الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: نيل الأوطار شرح منتقى الأخبار **
بسم اللَّه الرحمن الرحيم عن صالح بن خوات عمن صلى مع النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم يوم ذات الرقاع: (أن الطائفة صفت معه وطائفة وجاه العدو فصلى بالتي معه ركعة ثم ثبت قائمًا فأتموا لأنفسهم ثم انصرفوا وجاه العدو وجاءت الطائفة الأخرى فصلى بهم الركعة التي بقيت من صلاته فأتموا لأنفسهم فسلم بهم). رواه الجماعة إلا ابن ماجه. وفي رواية للجماعة عن صالح بن خوات عن سهل ابن أبي حثمة عن النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم بمثل هذه الصفة). قوله: (عمن صلى مع النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم) قيل هو سهل بن أبي حثمة كما وقع في الرواية الأخرى. وقد أخرج البيهقي وابن منده في المعرفة الحديث عن صالح بن خوات عن أبيه عن النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم فيمكن أن يكون هو المبهم. قوله: (يوم ذات الرقاع) هي غزوة نجد لقي بها النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم جمعًا من غطفان فتوافقوا ولم يكن بينهم قتال وصلى النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم بأصحابه صلاة الخوف وسميت ذات الرقاع لأنها نقبت أقدامهم فلفوا على أرجلهم الخرق. وقيل إن ذلك المحل الذي غزوا إليه حجارة مختلفة الألوان كالرقاع المختلفة. والحديث يدل على أن من صفات صلاة الخوف أن يصلي الإمام في الثنائية بطائفة ركعة ثم ينتظر حتى يتموا لأنفسهم ركعة ويذهبوا فيقوموا وجاه العدو ثم تأتي الطائفة الأخرى فيصلون معه الركعة الثانية ثم ينتظر حتى يتموا لأنفسهم ركعة ويسلم بهم. وقد حكى في البحر أن هذه الصفة لصلاة الخوف قال بهما علي وابن عباس وابن مسعود وابن عمر وأبو هريرة وزيد بن ثابت وأبو موسى وسهل بن أبي حثمة والهادي والقاسم والمؤيد باللَّه وأبو العباس. قال النووي: وبها أخذ مالك والشافعي وأبو ثور وغيرهم انتهى. وقد أخذ بكل نوع من أنواع صلاة الخوف الواردة عن النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم طائفة من أهل العلم كما سيأتي. والحق الذي لا محيص عنه أنها جائزة على كل نوع من الأنواع الثابتة وقد قال أحمد بن حنبل: لا أعلم في هذا الباب حديثًا إلا صحيحًا فلا وجه للأخذ ببعض ما صح دون بعض إذ لا شك أن الأخذ بأحدها فقط تحكم محض. وقد اختلف في عدد الأنواع الواردة في صلاة الخوف فقال ابن القصار المالكي: إن النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم صلاها في عشرة مواطن. وقال النووي: إنه يبلغ مجموع أنواع صلاة الخوف ستة عشر وجهًا كلها جائزة. وقال الخطابي: صلاة الخوف أنواع صلاها النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم في أيام مختلفة وأشكال متباينة يتحرى في كلها ما هو أحوط للصلاة وأبلغ في الحراسة فهي على اختلاف صورها متفقة المعنى. وسرد ابن المنذر في صفتها ثمانية أوجه. وكذا ابن حبان وزاد تسعًا. وقال ابن حزم: صح فيها أربعة عشر وجهًا وبينها في جزء مفرد. وقال ابن العربي: جاء فيها روايات كثيرة أصحها ست عشرة رواية مختلفة ولم يبينها وقد بينها العراقي في شرح الترمذي وزاد وجهًا آخر فصارت سبعة عشر وجهًا. وقال في الهدى: أصولها ست صفات وبلغها بعضهم أكثر. هؤلاء كلما رأوا اختلاف الرواة في قصة جعلوا ذلك وجهًا فصارت سبعة عشر لكن يمكن أن تتداخل أفعال النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم وإنما هو من اختلاف الرواة. قال الحافظ: وهذا هو المعتمد. وقال ابن العربي: أيضًا صلاها النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم أربعًا وعشرين مرة. وقال أحمد: ثبت في صلاة الخوف ستة أحاديث أو سبعة أيها فعل المرء جاز ومال إلى ترجيح حديث سهل بن أبي حثمة وكذا رجحه الشافعي ولم يختر إسحاق شيئًا على شيء وبه قال الطبري وغير واحد منهم ابن المنذر وقال النووي: ومذهب العلماء كافة أن صلاة الخوف مشروعة اليوم كما كانت إلا أبا يوسف والمزني فقالا: لا تشرع بعد النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم انتهى. وقال بقولهما الحسن بن زياد واللؤلؤي من أصحابه وإبراهيم بن علية كما في الفتح واستدلوا بمفهوم قوله تعالى: {وإذا كنت فيهم فأقمت الصلاة} وأجاب الجمهور عن ذلك بأن شرط كونه صلى اللَّه عليه وآله وسلم فيهم إنما ورد لبيان الحكم لا لوجوده. والتقدير بين لهم بفعلك لكونه أوضح من القول كما قال ابن العربي وغيره. وقال ابن المنير: الشرط إذا خرج مخرج التعليم لا يكون له مفهوم كالخوف في قوله تعالى: وأيضًا الأصل تساوي الأمة في الأحكام المشروعة فلا يقبل التخصيص بقوم دون قوم إلا بدليل واحتج عليهم الجمهور بإجماع الصحابة على فعل هذه الصلاة بعد موت النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم وبقول النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم: (صلوا كما رأيتموني أصلي) وعموم منطوق هذا الحديث مقدم على ذلك المفهوم. وقد اختلف في صلاة الخوف في الحضر فمنع من ذلك ابن الماجشون والهادوية وأجازه الباقون. احتج الأولون بقوله تعالى: نوع آخر. وعن ابن عمر رضي اللَّه عنه قال: (صلى رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم صلاة الخوف بإحدى الطائفتين ركعة والطائفة الأخرى مواجهة للعدو ثم انصرفوا وقاموا في مقام أصحابهم مقبلين على العدو وجاء أولئك ثم صلى بهم النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم ركعة ثم سلم ثم قضى هؤلاء ركعة وهؤلاء ركعة). متفق عليه. الحديث فيه أن من صفة صلاة الخوف أن يصلي الإمام بطائفة من الجيش ركعة والطائفة الأخرى قائمة تجاه العدو ثم تنصرف الطائفة التي صلت معه الركعة وتقوم تجاه العدو وتأتي الطائفة الأخرى فتصلي معه ركعة ثم تقضي كل طائفة لنفسها ركعة. قال في الفتح: وظاهر قوله: (ثم قضى هؤلاء ركعة وهؤلاء ركعة) أنهم أتموا في حالة واحدة ويحتمل أنهم أتموا على التعاقب قال: وهو