام عطفت؟ قلت: على الجملة التي قبلها، لأنها في موضع الحال من المجزيين، وهذه حال مثلها عنهم لرجوع الضمير منها إليهم في عليهم، إلا أنها اسم مفرد، وتلك جملة في حكم مفرد تقديره: غير رائين فيها شمسا ولا زمهريرا، ودانية عليهم ظلالها، ودخلت الواو للدلالة على أن الأمرين مجتمعان لهم، كأنه قيل: وجزاهم جنة جامعين فيها بين البعد عن الحرّ والقرّ ودنوّ الظلال عليهم وقرئ: {ودانية}، بالرفع، على أن {ظلالها} مبتدأ، {ودانية} خبر، والجملة في موضع الحال، والمعنى: لا يرون فيها شمسا ولا زمهريرا، والحال أن ظلالها دانية عليهم، ويجوز أن تجعل {متكئين} و{لا يَرَوْنَ} و{دانية} كلها صفات لـ: {جنة}. ويجوز أن يكون {وَدانية} معطوفة على {جنة}، أى: وجنة أخرى دانية عليهم ظلالها، على أنهم وعدوا جنتين، كقوله {وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبه جَنَّتانِ} لأنهم وصفوا بالخوف: {إِنَّا نَخافُ مِنْ رَبِّنا}. فإن قلت: فعلام عطف {وَذللت} ؟
قلت: هي- إذا رفعت {وَدانية} -: جملة فعلية معطوفة على جملة ابتدائية، وإذا نصبتها على الحال، فهي حال من {دانية}، أى: تدنو ظلالها عليهم في حال تذليل قطوفها لهم. أو معطوفة عليها على: ودانية عليهم ظلالها، ومذللة قطوفها، وإذا نصبت {وَدانية} على الوصف، فهي صفة مثلها، ألا ترى أنك لو قلت: جنة ذللت قطوفها: كان صحيحا، وتذليل القطوف: أن تجعل ذللا لا تمتنع على قطافها كيف شاءوا. أو تجعل ذليلة لهم خاضعة متقاصرة، من قولهم: حائط ذليل إذا كان قصيرا {قَوارِيرَا قَوارِيرَا} قرئا غير منونين، وبتنوين الأول، وبتنوينهما. وهذا التنوين بدل من ألف الإطلاق، لأنه فاصلة، وفي الثاني لإتباعه الأوّل، ومعنى {قوارير من فِضَّةٍ} أنها مخلوقة من فضة، وهي مع بياض الفضة وحسنها في صفاء القوارير وشفيفها. فإن قلت: ما معنى كانت؟ قلت: هو من (يكون) في قوله {كُنْ فَيَكُونُ} أى: تكوّنت قوارير، بتكوين الله تفخيما لتلك الخلقة العجيبة الشأن، الجامعة بين صفتي الجوهرين المتباينين. ومنه كان في قوله: {كان مزاجها كافورا}. وقرئ: {قوارير من فضة}، بالرفع على: هي قوارير {قَدَّرُوها} صفة لـ: {قوارير من فضة}. ومعنى تقديرهم لها: أنهم قدروها في أنفسهم أن تكون على مقادير وأشكال على حسب شهواتهم، فجاءت كما قدّروا. وقيل: الضمير للطائفين بها، دل عليهم قوله {وَيُطافُ عَلَيْهِمْ} على أنهم قدروا شرابها على قدر الري، وهو ألذ للشارب لكونه على مقدار حاجته لا يفضل عنها ولا يعجز. وعن مجاهد: لا تفيض ولا تغيض. وقرئ: {قدّروها}، على البناء للمفعول. ووجهه أن يكون من قدر، منقولا من قدر. تقول: قدرت الشيء وقدرنيه فلان: إذا جعلك قادرا له. ومعناه: جعلوا قادرين لها كما شاءوا. وأطلق لهم أن يقدروا على حسب ما اشتهوا، سميت العين زنجبيلا لطعم الزنجبيل فيها، والعرب تستلذه وتستطيبه.
قال الأعشى:
كأنّ القر نفل والزّنجبيل ** باتا بفيها وأريا مشورا

وقال المسيب بن علس:
وكأنّ طعم الزّنجبيل به ** إذ ذقته وسلافة الخمر

{وسَلْسَبِيلًا} لسلاسة انحدارها في الحلق وسهولة مساغها، يعنى: أنها في طعم الزنجبيل وليس فيها لذعه، ولكن نقيض اللذع وهو السلاسة. يقال: شراب سلسل وسلسال وسلسبيل، وقد زيدت الباء في التركيب حتى صارت الكلمة خماسية. ودلت على غاية السلاسة.
قال الزجاج: السلسبيل في اللغة: صفة لما كان في غاية السلاسة. وقرئ: {سلسبيل}، على منع الصرف، لاجتماع العلمية والتأنيث، وقد عزوا إلى على بن أبى طالب رضى الله عنه أن معناه سل سبيلا إليها، وهذا غير مستقيم على ظاهره. إلا أن يراد أن جملة قول القائل: سل سبيلا، جعلت علما للعين، كما قيل: تأبط شرا، وذرّى حبا، وسميت بذلك لأنه لا يشرب منها إلا من سأل إليها سبيلا بالعمل الصالح، وهو مع استقامته في العربية تكلف وابتداع، وعزوه إلى مثل على رضى الله عنه أبدع.وفي شعر بعض المحدثين:
سل سبيلا فيها إلى راحة ال ** نّفس براح كأنّها سلسبيل

و {عيناً} بدل من {زَنْجَبِيلًا} وقيل: تمزج كأسهم بالزنجبيل بعينه. أو يخلق الله طعمه فيها.
و {عيناً} على هذا القول: مبدلة من {كَأْساً} كأنه قيل: ويسقون فيها كأسا كأس عين. أو منصوبة على الاختصاص. شبهوا في حسنهم وصفاء ألوانهم وانبثاثهم في مجالسهم ومنازلهم باللؤلؤ المنثور.
وعن المأمون: أنه ليلة زفت إليه بوران بنت الحسن بن سهل وهو على بساط منسوج من ذهب وقد نثرت عليه نساء دار الخلافة اللؤلؤ. فنظر إليه منثورا على ذلك البساط، فاستحسن المنظر وقال: للّه درّ أبى نواس، وكأنه أبصر هذا حيث يقول:
كأنّ صغرى وكبرى من فواقعها ** حصباء درّ على أرض من الذّهب

وقيل: شبهوا باللؤلؤ الرطب إذا نثر من صدفه، لأنه أحسن وأكثر ماء {رَأَيْتَ} ليس له مفعول ظاهر ولا مقدر ليشيع ويعم، كأنه قيل: وإذا أوجدت الرؤية، ثم. ومعناه: أن بصر الرائي أينما وقع لم يتعلق إدراكه إلا بنعيم كثير وملك كبير. و{ثَمَّ} في موضع النصب على الظرف، يعنى في الجنة ومن قال: معناه (ما ثم) فقد أخطأ، لأن (ثم) صلة لما، ولا يجوز إسقاط الموصول وترك الصلة {كَبِيراً} واسعا وهنيئا.
يروى: أن أدنى أهل الجنة منزلة ينظر في ملكه مسيرة ألف عام، يرى أقصاه كما يرى أدناه. وقيل لا زوال له. وقيل: إذا أرادوا شيأ كان. وقيل: يسلم عليهم الملائكة ويستأذنون عليهم. قرئ: {عاليهم}، بالسكون، على أنه مبتدأ خبره {ثِيابُ سُندُسٍ} أى ما يعلوهم من لباسهم ثياب سندس. و{عاليهم} بالنصب، على أنه حال من الضمير في {يَطُوفُ عَلَيْهِمْ} أو في {حَسِبْتَهُمْ} أى يطوف عليهم ولدان عاليا للمطوف عليهم ثياب. أو حسبتهم لؤلؤا عاليا لهم ثياب. ويجوز أن يراد: رأيت أهل نعيم وملك عاليهم ثياب. و{عاليتهم}: بالرفع والنصب على ذلك. و{عليهم}. و{خضر}. و{إستبرق}: بالرفع، حملا على الثياب بالجر على السندس.
وقرئ: {وإستبرق}، نصبا في موضع الجر على منع الصرف لأنه أعجمى، وهو غلط لأنه نكرة يدخله حرف التعريف، تقول: الإستبرق، إلا أن يزعم ابن محيصن أنه قد يجعل علما لهذا الضرب من الثياب. وقرئ: {وإستبرق}، بوصل الهمزة والفتح: على أنه مسمى باستفعل من البريق، وليس بصحيح أيضا، لأنه معرب مشهور تعريبه، وأنّ أصله: استبره {وَحُلُّوا} عطف على {وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ}. فإن قلت: ذكر هاهنا أنّ أساورهم من فضة، وفي موضع آخر أنها من ذهب. قلت: هب أنه قيل: وحلوا أساور من ذهب ومن فضة، وهذا صحيح لا إشكال فيه، على أنهم يسوّرون بالجنسين: إما على المعاقبة، وإما على الجمع، كما تزاوج نساء الدنيا بين أنواع الحلي وتجمع بينها، وما أحسن بالمعصم أن يكون فيه سواران: سوار من ذهب، وسوار من فضة {شَراباً طَهُوراً} ليس برجس كخمر الدنيا، لأنّ كونها رجسا بالشرع لا بالعقل، وليست الدار دار تكليف. أو لأنه لم يعصر فتمسه الأيدى الوضرة، وتدوسه الأقدام الدنسة، ولم يجعل في الدنان والأباريق التي لم يعن بتنظيفها. أو لأنه لا يئول إلى النجاسة لأنه يرشح عرقا من أبدانهم له ريح كريح المسك. أى: يقال لأهل الجنة إِنَّ هذا وهذا إشارة إلى ما تقدّم من عطاء الله لهم: ما جوزيتم به على أعمالكم وشكر به سعيكم، والشكر مجاز.

.[الإنسان: الآيات 23- 26]

{إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنا عَلَيْكَ القرآن تَنْزِيلاً (23) فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كفوراً (24) وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلاً (25) وَمِنَ اللَّيل فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلاً طَوِيلاً (26)}.
تكرير الضمير بعد إيقاعه اسما لإنّ: تأكيد على تأكيد لمعنى اختصاص الله بالتنزيل، ليتقرّر في نفس رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه إذا كان هو المنزل لم يكن تنزيله على أى وجه نزل إلا حكمة وصوابا، كأنه قيل: ما نزّل عليك القرآن تنزيلا مفرقا منجما إلا أنا لا غيرى، وقد عرفتني حكيما فاعلا لكل ما أفعله بدواعى الحكمة، ولقد دعتني حكمة بالغة إلى أن أنزل عليك الأمر بالمكافة والمصابرة، وسأنزل عليك الأمر بالقتال والانتقام بعد حين {فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ} الصادر عن الحكمة وتعليقه الأمور بالمصالح، وتأخيره نصرتك على أعدائك من أهل مكة، ولا تطع منهم أحدا قلة صبر منك على أذاهم وضجرا من تأخر الظفر، وكانوا مع إفراطهم في العداوة والإيذاء له ولمن معه يدعونه إلى أن يرجع عن أمره ويبذلون له أموالهم وتزويج أكرم بناتهم إن أجابهم. فإن قلت: كانوا كلهم كفرة، فما معنى القسمة في قوله {آثِماً أَوْ كفوراً} ؟ قلت: معناه ولا تطع منهم راكبا لما هو إثم داعيا لك إليه. أو فاعلا لما هو كفر داعيا لك إليه، لأنهم إما أن يدعوه إلى مساعدتهم على فعل هو إثم أو كفر، أو غير إثم ولا كفر، فنهى أن يساعدهم على الاثنين دون الثالث. وقيل: الآثم عتبة، والكفور: الوليد، لأنّ عتبة كان ركابا للمآثم، متعاطيا لأنواع الفسوق، وكان الوليد غالبا في الكفر شديد الشكيمة في العتوّ. فإن قلت: معنى أو: ولا تطع أحدهما، فهلا جيء بالواو ليكون نهيا عن طاعتهما جميعا؟ قلت: لو قيل: ولا تطعهما، جاز أن يطيع أحدهما، وإذا قيل: لا تطع أحدهما، علم أنّ الناهي عن طاعة أحدهما: عن طاعتهما جميعا أنهى. كما إذا نهى أن يقول لأبويه: أف، علم أنه منهى عن ضربهما على طريق الأولى {وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلًا} ودم على صلاة الفجر والعصر {وَمِنَ اللَّيل فَاسْجُدْ لَهُ} وبعض الليل فصل له. أو يعنى صلاة المغرب والعشاء، وأدخل {مِنَ} على الظرف للتبعيض، كما دخل على المفعول في قوله {لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ}. {وَسَبِّحْهُ لَيْلًا طَوِيلًا} وتهجد له هزيعا طويلا من الليل: ثلثيه، أو نصفه، أو ثلثه.

.[الإنسان: الآيات 27- 28]

{إِنَّ هؤُلاءِ يُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَراءَهُمْ يَوْماً ثَقِيلاً (27) نَحْنُ خَلَقْناهُمْ وَشَدَدْنا أَسْرَهُمْ وَإِذا شِئْنا بَدَّلْنا أَمْثالَهُمْ تَبْدِيلاً (28)}.
{إِنَّ هؤُلاءِ} الكفرة {يُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ} يؤثرونها على الآخرة، كقوله {بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا}. {وَراءَهُمْ} قدّامهم أو خلف ظهورهم لا يعبئون به {يَوْماً ثَقِيلًا} استعير الثقيل لشدّته وهو له، من الشيء الثقيل الباهظ لحامله. ونحوه: {ثَقُلَتْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ} الأسر: الربط والتوثيق. ومنه: أسر الرجل إذا أوثق بالقدّ وهو الإسار. وفرس مأسور الخلق. وترس مأسور بالعقب. والمعنى: شددنا توصيل عظامهم بعضها ببعض، وتوثيق مفاصلهم بالأعصاب. ومثله قولهم: جارية معصوبة الخلق ومجدولته {وَإِذا شِئْنا} أهلكناهم و{بَدَّلْنا أَمْثالَهُمْ} في شدّة الأسر، يعنى: النشأة الأخرى. وقيل: معناه: بدلنا غيرهم ممن يطيع. وحقه أن يجيء بإن، لا بإذا، كقوله {وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ}، {إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ}.

.[الإنسان: الآيات 29- 31]

{إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبه سَبِيلاً (29) وَما تَشاؤُنَ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ الله إِنَّ الله كانَ عَلِيماً حَكِيماً (30) يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً (31)}.
{هذِهِ} إشارة إلى السورة أو إلى الآيات القريبة {فَمَنْ شاءَ} فمن اختار الخير لنفسه وحسن العاقبة واتخاذ السبيل إلى الله عبارة عن التقرب إليه والتوسل بالطاعة {وَما تَشاؤُنَ} الطاعة {إِلَّا أَنْ يَشاءَ الله} بقسرهم عليها {إِنَّ الله كانَ عَلِيماً} بأحوالهم وما يكون منهم {حَكِيماً} حيث خلقهم مع علمه بهم. وقرئ: {تشاؤن}، بالتاء. فإن قلت: ما محل {أَنْ يَشاءَ الله} ؟ قلت النصب على الظرف، وأصله: إلا وقت مشيئة الله، وكذلك قراءة ابن مسعود: {إلا ما يشاء الله}. لأنّ ما مع الفعل كأن معه {يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ} هم المؤمنون ونصب {الظَّالِمِينَ} بفعل يفسره. أعدّ لهم، نحو: أوعد وكافأ، وما أشبه ذلك. قرأ ابن مسعود: {وللظالمين}، على: وأعدّ للظالمين وقرأ ابن الزبير: {والظالمون} على الابتداء، وغيرها أولى لذهاب الطباق بين الجملة المعطوفة والمعطوف عليها فيها، مع مخالفتها للمصحف.
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قرأ سورة هل أتى كان جزاؤه على الله جنة وحريرا». اهـ.

.قال الماوردي:

سورة الإنسان:
قال ابن عباس ومقاتل والكلبي ويحيى بن سلام: هي مكية، وقال آخرون فيها مكي من قوله تعالى: {إنا نحن نزّلنا عليك القرآن تنزيلاً} إلى آخرها وما تقدم مدني.
قوله تعالى: {هلْ أتَى على الإنسان حينٌ من الدهْرِ لم يكُنْ شيئاً مذكوراً}
في قوله (هل) وجهان:
أحدهما: أنها في هذا الموضع بمعنى قد، وتقدير الكلام: {قد أتى على الإنسان} الآية، على معنى الخبر، قاله الفراء وأبو عبيدة.
الثاني: أنه بمعنى {أتى على الإنسان} الآية، على وجه الاستفهام، حكاه ابن عيسى.
وفي هذا {الإنسان} قولان:
أحدهما: أنه آدم، قاله قتادة والسدي وعكرمة، وقيل إنه خلقه بعد خلق السموات والأرض، وما بينهما في آخر اليوم السادس وهو آخر يوم الجمعة.
الثاني: أنه كل إنسان، قاله ابن عباس وابن جريج.
وفي قوله تعالى: {حينٌ من الدهر} ثلاثة أقاويل:
أحدهأ: أنه أربعون سنة مرت قبل أن ينفخ فيه الروح، وهو ملقى بين مكة والطائف، قاله ابن عباس في رواية أبي صالح عنه.
الثاني: أنه خلق من طين فأقام أربعين سنة، ثم من حمأ مسنون أربعين سنة، ثم من صلصال أربعين سنة، فتم خلقه بعد مائة وعشرين سنة، ثم نفخ فيه الروح، وهذا قول ابن عباس في رواية الضحاك.
الثالث: أن الحين المذكور هاهنا وقت غير مقدر وزمان غير محدود، قاله ابن عباس أيضاً.
وفي قوله: {لم يكن شيئاً مذكوراً} وجهان:
أحدهما: لم يكن شيئاً مذكوراً في الخلق، وإن كان عند الله شيئاً مذكوراً، قاله يحيى بن سلام.
الثاني: أي كان جسداً مصوّراً تراباً وطيناً، لا يذكر ولا يعرف، ولا يدري ما اسمه، ولا ما يراد به، ثم نفخ فيه الروح فصار مذكوراً، قاله الفراء، وقطرب وثعلب.
وقال مقاتل: في الكلام تقديم وتأخير، وتقديره: هل أتى حين من الدهر لم يكن الإنسان شيئاً مذكوراً، لأنه خلقه بعد خلق الحيوان كله ولم يخلق بعده حيواناً.
{إنّا خلقْنا الإنسان من نُطْفَةٍ أمْشاجٍ} يعني بالإنسان في هذا الموضع كل إنسان من بني آدم في قول جميع المفسرين.
وفي النطفة قولان:
أحدهما: ماء الرجل وماء المرأة إذا اختلطا فهما نطفة، قاله السدي.
الثاني: أن النطفة ماء الرجل، فإذا اختلط في الرحم وماء المرأة صارا أمشاجاً.
وفي الأمشاج أربعة أقاويل:
أحدها: أنه الأخلاط، وهو أن يختلط ماء الرجل بماء المرأة، قاله الحسن وعكرمة، ومنه قول رؤبة بن العجاج:
يطرحن كل مُعْجَل نشاجِ ** لم يُكْسَ جلداً في دم أمشاج

الثاني: أن الأمشاج الألوان، قاله ابن عباس، وقال مجاهد:
نطفة الرجل بيضاء وحمراء، ونطفة المرأة خضراء وصفراء.
روى سعيد عن قتادة عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ماء الرجل غليظ أبيض، وماء المرأة رقيق أصفر فأيهما سبق أو علا فمنه يكون الشبه».
الثالث: أن الأمشاج: الأطوار، وهو أن الخلق يكون طوراً نطفة، وطوراً علقة، وطوراً مضغة، ثم طوراً عظماً، ثم يكسى العظم لحماً، قاله قتادة.
الرابع: أن الأمشاج العروق التي تكون في النطفة، قاله ابن مسعود.
وفي قوله: {نبتليه} وجهان:
أحدهما: نختبره.
الثاني: نكلفه بالعمل.
فإن كان معناه الاختبار ففيما يختبر به وجهان:
أحدهما: نختبره بالخير والشر، قاله الكلبي.
الثاني: نختبر شكره في السراء، وصبره في الضراء، قاله الحسن.
ومن جعل معناه التكليف ففيما كلفه وجهان:
أحدهما: العمل بعد الخلق، قاله مقاتل.
الثاني: الدين، ليكون مأموراً بالطاعة، ومنهياً عن المعاصي.
{فَجَعَلْناه سميعاً بصيراً} ويحتمل وجهين:
أحدهما: أي يسمع بالأذنين ويبصر بالعينين أمتناناً بالنعمة عليه.
الثاني: ذا عقل وتمييز ليكون أعظم في الامتنان حيث يميزه من جميع الحيوان.
وقال الفراء ومقاتل: في الآية تقديم وتأخير أي فجعلناه سميعاً بصيراً أن نبتليه، فعلى هذا التقديم في الكلام اختلفوا في ابتلائه على قولين:
أحدهما: ما قدمناه من جعله اختباراً أو تكليفاً.
الثاني: لنبتليه بالسمع والبصر، قاله ابن قتيبة.
{إنّا هَدَيْناه السّبيلَ} فيه أربعة تأويلات:
أحدها: سبيل الخير والشر، قاله عطية.
الثاني: الهدى من الضلالة، قاله عكرمة.
الثالث: سبيل الشقاء والسعادة، قاله مجاهد.
الرابع: خروجه من الرحم، قاله أبو صالح والضحاك والسدي.
ويحتمل خامساً: سبيل منافِعِه ومضارِّه التي يهتدي إليها بطبعه، وقيل: كمال عقله.
{إمّا شاكراً وإمّا كفوراً} فيه وجهان:
أحدهما: إما مؤمناً وإما كافراً، قاله يحيى بن سلام.
الثاني: إما شكوراً للنعمة وإما كفوراً بها، قاله قتادة.
وجمع بين الشاكر والكفور ولم يجمع بين الشكور والكفور- مع إجتماعهما في معنى المبالغة- نفياً للمبالغة في الشكر وإثباتاً لها في الكفر، لأن شكر الله تعالى لا يُؤدَّى فانتفت عنه المبالغة، ولم تنتف عن الكفر المبالغة، فقل شكره لكثرة النعم عليه، وكثر كفره وإن قل مع الإحسان إليه.
{إن الإبرار يشربونَ} في الأبرار قولان:
أحدهما: أنهم الصادقون، قاله الكلبي.
الثاني: المطيعون، قاله مقاتل.
وفيما سُمّوا أبراراً ثلاثة أقاويل:
أحدها: سمّوا بذلك لأنهم برّوا الآباء والأبناء، قاله ابن عمر.
الثاني: لأنهم كفوا الأذى، قاله الحسن.
الثالث: لأنهم يؤدون حق الله ويوفون بالنذر، قاله قتادة.
وقوله: {مِن كأسٍ} يعني الخمر، قال الضحاك: كل كأس في القرآن فإنما عنى به الخمر.
وفي وقوله: {كان مِزاجها كافوراً} قولان:
أحدهما: أن كافوراً عين في الجنة اسمها كافور، قاله الكلبي.
الثاني: أنه الكافور من الطيب فعلى هذا في المقصود منه في مزاج الكأس به ثلاثة أقاويل:
أحدها: برده، قال الحسن: ببرد الكافور وطعم الزنجبيل.
الثاني: بريحه، قاله قتادة: مزج بالكافور وختم بالمسك.
الثالث: طعمه، قال السدي: كأن طعمه طعم الكافور.
{عيناً يشرب بها عبادُ الله} يعني أولياء الله، لأن الكافر لا يشرب منها شيئاً وإن كان من عباد الله، وفيه وجهان:
أحدهما: ينتفع بها عباد الله، قاله الفراء.
الثاني: يشربها عباد الله.
قال مقاتل: هي التسنيم، وهي أشرف شراب لاجنة، يشرب بها المقربون صِرفاً، وتمزج لسائر أهل الجنة بالخمر واللبن والعسل.
{يُفَجِّرونَها تفْجيراً} فيه وجهان:
أحدهما: يقودونها إلى حيث شاءوا من الجنة، قاله مجاهد.
الثاني: يمزجونها بما شاءوا، قاله مقاتل.
ويحتمل وجهاً ثالثاً: أن يستخرجوه من حيث شاءوا من الجنة.
وفي قوله {تفجيراً} وجهان:
أحدهما: أنه مصدر قصد به التكثير.
الثاني: أنهم يفجرونه من تلك العيون عيوناً لتكون أمتع وأوسع.
{يُوفُونَ بالنّذْرِ} فيه أربعة أوجه:
أحدها: يوفون بما افترض الله عليهم من عبادته، قاله قتادة.
الثاني: يوفون بما عقدوه على أنفسهم من حق الله، قاله مجاهد.
الثالث: يوفون بالعهد لمن عاهدوه، قاله الكلبي.
الرابع: يوفون بالإيمان إذا حلفوا بها، قاله مقاتل.
ويحتمل خامساً: أنهم يوفون بما أُنذِروا به من وعيده.
{ويَخافون يوْماً كان شَرُّه مُسْتَطيراً} قال الكلبي عذاب يوم كان شره مستطيراً، وفيه وجهان:
أحدهما: فاشياً، قاله ابن عباس والأخفش.
الثاني: ممتداً، قاله الفراء، ومنه قول الأعشى:
فبانتْ وقد أَوْرَثَتْ في الفؤادِ ** صَدْعاً على نأيها مُستطيرا

أي ممتداً.
ويحتمل وجهاً ثالثاً يعني سريعاً.
{ويُطْعمونَ الطعامَ على حُبه} فيه ثلاثة أوجه:
أحدها: على حب الطعام، قاله مقاتل.
الثاني: على شهوته، قاله الكلبي.
الثالث: على قلته، قاله قطرب.
{مسكيناً ويتيماً وأسيراً} في الأسير ثلاثة أقاويل:
أحدها: أنه المسجون المسلم، قاله مجاهد.
الثاني: أنه العبد، قاله عكرمة.
الثالث: أسير المشركين، قاله الحسن وسعيد بن جبير.
قال سعيد بن جبير: ثم نسخ أسير المشركين بالسيف، وقال غيره بل هو ثابت الحكم في الأسير بإطعامه، إلا أن يرى الإمام قتله.
ويحتمل وجهاً رابعاً: أن يريد بالأسير الناقص العقل، لأنه في أسر خبله وجنونه، وإن أسر المشركين انتقام يقف على رأي الإمام وهذا بر وإحسان.
{إنّما نُطْعِمُكم لوجْهِ الله} قال مجاهد: إنهم لم يقولوا ذلك، لكن علمه الله منهم فأثنى عليهم ليرغب في ذلك راغب.
{لا نُريدُ منكم جزاءً ولا شُكوراً} جزاء بالفعال، وشكوراً بالمقال وقيل إن هذه الآية نزلت فيمن تكفل بأسرى بدر، وهم سبعة من المهاجرين أبو بكر وعمر وعلي والزبير وعبد الرحمن بن عوف وسعيد وأبو عبيدة.
{إنّا نخافُ من ربِّنا يوماً عَبوساً قمْطريراً} فيه ثلاثة أوجه:
أحدها: أن العبوس الذي يعبس الوجوه من شره، والقمطرير الشديد، قاله ابن زيد.
الثاني: أن العبوس الضيق، والقمطرير الطويل، قاله ابن عباس، قال الشاعر:
شديداً عبوساً قمطريراً تخالهُ ** تزول الضحى فيه قرون المناكب

الثالث: أن العُبوس بالشفتين، والقمطرير بالجبهة والحاجبين، فجعلها من صفات الوجه المتغير من شدائد ذلك اليوم، قاله مجاهد، وأنشد ابن الأعرابي:
يَغْدو على الصّيْدِ يَعودُ مُنكَسِرْ ** ويَقْمَطُّر ساعةً ويكْفَهِرّ.

{فوقاهم الله شَرَّ ذلك اليومِ ولَقّاهُمْ نَضْرةً وسُروراً} قال الحسن النضرة من الوجوه، والسرور في القلوب.
وفي النضرة ثلاثة أوجه:
أحدها: أنها البياض والنقاء، قاله الضحاك.
الثاني: أنها الحسن والبهاء، قاله ابن جبير.
الثالث: أنها أثر النعمة، قاله ابن زيد.
{وجَزاهم بما صَبروا} يحتمل وجهين:
أحدهما: بما صبروا على طاعة الله.
الثاني: بما صبروا على الوفاء بالنذر.
{جَنَّةً وحريراً} فيه وجهان:
أحدهما: جنة يسكنونها، وحريراً يلبسونه.
الثاني: أن الجنة المأوى، والحرير أبد العيش في الجنة، ومنه لبس الحرير ليلبسون من لذة العيش.
واختلف فيمن نزلت هذه الآية على قولين:
أحدهما: ما حكاه الضحاك عن جابر أنها نزلت في مطعم بن ورقاء الأنصاري نذر نذراً فوفاه.
الثاني: ما حكاه عمرو عن الحسن أنها نزلت في علي وفاطمة... رضي الله عنهما وذلك أن علياً وفاطمة نذرا صوماً فقضياه، وخبزت فاطمة ثلاثة أقراص من شعير ليفطر علّي على أحدها وتفطر هي على الآخر، ويأكل الحسن والحسين الثالث، فسألها مسكين فتصدقت عليه بأحدها، ثم سألها يتيم فتصدقت عيله بالآخر، ثم سألها أسير فتصدقت عليه بالثالث، وباتوا طاوين.
{متكئين فيها على الأرائِك} وفيها مع ما قدّمناه من تفسيرها قولان:
أحدهما: أنها الأسرّة، قاله ابن عباس.
الثاني: أنها كل ما يتكأ عليه، قاله الزجاج.
{لا يَرَوْنَ فيها شمْساً ولا زَمْهَريراً} أما المراد بالشمس ففيه وجهان:
أحدهما: أنهم في ضياء مستديم لا يحتاجون فيه إلى ضياء، فيكون عدم الشمس مبالغة في وصف الضياء.
الثاني: أنهم لا يرون فيها شمساً فيتأذون بحرها، فيكون عدمها نفياً لأذاها.
وفي الزمهرير ثلاثة أوجه:
أحدها: أنه البرد الشديد، قال عكرمة لأنهم لا يرون في الجنة حراً ولا برداً.
الثاني: أنه لون في العذاب، قاله ابن مسعود.
الثالث: أنه من هذا الموضع القمر، قاله ثعلب وأنشد:
وليلةٍ ظلامُها قد اعتكَرْ ** قطْعتها والزمهريرُ ما ظَهَرْ

وروي ما زهر، ومعناه أنهم في ضياء مستديم لا ليل فيه ولا نهار، لأن ضوء النهار بالشمس، وضوء الليل بالقمر.
{... وذللت قُطوفُها تذْليلاً} فيه وجهان:
أحدهما: أنه لا يرد أيديهم عنها شوك ولا بعد، قاله قتادة.
الثاني: أنه إذا قام ارتفعت، وإذا قعد نزلت، قاله مجاهد.
ويحتمل ثالثاً: أن يكون تذليل قطوفها أن تبرز لهم من أكمامها وتخلص من نواها.
{... وأَكْوابٍ كانت قَواريرَا قواريرَا من فِضّةٍ} أما الأكواب فقد ذكرنا ما هي من جملة الأواني.
وفي قوله تعالى: {قوارير من فضة} وجهان:
أحدهما: أنها من فضة من صفاء القوارير، قاله الشعبي.
الثاني: أنها من قوارير في بياض الفضة، قاله أبو صالح.
وقال ابن عباس: قوارير كل أرض من تربتها، وأرض الجنة الفضة فلذلك كانت قواريرها فضة.
{قَدَّرُوها تقْديراً} فيه خمسة أقاويل:
أحدها: أنهم قدروها في أنفسهم فجاءت على ما قدروها، قاله الحسن.
الثاني: على قدر ملء الكف، قاله الضحاك.
الثالث: على مقدار لا تزيد فتفيض، ولا تنقص فتغيض، قاله مجاهد.
الرابع: على قدر ريهم وكفايتهم، لأنه ألذ وأشهى، قاله الكلبي.
الخامس: قدرت لهم وقدروا لها سواء، قاله الشعبي.
{ويُسْقَونَ فيها كأساً كان مِزاجُها زَنْجبيلاً} فيه ثلاثة أقاويل:
أحدها: تمزج بالزنجبيل، وهو مما تستطيبه العرب لأنه يحذو اللسان ويهضم المأكول، قاله السدي وابن أبي نجيح.
الثاني: أن الزنجبيل اسم للعين التي فيها مزاج شراب الأبرار، قاله مجاهد.
الثالث: أن الزنجبيل طعم من طعوم الخمر يعقب الشرب منه لذة، حكاه ابن شجرة، ومنه قول الشاعر:
وكأن طعْمَ الزنجبيلِ به ** اذْ ذُقْتُه وسُلافَةَ الخمْرِ

{عيناً فيها تُسَمّى سَلْسَبيلاً} فيه ستة أقاويل:
أحدها: أنه اسم لها، قاله عكرمة.
الثاني: معناه سلْ سبيلاً إليها، قاله علّي رضي الله عنه.
الثالث: يعني سلسلة السبيل، قاله مجاهد.
الرابع: سلسلة يصرفونها حيث شاءوا، قاله قتادة.
الخامس: أنها تنسلّ في حلوقهم انسلالاً، قاله ابن عباس.
السادس: أنها الحديدة الجري، قاله مجاهد أيضاً، ومنه قول حسان بن ثابت:
يَسْقُون من وَرَدَ البريصَ عليهم ** كأساً تُصَفِّقُ بالرحيق السِّلْسَل

وقال مقاتل: إنما سميت السلسبيل لأنها تنسل عليهم في مجالسهم وغرفهم وطرقهم.
{ويَطوفُ عليهم وِلْدانٌ مُخَلّدونَ} فيه ثلاثة أقاويل:
أحدها: مخلدون لا يموتون، قاله قتادة.
الثاني: صغار لا يكبرون وشبابٌ لا يهرمون، قاله الضحاك والحسن.
الثالث: أي مُسَوَّرون، قاله ابن عباس، قال الشاعر:
ومُخَلّداتٍ باللُّجَيْنِ كأنما ** أعْجازُهنّ أقاوزُ الكُثْبانِ

{إذا رَأَيْتَهم حَسِبْتَهم لُؤْلُؤاً مَنْثوراً} فيه قولان:
أحدها: أنهم مشبهون باللؤلؤ المنثور لكثرتهم، قاله قتادة.
الثاني: لصفاء ألوانهم وحسن منظرهم وهو معنى قول سفيان.
{وإذا رأَيْتَ ثمَّ} يعني الجنة.
{رأَيْتَ نَعيماً} فيه وجهان:
أحدهما: يريد كثرة النعمة.
الثاني: كثرة النعيم.
{ومُلْكاً كبيراً} فيه وجهان:
أحدهما: لسعته وكثرته.
الثاني: لاستئذان الملائكة عليهم وتحيتهم بالسلام.
ويحتمل ثالثاً: أنهم لا يريدون شيئاً إلا قدروا عليه.
{وسقاهم ربهم شَراباً طَهوراً} فيه ثلاثة أقاويل:
أحدها: أنه وصفه بذلك لأنهم لا يبولون منه ولا يُحْدِثون عنه، قاله عطية، قال إبراهيم التميمي: هو عَرَق يفيض من أعضائهم مثل ريح المسك.
الثاني: لأن خمر الجنة طاهرة، وخمر الدنيا نجسة، فلذلك وصفه الله تعالى بالطهور، قاله ابن شجرة.
الثالث: أن أنهار الجنة ليس فيها نجس كما يكون في أنهار الدنيا وأرضها حكاه ابن عيسى.
{ولا تُطِعْ منهم آثِماً أو كفوراً} قيل إنه عنى أبا جهل، يريد بالآثم المرتكب للمعاصي، وبالكفور الجاحد للنعم.
{واذكُر اسمَ رَبِّك بُكرَةً وأصيلاً} يعني في أول النهار وآخره، ففي أوله صلاة الصبح، وفي آخره صلاة الظهر والعصر.
{ومِنَ الليلِ فاسْجدْ له} يعني صلاة المغرب والعشاء الآخرة.
{وسَبِّحْهُ ليلاً طويلاً} يعني التطوع من الليل.
قال ابن عباس وسفيان: كل تسبيح في القرآن هو صلاة.
{إنّ هؤلاءِ يُحِبّونَ العاجلةَ} يحتمل في المراد بهم قولين:
أحدهما: أنه أراد بهم اليهود وما كتموه من صفة لرسول الله صلى الله عليه وسلم وصحة نبوّته. الثاني: أنه أراد المنافقين لاستبطانهم الكفر.
ويحتمل قوله: {يحبون العاجلة} وجهين:
أحدهما: أخذ الرشا على ما كتموه إذا قيل إنهم اليهود.
الثاني: طلب الدنيا إذا قيل إنهم المنافقون.
{ويَذَرُونَ وراءَهم يوماً ثقيلاً} يحتمل وجهين:
أحدهما: ما يحل بهم من القتل والجلاء إذا قيل إنهم اليهود.
الثاني: يوم القيامة إذا قيل إنهم المنافقون.
فعلى هذا يحتمل قوله {ثقيلاً} وجهين:
أحدهما: شدائده وأحواله.
الثاني: للقِصاص من عباده.
{نحن خَلقْناهم وشَدَدْنا أَسْرَهم} في أسرهم ثلاثة أوجه:
أحدها: يعني مفاصلهم، قاله أبو هريرة.
الثاني: خلقهم، قاله ابن عباس ومجاهد وقتادة قال لبيد:
ساهم الوجه شديد أسْرُه ** مشرف الحارك محبوك الكفل

الثالث: أنه القوة، قاله ابن زيد، قال ابن أحمر في وصف فرس:
يمشي لأوظفةٍ شدادٍ أسْرُها ** صُمِّ السنابِك لاتقى بالجَدْجَدِ

ويحتمل هذا القول منه تعالى وجهين:
أحدهما: امتناناً عليهم بالنعم حين قابلوها بالمعصية.
الثاني: تخويفاً لهمن بسلب النعم.
{وإذا شئنا بدّلْنا أمثالَهم تبديلاً} يحتمل وجهين:
أحدهما: أمثال من كفر بالنعم وشكرها.
الثاني: من كفر بالرسل بمن يؤمن بها.
{إنّ هذه تَذْكِرةٌ} يحتمل بالمراد ب {هذه} وجهين:
أحدهما: هذه السورة.
الثاني: هذه الخلقة التي خلق الإنسان عليها.
ويحتمل قوله {تذكرة} وجهين:
أحدهما: إذكار ما غفلت عنه عقولهم.
الثاني: موعظة بما تؤول إليه أمورهم.
{فَمَنْ شاءَ اتَخَذَ إلى ربه سَبيلاً} يحتمل وجهين:
أحدهما: طريقاً إلى خلاصه.
الثاني: وسيلة إلى جنته. اهـ.

.قال ابن الجوزي:

سورة الإنسان:
قوله تعالى: {هل أتى}
قال الفراء: معناه: قد أتى.
و (هل) تكون خبراً، وتكون جحداً، فهذا من الخبر، لأنك تقول: هل وعظتك؟ هل أعطيتك؟ فتقرِّره بأنك قد فعلت ذلك.
والجحد، أن تقول: وهل يقدر أحد على مثل هذا؟ وهذا قول المفسرين، وأهل اللغة.
وفي هذا الإنسان قولان.
أحدهما: أنه آدم عليه السلام.
والحين.
الذي أتى عليه: أربعون سنة، وكان مصوَّراً من طين لم يُنُفَخ فيه الروح، هذا قول الجمهور.
والثاني: أنه جميع الناس، روي عن ابن عباس، وابن جريج، فعلى هذا يكون الإنسان اسم جنس، ويكون الحين زمان كونه نطفة، وعلقة، ومضغة.
قوله تعالى: {لم يكن شيئاً مذكوراً} المعنى: أنه كان شيئاً، غير أنه لم يكن مذكوراً.
قوله تعالى: {إِنَّا خلقنا الإنسان} يعني: ولد آدم {من نطفة أمشاج} قال ابن قتيبة: أي: أخلاط.
يقال: مشجته، فهو مشيج، يريد: اختلاط ماء المرأة بماء الرجل.
قوله تعالى: {نبتليه} قال الفراء: هذا مقدّم، ومعناه التأخير، لأن المعنى: خلقناه وجعلناه سميعاً بصيراً لنبتليه.
قال الزجاج: المعنى: جعلناه كذلك لنختبره.
وقوله تعالى: {إنا هديناه السبيل} أي: بيَّنَّا له سبيل الهدى بنصب الأَدلة، وبعث الرسول {إما شاكراً} أي: خلقناه إما شاكراً {وإما كفوراً} قال الفراء: بيَّنَّا له الطريق إن شكر، أو كفر.
قوله تعالى: {إنا اعتدنا للكافرين سلاسلاً} قرأ ابن كثير، وابن عامر، وحمزة: {سلاسل} بغير تنوين ووقفوا بألف.
ووقف أبو عمرو بألف.
قال مكي بن أبي طالب النحوي: {سلاسل} و{قوارير} أصله أن لا ينصرف، ومن صرفه من القراء، فإنها لغة لبعض العرب.
وقيل: إنما صرفه لأنه وقع في المصحف بالألف، فصرفه لاتباع خط المصحف.
قال مقاتل: السلاسل في أعناقهم، والأغلال في أيديهم.
وقد شرحنا معنى {السعير} في [النساء: 10].
قوله تعالى: {إن الأبرار} واحدهم بَرٌّ، وبَارٌّ، وهم الصادقون.
وقيل: المطيعون.
وقال الحسن: هم الذين لا يؤذون الذَّر {يشربون من كأس} أي: من إناءٍ فيه شراب {كان مزاجها} يعني: مزاج الكأس {كافوراً} وفيه ثلاثة أقوال:
أحدها: أنه الكافور المعروف، قاله مجاهد، ومقاتل، فعلى هذا في المراد (بالكافور) ثلاثة أقوال.
أحدها: برده، قاله الحسن.
والثاني: ريحه، قاله قتادة.
والثالث: طعمه، قاله السدي.
والثاني: أنه اسم عين في الجنة، قاله عطاء، وابن السائب.
والثالث: أن المعنى: مزاجها كالكافور لطيب ريحه، أجازه الفراء، والزجاج.
قوله تعالى: {عيناً} قال الفراء: هي المفسرة للكافور، وقال الأخفش: هي منصوبة على معنى: أعني عيناً.
وقال الزجاج: الأجود أن يكون المعنى: من عين، {يشرب بها} فيه ثلاثة أقوال.
أحدها: يشرب منها.
والثاني: يشربها، والباء صلة.
والثالث: يشرب بها عباد الله الخمر يمزجونها بها.
وفي هذه العين قولان.
أحدهما: أنها الكافور الذي سبق ذكره.
والثاني: التسنيم، و{عباد الله} هاهنا: أولياؤه {يفجِّرونها تفجيراً} قال مجاهد: يقودونها إلى حيث شاؤوا من الجنة.
قال الفراء: حيث ما أحب الرجل من أهل الجنة فجرَّها لنفسه.
قوله تعالى: {يوفون بالنذر} قال الفراء: فيه إضمار (كانوا) يوفون بالنذر.
وفيه قولان.
أحدهما: يوفون بالنذر إذا نذروا في طاعة الله، قاله مجاهد، وعكرمة.
والثاني: يوفون بما فرض الله عليهم، قاله قتادة.
ومعنى (النذر) في اللغة: الإيجاب.
فالمعنى: يوفون بالواجب عليهم {ويخافون يوماً كان شرُّه مستطيراً} قال ابن عباس: فاشياً.
وقال ابن قتيبة: فاشياً منتشراً.
يقال: استطار الحريق: إِذا انتشر، واستطار الفجر: إذا انتشر الضوء.
وأنشدوا للأعشى:
فَبَانَتْ وَقَدْ أَسْأَرَتْ في الفُؤَا ** دِ صَدْعاً عَلَى نَأْيِها مُسْتَطِيراً

وقال مقاتل: كان شرُّه فاشياً في السموات، فانشقت، وتناثرت الكواكب، وفزعت الملائكة، وكوِّرت الشمس والقمر في الأرض، ونُسِفَتْ الجبال، وغَارَت المياه، وتكَسَّر كل شيء على وجه الأرض من جبلٍ، وبناءٍ، وفَشَا شَرُّ يوم القيامة فيهما.
قوله تعالى: {ويطعمون الطعام على حُبه} اختلفوا فيمن نزلت على قولين.
أحدهما: نزلت في علي بن أبي طالب.
آجر نفسه ليسقي نخلاً بشيء من شعيرٍ ليلة حتى أصبح.
فلما قبض الشعير طحن ثلثه، وأصلحوا منه شيئاً يأكلونه، فلما استوى أتى مسكين، فأخرجوه إليه، ثم عمل الثلث الثاني، فلما تم أتى يتيم، فأطعموه، ثم عمل الثلث الباقي، فلما استوى جاء أسير من المشركين، فأطعموه وطوَوْا يومهم ذلك، فنزلت هذه الآيات، رواه عطاء عن ابن عباس.
والثاني: أنها نزلت في أبي الدحداح الأنصاري صام يوماً، فلما أراد أن يفطر جاء مسكين، ويتيم، وأسير، فأطعمهم ثلاثة أرغفة، وبقي له ولأهله رغيف واحد، فنزلت فيهم هذه الآية، قاله مقاتل.
وفي هاء الكناية في قوله تعالى: {على حُبه} قولان.
أحدهما: ترجع إلى الطعام، فكأنهم كانوا يُؤْثِرُون وهم محتاجون إليه، وهذا قول ابن عباس، ومجاهد، والزجاج، والجمهور.
والثاني: ترجع إلى الله تعالى، قاله الداراني.
وقد سبق معنى (المسكين واليتيم) [البقرة: 83].
وفي الأسير أربعة أقوال.
أحدها: أنه المسجون من أهل القبلة، قاله عطاء، ومجاهد، وابن جبير.
والثاني: أنه الأسير المشرك، قاله الحسن، وقتادة.
والثالث: المرأة، قاله أبو حمزة الثمالي.
والرابع: العبد، ذكره الماوردي.
فصل:
وقد ذهب بعض المفسرين إلى أن الآية تضمنت مدحهم على إطعام الأسير المشرك.
قال: وهذا منسوخ بآية السيف.
وليس هذا القول بشيء، فإن في إطعام الأسير المشرك ثواباً، وهذا محمول على صدقة التطوع.
فأما الفرض فلا يجوز صرفه إلى الكفَّار، ذكره القاضي أبو يعلى.
قوله تعالى: {إنما نطعمكم لوجه الله} أي: لطلب ثواب الله.
قال مجاهد، وابن جبير: أما إنهم ما تكلموا بهذا، ولكن علمه الله من قلوبهم، فأثنى به عليهم لِيَرْغَبَ في ذلك راغب.
قوله تعالى: {لا نريد منكم جزاءً} أي: بالفعل {ولا شكوراً} بالقول {إنا نخاف من ربنا يوماً} أي: ما في يوم {عبوساً} قال ابن قتيبة: أي: تعبس فيه الوجوه، فجعله من صفة اليوم، كقوله تعالى: {في يومٍ عاصفٍ} [إِبراهيم: 18]، أراد: عاصف الريح.
فأما (القمطرير) فروى ابن أبي طلحة، عن ابن عباس: أنه الطويل.
وروى عنه العوفي أنه قال: هو الذي يقبِّض فيه الرجل ما بين عينيه.
فعلى هذا يكون اليوم موصوفاً بما يجري فيه، كما قلنا في (العبوس) لأن اليوم لا يوصف بتقبيض ما بين العينين.
وقال مجاهد، وقتادة: (القمطرير) الذي يقلِّص الوجوه، ويقبض الحياة، وما بين الأعين من شدته.
وقال الفراء: هو الشديد.
يقال يوم قمطرير، ويوم قماطر.
وأنشدني بعضهم:
بَنِي عَمِّنَا هَلْ تَذْكُرونَ بَلاَءَنَا ** عليكُم إذا ما كان يَوْمٌ قُماطِرُ

وقال أبو عبيدة: العبوس، والقمطرير، والقماطر، والعَصِيب، والعَصَبْصَب: أشد ما يكون من الأيام، وأطوله في البلاء.
قوله تعالى: {فوقاهم الله شَرَّ ذلك اليوم} بطاعتهم في الدنيا {ولقَّاهم نَضْرَةً} أي: حُسْنَاً وبياضاً في الوجوه {وسُرُورَاً} لا انقطاع له.
وقال الحسن: النَّضْرة في الوجوه.
والسُّرُور في القلوب {وجزاهم بما صبروا} على طاعته، وعن معصيته {جَنَّةً وحريراً} وهو لباس أهل الجنة {متكئين فيها} قال الزجاج: هو منصوب على الحال، أي: جزاهم جنة في حال اتكائهم فيها، وقد شرحنا هذا في [الكهف: 31].
قوله تعالى: {لاَ يرَوْنَ فيها شمساً} فيُؤذيهم حَرُّها {ولا زمهريراً} وهو البرد الشديد.
والمعنى: لا يجدون فيها الحَرَّ والبرد.
وحكي عن ثعلب أنه قال: الزمهرير: القمر، وأنشد:
وَلَيْلَةٍ ظَلاَمُهَا قَد اعْتَكَرْ ** قَطَعْتُهَا وَالزّمْهَريرُ مَا زَهَر

أي: لم يطلع القمر.
قوله تعالى: {ودانية} قال الفراء: المعنى: وجزاهم جنة، ودانية عليهم ظلالها، أي: قريبة منهم ظلال أشجارها {وذللت قُطوفُها تذليلاً} قال ابن عباس: إِذا هَمَّ أن يتناول من ثمارها تَدَلَّتْ إليه حتى يتناولَ ما يريد.
وقال غيره: قُرِّبَتْ إليهم مُذلّلة كيف شاؤوا، فهم يتناولونها قياماً، وقعوداً، ومضطجعين، فهو كقوله تعالى: {قطوفها دانية} [الحاقة: 23].
فأما (الأكواب) فقد شرحناها في [الزخرف: 71] {كانت قواريرا} أي: تلك الأكواب هي قوارير، ولكنها من فضة، قال ابن عباس: لو ضَرَبْتَ فضةَ الدنيا حتى جعلتَها مثل جناح الذباب، لم يُرَ الماء من ورائها، وقوارير الجنة من فضة في صفاء القارورة.
وقال الفراء، وابن قتيبة: هذا على التشبيه، المعنى: كأنها من فضة، أي: لها بياض كبياض الفضة وصفاء كصفاء القوارير.
وكان نافع، والكسائي، وأبو بكر عن عاصم: يقرؤون {قواريراً قواريراً} فَيَصِلُونَهما جميعاً بالتنوين.
ويقفون عليهما بالألف.
وكان ابن عامر وحمزة يَصِلاَنِهما جميعاً بغير تنوين، ويقفان عليهما بغير ألف.
وكان ابن كثير يَصِل الأول بالتنوين، ويقف عليه بالألف، ويَصِلُ الثاني بغير تنوين، ويقف بغير ألف.
وروى حفص عن عاصم أنه كان يقرأ: {سلاسل} و{قوارير قوارير} يَصِلُ الثلاثة بغير تنوين، ويقف على الثلاثة بالألف.
وكان أبو عمرو يقرأ الأول {قواريرا} فيقف عليه بالألف، ويصل بغير تنوين.
وقال الزجاج: الاختيار عند النحويين أن لا يصرف {قوارير} لأن كل جمع يأتي بعد ألفه حرفان لا ينصرف.
ومن قرأ: {قواريرا} يصرف الأول علامة رأس آية، وترك صرف الثاني لأنه ليس بآخر آية.
ومن صرف الثاني: أتبع اللفظ اللفظ، لأن العرب ربما قلبت إعراب الشيء لتُتْبِعَ اللفظ اللفظ، كما قالوا: جُحْرُ ضَبٍّ خَرِبٍ.
وإِنما الخَرِبُ مِن نعت الجحر.
قوله تعالى: {قدَّروها تقديراً} وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي، وأبو عمران، والجحدري، وابن يعمر {قُدِّروها} برفع القاف، وكسر الدال، وتشديدها.
وقرأ حميد، وعمرو بن دينار، {قَدَرُوها} بفتح القاف، والدال، وتخفيفها.
ثم في معنى الآية قولان.
أحدهما: قَدَّرُوها في أنفسهم، فجاءت على ما قَدَّرُوا، قاله الحسن.
وقال الزجاج: جعل الإناء على قَدْر ما يحتاجون إليه ويريدونه على تقديرهم.
والثاني: قَدَّروها على مقدارٍ لا يزيد ولا ينقص، قاله مجاهد.
وقال غيره: قَدَّر الكأس على قَدْر رِيِّهم، لا يزيد عن رِيِّهم فيُثْقِلُ الكفَّ، ولا ينقص منه فيطلب الزيادة، وهذا ألذُّ الشراب.
فعلى هذا القول يكون الضمير في {قدَّروا} للسقاة والخدم.
وعلى الأول للشاربين.
قوله تعالى: {ويُسْقَوْن فيها} يعني في الجنة {كأساً كان مزاجها زنجبيلا} والعرب تضرب المثل بالزنجبيل، والخمر، ممزوجَين.
قال المسيَّب بن عَلسَ يصف فم امرأة:
فَكَأَنَّ طَعْمَ الزَّنْجَبيل به ** إذْ ذُقْتَهُ وَسُلاَفَةُ الخَمْرِ

وقال آخر:
كَأَنَّ القَرَنْفُلَ والزَّنْجَبِي ** ل باتا بِفِيها وأرْيَاً مُشَاراً

الأَرْي: العسل.
والمشار: المستخرج من بيوت، النحل.
قال مجاهد: والزنجبيل: اسم العين التي منها شراب الأبرار، وقرأت على شيخنا أبي منصور اللغوي قال: الزنجبيل معرَّب.
وقال الدِّيْنَوَرِي: يَنْبُتُ في أرياف عُمَان، وهي عروق تسري في الأرض، وليس بشجرة تؤكل رُطَباً.
وأجود ما يحمل من بلاد الصين.
قال الزجاج: وجائز أن يكون فيها طعم الزنجبيل، والكلام فيه كالكلام السابق في الكافور.
وقيل: شراب الجنة عل بردِ الكافور، وطعم الزنجبيل، وريح المسك.
قوله تعالى: {عيناً فيها} قال الزجاج: يسقون عيناً.
وسلسبيل: اسم العين، إلا أنه صرف لأنه رأس آية.
وهو في اللغة: صفة لما كان في غاية السلاسة، فكأن العين وصفت وسميت بصفتها.
وقرأتُ على شيخنا أبي منصور اللغوي قال: قوله تعالى: {تسمى سلسبيلاً} قيل: هو اسم أعجمي نَكِرَة، فلذلك انصرف.
وقيل: هو اسم معرفة، إلا أنه أُجْرِيَ، لأنه رأس آية.
وعن مجاهد، قال: حديدة الجرية.
وقيل: سلسبيل سلس ماؤها، مستقيد لهم.
وقال ابن الأنباري: السلسبيل صفة للماء.
لِسَلَسِهِ وسهولة مدخله في الحلق.
يقال: شراب سَلْسَل، وسَلْسال، وسَلْسَبِيل.
وحكى الماوردي: أن عليّاً قال: المعنى: سَلْ سَبِيلاً إليها، ولا يصح.
قوله تعالى: {ويطوف عليهم ولدان مخلَّدون} قد سبق بيانه [الواقعة: 17] {إذَا رأيتَهم حَسِبْتَهم لؤلؤاً منثوراً} أي: في بَيَاضِ اللؤلؤ وحُسْنِهُ، واللؤلؤُ إذا نثر من الخيط على البساط كان أحسن منه منظراً.
وإنما شُبهوا باللؤلؤ المنثور، لانتشارهم في الخدمة.
ولو كانوا صَفْاً لَشَبهوه بالمنظوم.
{وإذا رأيتَ ثَمَّ} يعني: الجنة {رأيتَ نعيماً} لا يوصف و{مُلكاً كبيراً} أي: عظيماً واسعاً لا يريدون شيئاً إِلا قدَروا عليه، ولا يدخل عليهم ملَك إلا باستئذان.
قوله تعالى: {عَالِيَهُم} قرأ أهل المدينة، وحمزة، والمفضل عن عاصم بإسكان الياء، وكسر الهاء.
وقرأ الباقون بفتح الياء، إلا أن الجعفي، عن أبي بكر قرأ: {عَالِيَتُهُم} بزيادة تاء مضمومة.
وقرأ أنس بن مالك، ومجاهد، وقتادة، {عَلَيْهِم} بفتح اللام، وإسكان الياء من غير تاءٍ، ولا ألف.
قال الزجاج: فأما تفسير إعراب {عالِيْهم} بإسكان الياء، فيكون رفعه بالابتداء.
ويكون الخبر {ثيابُ سُنْدُسٍ} وأما {عَالِيَهم} بفتح الياء فنصبه على الحال من شيئين، أحدهما من الهاء والميم.
والمعنى: يطوف على الأبرار وِلْدَانٌ مُخَلَّدُون عَالِيَاً للأبرار ثيابُ سندس، لأنه وصف أحوالهم في الجنة، فيكون المعنى: يطوف عليهم في هذه الحال هؤلاء.
ويجوز أن يكون حالاً من الوِلْدان.
المعنى إذا رأيتَهم حَسِبْتَهم لؤلؤاً منثوراً في حال عُلُوِّ الثياب.
وأما {عَالِيَتُهُم} فقد قرئت بالرفع وبالنصب.
وهما وجهان جَيِّدان في العربية، إلا أنهما يخالفان المصحف.
فلا أرى القراءة بهما، وتفسيرها كتفسير {عاليهم}.
قوله تعالى: {ثيابُ سُنْدُسٍ خُضْرٌ} قرأ ابن عامر، وأبو عمرو، {خضر} رفعا {وإِسْتَبرق} خفضاً.
وقرأ ابن كثير وأبو بكر عن عاصم {خُضْرٍ} خفضاً {وإستبرق} رفعا.
وقرأ نافع، وحفص عن عاصم {خُضْرٌ وإستبرق} كلاهما بالرفع.
وقرأ حمزة، والكسائي، {خضْرٍ وإسْتَبرق} كلاهما بالخفض.
قال الزجاج: من قرأ: {خُضْرٌ} بالرفع فهو نعت الثياب، ولفظ الثياب لفظ الجمع.
ومن قرأ: {خُضْرٍ} فهو من نعت السندس، والسندسُ في المعنى راجع إلى الثياب.
ومن قرأ: {وإستَبرق} فهو نسق على {ثيابٌ} المعنى: وعليهم إستبرق.
ومن خفض، عطفه على السندس، فيكون المعنى: عليهم ثياب من هذين النوعين وقد بَيّنَّا في [الكهف: 31] معنى السندس، والإستبرق، والأساور.
قوله تعالى: {وسقاهم رَبهم شراباً طهوراً} فيه قولان.
أحدهما: لا يُحْدِثون ولا يَبُولُون عن شُرْب خَمْر الجَنَّة، قاله عطية.
والثاني: لأن خمر الجنة طاهرةٌ، وليست بنجسةٍ كخمرِ الدنيا، قاله الفراء.
وقال أبو قلابة: يُؤْتَوْنَ بعد الطَعام بالشَّرابِ الطَّهورِ فيشربون فَتَضْمُر بذلك بُطونُهم، ويفيض من جلودهم عَرقٌ مثل ريح المسك.
قوله تعالى: {إنَّ هذا} يعني: ما وصف من نعيم الجنة {كان لكم جزاءً} بأعمالكم {وكان سعيُكم} أَي: عملكم في الدنيا بطاعته {مشكوراً} قال عطاء: يريد شكرتُكم عليه، وأَثَبْتُكم أفضل الثواب {إنَّا نحن نزَّلنا عليك القرآن تنزيلاً} أي: فضَّلناه في الإنزال، فلم نُنْزِلْه جملة واحدةً {فاصبر لحكم ربك} وقد سبق بيانه في مواضع [الطور: 48، والقلم: 48].
والمفسرون يقولون: هذا منسوخ بآية السيف، ولا يصح، {ولا تُطِعْ منهم} أي: من مشركي أهل مكة {آثماً أو كفوراً} (أو) بمعنى: الواو، كقوله تعالى: {أو الحوايا} [الأنعام: 146] وقد سبق هذا وللمفسرين في المراد بالآثم والكفور ثلاثة أقوال.
أحدها: أنهما صفتان لأبي جهل.
والثاني: أن الآثم: عتبة بن ربيعة، والكفور: الوليد بن المغيرة.
والثالث: الآثم: الوليد.
والكَفُور: عتبة.
وذلك أنهما قالا له: ارجع عن هذا الأمر ونحن نرضيك بالمال والتزويج.
{واذكر اسم رَبِّكَ} أي: اذكره بالتوحيد في الصلاة {بُكْرَةً} يعني: الفجر {وأصيلاً} يعني: العصر.
وبعضهم يقول: صلاة الظهر والعصر {ومن الليل فاسْجُدْ له} يعني: المغرب والعشاء.
وسَبِّحهُ {ليلاً طويلاً} وهي: صلاة الليل، كانت فريضة عليه، وهي لأُمَّتِهِ تَطَوُّع {إن هؤلاء} يعني: كفَّار مكة {يحبُّون العاجلة} أي: الدار العاجلة، وهي: الدنيا {ويَذَرُون وراءهم} أي: أمامهم {يوماً ثقيلاً} أي: عسيراً شديداً.
والمعنى: أنهم يتركون الإيمان به، والعمل له.
ثم ذكر قدرتَه، فقال تعالى: {نحن خلقناهم وشَدَدَنا أسرهم} أي: خَلْقهم، قاله ابن عباس، ومجاهد، وقتادة، والفراء، وابن قتيبة، والزجاج.
قال ابن قتيبة: يقال امرأة حَسَنَةُ الأسر. أي: حَسَنَةُ الخَلْقِ، كأنها أُسِرتْ، أي: شُدَّتْ. وأصل هذا من الإسار، وهو: القِدُّ الذي تشد به الأقتاب يقال: ما أحسن ما أَسَر قَتَبه، أي: ما أحسن ما شَدَّه بالقِدِّ. وروي عن أبي هريرة قال: مفاصلهم.
وعن الحسن قال: أوصالهم بعضها إلى بعض بالعروق والعصب {وإذا شئنا بّدَّلنا أمثالهم} أي: إن شئنا أهلكناهم وأتينا بأشباههم، فجعلناهم بدلاً منهم {إنَّ هذه تذكرة} قد شرحنا الآية في [المزمل: 19].
قوله تعالى: {وما تشاؤون} إيجاد السبيل {إلا أن يشاء الله} ذلك لكم.
وقرأ ابن كثير، وأبو عمرو، {وما يشاؤون} بالياء.
قوله تعالى: {يُدْخِلُ مَنْ يشاء في رحمته} قال المفسرون: الرحمة: هاهنا الجنة {والظالمين} المشركون.
قال أبو عبيدة: نصب {الظالمين} بالجوار.
المعنى: ولا يُدخل الظالمين في رحمته.
وقال الزجاج: إنما نصب {الظالمين}، لأنَّ قبله منصوباً.
المعنى: يُدخل من يشاء في رحمته، ويعذب الظالمين.
ويكون قوله تعالى: {أعدَّ لهم} تفسيراً لهذا المضمر، وقرأ أبو العالية، وأبو الجوزاء، وابن أبي عبلة، {والظالمون} رفعاً. اهـ.

