غزوة بني قينقاع
وكان بنو قينقاع لما انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم من بدر وقف بسوق بني قينقاع في بعض الأيام فوعظهم وذكرهم ما يعرفون من أمره في كتابهم وحذرهم ما أصاب قريشاً من البطشة فأساءوا الرد وقالوا: لا يغرنك أنك لقيت قوماً لا يعرفون الحرب فأصبحت منهم! والله لئن حاربتنا لتعلمن أنا نحن الناس. فانزل الله تعالى: " وإما تخافن من قوم خيانة فانبذ إليهم على سواء ". وقيل بل قتل مسلم يهوديًا بسوقهم في حق فثاروا على المسلمين ونقضوا العهد ونزلت الآية. فسار إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم واستعمل على المدينة بشير بن عبد المنذر وقيل أبا لبابة وكانوا في طرف المدينة في سبعمائة مقاتل منهم ثلاثمائة دارع. ولم يكن لهم زرع ولا نخل إنما كانوا تجاراً وصاغة يعملون بأموالهم وهم قوم عبد الله بن سلام. فحصرهم عليه السلام خمس عشرة ليلة لا يكلم أحداً منهم حتى نزلوا على حكمة فكتفهم ليقتلوا فشفع فيهم عبد الله بن أًبَي بن سلول وألح في الرغنة حتى حقن له رسول الله صلى الله عليه وسلم دماءهم. ثم أمر بإجلائهم وأخذ ما كان لهم من سلاح وضياع. وأمر عَبادة بن الصامت فمضى بهم إلى ظاهر ديارهم ولحقوا بخيبر. وأخذ رسول الله الخمس من الغنائم وهو أول خمس أخذه ثم انصرف إلى المدينة وحضر الأضحى فصلى بالناس في الصحراء وذبح بيده شاتين ويقال أنهما أول أضحيته صلى الله عليه وسلم. سريه زيد بن حارثة إلى قرده وكانت قريش من بعد بدر قد تخوَفوا من اعتراض المسلمين عِيرَهم في طريق الشام فصاروا يسلكون طريق العراق. وخرج منهم تجار فيهم أبو سفيان بن حرب وصفوان بن أمية واستجاروا بفرات بن حيان بن بكر بن وائل فخرج بهم في الشتاء وسلك بهم على طريق العراق. وانتهى خبر العير إلى النبي صلى الله عليه وسلم وما فيها من المال وآنية الفضة فبعث زيد بن حيان العِجْليّ أسيراً فتعوذ بالإسلام وأسلم. وكان خمس هذه الغنيمة عشرين ألفأ. قتل ابي الحقيق كان سلام بن أبي الحُقَيْقِ هذا من يهود خيبر وكنيته أبو رافع. وكان يؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه ويُحَزًبُ عليهم الأحزاب مثلاً وقريباً من كعب بنِ الأشرف. وكان الأوس والخزرج يتصاولان تصاول الفحلين في طاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم والذَبّ عنه والنيل من أعدائه لا يفعل أحد القبيلتين شيئاً إلا فعل الآخرون مثله. وكان الأوس قد قتلوا كعب بن الأشرف. كما ذكرناه فاستأذن الخزرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في قتل ابن أبي الحقيق نظير ابن الأشرف في الكفر والعداوة. فأذن لهم فخرج إليهم من الخزرج ثم من بني سلمة ثمانية نفر منهم: عبد الله بن عقيل ومُسْعر بن سِنان وأبو قَتَادةَ والحرث بن رَبَعي الخزاعي من حلفائهم في آخرين. وأمر عليهم عبد الله بن عقيل ونهاهم أن يقتلوا وليداً أو إمرأة وخرجوا في منتصف جمادى الآخرة من سنة ثلاث فقدموا خيبر وأتوا دار ابن أبي الحقيق في علية له بعد أن انصرف عنه عميرة ونام وقد أغلقوا الأبواب بعد أن أتموا كلما عليهم ونادوه ليعرفوا مكانه بصوته. ثم تعاوروه بسيوفهم حتى قتلوه وخرجوا من القصر وأقاموا ظاهرة حتى قام الناعي على سور القصر فاستيقنوا موته وذهبوا إلى رسول صلى الله عليه وسلم بالخبر. وكان أحدهم قد سقط من دَرَج العلِّيه فأصابه كسر في ساقه فمسح عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فبرئت. غزوة أحد