الراجح من حيث المعنى وإلا فيستلزم تضييع الحراسة المطلوبة وإفراد الإمام وحده ويرجحه ما رواه أبو داود من حديث ابن مسعود ولفظه: (ثم سلم وقام هؤلاء أي الطائفة الثانية فصلوا لأنفسهم ركعة ثم سلموا ثم ذهبوا ورجع أولئك إلى مقامهم فصلوا لأنفسهم ركعة ثم سلموا) قال: وظاهره أن الطائفة الثانية والت بين ركعتيها ثم أتمت الطائفة الأولى بعدها. قال النووي: وبهذا الحديث أخذ الأوزاعي وأشهب المالكي وهو جائز عند الشافعي. وقال في الفتح: وبهذه الكيفية أخذ الحنفية وحكى هذه الكيفية في البحر عن محمد وإحدى الروايتين عن أبي يوسف. واستدل بقوله طائفة على أنه لا يشترط استواء الفريقين في العدد لكن لا بد أن تكون التي تحرس تحصل الثقة بها في ذلك. قال في الفتح: والطائفة تطلق على القليل والكثير حتى على الواحد فلو كانوا ثلاثة ووقع لهم الخوف جاز لأحدهم أن يصلي بواحد ويحرس واحد ثم يصلي الآخر وهو أقل ما يتصور في صلاة الخوف جماعة انتهى. وقد رجح ابن عبد البر هذه الكيفية الواردة في حديث ابن عمر على غيرها لقوة الإسناد ولموافقة الأصول في أن المأموم لا يتم صلاته قبل سلام إمامه. نوع آخر. عن جابر رضي اللَّه عنه قال: (شهدت مع رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم صلاة الخوف فصفنا صفين خلفه والعدو بيننا وبين القبلة فكبر النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم فكبرنا جميعًا ثم ركع وركعنا جميعًا ثم رفع رأسه من الركوع ورفعنا جميعًا ثم انحدر بالسجود والصف الذي يليه وقام الصف الآخر في نحر العدو فلما قضى النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم السجود والصف الذي يليه انحدر الصف المؤخر بالسجود وقاموا ثم تقدم الصف المؤخر وتأخر الصف المقدم ثم ركع النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم وركعنا جميعًا ثم رفع رأسه من الركوع ورفعنا جميعًا ثم انحدر بالسجود والصف الذي يليه الذي كان مؤخرًا في الركعة الأولى وقام الصف المؤخر في نحر العدو فلما قضى النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم السجود بالصف الذي يليه انحدر الصف المؤخر بالسجود فسجدوا ثم سلم النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم وسلمنا جميعًا). رواه أحمد ومسلم وابن ماجه والنسائي. وروى أحمد وأبو داود والنسائي هذه الصفة من حديث أبي عياش الزرقي وقال: (صلاها رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم مرتين مرة بعسفان ومرة بأرض بني سليم). الحديث الثاني رجال إسناده عند أبي داود والنسائي رجال الصحيح. وفي الحديثين أن صلاة الطائفتين مع الإمام جميعًا واشتراكهم في الحراسة ومتابعته في جميع أركان الصلاة إلا السجود فتسجد معه طائفة وتنتظر الأخرى حتى تفرغ الطائفة الأولى ثم تسجد وإذا فرغوا من الركعة الأولى تقدمت الطائفة المتأخرة مكان الطائفة المتقدمة وتأخرت المتقدمة. قال النووي: وبهذا الحديث قال الشافعي وابن أبي ليلى وأبو يوسف إذا كان العدو في جهة القبلة قال: ويجوز عند الشافعي تقدم الصف الثاني وتأخر الأول كما في رواية جابر ويجوز بقاؤهما على حالهما كما هو ظاهر حديث ابن عباس انتهى. قوله: (مرة بعسفان) أشار البخاري إلى أن صلاة جابر مع النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم كانت بذات الرقاع كما سيأتي ويجمع بتعداد الواقعة وحضور جابر في الجميع. نوع آخر. عن جابر رضي اللَّه عنه قال: (كنا مع النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم بذات الرقاع وأقيمت الصلاة فصلى بطائفة ركعتين ثم تأخروا وصلى بالطائفة الأخرى ركعتين فكان للنبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم أربع وللقوم ركعتان). متفق عليه. وللشافعي والنسائي عن الحسن عن جابر: (أن النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم صلى بطائفة من أصحابه ركعتين ثم سلم ثم صلى بآخرين ركعتين ثم سلم). وعن الحسن بن أبي بكرة رضي اللَّه عنه قال: (صلى بنا النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم صلاة الخوف فصلى ببعض أصحابه ركعتين ثم سلم ثم تأخروا وجاء الآخرون فكانوا في مقامهم فصلى بهم ركعتين ثم سلم فصار للنبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم أربع ركعات وللقوم ركعتان ركعتان). رواه أحمد والنسائي وأبو داود وقال: وكذلك رواه يحيى ابن أبي كثير عن أبي سلمة عن جابر عن النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم. وكذلك قال سليمان اليشكري عن جابر عن النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم). رواية الحسن عن جابر أخرجها أيضًا ابن خزيمة وروايته عن أبي بكرة أخرجها أيضًا ابن حبان والحاكم والدارقطني وأعلها ابن القطان بأن أبا بكرة أسلم بعد وقوع صلاة الخوف بمدة. قال الحافظ: وهذه ليست بعلة فإنه يكون مرسل صحابي. وحديث جابر وأبي بكرة يدلان على أن من صفات صلاة الخوف أن يصلي الإمام بكل طائفة ركعتين فيكون مفترضًا في ركعتين ومتنفلًا في ركعتين. قال النووي: وبهذا قال الشافعي وحكوه عن الحسن البصري وادعى الطحاوي أنه منسوخ ولا تقبل دعواه إذ لا دليل لنسخه انتهى. وهكذا ادعى نسخ هذه الكيفية الإمام المهدي في البحر فقال: قلنا منسوخ أو في الحضر انتهى. والحامل له وللطحاوي على ذلك أنهما لا يقولان بصحة صلاة المفترض خلف المتنفل وقد قدمنا الاستدلال على صحة ذلك بما فيه كفاية. قال أبو داود في السنن: وكذلك المغرب يكون للإمام ست ركعات وللقوم ثلاث انتهى. وهو قياس صحيح. نوع آخر. عن أبي هريرة رضي اللَّه عنه قال: (صليت مع رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم صلاة الخوف عام غزوة نجد فقام إلى صلاة العصر فقامت معه طائفة وطائفة أخرى مقابل العدو وظهورهم إلى القبلة فكبر فكبروا جميعًا الذين معه والذين مقابل العدو ثم ركع ركعة واحدة وركعت الطائفة التي معه ثم سجد فسجدت الطائفة التي تليه والآخرون قيام مقابلي العدو ثم قام وقامت الطائفة التي معه فذهبوا إلى العدو فقابلوهم