.قال الخازن:

قوله: {هل أتى} أي قد أتى {على الإنسان} يعني آدم {حين من الدهر} يعني مدة أربعين سنة وهو من طين ملقى (م) عن أنس رضي الله تعالى عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لما صور الله آدم في الجنة تركه ما شاء الله أن يتركه فجعل إبليس يطوف به وينظر إليه فلما رآه أجوف عرف أنه خلف لا يتمالك» قوله يطوف أي يدور حوله فلما رآه أجوف أي صاحب جوف وقيل هو الذي داخله خال قوله عرف أنه خلق لا يتمالك، أي لا يملك نفسه ويحبسها عن الشهوات، وقيل لا يملك دفع الوسواس عنه، وقيل لا يملك نفسه عند الغضب.
وروي في تفسير الآية أن آدم بقي أربعين سنة طيناً، وبقي أربعين سنة حمأ مسنوناً وأربعين سنة صلصالاً كالفخار فتم خلقه بعد مائة وعشرين سنة {لم يكن شيئاً مذكوراً} أي لا يذكر ولا يعرف ولا يدري ما اسمه، ولا ما يراد به وذلك قبل أن ينفخ فيه الروح كان شيئاً ولم يكن شيئاَ يذكر.
روي عن عمر أنه سمع رجلاً يقرأ هذه الآية: لم يكن شيئاً مذكوراً فقال عمر ليتها تمت يعني ليته بقي على ما كان عليه ويروى نحوه عن أبي بكر وابن مسعود، وقيل المراد بالإنسان جنس الإنسان وهم بنو آدم بدليل قوله: {إنا خلقنا الإنسان} فالإنسان في الموضعين واحد فعلى هذا يكون معنى قوله حين من الدهر طائفة من الدهر غير مقدرة لم يكن شيئاً مذكوراً يعني أنهم كانوا نطفاً في الأصلاب.
ثم علقاً، ومضغاً في الأرحام لم يذكروا بشيء إنا خلقنا الإنسان يعني ولد آدم {من نطفة} أي مني الرجل ومني المرأة {أمشاج} أي أخلاط قال ابن عباس وغيره: يعني ماء الرجل، وماء المرأة يختلطان في الرحم فيكون منهما الولد فماء الرجل أبيض غليظ، وماء المرأة أصفر رقيق فأيهما علا صاحبه كان الشبه له وما كان من عصب، وعظم فمن نطفة الرجل، وما كان من لحم ودم وشعر فمن ماء المرأة، وقيل الأمشاج اختلاف ألوان النطفة، فنطفة الرجل بيضاء ونطفة المرأة صفراء.
وكل لونين اختلطا فهو أمشاج.
وقال ابن مسعود: هي العروق التي تكون في النطفة، وقيل هي نطفة مشجت أي خلطت بدم وهو دم الحيض فإذا حبلت المرأة ارتفع دم الحيض، وقيل الأمشاج أطوار الخلق نطفة ثم علقة ثم مضغة، ثم عظما ثم يكسوه لحماً ثم ينشئه خلقاً آخر، وقيل إن الله تعالى جعل في النطفة أخلاطاً من الطبائع التي تكون في الإنسان من الحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة فعلى هذا يكون التقدير من نطفة ذات أمشاج.
{نبتليه} أي لنختبره بالأمر والنهي {فجعلناه سميعاً بصيراً} قيل فيه تقديم وتأخير تقديره فجعلناه سميعاً بصيراً لنبتليه لأن الابتلاء لا يقع إلا بعد تمام الخلقة، وقيل معناه إنا خلقنا الإنسان من هذه الأمشاج للابتلاء والامتحان ثم ذكر أنه أعطاه ما يصح معه الابتلاء، وهو السمع والبصر وهما كنايتان عن الفهم والتمييز وقيل المراد بالسمع والبصر الحاستان المعروفتان، وإنما خصهما بالذكر لأنهما أعظم الحواس وأشرفها.
{إنا هديناه السبيل} أي بينا له سبيل الحق والباطل والهدى والضلالة، وعرفناه طريق الخير والشر، وقيل معناه أرشدناه إلى الهدى لأنه لا يطلق اسم السبيل إلا عليه والمراد من هداية السبيل نصب الدلائل، وبعثه الرسل وإنزال الكتب.
{إما شاكراً وإما كفوراً} يعني إما موحداً طائعاً لله، وإما مشركاً بالله في علم الله وذلك أن الله تعالى بين سبيل التوحيد ليتبين شكر الإنسان من كفره، وطاعته عن معصيته، وقيل في معنى الآية إما مؤمناً سعيداً وإما كافراً شقياً.
وقيل معناه الجزاء أي بينا له الطريق إن شكر أو كفر، وقيل المراد من الشاكر الذي يكون مقرأ معترفاً بوجوب شكر خالقه سبحانه وتعالى عليه، والمراد من الكفور الذي لا يقر بوجوب الشكر عليه ثم بين ما للفريقين فوعد الشاكر، وأوعد الكافر فقال تعالى: {إنا أعتدنا} أي هيأنا في جهنم {للكافرين سلاسل} يعني يشدون بها {وأغلالاً} أي في أيديهم تغل بها إلى أعناقهم {وسعيراً} يعني وقوداً لا توصف شدته وهذا من أعظم أنواع الترهيب والتخويف ثم ذكر ما أعد للشاكرين الموحدين فقال تعالى: {إن الأبرار} يعني المؤمنين الصادقين في إيمانهم المطيعين لربهم، واحدهم بار وبر وأصله التوسع فمعنى البر المتوسع في الطاعة {يشربون من كأس} يعني فيها شراب {كان مزاجها كافوراً} قيل يمزج لهم شرابهم بالكافور ويختم بالمسك.
فإن قلت إن الكافور غير لذيذ، وشربه مضر فما وجه مزج شرابهم به.
قلت قال أهل المعاني: أراد بالكافور بياضه، وطيب ريحه وبرده.
لأن الكافور لا يشرب وقال ابن عباس: هو اسم عين في الجنة والمعنى أن ذلك الشراب يمازجه شراب ماء هذه العين التي تسمى كافوراً، ولا يكون في ذلك ضرر لأن أهل الجنة لا يمسهم ضرر فيما يأكلون، ويشربون وقيل هو كافور لذيذ طيب الطعم ليس فيه مضرة، وليس ككافور الدنيا ولكن الله سمى ما عنده بما عندكم بمزج شرابهم.
بذلك الكافور والمسك والزنجبيل.
{عيناً} بدلاً من الكافور وقيل أعني عيناً {يشرب بها} أي يشرب منها {عباد الله} قال ابن عباس أولياء الله {يفجرونها تفجيراً} أي يقودونها إلى حيث شاؤوا من منازلهم وقصورهم تفجيراً سهلاً لا يمتنع عليهم.
قوله تعالى: {يوفون بالنذر} لما وصف الله تعالى ثواب الأبرار في الآخرة وصف أعمالهم في الدنيا التي يستوجبون بها هذا الثواب والمعنى كانوا في الدنيا يوفون بالنذر والنذر الإيجاب.
والمعنى يوفون بما فرض الله عليهم فيدخل فيه جميع الطاعات من الأيمان والصلاة، والزكاة والصوم والحج، والعمرة، وغير ذلك من الواجبات، وقيل النذر في عرف الشرع واللغة أن يوجب الرجل على نفسه شيئاً ليس بواجب عليه، وذلك بأن يقول: لله عليَّ كذا وكذا من صدقة أو صلاة أو صوم أو حج أو عمرة يعلق ذلك بأمر يلتمسه من الله.
وذلك بأن يقول إن شفى الله مريضي أو قدم غائبي كان لله عليَّ كذا، ولو نذر في معصية لا يجب الوفاء به (خ) عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول «من نذر أن يطيع الله فليف بنذره، ومن نذر أن يعصي الله فلا يف به» وفي رواية «فليطعه ولا يعصه» وعنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا نذر في معصية الله وكفارته كفارة يمين» أخرجه الترمذي وأبو داود والنسائي (ق) عن ابن عباس قال: «استفتى سعد بن عبادة رسول الله صلى الله عليه وسلم في نذر كان على أمه فتوفيت قبل أن تقضيه فأمره أن يقضيه عنها» أخرجه الجماعة.
وفي الآية دليل على وجوب الوفاء بالنذر، وهذا مبالغة في وصفهم بأداء الواجبات لأن من وفى بما أوجبه على نفسه كان لما أوجبه الله عليه أوفى.
{ويخافون يوماً كان شره مستطيراً} أي منتشراً فاشياً ممتداً، وقيل استطار خوفه في أهل السموات والأرض، وفي أولياء الله وأعدائه، وقيل فشا سره في السموات.
فانشقت وتناثرت الكواكب وفزعت الملائكة وكورت الشمس، والقمر، وفي الأرض فتشققت الجبال وغارت المياه وكسر كل شيء على الأرض من جبل وبناء، والمعنى أنهم يوفون بالنذر وهم خائفون من شر ذلك اليوم وهوله وشدته.
قوله: {ويطعمون الطعام على حبه} أي حب الطعام وقلته وشهوتهم له والحاجة إليه فوصفهم الله تعالى: بأنهم يؤثرون غيرهم على أنفسهم بالطعام، ويواسون به أهل الحاجة، وذلك لأن أشرف أنواع الإحسان والبر إطعام الطعام.
لأن به قوام الأبدان، وقيل على حب الله أي لحب الله {مسكيناً} يعني فقيراً وهو الذي لا مال له ولا يقدر على الكسب {ويتيماً} أي صغيراً وهو الذي لا أب له يكتسب له، وينفق عليه {وأسيراً} قيل هو المسجون من أهل القبلة يعني من المسلمين، وقيل هو الأسير من أهل الشرك.
{إنا نخاف من ربنا يوماً} يعني أن إحساننا إليكم للخوف من شدة ذلك اليوم لا لطلب مكافأتكم {عبوساً} وصف ذلك اليوم بالعبوس مجازاً كما يقال نهاره صائما والمراد أهله والمعنى تعبس فيه الوجوه من هوله وشدته وقيل وصف اليوم بالعبوس لما فيه من الشدة.
{قمطريراً} يعني شديداً كريهاً يقبض الوجوه والجباه بالتعبيس، وقيل العبوس الذي لا انبساط فيه، والقمطرير الشديد، وقيل هو أشد ما يكون من الأيام وأطوله في البلاء {فوقاهم الله شر ذلك اليوم} أي الذي يخافونه {ولقاهم نضرة} أي حسناً في وجوههم {وسروراً} أي في قلوبهم {وجزاهم بما صبروا} أي على طاعة الله واجتناب معصيته، وقيل على الفقر والجوع مع الوفاء بالنذر والإيثار {جنة وحريراً} أي أدخلهم الجنة وألبسهم الحرير {متكئين فيها} أي في الجنة {على الأرائك} جمع أريكة وهي السرر في الحجال ولا تسمى أريكة إلا إذا اجتمعا {لا يرون فيها شمساً ولا زمهريراً} يعني لا يؤذيهم حر الشمس، ولا برد الزمهرير كما كان يؤذيهم في الدنيا والزمهرير أشد البرد وحكى الزمخشري قولاً أن الزمهرير هو القمر وعن ثعلب أنه في لغة طيىء وأنشد:
وليلة ظلامها قد اعتكر ** قطعتها والزمهرير ما زهر

والمعنى أن الجنة ضياء لا يحتاج فيها إلى شمس وقمر {ودانية عليهم ظلالها} أي قريبة منهم ظلال أشجارها {وذللت} أي سخرت وقربت {قطوفها} أي ثمارها {تذليلاً} أي يأكلون من ثمارها قياماً وقعوداً ومضطجعين، ويتناولونها كيف شاؤوا وعلى أي حال أرادوا.
{ويطاف عليهم بآنية من فضة وأكواب} قيل هي الكيزان التي لا عرى لها كالقدح ونحوه {كانت قواريرا قواريرا من فضة} قال أهل التفسير أراد بياض الفضة في صفاء القوارير وهو الزجاج، والمعنى أن آنية أهل الجنة من فضة بيضاء في صفاء الزجاج، والمعنى يرى ما في باطنها من ظاهرها، قال الكلبي: إن الله تبارك وتعالى جعل قوارير كل قوم من تراب أرضهم، وإن أرض الجنة من فضة فجعل منها قوارير يشربون فيها، وقيل إن القوارير التي في الدنيا من الرمل والقوارير التي في الجنة من الفضة، ولكنها أصفى من الزجاج.
{قدروها تقديراً} أي قدروا الكؤوس على قدر ريهم، وكفايتهم لا تزيد ولا تنقص.
والمعنى أن السقاة والخدم الذين يطوفون عليهم يقدرونها لهم ثم يسقونهم.
{ويسقون فيها} أي في الجنة {كأساً كان مزاجها زنجبيلاً} قيل إن الزنجبيل هو اسم للعين التي يشرب منها الأبرار يوجد منها طعم الزنجبيل يشرب بها المقربون صرفاً، ويمزج لسائر أهل الجنة، وقيل هو النبت المعروف، والعرب كانوا يجعلون الزنجبيل في شرابهم لأنه يحصل فيه ضرب من اللذع قال الأعشى:
كأن القرنفل والزنجبي ** ل باتا بفيها وأرياً مشورا

الأري العسل والمشور المستخرج من بيوت النحل وقال المسيب بن علس:
فكأن طعم الزنجب ** يل به إذ ذقته سلافة الخمر

فلما كان الزنجبيل مستطاباً عند العرب وصف الله تعالى شراب أهل الجنة بذلك، وقيل إن شرب أهل الجنة على برد الكافور، وطعم الزنجبيل وريح المسك قال ابن عباس: كل ما ذكر الله تعالى في القرآن مما في الجنة وسماه ليس له مثل في الدنيا، وذلك لأن زنجبيل الجنة لا يشبه زنجبيل الدنيا {عيناً فيها تسمى سلسبيلاً} أي سلسلة منفادة لهم يصرفونها حيث شاؤوا وقيل حديدة الجرية سميت سلسبيلاً لأنها تسيل عليها في طرقهم، ومنازلهم تنبع من أصل العرش من جنة عدن إلى سائر الجنان، وقيل سميت بذلك لأنها في غاية السلاسة تتسلسل في الحلق ومعنى تسمى أي توصف لأن أكثر العلماء على أن سلسبيلا صفة لا اسم {ويطوف عليهم ولدان مخلدون} أي في الخدمة وقيل مخلدون مسرورون ومقرطون {إذا رأيتهم حسبتهم لؤلؤاً منثوراً} يعني في بياض اللؤلؤ الرطب وحسنه، وصفائه، واللؤلؤ إذا انتثر على البساط كان أصفى منه منظوماً، وقيل إنما شبهوا بالمنثور لانتثارهم في الخدمة.
قوله: {وإذا رأيت} قيل الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم وقيل لكل واحد ممن يدخل الجنة والمعنى إذا رأيت ببصرك ونظرت به {ثم} يعني إلى الجنة {رأيت نعيماً} أي لا يوصف عظمه {وملكاً كبيراً} قيل هو أن أدناهم منزلة من ينظر في ملكه مسيرة ألف عام يرى أقصاه كما يرى أدناه، وقيل هو أن رسول رب العزة من الملائكة لا يدخل عليه إلا بإذنه وهو استئذان الملائكة عليهم وقيل معناه ملكاً لا زوال له ولا انتقال {عاليهم} أي فوقهم {ثياب سندس خضر} وهو مارق من الديباج {وإستبرق} وهو ما غلظ منه وكلاهما داخل في اسم الحرير {وحلوا أساور من فضة وسقاهم ربهم شراباً طهوراً} يعني طاهراً من الأقذار والأردان لم تمسه الأيدي، ولم تدنسه الأرجل كخمر الدنيا وقيل إنه لا يستحيل بولاً، ولكنه يستحيل رشحاً في أبدانهم كرشح المسك، وذلك أنهم يؤتون بالطعام ثم من بعده يؤتون بالشراب الطهور فيشربون منه فتطهر بطونهم ويصير ما أكلوا رشحاً يخرج من جلودهم أطيب من المسك الأذفر، وتضمر بطونهم وتعود شهواتهم، وقيل الشراب الطهور هو عين ماء على باب الجنة من شرب منه نزع الله ما كان في قلبه من غل وغش وحسد.
{إن هذا كان لكم جزاء} أي يقال لأهل الجنة بعد دخولهم فيها ومشاهدتهم نعيمها.
إن هذا كان لكم جزاء قد أعده الله لكم إلى هذا الوقت.
فهو لكم بأعمالكم، وقيل هو إخبار من الله تعالى لعباده المؤمنين أنه قد أعده لهم في الآخرة {وكان سعيكم مشكوراً} أي شكرتكم عليه وآتيتكم أفضل منه، وهو الثواب، وقيل شكر الله لعباده هو رضاء منهم بالقليل من الطاعة وإعطاؤه إياهم الكثير من الخيرات.
قوله: {إنا نحن نزلنا عليك} أي يا محمد {القرآن تنزيلاً} قال ابن عباس: متفرقاً آية بعد آية ولم ننزله جملة واحدة، والمعنى أنزلنا عليك القرآن متفرقاً لحكمة بالغة تقتضي تخصيص كل شيء بوقت معين، والمقصود من ذلك تثبيت قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم وشرح صدره وإن الذي أنزله إليه وحي منه ليس بكهانة، ولا سحر لتزول تلك الوحشة التي حصلت له من قول الكفار إنه سحر أو كهانة.
{فاصبر لحكم ربك} أي لعبادته فهي من الحكمة المحضة، وقيل معناه فاصبر لحكم ربك في تأخير الإذن في القتال، وقيل هو عام في جميع التكاليف، أي فاصبر لحكم ربك في كل ما حكم الله به سواء كان تكليفاً خاصاً كالعبادات والطاعات أو عاماً متعلقاً بالغير كالتبليغ، وأداء الرسالة وتحمل المشاق وغير ذلك.
{ولا تطع منهم آثماً أو كفوراً} قيل أراد به أبا جهل، وذلك أنه لما فرضت الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم نهاه أبو جهل عنها، وقال لئن رأيت محمداً يصلي لأطأن عنقه، وقيل أراد بالآثم عتبة بن ربيعة، وبالكفور الوليد بن المغيرة وذلك أنهما قالا للنبي صلى الله عليه وسلم إن كنت صنعت ما صنعت لأجل النساء، والمال فارجع عن هذا الأمر، وقال عتبة أنا أزوجك ابنتي وأسوقها إليك بغير مهر، وقال الوليد أنا أعطيك من المال حتى ترضى فارجع عن هذا الأمر فأنزل الله تعالى هذه الآية.
فإن قلت هل من فرق بين الآثم والكفور قلت نعم.
الآثم هو المقدم على المعاصي أي معصية كانت، والكفور هو الجاحد فكل كفور آثم، ولا ينعكس لأن من عبد غير الله فقد اجتمع في حقه هذان الوصفان لأنه لما عبد غير الله فقد عصاه وجحد نعمه عليه.
{واذكر اسم ربك بكرة وأصيلاً} قيل المراد من الذكر الصلاة، والمعنى وصل لربك بكرة يعني صلاة الصبح وأصيلاً يعني صلاة الظهر والعصر {ومن الليل فاسجد له} يعني صلاة المغرب والعشاء فعلى هذا تكون الآية جامعة لمواقيت الصلاة الخمس {وسبحه ليلاً طويلاً} يعني صلاة التطوع بعد المكتوبة وهو التهجد بالليل، وقيل المراد من الآية هو الذكر باللسان، والمقصود أن يكون ذاكراً لله تعالى في جميع الأوقات في الليل والنهار بقلبه وبلسانه.
قوله: {إن هؤلاء} يعني كفار مكة {يحبون العاجلة} يعني الدار العاجلة، وهي الدنيا.
{ويذرون وراءهم} يعني أمامهم {يوماً ثقيلاً} يعني شديداً وهو يوم القيامة والمعنى أنهم يتركونه فلا يؤمنون به، ولا يعملون له {نحن خلقناهم وشددنا} أي قوينا وأحكمنا {أسرهم} أي خلقهم وقيل أوصالهم شددنا بعضها إلى بعض بالعروق والأعصاب، وقيل الأسر مجرى البول والغائط، وذلك أنه إذا خرج الأذى انقبضا.
{وإذا شئنا بدلنا أمثالهم تبديلاً} أي إذا شئنا أهلكناهم، وآتينا بأشباههم فجعلناهم بدلاً منهم.
{إن هذه} أي السورة {تذكرة} أي تذكير وعظة {فمن شاء اتخذ} أي لنفسه في الدنيا {إلى ربه سبيلاً} أي وسيلة بالطاعة، والتقرب إليه وهذه مما يتمسك بها القدرية يقولون اتخاذ السبيل هو عبارة عن التقرب إلى الله تعالى، وهو إلى اختيار العبد، ومشيئته قال أهل السنة ويرد عليهم قوله في سياق الآية.
{وما تشاؤون إلا أن يشاء الله} أي لستم تشاؤون إلا بمشيئة الله تعالى لأن الأمر إليه، ومشيئة الله مستلزمة لفعل العبد فجميع ما يصدر عن العبد بمشيئة الله جلّ جلاله وتعالى شأنه {إن الله كان عليماً} أي بأحوال خلقه وما يكون منهم {حكيماً} أي حيث خلقهم مع علمه بهم {يدخل من يشاء في رحمته} أي في دينه وقيل في جنته فإن فسرت الرحمة بالدين كان ذلك من الله تعالى وإن فسرت بالجنة كان دخول الجنة بسبب مشيئة الله جلّ جلاله وتعالى شأنه وفضله وإحسانه لا بسبب الاستحقاق {والظّالمين} يعني المشركين {أعد لهم عذاباً أليماً} أي مؤلماً، والله سبحانه وتعالى أعلم. اهـ.

.قال النسفي:

سورة الإنسان:
مكية.
وهي إحدى وثلاثون آية.
{هَلْ أتى} قد مضى {عَلَى الإنسان} آدم عليه السلام {حِينٌ مّنَ الدهر} أربعون سنة مصوراً قبل نفخ الروح فيه {لَمْ يَكُن شَيْئاً مَّذْكُوراً} لم يذكر اسمه ولم يدر ما يراد به لأنه كان طيناً يمر به الزمان ولو غير موجود لم يوصف بأنه قد أتى عليه حين من الدهر.
ومحل {لَمْ يَكُن شَيْئاً مَّذْكُوراً} النصب على الحال من الإنسان أي أتى عليه حين من الدهر غير مذكور {إِنَّا خَلَقْنَا الإنسان} أي ولد آدم، وقيل الأول ولد آدم أيضاً و{حِينٌ مِّنَ الدهر} على هذا مدة لبثه في بطن أمه إلى أن صار شيئاً مذكوراً بين الناس {مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ} نعت أو بدل منها أي من نطفة قد امتزج فيها الماآن.
ومشجه ومزجه بمعنى و{نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ} كبرمة أعشار فهو لفظ مفرد غير جمع ولذا وقع صفة للمفرد {نبتليه} حال أي خلقناه مبتلين أي مريدين ابتلاءه بالأمر والنهي له {فجعلناه سَمِيعاً بَصِيراً} ذا سمع وبصر.
{إِنَّا هديناه السبيل} بيّنا له طريق الهدى بأدلة العقل والسمع {إِمَّا شاكراً} مؤمناً {وَإِمَّا كفوراً} كافراً حالان من الهاء في {هديناه} أي إن شكر وكفر فقد هديناه السبيل في الحالين أو من السبيل أي عرّفناه السبيل إما سبيلاً شاكراً وأما سبيلاً كفوراً.
ووصف السبيل بالشكر والكفر مجاز.
ولما ذكر الفريقين أتبعهما ما أعد لهما فقال {إِنَّا أَعْتَدْنَا للكافرين سلاسلا} جمع سلسلة بغير تنوين: حفص ومكي وأبو عمرو وحمزة، وبه ليناسب {أغلالا وَسَعِيراً} إذ يجوز صرف غير المنصرف للتناسب: غيرهم {وأغلالا} جمع غُلٍّ {وَسَعِيراً} ناراً موقدة.
وقال {إِنَّ الأبرار} جمع بر أو بار كرب وأرباب وشاهد وأشهاد وهم الصادقون في الإيمان أو الذين لا يؤذون الذرّ ولا يضمرون الشر {يشربونَ مِن كَأْسٍ} خمر فنفس الخمر تسمى كأساً.
وقيل: الكأس الزجاجة إذا كان فيها خمر {كَانَ مِزَاجُهَا} ما تمزج به {كافورا} ماء كافور وهو اسم عين في الجنة ماؤها في بياض الكافور ورائحته وبرده {عيناً} بدل منه {يشرب بها عِبَادُ الله} أي منها أو الباء زائدة أو هو محمول على المعنى أي يلتذ بها أو يروي بها.
وإنما قال أولاً بحرف (من) وثانياً بحرف الباء لأن الكأس مبتدأ شربهم وأول غايته، وأما العين فيها يمزجون شرابهم فكأنه قيل: يشرب عباد الله بها الخمر {يُفَجّرُونَهَا} يجرونها حيث شاءوا من منازلهم {تَفْجِيرًا} سهلاً لا يمتنع عليهم.
{يُوفُونَ بالنذر} بما أوجبوا على أنفسهم، وهو جواب (من) عسى أن يقول: ما لهم يرزقون ذلك؟ والوفاء بالنذر مبالغة في وصفهم بالتوفر على أداء الواجبات لأن من وفّى بما أوجبه على نفسه لوجه الله كان بما أوجبه الله عليه أوفى {ويخافون يَوْماً كَانَ شَرُّهُ} شدائده {مُسْتَطِيراً} منتشراً من استطار الفجر {وَيُطْعِمُونَ الطعام على حُبه} أي حب الطعام من الاشتهاء والحاجة إليه أو على حب الله {مِسْكِيناً} فقيراً عاجزاً عن الاكتساب {وَيَتِيماً} صغيراً لا أب له {وَأَسِيراً} مأسوراً مملوكاً أو غيره.
ثم عللوا إطعامهم فقالوا:
{إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ الله} أي لطلب ثوابه أو هو بيان من الله عز وجل عما في ضمائرهم، لأن الله تعالى علمه منهم فأثنى عليهم وإن لم يقولوا شيئاً {لاَ نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاءً} هدية على ذلك {وَلاَ شُكُوراً} ثناء وهو مصدر كالشكر {إِنَّا نَخَافُ مِن رَّبِّنَا} أي إنا لا نريد منكم المكافأة لخوف عقاب الله على طلب المكافأة بالصدقة، أو إنا نخاف من ربنا فنتصدق لوجهه حتى نأمن من ذلك الخوف {يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً} وصف اليوم بصفة أهله من الأشقياء نحو: نهارك صائم.
والقمطرير الشديد العبوس الذي يجمع ما بين عينيه.
{فوقاهم الله شَرَّ ذَلِكَ اليوم} صانهم من شدائده {ولقاهم} أعطاهم بدل عبوس الفجار {نَضْرَةً} حسناً في الوجوه {وَسُرُوراً} فرحاً في القلوب {وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُواْ} بصبرهم على الإيثار.
نزلت في علي وفاطمة وفضة جارية لهما، لما مرض الحسن والحسين رضي الله عنهما نذروا صوم ثلاثة أيام فاستقرض علي رضي الله عنه من يهودي ثلاثة أصوع من الشعير، فطحنت فاطمة رضي الله عنها كل يوم صاعاً وخبزت فآثروا بذلك ثلاثة عشايا على أنفسهم مسكيناً ويتيماً وأسيراً ولم يذوقوا إلا الماء في وقت الإفطار.
{جَنَّةً} بستاناً فيه مأكل هنيء {وَحَرِيراً} ملبساً بهياً {متكئين} حال من (هم) في {جزاهم} {فِيهَا} في الجنة {على الأرآئك} الأسرة جمع الأريكة {لاَ يَرَوْنَ} حال من الضمير المرفوع في {متكئين} غير رائين {فِيهَا} في الجنة {شَمْساً وَلاَ زَمْهَرِيراً} لأنه لا شمس فيها ولا زمهرير فظلها دائم وهواؤها معتدل، لا حر شمس يحمي ولا شدة برد تؤذي.
وفي الحديث: «هواء الجنة سجسج لا حر ولا قرّ». فالزمهرير البرد الشديد.
وقيل: القمر أي الجنة مضيئة لا يحتاج فيها إلى شمس وقمر {وَدانية عَلَيْهِمْ ظلالها} قريبة منهم ظلال أشجارها عطفت على جنة أي وجنة أخرى دانية عليهم ظلالها كأنهم وعدوا بجنتين لأنهم وصفوا بالخوف بقوله: {إِنَّا نَخَافُ مِن رَّبّنَا} {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبه جَنَّتَانِ} [الرحمن: 46] {وَذللت} سخرت للقائم والقاعد والمتكىء وهو حال من {دانية} أي تدنو ظلالها عليهم في حال تذليل قطوفها عليهم، أو معطوفة عليها أي ودانية عليهم ظلالها ومذللة {قُطُوفُهَا} ثمارها جمع قطف.
{تَذْلِيلاً وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ بِئَانِيَةٍ مّن فِضَّةٍ} أي يدير عليهم خدمهم كئوس الشراب.
والآنية جمع إناء وهو وعاء الماء {وَأَكْوابٍ} أي من فضة جمع كوب وهو إبريق لا عروة له {كَانَتْ قَوَارِيرَاْ} (كان) تامة أي كونت فكانت قوارير بتكوين الله نصب على الحال {قَوَارِيرَاْ مِن فِضَّةٍ} أي مخلوقة من فضة فهي جامعة لبياض الفضة وحسنها وصفاء القوارير وشفيفها حيث يرى ما فيها من الشراب من خارجها.
قال ابن عباس رضي الله عنهما: قوارير كل أرض من تربتها وأرض الجنة فضة.
قرأ نافع والكسائي وعاصم في رواية أبي بكر بالتنوين فيهما.
وحمزة وابن عامر وأبو عمرو وحفص بغير تنوين فيهما.
وابن كثير بتنوين الأول والتنوين في الأول لتناسب الآي المتقدمة والمتأخرة، وفي الثاني لإتباعه الأول.
والوقف على الأول قد قيل ولا يوثق به لأن الثاني بدل من الأول {قَدَّرُوهَا تَقْدِيراً} صفة ل {قَوارِيرَ مِن فِضَّةٍ} أي أهل الجنة قدروها على أشكال مخصوصة فجاءت كما قدروها تكرمة لهم، أو السقاة جعلوها على قدر ريّ شاربها فهي ألذ لهم وأخف عليهم.
وعن مجاهد: لا تفيض ولا تغيض.
{وَيُسْقَوْنَ} أي الأبرار {فِيهَا} في الجنة {كَأْساً} خمراً {كَانَ مِزَاجُهَا زَنجَبِيلاً عيناً} بدل من {زَنجَبِيلاً} {فِيهَا} في الجنة {تسمى} تلك العين {سَلْسَبِيلاً} سميت العين زنجبيلاً لطعم الزنجبيل فيها، والعرب تستلذه وتستطيبه.
وسلسبيلاً لسلاسة انحدارها وسهولة مساغها.
قال أبو عبيدة: ماء سلسبيل أي عذب طيب.
{وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ ولدان} غلمان ينشئهم الله لخدمة المؤمنين، أو ولدان الكفرة يجعلهم الله تعالى خدماً لأهل الجنة {مُّخَلَّدُونَ} لا يموتون {إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ} لحسنهم وصفاء ألوانهم وانبثاثهم في مجالسهم {لُؤْلُؤاً مَّنثُوراً} وتخصيص المنثور لأنه أزين في النظر من المنظوم {وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ} ظرف أي في الجنة وليس ل {رَأَيْت} مفعول ظاهر ولا مقدر ليشيع في كل مرئي تقديره وإذا اكتسبت الرؤية في الجنة {رَأَيْتَ نَعِيماً} كثيراً {وَمُلْكاً كَبِيراً} واسعاً.
يروى أن أدنى أهل الجنة منزلة ينظر في ملكه مسيرة ألف عام يرى أقصاه كما يرى أدناه.
وقيل: ملك لا يعقبه هلك، أو لهم فيها ما يشاؤون أو تسلم عليهم الملائكة ويستأذنون في الدخول عليهم {عاليهم} بالنصب على أنه حال من الضمير في {يَطُوفُ عَلَيْهِمْ} أي يطوف عليهم ولدان عالياً للمطوف عليهم ثياب.
وبالسكون: مدني وحمزة على أنه مبتدأ خبره {ثِيَابُ سُندُسٍ} أي ما يعلوهم من ملابسهم ثياب سندس رقيق الديباج.
{خُضْرٌ} جمع أخضر {وَإِسْتَبرق} غليظ يرفعهما حملاً على الثياب: نافع وحفص، وبجرهما: حمزة وعلي حملاً على {سُندُسٍ} وبرفع الأول وجر الثاني أو عكسه: غيرهم {وَحُلُّواْ} عطف على {وَيَطُوفُ} {أَسَاوِرَ مِن فِضَّةٍ} وفي سورة (الملائكة): {يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً} [الحج: 23].
قال ابن المسيب: لا أحد من أهل الجنة إلا وفي يده ثلاثة أسورة: واحدة من فضة وأخرى من ذهب وأخرى من لؤلؤ.
{وسقاهم رَبهمْ} أضيف إليه تعالى للتشريف والتخصيص.
وقيل: إن الملائكة يعرضون عليهم الشراب فيأبون قبوله منهم ويقولون: لقد طال أخذنا من الوسائط فإذا هم بكاسات تلاقي أفواههم بغير أكف من غيب إلى عبد {شَرَاباً طَهُوراً} ليس برجس كخمر الدنيا لأن كونها رجساً بالشرع لا بالعقل ولا تكليف ثم، أو لأنه لم يعصر فتمسه الأيدي الوضرة وتدوسه الأقدام الدنسة يقال لأهل الجنة {إِنَّ هَذَا} النعيم {كَانَ لَكُمْ جَزَاءً} لأعمالكم {وَكَانَ سَعْيُكُم مَّشْكُوراً} محموداً مقبولاً مرضياً عندنا حيث قلتم للمسكين واليتيم والأسير لا نريد منكم جزاء ولا شكوراً.
{إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ القرءان تَنزِيلاً} تكرير الضمير بعد إيقاعه اسماً لإن تأكيد على تأكيد لمعنى اختصاص الله بالتنزيل ليستقر في نفس النبي صلى الله عليه وسلم أنه إذا كان هو المنزل لم يكن تنزيله مفرقاً إلا حكمة وصواباً ومن الحكمة الأمر بالمصابرة {فاصبر لِحُكْمِ رَبِّكَ} عليك بتبليغ الرسالة واحتمال الأذية وتأخير نصرتك على أعدائك من أهل مكة {وَلاَ تُطِعْ مِنْهُمْ} من الكفرة للضجر من تأخير الظفر {ءَاثِماً} راكباً لما هوى إثم داعياً لك إليه {أَوْ كفوراً} فاعلاً لما هو كفر داعياً لك إليه، لأنهم إما أن يدعوه إلى مساعدتهم على فعل ما هو إثم أو كفر أو غير إثم ولا كفر، فنهى أن يساعدهم على الأولين دون الثالث.
وقيل: الآثم عتبة لأنه كان ركاباً للمآثم والفسوق.
والكفور: الوليد لأنه كان غالياً في الكفر والجحود.
والظاهر أن المراد كل آثم وكافر أي لا تطع أحدهما، وإذا نهي عن طاعة أحدهما لا بعينه فقد نهى عن طاعتهما معاً ومتفرقاً.
ولو كان بالواو لجاز أن يطيع أحدهما لأن الواو للجمع فيكون منهياً عن طاعتهما معاً لا عن طاعة أحدهما، وإذا نهى عن طاعة أحدهما لا بعينه كان عن طاعتهما جميعاً أنهى.
وقيل: (أو) بمعنى (ولا) أي ولا تطع آثماً ولا كفوراً {واذكر اسم رَبِّكَ} صلِّ له {بُكْرَةً} صلاة الفجر {وَأَصِيلاً} صلاة الظهر والعصر.
{وَمِنَ الليل فاسجد لَهُ} وبعض الليل فصّل صلاة العشاءين {وَسَبِّحْهُ لَيْلاً طَوِيلاً} أي تهجد له هزيعاً طويلاً من الليل ثلثيه أو نصفه أو ثلثه.
{إِنَّ هَؤُلاء} الكفرة {يُحِبُّونَ العاجلة} يؤثرونها على الآخرة {وَيَذَرُونَ وَرَاءهُمْ} قدامهم أو خلف ظهورهم {يَوْماً ثَقِيلاً} شديداً لا يعبئون به وهو القيامة لأن شدائده تثقل على الكفار {نَّحْنُ خلقناهم وَشَدَدْنَا} أحكمنا {أَسْرَهُمْ} خلقهم عن ابن عباس رضي الله عنهما والفراء {وَإِذَا شِئْنَا بَدَّلْنَا أمثالهم تَبْدِيلاً} أي إذا شئنا إهلاكهم أهلكناهم وبدلنا أمثالهم في الخلقة ممن يطيع {إِنَّ هذه} السورة {تَذْكِرَةٌ} عظة {فَمَن شَاءَ اتخذ إلى رَبه سَبِيلاً} بالتقرب إليه بالطاعة له واتباع رسوله {وَمَا تَشَاءُونَ} اتخاذ السبيل إلى الله.
وبالياء: مكي وشامي وأبو عمرو.
ومحل {إِلاَّ أَن يَشَاء الله} النصب على الظرف أي إلا وقت مشيئة الله، وإنما يشاء الله ذلك ممن علم منه اختياره ذلك.
وقيل: هو لعموم المشيئة في الطاعة والعصيان والكفر والإيمان فيكون حجة لنا على المعتزلة {إِنَّ الله كَانَ عَلِيماً} بما يكون منهم من الأحوال {حَكِيماً} مصيباً في الأقوال والأفعال {يُدْخِلُ مَن يَشَاءُ} وهم المؤمنون {فِى رَحْمَتِهِ} جنته لأنها برحمته تنال وهو حجة على المعتزلة لأنهم يقولون قد شاء أن يدخل كلاً في رحمته لأنه شاء إيمان الكل، والله تعالى أخبر أنه يدخل من يشاء في رحمته وهو الذي علم منه أنه يختار الهدى {والظالمين} الكافرين لأنهم وضعوا العبادة في غير موضعها ونصب بفعل مضمر يفسره {أَعَدَّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً} نحو: أوعد وكافأ. اهـ.

.قال ابن جزي:

سورة الإنسان:
{هَلْ أتى عَلَى الإنسان حِينٌ مِّنَ الدهر لَمْ يَكُن شَيْئاً مَّذْكُوراً}
هل هنا بمعنى التقرير لا لمجرد الاستفهام، وقيل: هل بمعنى قل، والإنسان هنا جنس، والحين الذي أتى عليه حين كان معدوماً قبل أن يخلق، وقيل: الإنسان هنا آدم، والحين الذي أتى عليه حين كان طيناً قبل أن ينفخ فيه الروح وهذا ضعيف لوجهين: أحدهما قوله: {إِنَّا خَلَقْنَا الإنسان مِن نُّطْفَةٍ} وهو هنا جنسها باتفاق؛ إذ لا يصح هنا في آدم، والآخر أن مقصد آية تحقير الإنسان {مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ} أي أخلاط واحدها مشج بفتح الميم والشين وقيل: مشج بوزن عدل، وقال الزمخشري: ليس {أمشاج} وإنما هو مفرد كقولهم: برمة أعشار، ولذلك أوقع صفة للمفرد واختلف في معنى الأخلاط هنا فقيل: اختلاط ماء الرجل والمرأة، وقيل: معناه ألوان وأطوار، أي يكون نطفة ثم علقة ثم مضغة {نبتليه} أي نختبره وهذه الجملة في موضع الحال، أي: خلقناه مبتلين له، وقيل: معناه نصرفه في بطن أمه نطفة ثم علقة {فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً} هذا معطوف على {خلقنا الإنسان}، ومن جعل {نبتليه} بمعنى نصرفه في بطن أمه فهذا عطف عليه، وقيل أن {نبتليه} مؤخر في المعنى أي جعلناه سميعاً بصيراً لنبتليه وهذا تكليف بعيد.
{إِنَّا هَدَيْنَاهُ السبيل} أي سبيل الخير والشر ولذلك قسم الإنسان إلى قسمين شاكراً أو كفوراً وهما حالان من الضمير من {هديناه}، والهدى هنا بمعنى: بيان الطريقين، وموهبة العقل الذي يمي به بينهما، ويحتمل أن يكون بمعنى الإرشاد، أي هدى المؤمن للإيمان والكافر للكفر. {قُلْ كُلٌّ مِّنْ عِندِ الله} [النساء: 78] {سلاسلاَ} من قرأه بغير تنوين فهو الأصل إذ هو لا ينصرف، لأنه جمع لا نظير له في الآحاد. ومن قرأه بالتنوين فله ثلاث توجيهات: أحدها أنها لغة لبعض العرب يصرفون كل ما لا ينصرف إلا ما كان على وزن أفعل، والآخر: أن النون بدل من حرف الاطلاق، وأجرى الوصل مجرى الوقف، والثالث: أن يكون صاحب هذه القراءة رواية للشعر، قد عوّد لسانه صرف ما لا ينصرف فجرى على ذلك {الأبرار} جمع بار أو برّ، ومعناه العاملون بالبر وهو غاية التقوى والعمل الصالح حتى قال بعضهم: الأبرار هم الذين لا يؤذون الذر {مِن كَأْسٍ} ذكر في [الصافات: 45] معنى الكاس ومن هنا يحتمل أن تكون للتبعيض أو لابتداء الغاية {مِزَاجُهَا كَافُوراً} أي تمزج الخمر بالكافور، وقيل: المعنى أنه كافور في طيب رائحته كما تمدح طعاماً فتقول هذا مسك {عيناً} بدل من {كافوراً} على القول بأن الخمر تمزج بالكافور، أو بدل من موضع {من كأس} على القول الآخر، كأنه قال: يشربون خمراً خمر عين، وقيل: هو مفعول {يشربون} وقيل منصوب بإضمار فعل {يشرب بها} قال ابن عطية: الباء زائدة والمعنى يشربها، وهذا ضعيف؛ لأن الباء إنما تزاد في مواضع ليس هذا منها، وإنماهي كقولك: شربت الماء بالعسل لأن العين المذكورة تمزج بها الكأس من الخمر {عِبَادُ الله} وصفهم بالعبودية، وفيه معنى التشريف والاختصاص، كقوله: {وَعِبَادُ الرحمن الذين يَمْشُونَ على الأرض هَوْناً} [الفرقان: 63] {يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيراً} أي يفجرونها حيث شاؤوا من منازلهم تفجيراً سهلاً لا يصعب عليهم، وفي الأثر أن في قصر النبي صلى الله عليه وسلم في الجنة عيناً تفجر إلى قصور الأنبياء عليهم الصلاة والسلام والمؤمنين {مُسْتَطِيراً} أي منتشراً شائعاً، ومه استطار الفجر: إذا انشق ضوؤه.
{وَيُطْعِمُونَ الطعام} نزلت هذه الآية وما بعدها في عليّ بن أبي طالب وفاطمة والحسن والحسين رضي الله عنهم فإنهم كانوا صائمين فلما وضعوا فطورهم ليأكلوه جاء مسكين فرفعوه له، وباتوا طاوين وأصبحوا صائمين، فلما وضعوا فطورهم جاء يتيم فدفعوه له، وباتوا طاوين وأصبحوا صائمين فلما وضعوا فطورهم جاء أسير فدفعه له، وباتوا طاوين، والآية على هذا مدنية لأن علياً إنما تزوج فاطمة بالمدينة، وقيل: إنما هي مكية وليست في علي {على حُبه} الضمير للطعام أي يطعمونه مع حبه والحاجة إليه فهو كقوله: {لَن تَنَالُواْ البر حتى تُنْفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ} [آل عمران: 92] وقوله: {وَيُؤْثِرُونَ على أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بهمْ خَصَاصَةٌ} [الحشر: 9] ففي قوله على حبه تتميم وهو من أدوات البيان، وقيل: الضمير لله، وقيل: للإطعام المفهوم من يطعمون والأول أرجح وأظهر {مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً} قد ذكرنا المسكين واليتيم وأما الأسير ففيه خمسة أقوال؛ أحدها أن الأسير الكافر بين المسلمين ففي إطعامه أجر لأنه: «في كل ذي كبد رطبة أجر» وقيل نسخ ذلك بالسيف، والآخر: أنه الأسير المسلم إذا خرج من دار الحرب لطلب الفدية، والثالث أنه المملوك الرابع: أنه المسجون، الخامس: أنه المرأة لقوله صلى الله عليه وسلم: «استوصوا بالنساء خيراً لأنهم عوانٍ عندكم» وهذا بعيد والأول أرجح؛ لأنه روي أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يؤتى بالأسير المشرك فيدفعه إلى بعض المسلمين ويقول له: أحسن إليه {إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ الله} عبارة عن الإخلاص لله، ولذلك فسروه وأكدوه بقولهم: {لاَ نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاءً وَلاَ شُكُوراً} والشكور مصدر كالشكر ويحتمل أنهم قالوا هذا الكلام بألسنتهم، أو قالوا في نفوسهم، فهو عبارة عن النية والقصد {يَوْماً عَبُوساً} وَصْفُ اليوم بالعبوس مجاز على وجهين: أحدهما:
أن يوصف اليوم بصفة أهله كقولهم: نهاره صائم وليله قائم. ورُوي أن الكفار يعبس يومئذ حتى يسيل الدم من عينيه مثل القطران، والآخر يشبه في شدّته بالأسد العبوس {قَمْطَرِيراً} قال ابن عباس: معناه طويل، وقيل: شديد.
{وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً} النضرة: التنعم. وهذا في مقابلة عبوس الكافر. وقوله: {فوقاهم} و{لقاهم} من أدوات البيان {بِمَا صَبَرُواْ} أي بصبرهم على الجوع وإيثار غيرهم على أنفسهم، حسبما ذكرنا من قصة علي وفاطمة والحسن والحسين رضي الله عنهم وقد ذكرنا الأرائك {لاَ يَرَوْنَ فِيهَا شَمْساً وَلاَ زَمْهَرِيراً} عبارة عن اعتدال هوائها أي ليس فها حر ولا برد، والزمهرير هو البرد الشديد، وقيل: هو القمر بلغة طيء، والمعنى على هذا أن للجنة ضياء فلا يحتاج فيها إلى الشمس ولا القمر {وَدانية عَلَيْهِمْ ظِلاَلُهَا} معناه أن ظلال الأشجار متدلية عليهم قريبة منهم، وإعراب {دانية} معطوف على {متكئين}، وقال الزمخشري: هو معطوف على الجملة التي قبلها وهي: {لا يرون فيها شمساً ولا زمهريراً}، لأن هذه الجملة في حكم المفرد تقديره: غير رائين فيها شمساً ولا زمهريراً ودانية، ودخلت الواو للدلالة على أن الأمرين يجتمعان لهم، أي جامعين بين البعد عن الحر والبرد وبين دنو الضلال، وقيل: هو صفة لجنة عطف بالواو كقولك: فلان علام وصالح. وقيل: هو معطوف عليها أي وجنة أخرى دانية عليهم ظلالها {وَذللت قُطُوفُهَا تَذْلِيلاً} القطوف جمع قطف وهو العنقود من النخل والعنب، وشبه ذلك، وتذليلها هو أن تتدلى إلى الأرض، ورُوي أن أهل الجنة يقطعون الفواكة على أي حال كانوا من قيام أو جلوس أو اضطجاع، لأنها تتدلى لهم كما يريدون، وهذه الجملة في موضع الحال من {دانية}، أي دانية في حالة تذليل قطوفها أو معطوفة عليها.
{بِآنِيَةٍ} هي جمع إناء ووزنها أفعلة وقد ذكرنا الأكواب في الواقعة {قَوَارِيرَاْ} القوارير هي الزجاج، فإن قيل: كيف يتفق أنها زجاج مع قوله {من فضة} ؟ فالجواب: أن المراد أنها في أصلها من فضة وهي تشبه الزجاج في صفائها وشفيفها، وقيل: هي من زجاج، وجعلها من فضة على وجه التشبيه لشرف القضة وبياضها، ومن قرأ {قواريرَ} بغير تنوين فهو على الأصل ومن نوّنه فعلى ما ذكرنا في {سلاسل} {قَدَّرُوهَا تَقْدِيراً} هذه صفة للقوارير والمعنى قدّروها على قدر الأكف أو على قدر ما يحتاجون من الشراب، قال مجاهد: هي لا تغيض ولا تفيض، وقيل: قدروها على حسب ما يشتهون، والضمير الفاعل في {قدّروها} يحتمل أن يكون للشاربين بها أو للطائفين بها {مِزَاجُهَا زَنجَبِيلاً} هو كما ذكرنا في {مزاجها كافوراً} {سَلْسَبِيلاً} معناه سلسل منقاد الجرية، وقيل: سهل الانحدار في الحلق، يقال: شراب السلسل وسلسال وسلسبيل بمعنى واحد. وزيدت الباء في التركيب للمبالغة في سلاسته، فصارت الكلمة خماسية، وقيل: سل فعل أمر سبيلاً مفعول به وهذا في غاية الضعف {وِلْدَانٌ مُّخَلَّدُونَ} ذكر في الواقعة {لُؤْلُؤاً مَّنثُوراً} شبههم باللؤلؤ في الحسن والبياض، وبالمنثور منه في كثرتهم وانتشارهم في القصور.
{وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ} مفعول {رأيت} محذوف ليكون الكلام على الاطلاق في كل ما يرى فيها، وثم ظرف مكان، وقال الفراء: تقديره إذا رأيت ما ثم فما مفعوله ثم حذفت، قال الزمخشري: وهذا خطاب لأن ثمَّ صلة لما، ولا يجوز حذف الموصول وترك الصلة {وَمُلْكاً كَبِيراً} يعني كثرة ما أعطاهم الله، حتى إذا أدنى أهل الجنة منزلة له مثل الدنيا وعشرة أمثاله معه، حسما ورد في الحديث وقيل: أراد أن الملائكة تسلم عليهم، وتستأذن عليهم، فهم بذلك كالملوك {عَالِيَهُمْ} بسكون الياء مبتدأ خبره {ثِيَابُ سُندُسٍ} أي ما يعلوهم من الثياب ثيابُ سندس، وقرئ {عالِيَهم} بالنصب على الحال، من الضمير في {يطوف عليهم} أو في {حسبتهم}. وقال ابن عطية: العامل فيه {لقَّاهم} أو {جزاهم}، وقال أيضاً يجوز أن ينتصب على الظرف لأن معناه فوقاهم، وقد ذكرنا معنى السندس والإستبرق وقرئ {خُضْرٌ} بالخفض صفة لـ: {سندس} وبالرفع صفة لـ: {ثياب} {وَإِسْتَبرق} بالرفع عطف على {ثياب}، وبالخفض عطف على {سندس} {وحلوا} وزنه فعلوا معناه جعل لهم حلي {أَسَاوِرَ مِن فِضَّةٍ} ذكرنا الأساور في الكهف، فإن قيل: كيف قال هنا أساور من فضة، وفي موضع أساور من ذهب؟ فالجواب: أن ذلك يختلف باختلاف درجات أهل الجنة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «جنتان من ذهب آنيتهما وما فيهما وجنتان من فضة آنيتهما وما فيهما» فلعل الذهب للمقربين، والفضة لأهل اليمين، ويتحمل أن يكون أهل الجنة لهم أساور من فضة ومن ذهب معاً {شَرَاباً طَهُوراً} أي ليس بنجس كحمر الدنيا. وقيل معناه: أنه لم تعصره الأقدام، وقيل معناه لا يصير بولاً {إِنَّ هذا كَانَ لَكُمْ جَزَاءً} أي يقال لهم هذا يقوله الله تعالى والملائكة {آثِماً أَوْ كفوراً} أو هنا للتنويع، فالمعنى لا تطع النوعين، فاعلاً للإثم ولا كفوراً، وقيل: هي بمعنى الواو أي جامعاً للوصفين لأن هذه حالة الكفار، ورُوي أنه الآية نزلت في أبي جهل، وقيل: أن الآثم عتبة بن ربيعة، والكفور الوليد بن المغيرة، والأحسن أنها على العموم، لأن لفظها عام، وإن كان سبب نزولها خاصاً {بُكْرَةً وَأَصِيلاً} هذا أمر بذكر الله في كل وقت، وقيل: إشارة إلى الصلوات الخمس، فالبكرة صلاة الصبح، والأصيل الظهر والعصر، ومن الليل المغرب والعشاء.
{إِنَّ هؤلاء يُحِبُّونَ العاجلة} أي الدنيا والإشارة إلى الكفار واليوم الثقيل يوم القيامة، ووصفه بالثقل عبارة عن هوله وشدته {وَشَدَدْنَآ أَسْرَهُمْ} الأسر الخلقة وقيل: المفاصل والأوصال، وقيل: القوة {بَدَّلْنَآ أَمْثَالَهُمْ تَبْدِيلاً} أي أهلكناهم وأبدلنا منهم غيرهم. وقيل: مسخناهم فبدلنا صورهم وهذا تهديد {إِنَّ هذه تَذْكِرَةٌ} الإشارة إلى الآية أو السورة أو الشريعة بجملتها {فَمَن شَاءَ} تحضيض وترغيب ثم قيَّد مشيئتهم بمشيئة الله {والظالمين} منصوب بفعل مضمر تقديره: ويعذب الظالمين. اهـ.

.قال البيضاوي:

سورة الإنسان:
مكية.
وآيها إِحدى وثلاثون آية.
بِسْمِ الله الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
{هَلْ أتى عَلَى الإنسان}
استفهام تقرير وتقريب ولذلك فسر بقد وأصله أهل كقوله:
أهل رَأَوْنَا بِسَفْحِ القَاعِ ذِي الأَكم

{حِينٌ مّنَ الدهر} طائفة محدودة من الزمان الممتد الغير المحدود. {لَمْ يَكُن شَيْئاً مَّذْكُوراً} بل كان شيئاً منسياً غير مذكور بالإنسانية كالعنصر والنطفة، والجملة حال من {الإنسان} أو وصف ل {حِينٍ} بحذف الراجع والمراد بالإنسان الجنس لقوله: {إِنَّا خَلَقْنَا الإنسان مِن نُّطْفَةٍ} أو آدم بين أولاً خلقه ثم ذكر خلقه بنيه. {أَمْشَاجٍ} أخلاط جمع مشج أو مشج أو مشيج من مشجت الشيء إذا خلطته، وجمع النطفة به لأن المراد بها مجموع مني الرجل والمرأة وكل منهما مختلف الأجزاء في الرقة والقوام والخواص، ولذلك يصير كل جزء منهما مادة عضو. وقيل مفرد كأعشار وأكباش. وقيل ألوان فإن ماء الرجل أبيض وماء المرأة أصفر فإذا اختلطا اخضرا، أو أطوار فإن النطفة تصير علقة ثم مضغة إلى تمام الخلقة. {نبتليه} في موضع الحال أي مبتلين له بمعنى مريدين اختباره أو ناقلين له من حال إلى حال فاستعير له الابتلاء. {فجعلناه سَمِيعاً بَصِيراً} ليتمكن من مشاهدة الدلائل واستماع الآيات، فهو كالمسبب عن الابتلاء ولذلك عطف بالفاء على الفعل المقيد به ورتب عليه قوله: {إِنَّا هديناه السبيل} أي بنصب الدلائل وإنزال الآيات. {إِمَّا شاكراً وَإِمَّا كفوراً} حالان من الهاء، و{أَمَّا} للتفصيل أو التقسيم أي {هديناه} في حاليه جميعاً أو مقسوماً إليهما بعضهم {شاكرا} بالاهتداء والأخذ فيه، وبعضهم كفور بالإِعراض عنه، أو من {السبيل} ووصفه بالشكر والكفر مجاز. وقرئ {أَمَّا} بالفتح على حذف الجواب ولعله لم يقل كافراً ليطابق قسيمه محافظة على الفواصل، وإشعاراً بأن الإنسان لا يخلو عن كفران غالباً وإنما المؤاخذ به التوغل فيه.
{إِنَّا أَعْتَدْنَا للكافرين سلاسل} بها يقادون. {وأغلالا} بها يقيدون. {وَسَعِيراً} بها يحرقون، وتقديم وعيدهم وقد تأخر ذكرهم لأن الإِنذار أهم وأنفع، وتصدير الكلام وختمه بذكر المؤمنين أحسن، وقرأ نافع والكسائي وأبو بكر {سلاسلا} للمناسبة.
{إِنَّ الأبرار} جمع بر كأرباب أو بار كأشهاد. {يشربونَ مِن كَأْسٍ} من خمر وهي في الأصل القدح تكون فيه. {كَانَ مِزَاجُهَا} ما يمزج بها. {كافورا} لبرده وعذوبته وطيب عرفه وقيل اسم ماء في الجنة يشبه الكافور في رائحته وبياضه. وقيل يخلق فيها كيفيات الكافور فتكون كالممزوجة به.
{عيناً} بدل من {كافورا} إن جعل اسم ماء أو من محل {مِن كَأْسٍ} على تقدير مضاف، أي ماء عين أو خمرها أو نصب على الاختصاص أو بفعل يفسره ما بعدها.
{يشرب بها عِبَادُ الله} أي ملتذاً بها أو ممزوجاً بها، وقيل الباء مزيدة أو بمعنى من لأن الشرب مبتدأ منها كما هو. {يُفَجّرُونَهَا تَفْجِيراً} يجرونها حيث شاءوا إجراء سهلاً.
{يُوفُونَ بالنذر} استئناف ببيان ما رزقوه لأجله كأنه سئل عنه فأجيب بذلك، وهو أبلغ في وصفهم بالتوفر على أداء الواجبات لأن من وفى بما أوَجَبه على نفسه لله تعالى كان أوفى بما أوجبه الله تعالى عليه. {ويخافون يَوْماً كَانَ شَرُّهُ} شدائده. {مُسْتَطِيراً} فاشياً غاية الانتشار من استطار الحريق والفجر، وهو أبلغ من طار، وفيه إشعار بحسن عقيدتهم واجتنابهم عن المعاصي.
{وَيُطْعِمُونَ الطعام على حُبه} حب الله تعالى أو الطعام أو الإِطعام. {مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً} يعني أسراء الكفار فإنه صلى الله عليه وسلم كان يؤتى بالأسير فيدفعه إلى بعض المسلمين فيقول «أحسن إليه» أو الأسير المؤمن ويدخل فيه المملوك والمسجون، وفي الحديث: «غريمك أسير فأحسن إلى أسيرك».
{إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ الله} على إرادة القول بلسان الحال أو المقال إزاحة لتوهم المن وتوقع المكافأة المنقصة للأجر. وعن عائشة رضي الله تعالى عنها: أنها كانت تبعث بالصدقة إلى أهل بيت ثم تسأل المبعوث ما قالوا، فإن ذكر دعاء دعت لهم بمثله ليبقى ثواب الصدقة لها خالصاً عند الله. {لاَ نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاءً وَلاَ شُكُوراً} أي شكراً.
{إِنَّا نَخَافُ مِن رَّبّنَا} فلذلك نحسن إليكم أو لا نطلب المكافأة منكم. {يَوْماً} عذاب يوم. {عَبُوساً} تعبس فيه الوجوه أو يشبه الأسد العبوس في ضراوته. {قَمْطَرِيراً} شديد العبوس كالذي يجمع ما بين عينيه من اقمطرت الناقة إذا رفعت ذنبها وجمعت قرطيها أو مشتق من القطر والميم مزيدة.
{فوقاهم الله شَرَّ ذَلِكَ اليوم} بسبب خوفهم وتحفظهم عنه. {ولقاهم نَضْرَةً وَسُرُوراً} بدل عبوس الفجار وخزنهم.
{وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُواْ} بصبرهم على أداء الواجبات واجتناب المحرمات وإيثار الأموال. {جَنَّةُ} بستاناً يأكلون منه. {وَحَرِيراً} يلبسونه. وعن ابن عباس رضي الله عنهما: أن الحسن والحسين رضي الله عنهما مرضا فعادهما رسول الله صلى الله عليه وسلم في ناس فقالوا: يا أبا الحسن لو نذرت على ولديك، فنذر علي وفاطمة رضي الله تعالى عنهما وفضة جارية لهما صوم ثلاث إن برئا، فشفيا وما معهم شيء، فاستقرض علي من شمعون الخيبري ثلاثة أصوع من شعير فطحنت فاطمة صاعاً واختبزت خمسة أقراص فوضعوها بين أيديهم ليفطروا، فوقف عليهم مسكين فآثروه وباتوا ولم يذوقوا إلا الماء وأصبحوا صياماً، فلما أمسوا ووضعوا الطعام وقف عليهم يتيم فآثروه، ثم وقف عليهم في الثالثة أسير ففعلوا مثل ذلك، فنزل جبريل عليه السلام بهذه السورة وقال خذها يا محمد هناك الله في أهل بيتك.
{متكئين فِيهَا على الأرائك} حال من هم في {جزاهم} أو صفة ل {جَنَّةُ}. {لاَ يَرَوْنَ فِيهَا شَمْساً وَلاَ زَمْهَرِيراً} يحتملهما وأن يكون حالاً من المستكن في {متئكين}، والمعنى أنه يمر عليهم فيها هواء معتدل لا حار محم ولا بارد مؤذ، وقيل الزمهرير القمر في لغة طيء قال راجزهم:
وَلَيْلَةٌ ظَلاَمُهَا قَدِ اعْتَكَر ** قَطَعْتُهَا وَالزَّمْهَرِيرُ مَا زَهَرْ

والمعنى أن هواءها مضيء بذاته لا يحتاج إلى شمس وقمر.
{وَدانية عَلَيْهِمْ ظلالها} حال أو صفة أخرى معطوفة على ما قبلها، أو عطف على {جَنَّةُ} أي وجنة أخرى دانية على أنهم وعدوا جنتين كقوله: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبه جَنَّتَانِ} وقرئت بالرفع على أنها خبر {ظلالها} والجملة حال أو صفة. {وَذللت قُطُوفُهَا تَذْلِيلاً} معطوف على ما قبله أو حال من دانية، وتذليل القطوف ان تجعل سهلة التناول لا تمتنع على قطافها كيف شاءوا.
{وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ بِئَانِيَةٍ مّن فِضَّةٍ وَأَكْوابٍ} وأباريق بلا عروة. {كَانَتْ قَوَارِيرَاْ}.
{قَوارِيرَ مِن فِضَّةٍ} أي تكونت جامعة بين صفاء الزجاجة وشفيفها وبياض الفضة ولينها، وقد نون {قَوارِيرَ} من نون {سلاسلاً} وابن كثير الأولى لأنها رأس الآية، وقرئ {قَوارِيرَ مِن فِضَّةٍ} على هي {قَوارِيرَ}. {قَدَّرُوهَا تَقْدِيراً} أي قدروها في أنفسهم فجاءت مقاديرها وأشكالها كما تمنوه، أو قدروها بأعمالهم الصالحة فجاءت على حسبها، أو قدر الطائفون بها المدلول عليهم بقوله يطاف شرابها على قدر اشتهائهم، وقرئ {قَدَّرُوهَا} أي جعلوا قادرين لها كما شاءوا من قدر منقولاً من قدرت الشيء.
{وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْساً كَانَ مِزَاجُهَا زَنجَبِيلاً} ما يشبه الزنجبيل في الطعم وكانت العرب يستلذون الشراب الممزوج به {عيناً فِيهَا تسمى سَلْسَبِيلاً} لسلاسة انحدارها في الحلق وسهولة مساغها، يقال شراب سلسل وسلسال وسلسبيل، ولذلك حكم بزيادة الباء والمراد به أن ينفي عنها لذع الزنجيل ويصفها بنقيضه، وقيل أصله سل سبيلا فسميت به كتأبط شراً لأنه لا يشرب منها إلا من سأل إليها سبيلاً بالعمل الصالح.
{وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ ولدان مُّخَلَّدُونَ} دائمون. {إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤاً مَّنثُوراً} من صفاء ألوانهم وانبثاثهم في مجالسهم وانعكاس شعاع بعضهم إلى بعض.
{وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ} ليس له مفعول ملفوظ ولا مقدر لأنه عام معناه أن بصرك أينما وقع. {رَأَيْتَ نَعِيماً وَمُلْكاً كَبِيراً} واسعاً، وفي الحديث: «أدنى أهل الجنة منزلة ينظر في ملكه مسيرة ألف عام يرى أقصاه كما يرى أدناه» هذا وللعارف أكبر من ذلك وهو أن تنتقش نفسه بجلايا الملك وخفايا الملكوت، فيستضيء بأنوار قدس الجبروت.
{عاليهم ثِيَابُ سُندُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبرق} يعلوهم ثياب الحرير الخضر ما رق منها وما غلظ، ونصبه على الحال من هم في عليهم أو {حَسِبْتَهُمْ}، أو {مَلَكًا} على تقدير مضاف أي وأهل ملك كبير عاليهم، وقرأ نافع {عاليهم} وحمزة بالرفع على أنه خبر {ثِيَابُ}. وقرأ ابن كثير وأبو بكر {خُضْرٍ} بالجر حملاً على {سُندُسٍ} بالمعنى فإنه اسم جنس، {وَإِسْتَبرق} بالرفع عطفاً على {ثِيَابُ}، وقرأهما حفص وحمزة والكسائي بالرفع، وقرئ: {وَإِسْتَبرق} بوصل الهمزة والفتح على أنه استفعل من البريق جعل علماً لهذا النوع من الثياب. {وَحُلُّواْ أَسَاوِرَ مِن فِضَّةٍ} عطف على {وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ} ولا يخالفه قوله: {أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ} لإمكان الجمع والمعاقبة والتبعيض، فإن حلي أهل الجنة تختلف باختلاف أعمالهم، فلعله تعالى يفيض عليهم جزاء لما عملوه بأيديهم حلياً وأنواراً تتفاوت الذهب والفضة، أو حال من الضمير في {عاليهم} بإضمار قد، وعلى هذا يجوز أن يكون هذا للخدم وذلك للمخدومين. {وسقاهم رَبهمْ شَرَاباً طَهُوراً} يريد به نوعاً آخر يفوق على النوعين المتقدمين ولذلك أسند سقيه إلى الله عز وجل، ووصفه بالطهورية فإنه يطهر شاربه عن الميل إلى اللذات الحسية والركون إلى ما سوى الحق، فيتجرد لمطالعة جماله ملتذاً بلقائه باقياً ببقائه، وهي منتهى درجات الصديقين ولذلك ختم بها ثواب الأبرار.
{إِنَّ هذا كَانَ لَكُمْ جَزَاءً} على إضمار القول والإِشارة إلى ما عد من ثوابهم. {وَكَانَ سَعْيُكُم مَّشْكُوراً} مجازى عليه غير مضيع.
{إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ القرءان تَنزِيلاً} مفرقاً منجماً لحكمةٍ اقتضته، وتكرير الضمير مع أن مزيد لاختصاص التنزيل به.
{فاصبر لِحُكْمِ رَبّكَ} بتأخير نصرك على كفار مكة وغيرهم. {وَلاَ تُطِعْ مِنْهُمْ ءاثِماً أَوْ كفوراً} أي كل واحدُ من مرتكب الإِثم الداعي لك إليه ومن الغالي في الكفر الداعي لك إليه، وأو للدلالة على أنهما سيان في استحقاق العصيان والاستقلال به والقسم باعتبار ما يدعونه إليه، فإن ترتب النهي على الوصفين مشعر أنه لهما وذلك يستدعي أن تكون المطاوعة في الإِثم والكفر. فإن مطاوعتهما فيما ليس بإثم ولا كفر غير محظور.
{واذكر اسم رَبّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلاً} ودَاوم على ذكره أو دم على صلاة الفجر والظهر والعصر فإن الأصيل يتناول وقتيهما.
{وَمِنَ اليل فاسجد لَهُ} وبعض الليل فصل له تعالى، ولعل المراد به صلاة المغرب والعشاء وتقديم الظرف لما في صلاة الليل من مزيد الكلفة والخلوص. {وَسَبّحْهُ لَيْلاً طَوِيلاً} وتهجد له طائفة طويلة من الليل.
{إِنَّ هؤلاء يُحِبُّونَ العاجلة وَيَذَرُونَ وَرَاءهُمْ} أمامهم أو خلف ظهورهم. {يَوْماً ثَقِيلاً} شديداً مستعار من الثقل الباهظ للحامل، وهو كالتعليل لما أمر به ونهى عنه.
{نَّحْنُ خلقناهم وَشَدَدْنَا أَسْرَهُمْ} وأحكمنا ربط مفاصلهم بالأعصاب. {وَإِذَا شِئْنَا بَدَّلْنَا أمثالهم تَبْدِيلاً} وإذا شئنا أهلكناهم و{بَدَّلْنَا أمثالهم تَبْدِيلاً} في الخلقة، وشدة الأسر يعني النشأة الثانية ولذلك جيء ب {إِذَا} أو بدلنا غيرهم ممن يطيع {وَإِذَا} لتحقق القدرة وقوة الداعية.
{إِنَّ هذه تَذْكِرَةٌ} الإِشارة إلى السورة أو الآيات القريبة، {فَمَن شَاءَ اتخذ إلى رَبه سَبِيلاً} تقرب إليه بالطاعة.
{وَمَا تَشَاءونَ إِلاَّ أَن يَشَاءَ الله} وما تشاءون ذلك إلا وقت أن يشاء الله مشيئتكم، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر {يَشَاءونَ} بالياء. {إِنَّ الله كَانَ عَلِيماً} بما يستأهل كل أحد. {حَكِيماً} لا يشاء إلا ما تقتضيه حكمته.
{يُدْخِلُ مَن يَشَاء في رَحْمَتِهِ} بالهداية والتوفيق للطاعة. {والظالمين أَعَدَّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً} نصب {الظالمين} بفعل يفسره {أَعَدَّ لَهُمْ} مثل أوعد وكافأ ليطابق الجملة المعطوف عليها، وقرئ بالرفع على الابتداء.
عن النبي صلى الله عليه وسلم: «من قرأ سورة هل أتى كان جزاؤه على الله جنة وحريراً». اهـ.

.قال أبو حيان:

سورة الإنسان:
{هَلْ أَتَى عَلَى الإنسان حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا (1)}
{هل} حرف استفهام، فإن دخلت على الجملة الاسمية لم يمكن تأويله بقد، لأن قد من خواص الفعل، فإن دخلت على الفعل فالأكثر أن تأتي للاستفهام المحض.
وقال ابن عباس وقتادة: هي هنا بمعنى قد.
قيل: لأن الأصل أهل، فكأن الهمزة حذفت واجتزىء بها في الاستفهام، ويدل على ذلك قوله:
سائل فوارس يربوع لحلتها ** أهل رأونا بوادي النتّ ذي الأكم

فالمعنى: أقد أتى على التقدير والتقريب جميعاً، أي أتى على الإنسان قبل زمان قريب حين من الدهر لم يكن كذا، فإنه يكون الجواب: أتى عليه ذلك وهو بالحال المذكور.
وما تليت عند أبي بكر، وقيل: عند عمر رضي الله تعالى عنهما قال: ليتها تمت، أي ليت تلك الحالة تمت، وهي كونه شيئاً غير مذكور ولم يخلق ولم يكلف.
والإنسان هنا جنس بني آدم، والحين الذي مرّ عليه، إما حين عدمه، وإما حين كونه نطفة.
وانتقاله من رتبة إلى رتبة حتى حين إمكان خطابه، فإنه في تلك المدة لا ذكر له، وسمي إنساناً باعتبار ما صار إليه.
وقيل: آدم عليه الصلاة والسلام، والحين الذي مر عليه هي المدة التي بقي فيها إلى أن نفخ فيه الروح.
وعن ابن عباس: بقي طيناً أربعين سنة، ثم صلصالاً أربعين، ثم حمأ مسنوناً أربعين، فتم خلقه في مائة وعشرين سنة، وسمي إنساناً باعتبار ما آل إليه.
والجملة من {لم يكن} في موضع الحال من الإنسان، كأنه قيل: غير مذكور، وهو الظاهر أو في موضع الصفة لحين، فيكون العائد على الموصوف محذوفاً، أي لم يكن فيه.
{إنا خلقنا الإنسان}: هو جنس بني آدم لأن آدم لم يخلق {من نطفة أمشاج}: أخلاط، وهو وصف للنطفة.
فقال ابن مسعود وأسامة بن زيد عن أبيه: هي العروق التي في النطفة.
وقال ابن عباس ومجاهد والربيع: هو ماء الرجل وماء المرأة اختلطا في الرحم فخلق الإنسان منهما.
وقال الحسن: اختلاط النطفة بدم الحيض، فإذا حبلت ارتفع الحيض.
وقال ابن عباس أيضاً وعكرمة وقتادة: أمشاج منتقلة من نطفة إلى علقة إلى مضغة إلى غير ذلك إلى إنشائه إنساناً.
وقال ابن عباس أيضاً والكلبي: هي ألوان النطفة.
وقيل: أخلاط الدم والبلغم والصفراء والسوداء، والنطفة أريد بها الجنس، فلذلك وصفت بالجمع كقوله: {على رفرف خضر} أو لتنزيل كل جزء من النطفة نطفة.
وقال الزمخشري: نطفة أمشاج، كبرمة إعسار، وبرد أكياس، وهي ألفاظ مفرد غير جموع، ولذلك وقعت صفات للأفراد.
ويقال أيضاً: نطفة مشج، ولا يصح أمشاج أن تكون تكسيراً له، بل هما مثلان في الإفراد لوصف المفرد بهما. انتهى.
وقوله مخالف لنص سيبويه والنحويين على أن أفعالاً لا يكون مفرداً.
قال سيبويه: وليس في الكلام أفعال إلا أن يكسر عليه اسماً للجميع، وما ورد من وصف المفرد بأفعال تأولوه.
{نبتليه}: نختبره بالتكليف في الدنيا؛ وعن ابن عباس: نصرفه في بطن أمه نطفة ثم علقة، فعلى هذا هي حال مصاحبة، وعلى أن المعنى نختبره بالتكليف، فهي حال مقدرة لأنه تعالى حين خلقه من نطفة لم يكن مبتلياً له بالتكليف في ذلك الوقت.
وقال الزمخشري: ويجوز أن يراد ناقلين له من حال إلى حال فسمي ذلك الابتلاء على طريق الاستعارة. انتهى.
وهذا معنى قول ابن عباس.
وقيل: نبتليه بالإيحان والكون في الدنيا، فهي حال مقارنة.
وقيل: في الكلام تقديم وتأخير الأصل.
{فجعلناه سميعاً بصيراً} نبتليه، أي جعله سميعاً بصيراً هو الابتلاء، ولا حاجة إلى ادعاء التقديم والتأخير، والمعنى يصح بخلافه، وامتن تعالى عليه بجعله بهاتين الصفتين، وهما كناية عن التمييز والفهم، إذ آلتهما سبب لذلك، وهما أشرف الحواس، تدرك بهما أعظم المدركات.
ولما جعله بهذه المثابة، أخبر تعالى أنه هداه إلى السبيل، أي أرشده إلى الطريق، وعرفنا مآل طريق النجاة ومآل طريق الهلاك، إذ أرشدناه طريق الهدى.
وقال مجاهد: سبيل السعادة والشقاوة.
وقال السدي: سبيل الخروج من الرحم.
وقال الزمخشري: أي مكناه وأقدرناه في حالتيه جميعاً، وإذ دعوناه إلى الإسلام بأدلة العقل والسمع كان معلوماً منه أنه يؤمن أو يكفر لإلزام الحجة.
انتهى، وهو على طريق الإلتزام.
وقرأ الجمهور: {أما} بكسر الهمزة فيهما؛ وأبو السمال وأبو العاج، وهو كثير بن عبد الله السلمي شامي ولي البصرة لهشام بن عبد الملك: بفتحها فيهما، وهي لغة حكاها أبو زيد عن العرب، وهي التي عدها بعض الناس في حروف العطف وأنشدوا:
يلحقها إما شمال عرية ** وإما صبا جنح العشي هبوب

وقال الزمخشري: وهي قراءة حسنة، والمعنى: إما شاكراً بتوفيقنا، وإما كفوراً فبسوء اختياره. انتهى.
فجعلها إما التفصيلية المتضمنة معنى الشرط، ولذلك تلقاها بفاء الجواب، فصار كقول العرب: إما صديقاً فصديق؛ وانتصب {شاكراً} و{كفوراً} على الحال من ضمير النصب في {هديناه}.
وقال الزمخشري: ويجوز أن يكونا حالين من {السبيل}، أي عرفناه السبيل، إما سبيلاً شاكراً وإما سبيلاً كفوراً، كقوله: {وهديناه النجدين} فوصف السبيل بالشكر والكفر مجازاً. انتهى.
ولما كان الشكر قل من يتصف به قال شاكراً: ولما كان الكفر كثر من يتصف به ويكثر وقوعه من الإنسان بخلاف الشكر جاء كفوراً بصيغة المبالغة.
ولما ذكر الفريقين أتبعهما الوعيد والوعد.
وقرأ طلحة وعمرو بن عبيد وابن كثير وأبو عمرو وحمزة: {سلاسل} ممنوع الصرف وقفاً ووصلاً.
وقيل عن حمزة وأبي عمر: الوقف بالألف.
وقرأ حفص وابن ذكوان بمنع الصرف، واختلف عنهم في الوقف، وكذا عن البزي.
وقرأ باقي السبعة: بالتنوين وصلاً وبالألف المبدلة منه وقفاً، وهي قراءة الأعمش، قيل: وهذا على ما حكاه الأخفش من لغة من يصرف كل ما لا ينصرف إلا أفعل من وهي لغة الشعراء، ثم كثر حتى جرى في كلامهم، وعلل ذلك بأن هذا الجمع لما كان يجمع فقالوا: صواحبات يوسف ونواكسي الأبصار، أشبه المفرد فجرى فيه الصرف، وقال بعض الرجاز:
والصرف في الجمع أتى كثيراً ** حتى ادعى قوم به التخييرا

والصرف ثابت في مصاحف المدينة ومكة والكوفة والبصرة، وفي مصحف أبي وعبد الله، وكذا {قوارير}.
وروى هشام عن ابن عامر: {سلاسل} في الوصل، و{سلاسلاً} بألف دون تنوين في الوقف.
وروي أن من العرب من يقول: رأيت عمراً بالألف في الوقف.
{من كأس}: من لابتداء الغاية، {كان مزاجها كافوراً}، قال قتادة: يمزج لهم بالكافور، ويختم لهم بالمسك.
وقيل: هو على التشبيه، أي طيب رائحة وبرد كالكافور.
وقال الكلبي: {كافوراً} اسم عين في الجنة، وصرفت لتوافق الآي.
وقرأ عبد الله: {قافوراً} بالقاف بدل الكاف، وهما كثيراً ما يتعاقبان في الكلمة، كقولهم: عربي قح وكح، و{عيناً} بدل من {كافوراً} مفعولاً {بيشربون}، أي ماء عين، أو بدل من محل {من كأس} على حذف مضاف، أي يشربون خمراً خمر عين، أو نصب على الاختصاص.
ولما كانت الكأس مبدأ شربهم أتى بمن؛ وفي {يشرب بها}: أي يمزج شرابهم بها أتى بالباء الدالة على الإلصاق، والمعنى: يشرب عباد الله بها الخمر، كما تقول: شربت الماء بالعسل، أو ضمن يشرب معنى يروى فعدى بالباء.
وقيل: الباء زائدة والمعنى يشرب بها، وقال الهذلي:
شربن بماء البحر ثم ترفعت ** متى لجج خضر لهن نئيج

قيل: أي شربن ماء البحر.
وقرأ ابن أبي عبلة: {يشربها}؛ و{عباد الله} هنا هم المؤمنون، {يفجرونها}: يثقبونها بعود قصب ونحوه حيث شاءوا، فهي تجري عند كل واحد منهم، هكذا ورد في الأثر.
وقيل: هي عين في دار رسول الله صلى الله عليه وسلم تنفجر إلى دور الأنبياء والمؤمنين.
{يوفون بالنذر} في الدنيا، وكانوا يخافون.
وقال الزمخشري: {يوفون} جواب من عسى يقول ما لهم يرزقون ذلك. انتهى.
فاستعمل عسى صلة لمن وهو لا يجوز، وأتى بعد عسى بالمضارع غير مقرون بأن، وهو قليل أو في شعر.
والظاهر أن المراد بالنذر ما هو المعهود في الشريعة أنه نذر.
قال الأصم وتبعه الزمخشري: هذا مبالغة في وصفهم بالتوفر على أداء الواجبات، لأن من وفى بما أوجبه هو على نفسه كان لما أوجبه الله تعالى عليه أوفى.
وقيل: النذر هنا عام لما أوجبه الله تعالى، وما أوجبه العبد فيدخل فيه الإيمان وجمع الطاعات.
{على حبه}: أي على حب الطعام، إذ هو محبوب للفاقة والحاجة، قاله ابن عباس ومجاهد؛ أو على حب الله: أي لوجهه وابتغاء مرضاته، قاله الفضيل بن عياض وأبو سليمان الداراني.
والأول أمدح، لأن فيه الإيثار على النفس؛ وأما الثاني فقد يفعله الأغنياء أكثر.
وقال الحسن بن الفضل: على حب الطعام، أي محبين في فعلهم ذلك، لا رياء فيه ولا تكلف.
{مسكيناً}: وهو الطواف المنكسر في السؤال، {ويتيماً}: هو الصبي الذي لا أب له، {وأسيراً}: والأسير معروف، وهو من الكفار، قاله قتادة.
وقيل: من المسلمين تركوا في بلاد الكفار رهائن وخرجوا لطلب الفداء.
وقال ابن جبير وعطاء: هو الأسير من أهل القبلة.
وقيل: {وأسيراً} استعارة وتشبيه.
وقال مجاهد وابن جبير وعطاء: هو المسجون.
وقال أبو حمزة اليماني: هي الزوجة؛ وعن أبي سعيد الخدري: هو المملوك والمسجون.
وفي الحديث: «غريمك أسيرك فأحسن إلى أسيرك».
{إنما نطعمكم لوجه الله}: هو على إضمار القول، ويجوز أن يكونوا صرحوا به خطاباً للمذكورين، منعاً منهم وعن المجازاة بمثله أو الشكر، لأن إحسانهم مفعول لوجه الله تعالى، فلا معنى لمكافأة الخلق، وهذا هو الظاهر.
وقال مجاهد: أما أنهم ما تكلموا به، ولكن الله تعالى علمه منهم فأثنى عليهم به.
{لا نريد منكم جزاء}: أي بالأفعال، {ولا شكوراً}: أي ثناء بالأقوال؛ وهذه الآية قيل نزلت في علي بن أبي طالب كرم الله وجهه، وذكر النقاش في ذلك حكاية طويلة جدًّا ظاهرة الاختلاف، وفيها إشعار للمسكين واليتيم والأسير، يخاطبون بها ببيت النبوة، وإشعار لفاطمة رضي الله عنها تخاطب كل واحد منهم، ظاهرها الاختلاف لسفساف ألفاظها وكسر أبياتها وسفاطة معانيها.
{يوماً عبوساً}: نسبة العبوس إلى اليوم مجاز.
قال ابن عباس: يعبس الكافر يومئذ حتى يسيل من عينيه عرق كالقطران.
وقرأ الجمهور: {فوقاهم} بخفة القاف؛ وأبو جعفر: بشدها؛ {ولقاهم نضرة}: بدل عبوس الكافر، {وسروراً}: فرحاً بدل حزنه، لا تكاد تكون النظرة إلا مع فرح النفس وقرة العين.
وقرأ الجمهور: {وجزاهم}؛ وعليّ: وجازاهم على وزن فاعل، {جنة وحريراً}: بستاناً فيه كل مأكل هنيء، {وحريراً} فيه ملبس بهي، وناسب ذكر الحرير مع الجنة لأنهم أوثروا على الجوع والغذاء.
{لا يرون فيها}: أي في الجنة، {شمساً}: أي حر شمس ولا شدة برد، أي لا شمس فيها فترى فيؤذي حرها، ولا زمهرير يرى فيؤذي بشدته، أي هي معتدلة الهواء.
وفي الحديث: «هواء الجنة سجسج لا حر ولا قر». وقيل: لا يرون فيها شمساً ولا قمراً، والزمهرير في لغة طيء القمر.
وقرأ الجمهور: {ودانية}، قال الزجاج: هو حال عطفاً على {متكئين}.
وقال أيضاً: ويجوز أن يكون صفة للجنة، فالمعنى: وجزاهم جنة دانية. وقال الزمخشري: ما معناه أنها حال معطوفة على حال وهي لا يرون، أي غير رائين، ودخلت الواو للدلالة على أن الأمرين مجتمعان لهم، كأنه قيل: وجزاهم جنة جامعين فيها بين البعد عن الحر والقر ودنوّ الظلال عليهم.
وقرأ أبو حيوة: و{دانية} بالرفع، واستدل به الأخفش على جواز رفع اسم الفاعل من غير أن يعتمد، نحو قولك: قائم الزيدون، ولا حجة فيه لأن الأظهر أن يكون {ظلالها} مبتدأ {ودانية} خبر له.
وقرأ الأعمش: {ودانياً عليهم}، وهو كقوله: {خاشعةً أبصارهم} وقرأ أبيّ: {ودان} مرفوع، فهذا يمكن أن يستدل به الأخفش.
{وذللت قطوفها}، قال قتادة ومجاهد وسفيان: إن كان الإنسان قائماً، تناول الثمر دون كلفة؛ وإن قاعداً أو مضطعجاً فكذلك، فهذا تذليلها، لا يرد اليد عنها بعد ولا شوك.
فأما على قراءة الجمهور: {ودانية} بالنصب، كان {وذللت} معطوفاً على {دانية} لأنها في تقدير المفرد، أي ومذللة، وعلى قراءة الرفع كان من عطف جملة فعلية على جملة اسمية.
ويجوز أن تكون في موضع الحال، أي وقد ذللت رفعت دانية أو نصبت.
{وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوَابٍ كَانَتْ قَوَارِيرَا (15)}
لما وصف تعالى طعامهم وسكناهم وهيئة جلوسهم، ذكر شرابهم، وقدم ذكر الآنية التي يسقون منها، والآنية جمع إناء، وتقدم شرح الأكواب.
وقرأ نافع والكسائي: قواريراً قواريراً بتنوينهما وصلاً وإبداله ألفاً وقفاً؛ وابن عامر وحمزة وأبو عمرو وحفص: بمنع صرفهما؛ وابن كثير: بصرف الأول ومنع الصرف في الثاني.
وقال الزمخشري: وهذا التنوين بدل من ألف الإطلاق لأنه فاصلة، وفي الثاني لاتباعه الأول. انتهى.
وكذا قال في قراءة من قرأ سلاسلاً بالتنوين: إنه بدل من حرف الإطلاق، أجرى الفواصل مجرى أبيات الشعر، فكما أنه يدخل التنوين في القوافي المطلقة إشعاراً بترك الترنم، كما قال الراجز:
يا صاح ما هاج الدموع الذرّفن

فهذه النون بدل من الألف، إذ لو ترنم لوقف بألف الإطلاق.
{من فضة}: أي مخلوقة من فضة، ومعنى {كانت}: أنه أوجدها تعالى من قوله: {كن فيكون} تفخيماً لتلك الخقلة العجيبة الشأن الجامعة بين بياض الفضة ونصوعها وشفيف القوارير وصفائها، ومن ذلك قوله: {كان مزاجها كافوراً}.
وقرأ الأعمش: {قوارير من فضة} بالرفع، أي هو قرارير.
وقرأ الجمهور: {قدروها} مبنياً للفاعل، والضمير للملائكة، أو للطواف عليهم، أو المنعمين، والتقدير: على قدر الأكف، قاله الربيع؛ أو على قدر الري، قاله مجاهد.
وقال الزمخشري: {قدروها} صفة لقرأرير من فضة، ومعنى تقديرهم لها أنهم قدروها في أنفسهم على مقادير وأشكال على حسب شهواتهم، فجاءت كما قدروها.
وقيل: الضمير للطائفين بها يدل عليه قوله: {ويطاف عليهم}، على أنهم قدروا شرابها على قدر الري، وهو ألذ الشراب لكونه على مقدار حاجته، لا يفضل عنها ولا يعجز.
وعن مجاهد: لا يفيض ولا يغيض. انتهى.
وقرأ عليّ وابن عباس والسلمي والشعبي وابن أبزي وقتادة وزيد بن عليّ والجحدري وعبد الله بن عبيد بن عمير وأبو حيوة وعباس عن أبان، والأصمعي عن أبي عمرو، وابن عبد الخالق عن يعقوب: {قدروها} مبنياً للمفعول.
قال أبو علي: كأن اللفظ قدروا عليها، وفي المعنى قلب لأن حقيقة المعنى أن يقال: قدرت عليهم، فهي مثل قوله: {ما إن مفاتحه لتنوأ بالعصبة أولي القوة} ومثل قول العرب: إذا طلعت الجوزاء ألقى العود على الحرباء.
وقال الزمخشري: ووجهه أن يكون من قدر منقولاً من قدر، تقول: قدرت الشيء وقدرنيه فلان إذا جعلك قادراً عليه، ومعناه: جعلوا قادرين لها كما شاءوا، وأطلق لهم أن يقدروا على حسب ما اشتهوا. انتهى.
وقال أبو حاتم: قدرت الأواني على قدر ريهم، ففسر بعضهم قول أبي حاتم هذا، قال: فيه حذف على حذف، وهو أنه كان قدر على قدر ريهم إياها، ثم حذف على فصار قدر ريهم مفعول لم يسم فاعله، ثم حذف قدر فصار ريهم قائماً مقامه، ثم حذف الري فصارت الواو مكان الهاء والميم لما حذف المضاف مما قبلها، وصارت الواو مفعول ما لم يسم فاعله، واتصل ضمير المفعول الثاني في تقدر النصب بالفعل بعد الواو التي تحولت من الهاء والميم حتى أقيمت مقام الفاعل.
انتهى.
والأقرب في تخريج هذه القراءة الشاذة أن يكون الأصل قدر ريهم منها تقديراً، فحذف المضاف وهو الذي، وأقيم الضمير مقامه فصار التقدير: قدروا منها؛ ثم اتسع في الفعل فحذفت من ووصل الفعل إلى الضمير بنفسه فصار قدّروها، فلم يكن فيه إلا حذف مضاف واتساع في المجرور.
والظاهر أن الكأس تمزج بالزنجبيل، والعرب تستلذة وتذكره في وصف رضاب أفواه النساء، كما أنشدنا لهم في الكلام على المفردات.
وقال الزمخشري: تسمى العين زنجبيلاً لطعم الزنجبيل فيها. انتهى.
وقال قتادة: الزنجبيل اسم لعين في الجنة، يشرب منها المقربون صرفاً، ويمزج لسائر أهل الجنة.
وقال الكلبي: يسقى بجامين، الأول مزاجه الكافور، والثاني مزاجه الزنجبيل.
وعيناً بدل من كأس على حذف، أي كأس عين، أو من زنجبيل على قول قتادة.
وقيل: منصوب على الاختصاص.
والظاهر أن هذه العين تسمى سلسبيلاً بمعنى توصف بأنها سلسلة في الاتساع سهلة في المذاق، ولا يحمل سلسبيل على أنه اسم حقيقة، لأنه إذ ذاك كان ممنوع الصرف للتأنيث والعلمية.
وقد روي عن طلحة أنه قرأه بغير ألف، جعله علماً لها، فإن كان علماً فوجه قراءة الجمهور بالتنوين المناسبة للفواصل، كما قال ذلك بعضهم في سلاسلاً وقواريراً؛ ويحسن ذلك أنه لغة بعض العرب، أعني صرف ما لا يصرفه أكثر العرب.
وقال الزمخشري: وقد زيدت الباء في التركيب حتى صارت الكلمة خماسية. انتهى.
وكان قد ذكر فقال: شراب سلسل وسلسال وسلسيل، فإن كان عنى أنه زيد حقيقة فليس بجيد، لأن الباء ليست من حروف الزيادة المعهودة في علم النحو؛ وإن عنى أنها حرف جاء في سنح الكلمة وليس في سلسيل ولا في سلسال، فيصح ويكون مما اتفق معناه وكان مختلفاً في المادة.
وقال بعض المعربينّ: سلسبيلاً أمر للنبي صلى الله عليه وسلم ولأمته بسؤال السبيل إليها، وقد نسبوا هذا القول إلى علي كرم الله وجهه، ويجب طرحه من كتب التفسير.
وأعجب من ذلك توجيه الزمخشري له واشتغاله بحكايته، ويذكر نسبته إلى عليّ كرم الله وجهه ورضي عنه.
وقال قتادة: هي عين تنبع من تحت العرش من جنة عدن إلى الجنان.
وقال عكرمة: عين سلس ماؤها.
وقال مجاهد: عين جديرة الجرية سلسلة سهلة المساغ.
وقال مقاتل: عين يتسلسل عليهم ماؤها في مجالسهم كيف شاءوا وتقدّم شرح {مخلدون} وتشبيه الولدان باللؤلؤ المنثور في بياضهم وصفاء ألوانهم وانتشارهم في المساكن في خدمة أهل الجنة يجيئون ويذهبون.
وقيل: شبهوا باللؤلؤ الرطب إذا أنثر من صدفه، فإنه أحسن في العين وأبهج للنفس.
وجواب {إذا رأيتهم}: {نعيماً}، ومفعول فعل الشرط محذوف، حذف اقتصاراً، والمعنى: وإذا رميت ببصرك هناك، وثم ظرف العامل فيه رأيت.
وقيل: التقدير: وإذا رأيت ما ثم، فحذف ما كما حذف في قوله: {لقد تقطع بينكم} أي ما بينكم.
وقال الزجاج، وتبعه الزمخشري فقال: ومن قال معناه ما ثم فقد أخطأ، لأن ثم صلة لما، ولا يجوز إسقاط الموصول وترك الصلة. انتهى.
وليس بخطأ مجمع عليه، بل قد أجاز ذلك الكوفيون، وثم شواهد من لسان العرب كقوله:
فمن يهجو رسول الله منكم ** ويمدحه وينصره سواء

أي: ومن يمدحه، فحذف الموصول وأبقى صلته.
وقال ابن عطية: وثم ظرف العامل فيه رأيت أو معناه، التقدير: رأيت ما ثم حذفت ما. انتهى.
وهذا فاسد، لأنه من حيث جعله معمولاً لرأيت لا يكون صلة لما، لأن العامل فيه إذ ذاك محذوف، أي ما استقر ثم.
وقرأ الجمهور: {ثم} بفتح الثاء؛ وحميد الأعرج: {ثم} بضم التاء حرف عطف، وجواب إذا على هذا محذوف، أي وإذا رميت ببصرك رأيت نعيماً؛ والملك الكبير قيل: النظر إلى الله تعالى.
وقال السدّي: استئذان الملائكة عليهم.
وقال أكثر المفسرين: الملك الكبير: اتساع مواضعهم.
وقال الكلبي: كبيراً عريضاً يبصر أدناهم منزلة في الجنة مسيرة ألف عام، يرى أقصاه كما يرى أدناه، وقاله عبد الله بن عمر، وقال: ما من أهل الجنة من أحد إلا يسعى عليه ألف غلام، كلهم مختلف شغله من شغل أصحابه.
وقال الترمذي، وأظنه الترمذي الحكيم لا أبا عيسى الحافظ صاحب الجامع: هو ملك التكوين والمشيئة، إذا أراد شيئاً كان قوله تعالى: {لهم ما يشاءون فيها} وقيل غير هذه الأقوال.
وقرأ عمر وابن عباس والحسن ومجاهد والجحدري وأهل مكة وجمهور السبعة: {عاليهم} بفتح الياء؛ وابن عباس: بخلاف عنه؛ والأعرج وأبو جعفر وشيبة وابن محيصن ونافع وحمزة: بسكونها، وهي رواية أبان عن عاصم.
وقرأ ابن مسعود والأعمش وطلحة وزيد بن عليّ: بالياء مضمومة؛ وعن الأعمش وأبان أيضاً عن عاصم: بفتح الياء.
وقرأ: عليهم حرف جر، ابن سيرين ومجاهد وقتادة وأبو حيوة وابن أبي عبلة والزعفراني وأبان أيضاً؛ وقرأت عائشة رضي الله عنها: {علتهم} بتاء التأنيث فعلاً ماضياً، فـ: {ثياب} فاعل.
ومن قرأ بالياء مضمومة فمبتدأ خبره {ثياب}؛ ومن قرأ {عليهم} حرف جر فـ: {ثياب} مبتدأ؛ ومن قرأ بنصب الياء وبالتاء ساكنة فعلى الحال، وهو حال من المجرور في {ويطوف عليهم}، فذوا لحال الطوف عليهم والعامل {يطوف}.
وقال الزمخشري: و{عاليهم} بالنصب على أنه حال من الضمير في {يطوف عليهم}، أو في {حسبتهم}، أي يطوف عليهم ولدان عالياً للمطوف عليهم ثياب، أو حسبتهم لؤلؤاً عالياً لهم ثياب.
ويجوز أن يراد: رأيت أهل نعيم وملك عاليهم ثياب. انتهى.
إما أن يكون حالاً من الضمير في {حسبتهم}، فإنه لا يعني إلا ضمير المفعول، وهذا عائد على {ولدان}، ولذلك قدر عاليهم بقوله: عالياً لهم، أي للولدان، وهذا لا يصح لأن الضمائر الآتية بعد ذلك تدل على أنها للمطوف عليهم من قوله: {وحلوا وسقاهم}، وإن هذا كان لكم جزاء، وفك الضمائر يجعل هذا كذا وذاك كذا مع عدم الاحتياج والاضطرار إلى ذلك لا يجوز.
وأما جعله حالاً من محذوف وتقديره أهل نعيم، فلا حاجة إلى ادعاء الحذف مع صحة الكلام وبراعته دون تقدير ذلك المحذوف، وثياب مرفوع على الفاعلية بالحال.
وقال ابن عطية: ويجوز في النصب في القراءتين أن يكون على الظرف لأنه بمعنى فوقهم. انتهى.
وعال وعالية اسم فاعل، فيحتاج في إثبات كونهما ظرفين إلى أن يكون منقولاً من كلام العرب عاليك أو عاليتك ثوب.
وقرأ الجمهور: {ثياب} بغير تنوين على الإضافة إلى {سندس}.
وقرأ ابن عبلة وأبو حيوة: {عليهم ثياب سندس خضر وإستبرق}، برفع الثلاثة، برفع {سندس} بالصفة لأنه جنس، كما تقول: ثوب حرير، تريد من حرير؛ وبرفع {خضر} بالصفة أيضاً لأن الخضرة لونها؛ ورفع {استبرق} بالعطف عليها، وهو صفة أقيمت مقام الموصوف تقديره: وثياب استبرق، أي من استبرق.
وقرأ الحسن وعيسى ونافع وحفص: {خضر} برفعهما.
وقرأ العربيان ونافع في رواية: {خضر} بالرفع صفة لـ: {ثياب}، {وإستبرق} جر عطفاً على {سندس}.
وقرأ ابن كثير وأبو بكر: بجر {خضر} صفة لـ: {سندس}، ورفع {إستبرق} عطفاً على {ثياب}.
وقرأ الأعمش وطلحة والحسن وأبو عمرو: بخلاف عنهما؛ وحمزة والكسائي: ووصف اسم الجنس الذي بينه وبين واحده تاء التأنيث، والجمع جائز فصيح كقوله تعالى: {وينشىء السحاب الثقال} وقال: {والنخل باسقات} فجعل الحال جمعاً، وإذا كانوا قد جمعوا صفة اسم الجنس الذي ليس بينه وبين واحده تاء التأنيث المحكي بأل بالجمع، كقولهم: أهلك الناس الدينار الصفر والدرهم البيض، حيث جمع وصفهما ليس بسديد، بل هو جائز أورده النحاة مورد الجواز بلا قبح.
وقرأ ابن محيصن: {وإستبرق}، وتقدم ذلك والكلام عليه في الكهف.
وقال الزمخشري: هنا وقرئ {واستبرق} نصباً في موضع الجر على منع الصرف لأنه أعجمي، وهو غلط لأنه نكرة يدخله حرف التعريف، تقول: الاستبرق إلا أن يزعم ابن محيصن أنه قد يجعل علماً لهذا الضرب من الثياب.
وقرئ: {واستبرق}، بوصل الهمزة والفتح على أنه مسمى باستفعل من البريق، وليس بصحيح أيضاً لأنه معرب مشهور تعريبه، وأن أصله استبره. انتهى.
ودل قوله: إلا أن يزعم ابن محيصن، وقوله: بعد وقرئ {واستبرق} بوصل الألف والفتح، أن قراءة ابن محيصن هي بقطع الهمزة مع فتح القاف؛ والمنقول عنه في كتب القراءات أنه قرأ بوصل الألف وفتح القاف.
وقال أبو حاتم: لا يجوز، والصواب أنه اسم جنس لا ينبغي أن يحمل ضميراً، ويومئذ ذلك دخول لام المعرفة عليه، والصواب قطع الألف وإجراؤه على قراءة الجماعة.
انتهى.
ونقول: إن ابن محيصن قارىء جليل مشهور بمعرفة العربية، وقد أخذ عن أكابر العلماء، ويتطلب لقراءته وجه، وذلك أنه يجعل استفعل من البريق.
وتقول: {برق} و{استبرق}، كعجب واستعجب.
ولما كان قوله: {خضر} يدل على الخضرة، وهي لون ذلك السندس، وكانت الخضرة مما يكون لشدتها دهمة وغبش، أخبر أن في ذلك اللون بريقاً وحسناً يزيل غبشته.
فـ: {استبرق} فعل ماض، والضمير فيه عائد على السندس أو على الاخضرار الدال عليه قوله: {خضر}.
وهذا التخريج أولى من تلحين من يعرف العربية وتوهيم ضابط ثقة {أساور من فضة}، وفي موضع آخر {من ذهب} أي يحلون منهما على التعاقب أو على الجمع بينهما، كما يقع للنساء في الدنيا.
قال الزمخشري وما أحسن بالمعصم أن يكون فيه سواران، سوار من ذهب وسوار من فضة. انتهى.
فقوله بالمعصم إما أن يكون مفعول أحسن، وإما أن يكون بدلاً منه، وإمّا أن يكون مفعول أحسن، وقد فصل بينهما بالجار والمجرور.
فإن كان الأول، فلا يجوز لأنه لم يعهد زيادة الباء في مفعول افعل للتعجب، لا تقول: ما أحسن بزيد، تريد: ما أحسن زيداً، وإن كان الثاني، ففي مثل هذا الفصل خلاف.
والمنقول عن سيبويه أنه لا يجوز، والمولد منا إذا تكلم ينبغي أن يتحرز في كلامه عما فيه الخلاف.
{وسقاهم ربهم شراباً طهوراً}، طهور صفة مبالغة في الطهارة، وهي من فعل لازم؛ وطهارتها بكونها لم يؤمر باجتنابها، وليست كخمر الدنيا التي هي في الشرع رجس؛ أو لكونها لم تدس برجل دنسة، ولم تمس بيد وضرة، ولم توضع في إناء لم يعن بتنظيفه.
ذكره بأبسط من هذا الزمخشري ثم قال: أو لأنه لا يؤول إلى النجاسة، لأنه يرشح عرقاً من أبدانهم له ريح كريح المسك. انتهى.
وهذا الآخر قاله أبو قلابة والنخعيّ وإبراهيم التيمي، قالوا: لا تنقلب إلى البول، بل تكون رشحاً من الأبدان أطيب من المسك.
{إن هذا}: أي النعيم السرمدي، {كان لكم جزاء}: أي لأعمالكم الصالحة، {وكان سعيكم مشكوراً}: أي مقبولاً مثاباً.
قال قتادة: لقد شكر الله سعياً قليلاً، وهذا على إضمار يقال لهم.
وهذا القول لهم هو على سبيل التهنئة والسرور لهم بضد ما يقال للمعاقب: إن هذا بعملك الرديء، فيزداد غماً وحزناً.
ولما ذكر أولاً حال الإنسان وقسمه إلى العاصي والطائع، ذكر ما شرف به نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم، فقال: {إنا نحن نزلنا عليك القرآن}، وأمره بالصبر بحكمه، وجاء التوكيد بأن لمضمون الخبر ومدول المخبر عنه، وأكد الفعل بالمصدر.
{ولا تطع منهم آثماً أو كفوراً}، قال قتادة: نزلت في أبي جهل، قال: إن رأيت محمداً يصلي لأطأن على عنقه، فأنزل الله تعالى: {ولا تطع} الآية.
والنهي عن طاعة كل واحد منهما أبلغ من النهي عن طاعتهما، لأنه يستلزم النهي عن أحدهما، لأن في طاعتهما طاعة أحدهما.
ولو قال: لا تضرب زيداً وعمراً، لجاز أن يكون نهياً عن ضربهما جميعاً، لا عن ضرب أحدهما.
وقال أبو عبيدة: أو بمعنى الواو، والكفور، وإن كان إثماً، فإن فيه مبالغة في الكفر.
ولما كان وصف الكفور مبايناً للموصوف لمجرّد الإثم، صلح التغاير فحسن العطف.
وقيل: الآثم عتبة، والكفور الوليد، لأن عتبة كان ركاباً للمآثم متعاطياً لأنواع الفسوق؛ وكان الوليد غالباً في الكفر، شديد الشكيمة في العتوّ.
{واذكر اسم ربك بكرة}: يعني صلاة الصبح، {وأصيلاً}: الظهر والعصر.
{ومن الليل}: المغرب والعشاء.
وقال ابن زيد وغيره: كان ذلك فرضاً ونسخ، فلا فرض إلا الخمس.
وقال قوم: هو محكم على وجه الندب.
{إن هؤلاء}: إشارة إلى الكفرة.
{يحبون العاجلة}: يؤثرونها على الدنيا.
{ويذرون وراءهم}: أي أمامهم، وهو ما يستقبلون من الزمان.
{يوماً ثقيلاً}: استعير الثقل لليوم لشدته، وهوله من ثقل الجرم الذي يتعب حامله.
وتقدم شرح الأسر في سورة القتال.
{وإذا شئنا}: أي تبديل أمثالهم بإهلاكهم، {بدلنا أمثالهم} ممن يطيع.
وقال الزمخشري: وحقه أن يجيء بإن لا بإذا، كقوله: {وإن تتولوا يستبدل قوماً غيركم} {إن يشأ يذهبكم} انتهى.
يعني أنهم قالوا إن إذا للمحقق وإن للممكن، وهو تعالى لم يشأ، لكنه قد توضع إذا موضع إن، وإن موضع إذا، كقوله: {أفإن مت فهم الخالدون}
{إن هذه}: أي السورة، أو آيات القرآن، أو جملة الشريعة ليس على جهة التخيير، بل على جهة التحذير من اتخاذ غير سبيل الله.
وقال الزمخشري: لمن شاء ممن اختار الخير لنفسه والعاقبة، واتخاذ السبيل إلى الله عبارة عن التقرب إليه والتوسل بالطاعة.
{وما تشاءون}: الطاعة، {إلا أن يشاء الله}، يقسرهم عليها.
{إن الله كان عليماً} بأحوالهم وما يكون منهم، {حكيماً} حيث خلقهم مع علمه بهم.
انتهى، وفيه دسيسة الاعتزال.
وقرأ العربيان وابن كثير: {وما يشاءون} بياء الغيبة؛ وباقي السبعة: بتاء الخطاب؛ ومذهب أهل السنة أنه نفي لقدرتهم على الاختراع وإيجاد المعاني في أنفسهم، ولا يرد هذا وجود ما لهم من الاكتساب.
وقال الزمخشري: فإن قلت: ما محل {أن يشاء الله}؟ قلت: النصب على الظرف، وأصله: إلا وقت مشيئة الله، وكذلك قرأ ابن مسعود: {إلا ما يشاء الله}، لأن ما مع الفعل كان معه. انتهى.
ونصوا على أنه لا يقوم مقام الظرف إلا المصدر المصرح به، كقولك: أجيئك صياح الديك، ولا يجيزون: أجيئك أن يصيح الديك، ولا ما يصيح الديك؛ فعلى هذا لا يجوز ما قاله الزمخشري.
{يدخل من يشاء في رحمته}: وهم المؤمنون.
وقرأ الجمهور: {والظالمين} نصباً بإضمار فعل يفسره قوله: {أعد لهم}، وتقديره: ويعذب الظالمين، وهو من باب الاشتغال، جملة عطف فعلية على جملة فعلية.
وقرأ ابن الزبير وأبان بن عثمان وابن أبي عبلة: {والظالمون}، عطف جملة اسمية على فعلية، وهو جائز حسن.
وقرأ عبد الله: {وللظالمين} بلام الجر، وهو متعلق بـ: {أعد لهم} توكيداً، ولا يجوز أن يكون من باب الاشتغال، ويقدر فعل يفسره الفعل الذي بعده، فيكون التقدير: وأعد للظالمين أعدّ لهم، وهذا مذهب الجمهور، وفيه خلاف ضعيف مذكور في النحو، فتقول: بزيد مررت به، ويكون التقدير: مررت بزيد مررت به، ويكون من باب الاشتغال.
والمحفوظ المعروف عن العرب نصب الاسم وتفسير مررت المتأخر، وما أشبهه من جهة المعنى فعلاً ماضياً. اهـ.

.قال نظام الدين النيسابوري:

{هَلْ أَتَى عَلَى الإنسان حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا (1)}
التفسير:
اتفقوا على أن (هل) هاهنا وفي (الغاشية) بمعنى (قد) وهذا ما ذهب إليه سيبويه قال: وإنما تفيد معنى الاستفهام حيث تفيده لتقدير الهمزة، وإنما حذفت الهمزة لكثرة الاستعمال والدليل على تقدير الهمزة، وإنما حذفت الهمزة لكثرة لكثرة الاستعمال والدليل على تقدير الهمزة، جواز إظهارها مع (هل) كقوله:
سائل فوارس يربوع بشدتنا ** أهل رأونا بسفح القاع ذي الأكم

ويربوع أبو حي من تميم، ومعنى الآية أقد أتى. فالإستفهام يفيد التقرير وقد تفيد التقريب فيكون حاصله أنه {أتى على الإنسان} قبل زمان قريب {حين من الدهر} وهو طائفة من الزمان غير محدود.
وعن ابن عباس وابن مسعود أن الإنسان هاهنا آدم والحين محدود وذلك أنه مكث أربعين سنة طيناً إلى أن نفخ فيه الروح فصار شيئاً مذكوراً بعد أن كان كالمنسي وفي رواية عنه قال: أقام من طين أربعين سنة، ومن صلصال أربعين. ثم من حمأ مسنون أربعين، ثم خلقه بعد مائة وعشرين وإطلاق الإنسان عليه قبل نفخ الروح فيه من باب إطلاق الخمر على العصير. ويجوز أن يراد قد أتى على هذا الذي هو الآن إنسان بالفعل زمان لم يكن هو فيه إنساناً إلا بالقوّة وهذا صادق على آدم كما قلنا، وعلى بنيه أيضاً عند الأكثرين. ولعل هذه الآية كالتقدمة والتوطئة للتي تعقبها، وكالتأكيد لخاتمة السورة المتقدمة. وقوله: {لم يكن} محله رفع على أنه نعت {حين} أو نصب على الحال من الإنسان لأنه في تقدير المفعول ويروى أن الصديق لما سمع هذه الآية قال: أيتها تمت أي ليت تلك الحالة تمت وهي كونه غير مذكور لم يخلق ولم يكلف. وقيل: الإنسان آدم كما ذكرنا ولكن الحين هو الستة الأيام التي خلق الله فيها السموات والأرض ثم فرغ لخلق آدم في عصر يوم الجمعة. وقيل: الإنسان عام والحين مدة فترة الرسل وقيل: الحين مدة لبثه في بطن أمه. قال ابن الأعرابي وطائفة من أهل اللغة: الأمشاج جمع مشيج وأمشاج فوصف المفرد بها جميعاً نحو برمة أعشار للقدر المتكسرة قطعاً، وثوب أكياش للذي فتل غزله مرتين. يقال عليك بالثوب الأكياش فإنه من لباس الأكياس. والمعنى من نطفة قد امتزج فيها الماآن ماء الرجل. وهو أبيض غليظ- وماء المرأة- وهو أصفر رقيق- والأول يخرج من الصلب، والثاني يخرج من الترائب، فما كان من عصب وعظم فيمن نطفة الرجل، وما كان من لحم ودم فمن ماء المرأة. عن ابن مسعود: هي عروق النطفة. وقال الحسن: أي مزجت بدم الحيض الذي فيه غذاء الجنين، وعن قتادة: هي أطوارها نطفة ثم علقة ثم مضغة وذهب إلى أنها العناصر وبالجملة فإنها عبارة عن انتقال النطفة من حال إلى حال ولهذا فسر الإبتلاء بعضهم بهذا الانتقال ومنه قول ابن عباس {نبتليه} أي نصرفه في بطن أمه نطفة ثم علقة.
والأظهر أن حاصل المعنى خلقناه من أمشاج لا للعبث بل للإبتلاء والإمتحان. ثم ذكر أنه أعطاه ما يصح معه الابتلاء وهو السمع والبصر اللذان هما أشرف الحواس ولهذا خصا بالذكر. وفيه إشارة إلى أن الحواس السليمة أسباب كلية لتحصيل الكمالات النفسية فمن فقد حساً فقد علماً. وقيل: في الآية تقديم وتأخير، و{نبتليه} معناه لنبتليه كقولك لرجل: جئتك أقضي حقك أي لأقضي حقك. والمعنى جعلناه سميعاً بصيراً لنبتليه.
ثم أخبر أنه بعد أن ركبه وأعطاه الحواس الظاهرة والباطنة أوضح له بواسطة أن آتاه العقل السليم سبيل الهدى والضلالة. فقوله: {شاكر أو كفوراً} حالان من مفعول {هدينا} أي مكناه وأقدرناه في هاتين الحالتين وقيل: تقديره هديناه السبيل فيكون إما شاكراً أو كفوراً. وفيه جهة الوعيد أي فإن شاء فليكفر وإن شاء فليشكر فإنا أعتدنا للكافرين كذا وللشاكرين كذا. وجوز أهل العربية أن يكونا حالين من السبيل على الإسناد المجازي لأن وصف السبيل بالشكر والكفر مجاز، وهذه الأقاويل تناسب أصول المعتزلة. أما الذي اختاره الفراء وهو مطابق لمذهب أهل السنة أن تكون (إما) في هذه الآية كما في قوله: {وآخرون مرجون لأمر الله إما يعذبهم وإما يتوب عليهم} [التوبة: 106] والمعنى هديناه السبيل ثم جعلناه تارة شاكراً تارة كفوراً. والمراد بالشكراً لإقرار بالله وبالكفر إنكاره حتى لا يكون بين الفريقين واسطة. ويجز أن يريد بالشاكر المطيع وبأهل الكفر كل من سواه كان كفرانه مطلقاً وهو الكافر بالله، أو ببعض المعاصي وهو الفاسق. قوله: {سلاسل} من قرأه بالتنوين فإنه صرفه لمناسبة. قال الأخفش: سمعنا من العرب صرف جميع ما لا يصرف وهذه لغة الشعراء اضطروا إليه في اشعر فجرت ألسنتهم بذلك في النثر أيضاً. وقيل: إنه مختص بهذه الجموع لأنها أشبهت الآحاد لهذا جاز (صواحبات يوسف). وجوز في الكشاف أن يكون هذا التنوين بدلاً من حرف الإطلاق ويجري الوصل مجرى الوقف، ومثله {قوارير} فيمن قرأ بالتنوين، والاعتاد الإعداد، والسلاسل للأرجل والأغلال للأيدي والأبرار جمع برّ وبار. عن الحسن: هم الذين لا يؤذون الذّر {من كأس} أي إناء فيه الشراب. وقال ابن عباس ومقاتل: هو الخمر بعينها، والمزاج ما يمزج به، والكافور اسم عين في الجنة ماؤها في بياض الكافور ورائحته وبرده ولكن لا يكون فيه طعم الكافور ولا مضرته، والمضاف محذوف ماء كافور. والحاصل أن ذلك الشراب يكون ممزوجاً بماء هذا العين قيل: (كان) زائدة والأظهر أنها مفيدة ولكناه مسلوبة الدلالة على المضي كقوله: {وكان الله عليماً حكيماً} [النساء: 17] عن قتادة: يمزج لهم بالكافور ويختم لهم بالمسك. وقيل: يخلق فيه رائحة الكافور وبياضه وبرده فكأنها مزجت بالكافور. قال جار الله: فقوله: {عيناً} على هذين القولين بدل من محل {كأس} على تقدير حذف مضاف كأنه قال: يشربون خمراً خمر عين، أو نصب على الإختصاص. ولا خلاف بين العلماء أن عباد الله في الآية مختص بالمؤمنين الأبرار فغلب على ظنهم أن العباد المضاف إلى اسم الله سبحانه مخصوص في إصطلاح القرآن بالأخيار، وعلى هذا يسقط إستدلال المعتزلة بقوله: {ولا يرضى لعباده الكفر} [الزمر: 7] كما مر في أول الزمر. وإنما قال أولاً {يشربون من كأس} وآخراً {يشرب بها} لأن الكأس هي مبدأ شربهم وأما العين فإنما يمزجون بها شرابهم فالباء بمعنى (مع) مثل (شربت الماء بالعسل) {يفجرونها} يجرونها حيث شاؤا من منازلهم {تفجيراً} سهلاً (قال مؤلف الكتاب): لا يبعد أن يكون الخمر عبارة عن العلوم اللدنية الحاصلة بالذوق والمكاشفة.
والكافور عبارة عن المعارف الحاصلة بواسطة البدنية، ومزاجها تركيبها على الوجه الموصل إلى تحصيل لذات وكمالات أخر، وتفجرها إشارة إلى اتصالها إلى أهلها من النفوس المستعدة لذلك. قال أهل النظم: حين وصف سعادة الأبرار كان لسائل أن يسأل: ما لهم يرزقون ذلك؟ فأجاب بقوله: {يوفون بالنذر} وفيه أن الذي وفى بما أوجبه على نفسه لوجه الله كان بما أوجبه الله عليه أوفى.
ذكر الواحدي في البسيط والزمخشري في الكشاف وكذا الإمامية أطبقوا على أن السورة نزلت في أهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم ولاسيما في هذه الآي. يروى عن ابن عباس أن الحسن والحسين مرضاً فعادهما رسول الله صلى الله عليه وسلم في ناس معه فقال: يا أبا الحسن لو نذرت على ولدك فنذر علي وفاطمة وفضة جارية لهما إن أبرأهما الله يصوموا ثلاثة أيام فشفيا وما معهما شيء، فاستقرض علي من شمعون الخيبري اليهودي ثلاث أصوع من شعير فطحنت فاطمة منها صاعاً واختبزت خمسة أقراص على عددهم، فوضعوها بين أيديهم ليفطروا فوقف عليهم سائل فقال: السلام عليكم يا أهل محمد، مسكين من مساكين المسلمين أطعموني أطعمكم الله من موائد الجنة فآثروه وباتوا ولم يذوقوا إلا الماء وأصبحوا صياماً. فلما أمسوا ووضعوا الطعام بين أيديهم وقف عليهم يتيم فآثروه. ووقف عليهم في الثالثة أسير ففعلوا مثل ذلك. فلما أصبحوا أخذ علي رضي الله عنه بيد الحسن والحسين إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما أبصرهم وهم يرتعشون كالفراخ من شدة الجوع قال: ما أشد ما يسوءني ما أرى بكم. وقام وانطلق معهم فرأى فاطمة في محرابها قد لصق ظهرها ببطنها وغارت عيناها فساءه ذلك فنزل جبرائيل وقال: خذها يا محمد هنأك الله في أهل بيتك فاقرأه السورة. ويروى أن السائل في اللياللي جبرائيل أراد بذلك ابتلاءهم بإذن الله سبحانه. ووصفهم الله سبحانه بالخوف من أهوال القيامة في موضعين أولاً في قوله: {ويخافون يوماً كان شره مستطيراً} أي مكروهه مستطيراً فاشياً منتشراً من استطار الحريق، ومنه الفجر المستطير وأصله منطار. والغرض أنه تسع مكاره ذلك اليوم جميع المكلفين حتى الأنبياء يقولون: نفيس إلا نبينا محمد فإنه يقول «أمتي أمتي» والسموات يتفطرن والكواكب ينتثرن إلى غير ذلك من المكاره والأهوال. ولا ينافي هذا أمن المسلمين في الآخرة على قال {لا يحزنهم الفزع الأكبر} [الأنبياء: 103] وثانياً في قوله: {إنا نخاف من ربنا يوماً عبوساً} وإذا كان حال أهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم أو حال الأبرار على العموم في الخوف من الله إلى هذه الغاية فغيرهم أولى بالخوف.
وأما الضمير في {حبه} فللطعام أي مع اشتهائه والحاجة إليه كقوله: {لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون} [آل عمران: 92] {ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة} [الحشر: 9] وقال الفضيل بن عياض: أي على حب الله عز وجل نظير الآية قوله: {وآتى المال على حبه} [البقرة: 177] وعنى المسكين واليتيم قد عرف مراراً، وأما الأسير فعن سعيد بن جبير وعطاء: هو الأسير من أهل القبلة. وعن أبي سعيد الخدري: هو المملوك والمسجون. وسمى رسول الله صلى الله عليه وسلم الغريم أسيراً فقال: «غريمك أسيرك فأحسن أسيرك» وقد سمى الزوجة أسيراً فقال: «اتقوا الله في النساء فإنهن عوان عندكم» أي أسراء. عن الحس: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يؤتى بالأسير فيدفعه إلى بعض المسلمين فيقول: «أحسن إليه» فيكون عنده اليومين والثلاثة فيؤثره على نفسه.
وعند عامة العلماء يجوز الإحسان إلى الكفار في دار الإسلام ولا تصرف إليهم الواجبات. والإحسان إليهم في الحال إلى أن يرى الإمام فيهم ما يرى من قتل أو من أو فداء أو إسترقاق، لا ينافي احتمال حكم الإمام عليهم بالقتل في المآل لأن سد خلتهم بالإطعام واجب على الفور وذلك يحتمل التراخي كما في حق من يلزمه القصاص ولم يكن له مال. ثم هذا الإطعام يجب أولاً على الإمام فإن لم يفعله وجب على المسلمين. قال قتادة: كان أسيرهم يومئذ المشرك فأخوك المسلم أحق أن تطعمه. ثم الإطعام ليس بواجب على التعيين ولكن الواجب مواساتهم بأي وجه كان. وإنما عبر عن ذلك بالإطعام لأن سبب النزول كان كذلك، ولأن المقصود الأعظم من أنواع الإحسان الطعام الذي به قوام البدن. يقال: أكل فلان مال فلان إذا أتلفه بأي وجه كان، وإن لم يكن بالأكل نفسه.
قوله: {إنما نطعمكم لوجه الله} لرضاه خاصة. ولابد من إضمار القول. ثم إن هذا القول يجوز أن يكون منهم باللسان منعاً للسائل عن المجازاة بمثله، أو بالشكر ليقع إطعامهم خالصاً لله. ويجوز أن يكون بنطق الحال.
قال مجاهد: إما إنهم ما تكلموا بذلك ولكن الله علم ذلك منهم فكشف عن نيتهم وأثنى عليهم. وفيه تنبيه على ما ينبغي أن يكون عليه المطعم بل كل عامل من إخلاص عمله لله. عن عائشة رضي الله عنها أنها كانت تبعث بالصدقة إلى هل بيت ثم تسأل الرسول ما قالوا فإن ذكر دعاء دعت لهم بمثله ليبقى ثواب الصدقة لها خالصاً. والشكور مصدر كالكفور ولو فتحت أولهما عاد المعنى مبالغة في شاكر وكافر.
قوله: {إنا نخاف} ظاهرة أنه تعليل للإطعام ويجوز أن يكون تعليلاً لعدم إرادة المجازاة.
ووصف اليوم بالعبوس مجاز وذلك بطريقين أحدهما: أن يشبه في ضرره وشدته بالأسد العبوس أو بالشجاع الباسل. والثاني أن يوصف بصفة أهله من الأشقياء. يروى أن الكافر يعبس يومئذ حتى يسيل من بين عينيه عرق مثل القطران. والقمطرير أشد ما يكون من الأيام وأطوله بلاء وأصله الشديد العبوس الذي يجمع ما بين عينيه. والتركيب يدل على الجمع ومنه القمطر خريطة يجمع فيه الكتب، واقمطرت الناقة إذا رفعت ذنبها وجمعت قطريها وزمت بأنفها قاله الزجاج: فأصله من القطر وجعل الميم زائدة والظاهر أنها أصلية. وحين أخبر عن أعمال الأبرار وإخلاصهم ذكر ما سيجزيهم على ذلك وأكد تحقيق الوعد بأن عبر عنه بصيغة الماض قائلاً {فوقاهم الله شر ذلك اليوم} أي مكروهه فإن كل ما يشق على النفس وتكرهه فهو شر بالإضافة إليها، وإن كان خيراً في نفس الأمر مشتملاً على الحكم والفوائد كالقصاص وسائر الحدود {ولقاهم} أعطاهم {نضرة} في الوجوه {سروراً} في القلوب بدل عبوس الكفرة وحزنهم {وجزاهم بما صبروا} على التكاليف أو الإيثار المؤدي إلى إفناء المال المستتبع للجزع {جنة وحريراً} أي بستاناً فيه مأكل هنيّ ولباساً له منظر بهيّ قال الأخفش والزجاج {متكئين} نصب على الحال من مفعول {جزاهم} وقيل: على المدح. وقيل: حال من الجنة. وضعف لأنه يستدعي إبراز الضمير بأن يقال: متكئين فيها هم. والزمهرير شدة البرد. والأظهر أن الميم والهاء أصليتان لعدم النظير لو جعل أحدهما زائداً، والمعنى أن هواءها معتدل. وفي الحديث: «هواء الجنة سجسج لا حر ولا قر» وعن ثعلب أن الزمهرير هو القمر بلغة طير واشتقاقه من الزهر، والمراد أن الجنة لضيائها لا تحتاج إلى شمس ولا قمر. قوله: {ودانية} ذكر الأخفش والكسائي والفراء والزجاج أنه معطوف على {متكئين} كما تقول في الدار عبد الله متكئاً ومرسلة عليه الحجال، وإن جعلنا قوله: {لا يرون} حالاً صارت الأحوال ثلاثاً والتقدير: وجزاهم متكئين فيها على الأرائك غير رائين فهيا هواء مؤذياً ودانية عليهم الظلال. ودخلت الواو في الثالثة للدلالة على الإجتماع كأنه قيل: وجزاهم جنة متكئين فيها على الأرائك جامعين فيها بين البعد عن الحر والرد وبين الدنو من الظلال. ويجوز أن يكون {دانية} معطوفاً على {جنة} لأنهم وصفوا بالخوف. وقد قال سبحانه {ولمن خاف مقام ربه جنتان} [الرحمن: 46] والتقدير: وجزاهم جنة أخرى دانية عليهم ظلالها. وقوله: {لا يرون فيها شمساً ولا زمهريراً} من باب:
علفتها تبناً وماء بارداً

وذلك لأن الزمهرير لا يرى أي ولا ينالون زمهريراً وإن أريد بالشمس نكاية شعاعها وحرها فمعنى لا يرون لا ينالون، ولا يخفى أن هذا الظل ليس بالمعنى المصطلح في الدنيا وهو الضوء النوراني فإنه لا شمس هناك، فمعنى دنو الظلال أن أشجار الجنة خلقت بحيث لو كان هناك شمس لكانت تلك الأشجار قريبة الظلال على أهل الجنة وقد أكد هذا المعنى بقوله: {وذللت قطوفها تذليلاً} أي لا تمتنع على قطافها كيف شاؤا.
وقال ابن قتيبة: ذللت أي أدنيت من قولهم (حائط ذليل) إذا كان قصيراً قال البراء ابن عازب: من أكل قائماً لم يؤذه، ومن أكل جالساً ومضجعاً أمكنه. وحين وصف طعامكم ولباسهم ومسكنهم واعتدال هوائه وكيفية جلوسهم فيه أخبر عن شرابهم وقد ذكر الأواني. ومعنى {قوارير من فضة} أن جنس الآنية من الفضة إلا أن تلك الفضة في صفاء القوارير وشفافتها حتى يرى باطنها من ظاهرها، وإذا كانت قوارير الدنيا وأصلها من الحجر في غاية الصفاء والرقة بحيث تحكي ما في جوفها فما ظنك بقوارير الجنة وأصلها من الفضة؟ ومعنى كانت كما مر في قوله: {كان مزاجها كافوراً} وقال في الكشاف: هو من قوله: {كن فيكون} [يس: 82] أي تكونت قوارير بتكوين الله والمراد تفخيم تلك الخلقة العجيبة الجامعة بين صفتي الجوهرين المتباينين. والضمير في {قدروها} إما لأهل الجنّة أي إنهاه جاءت كما قدروا في أنفسهم حسب شهوتهم وحاجتهم، وإما للطائفين أي قدروا شرابها على مقدار ري كل أحد من غير زيادة ونقصان. وقريب منه قول مجاهد: لا تنقص ولا تفيض. وقال الربيع بن أنس: إن تلك الأواني تكون مقدار ملء الكف لم تعظم فيثقل حملها. قوله: {ويسقون فيها كأساً} أي في الجنة إناء مملوأ من الخمر، ويجوز أن يكون الضمير للأواني، والكأس الخمر نفسها والعرب تحت طعم الزنجبيل في المشروب وتستلذه ولذلك وصف الله مشروبهم في الآخرة بذلك. قال ابن عباس: وكل ما ذكر الله في القرآن مما في الجنة فليس منه في الدنيا إلا الاسم. أما السلسبيل فقد قال ابن الأعرابي: لم أسمعه إلا في القرآن. وقال الأكثرون اشتقاقه من السلاسة. يقال شراب سلسل وسلسال وسلسبيل أي عذب سهل المساغ فكأن الباء واللام زيدتا للمبالغة حتى صارت الكلمة خماسية. ويرد عليه أن الباء ليست من حروف الزيادة. قال الزجاج: السلسبيل في اللغة صفة لما كان في غاية السلاسة. والفائدة في تسميتها بالسلسبيل بعد تسميتها بالزنجبيل هي أنها في طعم الزنجبيل ولذته ولكن ليس فيها اللذاع الذي هو مناف للسلاسلة. وقد نسب إلى علي بن أبي طالب عليه السلام أن معناه سل سبيلاً إليها. ووجه أن صحت الرواية بأنها حينئذ جملة سميت بها مثل (تأبط شراً) وسبب التسمية في الأصل أنه لا يشرب منها إلا من سأل إليها سبيلاً بالإيمان والعمل الصالح. وفي بعض شعر المتأخرين:
سل سبيلاً فيها إلى راحة النف ** س براح كأنها سلسبيل

والظاهر منع صرفه للعملية والتأنيث ولكن لم يقرأ به إلا في الشواذ والمتواترة التنوين، ووجهه ما مر في {سلاسلاً} على أن رعاية المشاكلة أولى لكونه رأس آية.
ثم وصف خدمهم بقوله: {ويطوف عليهم ولدان مخلدون} ويجوز أن يكون هذا بياناً للطائفين في قوله: {ويطاف عليهم بآنية} وقد صرح به في الواقعة وزاد هاهنا أن شبههم في حسنهم وصفائهم وبقائهم وتفرقهم في المجلس لأصناف الخدمة باللؤلؤ المنثور. يحكى أن المأمون ليلة زفت إليه بوران بنت الحسن بن سهل وهو على بساط منسوج من ذهب وقد نثرت عليه نساء دار الخلافة اللؤلؤ، فنظر إليه منثوراً على ذلك البساط فاستحسن المنظر وقال: لله دّر أبي نواس كأنه شاهد مجلسنا هذا حيث قال البيت:
كأن صغرى وكبرى من فواقعها ** حصباء در على أرض من الذهب

وقيل: شبهوا باللؤلؤ الرطب إذا نثر من صدفه لأنه أحسن وأكثر ماء، ثم أجمل نعيمهم لأنه مما لا يحصر ولا يخطر ببال أحد ما دام في الدنيا فخاطب نبيه صلى الله عليه وسلم أو كل راء قائلاً {وإذا رأيت} قال الفراء: مفعوله وهو الموصول مضمر تقديره ما {ثم} كقوله: {لقد تقطع بينكم} [الأنعام: 94] يريد ما بينكم. وأنكر الزجاج وغيره حذف الموصول والإكتفاء بالصلة. والذي اختاره أصحاب المعاني أن يكون المفعول متروكاً ليشيع ويعم. والمعنى أن الرائي أينما وجد الرؤية لمي تعلق إدراكه إلا بنعيم {وملكاً كبيراً} أي واسعاً هنيئاً. و(ثم) ظرف مكان أشير به إلى الجنة. روي أن أدنى أهل الجنة منزلة ينظر في ملكه مسيرة ألف عام. وقيل: الملك الكبير هو الذي لا زوال له. وقيل: هو أنه إذا أراد شيءاً كان. ومنهم من حمله على التعظيم وهو أن يأتي الرسول بكرامة من الكسوة والطعام والشراب والتحف إلى ولي الله وهو في منزله فيستأذن عليه ولا يدخل عليه رسول رب العزة وإن كان من الملائكة المقربين إلا بعد الإستئذان قاله الكلبي: وقال أهل العرفان: الملك الكبير هو اللذات الحقيقية والمعارف الإلهية والأسرار الربانية التي تستحقر عندها اللذات البدنية. وعن علي أنه قرأ {ملكاً كبيراً} بفتح الميم وكسر اللام هو الله. من قرأ {عاليهم} بسكون الياء فعلى أنه مبتدأ {وثياب سندس} خبر أي ما يعلوهم من لباسهم ثياب سندس ومن قرأ بالنصب فعلى أنه ظرف بمعنى فوق فيكون خبراً مقدماً. ويجوز أن يكون نصباً على الحال من ضمير الأبرار أي ولقاهم نضرة وسروراً. حال ما يكون عاليهم ثياب سندس. أو {يطوف عليهم} أي على الأبرار {ولدان} حال ما يكون عاليهم ثياب سندس. ويحتمل أن يكون العامل {رأيت} والمضاف محذوف والتقدير رأيت أهل نعيم وملك عاليهم ثياب سندس. من قرأ {خضر} بالرفع فظاهر، ومن قرأ بالجر فعلى الجوار أو على أنه صفة سندس بالإستقلال لأنه جنس فكان في معنى الجمع كما يقال: أهلك الناس الدينار الصفر والدرهم البيض.
وأما الرفع في {إستبرق} فللعطف على {ثياب}، والجر للعطف على {سندس}. وكلاهما ظاهر. قوله: {وحلوا أساور من فضة} إن كان الضمير للولدان فلا إشكال لأن أساور المخدومين تكون من ذهب كما قال سبحانه في مواضع {يحلون فيها من أساور من ذهب} [الكهف: 31] وأساور الخدام من فضة. وإن كان الضمير للأبرار فلا إشكال أيضاً فلعلهم يسورون بالجنسين إما على المعاقبة وإما على الجمع. وما أحسن بالمعصم أن يكون فيه سواران سوار من ذهب وسوار من فضة. وأيضاً فالطباع مختلفة فرب إنسان يكون إستحسانه لبياض الفضة، ورب إنسان يكون إستحسانه لصفرة الذهب فالله تعالى يعطي كل أحد بفضله ما تكون رغبته فيه أتم. وقال بعض أهل التأويل: أساور اليد أعمالها وأكسابها التي صارت ملكات نورانية بها يتوسل إلى جوار الحضرة الصمدية كما أن الذهب والفضة في الدنيا وسائل إلى تحصيل المطالب العاجلة. ثم ختم جزاء الأبرار بقوله: {وسقاهم ربهم شراباً طهوراً} هو إما مبالغة طاهر والمراد أنها ليست بنجسة كخمور الدنيا ولا مستقذرة طبعاً لمساس الأيدي الوضرة والأقدام النجسة والدنسة، ولا تؤل إلى النجاسة ولكنها ترشح عرقاً من أبدانهم له ريح كريح المسك. وإما مبالغة مطهر. قال أبو قلابة: يؤتون بالطعام والشراب ممزوجاً بالكافور والزنجبيل فإذا كان ذلك سقوا هذا الشراب فتظهر بذلك بطونهم ويفيض عرق من جلودهم كريح المسك. وذكر أصحاب التأويل أن الأنوار الفائضة من العالم العلوي متفاوتة في الصفاء والقوة والتأثير فبعضها كافورية طبعها البرد واليبس ويكون صاحبها في الدنيا في مقام الخوف والبكاء والقبض، وبعضها زنجبيلياً على طبع الحر واليبس ويكون صاحبها قليل الالتفات إلى ما سوى الله قليل المبالاة بالجسمانيات، ثم لا يزال الروح الإنساني ينتقل من نوع إلى نوع ومن مقام إلى مقام إلى أن ينتهي إلى حضرة نور الأنوار فيضمحل في نور تجليه سائر الأنوار، وهذا آخر سير الصديقين ومنتهى درجاتهم في الارتقاء إلى مدراج الكمال، فلهذا أضاف السقي إلى ذاته قائلاً {وسقاهم ربهم} ثم ختم وعدهم بقوله: {إن هذا كان لكم جزاء} عن ابن عباس أن هذا المعنى إنما يقال لهم بعد دخولهم الجنة، فالقول مقدر والغرض إعلامهم أن كل ما تقدم من أصناف العطاء إنما هو جزاء أعمالهم والغرض إذاقة لذة الآخرة فإن سرورهم يزيد بذلك. وقال آخرون: إنه ابتداء خبر من الله تعالى لعباده في الدنيا ليعلموا في دار التكليف أن هذه الأشياء معدة في الآخرة لمن بر وأطاع. واعلم أنه سبحانه بين في أول السورة أن الإنسان وجد بعد العدم، ثم ذكر أنه خلقه من أمشاج وهي العناصر والأخلاط والماآن ماء الرجل وماء المرأة، والأطوار المتعاقبة على النطفة أو النفس أو البدن، وعلى جميع التقادير فلذلك يدل على كونه فاعلاً مختاراً صانعاً حكيماً.
ثم أخبر أنه ما خلقه لأجل العبث ماطلاً باطلاً ولكنه خلقه للابتلاء والامتحان وأعطاه كل ما هو محتاج إليه من العقل والحواس، ثم إن مآل أمره بالجبر أو بالقدر إلى الشكر أو الكفر، أما الكفر فله السلاسل والأغلال، وأما الشاكر فله النعيم والظلال. واختصر في العقاب وأطنب في ذكر الثواب إشارة إلى أن رحمته سبقت غضبه. وحين فرغ من شرح أحوال الآخرة بدأ بكيفية صدور القرآن الذي منه تعليم هذه العلوم والحقائق فقال {إنا نحن نزلنا عليك القرآن تنزيلاً} وفيه أنواع من المبالغة من قبل إيقاع الضمير اسماً لأن (ثم) تكريره ومن جهة ذكر المصدر بعد الفعل ومن جهة لفظ التنزيل دون الإنزال لأن تنزيل القرآن منجماً مفرقاً أقرب إلى تسلية النبي صلى الله عليه وسلم وتثبيت فؤاده، وحيث سلى قلبه أمره بالصبر على أذى الكفار إلى أوان تنزيل آية القتال ونهاه عن طاعة كل آثم منهم وخصوصاً الكفور فإن الكفر أعظم الآثام قال النحويون: كلمة أو مفيدة لأحد الشيئين أو الأشياء، فأورد عليه أنه يلزم في الآية أنه لا يجوز طاعة الآثم والكفور إذا تخالفا. أما إذا توافقا فإنه يجوز طاعتهما إذ لا يبعد أن يقول السيد لعبده إذا أمرك أحد هذين الرجلين فخالفه. أما إذا توافقا فلا تخالفهما. والجواب أنه لا ريب أن قولك (لا تضرب زيداً أن أو عمراً) معناه في الأظهر لا تضرب زيداً ولا عمراً. ويحتمل احتمالاً مرجوحاً (لا تضرب أحدهما واضرب الآخر) إلا أن هذا الاحتمال مدفوع في الآية لقرينة الإثم والكفر فإن أحدهما إذا كان منهياً عنه فكلاهما معاً أولى لأن زيادة الشرِّ شرٌّ. ولهذا قال الفراء: لا تطع واحداً منهما سواء كان آثماً أو كفوراً. ولو كان العطف بالواو كان نصاً في النهي عن طاعتهما معاً، ولا يلزم منه النهي عن طاعة كل منهما على الإنفراد. وقد خص بعض المفسرين فقال: الآثم هو عتبة لأنه كان متعاطياً لأنواع الفسوق. والكفور هو الوليد لأنه كان شديد الشكيمة في الكفر. يروى أن عتبة بن ربيعة قال للنبي صلى الله عليه وسلم: اردع عن هذا الأمر حتى أزوجك ولدي فإني من أجمل قريش ولداً. وقال الوليد: أنا أعطيك من المال حتى ترضى فإني من أكثرهم مالاً. فقرأ عليهم رسول الله من أول (حم السجدة) إلى قوله: {فإن أعرضوا فقل أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود} فانصرفا عنه. وقال أحدهما: ظننت أن الكعبة ستقع. وقال الحسن: الآثم هو المنافق، والكفور مشركو العرب، أمره بالصبر على التكاليف مطلقاً. ثم قسمها إلى نهي وأمر على هذا الترتيب لأن التخلية مقدمة على التحلية.
أما النهي فقد مر، وأما الأمر فأوله ذكر اله ولاسيما في الصلاة أول النهار وآخره وهو المراد بقوله: {بكرة وأصيلاً} ويشمل صلوات الفجر والظهر والعصر وأول الليل وهو المراد بقوله: {ومن الليل فاسجد له} أي وفي بعض الليل فصل له يعني صلاة المغرب والعشاء وأوسطه وهو المعنى بقوله: {وسبحه} أي وتهجد له طويلاً من الليل ثلثيه أو نصفه أو ثلثه كما مر في (المزمل). ثم شرع في توبيخ المتمردين عن طاعته مستحقرا إياهم قائلاً {إن هؤلاء يحبون} الدار {العاجلة} ونعيمها الزائل {ويذرون وراءهم يوماً ثقيلاً} أي شديداً كقوله: {ثقلت في السموات والأرض} [الأعراف: 187] ثم بين كمال قدرته قائلاً {نحن خلقناهم وشددنا أسرهم} أي ربطهم وتوثيقهم ومنه أسر الرجل إذا أوثق بالقدر وبه سمى القد أسراً. والمعنى ركبناهم تركيباً محكماً وتقنا مفاصلهم بالأعصاب والربط والأوتار حسب ما يحتاجون إليه في التصرف لوجوه الحوائج {وإذا شئنا} أهلكناهم بالنفخة و{بدلنا أمثالهم} في شدة الأسر عند النفخة الثانية. وقال جار الله: قيل معناه بدلنا غيرهم ممن يطيع وحقه أن يجيء بأن لا بإذا كقوله: {وأن تتولوا يستبدل قوماً غيركم} [محمد: 38] ممن يطيع {وإن يشأ يذهبكم ويأت بخلق جديد} [إبراهيم: 19] قال الإمام فخر الدين الرازي: هذا الكلام كأنه طعن في لفظ القرآن وهو ضعيف لأن كل واحد من (إذا) (وإن) حرف الشرط. قلت: ما ذكره جار الله ليس طعناً في القرآن وإنما هو طعن في نفس ذلك القول بناء على أن (إذا) لا تستعمل إلا فيما كان مقطوع الوقوع كالإماتة بالنفخة الأولى والإحياء في النشأة الأخرى. أما الإهلاك على سبيل الإستئصال فذلك غير مقطوع به فلهذا ألا يحسن تفسير اللفظ به وتعين التفسير الأول، والمبادرة بالإعتراض قبل الفهم التام ليس من دأب العلماء المتقين فعجب من مثله ذلك. قوله: {إن هذه تذكرة} قد مر في (المزمل) والمقصود من إعادته أن هذه السورة بما فيها من الترتيب الأنيق تبصرة للمتأملين المتخذين إلى كرامة الله سبيلاً بالطاعة والانقياد، وفيه دليل للقدري. وفي قوله: {وما تشاؤن إلا أن يشاء الله} إلى آخر السورة دليل للجبري والتوفيق بينهما مفوض إلى فهم أهل التوفيق وقدمنا فيه التحقيق. وانتصب {الظالمين} بفعل يفسره معنى أعد أو وعدت ونحوهما أوعد، وبالله التوفيق وإليه المصير والمآب. اهـ.

