الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: مجموع فتاوى ابن تيمية **
وهو الذي ذكرناه مما يدل على أن الطواف أفضل، فهو يدل على أن الاعتمار من مكة وترك الطواف ليس بمستحب، بل المستحب هو الطواف دون الاعتمار، بل الاعتمار فيه حينئذ هو بدعة، لم يفعله السلف، ولم يؤمر بها في الكتاب والسنة، ولا قام دليل شرعي على استح بابها وما كان كذلك فهو من البدع المكروهة باتفاق العلماء. ولهذا كان السلف والأئمة ينهون عن ذلك، فروي سعيد في سننه عن طاوس ـ أجل أصحاب ابن عباس ـ قال: الذين يعتمرون من التنعيم ما أدري أيؤجرون عليها أم يعذبون؟ قيل: فلم يعذبون؟ قال: لأنه يدع الطواف بالبيت، ويخرج إلى أربعة أميال ويجيء. وإلى أن يجيء من أربعة أميال قد طاف مائتي طواف، وكلما طاف بالبيت كان أفضل من أن يمشي في غير شيء. قال أبو طالب: قيل لأحمد بن حنبل: ما تقول في عمرة المحرم؟ فقال: أي شيء فيها؟ العمرة عندي التي تعمد لها من منزلك. قال الله: / قال أبو طالب: قلت لأحمد: قال طاوس: الذين يعتمرون من التنعيم لا أدري يؤجرون؟ أو يعذبون؟ قيل له: لم يعذبون؟ قال: لأنه ترك الطواف بالبيت، ويخرج إلى أربعة أميال، ويخرج إلى أن يجيء من أربعة أميال قد طاف مائتي طواف، وكلما طاف بالبيت كان أفضل من أن يمشي في غير شيء. فقد أقر أحمد قول طاوس هذا الذي استشهد به أبو طالب لقوله، رواه أبو بكر في الشافي. وذكر عبد الرزاق بإسناده عن مجاهد قال: سئل على وعمر وعائشة عن العمرة ليلة الحصبة، فقال عمر: هي خير من لا شيء، وقال: هي خير من مثقال ذرة، وقالت عائشة: العمرة على قدر النفقة؟ وعن عائشة ـ أيضًا ـ قالت: لأن أصوم ثلاثة أيام، أو أتصدق على عشرة مساكين، أحب إلى من أن أعتمر العمرة التي اعتمرت من التنعيم. وقال طاوس: فمن اعتمر بعد الحج ما أدري أيعذبون عليها، أم يؤجرون؟ وقال عطاء بن السائب: اعتمرنا بعد الحج، فعاب ذلك علينا سعيد بن جبير. وقد أجازها آخرون، لكن لم يفعلوها، وعن أم الدرداء أنه سألها /سائل عن العمرة بعد الحج، فأمرته بها. وسئل عطاء عن عمرة التنعيم فقال: هي تامة ومجزئة. وعن القاسم بن محمد قال: عمرة المحرم تامة. وروي عبد الرزاق في مصنفه قال: أخبرني من سمع عطاء يقول: طواف سبع خير لك من سفرك إلى المدينة، قال: فآتي جدة، قال: لا، إنما أمرتم بالطواف، قال: قلت: فأخرج إلى الشجرة، فأعتمر، منها؟ قال: لا. قال. وقال بعض العلماء: مازالت قدماي منذ قدمت مكة، قال قلت: فالاختلاف أحب إليك من الجواز، قال: لا، بل الاختلاف. قال عبد الرزاق: أخبرني أبي، قال: قلت للمثني: إني أريد أن آتي المدينة، قال: لا تفعل، سمعت عطاء سأله رجل، فقال له: طواف سبع بالبيت خير لك من سفرك إلى المدينة. وروي أبو بكر بن أبي شيبة في [المصنف] : حدثنا وَكِيع، عن سفيان، عن أسلم المنقري، قال: قلت لعطاء: أخرج إلى المدينة، أهلّ بعمرة من ميقات النبي صلى الله عليه وسلم؟ قال: طوافك بالبيت أحب إلى من سفرك إلى المدينة. وقال: حدثنا وكيع، ثنا عمر بن ذر، عن مجاهد، قال: طوافك بالبيت أحب إلى من سفرك إلى المدينة، وقال: حدثنا إسماعيل ابن عبدالملك، عن عطاء قال: الطواف بالبيت أحب إلى من الخروج إلى العمرة.
وأما كثرة الاعتمار في رمضان للمكي وغيره، فهنا ثلاث مسائل مرتبة: أحدها: الاعتمار في العام أكثر من مرة، ثم الاعتمار لغير المكي ثم كثرة الاعتمار للمكي. فأما كثرة الاعتمار المشروع: كالذي يقدم من دويرة أهله، فيحرم من الميقات بعمرة كما كان النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه يفعلون، وهذه من العمرة المشهورة عندهم، فقد تنازع العلماء هل يكره أن يعتمر في السنة أكثر من عمرة واحدة، فكره ذلك طائفة: منهم الحسن، وابن سيرين، وهو مذهب مالك. وقال إبراهيم النَّخَعي: ما كانوا يعتمرون في السنة إلا مرة واحدة؛ وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه لم يكونوا يعتمرون إلا عمرة واحدة، لم يعتمروا في عام مرتين، فتكره الزيادة على ما فعلوه، كالإحرام من فوق الميقات، وغير ذلك؛ ولأنه في كتاب النبيصلي الله عليه وسلم الذي كتبه لعمرو بن حزم: إن العمرة هي الحج الأصغر، وقد دل /القرآن على ذلك بقوله تعالى: ورخص في ذلك آخرون. منهم من أهل مكة: عطاء، وطاوس، وعِكْرِمة وهو مذهب الشافعي، وأحمد. وهو المروي عن الصحابة. كعلي، وابن عمر، وابن عباس، وأنس، وعائشة؛ لأن عائشة اعتمرت في شهر مرتين بأمر النبي صلى الله عليه وسلم، عمرتها التي كانت مع الحجة، والعمرة التي اعتمرتها من التنعيم بأمر النبي صلى الله عليه وسلم ليلة الحصبة، التي تلي أيام مني، وهي ليلة أربعة عشر من ذي الحجة، وهذا على قول الجمهور الذين يقولون لم ترفض عمرتها، وإنما كانت قارنة. وأيضًا، ففي الصحيحين وغيرهما، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما، والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة) وهذا مع إطلاقه وعمومه، فإنه يقتضي الفرق بين العمرة والحج، إذ لو كانت العمرة لا تفعل في السنة إلا مرة لكانت كالحج، فكان يقال: الحج إلى الحج. وأيضًا، فإنه أقوال الصحابة. روي الشافعي عن على بن أبي طالب أنه قال: في كل شهر مرة، وعن أنس أنه كان إذا حمم رأسه /خرج فاعتمر، وروي وَكِيع عن إسرائيل عن سُوَيد بن أبي ناجية عن أبي جعفر قال: قال على: اعتمر في الشهر إن أطقت مرارًا. وروي سعيد بن منصور عن سفيان عن ابن أبي حسين عن بعض ولد أنس: أن أنسًا كان إذا كان بمكة فحمم رأسه خرج إلى التنعيم، واعتمر. وهذه ـ والله أعلم ـ هي عمرة المحرم، فإنهم كانوا يقيمون بمكة إلى المحرم، ثم يعتمرون. وهو يقتضي أن العمرة من مكة مشروعة في الجملة، وهذا مما لا نزاع فيه، والأئمة متفقون على جواز ذلك، وهو معني الحديث المشهور مرسلا: عن ابن سيرين، قال: وقت رسول الله صلى الله عليه وسلم لأهل مكة التنعيم. وقال عكرمة: يعتمر إذا أمكن الموسي من رأسه، إن شاء اعتمر في كل شهر مرتين، وفي رواية عنه: اعتمر في الشهر مرارًا. وأيضًا، فإن العمرة ليس لها وقت يفوت به كوقت الحج، فإذا كان وقتها مطلقًا في جميع العام، لم تشبه الحج في أنها لا تكون إلا مرة.
المسألة الثانية: في الإكثار من الاعتمار، والموالاة بينها: /مثل أن يعتمر من يكون منزله قريبًا من الحرم كل يوم، أو كل يومين أو يعتمر القريب من المواقيت التي بينها وبين مكة يومان: في الشهر خمس عمر، أو ست عمر، ونحو ذلك. أو يعتمر من يري العمرة من مكة كل يوم عمرة، أو عمرتين، فهذا مكروه باتفاق سلف الأمة، لم يفعله أحد من السلف، بل اتفقوا على كراهيته، وهو وإن كان استحبه طائفة من الفقهاء من أصحاب الشافعي، وأحمد، فليس معهم في ذلك حجة أصلا، إلا مجرد القياس العام. وهو أن هذا تكثير للعبادات، أو التمسك بالعمومات في فضل العمرة، ونحو ذلك. والذين رخصوا في أكثر من عمرة في الحول، أكثر ما قالوا: يعتمر إذا أمكن الموسي من رأسه، أو في شهر مرتين، ونحو ذلك. وهذا الذي قاله الإمام أحمد. قال أحمد: إذا اعتمر فلابد من أن يحلق، أو يقصر، وفي عشرة أيام يمكن حلق الرأس. وهذا الذي قاله الإمام أحمد فِعْلُ أنس بن مالك، الذي رواه الشافعي: أنه كان إذا حمم رأسه خرج فاعتمر. وهذا لأن تمام النسك الحلق، أو التقصير، وهو إما واجب فيه، أو مستحب. ومن حكي عن أحمد أو نحوه أنه ليس إلا مباحًا لا استحبابا، فقد غلط. فمدة نبات الشعر أقصر مدة يمكن فيها إتمام النسك،ولا ينتقض هذا بالعمرة /عقيب الحج من أدني الحل للمفرد، فإن ذلك مشروع لضرورة فعل العمرة، ومع هذا لم يكن يفعله السلف، ولا فعله أحد على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ بل الثابت المنقول بالتواتر في حجة النبي صلى الله عليه وسلم حجة الوداع، أنه أمر أصحابه جميعهم إذا طافوا بالبيت، وبين الصفا