وكانت قريش بعد واقعة بدر قد توامروا وطلبوا من أصحاب العير أن يعينوهم بالمال ليتجهزوا به لحرب رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعانوهم وخرجت قريش بأحابيشها وحلفائها. وذلك في شوال من سنة ثلاث واحتملوا الظعن إلتماساً للحفيظة وأن لا يَفِروا وأقبلوا حتى نزلوا ذا الحُلَيْفَةِ قرب أُحُد ببطن السَبْخَةِ مقابل المدينة على شفير واد هناك. وذلك في رابع شوال وكانوا في ثلاثة آلاف: منهم سبعمائة دارع ومائتا فرس وقائدهم أبو سفيان ومعهم خمس عشرة إمرأة بالدفوف يبكين قتلى بدر. وأشار صلى الله عليه وسلم على أصحابه بأن يتحصنوا بالمدينة ولا يخرجوا وإن جاءوا قاتلوهم على أفواه الأزِقَّةِ وافق ذلك على رأي عبد الله بن أُبي بن سلول وألحّ قوم من فضلاء المسلمين ممن أكرمه الله بالشهادة فلبس لامته وخرج. وقدم أولئك الذين ألحوا عليه وقالوا: يا رسول الله إن شئت فاقعد فقال: ما ينبغي لنبي إذا لبس لامته أن يضعها حتى يقاتل. وخرج في ألف من أصحابه واستعمل ابن أم مكتوم على الصلاة ببقية المسلمين بالمدينة. فلما صار بين المدينة وأُحُدٍ انخذل عنه عبد الله بن أُبَيّ في ثلث الناس مغاضباً لمخالفة رأيه في المقام. وسلك رسول اللهّ صلى الله عليه وسلم حَرةَ بني حارثة ومرّ بين الحوائط وأبو خَيْثَمَة من بني حارثة يدلّ به حتى نزل الشِعْبَ من أحد مستنداً إلى الجبل. وقد سرحت قريش الظهر والكراع في زروع المسلمين وتهيَّأ للقتال في سبعمائة فيهم خمسون فارساً وخمسون رامياً. وأمٌرَ على الرماة عبد اللّه بن جبير من بني عمرو بن عَوْف والأوس أخو خُوات ورتبهم خلف الجيش ينضحون بالنبل لئلا يأتوا المسلمين من خلفهم. ودفع اللواء إلى مُصْعَبَ بن عُمَيْر من بني عبد الدار وأجاز يومئذ سَمُرَة بن جُنْدُبَ الفزاري ورافع بن خديج من بني حارثة في الرماة وكسِنَّاهُما خمسة عشر عامأ. وردّ أسامة بن زيد وعبد اللّه بن عمر بن الخطاب. ومن بني مالك بن النجار زيد بن ثابت وعمرو بن حرام ومن بني حارثة البَرّاء بن عازب وأسيد بن ظهير. ورد عِرابَةَ بن أوس وزيد بن أرقم وأبا سعيد الخدْرِيّ وسن جميعهم يومئذ أربعة عشر عاماً. وجعلت قريش على ميمنة الخيل خالد بن الوليد وعلى ميسرتهم عكرمة بن أبي جهل. وأعطى عليه السلام سيفه إلى أبي دجانة سماك بن خَرْشَةَ من بني ساعِدة وكان شجاعاً بطلاً يختال عند الحرب. وكان مع قريش ذلك اليوم والد حنظلة غسيل الملائكة أبو عامر عبد الله عمرو بن صيفي بن مالك بن النعمان من ضُبَيْعَةَ وكان في الجاهلية قد ترهب وتنسك. فلما جاء الإسلام غلب عليه الشقاء وفر إلى مكة في رجال من الأوس وشهد أُحُدَ مع الكفار. وكان يعد قريش في انحراف الأوس إليه لِمَا أنه سيدهم فلم يصدق ظنه. ولما ناداهم وعرفوه قالوا: لا أنعم الله لك علينا يا فاسق! فقاتل المسلمين قتالاً شديداً وأبلى يومئذ حمزةُ وطلحة وشيبةُ وأبو دجَانَة والنضر بن أنس بلاءً شديداً. وأصيب جماعة من الأنصار مقبلين غير مدبرين واشتد القتال وانهزم قريش أولا فخلت الرماة عن مراكزهم. وكرّ المشركون كرة وقد فقدوا متابعة الرماة فانكشف المسلمون واستشهد منهم من أكرمه الله ووصل العدو إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقاتل مصعب بن عُمَيْر صاحب اللواء دونه حتى قتل وجرح رسول الله صلى الله عليه وسلم في وجهه وكسرت رباعيتُة اليمنى السفلى بحجر وهشمت البيضة في رأسه. يقال إن الذي تولى ذلك عتبةُ بن أبي وقَّاص وعمرو بن قُمَيْئَةَ اللَيثي. وشد حنظلة الغسيل على أبي سفيان ليقتله فاعترضه شداد بن الأسود الليثي من شعوب فقتله وكان جُنُباً. فأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الملائكة غسلته. وأكبت الحجارة على رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى سقط من بعض حفر هنالك فأخذ علي بيده واحتضنه طلحة حتى قام. ومصّ الدم من جرحه مالك بن سنان الخدري والد أبي سعِيد ونشبت حَلْقَتان من حَلَقِ المِغْفَر في وجهه صلى الله عليه وسلم فانتزعهما أبو عبيدة بن الجَراح وعضَ عليهما فندرت ثنايتاه فصار أهتم. ولحق المشركون رسول الله صلى الله عليه وسلم وكرّ دونه نفر من المسلمين فقتلوا كلهم. وكان آخرهم عمار بن يزيد بن السكن. ثم قاتل طلحة حتى أجْهَضَ المشركين وأبو دجانة يقي النبي صلى الله عليه وسلم بظهرة وتقع فيه النبل فلا يترك. واصيبت عين قتادة بن النعمان من بني ظفر فرجع وهو على وجنته فردها عليه السلام بيده فصحت وكانت أحسن وانتهى النضرُ بن أنس إِلى جماعة من الصحابة وقد دهشوا وقالوا: قتل رسول الله صلى الله عليه وسلمِ. فقال: فما تصنعون في الحياة بعده! قوموا فموتوا على ما مات عليه ثم استقبل الناس وقاتل حتى قتل ووجد به سبعون ضربة. وجرح يومئذ عبد الرحمن بن عوف عشرين جِرَاحَةً بعضها في رجله فعرج منها وقتل حمزة عم النبي صلى الله عليه وسلم قتله وحشي مولى جُبَيْرٍ بن مطعِم بن عدي وكان قد جاء له على ذلك بعتقه فرآه سبَّاع بن عبد العُزى فرماه بحربته من حيث لا يشعر فقتله. ونادى الشيطان. ألا إن محمداً قد قتل لأن عمرو بن قُمَيْئَة كان قد قتل مصعب بن عمير يظن أنه النبي صلى الله عليه وسلم وضربته أم عمارة نسيبة بنت كعب من بني مازِنَ ضربات فتوفي منها بدِرْعَيْه وخشع المسلمون لما أصابه ووهنوا لصريخ الشيطان. ثم إن كعب بن مالك الشاعر من بني سلمة عرف رسول الله صلى الله عليه وسلم فنادى بأعلى صوته يبشر الناس ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول له انصت: فاجتمع عليه المسلمون ونهضوا معه نحو الشعب فيهم أبو بكر وعُمَرُ والزُبَيْرُ والحرث بن الصَفة الأنصاري وغيرهم. وأدركه أُبَيُ بن خلف في الشعب فتناول صلى الله عليه وسلم الحربة من الحرث بن الصمة وطعنه بها في عنقه. فكر أُبَيُ مُنهزماً وقال له المشركون: ما بك من بأس! فقال: والله لو بصق علي لقتلني وكان صلى الله عليه وسلم قد توعده بالقتل فمات عدوّ الله بسرف مرجعهم إلى مكة. ثم جاء علي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالماء فغسل وجهه ونهض فاستوى على صخرة من الجبل وحانت الصلاة فصلى بهم قعوداً. وغفر الله للمنهزمين من المسلمين ونزل: " إن الذين تَوَلوا منكم يوم التقى الجمعانَ إنما استزلهم " الأية. وكان منهم عثمان بن عفان وعثمان بن أبي عقبة الأنصاري واستشهد في ذلك اليوم حمزة كما ذكرنا وعبد الله بن جحش ومصعب بن عمير خمسة وستين معظمهم من الأنصار. وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يدفنوا بدمائهم وثيابهم في مضاجعهم ولم يغسلوا ولم يصل عليهم. وقتل من المشركين إثنان وعشرون منهم الوليد بن العاص بن هشام وأبو أمية بن أبي حُذَيْفَةَ بن المُغِيرَةَ وهشام بن أبي حذيفة بن المغيرة وأبو عزة عمرو بن عبد الله بن جمح. وكان أُسِر َيوم بدر فمن عليه وأطلقه بلا فداء على أن لا يعين عليه فنقض العهد وأسر يوم أُحُد وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بضرب عنقه