الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
إذا ثبت هذا فهم كانوا قليلي العقل غلبت الجسمية عليهم فلم يتسع عقلهم لمعبود لا يكون فوقهم ولا تحتهم، ولا يمينهم ولا يسارهم، ولا قدامهم ولا وراءهم، ولا يكون جسما من الأجسام، ولا شيئا يدخل في الأوهام، ورأوا الأجسام المناسبة للغالب فيهم مزينة بجواهر فودوها فاتخاذهم الأوثان كان مودة بينهم وبين الأوثان، ثم قال تعالى: {ثم يوم القيامة يكفر بعضكم ببعض} يعني يوم يزول عمى القلوب وتتبين الأمور للبيب والغفول يكفر بعضكم ببعض ويعلم فساد ما كان عليه فيقول العابد ما هذا معبودي، ويقول المعبود ما هؤلاء عبدتي ويلعن بعضكم بعضا، ويقول هذا لذاك أنت أوقعتني في العذاب حيث عبدتني، ويقول ذاك لهذا أنت أوقعتني فيه حيث أضللتني بعبادتك، ويريد كل واحد أن يبعد صاحبه باللعن ولا يتباعدون، بل هم مجتمعون في النار كما كانوا مجتمعين في هذه الدار كما قال تعالى: {ومأواكم النار} ثم قال تعالى: {وما لكم من ناصرين} يعني ليس تلك النار مثل ناركم التي أنجى الله منها إبراهيم ونصره فأنتم في النار ولا ناصر لكم، وهاهنا مسائل:المسألة الأولى:قال قبل هذا {وما لكم من دون الله من ولي ولا نصير} [العنكبوت: 22] على لفظ الواحد، وقال هاهنا على لفظ الجمع {وما لكم من ناصرين} والحكمة فيه أنهم لما أرادوا إحراق إبراهيم عليه السلام قالوا نحن ننصر آلهتنا كما حكى الله تعالى عنهم: {حرقوه وانصروا ءالهتكم} [الأنبياء: 68] فقال أنتم ادعيتم أن لهؤلاء ناصرين فما لكم ولهم، أي للأوثان وعبدتها من ناصرين، وأما هناك ما سبق منهم دعوى الناصرين فنفى الجنس بقوله: {ولا نصير}.المسألة الثانية:قال هناك {مالكم من دون الله من ولي ولا نصير} وما ذكر الولي هاهنا فنقول: قد بينا أن المراد بالولي الشفيع يعني ليس لكم شافع ولا نصير دافع، وهاهنا لما كان الخطاب دخل فيه الأوثان أي ما لكم كلكم لم يقل شفيع لأنهم كانوا معترفين أن كلهم ليس لهم شافع لأنهم كانوا يدعون أن آلهتهم شفعاء، كما قال تعالى عنهم: {هؤلاء شفعاؤنا} [يونس: 18] والشفيع لا يكون له شفيع، فما نفى عنهم الشفيع لعدم الحاجة إلى نفيه لاعترافهم به، وأما هناك فكان الكلام معهم وهم كانوا يدعون أن لأنفسهم شفعاء فنفى.المسألة الثالثة:قال هناك {ما لكم من دونه الله} فذكر على معنى الاستثناء فيفهم أن لهم ناصرا ووليا هو الله وليس لهم غيره ولي وناصر وقال هاهنا {ما لكم من ناصرين} من غير استثناء فنقول كان ذلك واردا على أنهم في الدنيا فقال لهم في الدنيا، لا تظنوا أنكم تعجزون الله فما لكم أحد ينصركم، بل الله تعالى ينصركم إن تبتم، فهو ناصر معد لكم متى أردتم استنصرتموه بالتوبة وهذا يوم القيامة كما قال تعالى: {ثم يوم القيامة يكفر بعضكم ببعض} وعدم الناصر عام لأن التوبة في ذلك اليوم لا تقبل فسواء تابوا أو لم يتوبوا لا ينصرهم الله ولا ناصر لهم غيره فلا ناصر لهم مطلقا.