والمروة، أن يحلوا من إحرامهم، ويجعلوها عمرة إلا من ساق الهدي، فإنه لا يحل إلى يوم النحر، حتي يبلغ الهدي محله، وقال: (دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة). فكانت عمرة النبي صلى الله عليه وسلم، وجميع أصحابه بأمره في حجة الوداع داخلة في حجهم، ليس بينهم فرق، إلا أن أكثرهم ـ وهم الذين لا هدي معهم ـ حلوا من إحرامهم، والذين معهم الهدي أقاموا على إحرامهم، وكل ذلك كانوا يسمونه تمتعًا بالعمرة إلى الحج، كما استفاضت بذلك الأحاديث الصحيحة، التي تبين أن القارن متمتع، كما أن من حل من العمرة ثم حج متمتع. فمـن اعتمر في أشهـر الحج، وحـج مـن عامـه، فهو متمتع في لغة الصحابة الذين نزل القرآن بلسانهم، والقارن يكون قارنًا إذا أحرم بالعمرة والحج ابتداء، ويكون قارنًا إذا أحرم بالعمرة ثم أدخل عليها الحج قبل الطواف، باتفاق الأئمة الأربعة وغيرهم، وإذا لم يحل المتمتع من إحرامه لكونه قد ساق الهدي وأحرم بالحج انعقد إحرامه بالحج، ويسميه بعض الفقهاء من أصحاب أحمد /وغيرهم قارنًا لعدم وجود التحلل، وبعضهم يقول: لا يسمى قارنًا لأن عليه عندهم سعيًا آخر بعد طواف الفرض، بخلاف القارن. وهذه المسألة فيها عن أحمد روايتان، فقد استحب السعي مرة ثانية على المتمتع، وقد نص في غير موضع على أن المتمتع يكفيه السعي الأول، كما ثبت في الصحيح من حديث عائشة وغيرها: أن الصحابة الذين تمتعوا مع النبي صلى الله عليه وسلم لم يطوفوا بالبيت، وبين الصفا والمروة، إلا مرة واحدة، طوافهم الأولزز؛ ولهذا لما أوجب الله تعالى فيمن تمتع بالعمرة إلى الحج ما استيسر من الهدي، كان واجبًا على من أحرم بالحج بعد تحلله من العمرة التي أحرم بها في أشهر الحج، وعلى من قرن العمرة بالحج من حين إحرامه بالحج، أو في أثناء إحرامه في الحج. ولهذا كان من ساق الهدي محرمًا بعمرة التمتع، ولم يحرم بالحج إلا بعد الطواف والسعي، قد يسميه ـ من يفرق بين القِران، وبين التمتع الخاص ـ قارنًا، لكونه أحرم بالحج قبل تحلله من العمرة، وقد يسمونه متمتعًا وهو أشهر، لكونه لم يحرم إلا بعد قضاء العمرة، وهو نزاع لفظي لا يختلف به الحكم بحال، إلا ما ذكرنا من وجوب السعي ثانيًا، وفيمن قد يستحب للمتمتع أن يطوف طواف القدوم بعد رجوعه من عرفة، قبل طواف الإفاضة. وهذا وإن كان منقولا عن أحمد /واختاره طائفة من أصحابه، فالصواب الذي عليه جماهير العلماء أنه لا يستحب؛ لأن الصحابة لم يفعلوا ذلك مع النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا هو القول الأخير من مذهب أحمد. ولهذا كان من روي أن النبي صلى الله عليه وسلم تمتع بالعمرة إلى الحج، ومن روي أنه قرن بينهما، كان كلا الحديثين صوابًا، والمعني واحد. وكذلك من روي أنه أفرد الحج،. كابن عمر، وعائشة، وغيرهما؛ لأنهم أرادوا إفراد أعمال الحج؛ ولهذا كان هؤلاء الذين رووا ذلك هم الذين رووا أنه أفرد أعمال الحج، فلم يفصل بينهما بتحلل كما يفعل المتمتع إذا تحلل من عمرته، ولا كان في عمله زيادة على عمل المفرد؛ بخلاف المتمتع الذي تحلل من إحرامه، فإنه فصل بين عمرة تمتعه وحجه بتحلل. ولم يعتمر النبي صلى الله عليه وسلم بعد حجته لا هو، ولا أحد من أصحابه الذين حجوا معه، إلا عائشة. فهذا متفق عليه، بين جميع الناس، متواتر تواترًا يعرفه جميع العلماء بحجته، لا يتنازعون أنه لم يعتمر بعد حجته، لا من أدني الحل الذي هو التنعيم، الذي بنيت به بعد ذلك المساجد التي تسميها العامة [مساجد عائشة] ، ولا من غير التنعيم. /ولهذا اتفقوا على أن الأحاديث الثابتة في الصحاح وغيرها أن النبي صلى الله عليه وسلم اعتمر أربع عمر: عمرة الحديبية. وعمرة القَضِيَّة، وعمرة الجِعْرانة، والعمرة التي مع حجته. فإنما معناها: أنه اعتمر عمرة متمتع، ساق الهدي. وهذا ـ أيضًا ـ قارن، فتسميته متمتعًا وقارنًا سواء، إذا كان قد أهل بالعمرة والحج، وهذان