صَبْراً. وأُبَي بن خَلَف قتله رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده. وصعد أبو سفيان الجبل حتى أطل على رسول الله صلى الله عليه وسلم واصحابه ونادى بأعلى صوته: الحرب سجال! يوم أُحُد بيوم بدر أعل هبل. وانصرف وهو يقول: موعدكم العام القابل. فقال عليه السلام: قولوا له هو بيننا وبينكم. ثم صار المشركون إلى مكة ووقف رسول الله صلى الله عليه وسلم على حمزة وكانت هند وصواحبتها قد جدّ عنه وبقرن عن كبده فلاكتها ولم تُسِغْها. ويقال أنه لما رأى ذلك في حمزة قال: لئن أظفرني الله بقريش لأمثلنّ بثلاثين منهم. ورجع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه إلى المدينة. ويقال: أنه قال لعليّ: لا يصيب المشركون منا مثلها حتى يفتح الله علينا. غزوة حمراء الاسد ولما كان يوم أُحُد سادس عشر شوال وهو صبيحة يوم أُحد أذن مؤذن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالخروج لطلب العدوّ وأن لا يخرج إلا من حضر معه بالأمس. وفسح لجابر بن عبد الله ممن سواهم فخرج وخرجوا على ما بهم من الجهد والجراح. وصار عليه السلام متجلَداً مرهباً للعدوّ وانتهى إلى حمراء الأسد على ثمانية أميال من المدينة وقام بها ثلاثاً ومر به هناك معبد بن أبي معبد الخزاعي سائراً إلى مكة. ولقي أبا سفيان وكفار قريش بالروحاء فاخبرهم بخروج رسول الله صلى الله عليه وسلم في طلبهم وكانوا يرومون الرجوع إلى المدينة ففت ذلك في أعضادهم وعادوا إلى مكة. بعث الرجيع ثم قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم في صفر متم الثلاثة من الهجرة نفر من عَضَل والقارَةِ بني الهُونِ بن خُزَيْمَةَ إخوة بني أسَد. فذكروا أن فيهم إسلاماً ورغبوا أن يبعث فيهم من يُفَقهُهُمْ في الدين. فبعث معهم ستة رجال من أصحابه: مَرْثِد بن أبي مَرْثِد الغَنَمِي وخالد بن البكير اللَيْثي وعاصِم بن ثابت بن أبيٍ الأفْلَح من بني عمرو بن عوف وحبيب بن عدِيّ من بني جَحْجَبا بن كَلْفَة وزَيْد بن الدُثنة بن بَياضَة بن عامر وعبد الله بن طارق حليف بني ظَفَر. وأمرَ عليهم مرثداً منهم. ونهضوا مع القوم حتىِ إذا كانوا بالرجيع وهو ماء لِهُذَيْل قريباً منِ عَسْفان غدروا بهم واستصرخوا هُذَيْلأ فغَشَوهم في رحالهم ففزعوا إلى القتال فأمنوهم وقالوا: إنا نريد نصيب بكم فداء من أهل مكة. فامتنع مرثد وخالد وعاصم من أمنهم وقاتلوا حتى قتلوا ورموا رأْس عاصم بسيوفهم ليبيعوه من سلافة بنت سعل بن شهيد وكانت نذرت أن تشرب فيه الخمر لما قتل ابنيها من بني عبد الدار يوم أُحُد فأرسل الله الدَبْر فَحَمتْ عاصماً منهم فتركوه إلى الليل فجاء إليه السيل فاحتمله. وأما الآخرون فأسروهم وخرجوا بهم إلى مكة ولما كانوا بمر الظهران انتزع ابن طارق يده من القرآن وأخذ سيفه فرموه بالحجارة فمات وجاءوا بِخُبَيْبِ وزيد إلى مكة فباعوهما إلى قريش فقتلوهما صبراً. غزوة بئر معونة وقدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم في صفر هذا ملاعب الأسِنَة أبو براء عامر بن مالك بن جعفر بن كلاب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة فدعاه إلى الإسلام فلم يسلم ولم يبعد وقال: يا محمد! لو بعثت رجالاً من أصحابك إلى أهل نجد يدعوهم إلى أمرك ورجوتَ أن يستجييوا لك! فقال: أني أخاف عليهم. فقال أبو براء: أنا لهم جار! فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم المنذر بن عمرو من بني ساعدَةَ في أربعين من المسلمين وقيل