الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
وادعاء أن العبد مجبور لا إرادة له ضروري السقوط عند عامة العقلاء.ومن أعظم الضروريات الدالة عليه أن كل عاقل يعلم أن بين الحركة الاختيارية والحركة الاضطرارية، كحركة المرتعش فرقًا ضروريًا، لا ينكره عاقل.وأنك لو ضربت من يدعى أن الخلق مجبورون، وفقأت عينه مثلًا، وقتلت ولده واعتذرت له بالجبر، فقلت له: أنا مجبور ولا إرادة لي في هذا السوء الذي فعلته بك، بل هو فعل الله، وأنا لا دخل فيه فإنه لا يقبل منك هذه الدعوى بلا شك.بل يبالغ في إرادة الانتقام منك قائلًا:إن هذا بإرادتك ومشيئتك.ومن أعظم الأدلة القطعية الدالة على بطلان مذهب القدرية، وأن العبد لا يستقل بأفعاله دون قدرة الله ومشيئته، أنه لا يمكن أحدًا أن ينكر علم الله بكل شيء، قبل وقوعه والآيات والأحاديث الدالة على هذا لا ينكرها إلا مكابر.وسبق علم الله بما يقع من العبد قبل وقوعه، برهان قاطع على بطلان تلك الدعوى.وإيضاح ذلك أنك لو قلت للقدري: إذا كان علم الله في سابق أزله تعلق بأنك تقع منك السرقة أو الزنا في محل كذا في وقت كذا، وأردت أنت بإرادتك المستقلة في زعمك دون إرادة الله أن لا تفعل تلك السرقة أو الزنا الذي سبق بعلم الله وقوعه، فهل يمكنك أن تستقل بذلك؟ وتُصيِّر علم الله جهلًا، بحيث لا يقع ما سبق في علمه وقوعه في وقته المحدد له؟والجواب بلا شك: هو أن ذلك لا يمكن بحال كما قال تعالى: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلاَّ أَن يَشَاءَ الله} [الإنسان: 30]، وقال الله تعالى: {قُلْ فَلِلَّهِ الحجة البالغة فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِين} [الأنعام: 149]. ولا إشكال البتة في أن علم الله يخلق للعبد قدرة وإرادة يقدر بها على الفعل والترك، ثم يصرف الله بقدرته وإرادته قدرة العبد وإرادته إلى ما سبق به علمه فيأتيه العبد طائعًا مختارًا غير مقهور ولا يجور، وغير مستقل به دون قدرة الله وإرادته كما قال تعالى: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلاَّ أَن يَشَاءَ الله} [الإنسان: 30].والمناظرة التي ذكرها بعضهم، بين أبي إسحاق الإسفراييني وعبد الجبار المعتزلي توضح هذا.وهي أن عبد الجبال قال: سبحان من تنزه عن الفحشاء يعني أن السرقة والزنا ليسا بمشيئة الله، لأنه في زعمه أنزه من أن تكون هذه الرذائل بمشيئته.فقال أبو إسحاق: كلمة حق أريد بها باطل.ثم قال: سبحان من لم يقع في ملكه إلا ما يشاء.فقال عبد الجبار: أتراه يشاؤه ويعاقبني عليه.فقال أبو إسحاق: أتراك تفعله جبرًا عليه، أأنت الرب وهو العبد؟فقال عبد الجبار: أرأيت إن دعاني إلى الهدى، وقضى علي بالرديء، دعاني وسد الباب دوني؟ أتراه أحسن أم أساء؟فقال أبو إسحاق: أرى أن هذا الذي منعك إن كان حقًا واجبًا لك عليه فقد ظلمك وقد أساء، سبحانه وتعالى عن ذلك علوًا كبيرًا، وإن كان ملكه المحض فإن أعطاك ففضل، وإن منعك فعدل، فبهت عبد الجبار، وقال الحاضرون: والله ما لهذا جواب.ومضمون جواب أبي إسحاق هذا الذي أفحم به عبد الجبار، هو معنى قوله تعالى: {قُلْ فَلِلَّهِ الحجة البالغة فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِين} [الأنعام: 149].وذكر بعضهم أن عمرو بن عبيد جاءه أعرابي فشكا إليه أن دابته سرقت وطلب منه أن يدعو الله ليردها إليه.فقال عمرو ما معناه: اللهم إنها سرقت ولم ترد سرقتها، لأنك أنزه وأجل من أن تدبر هذا الخنا.فقال الأعرابي: ناشدتك الله يا هذا، إلا ما كففت عني من دعائك هذا الخبيث، إن كانت سرقت ولم يرد سرقتها فقد يريد ردها ولا ترد، ولا ثقة لي برب، يقع في ملكه ما لا يشاؤه فألقمه حجرًا.وقد ذكرنا هذه المسألة في كتابنا دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب في الكلام عن آية الأنعام المذكورة في هذا البحث، وفي سورة الشمس في الكلام عن قوله تعالى: {فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا} [الشمس: 8].{أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ (21)}.