متمتع وهو قارن؛ ولهذا كان من غلط من الفقهاء فقال: إنه أحرم بالحج فقط، ولم يقرن به عمرة لا قبله، ولا معه، أوقال: إنه أحرم إحرامًا مطلقًا ثم عقبه الحج، فإنه ينكر أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم اعتمر مع حجته، ويلزمه رد هذه الأحاديث الصحيحة المبينة أنه اعتمر أربع عمر، لاتفاق المسلمين على أنه لم يعتمر هو ولا أحد من أصحابه غير عائشة عقب الحج. ولهذا كان هذا حجة قاطعة على ما لم يتنازع فيه الأئمة الأربعة، وعامة الفقهاء في أن المتمتع بالعمرة إلى الحج سقط عنه بذلك الحج والعمرة، سواء قيل بوجوبها، أو بتوكيد استحبابها دون وجوبها،؛ لأن الصحابة الذين حجوا مع النبي صلى الله عليه وسلم بأمره هكذا فعلوا، وأخبرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن العمرة دخلت في الحج إلى يوم القيامة. وقالوا له: أعمرتنا هذه لعامنا هذا ؟ أم للأبد ؟ فقال: (بل للأبد، دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة). /قال: ومن روي من الصحابة أن النبي صلى الله عليه وسلمأفرد الحج، أرادوا بذلك بيان أنه لم يحل من إحرامه لعمرة التمتع، كما أمر بذلك جمهور أصحابه، وهم الذين لم يكونوا ساقوا الهدي، فإن الأحاديث الثابتة المتواترة كلها متفقة على أن النبي صلى الله عليه وسلمأمر أصحابه حين قدموا مكة فطافوا بالبيت وبين الصفا والمروة أن يحلوا من إحرامهم ويجعلوها عمرة، إلا من ساق الهدي، فإنه أمره أن يبقي على إحرامه إلى يوم النحر، حتي يبلغ الهدي محله، عملا بمعني قوله: ثم إن كثيرا من الصحابة روي أن النبي صلى الله عليه وسلمتمتع بالعمرة إلى الحج، فصار يظن قوم أنهم أرادوا بذلك أنه حل من حرامه بالعمرة ثم أحرم بالحج، كما أمر بذلك أصحابه الذين لم يسوقوا الهدي، وروي ـ أيضا ـ من روي من هؤلاء الصحابة: أنه أفرد الحج؛ ليزيلوا بذلك ظن من ظن أنه حل من إحرامه، وأخبروا أنه لم يحل من إحرامه، بل فعل كما يفعل من أفرد الحج،من بقائه على إحرامه وعمل ما يعمله المفرد.فروايات الصحابة متفقة على هذا. وكل من روي عنه من الصحابة أنه روي الإفراد، فقد روي التمتع، وفسروا التمتع بالقران، ورووا عنه صريحا أنه قال: (لبيك /عمرة وحجا)، وأنه قال: (أتاني آت من ربي في هذا الوادي المبارك، فقال: قل: عمرة في حجة). ولهذا كان الصواب أن من ساق الهدي فالقِران له أفضل، ومن لم يسق الهدي، وجمع بينهما في سفر، وقدم في أشهر الحج، فالتمتع الخاص أفضل له، وإن قدم في شهر رمضان وقبله بعمرة فهذا أفضل من التمتع، وكذلك لو أفرد الحج بسفرة، والعمرة بسفرة، فهو أفضل من المتعة المجردة؛ بخلاف من أفرد العمرة بسفرة، ثم قدم في أشهر الحج متمتعا، فهذا له عمرتان وحجة، فهو أفضل، كالصحابة الذين اعتمروا مع النبي صلى الله عليه وسلم عمرة القضية، ثم تمتعوا معه في حجة الوداع بالعمرة إلى الحج، فهذا أفضل الإتمام. وكذلك فعل النبي صلى الله عليه وسلم: اعتمر أولًا، ثم قرن في حجه بين العمرة والحج لما ساق الهدي؛ لكنه لم يزد على عمل المفرد، فلم يطف للعمرة طوافا رابعًا؛ ولهذا قيل: إنه أفرد بالحج. ثم إن الناس كانوا في عهد أبي بكر وعمر لما رأوا في ذلك من السهولة، صاروا يقتصرون على العمرة في أشهر الحج، ويتركون سائر الأشهر. لا يعتمرون فيها من أمصارهم، فصار البيت يعري عن العمار من أهل الأمصار في سائر الحول، فأمرهم عمر ابن الخطاب بما هو أكمل لهم بأن يعتمروا في غير أشهر الحج، فيصير البيت مقصودًا معمورًا /في أشهر الحج، وغير أشهر الحج، وهذا الذي اختاره لهم عمر هو الأفضل، حتي عند القائلين بأن التمتع أفضل من الإفراد، والقِران، كالإمام أحمد وغيره. فإن الإمام أحمد يقول: إنه إذا اعتمر في غير أشهر الحج كان أفضل من أن يؤخر العمرة إلى أشهر الحج، سواء قدم مكة قبل أشهر الحج واعتمر وأقام بمكة حتي يحج من عامه ذلك، أو اعتمر ثم رجع إلى