في سبعين. منهم الحرث بن الصِمَّةِ وحرام بن مَلْحان خال أنس وعامر بن فُهَيْرِه ونافع بن بُدَيْل بن ورقاء فنزلوا بئر معونة بين أرض بني عامر وحرّة بني سُلَيْم وبعثوا حرام بن ملحان بكتاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى عامر بن الطُّفَيْل فقتله ولم ينظر في كتابه. واستعدى عليهم بني عامر فأبوا لجوار أبي براء إياهم فاستعدى بني سليم فنهضت منهم عَصِية ورعَل وذَكْوان وقتلوهم عن آخرهم. وكان سرحهم إلى جانب منهم ومعهم المُنذِر بن أُحَيْحَةَ من بني الجلاح وعمرو بن أمية الضِمْرِي فنظرا إلى الطير تحوم على العسكر فأسرعا إلى أصحابهما فوجداهم في مضاجعهم. فأما المنذر بن أحيحة فقاتل حتى قتل وأما عمرو بن أمية فجزّ عامر بن الطفيل ناصيته حين علم أنه من مُضَرَ لرقبة كانت عن أمه وذلك لعشرة بقين من صفر وكانت مع الرجيع في شهر واحد. ولما رجع عمرو بن أمية لقي في طريقه رجلين من بني كلاب أو بني سُلَيْم فنزلا معه في ظلّ كان فيه معهما عهد من النبي صلى الله عليه وسلم لم يعلم به عمرو فانتسبا له في بني عامر أو سُلَيْم فعدا عليهما لما ناما وقتلهما. وقدم على النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره بذلك فقال لقد قتلت قتيلين لأدينهما. غزوة بني النضير ونهض رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بني النضير مستعيناً بهم في ديّة هذين القتيلين فأجابوا وقعد عليه السلام مع أبي بكر وعمر وعليّ ونفر من أصحابه من جدرانهم وأراد بني النُضَيْر رجلاً منهم على الصعود إلى ظهر البيت ليلقي على النبي صلى الله عليه وسلم صخرة فانتدب لذلك عمرو بن جِحاش بن كَعْب منهم وأوحى الله بذلك إلى نبيه فقام ولم يشعر أحداً من أصحابه. فاستبطأوه واتبعوه إلى المدينة فأخبرهم عن وحي الله بما أراد به يهود وأمر من أصحابه بالتهيؤ لحربه. واستعمل على المدينة ابن أم مكتوم ونهض في شهر ربيع الأول أول السنة الرابعة من الهجرة فتحصنوا منه بالحضون فحاصرهم ست ليال وأمر بقطع النخل وإحراقها. ودسّ إليهم عبد اللّه بن أبيّ والمنافقون إِنا معكم قتلتم أو أخرجتم ففر وهم بذلك ثم خذلوهم كرهاً وأسلموهم. وسأل عبد الله من النبي صلى الله عليه وسلم أن يكف عن دمائهم ويُجْليهِمْ بما حملت الإبل من أموالهم إِلا السلاح واحتمل إلى خيبر من أكابرهم حيي بن أخطب وابن أبي الحقيق فدانت لهم خيبر ومنهم من سار إلى الشام وقسم رسول الله صلى الله عليه وسلم أموالهم بين المهاجرين الأولين خاصة وأعطى منها أبا دَجانَةَ وسهل بن حنيف كانا فقيرين. وأسلم من بني النُضَيْر ِيامين بن غمَيْر بن جِحاش وسعيد بن وهب فأحرزا أموالهما بأسلامهما. وفي هذه الغزاة. نزلت سورة الحشر. غزوة ذات الرقاع وأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد بني النُضَيُرِ إلى جمادى من السنة الرابعة ثم غزا نجداً يريد بني مُحارِبَ وبني ثَعْلَبَة من غَطَفَان. واستعمل على المدينة أبا ذر الغِفَاريَ وقيل عُثْمانَ بن عَفٌان ونهض حتى نزل نجداً فلقي بها جمعأ من غطفان فتقارب الناس ولم يكن بينهم حرب إِلا أنهم خاف بعضهم بعضاً حتى صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمسلمين صلاة الخوف فسميت ذات الرقاع لأن أقدامهم نقبت وكانوا يلقون عليها الخرق. وقال الواقدي: لأن الجبل الذي نزلوا به كان به سواد وبياض وحمرة رِقاعاً فسمي بذلك وزعم أنها كانت في المِحْرَنِ. غزوة بدر الصغرى - الموعد كان أبو سفيان