أم هنا تتضمن معنى استفهام الإنكار، يعني جل وعلا أن هذا الذي يزعم الكفار من أنهم على حق في عبادتهم الأوثان، وجعلهم الملائكة بنات الله، لا دليل لهم عليه. ولذا أنكر أن يكون آتاهم كتابًا يحل فيه ذلك وأن يكونوا مستمسكين في ذلك بكتاب من الله، فأنكر عليهم هذا هنا إنكارًا دالًا على النفي للتمسك بالكتاب المذكور، مع التوبيخ والتقريع.وما تضمنته هذه الآية الكريمة، من أن كفرهم المذكور لم يكن عن هدى من الله، ولا كتاب أنزله الله بذلك، جاء موضحًا في آيات كثيرة كقوله تعالى في سورة فاطر {قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكَاءَكُمُ الذين تَدْعُونَ مِن دُونِ الله أَرُونِي مَاذَا خَلَقُواْ مِنَ الأرض أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السماوات أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا فَهُمْ على بَيِّنَةٍ مِّنْهُ} [فاطر: 40] الآية.وقوله تعالى في الأحقاف {قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِ الله أَرُونِي مَاذَا خَلَقُواْ مِنَ الأرض أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السماوات ائتوني بِكِتَابٍ مِّن قَبْلِ هاذآ أَوْ أَثَارَةٍ مِّنْ عِلْمٍ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} [الأحقاف: 4].وقوله تعالى في الروم: {أَمْ أَنزَلْنَا عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِمَا كَانُواْ بِهِ يُشْرِكُونَ} [الروم: 35].وقوله تعالى في الصافات: {أَمْ لَكُمْ سُلْطَانٌ مُّبِينٌ فَأْتُواْ بِكِتَابِكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} [الصافات: 156- 157].وقوله تعالى في النمل: {أَمَّن يَبْدَأُ الخلق ثُمَّ يُعيدُهُ وَمَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السماء والأرض أإله مَّعَ الله قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} [النمل: 64].وقوله تعالى في الحج ولقمان: {ومِنَ الناس مَن يُجَادِلُ فِي الله بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلاَ هُدًى وَلاَ كِتَابٍ مُّنِيرٍ} [الحج: 8].وقوله تعالى في الأنعام: {هَلْ عِندَكُم مِّنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَآ إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظن وَإِنْ أَنتُمْ إَلاَّ تَخْرُصُونَ} [الأنعام: 148].قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ مَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إِلاَّ قال مُتْرَفُوهَآ إِنَّا وَجَدْنَآ آبَاءَنَا على أُمَّةٍ وَإِنَّا على آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ قُلْ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بأهدى مِمَّا وَجَدتُّمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ}.وقد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة قد أفلح المؤمنون، في الكلام على قوله تعالى: {ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَى كُلَّ مَا جَاءَ أُمَّةً رَّسُولُهَا كَذَّبُوهُ} [المؤمنون: 44] الآية.وفي سورة الأنعام في الكلام على قوله تعالى: {وكذلك جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجَرِمِيهَا} [الأنعام: 123]، وقوله تعالى: {قُلْ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بأهدى مِمَّا وَجَدتُّمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ} [الزخرف: 24].قرأه نافع وابن كثير وأبو عمرو وحمزة والكسائي وشعبة عن عاصم: قُلْ أو لو جئتكم بضم القاف وسكون اللام بصيغة الأمر.وقرأه ابن عامر وحفص عن عاصم، قال أو لو جئتكم بفتح القاف واللام بينهما ألف بصيغة الفعل الماضي.فعلى قراءة الجمهور فالمعنى قل لهم يا نبي الله أتقتدون بآبائكم في الكفر والضلال، ولو جئتكم بأهدى، أي بدين أهدى مما وجدتم عليه آبائكم، وصيغة التفضيل هنا لمطلق الوصف لأن آباءهم لا شيء عندهم من الهداية أصلًا.وعلى قراءة ابن عامر وحفص: فالمعنى قال هو: أي رسول الله صلى الله عليه وسلم.وقد أوضحنا هذا المعنى بشواهده العربية مرارًا في هذا الكتاب المبارك.