مصره، أو ميقات بلده، وأحرم بالحج، وهذا ظاهر. فإن القاصد لمكة إذا قدم مثلا في شهر رمضان فاعتمر فيه، حصل له ما ذكره النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (عمرة في رمضان تعدل حجة). وإن قدم قبل ذلك معتمرًا وأقام بمكة، فذلك كله أفضل له، فإنه يطوف بمكة ويعتكف بها تلك المدة إلى حين الإهلال بالحج، وإن رجع إلى مصره ثم قدم وأحرم بالحج فقد أفرد للعمرة سفرًا، وللحج سفرًا، وذلك أتم لهما، كما قال على في قوله تعالى: وأما من اعتمر قبل أشهر الحج، ثم رجع إلى مصره، ثم قدم ثانيًا في أشهر الحج فتمتع بعمرة إلى الحج، فهذا أفضل ممن اقتصر على مجرد الحج في سفرته الثانية، إذا اعتمر معها عقيب الحج؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلماعتمر مع الحج تمتع هو قران كما بينوا، ولأن من /تحصل له عمرة مفردة، وعمرة مع حجة، أفضل ممن لا يحصل له إلا عمرة وحجة، وعمرة تمتع أفضل من عمرة مكية عقيب الحج. فهذا الذي اختاره عمر للناس هو الاختيار عند عامة الفقهاء؛ كالإمام أحمد، ومالك، والشافعي، وغيرهم، وكذلك ذكر أصحاب أبي حنيفة عن محمد بن الحسن. ولا يعرف في اختيار ذلك خلاف بين العلماء. ولما كان ذلك هو الأفضل الأرجح، وكان إن لم يؤمر الناس به زهدوا فيه، وأعرضوا عما هو أنفع لهم في دينهم، كان من اجتهاد عمر، ونظره لرعيته، أنه ألزمهم بذلك، كما يُلْزِم الأب الشفيق ولده ما هو أصلح له، ولما في ذلك من المنفعة لأهل مكة، وهذا كان موضع اجتهاد خالفه فيه على، وعمران بن حصين، وغيرهما من الصحابة، ولم يروا أن يؤمر الناس بذلك أمرا، بل يتركون من أحب اعتمر قبل أشهر الحج، ومن أحب اعتمر فيها، وإن كان الأول أكمل. وقوي النزاع في ذلك في [خلافة عثمان] حتي ثبت في الصحيحين: أن عثمـان كان ينهـي عن المتعة، فلما رآه على أهل بهما، وقال: لم أكن لأدع سنة رسول الله صلى الله عليه وسلملقول أحد، ونهي عثمان كان لاختيار الأفضل، لا نهي كراهة. فلما حصلت الفرقة بعد ذلك بين الأمة بمقتل عثمان، ومصير الناس /شيعتين: قوما يميلون إلى عثمان وشيعته، وقوما يميلون إلى على وشيعته، صار قوم من ولاة بني أمية ينهون عن المتعة، ويعاقبون من يتمتع، ولا يمكنون أحدًا من العمرة في أشهر الحج، وكان في ذلك نوع من الجهل والظلم. فلما رأي ذلك علماء الصحابة كعبد الله بن عباس، وعبدالله بن عمر، وغيرهما جعلوا ينكرون ذلك، ويأمرون الناس بالمتعة اتباعا لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم. ويخبرون الناس أن النبي صلى الله عليه وسلم. أمر بها أصحابه في [حجة الوداع] فصار بعض الناس يناظرهم بما توهمه على أبي بكر، وعمر، فيقولون لعبد الله بن عمر: إن أباك كان ينهي عنها، فيقول: إن أبي لم يرد ذلك، ولا كان يضرب الناس عليها، ونحو ذلك. فبين لهم أن عمر قصد أمر الناس بالأفضل، لا تحريم المفضول، وعمر إنما أمرهم بالاعتمار في غير أشهر الحج، فأما أن يكون عمر أو أحد من الصحابة اختار للناس أن يفردوا الحج في أشهره، ويعتمروا فيه عمرة مكية، فهذا لم يأمر به، ولم يختره أحد من الصحابة أصلا، ولم يفعله أحد على عهد النبي صلى الله عليه وسلمقطعًا، وأكبر ظني أنه لم يفعله أحد من الصحابة بعد النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يأمر به. وقد حمل طائفة من العلماء نهي عمر على أنه نهى عن متعة الفسخ، /وهؤلاء يقولون: الفسخ إنما كان جائزا لمن كان مع النبي صلى الله عليه وسلم. وقد بسط الكلام على هذا في غير هذا الموضع. وبين أن السلف والعلماء تنازعوا في الفسخ. فمذهب ابن عباس وأصحابه، وكثير من الظاهرية والشيعة: يرون أن الفسخ واجب، وأنه ليس لأحد أن يحج إلا متمتعا. ومذهب كثير من السلف والخلف أنه وإن جاز التمتع، فليس لمن أحرم مفردًا، أو قارنًا، أن يفسخ. وهذا مذهب أبي حنيفة ومالك والشافعي. ومذهب كثير من فقهاء الحديث وغيرهم؛ كأحمد بن حنبل، أن الفسخ هو الأفضل، وأنه إن حج مفردًا أو قارنًا، ولم يفسخ جاز. وأما من ساق الهدي فلا يفسخ بلا نزاع والفسخ جائز ما لم يقف بعرفة، وسواء كان قد نوي عند الطواف طواف القدوم، أو غير ذلك، وسواء كان قد نوي عند الإحرام القِران، أو الإفراد، أو أحرم مطلقا. فالأفضل عند هؤلاء لكل من لم يسق الهدي أن يحل من إحرامه بعمرة تمتع، كما أمر النبي صلى الله عليه وسلمأصحابه بذلك في حجة الوداع، وليس له أن يتحلل بعمرة إذا كان قصده أن يحج من عامه فيكون متمتعا. فأما الفسخ بعمرة مجردة، فلا يجوزه أحد من العلماء، ولا للذي /يجمع بين العمرة والحج في سفرة واحدة أن يحج في أشهر الحج ويعتمر عقيب ذلك من مكة، بل هم متفقون على أن هذا ليس هو المستحب المسنون. فهذا أفضل ممن اقتصر على مجرد الحج في سفرته الثانية، أو اعتمر فيها. فثبت أن النبي صلى الله عليه وسلماعتمر مع الحج عمرة تمتع، هو قران كما تقدم؛ ولأن من يحصل له عمرة مفردة، وعمرة مع حجة أفضل ممن لم يحصل له إلا عمرة وحجة، وعمرة تمتع أفضل من عمرة بمكة عقيب الحج إلى الحج، وإن جوزوه. فكان عبد الله بن عمر إذا بين لهم معني كلام عمر ينازعونه في ذلك، فيقول لهم: فقدروا أن عمر نهى عن ذلك. أمر رسول الله صلى الله عليه وسلمأحق أن تتبعوه أم عمر؟! وكذلك كان عبد الله بن عباس إذا بين لهم سنة النبي صلى الله عليه وسلمفي تمتعه، يعارضونه بما توهموه على أبي بكر وعمر، فيقول لهم: يوشك أن تنزل عليكم حجارة من السماء. أقول لكم: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتقولون: قال أبو بكر وعمر. يبين لهم أنه ليس لأحد أن يعارض سنة رسول الله صلى الله عليه وسلمبقول أحد من الناس، مع أن أولئك المعارضين كانوا يخطئون على أبي بكر وعمر، وهم سواء كانوا علموا حال أبي بكر وعمر، أم أخطؤوا عليهما، ليس لأحد أن يدفع المعلوم من سنة /رسول الله صلى الله عليه وسلم، بقول أحد من الخلق، بل كل أحد من الناس فإنه يؤخذ من قوله ويترك، إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم. وهذا متفق عليه بين علماء الأمة وأئمتها. وإنما تنازع فيه أهل الجهالة من الرافضة، وغالية النساك الذين يعتقد أحدهم في بعض أهل البيت، أو بعض المشائخ، أنه معصوم، أو كالمعصوم، وكان ابن عباس يبالغ في المتعة حتي يجعلها واجبة، ويجعل الفسخ واجبا، وهو قول أبي حنيفة وطائفة من أهل الظاهر والشيعة، ويجعل من طاف وسعي فقد حل من إحرامه، وصار متمتعًا، سواء قصد التمتع، أو لم يقصده. وصار إلى إيجاب التمتع طائفة من الشيعة وغيرهم. وهذا مناقضة لمن نهى عنها، وعاقب عليها، من بني أمية وغيرهم. وأما الذي عليه أئمة الفقه: فإنهم يجوزون هذا وهذا، ولكن النزاع بينهم في الفسخ، وفي استحبابه، فمن حج متمتعا من الميقات أجزأه حجه، باتفاق العلماء، وما سوي ذلك فيه نزاع، سواء أفرد، أو قرن، أو فسخ إذا قدم في أشهر الحج، إلا القارن الذي ساق الهدي، فإن هذا يجزئه ـ أيضا ـ حجه باتفاقهم. وأمام من قدم بعمرة قبل أشهر الحج، وأقام إلى أن يحج فهذا /ـ أيضا ـ ما أعلم فيه نزاعًا، فالتمتع المستحب، والقِران المستحب، والإفراد المستحب هو الذي يجزئه باتفاقهم. وبسبب ما وقع من اشتراك الألفاظ في الرواية، واختلاف الاجتهاد في العمل، وغير ذلك، صار كثير من الفقهاء يغلطون في معرفة [صفة حجة الوداع] ، فيظن طائفة من أصحاب أحمد وغيرهم أن النبي صلى الله عليه وسلم تمتع، بمعني أنه حل من إحرام العمرة، ثم أحرم بالحج، وهذا غلط بلا ريب. وقد قال الإمام أحمد: لا أشك أن النبي صلى الله عليه وسلمكان قارنًا، والمتعة أحب إلى، أي لمن كان لم يسق الهدي؛ فإنه لا يختلف قوله: أن من جمع الحج والعمرة في سفرة واحدة، وقدم في أشهر الحج، ولم يسق الهدي، أن هذا التمتع أفضل له. بل هو المسنون؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلمأمر أصحابه بذلك. وأما من ساق الهدي: فهل القِران أفضل له؟ أم التمتع؟ ذكروا عنه روايتين، والذي صرح به في رواية المروزي أن القران أفضل له؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم هكذا حج بلا نزاع بين أهل العلم والحديث، وهذا السائق للهدي تمتعه وقرانه لا يختلفان إلا في تقدم الإحرام وتأخيره. فمتي أحرم بالحج مع العمرة، أو قرن الإحرام بالعمرة. أو بزيادة سعي عند من يقول به، وقبل طوافه وسعيه /عند من يقوله كان قارنًا، وهو متمتع تمتع قران بلا نزاع. وإن لم يحرم بالحج إلا بعد الطواف والسعي، مع بقائه على إحرامه، فهو متمتع، وبقاؤه على إحرامه واجب عليه عند أبي حنيفة وأحمد، إذا كان قد ساق الهدي، وعند مالك والشافعي إنما يتحلل إن لم يسق الهدي، فإنه يتحلل من عمرته باتفاقهم، فإن أحرم بالحج قبل تحلله من العمرة ففيه نزاع. ومن جوز هذا من أصحاب أحمد فإنهم يسمونه أيضا [قارنا] ، فإنه لم يتحلل من إحرامه حتي أحرم بالحج، وهل على المتمتع بعد طواف الإفاضة سعي غير السعي الذي كان عقيب طواف العمرة؟ فيه قولان في مذهب أحمد، وغيره. وقد نص أحمد على أن المتمتع يجزئه سعي واحد كما يجزئ القارن في غير موضع، وعلى هذا فلا يختلفان إلا بالتقدم والتأخر، وإذا كان الأمر كذلك فمعلوم أن تقدم الإحرام بالحج أفضل من تأخيره؛ لأنه أكمل، وهذا الذي ثبت صحيحا صريحا عن النبي صلى الله عليه وسلم، حيث قال أنس: سمعته يقول: (لبيك عمرة وحجا)، وكذلك في حديث عمر الذي في الصحيح ـ صحيح البخاري ـ عن النبي صلى الله عليه وسلمأنه قال: (أتاني آت الليلة من ربي ـ وهو بالعقيق ـ فقال: /صل في هذا الوادي المبارك، وقل: عمرة في حجة)، ولم ينقل أحد عن النبي صلى الله عليه وسلم نفسه لفظًا يخالف هذين البتة؛ بل لم ينقل أحد عن النبي صلى الله عليه وسلملفظًا بإحرامه إلا هذا. وكذلك قالت عائشة في الحديث المتفق عليه: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع، فأهللنا بعمرة، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من كان معه هدي فليهل بالحج مع العمرة). وأما قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لو استقبلت من أمري ما استدبرت لما سقت الهدي، ولجعلتها عمـرة)، فهـذا ـ أيضا ـ يبين أنه مـع سـوق الهـدي لم يكن يجعلها عمرة، وأنه إنما كان يجعلها عمرة إذا لم يسـق الهدي، وذلك لأن أصحابه الذين أمـرهم بالإحلال، وهم الذين لم يسـوقوا الهدي، كرهـوا أن يحلوا في أشهـر الحـج؛ لأنهم لم يكونوا يعتادون الحـل في وسـط الإحرام في أشهـر الحج، فكان النبي صلى الله عليه وسلم لأجل تطييب قلوبهم يوافقهم في الفعـل، فذكـر أنه لو استقبل من أمره ما استدبر. أي: لو كنت الساعة مبتدئا الإحرام لم أسـق الهدي، ولأحـرمت بعمرة أحل منها. وهذا كله من النصوص الثابتة عنه بلا نزاع. وهو يبين أن المختار لمن قدم في أشهر الحج أحد أمرين: إما أن يسوق الهدي، أو يتمتع تمتع قران، أو لا يسوق الهدي ويتمتع بعمرة /ويحل منها. ثم الذي ينبغي أن يقال: إن الذي اختاره الله لنبيه هو أفضل الأمرين. وأما قوله صلى الله عليه وسلم: (لو استقبلت من أمري ما استدبرت لم أفعل ذلك)، فهو حكم معلق على شرط، والمعلق على شرط عدم عند عدمه، فما استقبل من أمره ما استدبر، وقد اختار الله تعالى له ما فعل، واختار له أنه لم يستقبل ما استدبر. ولا يلزم إذا كان الشيء أفضل على تقدير أن يكون أفضل مطلقا. وهذا كقوله: (لو لم أبعث فيكم لبعث فيكم عمر)، فهو لا يدل على أن عمر أفضلهم لو لم يبعث الرسول، ولا يدل على أنه أفضل مع بعث الرسول؛ بل أبو بكر أفضل منه في هذه الحال، ولكن هذا بين أن الموافقة إذا كان في تنويع الأعمال تفرق وتشتت هو أولي من تنويعها، وتنويعها اختيار القادر المفضول للأفضل، والعاجز عن المفضول كما اختار من قدر على سوق الهدي الأفضل. ومن لم يقدر على سوقه مع السلامة عن