نادى يوم أحد كما قدمناه بموعد بدر من قابل وأجابوه بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم. فلما كان في شعبان من هذه السنة الرابعة خرج لميعاده واستعمل على المدينة عبد الله بن أبي بن سلول ونزل في بدر. فأقام هناك ثمان ليال وخرج أبو سفيان في أهل مكَّة حتى نزل الظهْرَانَ وعَسْفانَ. ثم بدا له في الرجوع واعتذر بأن العام عام جدب. غزوة دومة الجندل خرج إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم في ربيع الأول من السنة الخامسة وخلَف على سباع بن عرفطة الغِفارِي. وقد كان بلغه أن جمعاً تجمعوا بها فغزاهم ثم انصرفوا من طريقه قبل أن يبلغ دَوْمَةَ الجَنْدَل ولم يلقَ حرباً. وفيها وادع رسول الله صلى الله عليه وسلم حِصْن يرعى بأراضي المدينة لأن بلاده كانت أجدبت وكانت هذه قد أخصبت بسحابة وقعت فأذن له في رعيها. غزوة الخندق كانت في شوال في السنة الخامسة والصحيح أنها في الرابعة. كان ابن عمر يقول: ردني رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يوم أُحُدٍ وأنا ابن أربع عشرة سنة ثم أجازني يوم الخندق وأنا ابن خمس عشرة سنة فليس بينهما إلا سنة واحدة وهو الصحيح فهي قبل دومة الجندل بلا شك. وكان سببها أن نفراً من اليهود منهم سَلام بن أبي الحقيق وكنانة بن الربيع بن أبي الحقيق وسلام بن مُشْكِم وحييّ بن أخطب من بني النضير وهو ابن قيس وأبو عَمَارة من بني وائل لما انجلى بنو النضير إلى خيبر خرجوا إلى مكة يحزبون الأحزاب ويحرضون على حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم ويرغبون من اشرأب إلى ذلك فأجابهم أهل مكة إلى ذلك قم مضوا إلى غطفان وخرج بهم عيَيْنَةُ بن حصن أشجع وخرجت قريش وقائدها أبو سفيان بن حرب في عشرة آلاف من أحابيشهم ومن تبعهم من كنانة وغيرهم. ولما سمع بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بحفر الخندق على المدينة وعمل فيه بيده والمسلمون معه ويقال: إِن سلمان أشار به. ثم أقبلت الأحزاب نزلوا بظاهر المدينة بجانب أحُد. وخرج عليه السلام في ثلاثة آلاف من المسلمين وقيل في تسعمائة فقط وهو راجل بلا شك وخلف على المدينة ابن أم مكتوم فنزل بسطح سلع والخندق بينه وبين القوم وأمر بالنساء والذراري فجعلوا في الأطآم وكان بنو قريظة موادعين لرسول الله صلى الله عليه وسلم فأتاهم حَيي وأغراهم فنقضوا العهد ومالوا مع الأحزاب وبلغ أمرهم إلى النبي صلى الله عليه وسلم. فبعث سعد بن معاذ وسعد بن عَبادة وخَوان بن جبير وعبد الله بن رُواحَةَ يستخبرون الأمر فوجدوهم مكاشفين بالغدر والنيل من رسول الله صلى الله عليه وسلم فشاتمهم سعد بن معاذ وكانوا أحلافه وانصرفوا. وكان صلى الله عليه وسلم قد أمرهم إن وجدوا الغدر حقاً أن يخبروه تعريضاً لئلا يفتّوا في أعضاد الناس. فلما جاءوا إليه قالوا يا رسول الله عضل والغارة يريدون غدرهم بأصحاب الرجيع فعظم الأمر وأحيط بالمسلمين من كل جهة. وهم بالفشل بنو حارثة وبنو سلمة معتذرين بأن بيوتهم عورة خارج المدينة ثم ثبتهم الله. ودام الحصار على المسلمين قريبأ من شهر ولم تكن حرب. ثم رجع رسول اللّه صلى الله عليه وسلم إلى عُيَيْنَةَ بن حصين والحرث بن عوف أن يرجعا ولهما ثلثا ثمار المدينة. وشاور في ذلك سعد بن معاذ وسعد بن عبادة فأبيا وقالا: يا رسول اللّه! أشيء أمرك اللّه به فلا بد منه أم شيء تحبه فنصنعه لك أم شيء تصنعه لنا. فقال: بل أصنعه لكم! إني رأيت أن العرب رمتكم عن قوس واحدة. فقال