وأقبلت الطائفة التي كانت مقابل العدو فركعوا وسجدوا ورسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم كما هو ثم قاموا فركع ركعة أخرى وركعوا معه وسجد وسجدوا معه ثم أقبلت الطائفة التي كانت مقابل العدو فركعوا وسجدوا ورسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم قاعد وممن معه ثم كان السلام فسلم وسلموا جميعًا فكان لرسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم ركعتان ولكل طائفة ركعتان). رواه أحمد وأبو داود والنسائي. الحديث سكت عنه أبو داود والمنذري ورجال إسناده ثقات عند أبي داود والنسائي وساقه أبو داود أيضًا من طريق أخرى عن أبي هريرة وفي إسنادها محمد بن إسحاق وفيه مقال مشهور إذا لم يصرح بالتحديث وقد عنعن ههنا. والحديث فيه أن من صفة صلاة الخوف أن تدخل الطائفتان مع الإمام في الصلاة جميعًا ثم تقوم إحدى الطائفتين بإزاء العدو وتصلي معه إحدى الطائفتين ركعة ثم يذهبون فيقومون في وجاه العدو ثم تأتي الطائفة الأخرى فتصلي لنفسها ركعة والإمام قائم ثم يصلي بهم الركعة التي بقيت معه ثم تأتي الطائفة القائمة في وجاه العدو فيصلون لأنفسهم ركعة والإمام قاعد ثم يسلم الإمام ويسلمون جميعًا. وقد روى أبو داود في سننه عن عائشة في هذه القصة أنها قالت: (كبر رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم وكبرت الطائفة الذين صفوا معه ثم ركع فركعوا ثم سجد فسجدوا ثم رفع فرفعوا ثم مكث رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم جالسًا ثم سجدوا هم لأنفسهم الثانية ثم قاموا فنكصوا على أعقابهم يمشون القهقرى حتى قاموا من ورائهم وجاءت الطائفة الأخرى فقاموا فكبروا ثم ركعوا لأنفسهم ثم سجد رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم فسجدوا معه ثم قام رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم وسجدوا لأنفسهم الثانية ثم قامت الطائفتان جميعًا فصلوا مع رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم فركع فركعوا ثم سجد فسجدوا جميعًا ثم عاد فسجد الثانية وسجدوا معه سريعًا كأسرع الإسراع ثم سلم رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم وسلموا فقام رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم وقد شاركه الناس في الصلاة كلها) وفي إسناده أيضًا محمد بن إسحاق ولكنه صرح بالتحديث وهذه الصفة ينبغي أن تكون صفة ثانية من صفات صلاة الخوف غير الصفة التي في حديث أبي هريرة لمخالفتها لها في هيآت كثيرة. نوع آخر. عن ابن عباس رضي اللَّه عنهما: (أن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم صلى بذي قرد فصف الناس خلفه صفين صفًا خلفه وصفًا موازي العدو فصلى بالذين حلفه ركعة ثم انصرف هؤلاء إلى مكان هؤلاء وجاء أولئك فصلى بهم ركعة ولم يقضوا ركعة). رواه النسائي. وعن ثعلبة بن زهدم رضي اللَّه عنه قال: (كنا مع سعيد بن العاص بطبرستان فقال: أيكم صلى مع رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم صلاة الخوف فقال حذيفة: أنا فصلى بهؤلاء ركعة وبهؤلاء ركعة ولم يقضوا). رواه أبو داود والنسائي. وروى النسائي بإسناده عن زيد بن ثابت عن النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم مثل صلاة حذيفة كذا قال. وعن ابن عباس رضي اللَّه عنهما قال: (فرض اللَّه الصلاة على نبيكم صلى اللَّه عليه وآله وسلم في الحضر أربعًا وفي السفر ركعتين وفي الخوف ركعة). رواه أحمد ومسلم وأبو داود والنسائي. حديث ابن عباس الأول ساقه النسائي بإسناد رجاله ثقات وقد احتج به الحافظ في الفتح ولم يتكلم عليه. وقال الشافعي: لا يثبت واعترض عليه الحافظ بأنه قد صححه ابن حبان وغيره. وحديث ثعلبة بن زهدم سكت عنه أبو داود والمنذري والحافظ في التلخيص ورجال إسناده رجال الصحيح. وحديث زيد بن ثابت أخرجه أيضًا أبو داود وابن حبان. ويشهد للجميع حديث ابن عباس المذكور. وفي الباب عن جابر عند النسائي. وعن ابن عمر عند البزار بإسناد ضعيف قال: (قال صلى اللَّه عليه وآله وسلم: صلاة الخوف ركعة على أي وجه كان) وأحاديث الباب تدل على أن من صفة صلاة الخوف الاقتصار على ركعة لكل طائفة. قال في الفتح: وبالاقتصار على ركعة واحدة في الخوف يقول الثوري وإسحاق ومن تبعهما وقال به أبو هريرة وأبو موسى الأشعري وغير واحد من التابعين ومنهم من قيد بشدة الخوف وقال الجمهور: قصر الخوف قصر هيئة لا قصر عدد وتأولوا هذه الأحاديث بأن المراد بها ركعة مع الإمام وليس فيها نفي الثانية ويرد ذلك قوله في حديث ابن عباس: (ولم يقضوا ركعة) وكذا قوله في حديث حذيفة: (ولم يقضوا) وكذا قوله في حديث ابن عباس الثاني: (وفي الخوف ركعة) وأما تأويلهم قوله بأن المراد منه لم يعيدوا الصلاة بعد الأمن فبعيد جدًا. فائدة وقع الإجماع على أن صلاة المغرب لا يدخلها قصر ووقع الخلاف هل الأولى أن يصلي الإمام بالطائفة الأولى ثنتين والثانية واحدة أو العكس فذهب إلى الأول أبو حنيفة وأصحابه والشافعي في أحد قوليه والقاسمية وإلى الثاني الناصر والشافعي في أحد قوليه. قال في الفتح: لم يقع في شيء من الأحاديث المروية في صلاة الخوف تعرض لكيفية صلاة المغرب انتهى. وقد أخرج البيهقي عن جعفر بن محمد عن أبيه أن عليًا عليه السلام صلى المغرب صلاة الخوف ليلة الهرير انتهى. ورُوي أنه صلى بالطائفة الأولى ركعة وبالثانية ركعتين قال الشافعي: وحفظ عن علي عليه السلام أنه صلى صلاة الخوف ليلة الهرير كما روى صالح بن خوات عن النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم وقد تقدمت رواية صالح وروى في البحر عن علي عليه السلام أنه صلى بالطائفة الأولى ركعتين قال: وهو توقيف. واحتج لأهل القول الثاني بفعل علي وأجاب عنه بأن الرواية الأولى أرجح وحكى عن الشافعي التخيير قال: وفي الأفضل وجهان أصحهما ركعتان بالأولى واستدل له بفعل النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم وليس للنبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم فعل في صلاة المغرب ولا قول كما عرفت.