التفرق، ومع تفرق يعقبه ائتلاف هو أفضل. وغلط ـ أيضا ـ في [صفة حجه] طائفة من أصحاب مالك والشافعي وغيرهما؛ فظنوا أنه إنما كان مُفْرِدًا: يعني أنه أحرم بحجة مفردة، ولم /يعتمر معها أصلا، وهذا خلاف الأحاديث الصحيحة الثابتة ـ أيضا ـ وخلاف ما تواتر في سنته. ثم قد يغلط طوائف من متأخريهم فيظنون أنه اعتمر مع ذلك من مكة؛ ولهذا لم ينقله أحد ممن له قول معتبر، ولم يتنازعوا في أنه أمر أصحابه الذين لم يسوقوا الهدي بالتمتع بالعمرة إلى الحج، وأمره في حق أمته أولي بهم من فعله، لا سيما وقد بين أن اختصاصه بعدم الإحلال إنما كان لسوق الهدي، وهذا متواتر عنه. وفي الصحيحين أن حفصة قالت له: ما بال الناس حلوا ولم تحل أنت من عمرتك؟ فقال: (إني لبدت رأسي، وقلدت هديي، فلا أحل حتي أنحر). فهذا لا ينافي أنه أحرم بالعمرة والحج. كما روي أنس وعمر وغيرهما؛ لأن ذلك يسمي عمرة؛ لأنه وحده عمل المعتمر؛ ولأنه أمرهم بالحل، وأن يجعلوها عمرة فشبهته بهم. وغلط ـ أيضا ـ في [صفة حجته] من غلط من أصحاب أبي حنيفة وغيرهم؛ فاعتقدوا أن النبي صلى الله عليه وسلم كان قارنا، بمعني أنه طاف وسعي أولا للعمرة، ثم طاف وسعي ثانيا للحج قبل التعريف، وكل من نظر في الأحاديث الثابتة المتواترة عن النبي صلى الله عليه وسلمعلم أنه لم يطف طوافين، ولا سعي سعيين، ولا أمر بذلك أصحابه الذين ساقوا الهدي، وأمرهم بالبقاء على إحرامهم، فضلا عن /الذين أمرهم بالإحلال. وما روي أنه يأمر به على ونحوه؛ من فعل الطوافين، والسعيين فقد ضعفه غير واحد من أهل العلم بالحديث، وليس في شيء من كتب الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلمفي حجته طاف طوافين، وسعي سعيين، وإنما يوجد ذلك في بعض كتب الرأي التي يروي أصحابها أحاديث كثيرة، وتكون ضعيفة، وهم لم يتعمدوا الكذب، لكن سمعوا تلك الأحاديث ممن لا يضبط الحديث. وهكذا الاختيار. فإن الفقهاء وإن جوزوا الأنساك الثلاثة، فقد يغلط كثير منهم في الاختيار، فأعدل الأقوال وهو أتبعها للسنة، وأصحها في الأثر والنظر، ما ذكرناه: أن من قدم في أشهر الحج مريدًا للعمرة والحج في تلك السفرة فالسنة له التمتع بالعمرة إلى الحج، ثم إن ساق الهدي لم يحل من إحرامه، ولكن إحرامه بالحج مع العمرة أولا قبل الطواف والسعي أفضل له من أن يؤخر الإحرام بالحج إلى ما بعد الطواف والسعي، وإن لم يسق الهدي حل، وهذا أفضل له من أن يجيء بعمرة عقب الحج. وأما من أفردهما في سفرة، واعتمر قبل أشهر الحج، وأقام إلى الحج، فهذا أفضل من التمتع، وهذا قول الخلفاء الراشدين، وهو /مذهب الإمام أحمد وغيره، وقول من يقوله من أصحاب مالك والشافعي وغيرهم، واختيار المتعة هو قول أصحاب الحديث، وهو قول فقهاء مكة من الصحابة والتابعين، وقول بني هاشم. فاتفق على اختياره علماء سنته، وأهل بلدته؛ وأهل بيته. ومالك، وإن كان يختار الإفراد، فلا يختاره لمن يعتمر عقب الحج بل يعتمر في غير أشهر الحج كالمحرم. والشافعي ـ في أحد أقواله ـ يختار التمتع، وفي الآخر يختار إحراما مطلقا، وفي الآخر يختار الإفراد، ولكن لا أحفظ قوله فيمن يعتمر عقب الحج، فإنه وإن كان من أصحابه من يجعل هذا هو الأفضل، فكثير من أصحاب أحمد يظن أن مذهبه أن المتعة أفضل من الاعتمار في أشهر الحج. والغلط في هذا الباب كثير على السنة؛ وعلى الأئمة، وإلا فكيف يشك من له أدني معرفة في السنة أن أصحابه لم يعتمر أحد منهم عقيب الحج، وكيف يشك مسلم أن ما فعلوه بأمر النبي صلى الله عليه وسلم هو الأفضل لهم، ولمن كان حاله كحالهم. وقد تبين ـ بما ذكرنا ـ أنه وإن سوغ العمرة من مكة عقب الحج لمن أفرد، فهذا لم يفعله أحد على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، ولا أمر به هو ـ ولا أحد من خلفائه، ولا أحد من صحابته، /والتابعين وأئمتهم ـ أمر اختيار، وهذا كله مما يضعف أمر الاعتمار من مكة غاية الضعف.
|