سعد بن معاذ: قد كنا معهم على الشرك والأوثان ولا يطمعون منا بثمرة إلا شراءً وبيعاً فحين أكرمنا الله بالإسلام وأعزّنا بك نعطيهم أموالنا! واللّه لا نعطيهم إلا السيف. فطاب رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وتمادى الأمر وظهر فوارس من قريش إلى الخندق فيهم عكرمة بن أبي جهل وعمرو بن عبد ودّ من بني عمرو بن لؤيّ وضرار بن الخطاب من بني محارب. فلما رأوا الخندق قالوا: هذه مكيدة ما كانت العرب تعرفها. ثم اقتحموا من مكان ضيق حتى جالت خيلهم بين الخندق وسلع ودعوا إلى البراز. وقتل علي بن أبي طالب عمرو بن عبد ود ورجعوا إلى قومهم من حيث دخلوا. ورمي في بعض تلك الأيام سعد بن معاذ بسهم: فقطع عنه الأكحل يقال رماه حُبان بن قيس بن العرقة وقيل أبو أسامة الجشمي حليف بني مخزوم. ويروى أنه لما أصيب جعل يدعو: اللهم إن كنت أبقيت من حرب قريش شيئأ فابقني لها فلا قوم أحب إلي أن أجاهدهم من قوم آذوا رسولك وأخرجوه. وإن كنت وضعت الحرب بيننا وبينهم فاجعلها شهادة لي ولا تمتني حتى تقر عيني من بني قريظة. ثم اشتدت الحال وأتى نعيم بن مسعود بن عامر بن أنيف بن ثَعْلَبَةَ بن قُنْفُذ بن هِلال بن خلاوَةَ بن أشجع بن رَيْتِ بن غطفان فقال: يا رسول اللّه! إِني أسلمت ولم يعلم قومي فمرني بما تشاء. فقال: إنما أنت رجل واحد فَتَنْخَدِلْ عنا إِن استطعت فإن الحرب خدعة. فخرج نعيم فأتى بني قريظة وكان صديقهم في الجاهلية فنقم لهم في قريش وغطفان وإنهم إِن لم يكن الظفر لحقوا ببلادهم وتركوكم ولا تقدرون على التحول عن بلدكم ولا طاقة لكم بمحمد وأصحابه فاستوثقوا منهم برهن أبنائهم حتى يصابروا معكم. ثم أتى أبا سفيان وقريشاً فقال لهم: إن اليهود قد ندموا وراسلوا محمداً في المواعدة على أن يسترهنوا أبناءكم ويدفعوهم إِليه. ثم أتى غطفان وقال لهم مثلما قال لقريش. فأرسل أبو سفيان وغطفان إلى بني قُرَيْظَةَ في ليلة سبت إِنا لسنا بدار مقاه فأعدوا للقتال. فاعتذر اليهود بالسبت وقالوا: مع ذلك لا نقاتل حتى تعطونا رهناً فصدق القوم خبر نعيم ورعوا إليهم بالإباية من الرهن والحث على الخروج فصدق أيضاً بنو قريظة خبر نعيم وأبوا من القتال. وأرسل الله على قريش وغطفان ريحاً عظيمة أكفأت قدورهم وآنيتهم وقلعت أبنيتهم وخيامهم. وبعث عليه السلام حُذَيْفَةَ بن اليَمان عيناً فأتاه بخبر رحيلهم وأصبح وقد ذهب الأحزاب ورجع إلى المدينة. غزوة بني قريظة ولما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة أتاه جبريل بالنهوض إلى بني قريظة وذلك بعد صلاة الظهر من ذلك اليوم فأمر المسلمين أن لا يصلي أحد العصر إلا في بني قريظة. وخرج وأعطى الراية علي بن أبي طالب. واستخلف ابن أم مكتوم وحاصرهم صلى الله عليه وسلم خمساً وعشرين ليلة. وعرض عليهم سيدهم كعب بن أسد إِحدى ثلاث: إِما الإسلام وإما تبييت النبي صلى الله عليه وسلم ليلة السبت ليكون الناس آمنين منهم وإِما قتل الذراري والنساء ثم الإستمانة. فأبوا كل ذلك وأرسلوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم أن يبعث إليهم أبا لُبابَةَ بن عبد المنذر بن عمرو بن عوف بما كانوا حلفاء الأوس فأرسله واجتمع إليه الرجال والنساء والصبيان فقالوا: يا أبا لبابة ترى لنا أن ننزل على حكم محمد قال نعم! وأشار بيده في حلقه إنه الذبح. ثم رجع فندم وعلم أنه أذنب فانطلق على وجهه ولم يرجع إلى النبي صلى الله عليه وسلم وربط نفسه إلى عمود في المسجد ينتظر توبة الله