.قال الخطيب الشربيني:

سورة الإنسان:
وتسمى هل أتى والأمشاج والدهر.
مكية أو مدينة.
وهي إحدى وثلاثون آية.
ومائتان وأربعون كلمة.
وألف وأربعة وخمسون حرفاً.
واختلف فيها هل هي مكية أو مدينة.
فقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ومقاتل والكلبي: مكية وجرى عليه البيضاوي والزمخشري.
وقال الجمهور: مدنية.
وقال الجلال المحلي: مكية أومدنية ولم يجزم بشيء.
وقال الحسن وعكرمة: هي مدنية إلا آية وهي قوله تعالى: {فاصبر لحكم ربك ولاتطع منهم آثماً أو كفوراً}.
وقيل: فيها مكّي من قوله تعالى: {إنا نحن نزلنا عليك القرآن تنزيلاً} (الإنسان) إلى آخر السورة وما تقدمه مدنيّ.
{بسم الله} الذي له الأسماء الحسنى {الرحمن} الذي عم بنعمه الذكر والأنثى. {الرحيم} الذي خص منهم من شاء لمقام الأسنى.
ولما تم الاستدلال على البعث والقدرة عليه تلاه بهذا الاستفهام وهو قوله تعالى: {هل أتى} قال الزمخشري: بمعنى قد في الاستفهام خاصة والأصل أهل بدليل قول الشاعر:
سائل فوارس يربوع بسدتنا ** أهل رأونا بسفح القاع ذي الأكم

فالمعنى: أقد أتى على التقرير والتقريب جميعاً أي: أتى {على الإنسان} قبل زمان قريب {حين من الدهر لم يكن شيئاً مذكوراً} أي: كان شيئاً منسياً غير مذكور نطفة في الأصلاب اه.
فقوله على التقرير يعني المفهوم من الاستفهام، وقوله: والتقريب يعني المفهوم من قد التي وقع موقعها هل، ومعنى قوله في الاستفهام خاصة أن هل لا تكون بمعنى قد إلا ومعها استفهام لفظاً كالبيت المتقدم أو تقديراً كالآية الكريمة، ولو قلت: هل جاء زيد بمعنى قد جاء من غير استفهام لم يجز. وغيره جعلها بمعنى قد من غير هذا القيد، وجرى عليه الجلال المحلي. واعترض على الزمخشري بأنه لم يذكر غير كونها بمعنى قد. وبقي قيد آخر وهو أن يقول في الجمل الفعلية لأنها متى دخلت على جملة اسمية استحال كونها بمعنى قد؛ لأن قد مختصة بالأفعال وأجيب عنه بأن هذا لا يحتاج إليه؛ لأنه تقرّر أن قد لا تباشر الأسماء.
واختلف في المراد من الإنسان، فقال قتادة وعكرمة والشعبيّ: هو آدم عليه السلام مرّت عليه أربعون سنة قبل أن تنفخ فيه الروح وهو ملقى بين مكة والطائف. وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما في رواية الضحاك أنه خلق من طين فأقام أربعين سنة ثم من حمأ مسنون أربعين سنة، ثم من صلصال أربعين سنة ثم خلقه بعد مائة وعشرين سنة ثم نفخ فيه الروح. وحكى الماوردي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنّ الحين المذكور هنا هو الزمن الطويل الممتد الذي لا يعرف مقداره. وقال الحسن: خلق الله كل الأشياء ما يرى وما لا يرى من دوابّ البرّ والبحر في الأيام الست التي خلق الله تعالى فيها السموات والأرض وآخرها خلق آدم عليه السلام فهو قوله تعالى: {لم يكن شيئاً مذكوراً}.
روي أنّ أبا بكر رضي الله عنه لما قرأ هذه الآية قال: ليتها تمت فلا نبتلى أي: ليت هذه المدّة التي أتت على آدم عليه السلام {لم يكن شيئاً مذكوراً} تمت على ذلك فلا يلد ولا تبتلى أولاده. وسمع عمر رجلاً يقرأ {لم يكن شيئاً مذكوراً} قال عمر: ليتها تمت يقول: ليته بقي ما كان، هذا وهما ضجيعاه صلى الله عليه وسلم ولكن بقدر القرب يكون الخوف.
فإن قيل: إنّ الطين والصلصال والحمأ المسنون قبل نفخ الروح فيه ما كان إنساناً والآية تقتضي أنه مضى على الإنسان حال كونه إنساناً حين من الدهر مع أنه في ذلك الحين ما كان شيئاً مذكوراً؟
أجيب: بأن الطين والصلصال إذا كان مصوراً بصورة الإنسان ويكون محكوماً عليه بأنه سينفخ فيه الروح ويصير إنساناً صح تسميته بأنه إنسان.
روى الضحاك عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما في قوله تعالى: {لم يكن شيئاً مذكوراً} لا في السماء ولا في الأرض بل كان جسداً مصوّراً تراباً وطيناً لا يذكر ولا يعرف ولا يدرى ما اسمه ولا ما يراد به، ثم نفخ الروح فصار مذكوراً. قال ابن سلام: لم يكن شيئاً لأنه خلقه بعد خلق الحيوان كله ولم يخلق بعده حيواناً.
وقال الزمخشريّ وتبعه جماعة من المفسرين: إنّ المراد بالإنسان جنس بني آدم بدليل قوله تعالى: {إنا خلقنا الإنسان} أي: بعد خلق آدم عليه السلام {من نطفة} أي: مادّة هي شيء يسير جدًّا من الرجل والمرأة وكل ماء قليل في وعاء فهو نطفة، كقول عبد الله بن رواحة يعاتب نفسه:
ما لي أراك تكرهين الجنة ** هل أنت إلا نطفة في شنه

وعلى هذا فالمراد بالحين المدة التي هو فيها في بطن أمه {لم يكن شيئاً مذكوراً} إذ كان علقة ومضغة؛ لأنه في هذه الحالة جماد لا خطر له وقوله تعالى: {أمشاج} أي: أخلاط من ماء الرجل وماء المرأة المختلطين الممتزجين نعت لنطفة ووقع الجمع نعتاً لمفرد لأنه في معنى الجمع كقوله: {رفرف خضر} أو جعل كل جزء من النطفة نطفة فوصفت بالجمع، وقال الزمخشريّ: {نطفة أمشاج} كبرمة أعشار وبرد أكياش، وهي ألفاظ مفردة غير جموع ولذلك وقعت صفات للأفراد، ويقال أيضاً: نطفة مشج قال الشماخ:
طوت أحشاء مرتجة لوقت ** على مشج سلالته مهين

ولا يصح أمشاج أن يكون تكسيراً له بل هما مثلان في الإفراد لوصف المفرد بهما اه.
فقد منع أن يكون أمشاجاً جمع مشج بالكسر. قال أبو حيان: وقوله مخالف لنص سيبويه والنحويين على أنّ أفعالاً لا يكون مفرداً، وأجاب بعضهم بأن الزمخشري إنما قال يوصف به المفرد ولم يجعل أفعالاً مفرداً فكأنه جعل كل قطعة من البرمة برمة وكل قطعة من البرد برداً فوصفهما بالجمع، والمعنى: من نطفة قد امتزج فيها الماءان وكل منهما مختلف الأجزاء متباين الأوصاف في الرقة والثخن والقوام والخواص يجمع من الأخلاط وهي العناصر الأربعة: ماء الرجل غليظ أبيض، وماء المرأة رقيق أصفر، فأيهما علا كان الشبه له.
وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: «يختلط ماء الرجل وهو أبيض غليظ بماء المرأة وهو أصفر رقيق فيخلق منهما الولد فما كان من عصب وعظم وقوّة فمن نطفة الرجل، وما كان من لحم ودم وشعر فمن ماء المرأة»، قال القرطبيّ: وقد روي هذا مرفوعا ذكره البزار وعن قتادة: أمشاج ألوان وأطوار، يريد أنها تكون نطفة ثم علقة ثم مضغة ثم خلقاً آخر. وعن ابن مسعود رضي الله عنه: هي عروق النطفة. وقال مجاهد: نطفة الرجل بيضاء وحمراء، ونطفة المرأة خضراء وصفراء، والغرض من هذا التنبيه على أنّ الإنسان محدَث فلابد له من محدث قادر على تصويره وقد صوّره على صور مختلفة فمنها صغير وكبير وطويل وقصير ومستدير وعريض.
ولما كان الإنسان محتاجاً إلى الحركة بجملة بدنه وببعض أعضائه جعل بين العظام مفاصل ثم أوصلها بأوتار وعروق ولحم، ودوّر الرأس وشق في جانبيه السمع، وفي مقدمه البصر والأنف والفم، وشق في البدن سائر المنافذ، ثم مد اليدين والرجلين وقسم رؤوسها بالأصابع وركب الأعضاء الباطنة من القلب والمعدة، فسبحان من خلق تلك الأشياء من نطفة سخيفة {أليس ذلك بقادر على أن يحيي الموتى} (القيامة).
وقوله تعالى: {نبتليه} يجوز فيه وجهان: أحدهما: أنه حال من فاعل خلقنا أي: خلقناه حال كوننا مبتلين له، والثاني: أنه حال من الإنسان وصح ذلك لأنّ في الجملة ضميرين كل منهما يعود على ذي الحال، ثم هذه الحال يجوز أن تكون مقارنة إن كان المعنى: نبتليه نصرّفه في بطن أمّه نطفة ثم علقة، كما قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، وأن تكون مقدرة إن كان المعنى: نبتليه نختبره بالتكليف لأنه وقت خلقه غير مكلف، وفيما يختبره به وجهان: أحدهما: قال الكلبي: تختبره بالخير والشرّ. والثاني: قال الحسن: نختبر شكره في السرّاء وصبره في الضرّاء. وقيل: نبتليه نكلفه بالعمل بعد الخلق. قال مقاتل رضي الله عنه: وقيل: نكلفه ليكون مأموراً بالطاعة ومنهياً عن المعاصي.
{فجعلناه} أي: بما لنا من العظمة بسبب ذلك {سميعاً بصيراً} أي: عظيم السمع والبصر والبصِيرة ليتمكن من مشاهدة الدلائل ببصره وسماع الآيات بسمعه ومعرفة الحجج ببصيرته، فيصح تكليفه وابتلاؤه فقدّم العلة الغائية لأنها متقدّمة في الاستحضار على التابع لها المصحح لورودها، وقدّم السمع لأنه أنفع في المخاطبات، ولأنّ الآيات المسموعة أبين من الآيات المرئية، وخصهما بالذكر لأنهما أنفع الحواس، ولأنّ البصر يفهم البصِيرة وهي تتضمن الجميع، وقال بعضهم: في الكلام تقديم وتأخير، والأصل إنا جعلناه سميعاً بصيراً نبتليه، أي: جعلنا له ذلك للابتلاء. وقيل: المراد بالسميع المطيع كقولك سمعاً وطاعة وبالبصير العالم يقال: لفلان بصر في هذا الأمر.
{إنا} أي: بما لنا من العظمة {هديناه السبيل} أي: بينا له وعرّفناه طريق الهدى والضلال والخير والشرّ ببعثة الرسل، وقال مجاهد رضي الله عنه: بينا له السبيل إلى السعادة والشقاوة. وقال السدّي رضي الله عنه: السبيل هنا خروجه من الرحم. وقيل: منافعه ومضارّه التي يهتدي إليها بطبعه وكمال عقله. قال الرازي: والآية تدل على أنّ العقل متأخر عن الحواس. قال: وهو كذلك.
وقوله تعالى: {إمّا شاكراً} أي: لإنعام ربه عليه {وإمّا كفوراً} أي: بليغ الكفر بالإعراض والتكذيب نصب على الحال وفيه وجهان: أحدهما: أنه حال من مفعول هديناه أي: هديناه مبيناً له كلتا حالتيه، والثاني: أنه حال من السبيل على المجاز. قال الزمخشري: ويجوز أن يكونا حالين من السبيل أي: عرّفناه السبيل إمّا سبيلاً شاكراً وإمّا سبيلاً كفوراً كقوله تعالى: {وهديناه النجدين} (البلد).
فوصف السبيل بالشكر والكفر مجازاً، وروى الشيخان عن أبي هريرة رضي الله عنه أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه» الحديث، وعن جابر رضي الله عنه: «كل مولود يولد على الفطرة حتى يعرب عنه لسانه إمّا شاكراً وإمّا كفوراً».
ولما قسمهم إلى قسمين ذكر جزاء كل فريق فقال تعالى: {إنا} أي: على ما لنا من العظمة {أعتدنا} أي: هيأنا وأحضرنا بشدّة وغلظة {للكافرين} أي: العريقين في الكفر خاصة وقدم الأسهل في العذاب فالأسهل فقال تعالى: {سلاسلا} جمع سلسلة أي: يقادون ويوثقون بها {وأغلالاً} أي: في أعناقهم تشد فيها السلاسل فتجمع أيديهم إلى أعناقهم {وسعيراً} أي: ناراً حامية جدًّا شديدة الاتقاد.
وقرأ نافع وهشام وشعبة والكسائي {سلاسلاً} وصلاً بالتنوين والباقون بغير تنوين وأما الوقف على الثانية فوقف عليها بغير ألف قنبل وحمزة، ووقف البزي وابن ذكوان وحفص بغير ألف وبالألف، ووقف الباقون بالألف ولا وقف على الأولى والرسم بالألف. أمّا من نوّن {سلاسل} فوجه بأوجه منها أنه قصد بذلك التناسب لأنّ ما قبله وما بعده منوّن منصوب. ومنها أن الكسائي وغيره من أهل الكوفة حكوا عن بعض العرب أنهم يصرفون جميع ما لا ينصرف إلا أفضل منك.
وقال الأخفش: سمعنا من العرب من يصرف كل ما لا ينصرف لأنّ الأصل في الأسماء الصرف وترك الصرف لعارض فيها.
وروي عن بعضهم أنه يقول: رأيت عمراً بالألف يعني عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وأيضاً هذا الجمع قد جمع وإن كان قليلاً، قالوا صواحب وصواحبات. وفي الحديث: «إنكن صواحبات يوسف» ومنها أنه مرسوم في الإمام أي: مصحف الحجاز والكوفة بالألف، رواه أبو عبيدة ورواه قالون عن نافع، وروى بعضهم ذلك عن مصاحف البصرة أيضاً.
وقال الزمخشري: فيه وجهان: أحدهما: أن يكون هذا التنوين بدلاً من حرف الإطلاق ويجري الوصل مجرى الوقف، والثاني: أن يكون صاحب هذه القراءة ممن ضرى برواية الشعر ومرّن لسانه على صرف غير المنصرف ا.ه.
قال بعض المفسرين: وفي هذه العبارة فظاظة وغلظة لاسيما على مشايخ الإسلام وأئمة العلماء الأعلام، وأما من لم ينوّنه فوجهه ظاهر لأنه على صيغة منتهى الجموع وقولهم: قد جمع نحو صواحبات لا يقدح لأنّ المحذور جمع التكسير، وهذا جمع تصحيح، وأما من لم يقف بالألف فواضح.
ولما أوجز في جزاء الكافر أتبعه جزاء الشاكر وأطنب تأكيداً للترتيب فقال تعالى: {إنّ الأبرار} جمع برّ كأرباب جمع رب أو بار كأشهاد جمع شاهد، وفي الصحاح وجمع البار البررة وهم الصادقون في أيمانهم المطيعون لربهم الذين سمت همتهم عن المستحقرات فظهرت في قلوبهم ينابيع الحكمة، وروى ابن عمر رضي الله عنه عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إنما سماهم الله تعالى الأبرار؛ لأنهم برّوا الآباء والأبناء كما أن لوالديك عليك حقاً كذلك لولدك عليك حق». وقال الحسن رضي الله عنه: البرّ الذي لا يؤذي الذرّ. وقال قتادة رضي الله عنه: الأبرار الذين يؤدّون حق الله ويوفون بالنذر. وفي الحديث «الأبرار الذين لا يؤذون أحداً».
{يشربون من كأس} هو إناء شرب الخمر وهي فيه والمراد من خمر تسمية للحالّ باسم المحل ومن للتبعيض {كان مزاجها} أي: ما تمزج به {كافوراً} لبرده وعذوبته وطيب عرفه، وذكر فعل الكون يدل على أنّ له شأناً في المزج عظيماً يكون فيه كأنه من نفس الجبلة لا كما يعهد، والكافور نبت معروف وكان اشتقاقه من الكفر وهو الستر لأنه يغطي الأشياء برائحته والكافور أيضاً كمام الشجر الذي هو ثمرتها، والكافر البحر، والكافر الليل، والكافر الساتر لنعم الله تعالى، والكافر الزارع لتوريته الحب في الأرض، قال الشاعر:
وكافر مات على كفره ** وجنة الفردوس للكافر

والكفارة تغطية الإثم في اليمين الفاجرة والنذور الكاذبة بالمغفرة، والكافور: ماء جوف الشجر مكفور فيغرزونه بالحديد فيخرج إلى ظاهر الشجر فيضربه الهواء فيجمد وينعقد كالصمغ الجامد على الأشجار.
فإن قيل: مزج الكافور بالمشروب لا يكون لذيذاً فما السبب في ذكره؟
أجيب: بأوجه:
أحدها: قال ابن عباس رضي الله عنهما: الكافور اسم عين في الجنة يقال لها عين الكافور، أي: يمازجها ماء هذه العين التي تسمى كافوراً في بياض الكافور ورائحته وبرده ولكن لا يكون فيه طعمه ولا مضرّته.
ثانيها: أنّ رائحة الكافور عرض، والعرض لا يكون إلا في جسم فخلق الله تعالى تلك الرائحة في جرم ذلك الشراب، فسمي ذلك الجسم كافوراً وإن كان طعمه طيباً فيكون الكافور ريحها لا طعمها.
ثالثها: أنّ الله تعالى يخلق الكافور في الجنة مع طعم طيب لذيذ ويسلب عنه ما فيه من المضرّة، ثم إنه تعالى يمزجه بذلك الشراب كما أنه تعالى يسلب عن جميع المأكولات والمشروبات ما معها في الدنيا من المضارّ وقال سعيد عن قتادة رضي الله عنهم: يمزج لهم بالكافور ويختم بالمسك. وقيل: يخلق فيها رائحة الكافور وبياضه فكأنها مزجت بالكافور.
وقوله تعالى: {عيناً} في نصبه أوجه: أحدها: أنه بدل من {كافوراً} لأنّ ماءها في بياض الكافور وفي رائحته وبرده واقتصر على هذا الجلال المحلي.
الثاني: أنه بدل من محل {من كأس} قاله مكي ولم يقدّر حذف مضاف، وقدّر الزمخشري على هذا الوجه حذف مضاف، قال: كأنه قيل: يشربون خمراً خمر عين. الثالث: أنه نصب على الاختصاص قاله الزمخشري. الرابع: أنه بإضمار أعني قاله القرطبي، وقيل: غير ذلك.
{يشرب بها} قال الجلال المحلي: منها. وقال البقاعي: أي: بمزاجها. وقال الزمخشري: بها الخمر، قال: كما تقول شربت الماء بالعسل والأوّل أوضح. {عباد الله} أي: أولياؤه.
فإن قيل: الكفار عباد الله وهم لا يشربون منها بالاتفاق؟
أجيب: بأنّ لفظ عباد الله مختص بأهل الإيمان ولكن يشكل بقوله تعالى: {ولا يرضى لعباده الكفر} (الزمر).
فإنه يصير تقدير الآية ولا يرضى لعبادة المؤمنين الكفر مع أنه سبحانه لا يرضى الكفر للكافر ولا لغيره، وقد يجاب بأنّ هذا أكثري لا كلي، أو يقال: حيث أضيف العباد أو العبد إلى اسم الله الظاهر سواء كان بلفظ الجلالة أم لا فالمراد به المؤمن، وإن أضيف إلى ضميره تعالى فيكون بحسب المقام، فتارة يختص بالمؤمن كقوله تعالى: {إنّ عبادي ليس لك عليهم سلطان} (الحجر).
وتارة يعمّ كقوله تعالى: {ولا يرضى لعباده الكفر} وقوله تعالى: {نبىء عبادي أني أنا الغفور الرحيم} (الحجر).
{يفجرونها} أي: يجرونها حيث شاؤوا من منازلهم وإن علت {تفجيراً} سهلاً لا يمتنع عليهم.
{يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبه مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ الله نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاءً وشُكُورًا إِنَّا نَخَافُ مِن رَّبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا فوقاهم الله شَرَّ ذَالِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا وَجَزَاهُم بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا مُّتَّكِينَ فِيهَا عَلَى ارَآِكِ يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا وزَمْهَرِيرًا}
ولما ذكر جزاءهم ذكر وصفهم الذي يستحقون عليه ذلك بقوله تعالى: {يوفون بالنذر} وهذا يجوز أن يكون مستأنفاً ويجوز أن يكون خبراً لكان مضمرة. قال الفراء: التقدير: كانوا يوفون بالنذر في الدنيا وكانوا يخافون. وقال الزمخشري: يوفون جواب من عسى يقول: ما لهم يرزقون ذلك. قال أبو حيان: واستعمل عسى صلة لمن وهو لا يجوز، وأتى بالمضارع بعد عسى غير مقرون بأن وهو قليل أو في الشعر، والوفاء بالنذر مبالغة في وصفهم بالتوفر على أداء الواجبات لأنّ من وفّى بما أوجبه هو على نفسه لوجه الله تعالى كان بما أوجبه الله تعالى عليه أوفى، وقال الكلبي:
{يوفون بالنذر} أي: يتممون العهود لقوله تعالى: {وأفوا بعهد الله} (النمل). {أوفوا بالعقود} (المائدة).
أمروا بالوفاء بها لأنهم عقدوها على أنفسهم باعتقادهم الإيمان. قال القرطبي: والنذر حقيقة ما أوجبه المكلف على نفسه من شيء يفعله، وإن شئت قلت في حدّه: هو إيجاب المكلف على نفسه من الطاعات ما لو لم يوجبه لم يلزمه. وروي أنه صلى الله عليه وسلم قال: «من نذر أن يطيع الله فليطعه، ومن نذر أن يعصيه فلا يعصه».
ولما دل وفاؤهم على سلامة طباعهم قال تعالى عاطفاً دلالة على جمعهم للأمرين المتعاطفين، فهم يفعلون الوفاء لا لأجل شيءٍ بل لكرم الطبع. {ويخافون} أي: مع فعلهم للواجبات {يوماً} قال ابن عبد السلام: شرّ يوم أو أهوال يوم {كان} أي: كوناً هو في جبلته {شرّه} أي: ما فيه من الشدائد {مستطيراً} أي: فاشياً منتشراً غاية الانتشار من استطار الحريق والفجر وهو أبلغ من طار. وقال قتادة رضي الله عنه: كان شرّه فاشياً في السموات فانشقت وتناثرت الكواكب وكوّرت الشمس والقمر وفزعت الملائكة ونسفت الجبال وغارت المياه وتكسر كل شيء على الأرض من جبل وبناء، وفي ذلك إشعار بحسن عقيدتهم وإحسانهم واجتنابهم عن المعاصي فإن الخوف أدل دليل على عمارة الباطن، قالوا: ما فارق الخوف قلباً إلا خرب، ومن خاف أدلج ومن أدلج بلغ المنزل.
فإن قيل: لم قال تعالى: {كان شرّه} ولم يقل سيكون؟
أجيب: بأنه كقوله تعالى: {أتى أمر الله} (النحل).
فبما قيل في ذاك يقال هنا.
{ويطعمون الطعام} أي: على حسب ما يتيسر لهم من عال ودون، وقوله تعالى: {على حبه} حال إما من الطعام أي: كائنين على حبهم إياه فهو في غاية المكنة منهم والاستعلاء على قلوبهم لقلته وشهوتهم له وحاجتهم إليه، كما قال تعالى: {لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون} (آل عمران).
ليفهم أنهم للفضل أشدّ بذلاً، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم في حق الصحابة رضي الله عنهم: «لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهباً ما بلغ مدّ أحدهم ولا نصيفه» لقلة الموجود إذ ذاك وكثرته بعد، وإما من الفاعل والضمير في حبه لله أي: على حب الله وعلى التقديرين فهو مصدر مضاف للمفعول. وقال الفضيل بن عياض: على حب إطعام الطعام.
{مسكيناً} أي: محتاجاً احتياجاً يسيراً فصاحب الاحتياج الكثير أولى {ويتيماً} أي: صغيراً لا أب له {وأسيراً} أي: في أيدي الكفار. وخص هؤلاء بالذكر لأنّ المسكين عاجز عن الاكتساب بنفسه عما يكفيه، واليتيم مات من يكتسب له وبقي عاجزاً عن الكسب لصغره، والأسير لا يتمكن لنفسه نصراً ولا حيلة.
وقال مجاهد وسعيد بن جبير رضي الله عنهم: الأسير المحبوس فيدخل في ذلك المملوك والمسجون والكافر الذي في أيدي المسلمين، وقد نقل في غزوة بدر أن بعض الصحابة رضي الله عنهم كان يؤثر أسيره على نفسه بالخبز، وكان الخبز إذ ذاك عزيزاً حتى كان ذلك الأسير يعجب من مكارمهم حتى كان ذلك مما دعاه إلى الإسلام، وذلك لأنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم لما دفعهم إليهم قال: «استوصوا بهم خيراً». وقيل: الأسير المملوك، وقيل: المرأة لقول النبيّ صلى الله عليه وسلم «اتقوا الله في النساء فإنهنّ عندكم عوان» أي: أسرى.
وقوله تعالى: {إنما نطعمكم} على إضمار القول أي: يقولون بلسان المقال أو الحال: إنما نطعمكم أيها المحتاجون {لوجه الله} أي: لذات الملك الذي استجمع الجلال والإكرام لكونه أمرنا بذلك، وعبر بالوجه لأنّ الوجه يستحى منه ويرجى ويخشى عند رؤيته {لا نريد منكم} لأجل ذلك {جزاء} أي: لنا من أعراض الدنيا {ولا شكوراً} أي: لشي من قول ولا فعل، روي أنّ عائشة رضي الله تعالى عنها كانت تبعث بالصدقة إلى أهل بيت ثم تسأل المبعوث ما قالوا، فإن ذكر دعاء دعت لهم بمثله ليبقى ثواب الصدقة لها خالصاً عند الله تعالى.
ثم عللوا قولهم هذا على وجه التأكيد بقولهم {إنا نخاف من ربنا} أي: الخالق لنا المحسن إلينا {يوماً} أي: أهوال يوم هو في غاية العظمة وبينوا عظمته بقولهم {عبوساً} قال ابن عباس رضي الله عنهما: ووصف اليوم بالعبوس مجاز على طريقين أن يوصف بصفة أهله من الأشقياء كقولك: نهارك صائم روي أن الكافر يعبس يومئذ حتى يسيل من بين عينيه عرق مثل القطران، وأن يشبه في شدّته وضرره بالأسد العبوس أو بالشجاع الباسل.
{قمطريراً} قال ابن عباس رضي الله عنهما: طويلاً. وقال مجاهد وقتادة رضي الله عنهم: القمطرير الذي يقبض الوجوه والجباه بالتعبس. وقال الكلبي: العبوس الذي لا انبساط فيه والقمطرير الشديد وقال الأخفش: القمطرير أشدّ ما يكون من الأيام وأطوله في البلاد يقال يوم قمطرير وقماطير إذا كان شديداً كريهاً.
ولما كان فعلهم هذا خالصاً لله تعالى سبب عنه جزاءهم فقال تعالى: {فوقاهم الله} أي: الملك الأعظم بسبب خوفهم {شر ذلك اليوم} أي: العظيم ولابد لهم من نعيم ظاهر وباطن ومسكن يقيمون فيه وملبس وقد أشار إلى الأوّل بقوله تعالى: {ولقاهم} أي: أعطاهم {نضرة} أي: حسناً دائماً في وجوههم، وأشار إلى الثاني بقوله تعالى: {وسروراً} أي: في قلوبهم دائماً في مقابلة خوفهم في الدنيا.
وأشار إلى الثالث بقوله تعالى: {وجزاهم بما صبروا} أي: بسبب ما أوجدوا من الصبر على العبادة من لزوم الطاعة واجتناب المعصية ومنع أنفسهم الشهوات وبذل المحبوبات {جنة} أي: ادخلوا بستاناً جامعاً يأكلون منه ما يشتهون جزاء على ما كانوا يطعمون وإن كان غيرهم يشاركهم في ذلك دونهم في الجزاء وأشار إلى الرابع بقوله تعالى: {وحريراً} أي: ألبسوه أي: هو في غاية العظمة وما رواه البيضاوي تبعاً للزمخشري عن ابن عباس أنّ الحسن والحسين رضي الله عنهما مرضا فعادهما رسول الله صلى الله عليه وسلم في ناس فقالوا: يا أبا الحسن لو نذرت على ولدك، فنذر علي وفاطمة وفضة جارية لهما صوم ثلاثة أيام إن برئا فشفيا وما معهما شيء، فاستقرض عليّ من شمعون اليهودي الخيبري ثلاثة آصع من شعير وطحنت فاطمة صاعاً واختبزت خمسة أقراص على عددهم فوضعوها بين أيديهم ليفطروا فوقف عليهم سائل فقال: السلام عليكم أهل بيت محمد مسكين من مساكين المسلمين أطعموني أطعمكم الله من موائد الجنة فآثروه وباتوا لم يذوقوا إلا الماء وأصبحوا صياماً، فلما أمسوا وضعوا الطعام بين أيديهم فوقف عليهم يتيم فآثروه، ووقف عليهم أسير في الثالثة، ففعلوا مثل ذلك زاد في الكشاف فلما أصبحوا أخذ عليّ رضي الله تعالى عنه بيد الحسن والحسين فأقبلوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما أبصرهم وهم يرتعشون كالفراخ من شدّة الجوع، قال: ما أشدّ ما يسوءني ما أرى بكم وقام فانطلق معهم فرأى فاطمة في محرابها قد التصق ظهرها ببطنها وغارت عيناها فساءه ذلك فنزل جبريل عليه السلام وقال: خذها يا محمد- أي: السورة- هنأك الله في أهل بيتك فأقرأه السورة حديث موضوع.
ثم بين حالهم فيها بقوله تعالى: {متكئين فيها} أي: الجنة. واختلفوا في إعراب متكئين، فقال الجلال المحلي: حال من مرفوع ادخلوها المقدر. وقال أبو البقاء: يجوز أن يكون حالاً من المفعول في جزاهم وأن يكون صفة، واعترض عليه في كونه صفة بأنه لا يجوز عند البصريين لأنه كان يلزم الضمير، فيقال: متكئين هم فيها لجريان الصفة على غير من هي له وقيل: إنه من فاعل صبروا، واعترض أنّ الصبر كان في الدنيا والاتكاء في الآخرة، وأجيب بأنه يصح أن يكون حالاً مقدرة لأنّ مآلهم بسبب صبرهم إلى هذه الحالة.
ثم أشار إلى زيادة راحتهم بقوله تعالى: {على الأرائك} أي: السرر في الحجال ولا تكون أريكة إلا مع وجود الحجلة وقيل: الأرائك الفرش على السرر.
وقوله تعالى: {لا يرون فيها} أي: الجنة حال ثانية على الخلاف المتقدم في الأولى، ومن جوّز أن تكون الأولى صفة جوّزه في الثانية. وقيل: إنها حال من الضمير المرفوع المستكن في {متكئين} فتكون حالاً متداخلة. {شمساً} أي: حرًّا {ولا} يرون فيها {زمهريراً} أي: برداً شديداً فالآية من الاحتباك دل نفي الشمس أوّلاً على نفي القمر ودل نفي الزمهرير الذي هو سبب البرد ثانياً على نفي الحرّ الذي سببه الشمس، فأفاد هذا أنّ الجنة غنية عن النيرين، لأنها نيرة بذاتها وأهلها غير محتاجين إلى معرفة زمان إذ لا تكليف فيها بوجه وأنها ظليلة معتدلة دائماً بخلاف الدنيا، فإنّ فيها الحاجة إلى ذلك، والحرّ والبرد فيها من فيح جهنم، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «اشتكت النار إلى ربها قالت: يا رب أكل بعضي بعضاً فجعل لها نفسين نفساً في الشتاء ونفساً في الصيف فشدة ما تجدونه من البرد من زمهريرها وشدة ما تجدونه من الحرّ من سمومها» وقيل: الزمهرير القمر بلغة طيء، وأنشدوا:
وليلة ظلامها قد اعتكر ** قطعتها والزمهرير ما زهر

ويروى ما ظهر.
{ودانية} أي: قريبة مع الارتفاع {عليهم ظلالها} أي: شجرها من غير أن يحصل منها ما يزيل الاعتدال. واختلف في نصب دانية، فقال البغوي: عطف على {متكئين}. وقال الجلال المحلي: عطف على محل لا يرون وذكره البغوي بعد الأوّل بصيغة قيل، قال البيضاوي: أو عطف على {جنة} أي: وجنة أخرى دانية لأنهم وعدوا جنتين لقوله تعالى: {ولمن خاف مقام ربه جنتان} (الرحمن). فإن قيل: إن الظل إنما يوجد حيث توجد الشمس، والجنة لا شمس فيها فكيف يحصل الظل؟
أجيب: بأنّ أشجار الجنة تكون بحيث لو كان هناك شمس لكانت تلك الأشجار مظلة منها، وإن كان لا شمس ولا قمر كما أن أمشاطهم الذهب والفضة وإن كان لا وسخ ولا شعث.
{وذللت قطوفها} جمع قطف بالكسر وهو العنقود واسم للثمار المقطوفة أي: المجنية {تذليلاً} أي: سهل تناولها تسهيلاً عظيماً لا يردّ اليد عنها بعد ولا شوك لكل من يريد أخذها على أي حالة كانت من اتكاء وغيره، فإن كانوا قعوداً أو مضطجعين تدلت إليهم، وإن كانوا قياماً وكانت على الأرض ارتفعت إليهم، وقال البراء: ذللت لهم فهم يتناولون منها كيف شاؤوا، فمن أكل قائماً لم يؤذه ومن أكل جالساً لم يؤذه ومن أكل مضطجعاً لم يؤذه، وهذا جزاؤهم على ما كانوا يذللون أنفسهم لأمر الله تعالى.
ولما وصف تعالى طعامهم ولباسهم وسكنهم وصف شرابهم بقوله تعالى: {ويطاف} أي: من أي طائف كان لكثرة الخدم {عليهم بآنية} جمع إناء كسقاء وأسقية وجمع الآنية أوان وهي ظروف للمياه ومعنى يطاف أي: يدور على هؤلاء الأبرار الخدم إذا أرادوا الشرب. ثم بين تلك الآنية بقوله تعالى: {من فضة} قال ابن عباس رضي الله عنهما: ليس في الدنيا شيء مما في الجنة إلا الأسماء أي: الذي في الجنة أشرف وأعلى ولم ينف الآنية الذهبية بل المعنى: يسقون في الأواني الفضة وقد يسقون في الأواني الذهب كما قال تعالى: {سرابيل تقيكم الحرّ} (النحل).
أي: والبرد فنبه بذكر أحدهما على الآخر.
ولما جمع الآنية خص فقال تعالى: {وأكواب} جمع كوب، وهو كوز لا عروة له فيسهل الشرب منه من كل موضع فلا يحتاج عند التناول إلى إدارة {كانت} أي: تلك الأكواب كوناً هو من جبلتها {قوارير} أي: كانت بصفة القوارير من الصفاء والرقة والشفوف والإشراق، جمع قارورة وهي ما أقرّ فيه الشراب ونحوه من كل إناء رقيق صاف. وقيل: هو خاص بالزجاج.
ولما كان رأس آية وكان التعبير بالقوارير ربما أفهم أنها من الزجاج، وكان في الزجاج من النقص سرعة الانكسار لإفراط الصلابة، قال تعالى معيد للفظ أوّل الآية الثانية تأكيداً للاتصاف بالصالح من أوصاف الزجاج وبياناً لنوعها: {قوارير من فضة} أي: قد جمعت صفتي الجوهرين المتباينين صفاء الزجاج وشفوفه وبريقه، وبياض الفضة وشرفها ولينها، وقال الكلبي: إن الله تعالى جعل قوارير كل قوم من تراب أرضهم، وإنّ أرض الجنة من فضة فجعل منها قوارير يشربون منها. وقرأ نافع وشعبة والكسائي وصلاً بالتنوين فيهما ووافقهم ابن كثير في الأول دون الثاني، والباقون بغير تنوين، وأما الوقف فمن نون وقف بالألف، ومن لم ينون وقف بغير ألف إلا هشاماً، فإنه وقف على الثاني بالألف وفي الوصل لم ينون فالقراءات حينئذ على خمس مراتب:
إحداها: تنوينهما معاً، والوقف عليهما بالألف. الثانية: مقابله وهو عدم تنوينهما وعدم الوقف عليهما بالألف، الثالثة: عدم تنوينهما والوقف عليهما بالألف، الرابعة: تنوين الأول دون الثاني والوقف على الأول بالألف وعلى الثاني بدونها. الخامسة: عدم تنويهما معاً والوقف على الأول بالألف، وعلى الثاني بدونها. وأما من نوّنهما فلما مرّ في تنوين {سلاسل}؛ لأنهما صيغة منتهى الجموع ذاك على مفاعل وذا على مفاعيل، والوقف بالألف التي هي بدل التنوين، فأما عدم تنوينهما وعدم الوقف بالألف فظاهر، وأما من نوّن الأول دون الثاني فإنه ناسب بين الأول وبين رؤوس الأي، ولم يناسب بين الثاني وبين الأوّل، والوجه في وقفه على الأوّل بالألف وعلى الثاني بغير ألف ظاهر، وأما من لم ينوّنهما ووقف على الأوّل بألف وعلى الثاني بدونها فلأنّ الأوّل رأس آية فناسب بينه وبين رؤوس الأي في الوقف بالألف وفرق بينه وبين الثاني لأنه ليس برأس آية، وأما من لم ينوّنهما ووقف عليهما بالألف، فإنه ناسب بين الأول وبين رؤوس الأي وناسب بين الثاني وبين الأول.
وقال الزمخشري: وهذا التنوين بدل من ألف الإطلاق؛ لأنها فاصلة وفي الثاني لاتباعه الأوّل يعني: أنهم يأتون بالتنوين بدلاً من حرف الإطلاق الذي للترنم، كقوله:
يا صاح ما هاج العيون الذرفن

وقوله تعالى: {قدّروها تقديراً} صفة لقوارير من فضة وفي الواو في قدّروها وجهان: أحدهما: أنه للمطاف عليهم، ومعنى تقديرهم لها أنهم قدروها في أنفسهم أن تكون على تقادير وأشكال على حسب شهواتهم فجاءت كما قدّروا. والثاني: أنه للطائفين بها دل عليه قوله تعالى: {ويطاف عليهم} (الإنسان).
على أنهم قدّروا شرابها على قدر الري وهو ألذ للشارب لكونه على مقدار حاجته لا يفضل عنه ولا يعجز، وعن مجاهد رضي الله عنه لا تغيض ولا تفيض وعن ابن عباس رضي الله عنهما قدّروها على ملء الكف حتى لا تؤذيهم بثقل أو بإفراط صغر، وجوّز أبو البقاء أن تكون الجملة مستأنفة.
{ويسقون} أي: ممن أرادوه من خدمهم الذين لا يحصون كثرة {فيها} أي: في الجنة أو تلك الأكواب {كأساً} أي: خمراً في إناء {كان مزاجها} أي: ما تمزج به على غاية الإحكام {زنجبيلاً} أي: غاية اللذة، وكانت العرب تلتذ بالشراب الممزوج به لهضمه وتطييبه الطعم، والزنجبيل: نبت معروف، وسمي الكأس بذلك لوجود طعم الزنجبيل فيها قال الأعشى:
كأن القرنفل والزنجبي ** ل باتابفيها وأريا مشورا

وقال المسيب بن علس:
وكأن طعم الزنجبيل به ** إذ اذقته وسلافة الخمر

وقوله تعالى: {عيناً فيها} أي: الجنة بدل من زنجبيلاً وكون الزنجبيل عيناً فيه خرق للعوائد؛ لأنّ الزنجبيل عندنا شجر يحتاج في تناوله إلى علاج، فبين أنه هناك عين لا يحتاج في صيرورته زنجبيلاً إلى أن تحيله الأرض بتخميره فيها حتى يصير شجراً ليتحوّل عن طعم الماء إلى طعم الزنجبيل {تسمى} أي: تلك العين لسهولة إساغتها ولذة طعمها وسموّ وصفها {سلسبيلاً} والمعنى: أن ماء تلك العين كالزنجبيل الذي تلتذ به العرب سهل المساغ في الحلق، فليس هو كزنجبيل الدنيا يلذع في الحلق فتصعب إساغته. والسلسبيل والسلسل والسلسال ما كان من الشراب غاية في السلاسة زيدت فيه الباء زيادة في المبالغة في هذا المعنى، وقال مقاتل وابن حبان رضي الله عنهما: سميت سلسبيلاً لأنها تسيل عليهم في الطرق وفي منازلهم تنبع من أصل العرش من جنة عدن إلى أهل الجنان. قال البغوي: وشراب الجنة في برد الكافور وطعم الزنجبيل وريح المسك من غير لذع. وقال مقاتل رضي الله عنه: يشربها المقربون صرفاً وتمزج لسائر أهل الجنة.
ولما ذكر تعالى المطوف به لأنه الغاية المقصودة وصف الطائف لما في طوافه من العظمة المشهودة بقوله تعالى.
{ويطوف عليهم} أي: بالشراب وغيره من الملاذ والمحاب {ولدان} أي: غلمان هم في سن من هو دون البلوغ؛ لأنّ الفقهاء قالوا:
الناس غلمان وصبيان وأطفال وذراري إلى البلوغ ثم هم بعد البلوغ شبان وفتيان إلى الثلاثين، ثم هم بعدها كهول إلى الأربعين ثم بعدها شيوخ واستنبط بعضهم ذلك من القرآن في حق بعض الأنبياء عليهم الصلاة والسلام قال الله تعالى في حق يحيى: {وآتيناه الحكم صبياً} (مريم).
وفي حق عيسى: {يكلم الناس في المهد وكهلاً} (آل عمران).
وعن إبراهيم: {قالوا سمعنا فتى يذكرهم يقال له إبراهيم} (الأنبياء).
وعن يعقوب: {إنّ له اباً شيخاً كبيراً} (يوسف). وقالوا: وأقل أهل الجنة من يخدمه ألف غلام، ويعطى في الجنة قدر الدنيا عشر مرّات. وقرأ حمزة بضم الهاء والباقون بكسرها.
ثم وصف تعالى تلك الغلمان بقوله تعالى: {مخلدون} أي: قد حكم من لا يرد حكمه بأن يكونوا كذلك دائماً من غير علة ولا ارتفاع عن ذلك الحدّ مع أنهم مزينون بالحلي وهو الحلق والأساور والقرط والملابس الحسنة.
{إذا رأيتهم} أي: يا أعلى الخلق وأنت أثبت الناس نظراً أو أيها الرائي الشامل لكل راء في أي حالة رأيتهم فيها {حسبتهم} أي: من بياضهم وصفاء ألوانهم وانتشارهم في الخدمة {لؤلؤاً منثوراً} أي: من سلكه أو من صدفه وهو أحسن منه في غير ذلك، قال بعض المفسرين: هم غلمان ينشئهم الله تعالى لخدمة المؤمنين. وقال بعضهم: أطفال المؤمنين لأنهم ماتوا على الفطرة. وقال ابن برجان: وأرى والله أعلم أنهم من علم الله تعالى إيمانه من أولاد الكفار، وتكون خدماً لأهل الجنة كما كانوا لنا في الدنيا سبياً وخداماً. وأما أولاد المؤمنين فيلحقون بآبائهم سناً وملكاً سروراً لهم. ويؤيد هذا قوله صلى الله عليه وسلم في ابنه إبراهيم عليه السلام: «إن له لظئراً تتم رضاعه في الجنة» فإنه يدل على انتقال شأنه فيما هنالك وكتنقله في الأحوال في الدنيا، ولا دليل على خصوصيته بذلك. وقرأ السوسي وشعبة بإبدال الهمزة الأولى الساكنة وقفاً ووصلاً، وإذا وقف حمزة أبدل الأولى والثانية.
ولما ذكر المخدوم والخدم ذكر المكان بقوله تعالى: {وإذا رأيت} أي: وجدت منك الرؤية {ثم} أي: هناك في أي مكان كان في الجنة، وأي شيء كان فيها. وقوله تعالى: {رأيت} جواب إذا أي: رأيت {نعيماً} أي: ليس فيه كدر بوجه من الوجوه ولا يقدر على وصفه واصف. {وملكاً كبيراً} أي: لم يخطر على باله مما هو فيه من السعة وكثرة الموجود والعظمة.
قال سفيان الثوري: بلغنا أن المُلْك الكبير تسليم الملائكة عليهم. وقيل: كون التيجان على رؤوسهم كما تكون على رؤوس الملوك، وقال الحكيم الترمذي: هو ملك التكوين إذا أرادوا شيئاً، قالوا له: كن فيكون. وفي الخبر: إنّ الملك الكبير هو أنّ أدناهم منزلة أي: وما فيهم دنيء الذي في ملكه مسيرة ألف عام ويرى أقصاه كما يرى أدناه وإن أعظمهم منزلة من ينظر إلى وجه ربه سبحانه وتعالى كل يوم. أي: قدر يوم من أيام الدنيا مرّتين.
ولما ذكر الدار وساكنيها من مخدوم وخدم ذكر لباسهم بقوله تعالى: {عاليهم} أي: فوقهم {ثياب سندس} هو ما رق من الحرير {خضر وإستبرق} وهو ما غلظ من الديباج فهو البطائن، والسندس الظهائر، وقرأ نافع وحمزة {عاليهم} بسكون الياء بعد اللام وكسر الهاء والباقون بفتح الياء وضم الهاء؛ لأنّ الياء لما سكنت كسرت الهاء ولما تحركت ضمت الهاء، فأما قراءة نافع وحمزة ففيها أوجه: أظهرها: أن يكون خبراً مقدّماً، و{ثياب} مبتدأ مؤخر.
وأمّا قراءة الباقين ففيها أيضاً أوجه: أظهرها: أن يكون خبراً مقدّماً و{ثياب} مبتدأ مؤخراً. كأنه قال: فوقهم ثياب. قال أبو البقاء: لأنّ {عاليهم} بمعنى فوقهم، والضمير المتصل به للمطوف عليهم أو للخادم والمخدوم جميعاً وإن كانت تتفاوت بتفاوت الرتب. وقرأ نافع وحفص {خضر وإستبرق} برفعهما، وقرأ حمزة والكسائي بخفضهما. وقرأ أبو عمرو وابن عامر برفع {خضر} وجرّ {إستبرق}، وقرأ ابن كثير وشعبة بجرّ {خضر} ورفع {إستبرق}.
وحاصل القراءات في ذلك أربع مراتب: الأولى: رفعهما، الثانية: خفضهما، الثالثة: رفع الأوّل وخفض الثاني، الرابعة: عكس ذلك. فأمّا القراءة الأولى: فإنّ رفع {خضر} على النعت لـ: {ثياب} ورفع {إستبرق} نسق على الثياب، ولكن على حذف مضاف أي: وثياب إستبرق، وأمّا القراءة الثانية: فيكون جرّ {خضر} على النعت لـ: {سندس}. ثم استشكل على هذا وصف المفرد بالجمع، فقال مكي: هو اسم جمع، وقيل: هو جمع سندسة كتمر وتمرة، ووصف اسم الجنس بالجمع صحيح قال تعالى: {وينشىء السحاب الثقال} (الرعد)، {وأعجاز نخل منقعر} (القمر)، {ومن الشجر الأخضر} (يس).
وإذا كانوا قد وصفوا المحلى لكونه مراداً به الجنس بالجمع في قولهم: أهلك الناس الدينار الحمر والدرهم البيض وفي التنزيل {أو الطفل الذين} فلأن يوجد ذلك في أسماء الجموع أو أسماء الأجناس الفارق بينها وبين واحدها تاء التأنيث بطريق الأولى، وجرّ {إستبرق} نسقاً على {سندس} لأنّ المعنى: ثياب من سندس وثياب من إستبرق، وأمّا القراءة الثالثة: فرفع {خضر} نعتاً لـ: {ثياب} وجرّ {إستبرق} نسقاً على {سندس} أي: ثياب خضر من سندس ومن إستبرق، فعلى هذا يكون الإستبرق أيضاً أخضر، وأمّا القراءة الرابعة: فجرّ {خضر} على أنه نعت لـ: {سندس} ورفع {إستبرق} على النسق على {ثياب} بحذف مضاف أي: وثياب إستبرق.
ثم أخبر تعالى عن تحليتهم بقوله سبحانه {وحلوا} أي: المخدوم والخادم {أساور من فضة} وإن كانت تتفاوت بتفاوت الرتب وهي بالغة من الأعضاء ما يبلغه التحجيل في الوضوء كما قال صلى الله عليه وسلم «الحلية من المؤمن حيث يبلغ الوضوء» فلذلك كان أبو هريرة يرفع إلى المنكبين وإلى الساقين.
تنبيه:
قال هنا: {أساور من فضة} وفي سورة فاطر: {يحلون فيها من أساور من ذهب} (فاطر).
وفي سورة الحج: {يحلون فيها من أساور من ذهب ولؤلؤ} (الحج).
فقيل: حلي الرجال الفضة وحلي النساء الذهب. وقيل: تارة يلبسون الذهب وتارة يلبسون الفضة. وقيل: يجمع في يدي أحدهم سواران من ذهب، وسواران من فضة، وسواران من لؤلؤ لتجتمع لهما محاسن الجنة قاله سعيد بن المسيب. وقيل: يعطى كل أحد ما يرغب فيه وتميل نفسه إليه. وقيل: أسورة الفضة إنما تكون للولدان وأسورة الذهب للنساء. وقيل: هذا للنساء والصبيان. وقيل: هذا يكون بحسب الأوقات والأعمال.
{وسقاهم ربهم} أي: الموجد لهم المحسن إليهم المدبر لمصالحهم {شراباً طهوراً} أي: ليس هو كشراب الدنيا سواء أكان من الخمر أم من الماء أم من غيرهما فهو بالغ الطهارة.
وقال عليّ رضي الله عنه: إذا توجه أهل الجنة إلى الجنة مروا بشجرة يخرج من ساقها عينان فيشربون من إحداهما فتجري عليهم نضرة النعيم فلا تتغير أبشارهم ولا تشعث شعورهم أبداً، ثم يشربون من الأخرى فيخرج ما في بطونهم من الأذى ثم تستقبلهم خزنة الجنة فيقولون لهم سلام عليكم طبتم فادخلوها خالدين وقال النخعي وأبو قلابة: هو إذا شربوه بعد أكلهم طهرهم وصار ما أكلوه وشربوه رشح مسك وضمرت بطونهم. وقال مقاتل: هو من عين ماء على باب الجنة تنبع من ساق شجرة، من شرب منها نزع الله تعالى ما كان في قلبه من غش وغل وحسد وما كان في جوفه من أذى، وعلى هذا فيكون فعول للمبالغة. وقال الرازي: قوله تعالى: {طهوراً} في تفسيره احتمالات: أحدها: لا يكون نجساً كخمر الدنيا، وثانيها: المبالغة في البعد عن الأمور المستقذرة لأنه لم يعصر فتمسه الأيدي الوضرة وتدوسه الأرجل الدنسة ولم يجعل في الدنان والأباريق التي لم يعن بتنظيفها.
وثالثها: أنه لا يؤول إلى النجاسة لأنها ترشح عرقاً من أبدانهم له ريح كريح المسك، وعلى هذين الوجهين يكون الطهور مطهراً لأنه يطهر بواطنهم من الأخلاق الذميمة والأشياء المؤذية.
فإن قيل: هل هذا نوع آخر غير ما ذكر قبل ذلك من أنهم يشربون من الكافور والزنجبيل والسلسبيل أم لا؟
أجيب: بأنه نوع آخر لوجوه: أولها: رفع. ثانيها: أنه تعالى أضاف هذا الشراب إلى نفسه بقوله تعالى: {وسقاهم ربهم شراباً طهوراً} وذلك يدل على فضل هذا دون غيره، ثالثها: ما روي أنه تقدّم إليهم الأطعمة والأشربة، فإذا فرغوا منها أتوا بالشراب الطهور فيشربون فيطهر ذلك بطونهم ويفيض عرقاً من جلودهم مثل ريح المسك، وهذا يدل على أنّ ذلك الشراب مغاير لتلك الأشربة، ولأنّ هذا الشراب يهضم سائر الأشربة، ثم إنّ له مع هذا الهضم تأثيراً عجيباً وهو أنه يجعل سائر الأطعمة والأشربة عرقاً يفوح منه ريح كريح المسك ويطهر شاربه عن الميل إلى اللذات الخسيسة والركون إلى ما سوى الحق فيتجرّد لمطالعة جلاله متلذذاً بلقائه باقياً ببقائه وهو منتهى درجات الصدّيقين وكل ذلك يدل على المغايرة.
وقوله تعالى: {إنّ} على إضمار القول أي: ويقال لهم إنّ {هذا كان لكم جزاء} أي: على أعمالكم التي كنتم تجاهدون فيها أنفسكم عن هواها إلى ما يرضي ربكم والإشارة إلى ما تقدّم من عطاء الله تعالى لهم {وكان} أي: على وجه الثبات {سعيكم مشكوراً} أي: لا نضيع شيئاً منه ونجازي بأكثر منه أضعافاً مضاعفة.
ولما بين تعالى بهذا القرآن العظيم الوعد والوعيد ذكر سبحانه أنه من عنده وليس هو بسحر ولا كهانة ولا شعر بقوله تعالى: {إنا نحن} أي: على ما لنا من العظمة التي لا نهاية لها لا غيرنا {نزلنا عليك} وأنت أعظم الخلق إنزالاً استعلى حتى صار المنزَّل خلُقُاً لك {القرآن} أي: الجامع لكل هدى {تنزيلاً} قال ابن عباس: متفرّقاً آية بعد آية ولم ينزل جملة واحدة.
قال الرازي: والمقصود من هذه الآية تثبيت الرسول صلى الله عليه وسلم وشرح صدره فيما نسبوه إليه صلى الله عليه وسلم من كهانة وسحر، فذكر تعالى أنّ ذلك وحي من الله تعالى فكأنه تعالى يقول: إن كان هؤلاء الكفار يقولون: إنّ ذلك كهانة فأنا الله الملك الحق أقول على سبيل التأكيد: إنّ ذلك وحي حق وتنزيل صدق من عندي. وفي ذلك فائدتان، الأولى: إزالة الوحشة الحاصلة بسبب طعن الكفار، لأنّ الله تعالى عظمه وصدّقه. الثانية: تقويته على تحمل مشاق التكليف، فكأنه تعالى يقول له: إني ما نزلت القرآن عليك متفرّقاً إلا لحكمة بالغة تقتضي تخصيص كل شيء بوقت معين، وقد اقتضت تلك الحكمة تأخير الإذن في القتال.
{فاصبر لحكم ربك} أي: المحسن إليك. قال ابن عباس: اصبر على أذى المشركين ثم نسخ بآية القتال. وقيل: اصبر لما يحكم عليك به من الطاعات أو انتظر حكم الله إذ وعدك بالنصر عليهم ولا تستعجل فإنه كائن لا محالة {ولا تطع منهم} أي: الكفرة الذين هم ضد الشاكرين {آثماً} أي: داعياً إلى إثم سواء كان مجرّداً عن مطلق الكفر أو مصاحباً له {أو كفوراً} أي: مبالغاً في الكفر وداعياً إليه وإن كان كبيراً وعظيماً في الدنيا، فإنّ الحق أكبر من كل كبير. وقال قتادة: أراد بالآثم والكفور أبا جهل، وذلك أنه لما فرضت الصلاة على النبيّ صلى الله عليه وسلم نهاه أبو جهل عنها وقال: لئن رأيت محمداً يصلي لأطأنّ على عنقه.
وقال مقاتل: أراد بالآثم عتبة بن ربيعة وبالكفور الوليد بن المغيرة، وكانا أتيا النبيّ صلى الله عليه وسلم يعرضان عليه الأموال والتزويج على أن يترك ذكر النبوّة عرض عليه عتبة ابنته وكانت من أجمل النساء، وعرض عليه الوليد أن يعطيه من الأموال حتى يرضى ويترك ما هو عليه، فقرأ عليهما رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر آيات من أوّل حم السجدة إلى قوله تعالى: {فإن أعرضوا فقل أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود} [فصلت] فانصرفا عنه. وقال أحدهما: ظننت أنّ الكعبة ستقع عليّ.
فإن قيل: كانوا كلهم كفرة فما معنى القسمة في قوله: {آثماً أو كفوراً} أجيب: بأنّ معناه: ولا تطع منهم راكباً لما هو إثم داعياً لك إليه أو فاعلاً لما هو كفر داعياً لك إليه؛ لأنهم إمّا أن يدعوه إلى مساعدتهم على فعل هو إثم أو كفر أو غير إثم ولا كفر، فنهي أن يساعدهم على الاثنين دون الثالث.
ثم قال فإن قيل: معنى أو: ولا تطع أحدهما فهلا جيء بالواو ليكون نهياً عن إطاعتهما جميعاً؟
أجيب: بأنه لو قال: ولا تطعهما لجاز أن يطيع أحدهما وإذا قيل: ولا تطع أحدهما علم أنّ الناهي عن طاعة أحدهما أنهى عن طاعتهما جميعاً كما إذا نهى أن يقول لأبويه: أف علم أنه نهى عن ضربهما بطريق الأولى.
فإن قيل: إنه صلى الله عليه وسلم ما كان يطيع أحداً منهم فما فائدة هذا النهي؟
أجيب: بأنّ المقصود بيان أنّ الناس محتاجون إلى التنبيه والإرشاد لأجل ما تركب فيهم من الشهوة الداعية إلى النساء وأنّ الواحد لو استغنى عن توفيق الله تعالى وإرشاده لكان أحق الناس به هو رسول الله صلى الله عليه وسلم المعصوم دائماً أبداً، ومتى ظهر لك ذلك عرفت أنّ كل مسلم لابد له من الرغبة إلى الله تعالى والتضرّع إليه أن يصونه عن الشهوات.
{واذكر} أي: في الصلاة {اسم ربك} أي: المحسن إليك بكل جميل {بكرة} أي: الفجر {وأصيلاً} أي: الظهر والعصر.
{ومن الليل} أي: بعضه والباقي للراحة بالنوم {فاسجد له} أي: المغرب والعشاء {وسبحه ليلاً طويلاً} أي: صل التطوّع فيه كما تقدّم من ثلثيه أو نصفه أو ثلثه أو اذكره بلسانك بكرة عند قيامك من منامك الذي هو الموتة الصغرى وتذكرك أنه يحيي الموتى ويحشرهم جميعاً وأصيلاً أي: عند انقرأض نهارك وتذكرك انقرأض دنياك وطي هذا العالم لأجل يوم الفصل، وفي ذكر الوقتين إشارة إلى دوام الذكر وذكر اسمه لازم لذكره والذي عليه أكثر المفسرين. الأوّل قال ابن عباس وسفيان: كل تسبيح في القرآن فهو صلاة لأنّ الصلاة أفضل الأعمال البدنية لأنها أعظم الذكر لأنها ذكر اللسان والجنان والأركان فوظفت فيها أركان لسانية وحركات وسكنات على هيئات مخصوصة من عادتها أن لا تفعل إلا بين يدي الملوك.
ولما خاطب رسول الله صلى الله عليه وسلم بالتعظيم والأمر والنهي عدل سبحانه إلى شرح أحوال الكفار والمتمردّين فقال تعالى: {إنّ هؤلاء} أي: الذين يغفلون عن الله من الكفار والمتمردّين {يحبون} أي: محبة تجدّد عندهم زيادتها في كل وقت {العاجلة} لقصور نظرهم وجمودهم على المحسوسات التي الإقبال عليها منشأ البلادة والقصور ومعدن الأمراض للقلوب التي في الصدور، ومن تعاطى أسباب الأمراض مرض وسمي كفوراً، ومن تعاطى ضدّ ذلك شفي وسمي شاكراً.
{ويذرون} أي: ويتركون {وراءهم} أي: قدّامهم على وجه الإحاطة بهم وهم عنه معرضون كما يعرض الإنسان عما وراءه أو خلف ظهورهم لا يعبؤون به وقوله تعالى: {يوماً} مفعول يذرون لا ظرف وقوله تعالى: {ثقيلاً} وصف له استعير له الثقل لشدّته وهو له من الشيء الثقيل الباهظ لحامله ونحوه ثقلت في السموات والأرض.
{نحن خلقناهم} أي: بما لنا من العظمة لا غيرنا {وشددنا} أي: قوّينا {أسرهم} أي: توصيل عظامهم بعضها ببعض وتوثيق عظامهم بالأعصاب بعد أن كانوا نطفاً أمشاجاً في غاية الضعف. وأصل الأسر الربط والتوثيق، ومنه أسر الرجل إذا وثق بالقدّ وهو الإسار، وفرس مأسور الخلق {وإذا شئنا} أي: بما لنا من العظمة أن نبدّل ما نشاء من صفاتهم أو ذواتهم {بدّلنا أمثالهم} أي: جئنا بأمثالهم بدلاً منهم إمّا بأن نهلكهم ونأتي ببدلهم ممن يطيع، وإمّا بتغيير صفاتهم كما شوهد في بعض الأوقات من المسخ وغيره، وقوله تعالى: {تبديلاً} تأكيد. قال الجلال المحلي: ووقعت إذا موقع إن، نحو {إن يشأ يذهبكم} (النساء).
لأنه تعالى لم يشأ ذلك وإذاً لما يقع. وفي ذلك رد لقول الزمخشري: وحقه أن يجيء بإن لا بإذا كقوله: {وإن تتولوا يستبدل قوماً غيركم} (محمد).
{إن يشأ يذهبكم} (النساء).
{إن هذه} أي: السورة أو الآيات القريبة {تذكرة} أي: عظة للخلق فإنّ في تصفحها تنبيهات للغافلين، وفي تدبرها وتذكرها فوائد جمة للطالبين السالكين ممن ألقى سمعه وأحضر قلبه وكانت نفسه مقبلة على ما ألقى إليه سمعه {فمن شاء} أي: بأن اجتهد في وصوله إلى ربه {اتخذ} أي: أخذ بجهده في مجاهدة نفسه ومغالبة هواه {إلى ربه} أي: المحسن إليه الذي ينبغي له أن يحبه بجميع جوارحه وقلبه ويجتهد في القرب منه {سبيلاً} أي: طريقاً واضحاً سهلاً واسعاً بأفعال الطاعة التي أمر بها لأنا بينا الأمور غاية البيان وكشفنا اللبس وأزلنا جميع موانع الفهم، فلم يبق مانع من استطراق الطريق غير مشيئتنا.
{وما تشاؤون} أي: في وقت من الأوقات شيئاً من الأشياء. وقرأ أبو عمرو وابن عامر وابن كثير بالياء التحتية على الغيبة والباقون بالتاء على الخطاب. وإذا وقف حمزة سهل الهمزة مع المدّ والقصر، وله أيضاً إبدالها واواً مع المدّ والقصر {إلا} وقت {أن يشاء الله} أي: الملك الأعلى الذي له الأمر كله والملك كله على حسب ما يريد ويقدر وقد صح بهذا ما قال الأشعري وسائر أهل السنة من أن للعبد مشيئة تسمى كسباً لا تؤثر إلا بمشيئة الله تعالى، وانتفى مذهب القدرية الذين يقولون: إنا نخلق أفعالنا، ومذهب الجبرية القائلين: لا فعل لنا أصلاً، ومثل الملوي ذلك بمن يريد قطع بطيخة فحدّد سكينة وهيأها وأوجد فيها أسباب القطع وأزال عنها موانعه، ثم وضعها على البطيخة فهي لا تقطع دون أن يتحامل عليها التحامل المعروف لذلك، ولو وضع عليها ما لا يصلح للقطع كحطبة مثلاً لم تقطع ولو تحامل، فالعبد كالسكين خلقه الله تعالى وهيأه بما أعطاه من القدرة للفعل، فمن قال: أنا أخلق فعلي مستقلاً به فهو كمن قال: السكين تقطع بمجرّد وضعها من غير تحامل، ومن قال: الفاعل هو الله من غير نظر إلى العبد أصلاً كان كمن قال: هو يقطع البطيخة بتحامل يده أو قصبة ملساء من غير سكين، والذي يقول: إنه باشر بقدرته المهيأة لفعل يخلقه الله تعالى لها في ذلك الفعل، كمن قال: إنّ السكين قطعت بالتحامل عليها بهذا أجرى الله سبحانه وتعالى عادته في الناس ولو شاء غير ذلك فعل، ولا يخفى أنّ هذا هو الحق الذي لا مرية فيه.
ثم علل ذلك بإحاطته بمشيئتهم بقوله تعالى: {إنّ الله} أي: المحيط علماً وقدرة {كان} أي: أزلاً وأبداً {عليماً} أي: بما يستأهل كل أحد {حكيماً} أي: بالغ الحكمة فهو يمنع منعاً محكماً من أن يشاء غيره ما لم يأذن فيه فمن علم في جبلته خيراً أعانه عليه، ومن علم منه الشرّ ساقه إليه وحمله عليه وهو معنى قوله تعالى: {يدخل من يشاء} أي: ممن علمه من أهل السعادة {في رحمته} أي: جنته وهم المؤمنون. وقوله تعالى: {والظالمين} أي: الكافرين منصوب بفعل يفسره قوله تعالى: {أعدّ لهم} مثل أوعد وكافأ ليطابق الجمل المعطوف عليها {عذاباً أليماً} أي: مؤلماً فهم فيه خالدون أبد الآبدين.
وقول البيضاوي تبعاً للزمخشري: إنه صلى الله عليه وسلم قال: «من قرأ سورة {هل أتى} كان جزاؤه على الله جنة وحريراً» حديث موضوع. اهـ.