عن ابن عمر رضي اللَّه عنه: (أن النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم وصف صلاة الخوف وقال: فإن كان خوفًا أشد من ذلك فرجالًا وركبانًا). رواه ابن ماجه. وعن عبد اللَّه بن أنيس رضي اللَّه عنه قال: (بعثني رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم إلى خالد بن سفيان الهذلي وكان نحو عرفة وعرفات فقال: اذهب فاقتله قال: فرأيته وقد حضرت صلاة العصر فقلت: إني لأخاف أن يكون بيني وبينه ما يؤخر الصلاة فانطلقت أمشي وأنا أصلي أومئ إيماء نحوه فلما دنوت منه قال لي: من أنت قلت: رجل من العرب بلغني أنك تجمع لهذا الرجل فجئتك في ذلك فقال: إني لفي ذلك فمشيت معه ساعة حتى إذا أمكنني علوته بسيفي حتى برد). رواه أحمد وأبو داود . حديث ابن عمر هو في البخاري في تفسير سورة البقرة بلفظ: (فإن كان خوف أشد من ذلك صلوا رجالًا قيامًا على أقدامهم أو ركبانًا مستقبلي القبلة وغير مستقبليها) قال مالك: قال نافع لا أرى عبد اللَّه بن عمر ذكر ذلك إلا عن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم وهو في مسلم من قول ابن عمر بنحو ذلك ورواه ابن خزيمة من حديث مالك بلا شك ورواه البيهقي عن حديث موسى بن عقبة عن نافع عن ابن عمر جزمًا. قال النووي في شرح المهذب: هو بيان حكم من أحكام صلاة الخوف لا تفسير للآية. وحديث عبد اللَّه بن أنيس سكت عنه أبو داود والمنذري وحسن إسناده الحافظ في الفتح. والحديثان استدلا بهما على جواز الصلاة عند شدة الخوف بالإيماء ولكنه لا يتم الاستدلال على ذلك بحديث عبد اللَّه بن أنيس إلا على فرض أن النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم قرره على ذلك وإلا فهو فعل صحابي لا حجة فيه. قال ابن المنذر: كل من أحفظ عنه العلم يقول إن المطلوب يصلي على دابته يومئ إيماء وإن كان طالبًا نزل فصلى بالأرض قال الشافعي: إلا أن ينقطع عن أصحابه فيخاف عود المطلوب عليه فيجزئه ذلك وعرف بهذا أن الطالب فيه التفصيل بخلاف المطلوب ووجه الفرق أن شدة الخوف في المطلوب ظاهرة لتحقق السبب المقتضي لها. وأما الطالب فلا يخاف استيلاء العدو عليه وإنما يخاف أن يفوته العدو. قال في الفتح: وما نقله ابن المنذر متعقب بكلام الأوزاعي فإنه قيده بشدة الخوف ولم يستثن طالبًا من مطلوب وبه قال ابن حبيب من المالكية وذكر أبو إسحاق الفزاري في كتاب السنن له عن الأوزاعي أنه قال: إذا خاف الطالبون إن نزلوا الأرض فوت العدو صلوا حيث وجهوا على كل حال والظاهر أن مرجع هذا الخلاف إلى الخوف المذكور في الآية فمن قيده بالخوف على النفس والمال من العدو وفرق بين الطالب والمطلوب ومن جعله أعم من ذلك لم يفرق بينهما وجوَّز الصلاة المذكورة للراجل والراكب عند حصول أي خوف. وعن ابن عمر رضي اللَّه عنهما قال: (نادى فينا رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم يوم انصرف عن الأحزاب أن لا يصلين أحد العصر إلا في بني قريظة فتخوف ناس فوت الوقت فصلوا دون بني قريظة وقال آخرون لا نصلي إلا حيث أمرنا رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم وإن فاتنا الوقت قال: فما عنف واحدًا من الفريقين). رواه مسلم. وفي لفظ: (أن النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم لما رجع من الأحزاب قال: لا يصلين أحد العصر إلا في بني قريظة فأدرك بعضهم العصر في الطريق فقال بعضهم: لا نصلي حتى نأتيها وقال بعضهم: بل نصلي لم يرد ذلك منا فذكر ذلك للنبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم فلم يعنف واحدًا منهم). رواه البخاري. قوله: (لا يصلين أحد العصر) في رواية لمسلم عن عبد اللَّه محمد بن أسماء شيخ البخاري في هذا الحديث الظهر. وقد بين في الفتح في كتاب المغازي ما هو الصواب. قوله: (فما عنف واحدًا) فيه دليل على أن كل مجتهد مصيب. والحديث استدل به البخاري وغيره على جواز الصلاة بالإيماء وحال الركوب. قال ابن بطال: لو وجد في بعض طرق الحديث أن الذين صلوا في الطريق صلوا ركبانًا لكان بينًا في الاستدلال وإن لم يوجد فالاستدلال يكون بالقياس يعني أنه كما ساغ لأولئك أن يؤخروا الصلاة عن وقتها المفترض كذلك يسوغ للطالب ترك إتمام الأركان والانتقال إلى الإيماء. قال ابن المنير: والأبين عندي أن وجه الاستدلال من جهة أن الاستعجال المأمور به يقتضي ترك الصلاة أصلًا كما جرى لبعضهم أو الصلاة على الدواب كما وقع لآخرين لأن النزول ينافي مقصود الجد في الوصول فالأولون بنوا على أن النزول معصية بمعارضته للأمر الخاص بالإسراع وكان تأخيرهم لها لوجود المعارض والآخرون جمعوا بين دليلي وجوب الإسراع ووجوب الصلاة في وقتها فصلوا ركبانًا فلو فرضنا أنهم نزلوا لكان ذلك مضادة للأمر بالإسراع وهو لا يظن بهم لما فيه من المخالفة وهذا الذي حاوله ابن المنير قد أشار إليه ابن بطال بقوله لو وجد في بعض طرق الحديث إلى آخره فلم يستحسن الجزم في النقل بالاحتمال. وأما قوله لا يظن بهم المخالفة فمعترض بمثله بأن يقال لا يظن بهم المخالفة بتغيير هيئة الصلاة بغير توقيف. وقال الحافظ: والأولى ما قال ابن المرابط ووافقه الزين ابن المنير أن وجه الاستدلال منه بطريق الأولوية لأن الذين أخروا الصلاة حتى وصلوا إلى بني قريظة لم يعنفوا مع كونهم فوتوا الوقت وصلاة من لا يفوت الوقت بالإيماء أو كيفما يمكن أولى من تأخير الصلاة حتى يخرج وقتها .