عليه عاهد الله أن لا يدخل أرض بني قريظة مكاناً خان فيه ربه ونبيه. وبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال: لو أتاني لاستغفرن له فأما بعد ما فعل فما أنا بالذي أطلقه حتى يتوب الله عليه فنزلت توبته. فتولى عليه السلام إطلاقه بيده بعد أن قام مرتبطاً بالجذع ست ليال لا يحل إلا للصلاة. ثم نزل بنو قريظة على حكم النبي صلى الله عليه وسلم فأسلم بعضهم ليلة نزولهم وهم نفر أربعة من هُذَيْل إخوة قريظة والنضَيْر. وفرَّ منهم عمرو بن سعد القُرَظِي ولم يكن دخل معهم في نقض العهد فلم يعلم أين وقع. ولما نزل بنو قريظة على حكمه صلى الله عليه وسلم طلب الأوس أن يفعل فيهم فعل بالخزرج في بني النضير. فقال لهم: ألا ترضون أن يحكم فيهم رجل منكم قالوا بلى! قال فذلك إلى سعد بن معاذ وكان جريحاً منذ يوم الخندق. وقد أنزله رسول الله صلى الله عليه وسلم في خيمة في المسجد ليعوده من قريب فأتى به على حمار فلما أقبل على المجلس قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لهم: قوموا إلى سيدكم! ثم قالوا: يا سعد! إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد ولاَك حكم مواليك. فقال سعد: عليكم بذلك عهد الله وميثاقه. قالوا نعم. . . قال: فإني أحكم فيهم أن يقتل الرجال وتسبى الذراري والنساء وتقسم الأموال. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لقد حكمت فيهم بحكم الله من فوق سبعة أرقعة. ثم أنه أمر بهم فأخرجوا إلى سوق المدينة وخندق لهم بها خنادق وضربت أعناقهم فيها وهم بين الستمائة والسبعمائة رجل. وقتلت فيهم امرأة واحدة بنانة امرأة الحَكَم القُرَظِيّ وكانت طرحت على خِلال بن سُويد بن الصامِت رحى من فوق الحائط فقتله. وأمر عليه السلام بقتل من أثبت منهم. ووهب لثابت بن قيس بن الشماس ولد الزبير بن ياطا فاستحيا منهم عبد الرحمن بن الزبير كانت له صحبة. وبعد أن كان ثابت استوهب من النبي صلى الله عليه وسلم الزبير وأهله وماله فوهبه ذلك فمر الزبير عليه يده وأبى إِلاَّ القتل مع قومه اغتباطاً بهم قبحه الله. ووهب عليه السلام لأمّ المنذر بنت قيس من بني النجار رِفَاعَةَ بن سَمَوأل القُرَظِيّ فأسلم رفاعة وله صحبة. وقسم صلى الله عليه وسلم أموال بني قريظة فأسهم للفارس ثلاثة أسهم وللراجل سهماً. وكانت خيل المسلمين يومئذ ستة وثلاثين فارساً. ووقع في سهم النبي صلى الله عليه وسلم من سُبِيِّهِم ريحانة بنت عمرو بن خِناقَةَ من بني عمرو بن قُرَيْظَةَ فلم تزل في ملكه حتى مات رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان فتح بني قريظة آخر ذي القعدة من السنة الرابعة. ولما تم أمرهم أجيبت دعوة سعد بن معاذ فانفجر عرقه ومات فكان مِمَّن استشهد يوم الخندق في سبعة آخرين من الأنصار وأصيبت من المشركين يوم الخندق أربعة من قريش فيهم عمرو بن عبد ود وابنه حَسْل ونوفل بن عبد اللهّ بن مًرَيْرَة. ولم تغز كفار قريش المسلمين منذ يوم الخندق. ثم خرج رسول اللهّ صلى الله عليه وسلم في جمادى الأولى من السنة الخامسة لستة أشهر من فتح بني قريظة فقصد بني لَحْيَان يطالب بثأر عاصم بن ثابت وخُبَيْب بن عَديّ وأهل الرجيع وذلك إِثر رجوعه من دومة الجندل فسلك على طريق الشام أولأ ثم أخذ ذات اليسار إلى صخيرات اليمام ثم رجع إلى طريق مكة وأجد السير حتى نزل منازل لبْنى بين أمج وعسفان فوجدهم قد حفروا وامتنعوا بالجبال. وفاتتهم الغِرة فيهم فخرج في مائتي راكب إلى المدينة.