.قال الشوكاني في الآيات السابقة:

قوله: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ القرءان تَنزِيلاً} أي: فرّقناه في الإنزال، ولم ننزله جملة واحدة.
وقيل المعنى: نزلناه عليك، ولم تأت به من عندك، كما يدّعيه المشركون.
{فاصبر لِحُكْمِ رَبّكَ} أي: لقضائه، ومن حكمه، وقضائه تأخير نصرك إلى أجل اقتضته حكمته.
قيل: وهذا منسوخ بآية السيف {وَلاَ تُطِعْ مِنْهُمْ ءاثِماً أَوْ كفوراً} أي: لا تطع كل واحد من مرتكب لإثم وغال في كفر، فنهاه الله سبحانه عن ذلك.
قال الزجاج: إن الألف هنا آكد من الواو وحدها؛ لأنك إذا قلت: لا تطع زيداً، وعمراً، فأطاع أحدهما كان غير عاص؛ لأنه أمره أن لا يطيع الاثنين، فإذا قال: لا تطع منهم آثماً أو كفوراً دلّ ذلك على أن كل واحد منهما أهل أن يعصى، كما أنك إذا قلت: لا تخالف الحسن أو ابن سيرين، فقد قلت إنهما أهل أن يتبعا، وكل واحد منهما أهل أن يتبع.
وقال الفرّاء: (أو) هنا بمنزلة لا، كأنه قال: ولا كفوراً.
وقيل المراد بقوله: {ءاثِماً} عتبة بن ربيعة، وبقوله: {أَوْ كفوراً} الوليد بن المغيرة؛ لأنهما قالا للنبيّ صلى الله عليه وسلم: ارجع عن هذا الأمر، ونحن نرضيك بالمال والتزويج.
{واذكر اسم رَبّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلاً} أي: دم على ذكره في جميع الأوقات.
وقيل المعنى: صلّ لربك أوّل النهار وآخره، فأوّل النهار صلاة الصبح، وآخره صلاة العصر.
{وَمِنَ اليل فاسجد لَهُ} أي: صلّ المغرب والعشاء.
وقيل: المراد الصلاة في بعضه من غير تعيين، ومن للتبعيض على كل تقدير {وَسَبّحْهُ لَيْلاً طَوِيلاً} أي: نزّهه عما لا يليق به، فيكون المراد: الذكر بالتسبيح سواء كان في الصلاة، أو في غيرها.
وقيل: المراد التطوّع في الليل.
قال ابن زيد، وغيره: إن هذه الآية منسوخة بالصلوات الخمس.
وقيل: الأمر للندب.
وقيل: هو مخصوص بالنبيّ صلى الله عليه وسلم.
{إِنَّ هؤلاء يُحِبُّونَ العاجلة} يعني: كفار مكة ومن هو موافق لهم.
والمعنى: أنهم يحبون الدار العاجلة، وهي دار الدنيا، {وَيَذَرُونَ وَرَاءهُمْ يَوْماً ثَقِيلاً} أي: يتركون، ويدعون وراءهم، أي: خلفهم، أو بين أيديهم وأمامهم يوماً شديداً عسيراً، وهو يوم القيامة، وسمي ثقيلاً لما فيه من الشدائد والأهوال.
ومعنى كونه يذرونه وراءهم: أنهم لا يستعدّون له، ولا يعبئون به، فهم كمن ينبذ الشيء وراء ظهره تهاوناً به، واستخفافاً بشأنه، وإن كانوا في الحقيقة مستقبلين له وهو أمامهم.
{نَّحْنُ خلقناهم} أي: ابتدأنا خلقهم من تراب، ثم من نطفة، ثم من علقة، ثم من مضغة إلى أن كمل خلقهم، ولم يكن لغيرنا في ذلك عمل ولا سعي لا اشتراكاً ولا استقلالاً {وَشَدَدْنَا أَسْرَهُمْ} الأسر: شدّة الخلق، يقال شدّ الله أسر فلان، أي: قوّى خلقه.
قال مجاهد، وقتادة، ومقاتل، وغيرهم: شددنا خلقهم.
قال الحسن: شددنا أوصالهم بعضاً إلى بعض بالعروق، والعصب.
قال أبو عبيد: يقال فرس شديد الأسر، أي: الخلق.
قال لبيد:
ساهم الوجه شديد أسره ** مشرف الحارك محبوك القتد

وقال الأخطل:
من كل مجتنب شديد أسره ** سلس القياد تخاله مختالا

وقال ابن زيد: الأسر القوّة، واشتقاقه من الإسار، وهو القدّ الذي تشدّ به الأقتاب، ومنه قول ابن أحمر يصف فرساً:
يمشي بأوطفة شداد أسرها ** شمّ السبائك لا تفي بالجدجد

{وَإِذَا شِئْنَا بَدَّلْنَا أمثالهم تَبْدِيلاً} أي: لو شئنا لأهلكناهم، وجئنا بأطوع لله منهم.
وقيل المعنى: مسخناهم إلى أسمج صورة، وأقبح خلقة.
{إِنَّ هذه تَذْكِرَةٌ} يعني: إن هذه السورة تذكير وموعظة {فَمَن شَاء اتخذ إلى رَبه سَبِيلاً} أي: طريقاً يتوسل به إليه، وذلك بالإيمان، والطاعة.
والمراد إلى ثوابه، أو إلى جنته.
{وَمَا تَشَاءونَ إِلاَّ أَن يَشَاء الله} أي: وما تشاءون أن تتخذوا إلى الله سبيلاً إلاّ أن يشاء الله، فالأمر إليه سبحانه ليس إليهم.
والخير والشرّ بيده، لا مانع لما أعطى ولا معطي لما منع، فمشيئة العبد مجرّدة لا تأتي بخير ولا تدفع شرّاً، وإن كان يثاب على المشيئة الصالحة، ويؤجر على قصد الخير، كما في حديث: «إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرىء ما نوى» قال الزجاج أي: لستم تشاءون إلاّ بمشيئة الله {إِنَّ الله كَانَ عَلِيماً حَكِيماً} في أمره ونهيه، أي: بليغ العلم والحكمة.
{يُدْخِلُ مَن يَشَاء في رَحْمَتِهِ} أي: يدخل في رحمته من يشاء أن يدخله فيها، أو يدخل في جنته من يشاء من عباده، قال عطاء: من صدقت نيته أدخله جنته {والظالمين أَعَدَّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً} انتصاب الظالمين بفعل مقدّر يدل عليه ما قبله، أي: يعذب الظالمين، نصب الظالمين؛ لأن ما قبله منصوب، أي: يدخل من يشاء في رحمته ويعذب الظالمين، أي: المشركين، ويكون أعدّ لهم تفسيراً لهذا المضمر، والاختيار النصب، وإن جاز الرفع، وبالنصب قرأ الجمهور، وقرأ أبان بن عثمان بالرفع على الابتداء، ووجهه أنه لم يكن بعده فعل يقع عليه.
وقد أخرج ابن جرير عن ابن عباس: {وَشَدَدْنَا أَسْرَهُمْ} قال: خلقهم. وأخرج ابن جرير عن أبي هريرة {وَشَدَدْنَا أَسْرَهُمْ} قال: هي المفاصل. اهـ.

.قال القاسمي:

سورة الإنسان:
بِسْمِ الله الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
{هَلْ أَتَى عَلَى الإنسان حِينٌ مِّنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُن شَيْئاً مَّذْكُوراً} أي: في ذلك الحين، بل كان شيئاً منسيّاً، نطفته في الأصلاب. والاستفهام للتقرير.
قال الشهاب: أي: الحمل على الإقرار بما دخلت عليه، والمقرر به من ينكر البعث. وقد علم أنهم يقولون: نعم، قد مضى دهر طويل لا إنسان فيه، فيقال لهم: فالذي أوجدهم بعد أن لم يكونوا، كيف يمتنع عليه إحيائهم بعد موتهم؟ والمراد بالإنسان جنس بني آدم.
{إِنَّا خَلَقْنَا الإنسان مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ} أي: ذات أخلاط، وهي موادها المؤلفة منها. جمع مشَج أو مشيج، كسبب وأسباب، ونصير وأنصار. أو مفرد، كبرمة أعشار، البرمة: القدر. وأعشار أي: منكرة كأنها صارة عشر قطع. انتهى.
{نبتليه} أي: نختبره. والجملة في موضع الحال أي: خلقناه مبتلين له، أي: مريدين ابتلاءهُ، لا عبثاً وسدى {فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً} أي: لننظر هل صرف سمعه وبصره إلى استماع آيات الله والنظر فيها. ولما كان تمام المنَّة بهما بهبة العقل، وأشار إليه بقوله سبحانه: {إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ} أي: سبيل الخير والشر والنجاة والهلاك، أي: عرّفناه وبيَّنا له ذلك، بأدلة العقل والسمع {إِمَّا شاكراً} أي: بالاهتداء والأخذ فيه {وَإِمَّا كفوراً} أي: بالإعراض عنه. ونصبهما بـ: يكون مقدرة، أي: ليكون إما شاكراً وإما كفوراً، أي: ليتميز شكره من كفره، وطاعته من معصيته، كقوله: {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} [الملك: 2].
قال الرازي: قال القفال: ومجاز هذه الكلمة على هذا التأويل قول القائل: قد نصحت لك، إن شئت فاقبل، وإن شئت فاترك، أي: فإن شئت فتحذف الفاء. فكذا المعنى {إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ} فإما شاكراً وإما كفوراً، فتحذف الفاء. وقد يحتمل أن يكون ذلك على جهة الوعيد. أي: إنا هديناه السبيل فإن شاء فليكفر، وإن شاء فليشكر؛ فإنا أعتدنا للكافرين كذا وللشاكرين كذا. كقوله: {وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ} [الكهف: 29]. انتهى.
لطيفة:
قال في (النهر): لما كان الشكر قلّ من يتصف به قال: {شاكراً} ولما كان الكفر كثيراً من يتصف به ويكثر وقوعه من الإنسان بخلاف الشكر قال: {كفوراً} بصيغة المبالغة. انتهى.
وهذا ألطف من القول بمراعاة رؤوس الآي.
{إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سلاسلا} أي: ليقادوا بها ويستوثق بها منهم شداً في الجحيم {وَأَغْلَالاً} أي: لتشد فيها أيديهم إلى أعناقهم {وَسَعِيراً} أي: ناراً تسعر عليهم فتتوقد.
{إِنَّ الْأَبْرَارَ} أي: الذين برّوا بطاعتهم ربهم في أداء فرائضه واجتناب معاصيه {يشربونَ مِن كَأْسٍ} أي: خمر، أطلقت عليها للمجاورة {كَانَ مِزَاجُهَا} أي: ما تمزج به {كَافُوراً} قال ابن جرير: يعني في طيب رائحتها كالكافور. ولما كان الكافور من أطيابهم كان كناية عما يطيب به مما له عرف ذكي.
{عيناً يشرب بها عِبَادُ الله يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيراً} أي: يثيرونها من منابعها في روض الجنة، وإثارة مبهجة، تفنناً في النعيم. و{عيناً} منصوب بنحو يؤتون، والباء في {بها} بمعنى من. وقوله تعالى: {يُوفُونَ بِالنَّذْرِ} استئناف مسوق لبيان ما لأجله رزقوا ما ذكر من النعيم، مشتمل على نوع تفصيل لما ينبئ عنه اسم الأبرار إجمالاً، كأنه قيل: ماذا يفعلون حتى ينالوا تلك الرتبة العالية؟ فقيل: يوفون بما أوجبوه على أنفسهم، فكيف بما أوجبه الله تعالى عليهم؟ {وَيَخَافُونَ يَوْماً كَانَ شَرُّهُ} أي: عذابه {مُسْتَطِيراً} منتشراً ظاهراً للغاية.
{وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبه} أي: مع حب الطعام، كقوله: {حَتَّى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ} [آل عمران: 92]، أو على حب الله تعالى، لما سيأتي من قوله: {لِوَجْهِ الله} [الإنسان: 9]، {مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً} أي: مأسوراً من حرب أو مصلحة. وإنما اقتصر على الثلاثة لأنهم من أهم من تجدر الصدقة عليهم؛ فإن المسكين عاجز عن الاكتساب لما يكفيه. واليتيم مات من يعوله ويكتسب له، مع نهاية عجزه بصغره، والأسير لا يملك لنفسه نصراً ولا حيلةً.
قال في (الإكليل): والآية تدل على أن إطعام المشرك ما يتقرب به إلى الله تعالى، أي: لقوله سبحانه: {إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ الله} أي: قائلين ذلك بلسان الحال أو المقال، وإزاحة لتوهم المنّ المبطل للصدقة، وتوقع المكافأة، أي: لا نقصد بإطعامكم إلا ثوابه تعالى والقربة إليه والزلفى عنده. وإطلاق الوجه على الذات مجاز مشهور {نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاء} أي: مكافأة {وَلَا شُكُوراً} أي: ثناءً ومديحاً.
{إِنَّا نَخَافُ مِن رَّبِّنَا يَوْماً} أي: عذاب يوم {عَبُوساً} أي: شديداً مظلماً. أو تعبس فيه الوجوه من شدة مكارهه وطول بلائه {قَمْطَرِيراً} أي: شديد العبوسة والكرب. وخوفهم من اليوم كناية عن عمل ما يؤمنهم فزعه وهوله، من الصالحات.
{فوقاهم الله شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ} أي: بسبب ما ذكر من خوفهم منه {وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً} أي: في الوجوه {وَسُرُوراً} أي: في القلوب.
{وَجَزَاهُم بِمَا صَبَرُوا} أي: على طاعة الله واجتناب محارمه والدعوة لسبيله واحتمال الأذى {جَنَّةً وَحَرِيراً} أي: يلبسونه ويتزينون به.
{متكئين فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ} أي: السُّرر {لَا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْساً وَلَا زَمْهَرِيراً} أي: لا حراً ولا برداً، من باب ذكر الملزوم وإرادة اللازم.
{وَدانية عَلَيْهِمْ ظِلَالُهَا} أي: ظلال أشجارها، أي: قريبة منهم، مظلة عليهم، زيادة في نعيمهم {وَذللت قُطُوفُهَا تَذْلِيلاً} أي: سهّلت ثمارها لمتناوليها. فلا يردّ أيديهم عنها بُعْدٌ ولا شوك.
{وَيُطَافُ عَلَيْهِم بِآنِيَةٍ مِّن فِضَّةٍ وَأَكْوَابٍ} جمع كوب، وهو كوز لا أذن له:
{كانت قواريرا قَوَارِيرَ مِن فِضَّةٍ} قال أبو البقاء: حسن التكرير لما اتصل به من بيان أصلهما، ولولا التكرير لم يحسن أن يكون الأول رأس آية، لشدة اتصال الصفة بالموصوف {قَدَّرُوهَا تَقْدِيراً} أي: في أنفسهم أن تكون على مقادير وأشكال على حسب شهواتهم. فجاءت كما قدّروا، أو قدرها لهم السقاة على قدر ريّهم لا يزيد ولا ينقص. وهو ألذّ للشارب، لكونه على مقدار حاجته، لا يفضل عنها ولا يعجز.
قال أبو حيان: أقرب من هذا ما نحاه أبو حاتم، وهو أن أصله قدر ريهم منها تقديراً والري العطش، فحذف المضاف وحرف الجر وأوصل الفعل له بنفسه.
قال الشهاب: وفي كونه أقرب، نظر، فإنه أكثر تكلفاً، ولكن كل حزب بما لديهم فرحون.
{وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْساً كَانَ مِزَاجُهَا زَنجَبِيلاً} أي: ما يشبهه في الطعم. وكانت العرب يستلذون الشراب الممزوج به.
{عيناً فِيهَا تُسَمَّى سَلْسَبِيلاً} وهي شديدة الجرية المنسابة بنوع خاص بهيج. ونصب {عيناً} بنحو: يؤتون، أو ينظرون.
{وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُّخَلَّدُونَ} أي: لا يموتون. أو دائم شبابهم لا يتغيرون عن تلك السن. أو مسوّرون. أو مقرَّطون.
{إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤاً مَّنثُوراً} أي: لحسنهم وكثرتهم في منازلهم، وانبثاثهم في منازه أماكنهم.
{وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ} أي: نظرت في الجنة، ورميت بطرفك ما أوتي الأبرار {رَأَيْتَ نَعِيماً وَمُلْكاً كَبِيراً} أي: واسعاً لا ينفذه البصر.
{عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُندُسٍ} وهو ما رقّ من الحرير {خُضْرٌ} قرئ بالرفع لـ {ثِيَابُ} وبالجر لـ {سُندُسٍ} {وَإِسْتَبرق} وهو ما غلظ من الديباج. وفيه القراءتان، رفعاً وجرّاً {وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِن فِضَّةٍ وَسَقَاهُمْ رَبهمْ شَرَاباً طَهُوراً} أي: ليس برجس كخمر الدنيا. أو لأنه لم يعصر فتمسه الأيدي الوضرة، وتدوسه الأقدام الدنسة، ولم يجعل في الدنان التي لم يُعْنَ بتنظيفها. والآية مما يستروح بها في نجاسة الخمر، لما فيها من التعريض بها.
{إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاء وَكَانَ سَعْيُكُم مَّشْكُوراً} [22]
{إِنَّ هَذَا} أي: ما عدّ من ثوابهم {كَانَ لَكُمْ جَزَاء} أي: على ما قدمتم من الصالحات {وَكَانَ سَعْيُكُم مَّشْكُوراً} أي: مجازىً عليه غير مضيَّع.
{إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ القرآن تَنزِيلاً} أي: عظيماً لا يقدر قدره، أي: فأمره الحق ووعده الصدق. والقصد تثبيت قلبه صلوات الله عليه، وشرح صدره وتحقيق أن المنزل وحي، وعدم المبالاة برميهم له بالسحر والكهانة.
{فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ} أي: من الصدع به، والتبليغ لآيه، والعمل بأوامره {وَلَا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كفوراً} أي: ولا تطع في معصيته تعالى من مشركي مكة، من ركب الإثم وجاهر بالكفر، ممن يريدك عن الرجوع عن دعوتك، بما شئت من مال أو مطلب، و{أَوْ} إما على بابها. أي: لا تطع من كان فيه أحد هذين الوصفين، فالنهي عمن اجتمعا فيه يعلم بالطريق الأولى. وإما بمعنى الواو.
قال الفرّاء:
{أَوْ} هاهنا بمنزلة الواو. وفي الجحد والاستفهام والجزاء يكون بمعنى لا، فهذا من ذلك مع الجحد. انتهى.
وإما بمعنى بل إضراب إلى وصف هو به أخلق وأجدر. وإما للتخيير في التسمية أي: من شئتَ بالآثم أو الكفور، لتحقق مفهومهما فيه.
{وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ} أي: بدعائه وتسبيحه والصلاة له {بُكْرَةً وَأَصِيلًا وَمِنَ اللَّيل فَاسْجُدْ لَهُ} أي: بالتهجد فيه {وَسَبِّحْهُ لَيْلاً طَوِيلاً} أي: مقداراً طويلاً، نصفه أو زيادة عليه. وفي هذه الأوامر، مع الأمر في أول المزمّل وأمثالها ما يدل على العناية بقيام الليل والحرص عليه.
ويأتي البحث المتقدم هنا أيضاً في أن الأمر خاص به صلوات الله عليه بناءً على أنه للوجوب، أو يشمل غيره تبعاً وهو للقدر المشترك، قولان معروفان في نظيره. والقصد حثه صلى الله عليه وسلم أن يستعين في دعوة قومه والصدع بما أمر به، بالصبر على أذاهم والصلاة والتسبيح وقد كثر ذلك في مواضع من التنزيل كقوله: {وَاسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ} [البقرة: 45]، وقوله: {فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقولونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ وَمِنَ اللَّيل فَسَبِّحْهُ وَأَدْبَارَ السُّجُودِ} [ق: 39- 40]، وأمثالهما.
{إِنَّ هَؤُلَاء} أي: المشركين {يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ} أي: اللذات العاجلة، فيسعون لها جهدهم، وإن أهلكوا الحرث والنسل {وَيَذَرُونَ وَرَاءهُمْ يَوْماً ثَقِيلاً} أي: شديداً، لثقل حسابه وشدته وعسره.
{نَحْنُ خَلَقْنَاهُمْ وَشَدَدْنَا أَسْرَهُمْ} أي: خلقهم وأعضاء بناهم.
قال الشهاب: الأسر، معناه لغة الشد ليقوى، ويطلق أيضاً على ما يشد ويربط به؛ ولذا سمي الأسير أسيراً بمعنى مربوطاً، فشبهت الأعصاب بالحبال المربوط به، ليقوى البدن بها أو لإمساكها للأعضاء؛ ولذا سموها رباطات أيضاً.
{وَإِذَا شِئْنَا بَدَّلْنَا أَمْثَالَهُمْ تَبْدِيلاً} أي: بإهلاكهم والإتيان بآخرين. وهذا محط الترهيب، وما قبله كالتعليل له.
{إِنَّ هَذِهِ} أي: السورة، أو الآيات القريبة {تَذْكِرَةٌ} أي: عظة لمن اعتبر واتعظ {فَمَن شَاء اتَّخَذَ إِلَى رَبه سَبِيلاً} أي: بالطاعة الموصلة لقربه، وإيصال السبيل للمقاصد، فهو تمثيل.
{وَمَا تَشَاؤُونَ إِلَّا أَن يَشَاء الله} قال ابن جرير: أي: وما تشاؤون اتخاذ السبيل إلى ربكم إلا أن يشاء الله ذلك لكم، لأن الأمر إليه لا إليكم، أي: لأن ما لم يشأ الله وقوعه من العبد، لا يقع من العبد، وما شاء منه وقوعه، وقع. وهو رديف: ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، هذا تأويل السلف. وقالت المعتزلة: أي: وما تشاؤون الطاعة إلا أن يشاء الله بقسرهم عليها. والمسالة مبسوطة في الكلام. وقد لخصناها في (شرح لقطة العجلان) فارجع إليه.
{إِنَّ الله كَانَ عَلِيماً} أي: بأحوالهم وما يكون منهم {حَكِيماً} أي: في تدبيره وصنعه وأمره.
{يُدْخِلُ مَن يَشَاء فِي رَحْمَتِهِ} قال أبو السعود: بيان لإحكام مشيئته المترتبة على علمه وحكمته، أي: يدخل في رحمته من يشاء أن يدخله فيها، وهو الذي يصرف مشيئته نحو اتخاذ السبيل إليه تعالى، حيث يوفّقه لما يؤدي إلى دخول الجنة من الإيمان والطاعة.
{وَالظَّالِمِينَ} وهم الذين صرفوا مشيئتهم إلى خلاف ما ذكر {أَعَدَّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً} يعني عذاب النار. وقاناه الله بمنه وكرمه. اهـ.

.قال سيد قطب:

سورة الإنسان:
{هَلْ أَتَى عَلَى الإنسان حِينٌ مِّنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُن شَيْئاً مَّذْكُوراً (1)}
هذا الاستفهام في مطلع السورة إنما هو للتقرير؛ ولكن وروده في هذه الصيغة كأنما ليسأل الإنسان نفسه: ألا يعرف أنه أتى عليه حين من الدهر لم يكن شيئا مذكورا؟ ثم ألا يتدبر هذه الحقيقة ويتملاها؟ ثم ألا يفعل تدبرها في نفسه شيئا من الشعور باليد التي دفعته إلى مسرح الحياة، وسلطت عليه النور، وجعلته شيئا مذكورا بعد أن لم يكن شيئا مذكورا؟
إنها إيحاءات كثيرة تنبض من وراء صيغة الاستفهام في هذا المقام. وهي إيحاءات رفيقة وعميقة تثير في النفس تأملات شتى:
واحدة منها تتجه بالنفس إلى ما قبل خلق الإنسان ووجوده ابتداء. يعيش فيها مع هذا الكون وقد خلا من الإنسان.. كيف تراه كان؟.. والإنسان مخلوق مغرور في نفسه وفي قيمته، حتى لينسى أن هذا الكون كان وعاش قبل أن يوجد هو بأدهار وأزمان طوال. ولعل الكون لم يكن يتوقع خلق شيء يسمى (الإنسان).. حتى انبثق هذا الخلق من إرادة الله فكان!
وواحدة منها تتجه إلى اللحظة التي انبثق فيها هذا الوجود الإنساني. وتضرب في تصورات شتى لهذه اللحظة التي لم يكن يعلمها إلا الله؛ والتي أضافت إلى الكون هذه الخليقة الجديدة، المقدر أمرها في حساب الله قبل أن تكون! المحسوب دورها في خط هذا الكون الطويل!
وواحدة منها تتجه إلى تأمل يد القدرة وهي تدفع بهذا الكائن الجديد على مسرح الوجود؛ وتعده لدوره، وتعد له دوره، وتربط خيوط حياته بمحور الوجود كله؛ وتهيئ له الظروف التي تجعل بقاءه وأداء دوره ممكنا وميسورا؛ وتتابعه بعد ذلك في كل خطوة، ومعها الخيط الذي تشده به إليها مع سائر خيوط هذا الكون الكبير!
وإيحاءات كثيرة وتأملات شتى، يطلقها هذا النص في الضمير.. ينتهي منها القلب إلى الشعور بالقصد والغاية والتقدير، في المنشأ وفي الرحلة وفي المصير.
فأما امتداد هذا الإنسان بعد ذلك وبقاؤه فكانت له قصة أخرى: {إنا خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج نبتليه فجعلناه سميعا بصيرا}..
والأمشاج: الأخلاط. وربما كانت هذه إشارة إلى تكون النطفة من خلية الذكر وبويضة الأنثى بعد التلقيح. وربما كانت هذه الأخلاط تعني الوراثات الكامنة في النطفة، والتي يمثلها ما يسمونه علميا (الجينات) وهي وحدات الوراثة الحاملة للصفات المميزة لجنس الإنسان أولا ولصفات الجنين العائلية أخيرا. وإليها يعزى سير النطفة الإنسانية في رحلتها لتكوين جنين إنسان، لا جنين أي حيوان آخر. كما تعزى إليها وراثة الصفات الخاصة في الأسرة.. ولعلها هي هذه الأمشاج المختلطة من وراثات شتى..
خلقته يد القدرة هكذا من نطفة أمشاج، لا عبثا ولا جزافا ولا تسلية، ولكنه خلق ليبتلي ويمتحن ويختبر. والله سبحانه يعلم ما هو؟ وما اختباره؟ وما ثمرة اختباره؟ ولكن المراد أن يظهر ذلك على مسرح الوجود، وأن تترتب عليه آثاره المقدرة في كيان الوجود، وأن تتبعه آثاره المقدرة. ويجزى وفق ما يظهر من نتائج ابتلائه.
ومن ثم جعله سميعا بصيرا. أي زوده بوسائل الإدراك، ليستطيع التلقي والاستجابة. وليدرك الأشياء والقيم ويحكم عليها ويختار. ويجتاز الابتلاء وفق ما يختار..
وإذن فإن إرادة الله في امتداد هذا الجنس وتكرر أفراده بالوسيلة التي قدرها، وهي خلقته من نطفة أمشاج.. كانت وراءها حكمة. وكان وراءها قصد. ولم تكن فلتة.. كان وراءها ابتلاء هذا الكائن واختباره. ومن ثم وهب الاستعداد للتلقي والاستجابة، والمعرفة والاختبار.. وكان كل شيء في خلقه وتزويده بالمدارك وابتلائه في الحياة.. بمقدار!
ثم زوده إلى جانب المعرفة، بالقدرة على اختيار الطريق، وبين له الطريق الواصل. ثم تركه ليختاره، أو ليضل ويشرد فيما وراءه من طرق لا تؤدي إلى الله:
من الآية 3 إلى الآية 6
{إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شاكراً وَإِمَّا كفوراً (3) إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سلاسلا وَأَغْلَالاً وَسَعِيراً (4) إِنَّ الْأَبْرَارَ يشربونَ مِن كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُوراً (5) عيناً يشرب بها عِبَادُ الله يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيراً (6)}
{إنا هديناه السبيل إما شاكرا وإما كفورا}..
وعبر عن الهدى بالشكر. لأن الشكر أقرب خاطر يرد على قلب المهتدي، بعد إذ يعلم أنه لم يكن شيئا مذكورا، فأراد ربه له أن يكون شيئا مذكورا. ووهب له السمع والبصر. وزوده بالقدرة على المعرفة. ثم هداه السبيل. وتركه يختار.. الشكر هو الخاطر الأول الذي يرد على القلب المؤمن في هذه المناسبة. فإذا لم يشكر فهو الكفور.. بهذه الصيغة الموغلة في الدلالة على الكفران.
ويشعر الإنسان بجدية الأمر ودقته بعد هذه اللمسات الثلاث. ويدرك أنه مخلوق لغاية. وانه مشدود إلى محور. وأنه مزود بالمعرفة فمحاسب عليها. وأنه هنا ليبتلى ويجتاز الابتلاء. فهو في فترة امتحان يقضيها على الأرض، لا في فترة لعب ولهو وإهمال! ويخرج من هذه الآيات الثلاث القصار بذلك الرصيد من التأملات الرفيقة العميقة، كما يخرج منها مثقل الظهر بالتبعة والجد والوقار في تصور هذه الحياة، وفي الشعور بما وراءها من نتائج الابتلاء! وتغير هذه الآيات الثلاث القصار من نظرته إلى غاية وجوده، ومن شعوره بحقيقة وجوده، ومن أخذه للحياة وقيمها بوجه عام.
الدرس الثاني: 4- 22 من صفات الأبرار وصور من نعيم الجنة لهم:
ومن ثم يأخذ في عرض ما ينتظر الإنسان بعد الابتلاء، واختياره طريق الشكر أو طريق الكفران.
فأما ما ينتظر الكافرين، فيجمله إجمالا، لأن ظل السورة هو ظل الرخاء الظاهر في الصورة والإيقاع. وظل الهتاف المغري بالنعيم المريح. فأما العذاب فيشير إليه في إجمال:
{إنا أعتدنا للكافرين سلاسل وأغلالا وسعيرا}..
سلاسل للأقدام، وأغلالا للأيدي، ونارا تتسعر يلقى فيها بالمسلسلين المغلولين!
ثم يسارع السياق إلى رخاء النعيم:
من الآية 7 إلى الآية 10
{يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْماً كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً (7) وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبه مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً (8) إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ الله لَا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاء وَلَا شُكُوراً (9) إِنَّا نَخَافُ مِن رَّبِّنَا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً (10)}
{إن الأبرار يشربون من كأس كان مزاجها كافورا عينا يشرب بها عباد الله يفجرونها تفجيرا}..
وهذه العبارة تفيد أن شراب الأبرار في الجنة ممزوج بالكافور، يشربونه في كأس تغترف من عين تفجر لهم تفجيرا، في كثرة ووفرة.. وقد كان العرب يمزجون كؤوس الخمر بالكافور حينا وبالزنجبيل حينا زيادة في التلذذ بها، فهاهم أولاء يعلمون أن في الجنة شرابا طهورا ممزوجا بالكافور، على وفر وسعة. فأما مستوى هذا الشراب فمفهوم أنه أحلى من شراب الدنيا، وأن لذة الشعور به تتضاعف وترقى، ونحن لا نملك في هذه الأرض أن نحدد مستوى ولا نوعا للذة المتاع هناك. فهي أوصاف للتقريب. يعلم الله أن الناس لا يملكون سواها لتصور هذا الغيب المحجوب.
والتعبير يسميهم في الآية الأولى {الأبرار} ويسميهم في الآية الثانية {عباد الله}.. إيناسا وتكريما وإعلانا للفضل تارة، وللقرب من الله تارة، في معرض النعيم والتكريم.
ثم يعرف بهؤلاء الأبرار عباد الله الذين قسم لهم هذا المتاع:
{يوفون بالنذر ويخافون يوما كان شره مستطيرا ويطعمون الطعام على حبه مسكينا ويتيما وأسيرا إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاء ولا شكورا إنا نخاف من ربنا يوما عبوسا قمطريرا}..
هي صورة وضيئة شفافة لقلوب مخلصة جادة عازمة على الوفاء لله بتكاليف العقيدة، مع رحمة ندية بعباده الضعاف، وإيثار على النفس، وتحرج وخشية لله، ورغبة في رضاه، وإشفاق من عذابه بعثه التقوى والجد في تصور الواجب الثقيل.
{يوفون بالنذر} فيفعلون ما اعتزموا من الطاعات، وما التزموا من الواجبات. فهم يأخذون الأمر جدا خالصا لا يحاولون التفلت من تبعاته، ولا التفصي من أعبائه، ولا التخلي عنه بعد عتزامه. وهذا معنى أنهم يوفون بالنذر. فهو أعم من المعنى العرفي المتبادر من كلمة {النذر}.
{ويخافون يوما كان شره مستطيرا}.. فهم يدركون صفة هذا اليوم، الذي يتفشى شره ويصيب الكثيرين من المقصرين والمسيئين. فيخافون أن ينالهم شيء من شره. وهذه سمة الأتقياء، الشاعرين بثقل الواجب وضخامة التكاليف، الخائفين من التقصير والقصور، مهما قدموا من القرب والطاعات.
{ويطعمون الطعام على حبه مسكينا ويتيما وأسيرا}..
وهي تصور شعور البر والعطف والخير ممثلا في إطعام الطعام، مع حبه بسبب الحاجة إليه. فمثل هذه القلوب لا يقال عنها: إنها تحب الطعام الذي تطعمه للضعاف المحاويج على اختلاف أنواعهم. إلا أن تكون في حاجة هي إلى هذا الطعام، ولكنها تؤثر به المحاويج.
وهذه اللفتة تشي بقسوة البيئة في مكة بين المشركين؛ وأنها كانت لا تفضي بشيء للمحاويج الضعاف؛ وإن كانت تبذل في مجالات المفاخرة الشيء الكثير. فأما الأبرار عباد الله فكانوا واحة ظليلة في هذه الهاجرة الشحيحة. وكانوا يطعمون الطعام بأريحية نفس، ورحمة قلب، وخلوص نية. واتجاه إلى الله بالعمل، يحكيه السياق من حالهم، ومن منطوق قلوبهم.
{إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاء ولا شكورا إنا نخاف من ربنا يوما عبوسا قمطريرا}..
فهي الرحمة الفائضة من القلوب الرقيقة الرفيقة، تتجه إلى الله تطلب رضاه. ولا تبتغي بها جزاء من الخلق ولا شكرا، ولا تقصد بها استعلاء على المحتاجين ولا خيلاء. كما تتقي بها يوما عبوسا شديد العبوس، تتوقعه وتخشاه، وتتقيه بهذا الوقاء. وقد دلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم عليه وهو يقول: «اتق النار ولو بشق تمرة»..
وقد كان إطعام الطعام هكذا مباشرة هو وسيلة التعبير عن هذه العاطفة النبيلة الكريمة، ووسيلة الإشباع لحاجات المحاويج. ولكن صور الإحسان ووسائله قد تتغير بحسب البيئات والظروف، فلا تظل في هذه الصورة البدائية المباشرة. إلا أن الذي يجب الاحتفاظ به هو حساسية القلوب، وحيوية العاطفة، والرغبة في الخير ابتغاء وجه الله، والتجرد عن البواعث الأرضية من جزاء أو شكر أو نفع من منافع الحياة!
ولقد تنظم الضرائب، وتفرض التكاليف، وتخصص للضمان الاجتماعي، ولإسعاف المحاويج، ولكن هذا إنما يفي بشطر واحد من مزايا الاتجاه الإسلامي الذي ترمز إليه تلك الآيات، والذي توخاه بفريضة الزكاة.. هذا الشطر هو كفاية حاجة المحتاجين.. هذا شطر.. والشطر الآخر هو تهذيب أرواح الباذلين، ورفعها إلى ذلك المستوى الكريم. وهو شطر لا يجوز إغفاله ولا التهوين من شأنه فضلا على أن تنقلب المعايير فيوصم ويقبح ويشوه، ويقال: إنه إذلال للآخذين وإفساد للواهبين.
إن الإسلام عقيدة قلوب، ومنهج تربية لهذه القلوب. والعاطفة الكريمة تهذب صاحبها وتنفع من يوجهها إليه من إخوانه. فتفي بشطري التربية التي يقصد إليها هذا الدين.
ومن ثم كان ذلك التصوير الكريم لذلك الشعور الكريم.
من الآية 11 إلى الآية 18
{فوقاهم الله شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً (11) وَجَزَاهُم بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيراً (12) متكئين فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ لَا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْساً وَلَا زَمْهَرِيراً (13) وَدانية عَلَيْهِمْ ظِلَالُهَا وَذللت قُطُوفُهَا تَذْلِيلاً (14) وَيُطَافُ عَلَيْهِم بِآنِيَةٍ مِّن فِضَّةٍ وَأَكْوَابٍ كَانَتْ قَوَارِيرَا (15) قَوَارِيرَ مِن فِضَّةٍ قَدَّرُوهَا تَقْدِيراً (16) وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْساً كَانَ مِزَاجُهَا زَنجَبِيلاً (17) عيناً فِيهَا تُسَمَّى سَلْسَبِيلاً (18)}
{فوقاهم الله شر ذلك اليوم ولقاهم نضرة وسرورا}..
يعجل السياق بذكر وقايتهم من شر ذلك اليوم الذي كانوا يخافونه، ليطمئنهم في الدنيا وهم يتلقون هذا القرآن ويصدقونه! ويذكر أنهم تلقوا من الله نضرة وسرورا، لا يوما عبوسا قمطريرا. جزاء وفاقا على خشيتهم وخوفهم، وعلى نداوة قلوبهم ونضرة مشاعرهم.
ثم يمضي بعد ذلك في وصف مناعم الجنة التي وجدوها:
{وجزاهم بما صبروا جنة وحريرا}.. جنة يسكنونها وحريرا يلبسونه.
{متكئين فيها على الأرائك لا يرون فيها شمسا ولا زمهريرا}.. فهم في جلسة مريحة مطمئنة والجو حولهم رخاء ناعم دافئ في غير حر، ندي في غير برد. فلا شمس تلهب النسائم، ولا زمهرير وهو البرد القارس! ولنا أن نقول: إنه عالم آخر ليست فيه شمسنا هذه ولا شموس أخرى من نظائرها.. وكفى!
{ودانية عليهم ظلالها وذللت قطوفها تذليلا}.. وإذا دنت الظلال ودنت القطوف فهي الراحة والاسترواح على أمتع ما يمتد إليه الخيال!
فهذه هي الهيئة العامة لهذه الجنة التي جزى الله بها عباده الأبرار الذين رسم لهم تلك الصورة المرهفة اللطيفة الوضيئة في الدنيا.. ثم تأتي تفصيلات المناعم والخدمات..
ويطاف عليهم بآنية من فضة، وأكواب كانت قوارير، قوارير من فضة قدروها تقديرا. ويسقون فيها كأسا كان مزاجها زنجبيلا. عينا فيها تسمى سلسبيلا..
فهم في متاعهم. متكئين على الأرائك بين الظلال الوارفة والقطوف الدانية والجو الرائق.. يطاف عليهم بأشربة في آنية من فضة، وفي أكواب من فضة كذلك، ولكنها شفة كالقوارير، مما لم تعهده الأرض في آنية الفضة. وهي بأحجام مقدرة تقديرا يحقق المتاع والجمال. ثم هي تمزج بالزنجبيل كما مزجت مرة بالكافور. وهي كذلك تملأ من عين جارية تسمى سلسبيلا، لشدة عذوبتها واستساغتها لدى الشاربين!
وزيادة في المتاع فإن الذين يطوفون بهذه الأواني والأكواب بالشراب هم غلمان صباح الوجوه، لا يفعل فيهم الزمن، ولا تدركهم السن؛ فهم مخلدون في سن الصباحة والصبا والوضاءة. وهم هنا وهناك كاللؤلؤ المنثور:
من الآية 19 إلى الآية 22
{وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُّخَلَّدُونَ إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤاً مَّنثُوراً (19) وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيماً وَمُلْكاً كَبِيراً (20) عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُندُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبرق وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِن فِضَّةٍ وَسَقَاهُمْ رَبهمْ شَرَاباً طَهُوراً (21) إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاء وَكَانَ سَعْيُكُم مَّشْكُوراً (22)}
{ويطوف عليهم ولدان مخلدون إذا رأيتهم حسبتهم لؤلؤا منثورا}..
ثم يجمل السياق خطوط المنظر، ويلقي عليه نظرة كاملة تلخص وقعه في القلب والنظر:
{وإذا رأيت ثم رأيت نعيما وملكا كبيرا}..
نعيما وملكا كبيرا. هو الذي يعيش فيه الأبرار المقربون عباد الله هؤلاء، على وجه الإجمال والعموم! ثم يخصص مظهرا من مظاهر النعيم والملك الكبير؛ كأنه تعليل لهذا الوصف وتفسير:
{عاليهم ثياب سندس خضر وإستبرق وحلوا أساور من فضة وسقاهم ربهم شرابا طهورا}..
والسندس الحرير الرقيق، والإستبرق الحرير السميك المبطن.. وهم في هذه الزينة وهذا المتاع، يتلقونه كله من (ربهم) فهو عطاء كريم من معط كريم. وهذه تضاف إلى قيمة ذلك النعيم!
ثم يتلقون عليه الود والتكريم: {إن هذا كان لكم جزاء وكان سعيكم مشكورا}..
يتلقون هذا النطق من الملأ الأعلى. وهو يعدل هذه المناعم كلها، ويمنحها قيمة أخرى فوق قيمتها..
وهكذا ينتهي ذلك العرض المفصل والهتاف الموحي للقلوب، الهتاف إلى ذلك النعيم الطيب والفرار من السلاسل والأغلال والسعير.. وهما طريقان. طريق مؤد إلى الجنة هذه وطريق مؤد إلى السعير!
الدرس الثالث: 23- 26 إنزال القرآن وتوجيه الدعاة إلى زادهم وهو الإتصال بالله:
وبعد انتهاء هذا الهتاف إلى الجنة ونعيمها الهنيء الرغيد، يعالج حالة المشركين المصرين على العناد والتكذيب، الذين لا يدركون حقيقة الدعوة، فيساومون عليها الرسول صلى الله عليه وسلم لعله يكف عنها، أو عما يؤذيهم منها. وبين المساومة للنبي صلى الله عليه وسلم وفتنة المؤمنين به وإيذائهم، والصد عن سبيل الله، والإعراض عن الخير والجنة والنعيم.. بين هذا كله يجيء المقطع الأخير في السورة يعالج هذا الموقف بطريقة القرآن الكريم: {إنا نحن نزلنا عليك القرآن تنزيلا فاصبر لحكم ربك ولا تطع منهم آثما أو كفورا واذكر اسم ربك بكرة وأصيلا ومن الليل فاسجد له وسبحه ليلا طويلا}..
وفي هذه الآيات الأربع تكمن حقيقة كبيرة من حقائق الدعوة الإيمانية. حقيقة ينبغي أن يعيش فيها الدعاة إلى الله طويلا، وأن يتعمقوها تعمقا كاملا، وأن ينظروا بتدبر في مدلولاتها الواقعية والنفسية والإيمانية الكبيرة.
لقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يواجه المشركين بالدعوة إلى الله وحده. وهو لم يكن يواجه في نفوسهم مجرد عقيدة. ولو كان الأمر كذلك لكان أيسر كثيرا. فإن عقيدة الشرك المهلهلة التي كانوا عليها لم تكن من القوة والثبات بحيث يصمدون بها هكذا لعقيدة الإسلام القوية الواضحة البسيطة. إنما كانت الملابسات التي تحيط بالعقيدة وبالموقف هي التي تقود إلى تلك المعارضة العنيدة، التي شهدت بها الروايات التاريخية، وحكاها القرآن في مواضع منه شتى.. كانت المكانة الاجتماعية، والاعتزاز بالقيم السائدة في البيئة، وما يتلبس بها كذلك من مصالح مادية.. هي العنصر الأول الذي يقود إلى التشبث بالعقيدة الواهية الظاهرة البطلان، في وجه العقيدة القوية الظاهرة الاستقامة.. ثم كانت صور الحياة الجاهلية ومتاعها ولذائذها وشهواتها إلى جانب ذلك تزيد المقاومة والعناد والتأبي على العقيدة الجديدة، وما فيها من اتجاهات أخلاقية وقيم رفيعة، لا تسمح بانطلاق الغرائز والشهوات؛ ولا بالحياة العابثة الماجنة المطلقة من كوابح الأخلاق.
وهذه الأسباب- سواء ما يتعلق منها بالمكانة والقيم الاجتماعية والسلطان والمال والمصالح، وما يتعلق منها بالإلف والعادة وصور الحياة التقليدية، وما يتعلق منها بالانطلاق من القيم والقيود الأخلاقية- كانت قائمة في وجه الدعوة الأولى، وهي هي قائمة في وجه الدعوة في كل أرض وفي كل جيل. وهي تمثل العناصر الثابتة في معركة العقيدة، التي تجعلها معركة عنيدة لا تنتهي من قريب؛ وتجعل مشاقها وتكاليفها والثبات عليها من أعسر التكاليف.
ومن ثم ينبغي للدعاة إلى دين الله في أي أرض وفي أي زمان أن يعيشوا طويلا في الحقيقة الكبيرة الكامنة في تلك الآيات، وملابسات نزولها على الرسول صلى الله عليه وسلم فهي ملابسات معركة واحدة يخوضها كل صاحب دعوة إلى الله، في أي أرض وفي أي زمان!
من الآية 23 إلى الآية 23
{إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ القرآن تَنزِيلاً (23)}
لقد تلقى رسول الله صلى الله عليه وسلم التكليف من ربه لينذر، وقيل له: {يا أيها المدثر قم فأنذر}.. فلما أن نهض بالتكليف واجهته تلك العوامل والأسباب التي تصد القوم عن الدعوة الجديدة، وتثير في نفوسهم التشبت بما هم عليه- على شعورهم بوهنه وهلهلته- وتقودهم إلى العناد الشديد، ثم إلى الدفاع العنيد عن معتقداتهم وأوضاعهم ومكانتهم ومصالحهم. ومألوف حياتهم، ولذائذهم وشهواتهم.. إلى آخر ما تهدده الدعوة الجديدة أشد التهديد.
وأخذ هذا الدفاع العنيد صورا شتى، في أولها إيذاء القلة المؤمنة التي استجابت للدعوة الجديدة، ومحاولة فتنتها عن عقيدتها بالتعذيب والتهديد. ثم تشويه هذه العقيدة وإثارة الغبار حولها وحول نبيها صلى الله عليه وسلم بشتى التهم والأساليب. كي لا ينضم إليها مؤمنون جدد. فمنع الناس عن الانضمام إلى راية العقيدة قد يكون أيسر من فتنة الذين عرفوا حقيقتها وذاقوها!
وفي الوقت ذاته راحوا يحاولون مع صاحب الدعوة صلى الله عليه وسلم طرقا شتى من الإغراء- إلى جانب التهديد والإيذاء- ليلتقي بهم في منتصف الطريق؛ ويكف عن الحملة الساحقة على معتقداتهم وأوضاعهم وتقاليدهم؛ ويصالحهم ويصالحونه على شيء يرتضيه ويرتضونه! كما تعود الناس أن يلتقوا في منتصف الطريق عند الاختلاف على المصالح والمغانم وشؤون هذه الأرض المعهودة.
وهذه الوسائل ذاتها أو ما يشبهها هي التي يواجهها صاحب الدعوة إلى الله في كل أرض وفي كل جيل!
والنبي صلى الله عليه وسلم ولو أنه رسول، حفظه الله من الفتنة، وعصمه من الناس.. إلا أنه بشر يواجه الواقع الثقيل في قلة من المؤمنين وضعف. والله يعلم منه هذا، فلا يدعه وحده، ولا يدعه لمواجهة الواقع الثقيل بلا عون ومدد وتوجيه إلى معالم الطريق.
وهذه الآيات تتضمن حقيقة هذا العون والمدد والتوجيه:
{إنا نحن نزلنا عليك القرآن تنزيلا}.
وهي اللفتة الأولى إلى مصدر التكليف بهذه الدعوة، وينبوع حقيقتها.. إنها من الله. هو مصدرها الوحيد. وهو الذي نزل بها القرآن. فليس لها مصدر آخر، ولا يمكن أن تختلط حقيقتها بشيء آخر لا يفيض من هذا الينبوع. وكل ما عدا هذا المصدر لا يتلقى عنه، ولا يستمد منه، ولا يستعار لهذه العقيده منه شيء، ولا يخلط بها منه شيء.. ثم إن الله الذي نزل هذا القرآن وكلف بهذه الدعوة لن يتركها. ولن يترك الداعي إليها، وهو كلفه، وهو نزل القرآن عليه.
ولكن الباطل يتبجح، والشر ينتفش، والأذى يصيب المؤمنين، والفتنة ترصد لهم؛ والصد عن سبيل الله يملكه أعداء الدعوة ويقومون به ويصرون عليه، فوق إصرارهم على عقيدتهم وأوضاعهم وتقاليدهم وفسادهم وشرهم الذي يلجون فيه! ثم هم يعرضون المصالحة، وقسمة البلد بلدين، والإلتقاء في منتصف الطريق.. وهو عرض يصعب رده ورفضه في مثل تلك الظروف العصيبة!
من الآية 24 إلى الآية 26
{فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كفوراً (24) وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلاً (25) وَمِنَ اللَّيل فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلاً طَوِيلاً (26)}
هنا تجيء اللفتة الثانية:
{فاصبر لحكم ربك ولا تطع منهم آثما أو كفورا}..
إن الأمور مرهونة بقدر الله. وهو يمهل الباطل، ويملي للشر، ويطيل أمد المحنة على المؤمنين والابتلاء والتمحيص.. كل أولئك لحكمة يعلمها، يجري بها قدره، وينفذ بها حكمه.. {فاصبر لحكم ربك}.. حتى يجيء موعده المرسوم.. اصبر على الأذى والفتنة. واصبر على الباطل يغلب، والشر يتنفج. ثم اصبر أكثر على ما أوتيته من الحق الذي نزل به القرآن عليك. اصبر ولا تستمع لما يعرضونه من المصالحة والالتقاء في منتصف الطريق على حساب العقيدة: {ولا تطع منهم آثما أو كفورا}.. فهم لا يدعونك إلى طاعة ولا إلى بر ولا إلى خير. فهم آثمون كفار. يدعونك إلى شيء من الإثم والكفر إذن حين يدعونك إلى الالتقاء بهم في منتصف الطريق! وحين يعرضون عليك ما يظنونه يرضيك ويغريك! وقد كانوا يدعونه باسم شهوة السلطان، وباسم شهوة المال، وباسم شهوة الجسد. فيعرضون عليه مناصب الرياسة فيهم والثراء، حتى يكون أغنى من أغناهم، كما يعرضون عليه الحسان الفاتنات، حيث كان عتبة بن ربيعة يقول له: ارجع عن هذا الأمر حتى أزوجك ابنتي، فإني من أجمل قريش بنات!.. كل الشهوات التي يعرضها أصحاب الباطل لشراء الدعاة في كل أرض وفي كل جيل!
{فاصبر لحكم ربك ولا تطع منهم آثما أو كفورا}.. فإنه لا لقاء بينك وبينهم؛ ولا يمكن أن تقام قنطرة للعبور عليها فوق الهوة الواسعة التي تفصل منهجك عن منهجهم، وتصورك للوجود كله عن تصورهم، وحقك عن باطلهم، وإيمانك عن كفرهم، ونورك عن ظلماتهم، ومعرفتك بالحق عن جاهليتهم!
اصبر ولو طال الأمد، واشتدت الفتنة وقوي الإغراء، وامتد الطريق.. ولكن الصبر شاق، ولابد من الزاد والمدد المعين:
{واذكر اسم ربك بكرة وأصيلا ومن الليل فاسجد له وسبحه ليلا طويلا}.
هذا هو الزاد. اذكر اسم ربك في الصباح والمساء، واسجد له بالليل وسبحه طويلا.. إنه الاتصال بالمصدر الذي نزل عليك القرآن، وكلفك الدعوة، هو ينبوع القوة ومصدر الزاد والمدد.. الاتصال به ذكرا وعبادة ودعاء وتسبيحا.. ليلا طويلا.. فالطريق طويل، والعبء ثقيل. ولابد من الزاد الكثير والمدد الكبير. وهو هناك، حيث يلتقي العبد بربه في خلوة وفي نجاء، وفي تطلع وفي أنس، تفيض منه الراحة على التعب والضنى، وتفيض منه القوة على الضعف والقلة. وحيث تنفض الروح عنها صغائر المشاعر والشواغل، وترى عظمة التكليف، وضخامة الأمانة. فتستصغر ما لاقت وما تلاقي من أشواك الطريق!
إن الله رحيم، كلف عبده الدعوة، ونزل عليه القرآن، وعرف متاعب العبء، وأشواك الطريق. فلم يدع نبيه صلى الله عليه وسلم بلا عون أو مدد. وهذا هو المدد الذي يعلم- سبحانه- أنه هو الزاد الحقيقي الصالح لهذه الرحلة المضنية في ذلك الطريق الشائك.. وهو هو زاد أصحاب الدعوة إلى الله في كل أرض وفي كل جيل. فهي دعوة واحدة. ملابساتها واحدة. وموقف الباطل منها واحد، وأسباب هذا الموقف واحدة. ووسائل الباطل هي ذاتها وسائله. فلتكن وسائل الحق هي الوسائل التي علم الله أنها وسائل هذا الطريق.
والحقيقة التي ينبغي أن يعيش فيها أصحاب الدعوة إلى الله هي هذه الحقيقة التي لقنها الله لصاحب الدعوة الأولى صلى الله عليه وسلم هي أن التكليف بهذه الدعوة تنزل من عند الله. فهو صاحبها. وأن الحق الذي تنزلت به لا يمكن مزجه بالباطل الذي يدعو إليه الآثمون الكفار. فلا سبيل إلى التعاون بين حقها وباطلهم، أو الالتقاء في منتصف الطريق بين القائم على الحق والقائمين على الباطل. فهما نهجان مختلفان، وطريقان لا يلتقيان. فأما حين يغلب الباطل بقوته وجمعه على قلة المؤمنين وضعفهم، لحكمة يراها الله.. فالصبر حتى يأتي الله بحكمه. والاستمداد من الله والاستعانة بالدعاء والتسبيح- ليلا طويلا- هي الزاد المضمون لهذا الطريق.... إنها حقيقة كبيرة لابد أن يدركها ويعيش فيها رواد هذا الطريق..