عن عبد اللَّه بن عمرو رضي اللَّه عنه قال: (لما كسفت الشمس على عهد النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم نودي أن الصلاة جامعة فركع النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم ركعتين في سجدة ثم قام فركع ركعتين في سجدة ثم جلى عن الشمس قالت عائشة: ما ركعت ركوعًا قط ولا سجدت سجودًا قط كان أطول منه). وعن عائشة رضي اللَّه عنها قالت: (خسفت الشمس على عهد رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم فبعث مناديًا الصلاة جامعة فقام فصلى أربع ركعات في ركعتين وأربع سجدات). وعن عائشة رضي اللَّه تعالى عنها قالت: (خسفت الشمس في حياة رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم فخرج رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم إلى المسجد فقام فكبر وصف الناس وراءه فاقترأ قراءة طويلة ثم كبر فركع ركوعًا طويلًا هو أدنى من القراءة الأولى ثم رفع رأسه فقال: سمع اللَّه لمن حمده ربنا ولك الحمد ثم قام فاقترأ قراءة طويلة هي أدنى من القراءة الأولى ثم كبر فركع ركوعًا هو أدنى من الركوع الأول ثم قال: سمع اللَّه لمن حمده ربنا ولك الحمد ثم سجد ثم فعل في الركعة الأخرى مثل ذلك حتى استكمل أربع ركعات وأربع سجدات وانجلت الشمس قبل أن ينصرف ثم قام فخطب الناس فأثنى على اللَّه بما هو أهله ثم قال: إن الشمس والقمر آيتان من آيات اللَّه عز وجل لا ينخسفان لموت أحد ولا لحياته فإذا رأيتموهما فافزعوا إلى الصلاة). وعن ابن عباس رضي اللَّه عنهما قال: (خسفت الشمس فصلى رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم فقام قيامًا طويلًا نحوًا من سورة البقرة ثم ركع ركوعًا طويلًا ثم رفع فقام قيامًا طويلًا وهو دون القيام الأول ثم ركع ركوعًا طويلًا وهو دون الركوع الأول ثم سجد ثم قام قيامًا طويلًا وهو دون القيام الأول ثم ركع ركوعًا طويلًا وهو دون الركوع الأول ثم رفع فقام قيامًا طويلًا وهو دون القيام الأول ثم ركع ركوعًا طويلًا وهو دون الركوع الأول ثم سجد ثم انصرف وقد تجلت الشمس فقال: إن الشمس والقمر آيتان من آيات اللَّه لا يخسفان لموت أحد ولا لحياته فإذا رأيتم ذلك فاذكروا اللَّه). متفق على هذه الأحاديث. قوله: (لما كسفت الشمس) الكسوف لغة التغير إلى سواد ومنه كسف في وجهه وكسفت الشمس اسودت وذهب شعاعها. قال في الفتح: والمشهور في استعمال الفقهاء أن الكسوف للشمس والخسوف للقمر واختاره ثعلب وذكر الجوهري أنه أفصح وقيل يتعين ذلك. وحكى عياض عن بعضهم عكسه وغلطه لثبوته بالخاء في القمر في القرآن. وقيل يقال بهما في كل منهما وبه جاءت الأحاديث. قال الحافظ: ولا شك أن مدلول الكسوف لغة غير مدلول الخسوف لأن الكسوف التغير إلى سواد والخسوف النقصان أو الذل قال: ولا يلزم من ذلك أنهما مترادفان. وقيل بالكاف في الابتداء وبالخاء في الانتهاء. وقيل بالكاف لذهاب جميع الضوء وبالخاء لبعضه. وقيل بالخاء لذهاب كل اللون وبالكاف لتغييره انتهى. وقد روي عن عروة أنه قال: لا تقولوا كسفت الشمس ولكن قولوا خسفت. قال في الفتح: وهذا موقوف صحيح رواه سعيد بن منصور عنه. وأخرجه مسلم عن يحيى بن يحيى عنه لكن الأحاديث الصحيحة المذكورة في الباب وغيرها ترد ذلك. قوله: (ركعتين في سجدة) المراد بالسجدة هنا الركعة بتمامها وبالركعتين الركوعان وهو موافق لروايتي عائشة وابن عباس. قوله: (قالت عائشة) الراوي لذلك عنها هو أبو سلمة ويحتمل أن يكون عبد اللَّه بن عمرو فيكون من رواية صحابي عن صحابية. قال في الفتح: ووهم من زعم أنه معلق فقد أخرجه مسلم وابن خزيمة وغيرهما من رواية أبي سلمة عن عبد اللَّه بن عمرو وفيه قول عائشة هذا. قوله: (ما ركعت) الخ ذكر الركوع لمسلم والبخاري اقتصر على ذكر السجود وقد ثبت طول الركوع والسجود في الكسوف في أحاديث كثيرة. منها المذكورة في الباب. ومنها عن عبد اللَّه بن عمرو من وجه آخر عند النسائي. وعن أبي هريرة عنده. وعن أبي موسى عند الشيخين. وعن سمرة عند أبي داود والنسائي. وعن جابر وعن أسماء وسيأتيان وإلى مشروعية التطويل في الركوع والسجود في صلاة الكسوف كما يطول القيام ذهب أحمد وإسحاق والشافعي في أحد قوليه وبه جزم أهل العلم بالحديث من أصحابه واختاره ابن سريج . قوله: (خسفت الشمس) بالخاء المعجمة وقد تقدم بيان معنى الخسوف. قوله: (وصف الناس) برفع الناس أي اصطفوا يقال صف القوم إذا صاروا صفًا ويجوز النصب والفاعل ضمير يعود إلى النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم. قوله: (وانجلت الشمس قبل أن ينصرف) فيه أن الانجلاء وقع قبل انصراف النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم من الصلاة. قوله: (ثم قام فخطب الناس) فيه استحباب الخطبة بعد صلاة الكسوف وقال صاحب الهداية من الحنفية: ليس في الكسوف خطبة لأنه لم ينقل وتعقب بأن الأحاديث وردت بذلك وهي ذات كثرة كما قال الحافظ. والمشهور عند المالكية أنه لا خطبة في الكسوف مع أن مالكًا روى الحديث وفيه ذكر الخطبة وأجاب بعضهم بأنه صلى اللَّه عليه وآله وسلم لم يقصد لها الخطبة بخصوصها وإنما أراد أن يبين لهم الرد على من يعتقد أن الكسوف لموت بعض الناس وتعقب بما في الأحاديث الصحيحة من التصريح بها وحكاية شرائطها من الحمد والثناء وغير ذلك مما تضمنته الأحاديث فلم يقتصر على الإعلام بسبب الكسوف والأصل مشروعية الإتباع والخصائص لا تثبت إلا بدليل. وقد ذهب إلى عدم استحباب الخطبة في الكسوف مع مالك أبو حنيفة والعترة. قوله: (لا ينخسفان) في رواية (يخسفان) بدون نون كما سيأتي في حديث ابن عباس. قوله: (لموت أحد) إنما قال صلى اللَّه عليه وآله وسلم كذلك لأن ابنه إبراهيم مات فقال الناس إنما كسفت الشمس لموت إبراهيم. ولأحمد والنسائي وابن ماجه وصححه ابن خزيمة وابن حبان من حديث النعمان بن بشير قال: (كسفت الشمس على عهد رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم فخرج فزعًا يجر ثوبه حتى أتى المسجد فلم يزل يصلي حتى انجلت فلما انجلت قال: إن الناس يزعمون أن الشمس والقمر لا ينكسفان إلا لموت عظيم من العظماء وليس كذلك) الحديث. وفي هذا الحديث إبطال ما كان أهل الجاهلية يعتقدونه من تأثير الكواكب. قال الخطابي: كانوا في الجاهلية يعتقدون أن الكسوف يوجب حدوث تغير الأرض من موت أو ضرر فأعلم النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم أنه اعتقاد باطل وأن الشمس والقمر خلقان مسخران للَّه تعالى ليس لهما سلطان في غيرهما ولا قدرة على الدفع عن أنفسهما. قوله: (ولا لحياته) استشكلت هذه الزيادة لأن السياق إنما ورد في حق من ظن أن ذلك لموت إبراهيم ولم يذكروا