{فآمن له لوط وقال إني مهاجر إلى ربي إنه هو العزيز الحكيم (26)}.يعني لما رأى لوط معجزته آمن {وقال} إبراهيم {إنى مهاجر إلى ربى} أي إلى حيث أمرني بالتوجه إليه {إنه هو العزيز الحكيم} عزيز يمنع أعدائي عن إيذائي بعزته، وحكيم لا يأمرني إلا بما يوافق لكمال حكمته، وفي الآية مسائل:المسألة الأولى:قوله: {فئامن له لوط} أي بعد ما رأى منه المعجز القاهر ودرجة لوط كانت عالية، وبقاؤه إلى هذا الوقت مما ينقص من الدرجة ألا ترى أن أبا بكر لما قبل دين محمد صلى الله عليه وسلم وكان نير القلب قبله قبل الكل، من غير سماع تكلم الحصى ولا رؤية انشقاق القمر، فنقول إن لوطا لما رأى معجزته آمن برسالته، وإما بالوحدانية فآمن حيث سمع حسن مقالته، وإليه أشار بقوله: {فئامن له لوط} وما قال فآمن لوط.المسألة الثانية:ما تعلق قوله وقال: {إنى مهاجر إلى ربى} بما تقدم؟ فنقول بما بالغ إبراهيم في الإرشاد ولم يهتد قومه، وحصل اليأس الكلي حيث رأى القوم الآية الكبرى ولم يؤمنوا وجبت المهاجرة، لأن الهادي إذا هدى قومه ولم ينتفعوا فبقاؤه فيهم مفسدة لأنه إن دام على الإرشاد كان اشتغالا بما لا ينتفع به مع علمه فيصير كمن يقول للحجر صدق وهو عبث أو يسكت والسكوت دليل الرضا فيقال بأنه صار منا ورضي بأفعالنا، وإذا لم يبق للإقامة وجه وجبت المهاجرة.المسألة الثالثة:قال: {مهاجر إلى ربى} ولم يقل مهاجر إلى حيث أمرني ربي مع أن المهاجرة إلى الرب توهم الجهة، فنقول قوله: مهاجر إلى حيث أمرني ربي ليس في الإخلاص كقوله: {إلى ربى} لأن الملك إذا صدر منه أمر برواح الأجناد إلى الموضع الفلاني، ثم إن واحدا منهم سافر إليه لغرض {في} نفسه يصيبه فقد هاجر إلى حيث أمره الملك ولكن لا مخلصا لوجهه فقال: {مهاجر إلى ربى} يعني توجهي إلى الجهة المأمور بالهجرة إليها ليس طلبا للجهة إنما هو طلب لله.{ووهبنا له إسحاق ويعقوب وجعلنا في ذريته النبوة والكتاب وآتيناه أجره في الدنيا وإنه في الآخرة لمن الصالحين (27)}.قد ذكرنا في تفسير قوله تعالى: {لنكفرن عنهم سيئاتهم ولنجزينهم} [العنكبوت: 7] أن أثر رحمة الله في أمرين في الأمان من سوء العذاب والامتنان بحسن الثواب وهو واصل إلى المؤمن في الدار الآخرة قطعا بحكم وعد الله نفي العذاب عنه لنفيه الشرك وإثبات الثواب لإثباته الواحد، ولكن هذا ليس بواجب الحصول في الدنيا، فإن كثيرا ما يكون الكافر في رغد والمؤمن جائع في يومه متفكر في أمر غده لكنهما مطلوبان في الدنيا، أما دفع العذاب العاجل فلأنه ورد في دعاء النبي صلى الله عليه وسلم، قوله: {وقنا عذاب الفقر والنار} فعذاب الفقر إشارة إلى دفع العذاب العاجل، وأما الثواب العاجل ففي قوله: {ربنا ءاتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة} [البقرة: 201] إذا علم هذا فنقول إن إبراهيم عليه السلام لما أتى ببيان التوحيد أولا دفع الله عنه عذاب الدنيا وهو عذاب النار، ولما أتى به مرة بعد مرة مع إصرار القوم عى التكذيب وإضرارهم به بالتعذيب، أعطاه