من الآية 27 إلى الآية 27
{إِنَّ هَؤُلَاء يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَرَاءهُمْ يَوْماً ثَقِيلاً (27)}
الدرس الرابع: 27 غفلة الكفار عن الآخرة ومحبتهم للعاجلة:
ثم يمضي السياق في توكيد الافتراق بين منهج الرسول صلى الله عليه وسلم ومنهج الجاهلية. بما يقرره من غفلتهم عن رؤية الخير لأنفسهم، ومن تفاهة اهتماماتهم، وصغر تصوراتهم.. يقول:
{إن هؤلاء يحبون العاجلة ويذرون وراءهم يوما ثقيلا}..
إن هؤلاء، القريبي المطامح والاهتمامات، الصغار المطالب والتصورات.. هؤلاء الصغار الزهيدين الذين يستغرقون في العاجلة ويذرون وراءهم يوما ثقيلا. ثقيلا بتبعاته. ثقيلا بنتائجه. ثقيلا بوزنه في ميزان الحقيقة.. إن هؤلاء لا يطاعون في شيء ولا يتبعون في طريق؛ ولا يلتقون مع المؤمنين في هدف ولا غاية، ولا يؤبه لما هم فيه من هذه العاجلة، من ثراء وسلطان ومتاع، فإنما هي العاجلة، وإنما هو المتاع القليل، وإنما هم الصغار الزهيدون!
ثم توحي الآية بغفلتهم عن رؤية الخير لأنفسهم. فهم يختارون العاجلة، ويذرون اليوم الثقيل الذي ينتظرهم هناك بالسلاسل والأغلال والسعير، بعد الحساب العسير!
فهذه الآية استطراد في تثبيت الرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنين معه، في مواجهة هؤلاء الذين أوتوا من هذه العاجلة ما يحبون. إلى جانب أنها تهديد ملفوف لأصحاب العاجلة باليوم الثقيل.
الدرس الخامس: 28 ضعف الكفار أمام قدرة الله:
يتلو ذلك التهوين من أمرهم عند الله الذي أعطاهم ما هم فيه من قوة وبأس، وهو قادر على الذهاب بهم وتبديل غيرهم منهم. ولكنه يتركهم لحكمة يجري بها قدره القديم:
{نحن خلقناهم وشددنا أسرهم وإذا شئنا بدلنا أمثالهم تبديلا}..
وهذه اللفتة تذكر هؤلاء الذين يعتزون بقوتهم، بمصدر هذه القوة، بل مصدر وجودهم ابتداء. ثم تطمئن الذين آمنوا- وهم في حالة الضعف والقلة- إلى أن واهب القوة هو الذي ينتسبون إليه وينهضون بدعوته. كما تقرر في نفوسهم حقيقة قدر الله وما وراءه من حكمة مقصودة، هي التي تجري وفقها الأحداث حتى يحكم الله وهو خير الحاكمين.
من الآية 28 إلى آخر السورة.
{نَحْنُ خَلَقْنَاهُمْ وَشَدَدْنَا أَسْرَهُمْ وَإِذَا شِئْنَا بَدَّلْنَا أَمْثَالَهُمْ تَبْدِيلاً (28) إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَن شَاء اتَّخَذَ إِلَى رَبه سَبِيلاً (29) وَمَا تَشَاؤُونَ إِلَّا أَن يَشَاءَ الله إِنَّ الله كَانَ عَلِيماً حَكِيماً (30) يُدْخِلُ مَن يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً (31)}.
{وإذا شئنا بدلنا أمثالهم تبديلا}.. فهم لا يعجزون الله بقوتهم، وهو خلقهم وأعطاهم إياها. وهو قادر على أن يخلق أمثالهم في مكانهم.. فإذا أمهلهم ولم يبدل أمثالهم فهو فضله ومنته وهو قضاؤه وحكمته..
ومن هنا تكون الآية استطرادا في تثبيت الرسول صلى الله عليه وسلم ومن معه؛ وتقريرا لحقيقة موقفهم وموقف الآخرين.. كما أنها لمسة لقلوب هؤلاء المستغرقين في العاجلة، المغترين بقوة أسرهم، ليذكروا نعمة الله، التي يتبطرون بها فلا يشكرونها؛ وليشعروا بالابتلاء الكامن وراء هذه النعمة. وهو الابتلاء الذي قرره لهم في مطلع السورة.
الدرس السادس: 29- 31 الهداية والتذكرة بيد الله يهبهما لمن يطلبهما:
ثم يوقظهم إلى الفرصة المتاحة لهم، والقرآن يعرض عليهم، وهذه السورة منه تذكرهم:
{إن هذه تذكرة فمن شاء اتخذ إلى ربه سبيلا}..
ويعقب على هذه اللفتة بإطلاق المشيئة، ورد كل شيء إليها، ليكون الاتجاه الأخير إليها، والاستسلام الأخير لحكمها؛ وليبرأ الإنسان من قوته إلى قوتها، ومن حوله إلى حولها.. وهو الإسلام في صميمه وحقيقته:
{وما تشاءون إلا أن يشاء الله إن الله كان عليما حكيما}.
ذلك كي تعلم قلوب البشر أن الله هو الفاعل المختار، المتصرف القهار، فتتعلم كيف تتجه إليه وتستسلم لقدره.. وهذا هو مجال هذه الحقيقة الذي تجري فيه في مثل هذه النصوص. مع تقرير ما شاءه الله لهم من منحهم القدرة على إدراك الحق والباطل؛ والاتجاه إلى هذا أو ذاك وفق مشيئة الله، العليم بحقيقة القلوب، وما أعان به العباد من هبة الإدراك والمعرفة، وبيان الطريق، وإرسال الرسل، وتنزيل القرآن... إلا أن هذا كله ينتهي إلى قدر الله، الذي يلجأ إليه الملتجئ، فيوفقه إلى الذكر والطاعة، فإذا لم يعرف في قلبه حقيقة القدرة المسيطرة، ولم يلجأ إليها لتعينه وتيسره، فلا هدى ولا ذكر، ولا توفيق إلى خير... ومن ثم فهو: {يدخل من يشاء في رحمته والظالمين أعد لهم عذابا أليما}.. فهي المشيئة المطلقة تتصرف بما تريد. ومن إرادتها أن يدخل في رحمته من يشاء، ممن يلتجئون إليه، يطلبون عونه على الطاعة، وتوفيقه إلى الهدى.. {والظالمين أعد لهم عذابا أليما}. وقد أملى لهم وأمهلهم لينتهوا إلى هذا العذاب الأليم!
وهذا الختام يلتئم مع المطلع، ويصور نهاية الابتلاء، الذي خلق الله له الإنسان من نطفة أمشاج، ووهبه السمع والأبصار، وهداه السبيل إما إلى جنة وإما إلى نار.. اهـ.

.قال الشنقيطي:

{هَلْ أَتَى عَلَى الإنسان حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا (1)}
اتفق المفسرون على أن هل هنا بمعنى (قد) أي أن الاستفهام تقريري يستوجب الإجابة عليه بنعم.
ولفظ الإنسان في {هَلْ أتى عَلَى الإنسان}، وقيل هو الإنسان الأول آدم عليه السلام، آتى عليه حين من الدهر، لم يكن شيء يذكر.
وقيل: هو عموم الإنسان من بني آدم فيكون المعنى على الأول، أن آدم عليه السلام أتى عليه حين من الدهر قيل: أربعون سنة.
ذكر عن ابن عباس: كان طيناً ثم صلصالاً حتى نفخ فيه الروح.
ويكون على الثاني أن الإنسان أتى عليه حين من الدهر، هو أربعون يوماً نطفة، ثم أربعون يوماً علقة، ثم أربعون يوماً مضغة، وكل ذلك شيء ولكنه لم يكن مذكوراً، أي ضعيفاً، وكلاهما محتمل.
ولفظ الإنسان الثاني في قوله تعالى: {إِنَّا خَلَقْنَا الإنسان مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ} اتفقوا على أنه عام في بني آدم، لأنه هو المعنى العام ليستقيم الأسلوب بدون مغايرة بين اللفظين إذ لا قرينة مميزة.
ولعل في السياق قرينة تدل على ما قاله، وهي أن قوله تعالى: {نبتليه} قطعاً لبني آدم، لأن آدم عليه السلام، انتهى أمره بالسمع والطاعة {فتلقى آدَمُ مِن رَّبه كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التواب الرحيم} [البقرة: 37] ولم يبق مجال لابتلائه، إنما ذلك لبنيه. والله تعالى أعلم.
وقوله تعالى: {إِنَّا خَلَقْنَا الإنسان مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ} فيه بيان مبدء خلق الإنسان، وله أطوار في وجوده بعد النطفة علقة ثم مضغة ثم خلقاً آخر، وكل ذلك من لا شيء قبله.
كما قال تعالى: {وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِن قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً} [مريم: 9].
وتقدم للشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه بيان ذلك عند الآية الكريمة {وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِن قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً}.
{إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا (3)}
الهداية هنا بمعنى البيان، كما في قوله تعالى: {وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فاستحبوا العمى عَلَى الهدى} [فصلت: 17].
والسبيل الطريق السوي، وفيه بيان انقسام الإنسان إلى قسمين: شاكر معترف بنعمة الله تعالى عليه، مقابل لها بالشكر أو كافر جاحد.
وقوله: {إِمَّا شاكراً}، يشير إلى إنعام الله تعالى على العبد، وقد ذكر تعالى نعمتين عظيمتين:
الأولى: إيجاد الإنسان من العدم بعد أن لم يكن شيئاً مذكوراً، وهذه نعمة عظمى لا كسب للعبد فيها.
والثانية: الهداية بالبيان والإرشاد إلى سبيل الحق والسعادة، وهذه نعمة إرسال الرسل وإنزال الكتب ولا كسب للعبد فيها أيضاً:
وقد قال العلماء: هناك ثلاث نعم لا كسب للعبد فيها.
الأولى: وجوده بعد العدم.
الثانية: نعمة الإيمان.
الثالثة: دخول الجنة.
وقالوا: الإيجاد من العدم، تفضل من الله تعالى كما قال: {لِلَّهِ مُلْكُ السماوات والأرض يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ يَهَبُ لِمَن يَشَاءُ إِنَاثاً وَيَهَبُ لِمَن يَشَاءُ الذكور أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَاناً وَإِنَاثاً وَيَجْعَلُ مَن يَشَاءُ عَقِيماً إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ} [الشورى: 49- 50]، ومن جعله الله عقيماً فلن ينجب قط.
والثانية: الإنعام بالإيمان، كما في قوله تعالى: {إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ ولكن الله يَهْدِي مَن يَشَاءُ} [القصص: 56].
وقد جاء في الحديث: «كل مَولود يُولد على الفِطرة، فأبواه يهودانه أو ينصرانه». الحديث.
وكون المولود يولد بين أبوين مسلمين، لا كسب له في ذلك. والثالث، الإنعام بدخول الدجنة كما في الحديث: «لن يدخل أحدكم الجنة بعلمه». قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: «ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمته».
وقد ذكر تعالى نعمتين صراحة، وهما خلق الإنسان بعد العدم، وهدايته السبيل.
والثالث: تأتي ضمناً في ذكر النتيجة {إِنَّ الأبرار يشربونَ مِن كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُوراً} [الإنسان: 5] لأن الأبرار هم الشاكرون بدليل التقسيم {شاكراً وَإِمَّا كفوراً إِنَّآ أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سلاسل وَأَغْلاَلاً وَسَعِيراً إِنَّ الأبرار يشربونَ مِن كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُوراً} [الإنسان: 3- 5].
وقوله تعالى: {إِنَّا هَدَيْنَاهُ السبيل} تقدم أنها هداية بيان.
وتقدم للشيخ رحمة اله تعالى علينا وعليه، بيان الهداية العامة والخاصة. والجمع بينهما في أكثر من موضع، وفي مستهل هذه السورة بيان لمبدأ الإنسان وموقفه من بعثة الرسل وهدايتهم ونتائج أعمالهم من شكر أو كفر.
وقد جاءت السنة بقراءة هذه السورة في الركعة الثانية من فجر يوم الجمعة، مع قراءة سورة السجدة في الركعة الأولى.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: إن قراءتهما معاً في ذلك اليوم لمناسبة خلق آدم في يوم الجمعة ليتذكر الإنسان في هذا اليوم، وهو يوم الجمعة مبدأ خلق أبيه آدم ومبدأ خلق عموم الإنسان ويتذكر مصيره ومنتهاه ليرى ما هو عيله من دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم، وهل هو شاكر أو كفور.اهـ. ملخصاً.
ومضمون ذلك كله أنه رحمه الله يرى أن الحكمة في قراءة السورتين في فجر الجمعة، أن يوم الجمعة هو يوم آدم عليه السلام فيه خلقه، وفيه نفخ فيه الروح، وفيه أسكن الجنة، وفيه أهبط إلى الأرض، وفيه ثيبت عليه، وفيه تقوم الساعة.
كما قيل: يوم الجمعة يوم آدم ويوم الاثنين يوم محمد صلى الله عليه وسلم، أي فيه ولد وفيه أنزل عليه، وفيه وصل المدينة في الهجرة، وفيه توفي.
ولما كان يوم الجمعة يوم إيجاد الإنسان الأول ويوم أحداثه كلها إيجاداً من العدم وإنعاماً عليه بسكنى الجنة وتواجده على الأرض، وتلقى التوبة عليه من الله أي يوم الإنعام عليه حساً ومعنى، فناسب أن يذكر الإمام بقراءته ثورة السجدة في فجر يوم الجمعة لما فيها من قصة خلق آدم في قوله: {الذي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الإنسان مِن طِينٍ ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِن سُلاَلَةٍ مِّن مَّاءٍ مَّهِينٍ ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِن رُّوحِهِ} [السجدة: 7- 9].
وفيها قوله تعالى: {شِئْنَا لآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا ولكن حَقَّ القول مِنِّي لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الجنة والناس أَجْمَعِينَ} [السجدة: 13] مما بث الخوف في قلوب العباد، إذ لا يعلم من أي الفريقين هو، فيجعله أشد حرصاً على فعل الخير، وأشد خوفاً من الشر.
ثم حذر من نسيان يوم القيامة {فَذُوقُواْ بِمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هاذآ} [السجدة: 14].
وهكذا في الركعة الأولى، يرجع المسلم إلى أصل وجوده ويستحضر قصة الإنسان الأول.
وكذلك يأتي في الركعة الثاني بقصته هو منذ بدأ خلقه {مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ} ويذكره بالهدى الذي أنزل عليه ويرغبه في شركانه عليه ويحذره من جحودها وكفرانها.
وقد بين له منتهاه على كلا الأمرين {إِنَّآ أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سلاسل وَأَغْلاَلاً وَسَعِيراً إِنَّ الأبرار يشربونَ مِن كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُوراً} [الإنسان: 4- 5].
فإذا قرع سمعه ذلك في يوم خلقه ويوم مبعثه حيث فيه تقوم الساعة فكأنه ينظر ويشاهد أول وجوده وآخر مآله فلا يكذب بالبعث. وقد علم مبدأ خلقه ولا يقصر في واجب، وقد علم منتهاه، وهذا في غاية الحكمة كما ترى.
ومما يشهد لما ذهب إليه رحمة الله، اعتبار المناسبات كما في كثير من الأمور، كما في قوله تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الذي أُنْزِلَ فِيهِ القرآن هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الهدى والفرقان فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة: 185] فجميع الشهور من حيث الزمن سواء، ولكن بمناسبة بدء نزول القرآن في هذا الشهر جعله الله محلاً للصوم، وأكرم فيه الأمة كلها بل العالم كله، فتتزين فيه الجنة وصفد فيه مردة الشياطين، وتتضاعف فيه الأعمال.
وكذلك الليلة منه التي كان فيها البدء اختصها تعالى عن بقية ليالي الشهر، وهي ليلة القدر جعلها الله تعالى خيراً من ألف شهر، وما ذاك إلا لأنها كما قال تعالى: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ القدر} [القدر: 1] السورة بتمامها.
مسألة:
لقد أكثر الناس القول في اعتبار المناسبات في الإسلام وعدم اعتبارها، ووقع فيها الإفراط والتفريط، وكما قيل:
كلا طرفي قصد الأمور ذميم... ومنطلقاً من كلام شيخ الإسلام رحمه الله تقدم هذه النبذة في هذه المسألة، وهي أنه بالتأمل في الشرع وأحداث الإسلام عامة وخاصة.
أي في عموم الأمم وخصوص هذه الأمة، نجد المناسبات قسمين مناسبة معتبرة عني بها الشرع لما فيها من عظة وذكرى تتجدد مع تجدد الأيام والأجيال، وتعود على الفرد والجماعة بالتزود منها، ومناسبة لم تعتبر، إما لاقتصارها في ذاتها وعدم استطاعة الأفراد مسايرتها.
فمن الأول يوم الجمعة، وتقدم طرف من خصائص هذا اليوم في سورة الجمعة، وكلام شيخ الإسلام رحمه الله، وقد عني بها الإسلام في الحث على القراءة المنوه عنها في صلاة الفجر، وفي الحث على أدائها والحفاوة بها من اغتسال وطيب وتبكير إليها، كما تقدم في سورة الجمعة.
ولكن من غير غلو ولا إفراط، فقد جاء النهي عن صوم يومها وحده، دون أن يسبق. بصوم قبله، أو يلحق بصوم بعده كما نهى عن إفراد ليلتها بقيام، والنصوص في ذلك متضافرة ثابة، فكانت مناسبة معتبرة مع اعتدال وتوجه إلى الله أي بدون إفراط أو تفريط.
ومنها يوم الاثنين كما أسلفنا، فقد جاء عنه صلى الله عليه وسلم أنه سئل عن صيامه يوم الاثنين فقال: «هذا يوم ولدت فيه وعلي فيه أنزل»، وكان يوم وصوله المدينة في الهجرة وكان يوم وفاته صلى الله عليه وسلم، فقد احتفى به صلى الله عليه وسلم للمسببات المذكورة، وكلها أحداث عظام ومناسبات جليلة.
فيوم مولده صلى الله عليه وسلم وقعت مظاهر كونية ابتداء من واقعة أبرهة، وإهلاك جيشه إرهاصاً بولده صلى الله عليه وسلم، ثم ظهور نجم بني الختان، وحدثت أمه وهي حامل به فيما قيل: إنها أتيت حين حملت به صلى الله عليه وسلم فقيل لها: (إنك قد حملت بسيد هذه الأمة، فإذا وقع إلى الأرض فقولي: أعيذه بالواحد من شر كل حاسد.ثم سميه محمداً) وذكر ابن هشام أنها رأت حين حملت به أنه خرج منها نور رأيت به قصور بصرى من أرض الشام.
وذكر ابن هشام. أن حسان بن ثابت وهو غلام سمع يهودياً يصرخ بأعلى صوته على أطمة بيثرب: يا معشر يهود: حتى إذا اجتمعوا إليه، قالوا: ويلك مالك، قال: طلع الليلة نجم أحمد الذي ولد به.
وساق ابن كثير في تاريخه، والبيهقي في خصائص وابن هشام في سيرته أخباراً عديدة مما شهده العالم ليلة مولده صلى الله عليه وسلم، نوجز منها الآتي: عن عثمان بن أبي العاص أن أمه حضرت مولده صلى الله عليه وسلم قالت:
فما شيء أنظر إليه في البيت إلا نور، وإني أنظر إلى النجوم تدنو حتى إني لأقول: ليقعن علي.
وعن أبي الحكم التنوخي: قال: كان المولد إذا ولد في قريش دفعوه إلى نسوة إلى الصبح يكفأن عليه برمة، فأكفأن عليه صلى الله عليه وسلم برمة، فانفلقت عنه، ووجد مفتوح العينين شاخصاً ببصره إلى السماء.
وقد كان لمولده من الأحداث الكونية ما لفت أنظار العالم كله.
ذكر ابن كثير منها انكفاء الأصنام على وجوهها، وارتجاس إيوان كسرى، وسقوط بعض شرفه، وخمود نار فارس، ولم تخمد قبلها، وغاضت بحيرة ساوة، فكان في ذلك إرهاص بتكسير الأصنام وانتشار الأصنام وانتشار الإسلام، ودخول الفرس في الإسلام، ثم كان بدء الوحي عليه صلى الله عليه وسلم في يوم الاثنين.
الحفاوة بهذا اليوم:
لا شك أن العالم لم شهد حدثين أعظم من هذين الحدثين. مولد سيد الخلق وبدء إنزال أفضل الكتب، فكان صلى الله عليه وسلم يحتفى به وذلك بصيامه، وهو العمل المشروع الذي يعبر به المسلم عن شعوره فيه، والعبادة الخالصة التي يشكر الله تعالى بها على هاتين النعمتين العظيمتين.
أما ما يفعله بعض الناس من احتفالات ومظاهر، فقد حدث ذلك بعد أن لم يكن لا في القرن الأول ولا الثاني، ولا الثالث، وهي القرون المشهود لها بالخير، وأول إحداثه في القرن الرابع.
وقد افترق الناس فيه إلى فريقين، فريق ينكره، وينكر على من يفعله لعدم فعل السلف إياه، ولا مجيء أثر في ذلك، وفريق يراه جائزاً لعدم النهي عنه، وقد يشدد كل فريق على الآخر في هذه المسألة.
ولشيخ الإسلام ابن تيمية في اقتضاء الصراط المستقيم كلام وسط في غاية الإنصاف، نورد موجزه لجزالته، والله الهادي إلى سواء السبيل.
قال رحمه الله في فصل قد عقده للأعياد المحدثة: فذكر أول جمعة من رجب وعيد خم في الثامن عشر من ذي الحجة، حيث خطب صلى الله عليه وسلم، وحث على اتباع السنة وبأهل بيته، ثم أتى إلى عمل المولد فقال:
وكذلك ما يحدثه بعض الناس إما مضاهاة للنصارى في ميلاد عيسى عليه السلام، وإما محبة النبي صلى الله عليه وسلم وتعظيماً له والله قد يثيبهم على هذه المحبة والاجتهاد لا على البدع من اتخاذ مولد النَّبي صلى الله عليه وسلم عيداً، مع اختلاف الناس في مولده، أي في ربيع أو في رمضان، فإن هذا لم يفعله السلف رضي الله عنهم مع قيام المقتضى له وعدم المانع منه.
ولو كان هذا خيراً محضاً أو راجحاً لكان السلف رضي الله عنهم أحق به منا، فإنهم كانوا أشد محبة لرسول الله صلى الله عليه وسلم وتعظيماً له منا، وهم على الخير أحرص.
وإنما كمال محبته وتعظيمه. في متابعته وطاعته واتباع أمره، وإحياء سنته باطناً وظاهراً، ونشر ما بعث به، والجهاد على ذلك بالقلب واليد واللسان، فإن هذه طريقة السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان، وأكثر هؤلاء الذين تراهم حرصاء على أمثال هذه البدع، مع ما لهم فيها من حسن القصد والاجتهاد الذي يرجى لهم به المثوبة تجدونهم فاترين في أمر الرسول عما أمروا بالنشاط فيه. وإنما هم بمنزلة من يحلي المصحف ولا يقرأ فيه، ولا يتبعه. وبمنزلة من يزخرف المسجد ولا يصلي فيه، أو يصلي فيه قليلاً، وبمنزلة من يتخذ المسابيح والسجاجيد المزخرفة وأمثال هذه الزخارف الظاهرة التي لم تشرع ويصحبها من الرياء والكبر، والاشتغال عن المشروع ما يفسد حال صاحبها.
واعلم أن من الأعمال ما يكون فيه خير لاشتماله على أنواع من المشروع.
وفيه أيضاً من بدعة وغيرها، ثم رسم طريق العمل السليم للفرد في نفسه والداعية مع غيره، فقال: فعليك هنا بأدبين أحدهما أن يكون حرصك على التمسك بالسنة باطناً وظاهراً.
الثاني: أن تدعو الناس إلى السنة بحسب الإمكان فإذا رأيت من يعمل هذا ولا يتركه إلا إلى شر منه، فلا تدعو إلى ترك منكر، يفعل ما هو أنكر منه، أو بترك واجب أو مندوب تركه أضمر من فعل ذلك المكروه.
ولكن إذا كان في البدعة نوع من الخير فعوض عنه من الخير المشروع، بحسب الإمكان، إذ النفوس لا تترك شيئاً إلا بشيء.
ولا ينبغي لأحد أن يترك خيراً إلا إلى مثله أو إلى خير منه، فإنه كما أن الفاعلين لهذه البدع معيبون، قد أتوا مكروهاً فالتاركون أيضاً للسنن مذمومون.
وكثير من المنكرين لبدع العبادات تجدهم مقصرين في فعل السنن من ذلك أو الأمر به..
ولعل حال كثير منهم يكون أسوأ من حال من يأتي بتلك العادات المشتملة على نوع من الكراهة، بل الدين هو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فتعظيم المولد واتخاذه موسماً قد يفعله بعض الناس، ويكون له فيه أجر عظيم لحسن قصده وتعظيمه لرسول الله صلى الله عليه وسلم، كما قدمته لك أنه يحسن من بعض الناس ما يستقبح من المؤمن المسدد.
ولهذا قيل لأحمد: إن بعض الأمراء ينفق على مصحف ألف دينار ونحو ذلك، فقال: دعه، فهذا أفضل ما أنفق فيه الذهب، أو كما قال، مع أن مذهبه: أن زخرفة المصاحف مكروهة، فمثل هؤلاء إن لم يفعلوا هذا، وإلا اعتاضوا عنه الفساد الذي لا صلاح فيه مثل أن ينفقها في كتب فجور، ككتب الأسماء والأصفار أو حكمة فارس والروم.
ومراتب الأعمال ثلاث: إحداها العمل الصالح المشروع الذي لا كراهة فيه.
والثانية: العمل الصالح من بعض وجوهه أو أكثرها، إما لحسن القصد، أو لاشتماله مع ذلك على أنواع من المشروع.
والثالثة: ما ليس فيه صلاة أصلاً.
فأما الأولى: فهي سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهي أعمال الاسبقين الأولين.
وأما الثانية فهي كثيرة جدًّا في طرق المتأخرين من المنتسبين. إلى علم أو عبادة، ومن العامة أيضاً، وهؤلاء خير مما لا يعمل عملاً صالحاً مشروعاً ولا غير مشروع، ومع هذا فالمؤمن يعرف المعروف وينكر المنكر ولا يمنعه من ذلك موافقة بعض المنافقين له في ظاهر الأمر بذلك المعروف والنهي عن ذلك المنكر، ولا مخالفة بعض علماء المؤمنين، فهذه الأمور وأمثالها مما ينبغي معرفتها والعمل بها اه.
لقد عالج رحمه الله هذه المسألة بحكمة الداعي وسياسة الدعوة مما لا يدع مجالاً للكلام فيها.
ولكن قد حدث بعده رحمه الله مور لم تكن من قبل ابتلى بها العالم الغربي، وغزا بها العالم الشرقي، ولبس بها على المسلمين، وهي تلك المبادئ الهدامة والغزو الفكري، وإبراز شخصيات ذات مبادئ اقتصادية أو فلسفي، ارتفع شأنها في قومهم ونفثت سمومهم إلى بني جلدتنا، وصاروا يقيمون لهم الذكريات ويقدمون عنهم الدراسات جهلاً أو تضليلاً فقام من المسلمين من يقول:
نعلم أن المولد ليس سنة نبوية ولا طريقاً سلفياً ولا عمل القرون للشهود لها بالخير، وإنما نريد مقابلة الفكرة بالفكرة والذكريات بالذكرى، لنجمع شباب المسلمين على سيرة سيد المرسلين، ويكون ذلك من باب: يحدث للناس من الأحكام بقدر ما أحدثت من البدع إلى آخره.
وهنا لا ينبغي الإسراع في الجواب، ولكن انطلاقاً من كلام شيخ الإسلام المتقدم، يمكن أن يقال: إن كان المراد إحياء الذكرى لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن الله تعالى قد تولى ذلك بأوسع نطاق حيث قرن ذكره صلى الله عليه وسلم مع ذكره تعالى في الشهادتين، مكع كل أذان على كل منارة من كل مسجد، وفي كل إقامة لأداء صلاة، وفي كل تشهد في فرض أ نفل مما يزيد على الثلاثين مرة جهراً وسراً. جهراً يملأ الأفق، وسراً يملأ القلب والحس.
ثم تأتي الذكرى العملية في كل صغيرة وكبيرة في المأكل باليمين، لأنه السنة، وفي الملبس في التيامن لأنه السنة، وفي المضجع على الشق الأيمن لأنه السنة، وفي إفشاء السلام وفي كل حركات العبد وسكناته إذا راعى فيها أنها السنة عن النَّبي صلى الله عليه وسلم.
وإن كان المراد التعبير عن المحبة، والمحبة هي عنوان الإيمان الحقيقي، كما قال صلى الله عليه وسلم: «والله لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب غليه من نفسه وولده وماله والناس أجمعين»
فإن حقيقة المحبة طاعة من تحب، وفعل ما يحبه وترك ما لا يرضاه أو لا يحبه، ومن هذا يمكن أن يقال: إن ما يلابس عمل المولد من لهو ولعب واختلاط غير مشروع، وأعمال في أشكال لا أصل لها يجب تركه وتنزيهه التعبير عن محبته صلى الله عليه وسلم عما لا يرضاه صلى الله عليه وسلم.
وقد كان صلى الله عليه وسلم هذا اليوم بالصوم، وإن كان المراد مقابلة فكرة بفكرة. فالواقع أنه لا مناسبة بين السببين ولا موجب للربط بين الجانبين لبعد ما بينهما، كبعد الحق عن الباطل والظلمة عن النور.
ومع لك، فإن كان ولابد فلا موجب للتقييد بزمن معين بل العام كله لإقامة الدراسات في السيرة وتعريف المسلمين الناشئة منهم والعوام وغيرهم بما تريده من دراسة للسيرة النبوية.
وختاماً فبدلاً من الموقف السلبي عند التشديد في النكير أن يكون عملاً إيجابياً في حكمة وتوجيه لما هو أولى بحسب المستطاع، كما قال شيخ الإسلام رحمه الله، وبالله تعالى التوفيق.
ومن المناسبات ليلة القدر لبدء نزول القرآن فيها لقوله تعالى: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ القدر} [القدر: 1] ثم بين مقدارها بقوله: {لَيْلَةُ القدر خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ} [القدر: 3] وبين خواصها بقوله: {تَنَزَّلُ الملائكة والروح فِيهَا بِإِذْنِ رَبهم مِّن كُلِّ أَمْرٍ سَلاَمٌ هِيَ حتى مَطْلَعِ الفجر} [القدر: 4- 5].
الحفاوة بها:
لقد بين صلى الله عليه وسلم بقوله: «التمسوها في العشر الأواخر، وفي الوتر من العشر الأواخر»، وكان صلى الله عليه وسلم يعتكف العشر كلها التماساً لتلك الليلة، فكان يحييها قائماً في معتكفه، كما جاء في الحديث: «وإذا جاء العشر شد مئزره وطوى فراشه وأيقظ أهله» فلم يكن يمرح ولا يلعب ولا حتى نوم بل اجتهاد في العبادة.
وكذلك شهر رمضان بكامله لكونه أنزل فيه القرآن أيضاً، كام تقدمت الإشارة إليه، فكان تكريمه بصوم نهاره وقيام ليلة لا بالملاهي واللعب والحفلات، كما له بعض صار يعد الناس وسائل ترفيه خاصة، فيعكس فيه القصد ويخالف المشروع.
ومن المناسبات يوم عاشوراء، لقد كان له تاريخ قديم وكانت العرب تعظمه في الجاهلية وتكسو فيه الكعبة، ولما قدم صلى الله عليه وسلم المدينة وجد اليهود يصومونه فقال لهم: «لِم تصومونه»؟ فقالوا: يوماً نجى الله فيه موسى من فرعون فصامه شكراً لله فصمناه. فقال صلى الله عليه وسلم: «نحن أحق بموسى منكم» فصامه وأمر الناس بصيامه. إنها مناسبة عظمى نجاة نبي الله موسى من عدو الله فرعون، نصرة الحق على الباطل، ونصر جند الله وإهلاك جند الشيطان.
وهذا بحق مناسبة يهتم لها كل مسلم. ولذا قال صلى الله عليه وسلم: «نحن أحق بموسى منكم نحن معشر الأنبياء أبناء علات ديننا واحد».
وقد كان صيامه فرضاً حتى نسخ بفرض رمضان، وهكذا مع عظم مناسبته من إعلاء كلمة الله ونصرة رسوله، كان ابتهاج موسى عليه السلام به في صيامه شكراً لله.
وكذلك رسول الله صل الله عليه وسلم، وهذا هو الطريق السليم والسنة النبوية الكريمة لا ما يحدثه بعض العوام والجهال من مظاهر وأحداث لا أصل لها، ثم يأتي العمل الأعم والمناسبات المتعددة في مناسك الحج منها الهرولة في الطواف، لقد كانت عن مؤامرة قريش في عزمها على الغدر بالمسلمين في عمرة القضية فأمرهم صلى الله عليه وسلم أن يظهروا النشاط في الطواف، وذلك حينما جاء الشيطان لقريش وقال لهم:
هؤلاء المسلمون مع محمد صلى الله عليه وسلم جاءوا إليكم وقد أنهكتهم حمى يثرب، فلو ملتم عليهم لاستأصلتموهم، فأخبر جبريل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان الموقف خطيراً جدًّا وحرجاً حيث لا مدد للمسلمين ولا سبيل للانسحاب ولابد لهم من إتمام العمرة.
فكان التصرف الحكيم، أن يعكسوا على المشركين نظريتهم ويأتونهم من الباب الذي أتوا منه.
فقال صلى الله عليه وسلم لأصحابه: «أروهم اليوم منكم قوة» فهرولوا في الطواف وأظهروا قوة ونشاطاً مما أدهش المشركين حتى قالوا: والله ما هؤلاء بإنس إنهم لكالجن، وفوتوا عليهم الفرصة بذلك وسلم المسلمون.
فهو أشبه بموقف موسى من فرعون، فنجى الله رسوله صلى الله عليه وسلم من غدر قريش فكان هذا العمل مخلداً ومشروعاً في كل طواف قدوم حتى اليوم، مع زوال السبب حيث هرول المسلمون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع بعد فتح مكة بسنتين.
قال العلماء: بقي هذا العمل تأسياً برسول الله صلى الله عليه وسلم أولاً، وتذكروا ولهذا الموقف وما لقيه المسلمون في بادئ الدعوة.
وجاء السعي والهرولة فيه لما فيه من تجديد اليقين بالله، حيث تركت هاجر، وهي من سادة المتوكلين على الله والتي قالت لإبراهيم:
اذهب فلن يضيعنا الله. تركت حتى سعت إلى نهاية العدد، كما يقول علماء الفراض وهو سبعة.
إذ كل عدد بعده تكرار لمكرر قبله، كما قالوا في عدد السماوات والأرض وحصى الجمار وأيام الأسبوع، إلخ.
وذلك لتصل إلى أقصى الجهد وتنقطع أطماعها من غوث يأتيها من الأرض، فتتجه بقوة اليقين وشدة الضراعة إلى السماء وتتوجه بكليتها، وإحساسها بقلبها وقالبها إلى الله. فيأتيها الغوث الأعظم سقياً لها وللمسلمين من بعدها.
فكان ذلك درساً عملياً ظل إحياؤه تجديداً له.
وهذكا النحر، وقصة الفداء لما كان فيه درس الأمة لأفرادها وجماعتها في أسرة كاملة. والد ووالدة، وولد كل يسلم قياده لأمر الله، وإلى أقصى حد التضحية حينما قال إبراهيم لإسماعيل ما قصه تعالى علينا {يابني إني أرى فِي المنام أَنِّي أَذْبَحُكَ فانظر مَاذَا ترى} [الصافات: 102].
إنه حدث خطير وأي رأي للولد في ذبح نفسه، ولكنه التمهيد لأمر الله، فكان موقف الولد لا يقل إكباراً عن موقف الوالد:
{ياأبت افعل مَا تُؤمَرُ ستجدني إِن شَاءَ الله مِنَ الصابرين} [الصافات: 102] ولم يكن ذلك عرضاً وقبولاً فحسب، بل جاء وقت التنفيذ إلى نقطة الصفر، كما يقال:
والكل ماض في سبيل التنفيذ، {فَلَمَّآ أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ} [الصافات: 103] يا له من موقف يعجز كل بيان عن تصويره ويط كل قلم عن تفسيره، ويثقل كل لسان عن تعبيره، شيخ في كبر سنه سحمل سكيناً بيده ويتل ولده وضناه بالأخرى، كيف قويت يده على حمل السكين، وقويت عيناه على رؤيتها في يده، وكيف طاوعته يده الأخرى على تل ولده على جبينه؟
إنها قوة الإيمان وسنة الالتزام، وها هو الولد مع أبيه طوع يده، يتصبر لأمر الله ويستسلم لقضاء الله {ستجدني إِن شَاءَ الله مِنَ الصابرين} والموقف الآن والد بيده السكين، وولد ملقى على الجبين، ولم يبق إلا توقف الأنفاس للحظة التنفيذن ولكن رحمة الله أوسع وفرجه من عنده أقرب، {وَنَادَيْنَاهُ أَن يَآ إِبْرَاهِيمُ قَدْ صَدَّقْتَ الرؤيآ إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي المحسنين} [الصافات: 104- 105].
فكانت مناسبة عظيمة وفائدتها كبيرة خلدها الإسلام في الهدى والضحية.
وفي رمي الجمار، إلى آخره، وهكذا كلها في مناسك وعبادة وقربة إلى الله تعالى في تجرد وانقطاع، ودوام ذكر لله تعالى.
وهناك أحداث جسام ومناسبات عظام، لا تقل أهمية عن سابقاتها، ولكن لم يجعل لها الإسلام أي ذكرى، كما في صلح الحديبية.
لقد كان هذا الصلح من أعظم المناسبات في الإسلام، إذ كان فيه انتزاع اعتراف قريش بالكيان الإسلامي ماثلاً في الصلح والعهد الذي وثق بين الطرفين وقد سماه الله فتحاً، كما قال تعالى: {فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُواْ فَجَعَلَ مِن دُونِ ذَلِكَ فَتْحاً قَرِيباً} [الفتح: 27].
ونزلت سورة الفتح في عودته صلى الله عليه وسلم من صلح الحديبية.
وكذلك يوم بدر كان يوم الفرقان، فرق الله فيه بين الحق والباطل ونصر فيه المسلمين مع قلتهم على المشركين مع كثرتهم.
وكذلك يوم فتح مكة وتحطيم الأصنام والقضاء نهائياً على دولة الشرك في البلاد العربية، ومن قبل ذلك ليلة خروجه صلى الله عليه وسلم من مكة ونزوله في الغار، إذ كان فيها نجاته صلى الله عليه وسلم من فتك المشركين، كما قال الصديق وهما في الطريق إلى الغار حينما كان يسير أحياناً أمام الرسول صلى الله عليه وسلم وأحياناً خلفه فسأله صلى الله عليه وسلم فقال: أتذكر الرصد فأكون أمامك، وأتذكر الطلب فأكون خلفك، فقال صلى الله عليه وسلم: «أتريد لو كان شيء يكون فيك يا أبا بكر» فقلت نعم فداك أبي وأمي يا رسول الله، فإني إن أهلك أهلك وحدي، وإن تصب أنت يا رسول الله تصب الدعوى معك.
وكذلك وصوله صلى الله عليه وسلم المدينة بداية حياة جديدة وبناء كيان أمة جديدة، وكل ذلك لم يجعل الإسلام لذلك كله عملاً خاصاً به والناس ي إبانها تأخذهم عاطفة الذكرى، ويجرهم حنين الماضي وتتراءى لهم صفحات التاريخ، فهل يقفون صماً بكما أم ينطقون بكلمة تعبير؟ وشكر لله إنه إن يكن من شيء فلا يصح بحال من الأحوال، أن يكون من اللهو واللعب والمنكر وما لا يرضى الله ولا رسوله.
إنه إن يكن من شيء، فلا يصح إلا من المنهج الذي رسمه رسول الله صلى الله عليه وسلم، في مثل تلك المناسبات من عبادة في صيام أوصدقة أو نسك ولا يمكن أن يقال فيها بما يقال في المصالح المرسلة حيث كانت.
واكن عهد التشريع ولم يشرع في خصوصها شيء، وهل الأمر فيها كالأمر في المولد على ما قدمه شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، وتكون ضمن عموم قوله تعالى: {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذكرى تَنفَعُ المؤمنين} [الذاريات: 55]، وضمن قوله تعالى: {فاعتبروا ياأولي الأبصار} [الحشر: 2] رأي بقصص الماضين.
ونحن أيضاً نقص على أجيالنا بعد هذه القرون، أهم أحداث الإسلام لاستخلاص العظة والعبرة أم لا؟
وهذا ما يتيسر إيراده بإيجاز في هذه المسألة، وبالله تعالى التوفيق.
تنبيه:
مما يعتبر ذا صلة بهذا المبحث في الجملة ما نقله ابن كثير في التفسير عند كلامه على قوله تعالى: {اليوم أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الأسلام دِيناً} [المائدة: 3].
قال عندها: وقال الإمام أحمد حدثنا جعفر بن عوف حدثنا أو العميس عن قيس بن مسلم عن طارق بن شهاب قال: جاء رجل من اليهود إلى عمر بن الخطاب فقال: يا أمير المؤمنين إنكم تقرؤون آية في كتابكم لو علينا يا معشر اليهود نزلت لاتخاذنا ذلك اليوم عيداً. قال: وأي آية قال قوله: {اليوم أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُم} فقال عمر: والله إني لأعلم اليوم الذي نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم والساعة التي نزلت فيها على رسول الله صلى الله عليه وسلم عشية عرفة في يوم جمعة.
ورواه البخاري عن الحسن بن الصباح عن جعفر بن عون به، ورواه أيضاً مسلم والترمذي والنسائي أيضاً من طرق عن قيس بن مسلم به. ولفظ البخاري عند تفسير هذه الآية من طريق سفيان الثوري عن قيس عن طارق قال: قالت اليهود لعمر: إنكم تقرؤون آية لو نزلت فينا لاتخذناها عيداً فقال عمر: إني لأعلم حين أنزلت، وأين أنزلت، وأين رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أنزلت: يوم عرفة وأنا والله بعرفة.
وساق عن ابن جرير قال كعب: لو أن غير هذه الأمة نزلت عليه هذه الآية لنظروا اليوم الذي أنزلت فيه عليهم فاتخذوه عيداً يجتمعون فيه.
فقال عمر: أي آية يا كعب؟ فقال {اليوم أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُم} بأجابه عمر بما أجاب به سابقاً، وقال في يوم جمعة ويوم عرفة وكلاهما بحمد الله لنا عيد.
ونقل عن ابن جرير عن ابن عباس قرأ الآية فقال يهودي: لو نزلت هذه الآية علينا لاتخذنا يومها عيداً فقال ابن عباس: فإنها نزلت في يوم عيدين اثنين يوم عيد ويوم جمعة.
ومحل الإيراد أنعمر سمع اليهود يشيد بيوم نزولها، فقد أقر اليهودي على ذلك ولم ينكر عليه، ولكن أخبره بالواقع وهو أن يوم نزولاه عيد بنفسه بدون أن نتخذه نحن.
وكذلك ابن عباس أقر اليهودي على إخباره وتطلعه واقتراحه، فلم ينكر عليه كام لم ينكر عمر مما يشعر أنه لو لم يكن نزولها يوم عيد، لكان من المحتمل أن تتخذ عيداً. ولكنه صادف عيداً أو عيدين، فهو تكريم لليوم بمناسبة ما نزل فيه من إكمال الدين وإتما النعمة.
قوله تعالى: {إِنَّا خَلَقْنَا الإنسان مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ} الأمشاج. الأخلاط، كما قال تعالى: {خُلِقَ مِن مَّاءٍ دَافِقٍ يَخْرُجُ مِن بَيْنِ الصلب والترآئب} [الطارق: 6- 7].
قوله تعالى: {إِنَّا هَدَيْنَاهُ السبيل إِمَّا شاكراً وَإِمَّا كفوراً}.
بين تعالى أنه هدى الإنسان السبيل، وهو بعد الهداية إما شاكراً وإما كفوراً.
وهذه الهداية هداية بيان وإرشاد، كما في قوله تعالى: {وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فاستحبوا العمى عَلَى الهدى} [فصلت: 17] كما أن الهداية الحقيقية بخلق التوفيق فضلاً من الله على من شاء، كما تقدم عند قوله تعالى: {إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ ولكن الله يَهْدِي مَن يَشَاءُ} [القصص: 56].
وتقدم للشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه بيان الجمع بين الآيتين، ومعنى الهداية العامة والخاصة.
{إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سلاسل وَأَغْلَالًا وَسَعِيرًا (4)}
قوله تعالى: {سلاسل وَأَغْلاَلاً وَسَعِيراً}.
بين تعالى نوع هذه السلاسل برعها في قوله تعالى: {فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعاً} [الحاقة: 32].
{إِنَّ الْأَبْرَارَ يشربونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا (5) عَيْنًا يشرب بها عِبَادُ الله يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا (6)}
قوله تعالى: {يشربونَ مِن كَأْسٍ}.
مادة يشرب تتعدى بنفسها، فيقال: يشرب كأساً بدون مجيء من، ومن للتبعيض، وللابتداء، فقيل: هي هنا للابتداء، وأن الفعل مضمن معنى فعل آخر، وهو يتنعمون ويرتوون كما قالوا في عيناً يشرب بها عباد الله. إذ الباء تكون للإرادة ولا إرادة هنا، فهم يتنعمون بها.
والذي يظهر أن من للتبعيض فعلاً، وأن شرب أهل الجنة على سبيل الترفه والتلذذ، وهي عادة المترفين المنعمين، يشربون بعض الكأس لا كله.
وقد دل على ذلك أنهم لا يشربون عن ظمإ كما في قوله تعالى لآدم {إِنَّ لَكَ أَلاَّ تَجُوعُ فِيهَا وَلاَ تَعْرَى وَأَنَّكَ لاَ تَظْمَؤُاْ فِيَهَا وَلاَ تضحى} [طه: 118- 119]، وسيأتي تعدية يسقون بنفسها إلى الكأس {وَيَسْقَوْنَ فِيهَا كَأْساً} [الإنسان: 17]، ويأتي قوله تعالى: {وَسَقَاهُمْ رَبهمْ شَرَاباً طَهُوراً} [الإنسان: 21].
ويؤيد هذا اتفاقهم على التضمين في {عيناً يشرب بها عِبَادُ الله} [الإنسان: 6]، فهو هنا واضح.
وهناك التبعيض ظاهر.
{يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا (7)}
قوله تعالى: {يُوفُونَ بالنذر}.
تقدم للشيخ رحمةالله تعالى علينا وعليه مبحث النذر وافياً عند قوله تعالى: {وَلَيُوفُواْ نُذُورَهُمْ} [الحج: 29] الآية في سورة الحج.
{وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبه مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا (8) إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ الله لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا (9)}
اختلف في مرجع الضمير في على حبه، هل هو راجع على الطعام أم على الله تعالى؟ أي ويطعمون الطعام على حب الطعام لقلته عندهم وحاجتهم إليه، أم على حب الله رجاء ثواب الله؟
وقد رجح ابن كثير المعنى الأول، وهو اختيار ابن جرير وساق الشواهد على ذلك كقوله: {وَآتَى المال على حُبه} [البقرة: 177]، وقوله: {لَن تَنَالُواْ البر حتى تُنْفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ} [آل عمران: 92].
والواقع أن الاستدلال الأول فيه ما فيه هذه الآية ولكن أقرب دليلاً وأصرح، قوله تعالى: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بهمْ خَصَاصَةٌ} [الحشر: 9].
وفي الآية التي بعدها في هذه السورة قرينة تشهد لرجوعه للطعام على ما تقدم، وهي قوله تعالى بعدها {إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ الله لاَ نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاءً وَلاَ شُكُوراً} [الإنسان: 9] فأنها في معنى حب الله. مما يجعل الأولى للطعام وهذه لله. والتأسيس أولى من التأكيد، فيكون السياق: ويطعمون الطعام على حاجتهم إياه، ولوجه الله تعالى. والله تعالى أعلم.
مسألة:
في قوله تعالى: {مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً} جمع أصناف ثلاثة: الأول والثاني من المسلمين غالباً أما الثالث وهو الأسير فلم يكن لدى المسلمين أسرى إلا من الكفار، وإن كانت السورة مكية إلا أن العبرة بعموم اللفظ كما هو معلوم.
وقد نقل ابن كثير عن ابن عباس: أنها في الفرس من المشركين وساق قصة أسارى بدر.
واختار ابن جرير أن الأسرى هم الهدم، والذي يظهر والله تعالى أعلم أن الأسارى هنا على معناها الحقيقي، لأن الخدم لا يخرجون عن القسمين المتقدمين اليتيم والمسكين، وهؤلاء الأسارى بعد وقوعهم في الأسر، لم يبق لهم حول ولا طول. فلم يبق إلا الإحسان إليهم.
وهذا من محاسن الإسلام وسمو تعاليمه، وإن العالم كله اليوم لفي حاجة إلى معرفة هذه التعاليم السَّماوية السامية حتى مع أعدائه، وقد تقدم شيء من ذلك عند الكلام على قوله تعالى: {لاَّ يَنْهَاكُمُ الله عَنِ الذين لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدين وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وتقسطوا إِلَيْهِمْ} [الممتحنة: 8]، وهؤلاء بعد الأسر ليسوا مقاتلين.
{فوقاهم الله شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا (11)}
قوله تعالى: {وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً}.
تقدم معنى قوله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ} [القيامة: 22]، وهنا جمع لهم بين النضرة ولاسرور، والذي يظهر والله تعالى أعلم: أن النضرة لما يرون من النعيم والسرور لما ينالونه من النظر إلى وجه الله الكريم كما تقدم، {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ إِلَى رَبها نَاظِرَةٌ} [القيامة: 22- 23] فيكون السرور نتيجة النظر إلى وجه الله الكريم. والله تعالى أعلم.
{وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوَابٍ كَانَتْ قَوَارِيرَا (15) قَوَارِيرَ مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوهَا تَقْدِيرًا (16)}
فيه التنصيص على أواني الفضة في الجنة.
وجاء بصحاف من ذهب وأكواب، وهي محرمة في الدنيا، كما هو معلوم، وقد بين تعالى أن الذي يطوف عليهم هم {وِلْدَانٌ مُّخَلَّدُونَ إِذا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤاً مَنثُوراً} [الإنسان: 19].
وتقدم للشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه في سورة الطور عند قوله: {وَيَطُوفُ عَلَيْهِمِ غِلْمَانٌ لَّهُمْ} [الطور: 24]، والقوارير جمع قارورة، والعرب تطلق القارورة على إناء الزجاج خاصة، ولكن الآية صريحة في أنها قوارير من فضة، مما دل على صحة إطلاق القارورة، على غير آنية الزجاج كالفضة مثلاً.
قال صاحب اللسان: والقارورة: ما قر فيه الشراب وغيره، وقيل: لا يكون إلا من الزجاج خاصة.
وقوله تعالى: {قَوَارِيرَاْ قَوَارِيرَاْ مِن فِضَّةٍ} [الإنسان: 15- 16] قال بعض أهل العلم: معناه أواني زجاج في بياض الفضة وصفاء القوارير، قال ابن سيده: وهذا أحسن اه.
وقال ابن شدياق في معجم مقاييس اللغة: إن مادة قر، القاف والراء أصلان صحيحان يدل أحدهما على برد، والآخر على تمكن، وذكر من التمكن استقر ومستقر، كما ذكر صاحب اللسان كثيراً من ذلك ثم قال:
ومن الباب القر: بضم الراء: صب الماء في الشيء. يقال: قررت الماء، والقر صب الكلام في الأذن، وذكر منه الإقرار ضد الجحود لاستقرار الحق به.
ثم ذكر مسألة إثبات اللغة بالسماع أو بالقياس فقال: وهذه مقاييس صحيحة، فإما أن نتعدى ونتحمل الكالم كما بلغنا عن بعضهم أنه قال: سميت القارورة لاستقرار الماء فيها وغيره، فليس هذا من مذهبنا.
وقد قلنا: إن كلام العرب ضربان. منه ما هو قياس وقد ذكرناه، ومنه ما وضع وضعاً.
والمسألة من مباحث الأصول في الألفاظ، هل هي بوضع لا يقاس عليه وتبقى كما وضعتها العرب، أو أنها توضع بالقياس؟ وفائدة الخلاف هل المسكرات كلها مثلاً يتناولها مسمى الخمبر بالوضع فتكون محرمة بنص {إِنَّمَا الخمر والميسر} [المائدة: 90] الية، أو أنها محرمة قياساً على الخمر بجامع علة الإسكار وعليه، فإذا كانت اللغة تساعد على الإطلاق قياساً، فهو أقوى في الحكم بأن يأتي الحكم بالنص لا بالقياس بجامع العلة. وعلعل التحقيق في هذه المسألة ما قاله علماء الوضع من أن اللغات منها توقيفي ومنها قياسي.
وفي قوله تعالى: {قَدَّرُوهَا تَقْدِيراً} توجيه إلى خحسن الصنع في التسوية في التقدير، والمقاسات.
{وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْسًا كَانَ مِزَاجُهَا زَنْجَبِيلًا (17)}
وقبلها، قال تعالى: {كَانَ مِزَاجُهَا كَافُوراً} [الإنسان: 5]، فقد قيل هما معاً، فهي في برد الكافور وطيب الزنجبيل.
{عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُنْدُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبرق وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِنْ فِضَّةٍ وَسَقَاهُمْ رَبهمْ شَرَابًا طَهُورًا (21)}
قوله تعالى: {وَسَقَاهُمْ رَبهمْ شَرَاباً طَهُوراً}.
وهذا وصف شراب الجنة، والشراب هنا هو الخمر، وتقدم للشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه بيان هذا المفهوم من أن شراب خمر الدنيا ليس طهوراً، لأن أحوال الجنة لها أحكامها الخاصة، ويشهد لهذا ما تقدم في قوله تعالى: {وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِّن فِضَّةٍ} [الإنسان: 15] مع أن أواني الفضة محرمة في الدنيا لحديث: «الذي يشرب في آنية الذهب والفضة إنما يجرجر في بطنه نار جهنم»، ومع ذلك فإن أهل الجنة ينعمون بها.
وكذلك ينعمون بخمر الجنة، وكل أوصافها في الجنة عكس أوصافها في الدنيا كما تقدم، لا يصدعون عنها ولا ينزفون، كما أوضحه الشيخ رحمة الله تعالى عيلنا وعليه عند قوله تعالى: {لاَّ يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلاَ يُنزِفُونَ} [الواقعة: 19] في سورة الواقعة.
{إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ القرآن تَنْزِيلًا (23)}
نزلنا وتنزيلاً يدل على التكرار بخلاف أنزلنا، وقد بين تعالى أنه أنزل القرآن في ليلة القدر في سورة القدر {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ القدر} [القدر: 1]، وهنا إثبات التنزيل.
وقد بين تعالى كيفية التنزيل في قوله تعال: {وَقرآنا فَرَقْنَاهُ لِتَقرأهُ عَلَى الناس على مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلاً} [الإسراء: 106].
وقد بين تعالى الحكمة في هذا التفريق على مكث في قوله تعالى: {وَقال الذين كَفَرُواْ لَوْلاَ نُزِّلَ عَلَيْهِ القرآن جملة وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ به فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلاً} [الفرقان: 32]، وتقدم للشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه بيان هذه المسألة في سورة الفرقان، والإحالة فيها على بيان سابق.
{وَمِنَ اللَّيل فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلًا طَوِيلًا (26)}
قوله تعالى: {فاسجد لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلاً طَوِيلاً}.
تقدم بيان مقدار المطلوب قيامه من الليل في أول سورة المزمل في قوله تعالى: {يا أيها المزمل قُمِ الليل إِلاَّ قَلِيلاً نِّصْفَهُ أَوِ انقص مِنْهُ قَلِيلاً أَوْ زِدْ عَلَيْهِ} [المزمل: 1- 4] الآية.
{نَحْنُ خَلَقْنَاهُمْ وَشَدَدْنَا أَسْرَهُمْ وَإِذَا شِئْنَا بَدَّلْنَا أَمْثَالَهُمْ تَبْدِيلًا (28)}
قوله تعالى: {نَّحْنُ خَلَقْنَاهُمْ وَشَدَدْنَآ أَسْرَهُمْ}.
الأسر: الربط بقوة مأخوذ من الأسر هو جلد البعير رطباً، وهو القد، وسمي الأسير أسيراً لشد قيده بقوة بجلد البعير الرطب، وهو هنا تقويه بشد ربط الأعضاء المتحركة في الإنسان في مفاصله بالعصب، وهو كناية عن الاتقان والقوة في الخلق.
وقد بين تعالى ذلك في قوله: {لَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان في أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} [التين: 4]، وقوله: {الذي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ} [السجدة: 7].
{إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبه سَبِيلًا (29) وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ الله إِنَّ الله كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (30)}
السبيل هنا منكر، ولكنه معين بقوله: {إِلَى رَبه}، لأن السبيل إلى ربه هو السبيل المستقيم.
كما قال تعالى: {قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ} [الأنعام: 151] وفي النهاية قال: {وَأَنَّ هذا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فاتبعوه} [الأنعام: 153]، وهو الصراط المستقيم الذي دعا إليه صلى الله عليه وسلم.
كام في قوله تعالى: {وَإِنَّكَ لتهدي إلى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ صِرَاطِ الله الذي لَهُ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض} [الشورى: 52- 53] وهو القرآن الكيم كما تقدم للشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه في قوله تعالى: {اهدنا الصراط المستقيم} [الفاتحة: 6]، وقد بين تعالى أنه القرآن كله في قوله تعالى: {الم ذَلِكَ الكتاب لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ} [البقرة: 1- 2] بعد قوله: {اهدنا الصراط المستقيم}، كأنه قال: الهادي إلى الصراط المستقيم المنوه عنه في الفاتحة: هو القرآن الكريم {ذَلِكَ الكتاب لاَ رَيْبَ فيهالذين يُؤْمِنُونَ بالغيب} [البقرة: 2- 3] إلى آخر الصفات، فيكون السبيل هنا معلوماً.
وقوله تعالى قبلها: {إِنَّ هذه تَذْكِرَةٌ} [المزمل: 19] مشعر بأن السبيل عن طريق التذكر فيها والاتعاظ بها.
وقوله: {فَمَن شَاءَ اتخذ إلى رَبه سَبِيلاً} [المزمل: 19]، علق اتخاذ السبيل إلى الله على مشيئة من شاء، وقيدها ربط مشيئة العبد بمشيئة الله تعالى في قوله: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلاَّ أَن يَشَاءَ الله} [الإنسان: 30]، وهذه مسألة القدر.
وقد تقدم للشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه بحثها بحثاً وافياً عند قوله تعالى: {أَفَأَنتَ تُكْرِهُ الناس حتى يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ} [يونس: 99] في يونس وأحال على النساء. إلا أن قوله تعالى في التذييل على الآية الكريمة بقوله: {إِنَّ الله كَانَ عَلِيماً حَكِيماً} أن كل ما يقع في هذا الكون من سلوك وأعمال أنه بعلم من الله وحكمة. اهـ.