الحياة. قال في الفتح: والجواب أن فائدة ذكر الحياة دفع توهم من يقول لا يلزم من نفي كونه سببًا للفقد أن لا يكون سببًا للإيجاد فعمم الشارع النفي لدفع هذا التوهم. قوله: (فإذا رأيتموهما) أكثر الروايات بصيغة ضمير المؤنث والمراد رأيتم كسوف كل واحد في وقته لاستحالة اجتماعهما في وقت واحد. قوله: (فافزعوا) بفتح الزاي أي التجؤوا أو توجهوا وفيه إشارة إلى المبادرة وأنه لا وقت لصلاة الكسوف معين لأن الصلاة علقت برؤية الشمس أو القمر وهي ممكنة في كل وقت وبهذا قال الشافعي ومن تبعه واستثنت الحنفية أوقات الكراهة وهو مشهور مذهب أحمد. وعن المالكية وقتها من وقت حل النافلة إلى الزوال. وفي رواية إلى صلاة العصر ورجح الأول بأن المقصود إيقاع هذه العبادة قبل الانجلاء وقد اتفقوا على أنها لا تقضى بعده فلو انحصرت في وقت لأمكن الانجلاء قبله فيفوت المقصود. قال في الفتح: ولم أقف على شيء من الطرق مع كثرتها أن النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم صلاها الأضحى لكن ذلك وقع اتفاقًا فلا يدل على منع ما عداه واتفقت الطرق على أنه بادر إليها انتهى. قوله: (نحوًا من سورة البقرة) فيه أن النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم أسر بالقراءة. قوله: (وهو دون القيام الأول) فيه أن القيام الأول من الركعة الأولى أطول من القيام الثاني منها وكذا الركوع الأول والثاني منها لقوله وهو دون الركوع الأول. قال النووي: اتفقوا على أن القيام الثاني وركوعه فيهما أقصر من القيام الأول وركوعه فيهما. قوله: (ثم سجد) أي سجدتين. قوله: (ثم قام قيامًا طويلًا وهو دون القيام الأول) فيه دليل لمن قال إن القيام الأول من الركعة الثانية يكون دون القيام الثاني من الركعة الأولى وقد قال ابن بطال: إنه لا خلاف أن الركعة الأولى بقيامها وركوعها تكون أطول من الركعة الثانية بقيامها وركوعها. قوله: (ثم رفع فقام قيامًا طويلًا) الخ فيه أنه يشرع تطويل القيامين والركوعين في الركعة الآخرة وقد ورد تقدير القيام في الثانية بسورة آل عمران كما في سنن أبي داود وفيه أيضًا أن القيام الثاني دون الأول كما في الركعة الأولى وكذلك الركوع وقد تقدمت حكاية النووي للاتفاق على ذلك. والأحاديث المذكورة في الباب تدل على أن المشروع في صلاة الكسوف ركعتان في كل ركعة ركوعان. وقد اختلف العلماء في صفتها بعد الاتفاق على أنها سنة غير واجبة كما حكاه النووي في شرح مسلم والمهدي في البحر وغيرهما فذهب مالك والشافعي وأحمد والجمهور إلى أنها ركعتان في كل ركعة ركوعان وهي الصفة التي وردت بها الأحاديث الصحيحة المذكورة في الباب وغيرها وحكى في البحر عن العترة جميعًا أنها ركعتان في كل ركعة خمسة ركوعات واستدلوا له بحديث أُبيِّ بن كعب وسيأتي. وقال أبو حنيفة والثوري والنخعي: إنها ركعتان كسائر النوافل في كل ركعة ركوع واحد وحكاه النووي عن الكوفيين واستدلوا بحديث النعمان وسمرة الآتيين. وقال حذيفة: في كل ركعة ثلاثة ركوعات واستدل بحديث جابر وابن عباس وعائشة وستأتي. قال النووي: وقد قال بكل نوع جماعة من الصحابة وحكى النووي عن ابن عبد البر أنه قال: أصح ما في الباب ركوعان وما خالف ذلك فمعلل أو ضعيف وكذا قال البيهقي ونقل صاحب الهدى عن الشافعي وأحمد والبخاري أنهم كانوا يعدون الزيادة على الركوعين في كل ركعة غلطًا من بعض الرواة لأن أكثر طرق الحديث يمكن رد بعضها إلى بعض ويجمعها إن ذلك كان يوم موت إبراهيم وإذا اتحدت القصة تعين الأخذ بالراجح ولا شك أن أحاديث الركوعين أصح. قال في الفتح: وجمع بعضهم بين هذه الأحاديث بتعدد الواقعة وأن الكسوف وقع مرارًا فيكون كل من هذه الأوجه جائزًا وإلى ذلك ذهب إسحاق لكن لم يثبت عنده الزيادة على أربع ركوعات. وقال ابن خزيمة وابن المنذر والخطابي وغيرهم من الشافعية: يجوز العمل بجميع ما ثبت من ذلك وهو من الاختلاف المباح وقواه النووي في شرح مسلم وبمثل ذلك قال الإمام يحيى. والحق إن صح تعدد الواقعة أن الأحاديث المشتملة على الزيادة الخارجة من مخرج صحيح يتعين الأخذ بها لعدم منافاتها للمريد وإن كانت الواقعة ليست إلا مرة واحدة فالمصير إلى الترجيح أمر لا بد منه وأحاديث الركوعين أرجح. وعن أسماء رضي اللَّه عنها: (أن النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم صلى صلاة الكسوف فأقام فأطال القيام ثم ركع فأطال الركوع ثم قام فأطال القيام ثم ركع فأطال الركوع ثم رفع ثم سجد فأطال السجود ثم قام فأطال القيام ثم ركع فأطال الركوع ثم قام فأطال القيام ثم ركع فأطال الركوع ثم رفع فسجد فأطال السجود ثم رفع ثم سجد فأطال السجود ثم انصرف). رواه أحمد والبخاري وأبو داود وابن ماجه. وعن جابر رضي اللَّه عنه قال: (كسفت الشمس على عهد رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم فصلى بأصحابه فأطال القيام حتى جعلوا يخرون ثم ركع فأطال ثم رفع فأطال ثم ركع فأطال ثم سجد سجدتين ثم قام فصنع نحوًا من ذلك فكانت أربع ركعات وأربع سجدات) رواه أحمد ومسلم وأبو داود. ومن الأحاديث المصرحة بالركوعين حديث علي عند أحمد وحديث أبي هريرة عند النسائي وحديث ابن عمر عند البزار وحديث أم سفيان عند الطبراني. قوله: (ثم رفع ثم سجد) لم يذكر فيه تطويل الرفع الذي يتعقبه السجود ولا في غيره من الأحاديث المتقدمة. ووقع عند مسلم من حديث جابر بلفظ: (ثم رفع فأطال ثم سجد) قال النووي: هي رواية شاذة وتعقب بما رواه النسائي وابن خزيمة وغيرهما من حديث عبد اللَّه بن عمر وفيه: (ثم ركع فأطال حتى قيل لا يرفع ثم رفع فأطال حتى قيل لا يسجد ثم سجد فأطال حتى قيل لا يرفع ثم رفع فجلس فأطال الجلوس حتى قيل لا يسجد ثم سجد) وصحح الحديث الحافظ قال: لم أقف في شيء من الطرق على تطويل الجلوس بين السجدتين إلا في هذا. وقد نقل الغزالي الاتفاق على ترك إطالته فإن أراد الاتفاق المذهبي فلا كلام وإلا فهو محجوج بهذه الرواية والكلام على ألفاظ الحديثين قد سبق وهما من حجج القائلين بأن صلاة الكسوف ركعتان في كل ركعة ركوعان.