وما تضمنته هذه الآية الكريمة من تسفيه رأي الكفار وبيان شدة ضلالهم في تقليدهم آباءهم هذا التقليد الأعمى، جاء موضحًا في آيات كثيرة كقوله تعالى في البقرة: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتبعوا مَآ أَنزَلَ الله قالواْ بَلْ نَتَّبِعُ مَآ أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَآ أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلاَ يَهْتَدُونَ} [البقرة: 170]، وكقوله تعالى في المائدة: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ إلى مَآ أَنزَلَ الله وَإِلَى الرسول قالواْ حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَآ أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلاَ يَهْتَدُونَ} [المائدة: 104].وأوضح تعالى في آية لقمان أن ما وجدوا عليه آباءهم من الكفر والضلال طريق من طرق الشيطان يدعوهم بسلوكها إلى عذاب السعير، وذلك في قوله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتبعوا مَآ أَنزَلَ الله قالواْ بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ الشيطان يَدْعُوهُمْ إلى عَذَابِ السعير} [لقمان: 21] كقوله تعالى: {إِنَّهُمْ أَلْفَوْاْ آبَاءَهُمْ ضَآلِّينَ فَهُمْ على آثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ} [الصافات: 69- 70]، وقوله تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَآ إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِن قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ إِذْ قال لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هذه التماثيل التي أَنتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ قالواْ وَجَدْنَآ آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ قال لَقَدْ كُنتُمْ أَنتُمْ وَآبَآؤُكُمْ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ} [الأنبياء: 51- 54] والآيات بمثل ذلك كثيرة. اهـ.
أي مسؤول عما سبق منك من التكذيب الذي هو معلوم للسائِل.{وَقالوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ مَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ (20)}.عطف على جملة {ولئن سألتهم مَن خلق السماوات والأرض ليقولنّ خلقهن العزيز العليم} [الزخرف: 9]، فإنها استدلال على وَحدانية الله تعالى وعلى أن معبوداتهم غيرُ أهل لأن تُعْبَد.فحكي هنا ما استظهروه من معاذيرهم عند نهوض الحجة عليهم يرومون بها إفحام النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين فيقولون: لو شاء الله ما عبَدْنا الأصنام، أي لو أن الله لا يحب أن نعبدها لكان الله صرفنا عن أن نعبدها، وتوهموا أن هذا قاطع لجدال النبي صلى الله عليه وسلم لهم لأنهم سمعوا من دينه أن الله هو المتصرف في الحوادث فتأولوه على غير المراد منه.فضمير الغيبة في {ما عبدناهم} عائد إلى معلوم من المقام ومن ذكر فعل العبادة لأنهم كانوا يعبدون الأصنام وهم الغالب، وأقوام منهم يعبدون الجنّ قال تعالى: {بل كانوا يعبدون الجنّ} [سبأ: 41].قال ابن مسعود: كان نفر من العرب يعبدون الجنّ، وأقوام يعبدون الملائكة مثل بني مُلَيْح بضم الميم وفتح اللام وبحاء مهملة وهم حيّ من خزاعة.فضمير جمع المذكر تغليب وليس عائدًا إلى الملائكة لأنهم كانوا يزعمون الملائكة إناثًا فلو أرادوا الملائكة لقالوا ما عبدناها أو ما عبدناهنّ.وهذا هو الوجه في معنى الآية.ومثله مروي عن مجاهد وابن جريج واقتصر عليه الطبري وابن عطية، ومن المفسرين من جعل معاد الضمير {الملائكة} [الزخرف: 19] ولعلهم حملهم على ذلك وقوع هذا الكلام عقب حكاية قولهم في الملائكة: إنهم إناث وليس اقتران كلام بكلام بموجب اتحاد محمَليْهما.وعلى هذا التفسير درج صاحب (الكشاف) وهو بعيد من اللّفظ لتذكير الضمير كما علمت، ومن الواقع لأن العرب لم يعبد منهم الملائكة إلا طوائف قليلة عبدوا الجن والملائكة مع الأصنام وليست هي الديانة العامة للعرب.وهذه المقالة مثارها تخليط العامة والدهماء من عهد الجاهلية بينَ المشيئة والإرادة، وبين الرضى والمحبة، فالعرب كانوا يقولون: شاءَ الله وإن شاء الله، وقال طرفة:
|