.التفسير المأثور:

قال السيوطي:
{هَلْ أَتَى عَلَى الإنسان حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا (1)}
أخرج النحاس عن ابن عباس قال: نزلت سورة الإنسان بمكة، وأخرج ابن مردويه عن ابن الزبير قال: أنزلت بمكة سورة {هل أتى على الإنسان}.
وأخرج ابن الضريس وابن مردويه والبيهقي عن ابن عباس قال: نزلت سورة الإنسان بالمدينة.
وأخرج الطبراني وابن مردويه وابن عساكر عن ابن عمر قال: «جاء رجل من الحبشة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: سل واستفهم، فقال: يا رسول الله فضلتم علينا بالألوان والصور والنبوّة أفرأيت إن آمنت به، وعملت بمثل ما عملت به إني لكائن معك في الجنة؟ قال: نعم، والذي نفسي بيده إنه ليرى بياض الأسود في الجنة من مسيرة ألف عام، ثم قال: من قال لا إله إلا الله كان له عهد عند الله، ومن قال: سبحان الله وبحمده كتبت له مائة ألف حسنة وأربعة وعشرون ألف حسنة، ونزلت عليه هذه السورة {هل أتى على الإنسان حين من الدهر} إلى قوله: {ملكاً كبيراً} فقال الحبشي: وإن عيني لترى ما ترى عيناك في الجنة؟ قال: نعم، فاشتكى حتى فاضت نفسه. قال ابن عمر: فلقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يدليه في حفرته بيده».
وأخرج أحمد في الزهد عن محمد بن مطرف قال: حدثني الثقة «أن رجلاً أسود كان يسأل النبي صلى الله عليه وسلم عن التسبيح والتهليل، فقال له عمر بن الخطاب: مه أكثرت على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: مه يا عمر، وأنزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم {هل أتى على الإنسان حين من الدهر} حتى إذا أتى على ذكر الجنة زفر الأسود زفرة خرجت نفسه فقال النبي صلى الله عليه وسلم: مات شوقاً إلى الجنة».
وأخرج ابن وهب عن ابن زيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ هذه السورة {هل أتى على الإنسان حين من الدهر} وقد أنزلت عليه وعنده رجل أسود، فلما بلغ صفة الجنان زفر زفرة فخرجت نفسه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أخرج نفس صاحبكم الشوق إلى الجنة».
وأخرج الحاكم وصححه عن أبي ذر قال: قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم {هل أتى على الإنسان حين من الدهر} حتى ختمها ثم قال: «إني أرى ما لا ترون، وسمع ما لا تسمعون، أطت السماء، وحق له أن تئط، ما فيها موضع أربع أصابع إلا ملك واضع جبهته ساجداً لله، والله لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً، وما تلذذتم بالنساء على الفرش، لخرجتم إلى الصعدات تجارون».
أخرج عبد بن حميد وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله: {هل أتى على الإنسان حين من الدهر} قال: الإنسان أتى عليه حين من الدهر {لم يكن شيئاً مذكوراً} قال: إنما خلق الإنسان هاهنا حديثاً ما يعلم من خليقة الله خليقة كانت بعد إلا هذا الإنسان.
وأخرج ابن المبارك وأبو عبيد في فضائله وعبد بن حميد وابن المنذر عن عمر بن الخطاب أنه سمع رجلاً يقرأ {هل أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئاً مذكوراً} فقال عمر: ليتها تمت.
وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر عن ابن مسعود أنه سمع رجلاً يتلو هذه الآية {هل أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئاً مذكوراً} فقال ابن مسعود: يا ليتها تمت فعوتب في قوله: هذا، فأخذ عوداً من الأرض فقال: يا ليتني كنت مثل هذا.
وأخرج عبد الرزاق وابن المنذر عن قتادة في قوله: {هل أتى على الإنسان حين من الدهر} قال: إن آدم آخر ما خلق من الخلق.
وأخرج ابن المنذر عن ابن عباس في قوله: {هل أتى على الإنسان} قال: كل إنسان.
وأخرج عبد بن حميد عن عكرمة قال: إن من الحين حيناً لا يدرك. قال الله: {هل أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئاً مذكوراً} والله ما يدري كم أتى عليه حتى خلقه الله.
وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر عن عمر بن الخطاب أنه تلا هذه الآية {هل أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئاً مذكوراً} قال: أي وعزتك يا رب فجعلته سميعاً بصيراً وحياً وميتاً.
أخرج عبد بن حميد وابن المنذر عن عبد الله بن مسعود قال: إذا جئناكم بحديث أتيناكم بتصديقه من كتاب الله إن النطفة تكون في الرحم أربعين، ثم تكون مضغة أربعين، فإذا أراد الله أن يخلق الخلق نزل الملك فيقول له اكتب، فيقول ماذا أكتب؟ فيقول: اكتب شقياً أو سعيداً ذكراً أو أنثى، وما رزقه، وأثره، وأجله، فيوحي الله بما يشاء، ويكتب الملك، ثم قرأ عبد الله {إنا خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج نبتليه} ثم قال عبد الله: أمشاجها عروقها.
وأخرج سعيد بن منصور وابن أبي حاتم عن ابن مسعود في قوله: {أمشاج} قال: العروق.
وأخرج عبد بن حميد وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: {من نطفة أمشاج} قال: من ماء الرجل وماء المرأة حين يختلطان.
وأخرج عبد بن حميد عن ابن عباس في قوله: {من نطفة أمشاج} قال: هو نزول الرجل والمرأة يمشج بعضه ببعض.
وأخرج الطستي عن ابن عباس أن نافع بن الأزرق قال له: أخبرني عن قوله: {من نطفة أمشاج} قال: اختلاط ماء الرجل وماء المرأة إذا وقع في الرحم.
قال: وهل تعرف العرب ذلك؟ قال: نعم. أما سمعت أبا ذؤيب وهو يقول:
كأن الريش والفوقين منه ** خلال النصل خالطه مشيج

وأخرج عبد بن حميد عن الحسن قال مشج ماء الرجل بماء المرأة فصار خلقاً.
وأخرج عبد بن حميد عن الربيع قال: إذا اجتمع ماء الرجل وماء المرأة فهو أمشاج.
وأخرج عبد الرزاق وابن المنذر عن قتادة قال: الأمشاج إذا اختلط الماء والدم، ثم كان علقة ثم كان مضغة.
وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر عن الحسن في الآية، قال: خلق من نطفة مشجت بدم، وذلك الدم الحيض إذا حملت ارتفع الحيض.
وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: {من نطفة أمشاج} قال: مختلفة الألوان.
وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر عن مجاهد {من نطفة أمشاج} قال: ألوان نطفة الرجل بيضاء وحمراء ونطفة المرأة خضراء وحمراء.
وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: الأمشاج الذي يخرج على أثر البول، كقطع الأوتار ومنه يكون الولد.
وأخرج ابن المنذر عن زيد بن أسلم قال: الأمشاج العروق التي في النطفة.
وأخرج الفريابي عن ابن عباس في قوله: {من نطفة أمشاج} قال: ألوان الخلق.
وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر عن قتادة {إنا خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج نبتليه} قال: طوراً نطفة وطوراً علقة وطوراً مضغة وطوراً عظماً {ثم كسونا العظام لحماً} وذلك أشد ما يكون إذا كسي اللحم {ثم أنشأناه خلقاً آخر} قال: أنبت له الشعر {فتبارك الله أحسن الخالقين} فأنباه الله مم خلقه، وأنباه إنما بين ذلك ليبتليه بذلك، ليعلم كيف شكره ومعرفته لحقه، فبين الله له ما أحل له وما حرم عليه ثم قال: {إنا هديناه السبيل إما شاكراً} لنعم الله {وإما كفوراً} بها.
وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال: الأمشاج منه العظام والعصب والعروق من الرجل واللحم والدم والشعر من المرأة.
وأخرج أبو الشيخ في العظمة عن عكرمة في قوله: {أمشاج} قال: الظفر والعظم والعصب من الرجل، واللحم والشعر من المرأة.
وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر عن عكرمة {إنا هديناه السبيل} قال: السبيل الهدى.
وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن مجاهد {إنا هديناه السبيل} قال: الشقاوة والسعادة.
وأخرج ابن المنذر عن عطية العوفي {إنا هديناه السبيل} قال: الخير والشر.
وأخرج أحمد وابن المنذر عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كل مولد يولد على الفطرة حتى يعبر عنه لسانه، فإذا عبر عنه لسانه إما شاكراً وإما كفوراً والله تعالى أعلم».
أخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن مجاهد {إن الأبرار يشربون من كأس كان مزاجها كافوراً} قال: تمزج به {عيناً يشرب بها عباد الله يفجرونها تفجيراً} قال: يقودونها حيث يشاؤوا.
وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر عن قتادة {إن الأبرار يشربون من كأس كان مزاجها كافوراً} قال: قوم يمزج لهم بالكافور ويختم لهم بالمسك {عيناً يشرب بها عباد الله يفجرونها تفجيراً} قال: يستفيد ماؤهم يفجرونها حيث شاؤوا.
وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر عن عكرمة {كان مزاجها} قال طعمها: {يفجرونها تفجيراً} قال: الأنهار يجرونها حيث شاؤوا.
وأخرج عبد بن حميد عن ابن إسحق قال في قراءة عبد الله: (كأساً صفراً كان مزاجها).
وأخرج عبد الله بن أحمد في زوائد الزهد عن ابن شوذب في قوله: {يفجرونها تفجيراً} قال: معهم قضبان ذهب يفجرون بها تتبع قضبانهم.
وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم عن قتادة {يوفون بالنذر} قال: كانوا يوفون بطاعة الله من الصلاة والزكاة والحج والعمرة وما افترض عليهم، فسماهم الله الأبرار لذلك، فقال: {يوفون بالنذر ويخافون يوماً كان شره مستطيراً} قال: إستطاروا لله شر ذلك اليوم حتى ملأ السموات والأرض.
وأخرج عبد بن حميد عن مجاهد {يوفون بالنذر} قال: إذا نذروا في حق الله.
وأخرج عبد بن حميد عن عكرمة {يوفون بالنذر} قال: كل نذر في شكر.
وأخرج عبد الرزاق في المصنف والطبراني عن ابن عباس قال: جاء رجل إلى النبي فقال: إني نذرت أن أنحر نفسي، فشغل النبي صلى الله عليه وسلم، فذهب الرجل، فوجد يريد أن ينحر نفسه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «الحمد لله الذي جعل في أمتي من يوفي بالنذر، ويخاف {يوماً كان شره مستطيراً} أهد مائة ناقة».
وأخرج ابن عساكر عن مجاهد قال: لما صَدَرَ النبي صلى الله عليه وسلم بالأسارى عن بدر أنفق سبعة من المهاجرين على أسارى مشركي بدر منهم أبو بكر وعمر وعلي والزبير وعبد الرحمن وسعد وأبو عبيدة بن الجراح، فقالت الأنصار: قتلناهم في الله وفي رسوله وتوفونهم بالنفقة، فأنزل الله فيهم تسع عشرة آية {إن الأبرار يشربون من كأس كان مزاجها كافوراً} إلى قوله: {عيناً فيها تسمى سلسبيلاً}.
وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: {كان شره مستطيراً} قال: فاشياً.
{وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبه مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا (8)}
أخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر والبيهقي في شعب الإِيمان عن مجاهد في قوله: {ويطعمون الطعام على حبه} قال: وهم يشتهونه {وأسيراً} قال: هو المسجون {إنما نطعمكم لوجه الله} الآية، قال: لم يقل القوم ذلك حين أطعموهم، ولكن علم الله من قلوبهم فأثنى عليه به ليرغب فيه راغب.
وأخرج سعيد بن المنصور وابن أبي شيبة وابن مردويه عن الحسن قال: كان الأسارى مشركين يوم نزلت هذه الآية {ويطعمون الطعام على حبه مسكيناً ويتيماً وأسيراً}.
وأخرج عبد بن حميد عن قتادة في الآية، قال: لقد أمر الله بالأسارى أن يحسن إليهم، وأنهم يومئذ لمشركون، فوالله لأخوك المسلم أعظم عليك حرمة وحقاً.
وأخرج أبو عبيد في غريب الحديث والبيهقي في شعب الإِيمان في قوله: {وأسيراً} قال: لم يكن الأسير على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا من المشركين.
وأخرج ابن المنذر عن ابن جريج في الآية، قال: لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم يأسر أهل الإِسلام، ولكنها نزلت في أسارى أهل الشرك كانوا يأسرونهم في الفداء، فنزلت فيهم، فكان النبي صلى الله عليه وسلم يأمر بالإِصلاح لهم.
وأخرج عبد الرزاق وابن المنذر عن ابن عباس في قوله: {وأسيراً} قال: هو المشرك.
وأخرج عبد بن حميد عن عكرمة في قوله: {وأسيراً} قال: ما أسرت العرب من الهند وغيرهم، فإذا حبسوا فعليكم أن تطعموهم وتسقوهم حتى يقتلوا أو يفدوا.
وأخرج ابن أبي شيبة عن أبي رزين قال: كنت مع شقيق بن سلمة فمر عليه أسارى من المشركين فأمرني أن أتصدق عليهم، ثم تلا هذه الآية {ويطعمون الطعام على حبه مسكيناً ويتيماً وأسيراً}.
وأخرج ابن أبي شيبة عن سعيد بن جبير وعطاء {ويطعمون الطعام على حبه مسكيناً ويتيماً وأسيراً} قالا: من أهل القبلة وغيرهم.
وأخرج ابن مردويه وأبو نعيم عن أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم «في قول الله: {مسكيناً} قال: فقيراً {ويتيماً} قال: لا أب له {وأسيراً} قال: المملوك والمسجون».
وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس في قوله: {ويطعمون الطعام على حبه} الآية، قال: نزلت هذه الآية في علي بن أبي طالب وفاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وأخرج ابن سعد عن أم الأسود سرية الربيع بن خيثم قالت: كان الربيع يعجبه السكر يأكله، فإذا جاء السائل ناوله فقلت: ما يصنع بالسكر الخبز له خير، قال: إني سمعت الله يقول: {ويطعمون الطعام على حبه}.
أخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: {يوماً عبوساً} قال: ضيقاً {قمطريراً} قال: طويلاً.
وأخرج ابن مردويه عن أنس بن مالك «عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: {يوماً عبوساً قمطريراً} قال: يقبض ما بين الأبصار».
وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر من طرق ابن عباس قال: القمطرير الرجل المنقبض ما بين عينيه ووجهه.
وأخرج الطستي عن ابن عباس أن نافع بن الأزرق قال له: أخبرني عن قوله: {يوماً عبوساً قمطريراً} قال: الذي ينقبض وجهه من شدة الوجع. قال: وهل تعرف العرب ذلك؟ قال: نعم، أما سمعت قول الشاعر وهو يقول:
ولا يوم الحسار وكان يوماً ** عبوساً في الشدائد قمطريراً

قال: أخبرني عن قوله: {ولا زمهريراً} قال: كذلك أهل الجنة لا يصيبهم حر الشمس فيؤذيهم، ولا البرد. قال: وهل تعرف العرب ذلك؟ قال: نعم، أما سمعت الأعشى وهو يقول:
برهوهة الخلق مثل العتيق ** لم تر شمساً ولا زمهريراً

وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد عن قتادة {يوماً عبوساً قمطريراً} قال: يوماً تقبض فيه الحياة من شدته.
وأخرج عبد بن حميد عن مجاهد {يوماً} قال: يوم القيامة {عبوساً} قال: العابس الشفتين {قمطريراً} قال: تقبض الوجوه بالسوء، وفي لفظ انقباض ما بين عينيه ووجهه.
وأخرج ابن المنذر عن ابن عباس {ولقاهم نضرة وسروراً} قال: نضرة في وجوههم وسروراً في صدورهم.
وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر عن الحسن {ولقاهم نضرة} قال: في الوجوه {وسروراً} قال: في الصدور والقلوب.
وأخرج عبد بن حميد عن قتادة {ولقاهم نضرة وسروراً} قال: نضرة في وجوههم وسروراً في قلوبهم {وجزاهم بما صبروا جنة وحريراً} قال: الصبر صبران صبر على طاعة الله وصبر عن معصية الله {متكئين فيها على الأرائك} قال: كنا نحدث أنها الحجال على السرر {لا يرون فيها شمساً ولا زمهريراً} قال: علم الله تبارك وتعالى أن شدة الحر تؤذي، وأن شدة البرد تؤذي، فوقاهم الله عذابهما جميعاً. قال: وذكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم حدث أن جهنم اشتكت إلى ربها فنفسها في كل عام نفسين، فشدة الحر من حرها، وشدة البرد من زمهريرها.
وأخرج عبد الرزاق وابن مردويه عن الزهري في قوله: {لا يرون فيها شمساً ولا زمهريراً} قال: حدثني أبو سلمة عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «اشتكت النار إلى ربها، فقالت: يا رب أكل بعضي بعضاً فنفسني، فجعل لها في كل عام نفسين نفساً في الشتاء، ونفساً في الصيف. فشدة البرد الذي تجدون من زمهرير جهنم، وشدة الحر الذي تجدون من حر جهنم».
وأخرج ابن أبي شيبة والبخاري ومسلم والترمذي وابن مردويه من طرق عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اشتكت النار إلى ربها فقالت: رب أكل بعضي بعضاً، فجعل لها نفسين نفساً في الشتاء، ونفساً في الصيف، فشدة ما تجدونه من البرد من زمهريرها، وشدة ما تجدونه في الصيف من الحر من سمومها».
وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر عن مجاهد في قوله: {ولا زمهريراً} قال: برداً مقطعاً.
وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر عن عكرمة قال: الزمهرير هو البرد الشديد.
وأخرج عبد بن حميد وابن أبي حاتم عن ابن مسعود قال: الزمهرير إنما هو لون من العذاب، إن الله تعالى قال: {لا يذوقون فيها برداً ولا شراباً}.
وأخرج البيهقي في الأسماء والصفات عن أبي سعيد الخدري أو أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إذا كان يوم حار ألقى الله سمعه وبصره إلى أهل السماء وأهل الأرض، فإذا قال العبد لا إله إلا الله ما أشد حر هذا اليوم! اللهم أجرني من حر جهنم، قال الله عز وجل لجهنم إن عبداً من عبيدي استجار بيّ منك، وإني أشهدك أني قد أجرته، وإذا كان يوم شديد البرد ألقى الله سمعه وبصره إلى أهل السماء وأهل الأرض، فإذا قال العبد: لا إله إلا الله، ما أشد برد هذا اليوم اللهم أجرني من زمهرير جهنم قال الله لجهنم: إن عبداً من عبيدي استجارني من زمهريرك، وإني أشهدك أني قد أجرته. فقالوا وما زمهرير جهنم؟ قال كعب: بيت يلقى فيه الكافر فيتميز من شدة بردها بعضه من بعض».
وأخرج ابن أبي شيبة عن ابن مسعود قال: «الجنة سجسج لا قر فيها ولا حر».
أخرج الفريابي وسعيد بن منصور وابن أبي شيبة وهناد بن السري وعبد بن حميد وعبد الله بن أحمد في زوائد الزهد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي في البعث عن البراء بن عازب في وقوله: {ودانية عليهم ظلالهاً} قال: قريبة {وذللت قطوفها تذليلاً} قال: إن أهل الجنة يأكلون من ثمار الجنة قياماً وقعوداً ومضطجعين وعلى أي حال شاؤوا، وفي لفظ قال: ذللت لهم فيتناولون منها كيف شاؤوا.
وأخرج عبد بن حميد عن عكرمة {وذللت قطوفها تذليلاً} قال: إن قعدوا نالوها.
وأخرج عبد بن حميد عن الضحاك {وذللت قطوفها تذليلاً} قال: أدنيت منهم يتناولونها وهم متكئون.
وأخرج عبد بن حميد عن مجاهد {وذللت قطوفها تذليلاً} قال: أدنيت منهم يتناولونها إن قام ارتفعت بقدره، وإن قعد تدلت حتى ينالها، وإن اضطجع تدلت حتى ينالها، فذلك تذليلها.
وأخرج ابن أبي شيبة عن عبد الله بن مسعود قال: يقول غلمان أهل الجنة من أين نقطف لك؟ من أين نسقيك؟.
وأخرج ابن أبي شيبة وسعيد بن منصور وابن المنذر والبيهقي عن مجاهد قال: أرض الجنة ورق، وترابها مسك، وأصول شجرها ذهب وورق، وأفنانها اللؤلؤ والزبرجد والورق والثمار بين ذلك، فمن أكل قائماً لم يؤذه ومن أكل مضطجعاً لم يؤذه، ومن أكل جالساً لم يؤذه {وذللت قطوفها تذليلاً} وفي لفظ إن قام ارتفعت بقدره، وإن قعد تدلت حتى ينالها، وإن اضطجع تدلت حتى ينالها فذلك تذليلها.
وأخرج عبد بن حميد عن قتادة {ويطاف عليهم بآنية من فضة} الآية، قال: صفاء القوارير في بياض الفضة {قدروها تقديراً} قال: قدرت على قدر رأي القوم.
وأخرج عبد بن حميد عن الشعبي أنه كان يقرأ {قدرها} برفع القاف.
وأخرج عن الحسن أنه قرأها بنصب القاف.
وأخرج ابن جرير وابن المنذر والبيهقي في البعث من طريق العوفي عن ابن عباس قال: آنية من فضة وصفاؤها كصفاء القوارير {قدروها تقديراً} قال: قدرت للكف.
وأخرج عبد الرزاق وسعيد بن منصور والبيهقي في البعث من طريق عكرمة عن ابن عباس قال: لو أخذت فضة من فضة الدنيا فضربتها حتى جعلتها مثل جناح الذباب لم ير الماء عن ورائها، ولكن قوارير الجنة بياض الفضة في صفاء القوارير.
وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: ليس في الجنة شيء إلا قد أعطيتم في الدنيا شبهه إلا {قوارير من فضة}.
وأخرج ابن المنذر عن قتادة قال: لو اجتمع أهل الدنيا على أن يعملوا إناء من فضة يرى ما فيه من خلفه كما يرى في القوارير ما قدروا عليه.
وأخرج الفريابي من طريق مجاهد عن ابن عباس في قوله: {قدروها تقديراً} قال: أتوا بها على قدرهم، لا يفضلون شيئاً ولا يشتهون بعدها شيئاً.
وأخرج ابن أبي شيبة وهناد وعبد بن حميد عن مجاهد قال: الآنية الأقداح، والأكواب الكوكبات، وتقديرها أنها ليست بالملأى التي تفيض، ولا ناقصة بقدر.
وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر عن ابن عباس {قدروها تقديراً} قال: قدرتها السقاة.
وأخرج عبد بن حميد عن الشعبي في قوله: {قوارير من فضة} قال: صفاؤها صفاء القوارير وهي من فضة.
وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن المنذر عن قتادة {كان مزاجها زنجبيلاً} قال: يمزج لهم بالزنجبيل.
وأخرج عبد بن حميد عن مجاهد {كان مزاجها زنجبيلاً} قال: يأثر لهم ما كانوا يشربون في الدنيا فيجيء إليهم بذلك.
وأخرج الحكيم الترمذي في نوادر الأصول عن الحسن قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أربع عيون في الجنة عينان تجريان من تحت العرش إحداهما التي ذكر الله {يفجرونها تفجيراً} والأخرى الزنجبيل، وعينان نضاختان من فوق إحداهما التي ذكر الله سلسبيلاً والأخرى التسنيم».
وأخرج عبد الرزاق وسعيد بن منصور وهناد وعبد بن حميد وابن المنذر والبيهقي عن مجاهد في قوله: {عيناً فيها تسمى سلسبيلاً} قال: حديدة الجرية.
وأخرج ابن المنذر عن الضحاك {عيناً فيها تسمى سلسبيلاً} قال: عين الخمرة.
وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن مجاهد {تسمى سلسبيلاً} قال: تجري سلسلة السبيل.
وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير عن قتادة {عيناً فيها تسمى سلسبيلاً} قال: سلسلة فيها يصرفونها حيث شاؤوا، وفي قوله: {حسبتهم لؤلؤاً منثوراً} قال: من حسنهم.
وأخرج عبد بن حميد عن ابن عباس قال: بينا المؤمن على فراشه إذ أبصر شيئاً يسير نحوه، فجعل يقول: لؤلؤ فإذا ولدان مخلدون كما وصفهم الله، وهي الآية {إذا رأيتهم حسبتهم لؤلؤاً منثوراً}.
وأخرج ابن مردويه عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أنا أولهم خروجاً إذا خرجوا، وأنا قائدهم إذا وفدوا، وأنا خطيبهم إذا أنصتوا، وأنا مستشفعهم إذا جلسوا، وأنا مبشرهم إذا أيسوا، الكرامة والمفاتيح بيدي، ولواء الحمد بيدي، وآدم ومن دونه تحت لوائي، ولا فخر، يطوف عليهم ألف خادم كأنهم بيض مكنون أو لؤلؤ منثور».
وأخرج ابن المبارك وهناد وعبد بن حميد والبيهقي في البعث عن ابن عمرو رضي الله عنه قال: إن أدنى أهل الجنة منزلاً من يسعى عليه ألف خادم كل واحد على عمل ليس عليه صاحبه.
وأخرج الحاكم والبيهقي في البعث عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه ذكر ركب أهل الجنة ثم تلا {وإذا رأيت ثم رأيت نعيماً وملكاً كبيراً}.
وأخرج عبد بن حميد وابن جرير والبيهقي عن مجاهد رضي الله عنه في قوله: {وإذا رأيت ثم رأيت نعيماً وملكاً كبيراً} قال: هو استئذان الملائكة لا تدخل عليهم إلا بإذن.
وأخرج ابن جرير عن سفيان في قوله: {وملكاً كبيراً} قال: بلغنا أنه استئذان الملائكة عليهم.
وأخرج ابن وهب عن الحسن البصري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن أدنى أهل الجنة منزلة الذي يركب في ألف ألف من خدمة من الولدان المخلدين، على خيل من ياقوت أحمر، لها أجنحة من ذهب {وإذا رأيت ثم رأيت نعيماً وملكاً كبيراً}».
وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر عن عكرمة قال: «دخل عمر بن الخطاب رضي الله عنه على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو راقد على حصير من جريد قد أثر في جنبه، فبكى عمر، فقال: ما يبكيك؟ فقال: ذكرت كسرى وملكه وقيصر وملكه وصاحب الحبشة وملكه، وأنت رسول الله على حصير من جريد، فقال: أما ترضى أن لهم الدنيا ولنا الآخرة؟ فأنزل الله {وإذا رأيت ثم رأيت نعيماً وملكاً كبيراً}».
وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر عن أبي الجوزاء أنه كان يقرأ {عاليهم ثياب سندس خضر} قال: علت الخضرة أكثر ثياب أهلها الخضرة.
وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر عن مجاهد في قوله: {شراباً طهوراً} قال: ما ذكر الله من الأشربة.
وأخرج عبد الرزاق وابن جرير وابن المنذر عن مجاهد رضي الله عنه في قوله: {شراباً طهوراً} قال: ما ذكر الله من الأشربة.
وأخرج عبد الرزاق وابن جرير وابن المنذر عن أبي قلابة رضي الله عنه {وسقاهم ربهم شراباً طهوراً} قال: إذا أكلوا أو شربوا ما شاء الله من الطعام والشراب دعوا الشراب الطهور فيشربون، فيطهرهم فيكون ما أكلوا وشربوا جشاء بريح مسك يفيض من جلودهم، ويضمر لذلك بطونهم.
وأخرج هناد وعبد بن حميد وابن المنذر عن إبراهيم التيمي في هذه الآية {وسقاهم ربهم شراباً طهوراً} قال: عرق يفيض من أعراضهم مثل ريح المسك.
وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن إبراهيم التيمي قال: بلغني أنه يقسم للرجل من أهل الجنة شهوة مائة رجل من أهل الدنيا، وأكلهم ونهمتهم، فإذا أكل سقي شراباً طهوراً يخرج من جلده رشحاً كرشح المسك ثم تعود شهوته.
وأخرج عبد الرزاق وابن المنذر عن قتادة رضي الله عنه في قوله: {وكان سعيكم مشكوراً} فقال: لقد شكر الله سعياً قليلاً.
{فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا (24)}
أخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله: {ولا تطع منهم آثماً أو كفوراً} قال: حدثنا أنها نزلت في عدوّ الله أبي جهل.
وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن قتادة رضي الله عنه أنه بلغه أن أبا جهل قال: لما فرضت على النبي صلى الله عليه وسلم الصلاة وهو يومئذ بمكة: لئن رأيت محمداً يصلي لأطأن على عنقه. فأنزل الله في ذلك {ولا تطع منهم آثماً أو كفوراً}.
وأخرج ابن المنذر عن ابن جريج رضي الله عنه في قوله: {آثماً أو كفوراً} قال: كان أبو جهل يقول: لئن رأيت محمداً يصلي لأطأن على رقبته، فنهاه أن يطيعه، وفي قوله: {يوماً ثقيلاً} قال: عسراً شديداً.
وأخرج ابن جرير من طريق العوفي عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله: {وشددنا أسرهم} قال: خلقهم.
وأخرج ابن جرير عن أبي هريرة رضي الله عنه {وشددنا أسرهم} قال: هي المفاصل.
وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر عن الربيع {وشددنا أسرهم} قال: مفاصلهم.
وأخرج عبد بن حميد عن الحسن مثله.
وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن المنذر عن قتادة في قوله: {وشددنا أسرهم} قال: خلقهم، وفي قوله: {إن هذه تذكرة} قال: هذه السورة تذكرة والله أعلم.
قوله تعالى: {وما تشاؤون إلا أن يشاء الله}.
أخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لعن الله القدرية، وقد فعل لعن الله القدرية، وقد فعل. لعن الله القدرية، وقد فعل. ما قالوا كما قال الله؟ ولا قالوا كما قالت الملائكة، ولا قالوا كما قالت الأنبياء، ولا قالوا كما قالت أهل الجنة، ولا قالوا كما قالت أهل النار، ولا قالوا كما قال الشيطان. قال الله {وما تشاؤون إلا أن يشاء الله} وقالت الملائكة: {لا علم لنا إلا ما علمتنا} [البقرة: 32] وقالت الأنبياء في قصة نوح: {ولا ينفعكم نصحي إن أردت أن أنصح لكم إن كان الله يريد أن يغويكم} [هود: 34] وقالت أهل الجنة: {وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله} [الأعراف: 43] وقال أهل النار {ربنا غلبت علينا شقوتنا} [المؤمنون: 106] وقال الشيطان: {رب بما أغويتني} [الحجر: 39]».
وأخرج ابن مردويه من طريق ابن شهاب عن سالم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: «إذا خطب كل ما هو آت قريب، لا بعد لما يأتي، ولا يعجل الله لعجلة أحد، ما شاء الله لا ما شاء الناس، يريد الناس أمراً ويريد الله أمراً ما شاء الله كان، ولو كره الناس. لا مباعد لما قرب الله ولا مقرب لما باعد الله. لا يكون شيء إلا بإذن الله». اهـ.

.من لطائف وفوائد المفسرين:

.من لطائف القشيري في السورة الكريمة:

قال عليه الرحمة:
سورة الإنسان:
قوله جل ذكره: (بسم الله الرحمن الرحيم).
(بسم الله) اسم جبار توحد في آزاله بوصف جبروته، وتفرد يفي آباده بنعت ملكوته، فأزله أبده، وأبده أزله، وجبروته ملكوته جبروته.
أحدي الوصف، صمدي الذات، مقدس النعت، واحد الجلال، رد التعالي، دائم العز، قديم البقاء.
قوله جلّ ذكره: {هَلْ أَتَى عَلَى الإنسان حِينٌ مِّنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُن شَيْئاً مَّذْكُوراً}.
في التفسير:
قد أتى على الإنسان حينٌ من الدهر لم يكن شيئاً له خَطَرٌ ومقدار. قيل: كان آدم عليه السلام أربعين سنة مطروحاً جَسَدُه بين مكة والطائف. ثم من صلصالٍ أربعين سنة، ثم من حملٍ مسنون أربعين سنة، فتمَّ خَلْقُه بعد مائة وعشرين سنةٍ.
ويقال: {هَلْ أَتَى عَلَى الإنسان حِينٌ مِّنَ الدَّهَرِ..}.: أي لم يأتِ عليه وقتٌ إلا كان مذكوراً إليَّ.
ويقال: هل غَفلْتُ ساعةً عن حِفْظِك؟ هل ألقيتُ- لحظةً- حَبْلَكَ على غارِبِك؟ هل أخليتُك- ساعةً- من رعاية جديدة وحمايةٍ مزيدة.
قوله جلّ ذكره: {إِنَّا خَلَقْنَا الإنسان مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نبتليه فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً}.
{مِن نُّطْفَةٍ}: أي من قطرة ماءٍ، {أَمْشَاجٍ}: أَخلاط من بين الرجل والمرأة.
ويقال: طوراً نطفة، وطوراً عَلَقَة، وطوراً عَظْماً، وطوراً لَحْماً.
{نبتليه}: نمتحنه ونختبره. وقد مضى معناه.
{فَجَعَلْنَهُ سَمِيعاً بَصِيراً}.
{إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شاكراً وإِمَّا كفوراً}.
أي: عَرَّفْناه الطريقَ؛ أي طريقَ الخيرِ والشرِّ.
وقيل: إمَّا للشقاوة، وإمَّا للسعادة، إمَّا شاكراً من أوليائنا، وإما ان يكون كافراً من أعدائنا؛ فإنْ شَكَرَ فبالتوفيق، وإنْ كَفَرَ فبالخذلان.
قوله جلّ ذكره: {إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سلاسلا وَأَغْلاَلاً وَسَعِيراً}.
أي: هَيَّأْنا لهم سلاسل يُسْحَبون فيها، {وَأغْلاَلاً} لأعناقهم يُهانون بها، {وَسَعِيراً}: ناراً مستعرة.
{إِنَّ الأَبْرَارَ يشربونَ مِن كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُوراً}.
قيل: البَرُّ: الذي لا يُضْمِرُ الشَّرَّ، ولا يؤذي الذَّرّ.
وقيل: {الأَبْرَارَ}: هم الذين سَمَتْ هِمَّتهُم عن المستحقرات، وظهرت في قلوبهم ينابيع الحكمة فاتّقوا عن مُسَاكنةٍ الدنيا.
{يشربونَ مِن كَأْسٍ} رائحتها كرائحة الكافور، أو ممزوجة بالكافور.
ويقال: اختلفت مشاربهم في الآخرة؛ فكلٌّ يُسْقَى ما يليق بحاله... وكذلك في الدنيا مشاربهم مختلفة؛ فمنهم مَنْ يُسقَى مَزْجاً، ومنهم من يُسقَى صِرْفاً، ومنهم من يسقى على النُّوَب، ومنهم من يُسقى بالنُّجُب ومنهم من يُسْقى وحدَه ولا يُسقي مما يُسقى غيره، ومنهم مَنْ يسقى هو والقوم شراباً واحداً... وقالوا:
إن كنت من ندماي فبالأكبر اسْقِني ** ولا تَسْقِني بالأصغر المتثلم

وفائدة الشرابِ- اليومَ- أن يشغلهم عن كل شيءٍ فيريحُهم عن الإحساس، ويأخذهم عن قضايا العقل.. كذلك قضايا الشراب في الآخرة، فيها زوالُ الأرَبِ، وسقوطُ الطلبِ، ودَوَامُ الطَّرَب، وذَهَابُ الحَرَب، والغفرة عن كلِّ سبب.
ولقد قالوا:
عاقِرْ عقارك واصْطبِحْ ** واقدَحْ سرورَك بالقَدحَ

واخلع عذارك في الهوى ** وأَرِحْ عذولَك واسترحْ

وافرَحْ بوقتِك إنما ** عُمْرُ الفتى وقتُ الفَرَح

قوله جلّ ذكره: {عيناً يشرب بها عِبَادُ الله يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيراً}.
يُشَقَّقونها تشقيقاً، ومعناه أَن تلك العيون تجري في منازلهم وقصورهم على ما يريدون. واليومَ- لهم عيونٌ في أسرارهم من عين المحبة، وعين الصفاء، وعين الوفاء، وعين البسط، وعين الروح.. وغير ذلك، وغداً لهم عيون.
{يُوفُونَ بِالنَّذْرِ}.
ثم ذكر أحوالهم في الدنيا فقال: يوفون بالعهد القديم الذي بينهم وبين الله على وجهٍ مخصوص:
{وَيَخَافُونَ يَوْماً كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً}.
قاسياً، منتشراً، ممتداً.
{وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبه مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً}.
أي: على حُبهم للطعام لحاجتهم إليه. ويقال: على حُبِّ الله، ولذلك يُطْعِمون.
ويقال: على حُبِّ الإطعام.
وجاء في التفسير: أَن الأسير كان كافراً- لأنَّ المسلَم ما كان يُستأسَرُ في عهده- فطاف على بيت فاطمة رضي الله عنها وقال: تأسروننا ولا تطعموننا!
{إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ الله لاَ نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاءً وَلاَ شُكُوراً}.
إنما نطعمكم ابتغاءَ مرضاةِ الله، لا نريد من قبِلكُم جزاءً ولا شكراً.
ويقال: إنهم لم يذكروا هذا بألسنتهم، ولكن كان ذلك بضمائرهم.
{إِنَّا نَخَافُ مِن رَّبِّنَا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً}.
أي: يوم القيامة.
{فَوَقَهُمُ الله شَرَّ ذَلِكَ الْيَومِ}.
{وَلَقَّاهُمْ} أي: أعطاهم {نَضْرَةً وَسُرُواً}.
{وَجَزَاهُم بِمَا صَبَرُواْ جَنَّةً وَحَرِيراً}.
كافَأَهُم على ما صبروا من الجوع ومقاساته جنَّةً وحريراً.
{متكئين فِيهَا عَلَى الأَرَآئِكِ}.
واحدها أريكة، وهي السرير في الحجال.
{لاَ يَرَوْنَ فِيهَا شَمْساً وَلاَ زَمْهَرِيراً}.
أي: لا يتَأَذْون فيها بِحَرًٍّ ولا بَرْدٍ.
{وَدانية عَلَيْهِمْ ظِلاَلُهَا وَذللت قُطُوفُهَا تَذْلِيلاً}.
يتمكنون من قطافها على الوجه الذي هم فيه من غير مشقة؛ فإِن كانوا قعوداً تُدلَّى لهم، وإن كانوا قياماً- وهي على الأرض- ارتقت إليهم.
{وَيُطَافُ عَلَيْهِم بِئَانِيَةٍ مِّن فِضَّةٍ}.
الاسم فضة، والعين لا تشبه العين.
{وَأَكْوَابٍ كَانَتْ قَوَارِيرَاْ قَوَارِيراْ مِن فِضَّةٍ قَدَّرُوهَا تَقْدِيراً}.
أي: في صفاء القوارير وبياض الفضة... قَدَّرَ ذلك على مقدار إرادتهم.
{وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْساً كَانَ مِزَاجُهَا زَنجَبِيلاً}.
المقصود منه الطِّيب. فقد كانوا (أي العرب) يستطيبون الزنجبيل، ويستلذون نكهته، وبه يشبهون الفاكهة، ولا يريدون به ما يقرص اللسان.
{عيناً فِيهَا تُسَمَّى سَلْسَبِيلاً}.
أي: يُسْقَوْنَ من عين- أثبت المَسْقِيَّ وأَجْمَلَ مَنْ يسقيهم؛ لأنَّ منهم من يسقيه الحقُّ- سبحانه- بلا واسطة.
قوله جلّ ذكره: {وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ إِذَا رَأَيْتُهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤاً مَّنتُوراً}.
أي: يخدمهم {وِلْدَانٌ مُّخَلَّدُونَ} وصفا لا يجوز واحد منهم حدَّ الوصائف.
وجاء في التفسير: لا يَهْرَمون ولا يموتون. وجاء مُقَرَّطون.
إذا رأيتهم حسبتهم من صفاء ألوانهم لؤلؤاً منثوراً.
وفي التفسير:
ما من إنسانٍ من أهل الجنة إلا ويخدمه ألف غلام.
قوله جلّ ذكره: {وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيماً وَمُلْكاً كَبِيراً}.
{ثُمَّ}: أي في الجنة.
{وَمُلْكاً كَبِيراً}: في التفاسير أن الملائكة تستأذن عليهم بالدخول.
وقيل: هو قوله: {لَهُم مَّا يَشَاءُونَ فِيهَا} [ق: 35] ويقال: أي لا زوالَ له.
{عَالَيَهُمْ ثِيَابُ سُندُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبرق وَحُلُّواْ أَسَاوِرَ مِن فِضَّةٍ وَسَقَاهُمْ رَبهمْ شَرَاباً طَهُوراً}.
يحتمل أن يكون هذا الوصف للأبرار. ويصح أن يكون للولدان وهو أَوْلَى، والاسم يوافق الاسم دون العين.
{شَراباً طَهُوراً}: الشراب الطهورُ هو الطاهر في نفسِه المُطَهَّرُ لغيره.
فالشراب يكون طهوراً في الجنة- وإنْ لم يحصل به التطهيرُ لأن الجنة لا يُحتاجُ فيها إلى التطهير.
ولكنه- سبحانه- لمَّا ذَكَرَ الشرابَ- وهو اليومَ في الشاهد نجَسٌ- أخبر أنَّ ذلك الشرابَ غداً طاهرٌ، ومع ذلك مُطَهِّر؛ يُطَهِّرُهم عن محبة الأغيار، فمن يَحْسِ من ذلك الشرابِ شيئاً طَهَّرَه عن محبة جميع المخلوقين والمخلوقات.
ويقال: يُطَهِّرُ صدورهم من الغِلِّ والغِشِّ، ولا يُبْقِي لبعضهم مع بعض خصيمة ولا عداوة ولا دَعْوَى ولا شيء.
ويقال: يُطهِّرُ قلوبهم عن محبة الحور العين.
ويقال: إن الملائكة تعرض علهيم الشرابَ فيأبون قبولَه منهم، ويقولون:
لقد طال أَخْذُنا مِنْ هؤلاء، فإذا هم بكاساتٍ تُلاقِي أفواهَهَم بغير أكُفٍّ؛ من غيبٍ إلى عَبْدٍ.
ويقال: اليومَ شرابٌ وغداً شراب... اليوم شرابُ الإيناس... وغداً شرابُ الكاس، اليومَ شرابٌ من اللُّطْفِ... وغداً شرابٌ يُدار على الكفّ.
ويقال: مَنْ سقاه اليومَ شرابَ محبَّتهِ آنسَه وشَجَّعُه؛ فلا يستوحِش في وقته من شيء، ولا يَضِنُّ بروحه عن بَذْل.
ومن مقتضى شُرْبه بكأسِ محبته أن يجودَ على كلِّ أحدٍ بالكونين من غير تمييز، ولا يَبْقَى على قلبه أثرٌ للأخطار.
ومن آثارِ شُرْبه تذلّله لكلِّ أحدٍ لأجل محبوبه، فيكون لأصغرِ الخَدم تُرَابَ القَدَم، لا يتحرك فيه للتكبُّر عرْقٌ.
وقد يكون من مقتضى ذلك الشارب أيضاً في بعض الأحايين أَنْ يَتِيه على أهل الدارين.
ومن مقتضى ذلك الشراب أيضاً أَنْ يمْلِكَه سرورٌ ولا يَتَمَالَكُ معه من خَلْعِ العذار وإلقاء قناع الحياء ويظهر ما هو به من المواجيد:
يخلع فيك العذارَ قومٌ ** فكيف مَنْ مالَه عذارُ؟

ومن موجِبات ذلك الشراب سقوط الحشمة، فيتكلم بمقتضى البسط، أو بموجب لفظ الشكوى، وبما لا يَستخرجُ منه- في حال صَحْوه- سفيه بالمناقيش... وعلى هذا حَمَلُوا قول موسى: {رَبِّ أَرِنِى أَنظُرْ إِلَيْكَ} [الأعراف: 143].
فقالوا: سَكِرَ من سماع كلامه، فَنَطَقَ بذلك لسانُه. وأمَّا مَنْ يسقيهم شرابَ التوحيد فَيَنْفي شهودَ كلِّ غَيْرِ فَيهيمون في أودية العِزِّ، ويتيهون في مفاوزِ الكبرياء، وتتلاشى جملتهُم في هوء الفرادنية... فلا عقلَ ولا تمييزَ ولا فَهْمَ ولا إدراك... فكلُّ هذه المعاني ساقطة.
فالعبدُ يكون في ابتداء الكَشْفِ مُستوْعَباً ثم يصير مستغْرقاً ثم يصيرُ مُسْتَهْلَكا... {وَأَنَّ إِلى رَبِّكَ الْمُنتَهَى} [النجم: 42].
قوله جلّ ذكره: {إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاءً وَكَانَ سَعْيُكُم مَّشْكُوراً}.
يقال لهم: هذا جزاءٌ لكم، {مَّشْكُوراً}: وشُكْرُه لسعيهم تكثيرُ الثوابِ على القليل من العمل- هذا على طريقة العلماء، وعند قومٍ شُكْرُهم جزاؤهم على شكرهم.
ويقال: شُكْرُه لهم ثناؤه عليهم بذكر إحسانهم على وجه الإكرام.
قوله جلّ ذكره: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْءَانَ تَنزِيلاً}.
في مُدَّةٍ سنين.
{فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلاَ تُطِعْ مِنْهُمْ ءَاثِماً أَوْ كفوراً}.
أي: ارْضَ بقضائه، واستسلمْ لِحُكْمِه.
{وَلاَ تُطِعْ مِنْهُمْ ءَاثِماً أَوْ كفوراً}: أي: ولا كفوراً، وهذا أمرٌ له بإفرادِ ربه بطاعته.
{وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وأَصِيلاً وَمِنَ الَّيْلِ فَاسْجُدُ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلاً طَوِيلاً}.
الفَرْضُ في الأول، ثم النَّفْل.
{إِنَّ هَؤءُلاَءِ..}..
أي كفَّار قريش:
{يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَرَاءَهُمْ يَوْماً ثَقِيلاً}.
أي: لا يعلمون ليوم القيامة.
قوله جلّ ذكر ه: {نَّحْنُ خَلَقْنَاهُمْ وَشَدَدْنَآ أَسْرَهُمْ وَإِذَا شِئْنَا بَدَّلْنَآ أَمْثَالَهُمْ تَبْدِيلاً}.
أعدمناهم، وخلقنا غيرَهم بدلاً عنهم. ويقال: أخذنا عنهم الميثاق.
{إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ...}..
أي: القرآن تذكرة.
{فَمَن شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبه سَبِيلاً}.
بطاعته.
{وَمَا تَشَاءُونَ إِلاَّ أَن يَشَاءَ الله إِنَّ الله كَانَ عَلِيماً حَكِيماً يُدْخِلُ مَن يَشَاءُ في رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ عَذَاباً أَلِيمَا}.
أي: عذاباً أليماً موجِعاً يخلص وَجَعُه إلى قلوبهم. اهـ.

.من فوائد الجصاص في السورة الكريمة:

قال رحمه الله:
ومن سورة الإنسان:
قوله تعالى: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبه} إلَى قولهِ تعالى: {وَأَسِيرًا}
عَنْ أَبِي وَائِلٍ: أَنَّهُ أَمَرَ بِأَسْرَى مِنْ الْمُشْرِكِينَ فَأَمَرَ مَنْ يُطْعِمُهُمْ، ثُمَّ قرأ: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبه} الْآيَةَ وَقال قَتَادَةُ: كَانَ أَسِيرُهُمْ يَوْمَئِذٍ الْمُشْرِكَ، فَأَخُوك الْمُسْلِمُ أَحَقُّ أَنْ تُطْعِمَهُ.
وَعَنْ الْحَسَنِ: {وَأَسِيرًا} قال: كَانُوا مُشْرِكِينَ. وَقال مُجَاهِدٌ: الْأَسِيرُ الْمَسْجُونُ. وَقال ابْنُ جُبَيْرٍ وَعَطَاءٌ: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبه مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا} قالا: هُمْ أَهْلُ الْقِبْلَةِ وَغَيْرُهُمْ.
قال أَبُو بَكْرٍ: الْأَظْهَرُ الْأَسِيرُ الْمُشْرِكُ؛ لِأَنَّ الْمُسْلِمَ الْمَسْجُونَ لَا يُسَمَّى أَسِيرًا عَلَى الْإِطْلَاقِ وَهَذِهِ الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ فِي إطْعَامِ الْأَسِيرِ قُرْبَةً، وَيَقْتَضِي ظَاهِرُهُ جَوَازَ إعْطَائِهِ مِنْ سَائِرِ الصَّدَقَاتِ؛ إلَّا أَنَّ أَصْحَابَنَا لَا يُجِيزُونَ إعْطَاءَهُ مِنْ الزَّكَوَاتِ وَصَدَقَاتِ الْمَوَاشِي وَمَا كَانَ أَخَذَهُ مِنْهَا إلَى الْإِمَامِ، وَيُجِيزُ أَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ جَوَازَ إعْطَائِهِ مِنْ الْكَفَّارَاتِ وَنَحْوِهَا، وَأَبُو يُوسُفَ لَا يُجِيزُ دَفْعَ الصَّدَقَةِ الْوَاجِبَةِ إلَّا إلَى الْمُسْلِمِ، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِيمَا سَلَفَ.
آخِرُ سُورَةِ الإنسان. اهـ.

.من فوائد ابن العربي في السورة الكريمة:

قال رحمه الله:
سورة الدهر فِيهَا سِتُّ آيَاتٍ:
الْآيَةُ الْأُولَى قوله تعالى: {هَلْ أَتَى عَلَى الإنسان حِينٌ مِنْ الدَّهْرِ}.
وَقَدْ تَقدّم الْقول فِي الْحِينِ بِمَا فِيهِ الْكِفَايَةُ، فَلْيُنْظَرْ فِي سُورَةِ إبْرَاهِيمَ عليه السلام.
الْآيَةُ الثَّانِيَةُ قوله تعالى: {إنَّا خَلَقْنَا الإنسان مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نبتليه فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا} بِمَعْنَى أَخْلَاطٍ.
مَاءُ الرَّجُلِ غَلِيظٌ أَبْيَضُ، وَمَاءُ الْمَرْأَةِ رَقِيقٌ أَصْفَرُ، فَيَجْمَعُهُمَا الْمَلَكُ بِأَمْرِ الله، وَتَنْقُلُهُمَا الْقُدْرَةُ مِنْ تَطْوِيرٍ إلَى تَطْوِيرٍ، حَتَّى تَنْتَهِيَ إلَى مَا دَبَّرَهُ مِنْ التَّقْدِيرِ، وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِيمَا تَقدّم.
الْآيَةُ الثَّالِثَةُ قوله تعالى: {يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا} فِيهَا مَسْأَلَتَانِ:
المسألة الْأُولَى:
قولهُ: {يُوفُونَ بِالنَّذْرِ}: فِيهِ أَقْوَالٌ، لُبَابها قولانِ: أَحَدُهُمَا يُوفُونَ بِمَا افْتَرَضَ عَلَيْهِمْ.
الثَّانِي: يُوفُونَ بِمَا اعْتَقَدُوهُ وَبِمَا عَقَدُوهُ عَلَى أَنْفُسِهِمْ، وَلَا ثَنَاءَ أَبْلَغُ مِنْ هَذَا كَمَا أَنَّهُ لَا فِعْلَ أَفْضَلُ مِنْهُ؛ فَإِنَّ الله قَدْ أَلْزَمَ عَبْدَهُ وَظَائِفَ، وَرُبَّمَا جَهِلَ الْعَبْدُ عَجْزَهُ عَنْ الْقِيَامِ بِمَا فَرَضَ الله عَلَيْهِ، فَيَنْذُرُ على نفسه نَذْرًا، فَيَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ الْوَفَاءُ به أَيْضًا، فَإِذَا قَامَ بِحَقِّ الْأَمْرَيْنِ؛ وَخَرَجَ عَنْ وَاجِبِ النَّذْرَيْنِ كَانَ لَهُ مِنْ الْجَزَاءِ مَا وَصَفَ الله فِي آخِرِ السُّورَةِ.
وَعَلَى عُمُومِ الْأَمْرَيْنِ كُلُّ ذَلِكَ حَمَلَهُ مَالِكٌ، وَرَوَى عَنْهُ أَشْهَبُ أَنَّهُ قال: {يُوفُونَ بِالنَّذْرِ} هُوَ نَذْرُ الْعِتْقِ، وَالصِّيَامِ وَالصَّلَاةِ.
وَرَوَى عَنْهُ أَبُو بَكْرِ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ قال: قال مَالِكٌ: يُوفُونَ بِالنَّذْرِ قال: النَّذْرُ هُوَ الْيَمِينُ.
المسألة الثَّانِيَةُ:
النَّذْرُ مَكْرُوهٌ بِالْجملة؛ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ مَالِكٍ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ هُرْمُزَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قال: قال الله تعالى: لَا يَأْتِي النَّذْرُ عَلَى ابْنِ آدَمَ بِشَيْءٍ لَمْ أَكُنْ قَدَّرْته لَهُ؛ إنَّمَا يُسْتَخْرَجُ به مِنْ الْبَخِيلِ» وَذَلِكَ لِفِقْهٍ صَحِيحٍ؛ وَهُوَ أَنَّ الْبَارِي سبحانهُ وَعَدَ بِالرِّزْقِ عَلَى الْعَمَلِ؛ وَمِنْهُ مَفْرُوضٌ، وَمِنْهُ مَنْدُوبٌ، فَإِذَا عَيَّنَ الْعَبْدُ لِيَسْتَدِرَّ به الرِّزْقَ، أَوْ يَسْتَجْلِبَ به الْخَيْرَ، أَوْ يَسْتَدْفِعَ به الشَّرَّ لَمْ يَصِلْ إلَيْهِ به، فَإِنْ وَصَلَ فَهُوَ لِبُخْلِهِ. وَالله أَعْلَمُ.
الْآيَةُ الرَّابِعَةُ قوله تعالى: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبه مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا} فِيهَا سِتُّ مَسَائِلَ:
المسألة الْأُولَى:
قولهُ: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ} تَنْبِيهٌ عَلَى الْمُوَاسَاةِ؛ وَمِنْ أَفْضَلِ الْمُوَاسَاةِ وَضْعُهَا فِي هَذِهِ الْأَصْنَافِ الثَّلَاثَةِ وَفِي الصَّحِيحِ عَنْ عَبْدِ الله بْنِ عُمَرَ: سُئِلَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: أَيُّ الْإِسْلَامِ خَيْرٌ؟ قال: «تُطْعِمُ الطَّعَامَ، وَتُقرئ السَّلَامَ عَلَى مَنْ عَرَفْت وَمَنْ لَمْ تَعْرِفْ» وَهَذَا فِي الْفَضْلِ لَا فِي الْفَرْضِ مِنْ الزَّكَاةِ عَلَى مَا تَقدّم بَيَانُهُ.
المسألة الثَّانِيَةُ: قولهُ: {عَلَى حُبه}:
وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ.
المسألة الثَّالِثَةُ: قولهُ: {مِسْكِينًا}:
الْمِسْكِينُ قَدْ تَقدّم بَيَانُهُ، وَهَذَا مِثَالُهُ مَا رُوِيَ فِي شَأْنِ الْأَنْصَارِيِّ الَّذِي ذَكَرْنَا قِصَّتَهُ فِي سُورَةِ الْحَشْرِ، عِنْدَ تَأْوِيلِ قوله: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بهمْ خَصَاصَةٌ} فَهَذَا هُوَ ذَلِكَ.
المسألة الرَّابِعَةُ: قولهُ: {وَيَتِيمًا}:
وَإِنَّمَا أَكَّدَ بِالْيَتِيمِ؛ لِأَنَّهُ مِسْكِينٌ مَضْعُوفٌ بِالْوَحْدَةِ وَعَدَمِ الْكَافِلِ مَعَ عَجْزِ الصِّغَرِ.
المسألة الْخَامِسَةُ: قوله تعالى: {وَأَسِيرًا}:
وَفِي إطْعَامِهِ ثَوَابٌ عَظِيمٌ، وَإِنْ كَانَ كَافِرًا فَإِنَّ الله يَرْزُقُهُ.
وَقَدْ تَعَيَّنَ بِالْعَهْدِ إطْعَامُهُ، وَلَكِنْ مِنْ الْفَضْلِ فِي الصَّدَقَةِ، لَا مِنْ الْأَصْلِ فِي الزَّكَاةِ، وَيَدْخُلُ فِيهِ الْمَسْجُونُ مِنْ الْمُسْلِمِينَ، فَإِنَّ الْحَقَّ قَدْ حَبَسَهُ عَنْ التَّصَرُّفِ وَأَسَرَهُ فِيمَا وَجَبَ عَلَيْهِ، فَقَدْ صَارَ لَهُ عَلَى الْفَقِيرِ الْمُطْلَقِ حَقٌّ زَائِدٌ بِمَا هُوَ عَلَيْهِ مِنْ الْمَنْعِ عَنْ التَّمَحُّلِ فِي الْمَعَاشِ أَوْ التَّصَرُّفِ فِي الطَّلَبِ، وَهَذَا كُلُّهُ إذَا خَلَصَتْ فِيهِ النِّيَّةُ لِلَّهِ، وَهِيَ:
المسألة السَّادِسَةُ:
دُونَ تَوَقُّعِ مُكَافَأَةٍ، أَوْ شُكْرٍ مِنْ الْمُعْطِي، فَإِذَا لَمْ يُشْكَرْ فَسَخِطَ الْمُعْطِي يَحْبَطُ ثَوَابه.
الْآيَةُ الْخَامِسَةُ قوله تعالى: {وَاذْكُرْ اسْمَ رَبِّك بُكْرَةً وَأَصِيلًا} فِيهَا مَسْأَلَةٌ وَاحِدَةٌ:
الْبُكْرَةُ وَقْتٌ مِنْ أَوْقَاتِ النَّهَارِ، وَهُوَ أَوَّلُهُ، وَمِنْهُ بَاكُورَةُ الْفَاكِهَةِ.
وَالْأَصِيلُ: هُوَ الْعَشِيُّ.
وَهَذِهِ الْإِشَارَةُ إلَى صَلَاةِ الصُّبْحِ، وَصَلَاةِ الْعَصْرِ؛ وَقَدْ قدّمنَا مَعْنَى ذَلِكَ، وَأَنَّهُ الْمُرَادُ بِقولهِ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ صَلَّى الْبَرْدَيْنِ دَخَلَ الْجَنَّةَ»، وَمَعْنَى قولهِ صلى الله عليه وسلم: «تَرَوْنَ رَبَّكُمْ كَمَا تَرَوْنَ الْقَمَرَ لَيْلَةَ الْبَدْرِ، فَإِنْ اسْتَطَعْتُمْ أَلَّا تُغْلَبُوا عَنْ صَلَاةٍ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبها فَافْعَلُوا وَقرأ {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّك قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبها}».
وَقَدْ قَسَّمَ أَرْبَابُ اللُّغَةِ سَاعَاتِ اللَّيل وَسَاعَاتِ النَّهَارِ عَلَى تَفَاصِيلَ وَأَسْمَاءٍ عُرْفِيَّةٍ فِي اللُّغَةِ، وَمُؤَلِّفُوهَا مُخْتَلِفُونَ فِي ذَلِكَ؛ لَكِنَّ الْغُدُوَّ وَالْعَشِيَّ وَالظَّهِيرَةَ مِنْ أُمَّهَاتِ ذَلِكَ الَّذِي لَا كَلَامَ فِيهِ.
وَالضُّحَى يَلْحَقُ به وَالْإِشْرَاقُ مِثْلُهُ، وَقَدْ قِيلَ: إنَّ مَعْنَاهُ وَكَبِّرْ، فَكَانَ يُكَبِّرُ ثَلَاثًا بَعْدَ الصُّبْحِ وَثَلَاثًا بَعْدَ الْمَغْرِبِ، وَلَا يَصِحُّ.
وَالله أَعْلَمُ.
الْآيَةُ السَّادِسَةُ قوله تعالى: {وَمِنْ اللَّيل فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلًا طَوِيلًا} هَذِهِ الْآيَةُ مُحْتَمِلَةٌ لِلْفَرْضِ؛ وَهُوَ الْمَغْرِبُ وَالْعِشَاءُ، فَإِنَّهُمَا وَقْتَانِ مِنْ أَوْقَاتِ الْمُصَلَّى، وَصَلَاتُهُمَا مِنْ صَلَاةِ اللَّيل.
وَأَمَّا قوله تعالى: {وَسَبِّحْهُ لَيْلًا طَوِيلًا} فَإِنَّهُ عِبَارَةٌ عَنْ قِيَامِ اللَّيل، وَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَفْعَلُ ذَلِكَ كَمَا تَقدّم.
وَقَدْ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ هَذَا خِطَابًا لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَحْدَهُ، فَيَبْقَى الْأَمْرُ به عَلَيْهِ مُفْرَدًا، وَالْوُجُوبُ يَلْزَمُ لَهُ خَاصَّةً.
وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ خِطَابًا لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَالْمُرَادُ به الْجَمِيعُ، ثُمَّ نُسِخَ عَنَّا، وَبَقِيَ عَلَيْهِ كَمَا تَقدّم؛ وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ؛ وَهُوَ مَعْنَى قوله تعالى: {وَمِنْ اللَّيل فَتَهَجَّدْ به نَافِلَةً لَك} كَمَا تَقدّم بَيَانُهُ. اهـ.

.فوائد لغوية وإعرابية:

قال السمين:
سورة الإنسان:
{هَلْ أَتَى عَلَى الإنسان حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا (1)}
قوله: {هَلْ أتى}: في (هل) هذه وجهان، أحدُهما: أنَّها على بابها من الاستفهامِ المَحْضِ، أي: هو مِمَّنْ يُسْأَلُ عنه لغرابتِه: أأتى عليه حينٌ من الدهرِ لَم يكنْ كذا، فإنه يكونُ الجوابُ: أتى عليه ذلك، وهو بالحالِ المذكورةِ، كذا قاله الشيخ، وهو مدخولٌ كما ستعرِفُه قريباً. وقال مكي في تقرير كونها على بابها من الاستفهام. والأحسنُ أَنْ تكونَ على بابها للاستفهام الذي معناه التقريرُ، وإنما هو تقرير لمَنْ أنكر البعثَ، فلابد أَنْ يقول: نعم قد مضى دهر طويل لا إنسانَ فيه. فيقال له: مَنْ أَحْدَثَه بعد أن لم يكُنْ وكَوَّنه بعد عَدَمِه كيف يمتنع عليه بَعْثُه وإحياؤه بعد مَوْتِه؟ وهو معنى قوله: {وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النشأة الأولى فَلَوْلاَ تَذَكَّرُونَ} [الواقعة: 62]، أي: فهلاَّ تَذَكَّرون فتعلَمون أنَّ مَنْ أَنْشأ شيئاً بعد أن لم يكُنْ قادرٌ على إعادتِه بعد مَوْتِه وعَدَمِه. انتهى. فقد جَعَلها لاستفهامِ التقريرِ لا للاستفهامِ المَحْضِ، وهذا هو الذي يجبُ أَنْ يكونَ؛ لأنَّ الاستفهامَ لا يَرِدُ مِنَ الباري تعالى لاَّ على هذا النحوِ وما أشبهه. والثاني: أنها بمعنى (قد) قال الزمخشري: هل بمعنى (قد) في الاستفهام خاصة. والأصل: أهل بدليلِ قوله:
سائِلْ فوارسَ يَرْبوعٍ بشَدَّتِنا ** أهَلْ رَأَوْنا بوادي القُفِّ ذي الأَكَمِ

فالمعنى: أقد أتى، على التقريرِ والتقريبِ جميعاً، أي: أتى على الإنسان قبلَ زمانٍ قريبٍ حينٌ من الدهرِ لم يكنْ فيه شيئاً مذكوراً، أي: كان شيئاً مَنْسِيَّاً غير مذكور. انتهى. فقوله: على التقريرِ. يعني المفهومَ من الاستفهامِ، وهو الذي فهم مكيٌّ مِنْ نفسِ (هل). وقوله: والتقريب. يعني المفهومَ مِنْ (قد) التي وقع مَوْقِعَها (هل). ومعنى قوله في الاستفهام خاصةً أن (هل) لا تكونُ بمعنى (قد) إلاَّ ومعها استفهامٌ لفظاً كالبيتِ المتقدّم، أو تقديراً كالآية الكريمةِ. فلو قلتَ: (هل جاء زيدٌ) تعني: قد جاء، من غيرِ استفهامٍ لم يَجُزْ، وغيرُه جَعَلَها بمعنى (قد) من غيرِ هذا القيدِ. وبعضُهم لا يُجيزه البتةَ، ويَتَأّوَّل البيتَ: على أنَّ مِمَّا جُمِعَ فيه بين حرفَيْ معنىً للتأكيدِ، وحَسَّن ذلك اختلافُ لفظِهما كقول الشاعِرِ:
فأَصْبَحْنَ لا يَسْأَلنْنَي عَنْ بِما به

فالباءُ بمعنى (عن)، وهي مؤكِّدةٌ لها، وإذا كانوا قد أَكَّدوا مع اتفاقِ اللفظ كقوله:
فَلا والله لا يُلْفَى لِما بي ** ولا لِلِما بهمْ أبداً دَواءُ

فَلأَنْ يُؤَكِّدوا مع اختلافهِ أَحْرى. ولم يَذْكُرِ الزمخشريُّ غيرَ كونِها بمعنى (قد)، وبقي على الزمخشريِّ قيدٌ آخر: وهو أَنْ يقول: في الجملِ الفعليةِ؛ لأنَّه متى دخلَتْ (هل) على جملة اسميةٍ استحالَ كونُها بمعنى (قد) لأنَّ (قد) مختصَّةٌ بالأفعالِ. وعندي أنَّ هذا لا يَرِدُ؛ لأنَّه تقرَّر أنَّ (قد) لا تباشِرُ الأسماءَ.
قوله: {لَمْ يَكُن} في هذه الجملة وجهان، أحدُهما: أنَّها في موضعِ نصبٍ على الحالِ من {الإنسان}، أي: هل أتى عليه حينٌ في هذه الحالةِ. والثاني: أنها في موضعِ رفع نعتاً ل {حينٌ} بعد نعتٍ. وعلى هذا فالعائدُ تقديرُه: حينٌ لم يكُنْ فيه شيئا مذكوراً، والأول أظهرُ لفظاً ومعنىً.
{إِنَّا خَلَقْنَا الإنسان مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نبتليه فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا (2)}
قوله: {أَمْشَاجٍ}: نعتٌ ل {نُطْفة} ووَقَعَ الجمعُ صفةً لمفردٍ؛ لأنَّه في معنى الجمع، كقوله تعالى: {رَفْرَفٍ خُضْرٍ} أو جُعِل كلُّ جزءٍ من النُّطفةِ نُطفةً، فاعتبر ذلك فوُصِفَ بالجمع، وقال الزمخشري: أَمْشاج كبْرْمَةٍ أَعْشار، وبُرْدٍ أَكْياشٌ وهي ألفاظٌ مفردةٌ غيرُ جموعٍ؛ ولذلك تقع صفاتٍ للأفرادِ. ويقال: نُطْفَةٌ مَشَجٌ، قال الشماخ:
طَوَتْ أَحْشاءَ مُرْتِجَةٍ لوَقْتٍ ** على مَشَجٍ سُلالتُه مَهِينُ

ولا يَصِح {أَمْشاج} أَنْ يكونَ تكسيراً له، بل هما مِثْلان في الإِفرادِ لوصف المفرد بهما. فقد مَنَعَ أَنْ يكونَ أَمْشاجاً جمعَ (مِشْجٍ) بالكسر. قال الشيخ: وقوله مخالفٌ لنصِّ سيبويهِ والنَّحْويين على أَنْ أَفعالاً لا يكون مفرداً. قال سيبويه: وليس في الكلامِ (أَفْعال) إلاَّ أَنْ يُكَسَّرَ عليه اسماً للجميع، وما وَرَدَ مِنْ وصفِ المفردِ بأَفْعال تَأَوَّلوه. انتهى. قلت: هو لم يَجْعل أَفْعالاً مفرداً، إنما قال: يُوْصف به المفردُ، يعني بالتأويلِ الذي ذَكَرْتُه مِنْ أنَّهم جَعَلُوا كلَّ قِطعةٍ من البُرْمَة بُرْمَةً، وكلَّ قطعةٍ من البُرْد بُرْداً، فوصفوهما بالجمع. وقال الشيخ: (الأمْشاج) الأخلاط، واحدُها مَشَج بفتحتين، أو مِشْج كعِدْل وأَعْدال أو مَشِيج كشريف وأَشْراف، قاله ابنُ الأعرابي. وقال رؤبة:
يَطْرَحْن كلَّ مُعْجَلٍ نَشَّاجٍ ** لم يُكْسَ جِلْداً مِنْ دمٍ أَمْشاجِ

وقال الهذلي:
كأن الرِّيْشَ والفُوْقَيْنِ منها ** خِلافَ النَّصْلِ سِيْطَ به مَشِيْجُ

وقال الشماخ:
طَوَتْ أحشاءَ مُرْتِجَةٍ

البيت. ويقال: مَشَج يَمْشُجُ مَشْجاً إذا خَلَط، ومَشيج كخليط ومَمْشوج كمخلوط. انتهى. فجوَّزَ أَنْ يكونَ جَمْعاً ل مِشْج كعِدْل، وقد تقدّم أنَّ الزمخشريَّ: مَنَعَ ذلك. وقال الزمخشريُّ: ومَشَجَه ومَزَجَه بمعنىً، والمعنى: مِنْ نُطْفة امتزَجَ فيها الماءان.
قوله: {نبتليه} يجوزُ في هذه الجملة وجهان، أحدهما: أنها حالٌ مِنْ فاعل {خَلَقْنا}، أي: خَلَقْنا حالَ كونِنا مُبْتَلِين له. والثاني: أنَّها حالٌ من {الإنسان}، وصَحَّ ذلك لأنَّ في الجملة ضميرَيْن كلٌّ منهما يعودُ على ذي الحال. ثم هذه الحالُ يجوزُ أَنْ تكونَ مقارِنَةً إنْ كان المعنى ب {نبتليه}: نُصَرِّفُه في بطنِ أمِّه نُطْفَةً ثم عَلَقَةً. وهو قول ابن عباس، وأَنْ تكونَ مقدرةً إنْ كان المعنى ب {نبتليه}: نَخْتَبره بالتكليفِ؛ لأنَّه وقتَ خَلْقِهِ غيرُ مكلَّفٍ. وقال الزمخشري: ويجوزُ أَنْ يكونَ المرادُ: ناقلين له مِنْ حالٍ إلى حالٍ، فُسُمِّي ذلك ابتلاءً على طريق الاستعارةِ. قلت: هذا هو معنى قول ابنِ عباس المتقدّم. وقال بعضُهم: في الكلامِ تقديمٌ وتأخيرٌ. والأصلُ: إنَّا جَعَلْناه سميعاً بصيراً نبتليه، أي: جَعَلْنا له ذلك للابْتلاءِ. وهذا لا حاجةَ إليه.
{إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا (3)}
قوله: {إِمَّا شاكراً}: {شاكراً} نصبٌ على الحال، وفيه وجهان، أحدُهما: أنه حالٌ مِنْ مفعولِ {هَدَيْناه}، أي: هَدَيْناه مُبَيَّناً له كلتا حالتيه. قال أبو البقاء: وقيل: هي حالٌ مقدرةٌ. قلت: لأنه حَمَلَ الهدايةَ على أولِ البيانِ له، وهو في ذلك الوقتِ غيرُ مُتَّصِفٍ بإحدى الصفتَيْنِ. والثاني: أنه حالٌ من {السبيل} على المجاز. قال الزمخشري: ويجوزُ أن يكونا حالَيْن من {السبيل}، أي: عَرَّفْناه السبيلَ إمَّا سبيلاً شاكراً، وإمَّا سبيلاً كفوراً كقوله: {وَهَدَيْنَاهُ النجدين} [البلد: 10] فوصفَ السبيلَ بالشُّكْرِ والكُفْر مجازاً.
والعامَّةُ على كسر همزة {إمَّا} وهي المرادِفَةُ ل {أو} وتقدّم خلافُ النَّحْويين فيها. ونقل مكيٌّ عن الكوفيين أنها هنا (أن) الشرطيةُ زِيْدَتْ بعدها (ما) ثم قال: وهذا لا يُجيزه البَصْريُّون؛ لأن (أن) الشرطيةَ لا تَدْخُلُ على الأسماءِ، إلاَّ أَنْ يُضْمَرَ فعلٌ نحو: {وَإِنْ أَحَدٌ} [التوبة: 6]. ولا يَصِحُّ إضمارُ الفعلِ هنا؛ لأنه كان يلزَمُ رَفْعُ {شاكراً} وأيضاً فإنَّه لا دليلَ على الفعلِ. انتهى. قلت: لا نُسَلِّمُ أنه يَلْزَمُ رَفْعُ {شاكراً} مع إضمار الفعلِ، ويُمْكِنُ أَنْ يُضْمَرَ فعلٌ يَنْصِبُ {شاكراً} تقديرُه: إن خَلَقْناهُ شاكراً فشكورٌ، وإنْ خَلَقْناه كافراً فكفُوْرٌ.
وقرأ أبو السَّمَّال وأبو العجاج بفتحها. وفيها وجهان، أحدُهما: أنَّها العاطفةُ، وإنما لغةُ بعضِهم فَتْحُ همزتها، وأنشدوا على ذلك:
يَلْفَحُها أمَّا شمالٌ عَرِيَّةٌ ** وأمَّا صَباً جِنْحَ العَشِيِّ هَبوبُ

بفتحِ الهمزةِ. ويجوزُ مع فتحِ الهمزةِ إبدالُ ميمِها الأولى ياءً. قال:
.. ** أَيْما إلى جَنَّةٍ أَيْما إلى النارِ

وحَذَفَ الواوَ بينهما. والثاني: أنها أمَّا التفصيليةُ، وجوابها مقدرٌ. قال الزمخشري: وهي قراءة حسنةٌ والمعنى: أمَّا شاكراً فَبِتَوْفِيْقِنا، وأمَّا كفوراً فبِسُوءِ اختيارِه. انتهى. ولم يذكُرْ غيرَه.
{إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سلاسل وَأَغْلَالًا وَسَعِيرًا (4)}
قوله: {سلاسل}: قرأ نافعٌ والكسائيُّ وهشام وأبو بكر بالتنوين، والباقون بغيرِ تنوينٍ، ووقَفَ هؤلاءِ وحمزةُ وقنبلٌ عليه بالألفِ بلا خلافٍ. وابنُ ذكوانَ والبزيُّ وحفصٌ بالألفِ وبدونِها، فعَنْ ثلاثتِهم الخلافُ، والباقون وقَفوا بدون ألفٍ بلا خلافٍ. فقد تَحَصَّل لك من هذا أن القراء على أربع مراتبَ: منهم مَنْ يُنَوِّنُ وصْلاً، ويقفُ بالألفِ وَقْفاً بلا خلافٍ وهم نافعٌ والكسائيُّ وهشامٌ وأبو بكر، ومنهم مِنْ لا يُنَوِّنُ ولا يأتي بالألفِ وقفاً بلا خلافٍ، وهما حمزةُ وقنبلٌ، ومنهم مَنْ لم يُنَوِّنْ، ويقف بالألفِ بلا خلافٍ، وهو أبو عمروٍ وحدَه، ومنهم مَنْ لم يُنَوِّنْ، ويقفُ بالألف تارةٍ وبدونِها أخرى، وهم ابنُ ذكوانَ وحفصٌ والبزيُّ، فهذا نهايةُ الضبطِ في ذلك.
فأمَّا التنوينُ في {سلاسل} فذكَرُوا له أوجهاً منها: أنه قَصَد بذلك التناسُبَ؛ لأنَّ ما قبلَه وما بعده منونٌ منصوبٌ. ومنها: أن الكسائيَّ وغيرَه مِنْ أهلِ الكوفةِ حَكَوا عن بعض العربِ أنهم يَصْرِفُون جميعَ ما لا ينصَرِفُ، إلاَّ أفعلَ منك. قال الأخفش: سَمِعْنا من العربِ مَنْ يَصْرِفُ كلَّ ما لا يَنْصَرِف؛ لأنَّ الأصل في الأسماء الصرفُ، وتُرِك الصرفُ لعارضٍ فيها، وأنَّ الجمعَ قد جُمِع وإنْ كان قليلاً. قالوا: صواحِب وصواحبات. وفي الحديث: «إنكن لصَواحِبات يوسف» وقال الشعر:
قد جَرَتِ الطيرُ أيامِنينا