عن جابر رضي اللَّه عنه قال: (كسفت الشمس على عهد رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم فصلى ست ركعات بأربع سجدات). رواه أحمد ومسلم وأبو داود. وعن ابن عباس رضي اللَّه عنهما: (عن النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم أنه صلى في كسوف فقرأ ثم ركع ثم قرأ ثم ركع ثم قرأ ثم ركع ثم سجد والأخرى مثلها) رواه الترمذي وصححه. وعن عائشة رضي اللَّه عنها: (أن نبي اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم صلى ست ركعات وأربع سجدات) رواه أحمد والنسائي. حديث جابر أخرجه أيضًا البيهقي وقال عن الشافعي: إنه غلط وهذه الدعوى يردها ثبوته في الصحيح فإنه رواه مسلم عن أبي بكر ابن أبي شيبة عن ابن نمير عن عبد الملك عن عطاء عن جابر عن النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم. وحديث ابن عباس رواه الترمذي عن محمد بن بشار عن يحيى بن سعيد عن سفيان عن حبيب ابن أبي ثابت عن طاوس عنه عن النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم. وقد علل الحديث بأن حبيبًا لم يسمع من طاوس قال البيهقي: حبيب وإن كان ثقة فإنه كان يدلس ولم يبين سماعه من طاوس. وحديث عائشة هو أيضًا في صحيح مسلم بهذا اللفظ الذي ذكره المصنف. ولعائشة أيضًا حديث آخر في صحيح مسلم ولفظه: (أن الشمس انكسفت على عهد رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم فقام قيامًا شديدًا يقوم قائمًا ثم يركع ثم يقوم ثم يركع ثم يقوم ثم يركع ركعتين في ثلاث ركعات وأربع سجدات وانصرف وقد تجلت الشمس وكان إذا ركع قال اللَّه أكبر ثم يركع وإذا رفع رأسه قال سمع اللَّه لمن حمده فقام فحمد اللَّه وأثنى عليه ثم قال إن الشمس والقمر) الحديث. وهذه الأحاديث الصحيحة ترد ما تقدم عن ابن عبد البر والبيهقي من أن ما خالف أحاديث الركوعين معلل أو ضعيف وما تقدم عن الشافعي وأحمد والبخاري من عدهم لما خالف أحاديث الركوعين غلطًا وقد استدل بأحاديث الباب على أن المشروع في صلاة الكسوف في كل ركعة ثلاثة ركوعات وقد تقدم الخلاف في ذلك. قوله: (ست ركعات وأربع سجدات) أي صلى ركعتين في كل ركعة ثلاثة ركوعات وسجدتان. وعن ابن عباس رضي اللَّه عنهما: (أن النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم صلى في كسوف قرأ ثم ركع ثم قرأ ثم ركع ثم قرأ ثم ركع ثم قرأ ثم ركع والأخرى مثلها) وفي لفظ: (صلى ثماني ركعات في أربع سجدات). روى ذلك أحمد ومسلم والنسائي وأبو داود. الحديث مع كونه في صحيح مسلم ومع تصحيح الترمذي له قد قال ابن حبان في صحيحه: إنه ليس بصحيح قال: لأنه من رواية حبيب بن أبي ثابت عن طاوس ولم يسمعه حبيب من طاوس وحبيب معروف بالتدليس كما تقدم ولم يصرح بالسماع من طاوس وقد خالفه سليمان الأحول فوقفه وروى عن حذيفة نحوه قاله البيهقي. قوله: (ثماني ركعات) الخ أي ركع ثماني مرات كل أربع في ركعة وسجد في كل ركعة سجدتين. (والحديث يدل) على أن من جملة صفات صلاة الكسوف ركعتين في كل ركعة أربعة ركوعات). وعن أُبيِّ بن كعب رضي اللَّه عنه قال: (كسفت الشمس على عهد رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم فصلى بهم فقرأ بسورة من الطول وركع خمس ركعات وسجدتين ثم قام إلى الثانية فقرأ بسورة من الطول وركع خمس ركعات وسجدتين ثم جلس كما هو مستقبل القبلة يدعو حتى انجلى كسوفها). رواه أبو داود وعبد اللَّه بن أحمد في المسند. وقد روي بأسانيد حسان من حديث سمرة والنعمان بن بشير وعبد اللَّه بن عمرو أنه صلى اللَّه عليه وآله وسلم صلاها ركعتين كل ركعة بركوع. وفي حديث قبيصة الهلالي عنه صلى اللَّه عليه وآله وسلم قال: (إذا رأيتم ذلك فصلوها كأحدث صلاة صليتموها من المكتوبة). والأحاديث بذلك كله لأحمد والنسائي. والأحاديث المتقدمة بتكرار الركوع أصح وأشهر. أما حديث أُبيِّ بن كعب فأخرجه أيضًا الحاكم والبيهقي وقال: هذا سند لم يحتج الشيخان بمثله وهذا توهين منه للحديث بأن سنده مما لا يصلح للاحتجاج به عند الشيخين لا أنه تقوية للحديث وتعظيم لشأنه كما فهمه بعض المتأخرين وروي عن ابن السكن تصحيح هذا الحديث وقال الحاكم: رواته صادقون. وفي إسناده أبو جعفر عيسى بن عبد اللَّه بن ماهان الرازي. قال الفلاس: سيئ الحفظ. وقال ابن المديني: يخلط عن المغيرة. وقال ابن معين: ثقة. وفي الباب عن علي عليه السلام عند البزار وهو معلول كما قال في الفتح وقد احتج بهذا الحديث القائلون بأن صلاة الكسوف ركعتان في كل ركعة خمسة ركوعات وقد تقدم ذكرهم. وأما حديث سمرة فأخرجه أيضًا مسلم وفيه: (قرأ بسورتين وصلى ركعتين). وأما حديث النعمان بن بشير فأخرجه أحمد وأبو داود والنسائي والحاكم وصححه ابن عبد البر وهو عند بعض هؤلاء باللفظ الذي ذكره المصنف عن قبيصة وأعله ابن أبي حاتم بالانقطاع. وأما حديث ابن عمرو فأخرجه أيضًا أبو داود والترمذي ورجاله ثقات. وأما حديث قبيصة فأخرجه أبو داود والنسائي والحاكم باللفظ الذي ذكره المصنف وسكت عنه أبو داود والمنذري ورجاله رجال الصحيح. وفي الباب عن أبي بكرة عند النسائي: (أن النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم صلى ركعتين مثل صلاتكم هذه) وقد احتج بهذه الأحاديث القائلون بأن صلاة الكسوف ركعتان بركوع واحد كسائر الصلوات وقد تقدم ذكرهم وقد رجحت أدلة هذا المذهب باشتمالها على القول كما في حديث قبيصة والقول أرجح من الفعل وأشار المصنف إلى ترجيح الأحاديث التي فيها تكرار الركوع ولا شك أنها أرجح من وجوه كثيرة منها كثرة طرقها وكونها في الصحيحين واشتمالها على الزيادة.
