الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
هذه أخبار أخبرنا بها رسول الله صلى الله عليه وسلم. إذن لا توجد قضية عقدية تقف مستعصية أمام عقول المسلمين خاصة. أن البعض قد يقول: إن الحق سبحانه قد قال: {إِذْ قَالَ الله ياعيسى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الذين كَفَرُواْ} [آل عمران: 55]وقد شرحنا من قبل في خواطرنا عن سورة آل عمران كل الشرح لهذه المسألة. قلنا: إن علينا أن ننتبه إلى واو العطف بين متوفيك ورافعك.ومن قال إن واو العطف تقتضي الترتيب؟ إن واو العطف تقتضي الجمع فقط كقولنا: جاءني زيد وعمرو، هذا يعني أن زيدًا جاء مع عمرو. أو ان زيدًا جاء أولًا، أو أن عمرًا جاء أولًا وتبعه زيد، فالواو لا تقتضي الترتيب، وإنما مقتضاها الجمع فقط.لكن إن قلنا جاءني زيد فعمرو فزيد هو الذي جاء أولًا وتبعه عمرو؛ لأن الفاء تقتضي الترتيب، أما الواو فتأتي لمطلق الجمع ولا تتعلق بكيفية الجمع، وسبحانه قال: {إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ} هذا الضرب من الجمع لايدل على أن التوفي قد تم قبل الرفع، ودليلنا أن الحق سبحانه أنزل في القرآن آيات تدل على مثل هذا، كقوله الحق: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النبيين مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِن نُّوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ} [الأحزاب: 7]فسبحانه أخذ الميثاق من محمد صلى الله عليه وسلم وجمع معه سيدنا نوحًا وإبراهيم، فهل هذا الجمع كان قائمًا على الترتيب؟ لا؛ لأن نوحًا متقدم جدًا في الموكب الرسالي وسبق سيدنا رسول الله بسنوات طويلة ويفصل بينهما رسل كثيرون. إذن فالواو لا تقتضي الترتيب في الجمع. ولماذا جاء الحق بأمر الوفاة مع أمر الرفع؟ جاء الحق بذلك ليشعر عيسى أن الوفاة أمر مقطوع به، لكن الرفع مجرد عملية مرحلية.أو جاء قوله الحق: {إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ}؛ لأن الإنسان المخلوق لله مكون ومركب من مادة وفي داخلها الروح، وعندما يريد الحق أن ينهي حياة إنسان ما، فهو يقبضه بدون سبب وبدون نقض في البينة، ويموت حتف أنفه، أما إذا ما ضرب إنسان إنسانًا ضربة عنيفة على رأسه فالمضروب أيضًا يموت، لأن الروح لا تحل في جسم به عطب شديد.إذن فالحق أوضح لعيسى: أنا آخذك إليّ وأرفعك متوفيًا وليس بجسدك أَيُّ نقض لبنيتك أو هدم لها أو لبعضها، بل آخذك كاملًا. فـ {متوفيك} تعني الأخذ كاملًا دون نقض للبنية بالقتل.ونحن- كما عرفنا من قبل- نفرق بين القتل والموت. فالموت هو أن تُقبض الروح حتف الأنف، أما القتل فهو هدم للبنية فتزهق الروح، والدليل على ذلك أن الحق في كتابه الكريم قال: {أَفإِنْ مَّاتَ أَوْ قُتِلَ} [آل عمران: 144]إذن فحين قال بنو إسرائيل: إنهم قتلوا عيسى ابن مريم كذبهم الحق وقال: {وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ}. ورفعه الله إليه كاملًا، وسبحانه وتعالى يقول: {وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ ولكن شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الذين اختلفوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ اتباع الظن وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا}. ويوضح الحق سبحانه وتعالى: لم يتيقنوا أنهم قتلوا عيسى ابن مريم، ولكنهم شكوا فيمن قُتل، فلم يعرف المتربصون لقتله أقتلوا عيسى أو تطيانوس أو سرخس؟