فجمع (أيامِن) جَمْعَ تصحيحِ المذكر. وأنشدوا:
وإذا الرجالُ رأوا يزيدَ رأيتَهمْ ** خُضُعَ الرِّقابِ نواكِسي الأبصارِ

بكسرِ السينِ مِنْ نواكِس، وبعدَها ياءٌ تَظهرُ خطاً لا لفظاً لذهابها لالتقاءِ الساكنين، والأصلُ: (نواكِسِين) فحُذِفَتِ النونُ للإِضافةِ، والياءُ لالتقاءِ الساكَنيْن. وهذا على رواية كسرِ السينِ، والأشهرُ فيها نصبُ السينِ فلمَّا جُمِع شابه المفرداتِ فانصَرَفَ. ومنها أنه مرسومٌ في إمامِ الحجازِ والكوفةِ بالألفِ، رواه أبو عبيدٍ، ورواه قالون عن نافعٍ. وروى بعضُهم ذلك عن مصاحفِ البصرةِ أيضاً، وقال الزمخِشريُّ: وفيه وجهان، أحدُهما: أَنْ تكونَ هذه النونُ بدلاً من حرفِ الإِطلاقِ ويَجْري الوصل مَجْرى الوقفِ. والثاني: أَنْ يكونَ صاحبُ هذه القراءة مِمَّنْ ضَرِيَ بروايةِ الشِّعْر، ومَرَنَ لسانُه على صَرْفِ ما لا ينصرف. قلت: وفي هذه العبارةِ فَظاظةٌ وغِلْظة، لاسيما على مَشْيَخَةِ الإِسلام وأئمةِ العلماءِ الأعلامِ.
ووَقَفَ هؤلاء بالألفِ ظاهراً. وأمَّا مَنْ لم يُنَوِّنْه فظاهرٌ؛ لأنَّه على صيغةِ منتهى الجموع. وقولهم: قد جُمِع، نحو: صَواحبات وأيامِنين لا يَقْدَحُ؛ لأنَّ المَحْذورَ جمعُ التكسيرِ، وهذا جمعُ تصحيحٍ، وعَدَمُ وقوفِهم بالألفِ واضحٌ أيضاً. وأمَّا مَنْ لم يُنَوِّنْ ووقفَ بالألفِ فإتْباعاً للرَّسمِ الكريمِ كما تقدّم، وأيضاً فإنَّ الرَّوْمَ في المفتوحِ لا يُجَوِّزُه القراء، والقارىءُ قد يُبَيِّنُ الحركةَ في وَقْفِه فأَتَوْا بالألفِ لَتَتَبيَّنَ بها الفتحةُ. ورُوِيَ عن بعضٍ أنه يقول: (رَأَيْتُ عُمَرا) بالألف يعني عُمَرَ بن الخطاب. والسلاسل: جمع سِلْسلة، وقد تقدّم الكلامُ فيها.
{عَيْنًا يشرب بها عِبَادُ الله يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا (6)}
قوله: {عيناً} في نَصْبها أوجهٌ، أحدُها: أنه بدلٌ مِنْ {كافوراً} لأنَّ ماءَها في بياضِ الكافور، وفي رائحتِه وبَرْدِه. والثاني: أنَّها بدلٌ مِنْ محل {مِنْ كأسٍ}، قاله مكي، ولم يُقَدِّرْ حَذْفَ مضافٍ. وقَدَّر الزمخشريُّ على هذا الوجهِ حَذْفَ مضافٍ. قال: كأنه قيل: يشربون خَمْراً خَمْرَ عَيْنٍ. وأمَّا أبو البقاءِ فجعل المضافَ مقدراًعلى وجهِ البدلِ مِنْ {كافوراً} فقال: والثاني: بدلٌ مِنْ {كافوراً}، أي: ماءَ عَيْنٍ أو خَمْرَ عَيْن. وهو معنىً حَسَنٌ. الثالث: أنَّها مفعولٌ ب {يشربون}، أي: يشربون عيناً مِنْ كأس. الرابع: أنَّ يَنْتصِبَ على الاختصاص. الخامس: بإضمارِ {يشربون} يُفَسِّرُه ما بعده، قاله أبو البقاء. وفيه نظرٌ؛ لأنَّ الظاهر أنه صفةٌ لعَيْن، فلا يَصِحُّ أَنْ يُفَسِّر. السادس: بإضمار (يُعْطَوْن). السابع: على الحالِ من الضمير في {مِزاجُها}، قاله مكي.
والمِزاج: ما يُمْزَجُ به، أي: يُخْلَطُ. يقال: مَزَجَه يَمْزُجه مَزْجاً، أي: خَلَطَهُ يَخلِطُه خَلْطاً. قال حسان:
كأنَّ سَبِيْئَةً مِنْ بيتِ رَأْسٍ ** يكونُ مِزاجَها عَسَلٌ وماءُ

فالمِزاج كالقِوامِ، اسمٌ لما يقام به الشيءُ. والكافورُ: طِيْبٌ معروفٌ، وكأنَّ اشتقاقه من الكَفْرِ وهو السَّتْرُ؛ لأنه يُغَطِّي الأشياءَ برائحتِه. والكافور أيضاً: كِمام الشجرِ التي تُغَطِّي ثمرتَها. ومفعولُ {يشربون}: إمَّا محذوفٌ، أي: يعني: يشربون ماءً أو خمراً من كأسٍ، وإمَّا مذكورٌ وهو {عيناً} كما تقدّم، وإمَّا {مِنْ كأسٍ} و(من) مزيدةٌ فيه، وهذا يَتَمشَّى عند الكوفيين والأخفش.
وقال الزمخشري: فإنْ قلتَ: لِمَ وُصِل فِعْلُ الشُّرْب بحرفِ الابتداءِ أولاً وبحرف الإِلصاقِ آخراً؟ قلت: لأنَّ الكأسَ مبدأ شُرْبه وأولُ غايتِه، وأمَّا العَيْنُ فبها يَمْزُجون شرابهم، فكأنَّ المعنى: يشرب عبادُ الله بها الخمرَ كما تقول: شَرِبْتُ الماءَ بالعَسل.
قوله: {يشرب بها} في الباءِ أوجهٌ، أحدُها: أنَّها مزيدةٌ، أي: يشربها، ويَدُلُّ له قراءة ابنُ أبي عبلةَ {يشربها} مُعَدَّى إلى الضمير بنفسِه. الثاني: أنها بمعنى (من). الثالث: أنها حاليةٌ، أي: مَمْزوجةٌ بها. الرابع: أنها متعلقَةٌ ب {يشرب}. والضميرُ يعودُعلى الكأس، أي: يشربون العَيْنَ بتلك الكأسِ، والباءُ للإِلصاق، كما تقدّم في قول الزمخشري. الخامس: أنه على تَضْمين {يشربون} معنى: يَلْتَذُّون بها شاربين. السادس: على تَضْمينِه معنى (يَرْوَى)، أي يَرْوَى بها عبادُ الله. وكهذه الآية في بعضِ الأوجهِ قول الهُذَلي:
شَرِبْنَ بماءِ البحرِ ثم تَرَفَّعَتْ ** متى لُجَجٍ خُضْرٍ لهنَّ نَئيجُ

فهذه تحتملُ الزيادةَ، وتحتملُ أَنْ تكونَ بمعنى (من). والجملة مِنْ قوله {يشرب بها} في محلِّ نصبٍ صفةٍ ل {عيناً} إنْ جَعَلْنا الضميرَ في {بها} عائداً على {عيناً} ولم نجعَلْه مُفَسِّراً لناصبٍ، كما قاله أبو البقاء. وقرأ عبد الله {قافوراً} بالقاف بدلَ الكافِ، وهذا مِنْ التعاقُبِ بين الحرفَيْنِ كقولهم: عربيٌّ قُحٌّ وكُحّ. و{يُفَجِّرونها} في موضع الحال.
{يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا (7)}
قوله: {يُوفُونَ}: يجوز أَنْ يكونَ مستأنفاً لا محلَّ له البتةَ، ويجوزُ أَنْ يكونَ خبراً لكان مضمرةً، قال الفراء: التقديرُ: كانوا يُوْفُوْن بالنَّذْر في الدنيا، وكانوا يخَافون. انتهى. وهذا ما لا حاجةَ إليه. الثالث: أنه جوابٌ لمَنْ قال: ما لم يُرْزَقون ذلك؟. قال الزمخشري: {يُوْفُوْن} جوابُ مَنْ عَسَى يقول: ما لم يُرْزَقون ذلك ؟ قال الشيخ: واستعمل (عَسَى) صلةً لمَنْ وهو لا يجوزُ، وأتى بالمضارع بعد (عَسَى) غيرَ مقرونٍ ب (أن) وهو قليلٌ أو في الشعر.
قوله: {كَانَ شَرُّهُ} في موضع نصبٍ صفةً ل (يَومْ). والمُسْتَطِير: المنتشر يُقال: استطار يَسْتطير اسْتِطارَةً فهو مُسْتَطير، وهو استفعل من الطَّيران قال الشاعر:
فباتَتْ وقد أسْأَرَتْ في الفؤا ** دِصَدْعاً عل نَأْيِها مُسْتطيرا

وقال الفراء: المُسْتطير: المُسْتطيل. قلت كأنه يريد أنه مِثْلُه في المعنى، لا أنه أَبْدَل من اللامِ راءً. والفجرُ فجران: مستطيلٌ كذَنَبِ السِّرحان وهو الكاذِبُ، ومُسْتطيرٌ وهو الصادِقٌ لانتشارِه في الأُفُق.
{وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبه مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا (8)}
قوله: {حُبه}: حالٌ: إمَّأ من الطعامِ، أي: كائنين حلى حُبهم الطعامَ، وإمَّا من الفاعلِ. والضمير في {حُبه} لله تعالى، أي: على حُبِّ الله. وعلى التقديرَيْن فهو مصدرٌ مضافٌ للمفعول.
{إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا (10)}
قوله: {قَمْطَرِيراً}: القَمْطَرير: الشديدُ. وأصلُه كما قال الزجاج: مُشتقٌّ من اقْمَطَرَّت الناقةُ: إذا رفعَتْ ذَنَبها، وجمعَتْ قُطْرَيْها، وزَمَّتْ بأَنْفِها. قال الزمخشري: فاشتقَّه من القَطْر، وجعل الميمَ مزيدةً. قال أسد بن ناعصة:
واصْطَلَيْتُ الحروبُ في كلِّ يومٍ ** باسِلِ الشَّرِّ قَمْطَرِيرِ الصَّباحِ

قال الشيخ: واختلف النحاةُ في هذا الوزن، والأكثرُ لا يُثْبِتُ افْمَعَلَّ في أوزان الأفعالِ. ويقال: اقْمَطَرَّ يَقْمَطِرُّ فهو مُقْمَطِرٌّ، قال الشاعر:
تَلْزُبُ العقربُ تَزْبَئِرُّ ** تكسو استَها لحماً وتَقْمَطِرُّ

ويومٌ قَمْطرير وقُماطر بمعنى: شديد. قال الشاعر:
فَفِرُّوا إذا ما الحربُ ثارَ غبارُها ** ولَجَّ بها اليومُ الشديدُ القُماطِرُ

وقال الزجَّاج: (القَمْطَرِيرْ) الذي يَعْبَسُ حتى يجتمعَ ما بين عينَيْه. انتهى. فعلى هذا استعمالُه في اليومِ مجازاً. وفي بعض كلامِ الزمخشري أنه جَعَلَه من القَمْط، فعلى هذا تكون الراءان فيه مزيدتَيْن.
{وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا (12)}
قوله: {بِمَا صَبَرُواْ}: (ما) مصدريةٌ. و{جنةٌ} مفعولٌ ثانٍ أي: جَزاهم جنةً بصَبْرهم. وقدَّر مكي مضافاً فقال: تقديرُه: دخولَ جنة ولِبْسَ حرير.
{متكئين فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ لَا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا وَلَا زَمْهَرِيرًا (13)}
قوله: {متكئين}: حال مِنْ مفعول {جَزاهم}.
وقرأ علي رضي الله عنه {وجازاهم} وجوَّز أبو البقاء أَنْ يكونَ {متكئين} صفةً ل {جَنَّةً}. وهذا لا يجوزُ عند البَصْريين؛ لأنَّه كان يلزَم بروزُ الضميرِ فيقال: متكئين هم فيها، لجريانِ الصفةِ على غير مَنْ هي له. وقد مَنَعَ مكي أن يكونَ {متكئين} صفةً ل {جنةً} لِما ذكرْتُه مِنْ عَدَمِ بُروزِ الضمير. وممَّنْ ذَهَبَ إلى كونِ {متكئين} صفةً ل {جَنَّةً} الزمخشريُّ فإنه قال: ويجوزُ أَنْ تكونَ {متكئين}. و{لا يَرَوْن} و{دانية} كلُّها صفاتٍ ل {جنةٌ} وهو مردودٌ بما ذكرْتُه. ولا يجوزُ أَنْ يكونُ {متكئين} حالاً مِنْ فاعل {صَبَروا}؛ لأنَّ الصَّبْرَ كان في الدنيا واتِّكاءَهم إنما هو في الآخرة، قال معناه مكي. ولقائلٍ أَنْ يقول: إن لم يكنِ المانعُ إلاَّ هذا فاجْعَلْها حالاً مقدرةً؛ لأن مآلهم بسبب صَبْرهم إلى هذه الحالِ. وله نظائرُ.
وقوله: {إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ} إمَّا على إضمارِ القول أي: قائلين ذلك. وقرأ أبو جعفر {فوقاهم} بتشديد القافِ على المبالغةِ.
قوله: {لاَ يَرَوْنَ فِيهَا} فيه أوجهٌ، أحدها: أنَّها حالٌ ثانيةٌ مِنْ مَفْعولِ {جزاهم}. الثاني: أنها حالٌ من الضميرِ المرفوعِ المستكنِّ في {متكئين}، فتكونُ حالاً متداخلةً. الثالث: أَنْ تكونَ صفةً ل جنة كمتكئين عند مَنْ يرى ذلك وقد تقدّم أنه قول الزمخشريِّ.
والزَّمْهَرير: أشدُّ البردِ. هذا هو المعروفُ. وقال ثعلب: هو القمرُ بلغة طيِّىء وأنشد:
في ليلةٍ ظلامُها قد اعتكَرْ ** قَطَعْتُها والزَّمْهريرُ ما زَهَرْ

والمعنى: أنَّ الجنةَ لا تحتاجُ إلى شمسٍ ولا إلى قمرٍ ووزنُه فَعلليل.
{وَدانية عَلَيْهِمْ ظِلَالُهَا وَذللت قُطُوفُهَا تَذْلِيلًا (14)}
قوله: {وَدانية}: العامة على نصبها وفيها أوجهٌ، أحدُها: أنها عطف على محلِّ {لا يَرَوْن}. الثاني: أنها معطوفة على {متكئين}، فيكونُ فيها ما فيها. قال الزمخشري: فإنْ قلتَ: {ودانية عليهم ظلالُها} علامَ عطف؟ قلت: على الجملة التي قبلها، لأنَّها في موضع الحال من المَجْزِيِّيْنَ، وهذه حالٌ مثلُها عنهم، لرجوعِ الضميرِ منها إليهم في {عليهم} إلاَّ أنَّها اسمٌ مفردٌ، وتلك جماعةٌ في حكمِ مفردٍ، تقديره: غيرَ رائين فيها شَمْساً ولا زَمْهريراً ودانية. ودخلت الواوُ للدَّلالة على أن الأمرَيْن مجتمعان لهم. كأنَّه قيل: وجَزاهم جنةً جامِعِيْنَ فيها: بين البُعْدِ عن الحَرِّ والقُرِّ ودُنُوِّ الظِّلالِ عليهم. الثالث: أنها صفةٌ لمحذوفٍ أي: وجنةً دانية، قاله أبو البقاء. الرابع: أنها صفةٌ ل {جنةٌ} الملفوظِ بها، قاله الزجَّاج.
وقرأ أبو حيوةَ {ودانية} بالرفع. وفيها وجهان، أظهرهما: أَنْ يكونَ {ظلالُها} مبتدأ و{دانية} خبرٌ مقدمٌ. والجملة في موضعِ الحال. قال الزمخشري: والمعنى: لا يَرَوْنَ فيها شَمْساً ولا زَمْهريراً، والحالُ أنَّ ظلالَها دانية عليهم. والثاني: أَنْ ترتفعَ {دانية} بالابتداء، و{ظلالُها} فاعلٌ به، وبها استدلَّ الأخفشُ على جوازِ إعمالِ اسمِ الفاعلِ، وإنْ لم يَعْتَمِدْ نحو: (قائمٌ الزيدون)، فإنَّ {دانية} لم يعتمِدْ على شيءٍ مِمَّا ذكره النَّحْويُّون، ومع ذلك فقد رُفِعَتْ {ظلالُها} وهذا لا حُجَّة له فيه؛ لجوازِ أَنْ يكونَ مبتدأً وخبراً مقدّماً كما تقدّم.
وقال أبو البقاء: وحُكِيَ بالجَرِّ أي: في جنَّةٍ دانية. وهو ضعيفٌ؛ لأنه عطف على الضميرِ المجرورِ من غيرِ إعادةِ الجارِّ. قلت: يعني أنَّه قرئ شاذاً {ودانية} بالجَرِّ على أنها صفةٌ لمحذوفٍ، ويكونُ حينئذٍ نَسَقاً على الضميرِ المجرورِ بالجَرِّ مِنْ قوله: {لا يَرَوْنَ فيها} أي: ولا في جنةٍ دانية. وهو رَأْيُ الكوفيين: حيث يُجَوِّزون العطف على الضميرِ المجرورِ مِنْ غيرِ إعادةِ الجارِّ؛ ولذلك ضَعَّفَه، وقد تقدّم الكلامُ في ذلك مُشْبعاً في البقرة.
وأمَّا رَفْعُ {ظلالُها} فيجوزُ أَنْ يكونَ مبتدأً و{عليهم} خبرٌ مقدمٌ، ولا يرتفع ب {دانية}؛ لأنَّ (دنا) يتعدَّى ب (إلى) لا ب (على). والثاني: أنها مرفوعةٌ ب {دانية} على أَنْ تُضَمَّن معنى (مُشْرِفَة) لأنَّ (دنا) و(أَشْرَفَ) يتقاربان، قال معناه أبو البقاء، وهذان الوجهان جاريان في قراءة مَنْ نصبَ {دانية} أيضاً.
وقرأ الأعمش {ودانِياً} بالتذكير للفَصْلِ بين الوَصْفِ وبين مرفوعِه ب {عليهم}، أو لأنَّ الجمعَ مذكرٌ.
وقرأ أُبَيٌّ {ودانٍ عليهم} بالتذكير مرفوعا، وهي شاهدةٌ لمذهبِ الأخفشِ، حيث يرفع باسمِ الفاعلِ. وإنْ لم يَعْتَمِد. ولا جائزٌ أَنْ يُعْرَبا مبتدأً وخبراً مقدّماً لعدمِ المطابقةِ. وقال مكي: وقرئ: {دانِياً} ثم قال: ويجوزُ {ودانية} بالرفعِ، ويجوزُ {دانٍ} بالرفعِ والتذكيرِ. ولم يُصَرِّح بأنهما قرئا، وقد تقدّم أنهما مقروءٌ بهما فكأنَّه لم يَطَّلِعْ على ذلك.
قوله: {وَذللت} يجوزُ أَنْ يكونَ في موضع نصبٍ على الحال عطفاً على {دانية} فيمَنْ نَصَبها أي: ومُذلّلةً. ويجوزُ أَنْ تكونَ حالاً من الضميرِ في {عليهم} سواءً نَصَبْتَ {دانية} أو رَفَعْتَها، أم جَرَرْتَها. ويجوزُ أَنْ تكونَ مستأنفةً. وأمَّا على قراءة رفعِ {ودانية} فتكونُ جملة فعليةً عطفتْ على اسميَّةٍ. ويجوز أَنْ تكونَ حالاً كما تقدّم.
{وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوَابٍ كَانَتْ قَوَارِيرَا (15)}
قوله: {بِآنِيَةٍ}: هذا هو القائمُ مقامَ الفاعلِ، لأنَّه هو المفعولُ به في المعنى. ويجوزُ أَنْ يكون {عليهم}. وآنِيَة: جمعُ (إناء) والأصلُ: أَأْنِيَة بهمزتَيْنِ الأُولى مزيدةٌ للجمع، والثانيةُ فاءُ الكلمة فقُلِبَتِ الثانية ألفاً وُجوباً، وهذا نظيرُ: كِساءٍ وأَكْسِيَة وغِطاءٍ وأَغْطِيَة، ونظيرُه في الصحيح اللامِ: حِمار وأَحْمِرة. و{مِنْ فضةٍ} نعتٌ ل {آنية}.
{قَوَارِيرَ مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوهَا تَقْدِيرًا (16)}
قوله: {قَوَارِيرَاْ قَوَارِيرَاْ}: اختلف القراء في هذَين الحرفَيْن بالنسبة إلى التنوين وعَدَمِهِ، وفي الوقوفِ بالألفِ وعَدَمِها كما تقدّم خلافُهم في {سلاسل}. واعلَمْ أنَّ القراء فيهما على خمسِ مراتبَ، إحداها: تنوينُهما معاً، والوقفُ عليهما: بالألفِ، لنافعٍ والكسائيِّ وأبي بكر. الثانيةُ: مقابِلَةُ هذه، وهي عَدَمُ تنوينِهما وعَدَمُ الوقفِ عليهما بالألفِ، لحمزةَ وحدَه. الثالثة: عَدَمُ تنوينِهما، والوقفُ عليهما بالألف، لهشامٍ وحدَه. الرابعة: تنوينُ الأولِ دونَ الثاني، والوقفُ على الأولِ بالألفِ، وعلى الثاني بدونِها، لابنِ كثيرٍ وحدَه. الخامسةُ: عَدَم تنوينِهما معاً، والوقفُ على الأولِ بالألفِ، وعلى الثاني بدونِها: لأبي عمروٍ وابن ذكوانَ وحفصٍ.
فأمَّا مَنْ نَوَّنَهما فلِما مَرَّ في تنوينِ {سلاسل}؛ لأنَّهما صيغَةُ منتهى الجمع، ذاك على مَفاعلِ، وذا على مَفاعيل. والوقفُ بالألفِ التي هي بدلٌ من التنوين، وفيه موافقةُ المصاحفِ المذكورةِ فإنَّهما مَرْسومان فيها بالألفِ على ما نَقَلَ أبو عبيد. وأمَّا عَدَمُ تنوينِهما وعَدَمُ الوقفِ بالألف فظاهرٌ جدًّا. وأمَّا مَنْ نَوَّنَ الأولَ دونَ الثاني، فإنَّه ناسَبَ بين الأولِ وبين رؤوسِ الآيِ. ولم يناسِبْ بينَ الثاني وبين الأولِ. والوجهُ في وَقْفِه على الأولِ بالألفِ وعلى الثاني بغيرِ ألفٍ ظاهرٌ. وقد رَوَى أبو عُبيد أنه كذلك في مصاحِف أهلِ البصرة.
وأمَّا مَنْ لم يُنَوِّنْهما، ووقف على الأولِ بالألفِ، وعلى الثاني بدونِها؛ فلأنَّ الأولَ رأسُ آيةٍ فناسَبَ بينه وبين رؤوس الآيِ في الوقفِ بالألفِ. وفَرَّق بينه وبين الثاني؛ لأنه ليسَ برأس آيةٍ. وأمَّا مَنْ لم يُنَوِّنْهما ووقف عليهما بالألفِ فلأنَّه ناسَبَ بين الأول وبين رؤوس الآيِ وناسَبَ بين الثاني وبين الأولِ. وحَصَل مِمَّا تقدّم في {سلاسل} وفي هذَيْن الحرفَيْنِ أنَّ القراء منهم مَنْ وافَقَ مصحَفَه، ومنهم مَنْ خالفَه لاتِّباع الأثَرِ. وتقدّم الكلامُ على {قوارير} في سورةِ النمل ولله الحمدُ.
وقال الزمخشري: وهذا التنوين بدلٌ مِنْ حرفِ الإِطلاقِ لأنَّه فاصلةٌ، وفي الثاني لإِتباعِه الأولَ. يعني أنَّهم يَأْتُون بالتنوينِ بدلاً مِنْ حرفِ الإِطلاق الذي للترنم، كقوله:
يا صاحِ ما هاجَ الدُّموعَ الذُّرَّفَنْ

وفي انتصابِ {قوارير} وجهان، أحدُهما وهو الظاهرُ أنَّه خبرُ كان. والثاني: أنها حالٌ، و(كان) تامةٌ أي: كُوِّنَتْ فكانَتْ. قال أبو البقاء: وحَسُن التكريرُ لِما اتَّصل به مِنْ بيانِ أصلِها، ولولا التكريرُ لم يَحْسُنْ أَنْ يكونَ الأولُ رأسَ آيةٍ لشدَّةِ اتصالِ الصفةِ بالموصوفِ. وقرأ الأعمش {قواريرُ} بالرفع على إضمارِ مبتدأ أي: هي قوارير. و{مِنْ فضة} صفةٌ ل {قوارير}.
قوله: {قَدَّرُوهَا} صفةٌ ل {قواريرَ}. والواو في {قَدَّروها} فيه وجهان، أحدهما: أنَّه للمُطافِ عليهم. ومعنى تقديرهم إياها: أنهم قَدَّروها في أنفسِهم أَنْ تكونَ على مقاديرَ وأشكالٍ على حَسَبِ شَهَواتِهم، فجاءَتْ كما قَدَّروا.
والثاني: أنَّ الواو للطائفين للدلالةِ عليهم، مِنْ قوله تعالى: {ويُطافُ} والمعنى: أنهم قَدَّروا شرابها على قَدْر رِيِّ الشَّارِب، وهو ألذُّ الشرابِ لكونِه على مِقْدارِ حاجتِه لا يَفْضُل عنها ولا يَعْجِزُ، قاله الزمخشري. وجَوَّزَ أبو البقاء أَنْ تكونَ الجملة مستأنفةً.
وقرأ عليٌّ وابنُ عباس والسُّلميُّ والشعبيُّ وزيدُ بن علي وأبو عمروٍ في روايةِ الأصمعيِّ {قُدِّرُوْها} مبنياً للمفعول. وجَعَله الفارسِيُّ مِنْ بابِ المَقْلوبِ قال: كأنَّ اللفظ: قُدِّروا عليها. وفي المعنى قَلْبٌ؛ لأنَّ حقيقةَ المعنى أن يقال: قُدِّرَتْ عليهم، فهي مثلُ قوله: {لَتَنُوءُ بالعصبة أُوْلِي القوة} [القصص: 76] ومثلُ قول العرب: (إذا طَلَعَتِ الجَوْزاءُ أُلْقِيَ العُوْدُ على الحِرْباء). وقال الزمخشري: ووجهُه أَنْ يكونَ مِنْ قُدِّر منقولاً مِنْ قَدَرَ. تقول: قَدَرْتُ الشيءَ وقَدَرَنيه فلان، إذا جعلك قادراً له ومعناه: جُعلوا قادرين لها كما شاؤوا، وأُطْلِق لهم أَنْ يُقَدِّروا على حَسَبِ ما اشْتَهَوْا. وقال أبو حاتم: قُدِّرَتْ الأواني على قَدْرِ رِيِّهم. ففَسَّر بعضُهم قول أبي حاتمٍ هذا قال: فيه حَذْفٌ على حَذْفٍ: وهو أنه كان: (قُدِّرَ على قَدْرِ ريِّهم إياها) ثم حُذِفَ (على) فصار: (قَدْرُ رِيِّهم) على ما لم يُسَمَّ فاعِلُه، ثم حُذِف (قَدْرُ) فصار (رِيُّهم) ما لم يُسَمَّ فاعلُه، فحُذِفَ الرِّيُّ فصارَتِ الواوُ مكانَ الهاءِ والميمِ، لَمَّا حُذِفَ المضافُ مِمَّا قبلَها، وصارَتِ الواوُ مفعولَ ما لم يُسَمَّ فاعلُه، واتصلَ ضميرُ المفعولِ الثاني في تقديرِ النصبِ بالفعلِ بعدَ الواوِ التي تَحَوَّلَتْ من الهاءِ والميم، حتى أُقيمَتْ مُقامَ الفاعل. قلت: وفي هذا التخريجِ من التكلُّف ما لا يَخْفَى مع عَجْرَفَةِ ألفاظِه.
وقال الشيخ: والأقربُ في تخريج هذه القراءة الشاذَّة: (قُدِّرَ رِيُّهم منها تقديراً) فحُذِف المضافُ وهو الرِّيُّ، وأُقيم الضميرُ مُقامَه، فصار التقديرُ: قُدِّروا مِنْها، ثم اتُّسِع في الفعل فحُذِفَتْ (من) ووصَلَ الفعلُ إلى الضميرِ بنفسِه فصار: {قُدِّرُوْها} فلم يكن فيه إلاَّ حَذْفُ مضافٍ واتِّساعٌ في الفعل. قلت: وهذا مُنْتَزَعٌ من تفسيرِ كلامِ أبي حاتم.
{وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْسًا كَانَ مِزَاجُهَا زَنْجَبِيلًا (17)}
قوله: {زَنجَبِيلاً}: الزَّنجبيل: نَبْتٌ معروفٌ، وسُمِّيَتْ الكأسُ بذلك لوجودِ طَعْم الزَّنْجبيل فيها. والعربُ تَستَلِذُّه. وأنشد الزمخشريُّ للأعشى:
كأنَّ القُرُنْفُلَ والزَّنْجَبِيْ ** لَ باتا بفِيْها وأَرْياً مَشُورا

وأنشد للمسيَّب بن عَلَس:
وكأن طَعْمَ الزَّنْجبيلِ به ** إذا ذُقْتَه وسُلافةَ الخمرِ

و {عيناً} فيها من الوجوه ما تقدّم.
{عَيْنًا فِيهَا تُسَمَّى سَلْسَبِيلًا (18)}
قوله: {سَلْسَبِيلاً}: السَّلْسَبيل: ما سَهُل انحدارُه في الحَلْف. قال الزجاج: هو في اللغة صفةٌ لِما كان في غايةِ السَّلاسَة. وقال الزمخشري: يقال: شَرابٌ سَلْسَلٌ وسَلْسالٌ وسَلْسبيل، وقد زِيْدت الباءُ في التركيبِ حتى صارَتِ الكلمةُ خماسيَّةً، ودَلَّتْ على غايةِ السَّلاسَةِ. قال الشيخ: فإنْ كان عَنى أنَّه زِيْدت حقيقةً فليس بجيدٍ؛ لأنَّ الباءَ ليسَتْ من حروف الزيادةِ المعهودةِ في علمِ النحوِ، وإنْ عَنَى أنها حرفٌ جاء في سِنْخِ الكلمةِ، وليس في سَلْسَل ولا سَلْسال فَيَصِحُّ، ويكون مما اتَّفَقَ معناه، وكان مختلفاً في المادة. وقال ابن الأعرابي: لم أسمَعْ السَّلْسبيلَ إلاَّ في القرآن. وقال مكي: هو اسمٌ أعجميُّ نكرةٌ، فلذلك صُرِفَ.
ووزن سَلْسَبيل: فَعلليْل مثلَ (دَرْدَبيس). وقيل: فَعْفَليل؛ لأنَّ الفاءَ مكررةٌ. وقرأ طلحةُ {سَلْسَبيلَ} دونَ تنوينٍ ومُنِعَتْ من الصرف للعلميَّةِ والتأنيث؛ لأنها اسمٌ لعَيْنٍ بعينها، وعلى هذا فكيف صُرِفَتْ في قراءة العامَّةِ؟ فيُجاب: بأنُّه سُمِّيَتْ بذلك لا على جهة العَلَمِيَّة بل على جهة الإطلاقِ المجرَّدِ، أو يكونُ مِنْ بابِ تنوين {سلاسل} [الإنسان: 4] {قَوَارِيرَاْ} [الإنسان: 15] وقد تقدّم. وأغربُ ما قيل في هذا الحرف أنه مركبٌ من كلمَتَيْن: مِنْ فعلِ أمرٍ وفاعلٍ مستترٍ ومفعولٍ. والتقدير: سَلْ أنت سَبيلا إليها. قال الزمخشري: وقد عَزَوْا إلى عليٍّ رضي الله عنه أنَّ معناه: سَلْ سبيلاً إليها. قال: وهذا غيرُ مستقيمٍ على ظاهِره، إلاَّ أنْ يُرادَ أنَّ جملة قول القائلِ (سَلْ سبيلاً) جَعِلَتْ عَلَماً للعين، كما قيل: تأبَّط شَرَّاً وذَرَّى حبَّا. وسُمِّيت بذلك لأنه لا يشرب منها إلاَّ مَنْ سأل سبيلاً إليها بالعمل الصالِح، وهو مع استقامتِه في العربية تكلُّفٌ وابتداعٌ وعَزْوُه إلى مثلِ عليّ عليه السلام أَبْدَعُ. وفي شعرِ بعضِ المُحْدَثين:
سَلْ سبيلاً فيها إلى راحةِ النَّفْ ** سِ براحٍ كأنَّها سَلْسَبيلُ

قال الشيخ بعد تعجُّبه مِنْ هذا القول: وأَعْجَبُ مِنْ ذلك توجيهُ الزمخشريِّ له واشتغالُه بحكايتِه. قلت: ولو تأمَّل ما قاله الزمخشريُّ لم يَلُمْه، ولم يتعجَّبْ منه؛ لأنَّ الزمخشري هو الذي شَنَّعَ على هذا القول غاية التشنيع. وقال أبو البقاء: والسلسبيلُ كلمةٌ واحدةٌ. وفي قوله: كلمة واحدة. تلويحٌ وإيماءٌ إلى هذا الوجهِ المذكور.
{وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيمًا وَمُلْكًا كَبِيرًا (20)}
قوله: {ثَمَّ} هذا ظرفُ مكانٍ وهو مختصٌّ بالبُعْدِ. وفي انتصابه هنا وجهان، أظهرُهما: أنه منصوبٌ على الظرفِ. ومعفولُ الرؤيةِ غيرُ مذكورٍ؛ لأنَّ القصد: وإذا صَدَرَتْ منك رؤيةٌ في ذلك المكانِ رَأَيْتَ كيتَ وكيتَ، ف {رَأَيْتَ} الثاني جوابٌ ل {إذا}. وقال الفراء: (ثم) مفعولٌ به ل {رَأَيْتَ}. وقال الفراء أيضاً: {وإذا رَأَيْتَ} تقديره: (ما ثَمَّ)، ف (ما) مفعولٌ فحُذِفَتْ (ما) وقامت (ثم) مَقام (ما). قال الزمخشري تابعا لأبي إسحاق: ومَنْ قال: معناه (ما ثَمَّ) فقد أخطأ؛ لأنَّ (ثم) صلةٌ ل (ما)، ولا يجوزُ إسقاطُ الموصولِ وتَرْكُ الصلةِ. وفي هذا نظرٌ؛ لأنَّ الكوفيين يُجَوِّزُون مثلَ هذا، واستدلُّوا عليه بأبياتٍ وآياتٍ، تقدّم الكلامُ عليها مُسْتوفى في أوائل هذا الموضوع.
وقال ابن عطية: وثَمَّ ظرفٌ. والعاملُ فيه {رَأَيْتَ} أو معناه، والتقديرُ: رأيتَ ما ثَمَّ، فحُذِفَتْ ما. قال الشيخ: وهو فاسِدٌ؛ لأنَّه مِنْ حيثُ جَعَلَه معمولاً ل {رَأَيْتَ} لا يكونُ صلةً ل (ما)؛ لأنَّ العاملَ فيه إذ ذاك محذوفٌ أي: ما استقرَّ ثَمَّ. قلت: ويمكنُ أَنْ يُجاب عنه: بأنَّ قوله: أو معناه. هو القول بأنَّه صلةٌ لموصول، فيكونان وجهَيْن لا وجهاً واحداً، حتى يَلْزَمَهَ الفسادُ، ولولا ذلك لكان قوله: أو معناه. لا معنى له. ويعني بمعناه أي: معنى الفعلِ مِنْ حيث الجملة، وهو الاستقرار المقدَّرُ.
والعامَّةُ على فتحِ الثاءِ مِنْ (ثم) كما تقدّم. وقرأ حميد الأعرج بضمِّها على أنَّها العاطَفَةُ، وتكونُ قد عطفتْ {رأَيْتَ} الثاني على الأول، ويكون فعلُ الجوابِ محذوفاً، ويكونُ فعلُ الجوابِ المحذوفِ هو الناصبَ لقوله: {نعيماً}، والتقدير: وإذا صَدَرَ منك رؤيةٌ، ثم صَدَرَتْ رؤيةٌ أخرى رَأَيْتَ نعيماً ومُلْكاً. فَرَأَيْتَ هذا هو الجوابُ.
{عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُنْدُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبرق وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِنْ فِضَّةٍ وَسَقَاهُمْ رَبهمْ شَرَابًا طَهُورًا (21)}
قوله: {عَالِيَهُمْ}: قرأ نافعٌ وحمزةٌ بسكونِ الياءِ وكسرِ الهاء، والباقون بفتح الياءِ وضَمِّ الهاء. لَمَّا سَكَنَتِ الياءُ كُسِرَتْ الهاءُ، ولَمَّا تحركتْ ضُمَّت على ما تَقَرَّرَ في هاءِ الكنايةِ أولَ هذا الموضوعِ. فإمَّا قراءة نافعٍ وحمزةَ ففيها أوجهٌ، أظهرُها: أَنْ تكونَ خبراً مقدّماً. و{ثيابُ} مبتدأٌ مؤخرٌ، والثاني: أنَّ {عالِيْهم} مبتدأ و{ثيابُ} مرفوعٌ على جهةِ الفاعلية، وإنْ لم يعتمد الوصفُ، وهذا قول الأخفشِ.
والثالث: أنَّ {عالِيْهم} منصوبٌ، وإنما سُكِّن تخفيفاً، قاله أبو البقاء. وإذا كان منصوباً فسيأتي فيه أوجهٌ، وهي وارِدَة هنا؛ إلاَّ أنَّ تقديرَ الفتحةِ من المنقوصِ لا يجوزُ إلاَّ في ضرورةٍ أو شذوذٍ، وهذه القراءة متواترةٌ فلا ينبغي أَنْ يُقال به فيها.
وأمَّا قراءة مَنْ نَصَبَ ففيه أوجهٌ، أحدُها: أنَّه ظرفٌ خبراً مقدماً، و{ثيابُ} مبتدأٌ مؤخرٌ كأنه قيل: فوقَهم ثيابُ. قال أبو البقاء: لأنَّ عالِيَهم بمعنى فَوْقَهم. وقال ابن عطية: ويجوز في النصبِ أَنْ تكونَ على الظرف لأنَّه بمعنى فوقهم. قال الشيخ: وعالٍ وعالية اسمُ فاعلٍ، فيحتاج في إثبات كونِهما ظرفَيْن إلى أَنْ يكونَ منقولاً مِنْ كلامِ العرب: عالِيَك أو عاليتُك ثوبُ. قلت: قد وَرَدَتْ ألفاظٌ مِنْ صيغةِ أسماءِ الفاعِلِيْن ظروفاً نحو: خارجَ الدار وداخلَها وباطنَها وظاهرَها. تقول: جلَسْتُ خارج الدارِ، وكذلك البواقي فكذلك هذا.
الثاني: أنَّه حالٌ من الضمير في {عَلَيْهِمْ} [الإنسان: 19]. الثالث: أنه حالٌ مِنْ مفعولِ {حَسِبْتَهُمْ} [الإنسان: 19]. الرابع: أنه حالٌ مِنْ مضافٍ مقدرٍ، أي: رَأَيْتَ أهلَ نعيم ومُلكٍ كبير عالَيهم. ف {عاليَهم} حالٌ مِنْ (أهل) المقدرِ. ذكرَ هذه الأجهَ الثلاثةَ الزمخشريُّ فإنه قال: و{عاليَهم} بالنصبِ على أنَّه حالٌ من الضميرِ في {يَطوف عليهم} أو في {حَسِبْتَهم}، أي: يطوفُ عليهم وِلْدانٌ عالياً للمَطوفِ عليهم ثيابٌ، أو حَسِبْتَهم لؤلؤاً عاليَهم ثيابٌ. ويجوزُ أَنْ يراد: رأيت أهلَ نعيم. قال الشيخ: أمَّأ أَنْ يكونَ حالاً من الضمير في {حَسِبْتَهم} فإنه لا يعني إلاَّ ضمير المفعول، وهو لا يعودُ إلاَّ على {وِلدانٌ} ولذلك قدَّر {عاليَهم} بقوله: (عالياً لهم)، أي: للوِلْدان. وهذا لا يَصْلُحُ؛ لأنَّ الضمائر الآتية بعد ذلك تَدُلُّ على أنها للمَطوفِ عليهم مِنْ قوله: {وحُلُّوا} و{سَقاهم} و{إِنَّ هذا كَانَ لَكُمْ جَزَاءً} وفَكُّ الضمائر وَجَعْلُ هذا لذا، وهذا لذا، مع عدمِ الاحتياجِ والاضطرارِ إلى ذلك، لا يجوزُ. وأمَّا جَعْلُه حالاً مِنْ محذوفٍ وتقديرُه: أهلَ نعيم فلا حاجةَ إلى ادِّعاء الحَذْفِ مع صحةِ الكلامِ وبراعتِه دونَ تقديرِ ذلك المحذوفِ.
قلت: جَعْلُ أحَدِ الضمائر لشيءٍ والآخرِ لشيءٍ آخرَ لا يمنعُ صحةَ ذلك مع ما يميِّزُ عَوْدَ كلِّ واحدٍ إلى ما يليقُ به، وكذلك تقديرُ المحذوفِ غيرُ ممنوعٍ أيضاً، وإنْ كان الأحسنُ أَنْ تتفقَ الضمائرُ، وأن لا يُقَدَّرَ محذوفٌ، والزمخشريُّ إنما ذَكَرَ ذلك على سبيل التجويزِ، لا على أنَّه أَوْلى أو مساوٍ، فَيُرَدُّ عليه بما ذكره.
الخامس: أنه حالٌ مِنْ مفعول {لَقَّاهم}. السادس: أنه حال مِنْ مفعول {جَزاهُمْ} ذكرهما مكي. وعلى هذه الأوجهِ التي انتصبَ فيها على الحالِ يرتفعُ به {ثيابُ} على الفاعلية، ولا تَضُرُّ إضافتُه إلى معرفةٍ في وقوعِه حالاً؛ لأنَّ الإِضافةَ لفظيةٌ، كقوله تعالى: {عَارِضٌ مُّمْطِرُنَا} [الأحقاف: 24] وقوله:
يا رُبَّ غابِطِنا...

ولم يؤنَّثْ {عالياً} لأنَّ مرفوعَه غير حقيقيِّ التأنيثِ. السابع: أَنْ ينتصِبَ {عاليَهم} على الظرفيةِ، ويرتفع {ثيابُ} به على جهة الفاعلية. وهذا ماشٍ على قول الأخفش والكوفيين حيث يُعملون الظرفَ وعديلَه وإنْ لم يَعْتمد، كما تقدّم ذلك في الوصفِ. وإذا رُفعَ {عاليَهم} بالابتداء و{ثيابُ} على أنه فاعلٌ به كان مفرداً على بابه لوقوعِه موقعَ الفعلِ، وإذا جُعل خبراً مقدّماً كان مفرداً مُراداً به الجمعُ، فيكونُ كقوله تعالى: {فَقُطِعَ دَابِرُ القوم} [الأنعام: 45]، أي: أدبار، قاله مكي.
وقرأ ابن مسعود وزيد بن علي {عاليتُهم} مؤنثاً بالتاء مرفوعا. والأعمش وأبان عن عاصم كذلك، إلاَّ أنه منصوبٌ، وقد عَرَفْتَ الرفعَ والنصبَ ممَّا تقدّم، فلا حاجةَ لإِعادتهما. وقرأتْ عائشة رضي الله عنها {عَلِيَتْهم} فعلاً ماضياً متصلاً بتاء التأنيث الساكنة، و{ثيابُ} فاعلٌ به، وهي مقوِّيَةٌ للأوجه المذكورة في رفع {ثياب} بالصفةِ في قراءة الباقين كما تقدّم تفصيلُه.
وقرأ ابنُ سيرين ومجاهد وأبو حيوة وابن أبي عبلة وخلائق {عليهم}، جارَّاً ومجروراً، وإعرابه كإعرابِ {عاليَهم} ظرفاً في جوازِ كونِه خبراً مقدّماً، أو حالاً ممَّا تقدّم، وارتفاعُ {ثيابُ} به على التفصيلِ المذكورِ آنفاً.
وقرأ العامَّةُ {ثيابُ سُنْدُسٍ} بإضافةِ الثيابِ لِما بعدها. وأبو حيوةَ وابنُ أبي عبلةَ {ثيابٌ} منونةً {سُندُسٌ خُضْرٌ وَإِسْتَبرق} برفعِ الجميعِ، ف {سندسٌ} نعتٌ ل {ثيابٌ} لأنَّ السُّنْدسَ نوعٌ، و{خُضْرٌ} نعتٌ ل {سندس}؛ إذ السندسُ يكونُ أخضرَ وغيرَ أخضرَ، كما أنَّ الثيابَ يكونُ سُنْدُساً وغيرَه. و{إستبرق} نَسَقٌ على ما قبلَه، أي: وثياب استبرق.
واعلَمْ أنَّ القراء السبعةَ في {خُضْر وإستبرق} على أربع مراتبَ، الأولى: رَفْعُهما، لنافعٍ وحفصٍ فقط. الثانية: خَفْضُهما، للأخوَيْن فقط.
الثالثة: رَفْعُ الأولِ وخفضُ الثاني لأبي عمروٍ وابنِ عامرٍ فقط. الرابعةُ عكسُ الثالثةِ، لابنِ كثيرٍ وأبي بكرٍ فقط. فأمَّا القراءة الأولى: فإنَّ رَفْعَ {خُضْرٌ} على النعتِ ل ثياب، ورَفْعَ {إستبرق} نَسَقاً على الثياب، ولكن على حَذْفِ مضافٍ، أي: وثيابُ إستبرق. ومثلُه: (على زيدٍ ثوبُ خَزٍّ وكتَّانٌ) أي: وثوبُ كُتَّانٍ. وأمَّا القراءة الثانية فيكونُ جَرُّ {خُضْرٍ} على النعتِ لسُنْدسٍ. ثم اسْتُشْكِل على هذا وَصْفُ المفردِ بالجمعِ فقال مكي: هو اسمٌ للجمع. وقيل: هو جمعُ سُنْدُسَة، كتَمْر وتَمْرة، واسمُ الجنسِ وَصْفُه بالجمع سائغٌ فصيحٌ. قال تعالى: {وَيُنْشِىءُ السحاب الثقال} [الرعد: 12]. وإذا كانوا قد وَصَفوا المفردَ المُحَلَّى لكونِه مُراداً به الجنسُ بالجمعِ في قولهم: (أَهْلَكَ الناسَ الدِّينارُ الحُمْرُ والدِّرْهَمُ البيضُ)، وفي التنزيل: {أَوِ الطفل الذين} [النور: 31] فَلأَنْ يُوْجَدَ ذلك في أسماءِ الجموعِ أو أسماءِ الأجناسِ الفارقِ بينها وبين واحدِها تاءُ التأنيثِ بطريقِ الأَوْلى. وجَرُّ {إستبرق} نَسَقاً على {سندسٍ} لأنَّ المعنى: ثيابٌ مِنْ سُندسٍ وثيابٌ مِنْ إستبرق.
وأمَّا القراءة الثالثةُ فرَفْعُ {خُضْرٌ} نعتاً ل {ثيابٌ} وجَرُّ {إستبرق} نَسَقاً على {سُنْدُسٍ}، أي: ثيابٌ خضرٌ مِنْ سُندسٍ ومِنْ إستبرق، فعلى هذا يكون الإِستبرق أيضاً أخضرَ.
وأمَّا القراءة الرابعة فجَرُّ {خُضْرٍ} على أنه نعتٌ لسُنْدس، ورَفْعُ {إستبرق} على النَّسَقِ على {ثياب} بحَذْفِ مضافٍ، أي: وثيابُ إستبرق. وتقدّم الكلامُ على مادةِ السُّنْدُس والإِستبرق وما قيل فيهما في سورة الكهف.
وقرأ ابنُ مُحيصنٍ {وإستبرق} بفتحِ القافِ. ثم اضطرب النَّقْلُ عنه في الهمزة: فبعضُهم يَنْقُل عنه أنه قَطَعها، وبعضهم ينقُلُ عنه أنه وَصَلَها.
فقال الزمخشري: وقرئ: {وإسْتبرق} نصباً في موضعِ الجرِّ على مَنْعِ الصرفِ؛ لأنَّه أعجميٌّ وهو غَلَطٌ؛ لأنَّه نكرةٌ يَدْخُلُهُ حرفُ التعريف. تقول: (الإِستبرق) إلاَّ أَنْ يَزْعُمَ ابن مُحيصن أنه يُجْعَلُ عَلَماً لهذا الضَّرْبِ من الثيابِ. وقرئ: {واستبرق} بوصْل الهمزةِ والفتح، على أنَّه مُسَمَّى باسْتَفْعل من البَريق، ليس بصحيحٍ أيضاً؛ لأنَّه مُعَرَّب مشهورٌ تعريبه، وأنَّ أصلَه اسْتَبْرَه. وقال الشيخ: ودلَّ قوله: إلاَّ أَنْ يزعمَ ابنُ محيصن. وقوله بعدُ: وقرئ: {واسْتبرق} بوَصْلِ الألفِ والفتح أنَّ قراءة ابنِ محيصن هي بقَطْعِ الهمزةِ مع فتحِ القافِ. والمنقول عنه في كتبِ القراءات أنَّه قرأ بوَصْل الألفِ وفتح القافِ. قلت: قد سَبَقَ الزمخشريُّ إلى هذا مكيٌّ فقال: وقد قرأ ابنُ محيصن بغيرِ صَرْفٍ، وهو وهمٌ إنْ جعلَه اسماً لأنه نكرةٌ منصرفةٌ. وقيل: بل جَعَله فعلاً ماضياً مِنْ برق فهو جائزٌ في اللفظ، بعيدٌ في المعنى.
وقيل: إنَّه في الأصلِ فعلٌ ماضٍ على اسْتَفْعل مِنْ برق، فهو عربيٌّ من البريق، لمَّا سُمِّي به قُطِعَتْ ألفُه؛ لأنه ليس مِنْ أصلِ الأسماءِ أَنْ يدخلَها ألفُ الوصلِ، وإنما دَخَلَتْ في أسماءٍ معتلةٍ مُغَيَّرَةٍ عن أصلِها معدودةٍ لا يُقاسُ عليها. انتهى. فدلَّ قوله: قُطِعَتْ ألفُه. إلى آخرِه أنه قرأ بقطعِ الهمزةِ وفتحِ القافِ. ودلَّ قوله أولاً: وقيل: بل جعله فعلاً ماضياً مِنْ برق. أنه قرأ بوَصْلِ الألفِ؛ لأنَّه لا يُتَصَوَّرُ أَنْ يُحْكَمَ عليه بالفعليةِ غيرَ منقول إلى الأسماءِ، وبتَرْكِ ألفِه ألفَ قطع البتةَ، فهذا جَهْلٌ باللغةِ، فيكونُ قد رُوِي عنه قراءتان: قَطْعُ الألفِ ووَصْلُها. فظهر أنَّ الزمخشريَّ لم ينفَرِدْ بالنقل عن ابنِ محصين بقَطْع الهمزة.
وقال أبو حاتم في قراءة ابن محيصن: لا يجوز. والصوابُ أنه اسمُ جنسٍ لا ينبغي أَنْ يَحْمِلَ ضميراً، ويؤيِّد ذلك دخولُ المعرفةِ عليه. والثوابُ قَطْعُ الألفِ وإجراؤُه على قراءة الجماعةِ. قال الشيخ: ونقول: إنَّ ابن محيصن قارىءٌ جليلٌ مشهورٌ بمعرفةِ العربيةِ، وقد أَخَذَ عن أكابرِ العلماءِ فيُتَطَلَّبُ لقراءته وَجْهٌ، وذلك أنه يَجْعَلُ استفعل من البريق تقول: برق واسْتَبرق كعَجِبَ واستعجب، ولمَّا كان قوله: {خُضْر} يدل على الخُضْرة، وهي لَوْنُ ذلك السُّنْدُسِ، وكانت الخُضْرَةُ مِمَّا يكونُ فيها لشدتها دُهْمة وغَبَش أخبرَ أنَّ في ذلك بَريقاً وحُسْناً يُزيل غُبْشَتَه فاستبرق فعلٌ ماضٍ، والضميرُ فيه عائدٌ على السندسِ، أو على الأخضرِ الدالِّ عليه {خُضْر}. وهذا التخريجُ أَوْلَى مِنْ تَلْحين مَنْ يعرِفُ العربية وتوهيمِ ضابطٍ ثقةٍ. قلت: هذا هو الذي ذكره مكيٌّ كما حَكَيْتُه عنه، وهذه القراءة قد تقدّمتْ في سورة الكهف، وإنما أَعَدْتُ ذلك لزيادةِ هذه الفائدةِ.
قوله: {وحلوا} عطف على {ويَطوف}، عطف ماضياً لفظاً، مستقبلاً معنىً، وأَبْرَزه بلفظِ الماضي لتحقُّقه. وقال الزمخشري بعد سؤالٍ وجوابٍ مِنْ حيث المعنى: وما أحسنَ بالمِعْصَمِ أَنْ يكونَ فيه سِواران: سِوارٌ مِنْ ذهبٍ وسِوارٌ مِنْ فضةٍ، فناقَشَه الشيخ في قوله (بالمِعْصم) فقال: قوله بالمِعْصم: إمَّا أَنْ يكونَ مفعولَ (أَحْسن)، و(أَنْ يكونَ) بدلاً منه، وأمَّا (أنْ يكونَ) مفعولَ أَحْسن وقد فُصِلَ بينهما بالجارِّ والمجرور: فإنْ كان الأولَ فلا يجوزُ؛ لأنَّه لم تُعْهَدْ زيادةُ الباءِ في مفعولِ أَفْعَلِ التعجبِ. لا تقول: ما أحسنَ بزيدٍ تريدُ: (ما أحسن زيداً). وإن كان الثاني ففي مثلِ هذا الفصل خلافٌ، والمنقول عن بعضهِم لا يجوزُ، والمُوَلَّدُ مِنَّا ينبغي إذا تكلَّم أن يَتَحَرَّزَ في كلامِه ممَّا فيه خلافٌ. قلت: وأيُّ غَرَضٍ له في تتبُّعٍ كلامِ هذا الرجل، حتى في هذا الشيءِ اليسيرِ؟ على أنَّ الصحيحَ جوازُه، وهو المسموعُ من العربِ نثراً. قال عمروُ ابن معديكرب: (للَّهِ دَرُّ بني فلانٍ ما أشَدَّ في الهيجاءِ لقاءَها، وأَثْبَتَ في المَكْرُمات بقاءَها، وأحسنَ في اللَّزَبات عطاءَها) والتشاغلُ بغير هذا أَوْلى.
{إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ القرآن تَنْزِيلًا (23)}
قوله: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا}: يجوزُ أَنْ يكونَ {نحن} توكيداً لاسم (أن)، وأَنْ يكونَ فَصْلاً و{نَزَّلْنا} على هَذَيْن الوجهَيْن هو خبرُ (أن)، ويجوزُ أَنْ يكونَ {نحن} مبتدأً و{نَزَّلْنا} خبرُه، والجملة خبرُ (أن). وقال مكي: {نحنُ} في موضع نصبٍ على الصفةِ لاسم (أن)، لأنَّ المضمرَ يُوصَفُ بالمضمر؛ إذ هو بمعنى التأكيدِ لا بمعنى التَّحْلية، ولا يُوْصَفُ بالمُظْهَرِ؛ لأنه بمعنى التَّحْلية، والمضمرُ مُسْتَغْنٍ عن التَّحْلية؛ لأنَّه لم يُضْمَرْ إلاَّ بعد أن عُرِفَ تَحْلِيَتُه وعينُه فهو محتاجٌ إلى التأكيدِ لتأكُّدِ الخبرِ عنه. قلت: وهذه عبارةٌ غريبةٌ جدًّا؛ كيف يُجْعَلُ المضمرُ موصوفاً بمثلِه؟ ولا نعلمُ خلافاً في عدمِ جوازِ وصفِ المضمرِ إلاَّ ما نُقِل عن الكسائيِّ أنه جوَّزَ وَصْفَ ضميرِ الغائبِ بالمُظْهَرِ. تقول: (مَرَرْتُ به العاقل) على أَنْ يكونَ (العاقِل) نعتاً. أمَّا وَصْفُ ضميرِ غير الغائبِ بضميرٍ آخرَ فلا خلافَ في عَدَمِ جوازِه، ثم كلامُه يَؤُول إلى التأكيدِ فلا حاجةَ إلى العُدول عنه.
{فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا (24)}
قوله: {أَوْ كفوراً}: في {أو} هذه أوجهٌ، أحدُها: أنَّها على بابها، وهو قول سيبويهِ. قال أبو البقاء: وتُفيد في النهي المنعَ عن الجميع؛ لأنَّك إذا قلت في الإِباحة: (جالِسِ الحسنَ أو ابنَ سِيرين) كان التقديرُ: جالِسْ أحدَهما. فإذا نهى فقال: (لا تُكَلِّمْ زيداً أو عَمْراً) فالتقدير: لا تُكَلِّمْ أحدَها، فأيُّهما كلَّمَهُ كان أحدَهما، فيكونُ ممنوعاً منه، فكذلك في الآية، ويَؤُول المعنى: إلى تقديرِ: ولا تُطِعْ منهما آثِماً ولا كفوراً. وقال الزمخشريُّ: فإنْ قلتَ: معنى {أو}: ولا تُطِعْ أحدَهما، فهلا جيْءَ بالواو ليكونَ نَهْياً عن طاعتِهما جميعاً. قلت: لو قيل: (لا تُطِعْهما) لجازَ أَنْ يُطيعَ أحدَهما. وإذا قيل: لا تُطعْ أحدَهما عُلِم أنَّ الناهيَ عن طاعةِ أحدِهما، عن طاعتِهما جميعاً أَنْهَى، كما إذا نُهِيَ أَنْ يقول لأبَويْه: (أفّ) عُلِم أنه مَنْهِيٌّ عن ضَربهما على طريق الأَوْلَى. الثاني: أنَّها بمعنى (لا)، أي: لا تُطِعْ مَنْ أَثِم ولا مَنْ كَفَر. قال مكي: وهو قول الفراء، وهو بمعنى الإِباحة التي ذكَرْنا. الثالث: أنها بمعنى الواو، وقد تقدّم أنَّ ذلك قول الكوفيين وتقدّمتْ أدلَّتُهم.
والكَفور، وإنْ كان يَسْتَلْزِمُ الإِثمَ، إلاَّ أنه عطف لأحدِ شيئَيْن: إمَّا أَنْ يكونا شخصَين بعينهِما.
وفي التفسير:
الآثمُ عُتبةُ، والكَفورُ الوليدُ، وإمَّا لِما قاله الزمخشري قال: فإنْ قلتَ: كانوا كلُّهم كفرةً فما معنى القِسْمَةِ في قوله آثماً أو كفوراً؟ قلت: معناه لا تُطعْ منهم راكباً لِما هو إثمٌ داعياً لك إليه، أو فاعلاً لِما هو كفرٌ داعياً لك إليه؛ لأنهم إمَّا أَنْ يَدْعُوْه إلى مساعَدَتِهم على فعلٍ هو إثمٌ أو كفرٌ، أو غيرُ إثمٍ ولا كفرٍ، فنُهي أَنْ يساعدَهم على الاثنين دونَ الثالث.
{وَمِنَ اللَّيل فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلًا طَوِيلًا (26)}
قوله: {وَسَبِّحْهُ}: فيه دليلٌ على عَدَمِ ما قال بعضُ أهلِ علمِ المعاني والبيان: إنَّ الجمعَ بين الحاءِ والهاءِ مثلاً يُخْرِجُ الكلمةَ عن فصاحتِها وجَعَلُوا من ذلك قول الشاعر:
كريمٌ متى أَمْدَحْه أَمْدَحْه والوَرَى ** معي وإذا ما لُمْتُه لُمْتُه وَحْدي

البيت لأبي تمام. ويُمكن أَنْ يُفَرَّقَ بين ما أنشدوه وبين الآيةِ الكريمة بأن التكرارَ في البيتِ هو المُخْرِجُ له عن الفصاحة بخلافِ الآيةِ الكريمةِ فإنه لا تَكْرارَ فيها.
{إِنَّ هَؤُلَاءِ يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَرَاءَهُمْ يَوْمًا ثَقِيلًا (27)}
قوله: {يَوْماً}: مفعولٌ ب {يَذَرُون} لا ظرفٌ، ووَصْفُه بالثِّقَلِ على المجازِ؛ لأنه مِنْ صفات الأعيانِ لا المعاني. ووراء هنا بمعنى قُدَّام. قال مكي: سُمِّي وراء لتوارِيْه عنك. فظاهرُ هذا أنه حقيقةٌ، والصحيحُ أنه اسْتُعير ل قُدَّام. وقيل: بل هو على بابه، أي: وراءَ ظهورِهم لا يَعْبَؤُون به. وفيه تجوُّزٌ.
{نَحْنُ خَلَقْنَاهُمْ وَشَدَدْنَا أَسْرَهُمْ وَإِذَا شِئْنَا بَدَّلْنَا أَمْثَالَهُمْ تَبْدِيلًا (28)}
قوله: {وَإِذَا شِئْنَا}: قال الزمخشري: وحَقُّه أَنْ يجيءَ ب (أن) لا ب {إذا} كقوله: {وَإِن تَتَوَلَّوْاْ يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ} [محمد: 38] {إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ} [النساء: 133] يعني أنَّ {إذا} للمحقَّقِ، و(أن) للمحتملِ، وهو تعالى لم يَشَأْ ذلك. وجوابه أنَّ {إذا} قد تقع موقعَ (أن) كالعكسِ.
{وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ الله إِنَّ الله كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (30)}
قوله: {إِلاَّ أَن يَشَاءَ الله}: فيه وجهان، أحدُهما: أنَّه حالٌ، أي: إلاَّ في حالِ مشيئِة الله، قاله أبو البقاء. وفيه نظرٌ؛ لأنَّ هذا مقدَّرٌ بالمعرفة. إلاَّ أَنْ يريد تفسير المعنى. والثاني: أنه ظرفٌ. قال الزمخشري: فإنْ قلت: ما محلُّ {أَن يَشَاءَ الله}؟ قلت: النصبُ على الظرف، وأصلُه إلاَّ وقتَ مشيئةِ الله، وكذلك قرأ ابنُ مسعود {إِلاَّ مَا يشَاءُ الله} لأنَّ (ما) مع الفعلِ ك (أن). ورَدَّه الشيخُ: بأنه لا يقومُ مَقامَ الظرفِ إلاَّ المصدرُ الصريحُ. لو قلت: (أجيئُك أَنْ يَصيحَ الديكُ) أو (ما يصيحُ) لم يَجُزْ. قلت: وقد تقدّم الكلامُ معه في ذلك غيرَ مرةٍ.
وقرأ نافعٌ والكوفيون {تَشاؤُون} خطاباً لسائر الخَلْقِ أو على الالتفاتِ من الغَيْبة في قوله: {نحن خَلَقْناهم}. والباقون بالغَيبة جَرْياً على قوله: {خَلَقْناهم} وما بعدَه.
{يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (31)}
قوله: {والظالمين أَعَدَّ لَهُمْ}: منصوبٌ على الاشتغال بفعلٍ يُفَسِّرُه {أعدَّ لهم} من حيث المعنى لا من حيث اللفظ، تقديرُه: وعَذَّبَ الظالمين، ونحوُه: (زيداً مَرَرْتُ به)، أي: جاوَزْتُ ولابَسْتُ. وكان النصبُ هنا مُختاراً لِعطف جملة الاشتغالِ على جملة فعليةٍ قبلَها، وهي قوله: {يُدْخِلُ}. وقرأ الزبير وأبان بن عثمان وابن أبي عبلة {والظَّالمون} رَفْعاً على الابتداءِ، وما بعده الخبرُ، وهو مرجوحٌ لعدم المناسبةِ. وقرأ ابنُ مسعودٍ {وللظالمين} بلام الجرِّ. وفيه وجهان، المشهورُ: أَنْ يكونَ {للظَّالمين} متعلِّقاً ب {أَعَدَّ} بعده ويكونَ {لهم} تأكيداً. الثاني: وهو ضعيفٌ جدًّا أَنْ يكونَ مِنْ بابِ الاشغال، على أَنْ تُقَدِّر فعلاً مثلَ الظاهرِ، ويُجَرَّ الاسمُ بحرفِ جرٍّ. فنقول: (بزيدٍ مررتُ به)، أي: مررتُ بزيدٍ مررتُ به. والمعروفُ في لغة العربِ مذهبُ الجمهورِ، وهو إضمارُ فِعْلٍ ناصبٍ موافقٍ للفعل الظاهرِ في المعنى. فإنْ وَرَدَ نحوُ (بزيدٍ مَرَرْتُ به) عُدَّ من التوكيدِ، لا من الاشتغالِ. اهـ.