عن عائشة رضي اللَّه عنها: (أن النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم جهر في صلاة الخسوف بقراءته فصلى أربع ركعات في ركعتين وأربع سجدات). أخرجاه. وفي لفظ: (صلى صلاة الكسوف فجهر بالقراءة فيها) رواه الترمذي وصححه. وفي لفظ: (قال: خسفت الشمس على عهد رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم فأتى المصلى فكبر فكبر الناس ثم قرأ فجهر بالقراءة وأطال القيام) وذكر الحديث رواه أحمد. وعن سمرة رضي اللَّه عنه قال: (صلى بنا رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم في كسوف ركعتين لا نسمع له فيها صوتًا). رواه الخمسة وصححه الترمذي وهذا يحتمل أنه لم يسمعه لبعده لأن في رواية مبسوطة له: (أتينا والمسجد قد امتلأ). حديث عائشة أخرجه أيضًا ابن حبان والحاكم والرواية التي أخرجها أحمد أخرجها أيضًا أبو داود الطيالسي في مسنده وأخرج نحوها ابن حبان. وحديث سمرة صححه أيضًا ابن حبان والحاكم وأعله ابن حزم بجهالة ثعلبة بن عباد راويه عن سمرة وقد قال ابن المديني: إنه مجهول وذكره ابن حبان في الثقات مع أنه لا راوي له إلا الأسود بن قيس كذا قال الحافظ. وفي الباب عن ابن عباس عند الشافعي وأبي يعلى والبيهقي قال: (كنت إلى جنب رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم في صلاة الكسوف فما سمعت منه حرفًا من القرآن) وفي إسناده ابن لهيعة. وللطبراني نحوه من وجه آخر وقد وصله البيهقي من ثلاث طرق أسانيدها واهية. ولابن عباس حديث آخر متفق عليه: (أن النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم قام قيامًا طويلًا نحوًا من سورة البقرة) وقد تقدم وهو يدل على أنه صلى اللَّه عليه وآله وسلم لم يجهر. قال البخاري: حديث عائشة في الجهر أصح من حديث سمرة ورجح الشافعي رواية سمرة بأنها موافقة لرواية ابن عباس المتقدمة ولروايته الأخرى والزهري قد انفرد بالجهر وهو وإن كان حافظًا فالعدد أولى بالحفظ من واحد قاله البيهقي. قال الحافظ: وفيه نظر لأنه مثبت وروايته مقامة وجمع بين حديث سمرة وعائشة بأن سمرة كان في أخريات الناس فلهذا لم يسمع صوته ولكن قول ابن عباس كنت إلى جنبه يدفع ذلك. وجمع النووي بأن رواية الجهر في القمر ورواية الإسرار في كسوف الشمس وهو مردود بالرواية التي ذكرها المصنف في حديث عائشة منسوبة إلى أحمد وبما أخرجه ابن حبان من حديثها بلفظ: (كسفت الشمس) والصواب أن يقال إن كانت صلاة الكسوف لم تقع منه صلى اللَّه عليه وآله وسلم إلا مرة واحدة كما نص على ذلك جماعة من الحفاظ فالمصير إلى الترجيح متعين وحديث عائشة أرجح لكونه في الصحيحين ولكونه متضمنًا للزيادة ولكونه مثبتًا ولكونه معتضدًا بما أخرجه ابن خزيمة وغيره عن علي مرفوعًا من إثبات الجهر وإن صح أن صلاة الكسوف وقعت أكثر من مرة كما ذهب إليه البعض فالمتعين الجمع بين الأحاديث بتعدد الواقعة فلا معارضة بينها إلا أن الجهر أولى من الإسرار لأنه زيادة وقد ذهب إلى ذلك أحمد وإسحاق وابن خزيمة وابن المنذر وغيرهما من محدثي الشافعية وبه قال صاحبا أبي حنيفة وابن العربي من المالكية. وحكى النووي عن الشافعي ومالك وأبي حنيفة والليث بن سعد وجمهور الفقهاء أنه يسر في كسوف الشمس ويجهر في خسوف القمر وإلى مثل ذلك ذهب الإمام يحيى. وقال الطبري: يخير بين الجهر والإسرار. وإلى مثل ذلك ذهب الهادي ورواه في البحر عن مالك وهو خلاف ما حكاه غيره عنه. واعلم أنه لم يرد تعيين ما قرأ به صلى اللَّه عليه وآله وسلم إلا في حديث لعائشة أخرجه الدارقطني والبيهقي أنه صلى اللَّه عليه وآله وسلم قرأ في الأولى بالعنكبوت وفي الثانية بالروم أو لقمان وقد ثبت الفصل بالقراءة بين كل ركوعين كما تقدم من حديث عائشة المتفق عليه فيتخير المصلي من القرآن ما شاء ولا بد من القراءة بالفاتحة في كل ركعة لما تقدم من الأدلة الدالة على أنها لا تصح ركعة بدون فاتحة. قال النووي: واتفق العلماء على أنه يقرأ الفاتحة في القيام الأول من كل ركعة واختلفوا في القيام الثاني فمذهبنا ومذهب مالك وجمهور أصحابه أنها لا تصح الصلاة إلا بقراءتها فيه. وقال محمد بن مسلمة من المالكية لا تتعين الفاتحة في القيام الثاني انتهى. وينبغي الاستكثار من الدعاء لورود الأمر به في الأحاديث الصحيحة كما في حديث ابن عباس المتقدم وغيره.
عن محمود بن لبيد رضي اللَّه عنه: (عن النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم قال: إن الشمس والقمر آيتان من آيات اللَّه وإنهما لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته فإذا رأيتموهما كذلك فافزعوا إلى المساجد). رواه أحمد. وعن الحسن البصري رضي اللَّه عنه قال: (خسف القمر وابن عباس أمير على البصرة فخرج فصلى بنا ركعتين في كل ركعة ركعتين ثم ركب وقال إنما صليت كما رأيت النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم يصلي). رواه الشافعي في مسنده. حديث محمود بن لبيد أصله في الصحيحين بدون قوله: (فافزعوا إلى المساجد) وقد أخرج هذه الزيادة أيضًا الحاكم وابن حبان. وحديث ابن عباس أخرجه الشافعي كما ذكر المصنف عن شيخه إبراهيم بن محمد وهو ضعيف ولا يحتج بمثله. وقول الحسن صلى بنا لا يصح قال الحسن لم يكن بالبصرة كما كان ابن عباس بها. وقيل إن هذا من تدليساته وإن المراد من قوله صلى بنا أي صلى بأهل البصرة. والحديثان يدلان على مشروعية التجميع في خسوف القمر أما الأول فلقوله فيه: (فإذا رأيتموهما كذلك) الخ ولكنه لم يصرح بصلاة الجماعة. وأما الحديث الثاني فلقول ابن عباس بعد أن صلى بهم جماعة في خسوف القمر: (إنما صليت كما رأيت النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم يصلي) ولكنه يحتمل أن يكون المشبه بصلاة النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم هو صفتها من الاقتصار في كل ركعة على ركوعين ونحو ذلك لا أنها مفعولة في خصوص ذلك الوقت الذي فعلها فيه لما تقدم من اتحاد القصة وأنه صلى اللَّه عليه وآله وسلم لم يصل الكسوف إلا مرة واحدة عند موت ولده إبراهيم نعم أخرج الدارقطني من حديث عائشة: (أن النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم كان يصلي في كسوف الشمس والقمر أربع ركعات). وأخرج أيضًا عن ابن عباس: (أن النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم صلى في كسوف القمر ثماني ركعات في أربع سجدات) وذكر القمر في الأول مستغرب كما قال الحافظ والثاني في إسناده نظر لأنه من طريق حبيب عن طاوس ولم يسمع منه. وقد أخرجه مسلم بدون ذكر القمر وإنما اقتصر المصنف في التبويب على ذكر القمر لأن التجميع في كسوف الشمس معلوم من فعل رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم كما ثبت في الأحاديث الصحيحة المتقدمة وغيرها. وقد ذهب مالك والشافعي وأحمد وجمهور العلماء إلى أن صلاة الكسوف والخسوف تسن الجماعة فيها. وقال أبو يوسف ومحمد: بل الجماعة شرط فيهما. وقال الإمام يحيى: إنها شرط في الكسوف فقط. وقال العراقيون: إن صلاة الكسوف والخسوف فرادى. وحكى في البحر عن أبي حنيفة ومالك أن الانفراد شرط. وحكى النووي في شرح مسلم عن مالك أنه يقول بأن الجماعة تسن في الكسوف والخسوف كما تقدم. وحكى في البحر عن العترة أنه يصح الأمران. احتج الأولون بالأحاديث الصحيحة المتقدمة وليس لمن ذهب إلى أن الانفراد شرط أو أنه أولى من التجميع دليل وأما من جوز الأمرين فقال لم يرد ما يقتضي اشتراط التجميع لأن فعله صلى اللَّه عليه وآله وسلم لا يدل على الوجوب فضلًا عن الشرطية وهو صحيح ولكنه لا ينفي أولوية التجميع.
|