والحق سبحانه جاء هنا بنسبتين متقابلتين، فبعد أن نفى سبحانه نبأ مقتل عيسى ابن مريم قال: {وَإِنَّ الذين اختلفوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ اتباع الظن}. والنسبة الأولى المذكورة هنا هي الشك، وهو نسبة يتساوى فيها الأمران. والنسبة الثانية هي اتباعهم للظن، وهو نسبة راجحة. لقد بدأ الأمر بالنسبة إليهم شكًا ثم انقلب ظنًا.وينهي الحق ذلك بعلم يقيني {وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا} وسبحانه ينفي بذلك انهم قتلوه يقينًا، واليقين- كما نعلم- هو الأمر الثابت المعقود في الواقع والأعماق بحيث لا يطفو إلى الذهن ليناقش من جديد أو يتغير، وله مراحل هي: مرحلة العلم، واسمها علم اليقين، ومرحلة العين، واسمها عين اليقين، ومرحلة الحقيقة، واسمها حق اليقين.وعندما يخبرنا واحد من الناس أن جزءا من نيويورك اسمه مانهاتن. وأن مانهاتن هذه هي جزيرة يصل تعداد سكانها إلى عشرة ملايين نسمة، وفيها ناطحات سحاب، وجاء هذا الخبر ممن لا نعرف عنه الكذب فيسمعه من لم يَر نيويورك، فيصير مضمون الخبر عنده علمًا متيقنًا؛ لأن الذي أخبر به موثوق به. وإن جاء آخر ووجه للسامع عن نيويورك دعوة لزيارتها ولبى السامع الدعوة وذهب إلى نيويورك، هنا تحول الخبر من علم يقين إلى عين اليقين. وإن جاء ثالث وصحب السامع إلى قلب نيويورك وطاف به في كل شوارعها ومبانيها، فهذا هو حق اليقين.وأسمى أنواع اليقين هو حق اليقين، وقبلها عين اليقين، وقبل عين اليقين علم اليقين.وحينما عرض سبحانه المسألة قال: {كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ * ثُمَّ كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ * كَلاَّ لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ اليقين * لَتَرَوُنَّ الجحيم * ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ اليقين} [التكاثر: 3- 7]هو سبحانه يعطينا علم اليقين، ويصدقه المؤمنون بهذا العلم قبل أن يروه، وسيرى المؤمنون وهم على الصراط النارَ وذلك عين اليقين. أما مسألة دخول الذين يرون الجحيم إليها فأمر سكت عنه الحق؛ لأن هناك من يدخل الجنة ولا يدخل النار، وهناك من يدخل النار ولا يدخل الجنة. والكافرون بالله هم الذين سيرون الجحيم حق اليقين. ويأتي حق اليقين في موضع آخر من القرآن الكريم: {وَأَمَّا إِن كَانَ مِنَ المكذبين الضآلين * فَنُزُلٌ مِّنْ حَمِيمٍ * وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ * إِنَّ هذا لَهُوَ حَقُّ اليقين} [الواقعة: 92- 95]فكل مكذب ضال سينزل إلى الحميم ويصلى الجحيم ويعاني من عذابها حق اليقين. إذن فقوله الحق عن مسألة قتل عيسى ابن مريم: {وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا} يصدقه الذين لم يشاهدوا الحادث، تصديق علم يقين لأن الله هو القائل. والذين رأوا الحادث عرفوا أنهم لم يقتلوه ولكنهم شكوا في ذلك. وأما من باشر عملية القتل لإنسان غير عيسى عليه السلام فهو الذي عرف حقيقة اليقين. والذي حدث هو ما يلي: {بَل رَّفَعَهُ الله...}لقد رفعه العزيز الذي لا يغلبه أحد على الإطلاق، فهو القوي الشديد الذي لا ينال منه أحد، فإذا كانوا قد أرادوا قتل رسوله عيسى ابن مريم، فالله غالب على أمره، وهو العزيز بحكمة. اهـ.
ويؤيد هذا التأويل ما روى معاوية بن صالح عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: وما قتلوه يقينًا يعني ما قتلوه ظنهم يقينًا {وَكَانَ الله عَزِيزًا حَكِيمًا} أي قويًا بالنقمة من اليهود فسلط عليه طغرى بن اطسيانوس الرومي فقتل منهم مقتلة عظيمة {حَكِيمًا} حكم عليهم (باللعنة والغضب). اهـ.
|