الجزاء الآخر، وهو الثواب العاجل وعدده عليه بقوله: {ووهبنا له إسحاق ويعقوب} وفي الآية لطيفة: وهي أن الله بدل جميع أحوال إبراهيم في الدنيا بأضدادها لما أراد القوم تعذيبه بالنار وكان وحيدا فريدا فبدل وحدته بالكثرة حتى ملأ الدنيا من ذريته، ولما كان أولا قومه وأقاربه القريبة ضالين مضلين من جملتهم آزر، بدل الله أقاربه بأقارب مهتدين هادين وهم ذريته الذين جعل الله فيهم النبوة والكتاب، وكان أولا لا جاه له ولا مال وهما غاية اللذة الدنيوية آتاه الله أجره من المال والجاه، فكثر ماله حتى كان له من المواشي ما علم الله عدده، حتى قيل إنه كان له اثنا عشر ألف كلب حارس بأطواق ذهب، وأما الجاه فصار بحيث يقرن الصلاة عليه بالصلاة على سائر الأنبياء إلى يوم القيامة، فصار معروفا بشيخ المرسلين بعد أن كان خاملا، حتى قال قائلهم: {سمعنا فتى يذكرهم يقال له إبراهيم} [الأنبياء: 60] وهذا الكلام لا يقال إلا في مجهول بين الناس، ثم إن الله تعالى قال: {وإنه في الآخرة لمن الصالحين} يعني ليس له هذا في الدنيا فحسب كما يكون لمن قدم له ثواب حسناته أو أملى له استدراجا ليكثر من سيئاته بل هذا له عجالة وله في الآخرة ثواب الدلالة والرسالة وهو كونه من الصالحين، فإن كون العبد صالحا أعلى مراتبه، لما بينا أن الصالح هو الباقي على ما ينبغي، يقال الطعام بعد صالح، أي هو باق على ما ينبغي، ومن بقي على ما ينبغي لا يكون في عذاب، ويكون له كل ما يريد من حسن ثواب وفي الآية مسألتان:المسألة الأولى:أن إسماعيل كان من أولاده الصالحين، وكان قد أسلم لأمر الله بالذبح وانقاد لحكم الله، فلم لم يذكر؟ فيقال هو مذكور في قوله: {وجعلنا في ذريته النبوة} ولكن لم يصرح باسمه لأنه كان غرضه تبيين فضله عليه بهبة الأولاد والأحفاد، فذكر من الأولاد واحدا وهو الأكبر، ومن الأحفاد واحدا وهو الأظهر كما يقول القائل إن السلطان في خدمته الملوك والأمراء الملك الفلاني والأمير الفلاني ولا يعدد الكل لأن ذكر ذلك الواحد لبيان الجنس لا لخصوصيته ولو ذكر غيره لفهم منه التعديد واستيعاب الكل بالذكر، فيظن أنه ليس معه غير المذكورين.المسألة الثانية:أن الله تعالى جعل في ذريته النبوة إجابة لدعائه والوالد يستحب منه أن يسوي بين ولديه، فكيف صارت النبوة في أولاد إسحاق أكثر من النبوة في أولاد إسماعيل؟ فنقول: الله تعالى قسم الزمان من وقت إبراهيم إلى القيامة قسمين والناس أجمعين، فالقسم الأول من الزمان بعث الله فيه أنبياء فيهم فضائل جمة وجاؤا تترى واحدا بعد واحد، ومجتمعين في عصر واحد كلهم من ورثة إسحاق عليه السلام، ثم في القسم الثاني من الزمان أخرج من ذرية ولده الآخر وهو إسماعيل واحدا جمع فيه ما كان فيهم وأرسله إلى كافة الخلق وهو محمد صلى الله عليه وسلم وجعله خاتم النبيين، وقد دام الخلق على دين أولاد إسحاق أكثر من أربعة آلاف سنة فلا يبعد أن يبقى الخلق على دين ذرية إسماعيل مثل ذلك المقدار. اهـ.
|